المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (21)

- ‌ربيع الأول - 1337ه

- ‌فاتحة المجلد الحادي والعشرين

- ‌الانتفاع بالرهن هل هو ربا

- ‌مبادئ الانقلاب الاجتماعي الأكبروحرية الأمم(1)

- ‌مستقبل سورية وسائر البلاد العربية1

- ‌رد المنار على الناقد لذكرى المولد النبوي [

- ‌التقاضي والتخاصم في رسالة آدم

- ‌حجم المناروالجزء الأول من المجلد الحادي والعشرين

- ‌جمادى الآخرة - 1337ه

- ‌المتفرنجون والإصلاح الإسلامي [*](4)

- ‌انتشار الإسلام بسرعةلم يُعهد لها نظير في التاريخ

- ‌الدولة العربية القادمة [*]

- ‌الأمير فيصل في المؤتمر [*]

- ‌رد المنار على الناقد لذكرى المولد النبوي

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌شعبان - 1337ه

- ‌أعراب الشامفي القرنين السابع والثامنللهجرة الشريفة

- ‌معاهدة الصلح(1)

- ‌ترجمةالسيد عبد الحميد ابن السيد محمد شاكرابن السيد إبراهيم الزهراوي [1]

- ‌الشيخ محمد كامل الرافعي(1)

- ‌رمضان - 1337ه

- ‌أمراء أعراب الشام في القرن الثامن

- ‌فائدة في هدي القرآنفي المعاهدة

- ‌المسألة السورية والأحزاب

- ‌السيد الزهراوي

- ‌الشيخ محمد كامل الرافعي(2)

- ‌قرار المؤتمر السوري العام

- ‌الدولة العثمانية بعد الهدنة

- ‌ذو القعدة - 1337ه

- ‌ذات بين الحجاز ونجد أو الخرمةوالوهابية والمتدينة

- ‌الوحدة العربيةودعوة ملك الحجاز إلى قتال الوهابية

- ‌احتجاج السوريين

- ‌الاشتراكية والبلشفية والدين

- ‌صورة البيانالذي قدمته عائلات الشهداءللجنة الأميركية في دمشق

- ‌لا قوة إلا بالاتحاد [

- ‌التطور السياسي والدينيوالاجتماعي بمصر

- ‌دولة الكلام المبطلة الظالمة

- ‌المحرم - 1338ه

- ‌الاستقلال.. ما هو [*]

- ‌ترجمة الشيخ عبد الرزاق البيطار

- ‌الشيخ محمد كامل الرافعي(3)

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

- ‌رجب - 1338ه

- ‌عاقبة حرب المدنية الأوربية

- ‌نموذج من كتاب الفلسفة السياسية

- ‌خلاصة معاهدة الصلح [*](5)

- ‌الرحلة السورية الثانية(1)

- ‌سورية بعد التحرير

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

- ‌ذو القعدة - 1338ه

- ‌مذكرات الدكتور صدقيفي فلسفة الوجود [*]

- ‌معاهدة الصلح مع تركية

- ‌وصف بلاد العرب الجنوبيةالتي يسميها اليونان العربية السعيدة

- ‌الرحلة السورية الثانية(2)

- ‌استقلالسورية والعراق

- ‌رزء إسلامي عظيموفاة الدكتور صدقي

- ‌ذو الحجة - 1338ه

- ‌القرآن كلام اللهلا كلام جبريل ولا محمد عليهما السلام

- ‌ترجمة الطبيبمحمد توفيق صدقي

- ‌الرد على جريدة القبلة

- ‌الرحلة السورية الثانية(3)

- ‌ذو الحجة - 1338ه

- ‌استقلال مصروحقوق إنكلترة فيها

- ‌خاتمة المجلد الحادي والعشرين

الفصل: ‌شعبان - 1337ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة المجلد الحادي والعشرين

بسم الله الرحمن الرحيم

حمدًا لمن عز وقدر، وغلب فقهر، وخلق كل شيء بقدر، وصلاةً وسلامًا

على خاتم رسله محمد الذي بعثه رحمةً للبشر، ونذيرًا للأسود والأحمر، وأنزل

عليه أحسن الحديث والسير، والمواعظ والعبر، فاعتز وساد من اهتدى بآياته

وادَّكر، وشقي من أعرض وكفر، ولا تزال ميزانًا لسير البشر، في البدو والحضر

{كَلَاّ وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لإِحْدَى الكُبَرِ * نَذِيراً

لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} (المدثر: 32-37) .

أنذر المعتزين بقوة الأجناد والاستعداد للحرب والجلاد، المغترين بكثرة

الأموال والأولاد، وسعة الملك وعمران البلاد، سنته التي خلت في العباد، الباقية

إلى يوم التناد، في سوء عاقبة البغي والفساد، والفحش والسفاد، ذَكَّرَهُمْ بما عاقب

به مَن قبلهم، ثم أنذرهم عذابًا يبعثه عليهم من فوقهم، أو يثيره بهم من تحت

أرجلهم، أو يلبسهم شيعًا بتنازع أطماعهم في الأرض، ويذيق بعضهم بأس بعض،

فتماروا بالنذر، واتكلوا على ما أوتوا من القوى والحيل، اتكلوا على قوة العلم

والنظام ويا لها من قوة، اتكلوا على قوة الدخان السام والآلات الحربية، اتكلوا على

الغواصات، والمدرعات، والنسافات، والمدمرات البحرية، اتكلوا على قوة

الأموال من المواد والنقود الذهبية، اتكلوا على قوة المكر والخداع والتجسس

والمكايد السياسية، أعد كل ما استطاع من قوة لخذل الحق واتباع الهوى، متكلاً

على ما كانوا يسمونه توازن القوى، لاعتقاد الجميع أن الحق للقوة ، أو أن القوة

تغلب الحق، ثم منى كل نفسه بالنصر وأنه صاحب الحق {وَلَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ

لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} (المؤمنون: 71) {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلائِكُمْ أَمْ

لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ

* بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} (القمر: 43-46) .

نسوا أن علم الله فوق كل علم، وقوله:{وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85) نسوا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوةً وأشد بأسًا وتنكيلاً، نسوا

سنته في قوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا

القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء: 16) وسنته في قوله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي

إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُواًّ كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ

أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً

مَّفْعُولاً} (الإسراء: 4-5) إلى آخر تلك الآيات والعبر وأمثالها من الأمثال

والنذر {وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} (القمر: 4- 5) .

إن سنن الله - تعالى - في نوع الإنسان، كسننه في سائر الأكوان: حق

وعدل، ورحمة وفضل، إلا أن الناس يبغون على أنفسهم، ويجنون على فطرتهم،

فيضر الفرد أو الجمع منهم ليضر، ويضر لينتفع ويُسَر، أو لينفع ويَسُر، فيعود

ضرره عليه، ويحفر لأخيه أخدودًا فيقع فيه، يفرِط أو يفرِّط أناس في شهواتهم

البدنية، فتنتابهم الأمراض الجسدية، فإذا عرفوا بذلك سنن الله تعالى فيها، وحكمته

في قوادم أسبابها وخوافيها، كانت فائدة الأمراض أعظم من غوائلها، ونفعها أكبر

من ضررها، ويفرِط قوم ويفرِّط آخرون في الشهوات الاجتماعية، فيعبثون

بالحقوق المشتركة والروابط المعنوية، فيهيج البغي والعدوان بين القبائل والشعوب

وتشتعل بينهم نيران الحروب، فتكون فتنةً وبلاءً للجميع، وإن ظهر ذلك أولاً في

فريق دون فريق، ثم تكون العاقبة للمتقين، والنقمة على الباغين والعادين {ذَلِكَ

وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ الله} (الحج: 60)

و (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) والظالم سيف الله ينتقم به ، ثم

ينتقم منه {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِي} (هود: 102) وما كان يظن بأدق الأمم بحثًا في السنن الإلهية، وأوسعها

علمًا بالشؤون الاجتماعية، أن تكون أشد عدوانًا وبغيًا، من أشد القبائل غباوةً وجهلاً

ولكن كان مَثَل هذه الأمم كمَثَل الأطباء الذين تفتك بشبابهم الأمراض والأدواء ،

لإفراطهم في شُرب المسكر، وإسرافهم في الفحشاء والمنكر، وهم أعلم الناس

بضررها، وأبلغهم لسانًا في التحذير من خطرها، وذلك برهان قطعي على أن

علوم البشر أجمعين، لا تغني في إصلاح حال البشر عن هداية الدين، دين الإذعان

واليقين الحاكم على الإرادة، لا دين التقليد الذي لا يخرج عن حكم العادة، وإن ضل

من اغتر بعلومهم فكفر، وفسق عن أمر ربه وفجر وجهل حكمة الله وصنعه في خلق

البشر، فقال بفنائهم وببقاء الحجر والمدر {فَإِذَا بَرِقَ البَصَرُ * وَخَسَفَ القَمَرُ * وَجُمِعَ

الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المَفَرُّ * كَلَاّ لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ

المُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} (القيامة: 7-13) .

لقد أتى على أمم الشمال الغربية حين من الدهر لم تكن شيئًا مذكورًا، إذ كان

أهل الجنوب الشرقيون يملأون الآفاق علمًا ونورًا، لا يزال بعضه مرويًّا مأثورًا،

أو مرئيَّا منظورًا، وذهب البعض الآخر هباءً منثورًا، ثم أتى عليها أحقاب نالت

فيها بالعلم والصناعة ملكًا كبيرًا، وتبوأت من تراث ملوك الشرق جنات وقصورًا،

وزخرفًا وحريرًا، وثلت عروشًا رفعها العدل والعلم، ثم وضعها الجهل والظلم

فدمرها تدميرًا، فكانت سيف الانتقام الإلهي منتضىً مشهورًا، ولكن استكبر أهلها

في أنفسهم، وعتوا عتوًّا كبيرًا، ولم يقيموا الميزان الذي يتبجحون به مينًا وزورًا

ولو غيَّر أهل الجنوب ما بأنفسهم، لغير الله ما حل بهم، ولكن أوشك أن

يدور الزمان، ويعود الأمر كما كان {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ

اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً} (الأحزاب: 38) {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا

إِلَاّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} (القمر: 49-50) .

تعارضت بين دول الشمال المطامع، وتنازعوا على ما يصيبون في الجنوب

والشرق من المنافع، فحكم القضاء في قضيتهم المدافع، وكان عذاب ربك واقعًا ما

له من دافع، فقتلوا من أبنائهم في أربع سنين ، أضعاف من قتلوا في حروب

المطامع في عدة قرون، وخسروا في هذه السنوات من الأموال أضعاف ما ربحوا

من جميع الأجيال {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا

وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ

آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 45-46) ولولا أن خلق الإنسان من عجل، لما استبطأ عدل الله في الأمم

والدول، فمن ذا الذي كان يظن من المستعجلين، أو المستبطئين ، أن يرى العالم

في القرون الطويلة ما أرته هذه الحرب في أربع سنين: ثُل عرش قياصرة الروس

القاهرين، وأبعد القيصر وأهل بيته إلى حيث كان يَعتقِل نابغي العلماء والسياسيين،

وتمزقت كبرى سلطنات (إمبرطوريات) الأرض إلى بضع جمهوريات يسفك

بعضها دماء بعض، فثُل عرش السلطنة النمسوية ، وتمزقت إلى عدة حكومات

جمهورية، وتدهور عن عرشه أعز عاهل على وجه هذه الأرض، بعد أن كاد يقضي

على أكثر أمم الشرق مع الغرب، وهو النافذ الحُكم والإرادة في أوسع أمم الأرض علمًا، وأدقهم نظامًا وأمتنهم حكمًا، فكان سقوطه كسلك انقطع فتناثرت الفرائد،

إذ سقط ملوك الجرمان وأمراؤهم واحدًا بعد واحد، وأجبر قبله على الاستقالة ملك

اليونان، وتلاه كل من ملكي البلغار والرومان، وتقلص ظل الترك عن بلاد العرب

والأرمن والأكراد، التي سفك طغاتهم الاتحاديون فيها الدماء، وأكثروا فيها الفساد

{فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} (الفجر: 13-14)

{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ

وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ} (آل عمران: 26) ، {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي

مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَاّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلَاّ ذِكْرَى للبشر} (المدثر: 31) .

ومن أكبر العبر أن الله أنقذ أوربة من ظهور الألمان عليها وما كان يُحذر من

سيطرتهم على مستعمراتها بعد إجلائهم عنها، على يد أقل الشعوب الكبرى استعدادًا

للحرب والجلاد، وأبعدها عن طلب السيادة على الشعوب والطمع في البلاد، وهو

شعب الولايات المتحدة الأمريكية، الذي كان له من الفلج بقوة الحق المعنوية، فوق

ما كان له من الظفر بترجيح قوى الأحلاف الجندية والمادية، فإن دعوة رئيسه

(الدكتور ولسن) إلى بناء صلح الأمم على ما وضعه من قواعد الحق والعدل العام،

واستقلال الشعوب والأقوام، والمساواة بين الأقوياء والضعفاء، والأولياء والأعداء -

هو الذي زلزل نظام الشعوب الجرمانية الراسخ البناء، وأظهر الاشتراكيين

الضعفاء منهم على أولئك الجبارين من الملوك والأمراء، فكان به الظفر للقوة

الأدبية على تلك القوة العسكرية والمالية التي أعدت لمقاومة البرية ، {فَوَقَعَ

الحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ} (الأعراف:

118-

119) فعلم بذلك أن القوة للحق، أو أن قوة الحق فوق قوة الباطل {بَلْ نَقْذِفُ

بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (الأنبياء: 18) وإنما بقاء الباطل في

نومة الحق عنه، أو خداعه للحق حتى يوهمه أنه له أو معه أو شعبة منه، أما وقد

استيقظ الحق من رقدته، صرع الباطل وهو في عنفوان قوته ، فلم يبق إلا أن يجرده

من قوة المكر والخداع، التي هي عتاده الآن في الهجوم والدفاع، والكر في ميادين

الأطماع {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ

وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} (المدثر: 18-23) .

قتل الإنسان ما أكفره، إذا مسه الضر لجأ إلى الحق والعدل، والرحمة

والفضل، فإذا نجا منه استبدل الكفر بالشكر، ولجأ إلى الخديعة والمكر {وَإِذَا أَذَقْنَا

النَّاسَ رَحْمَةً مِّنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ

رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ * هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الفُلْكِ

وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ المَوْجُ مِن كُلِّ

مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ

مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا

بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّمَا

مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ

وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا

أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ

لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (يونس: 21-24) هذا هو القول الفاصل بين الحق والباطل

المبين لحال الأفراد والجماعات في اختلاف الحالات والأوقات، ولكن قد ظهر

لفضلاء العقلاء الأمريكيين والحلفاء، بما رزئ به العالم في هذه الحرب من البأساء

والضراء - أنه لا سلام على الأرض إلا بالمساواة في العدل وترك سياسة المكر

والرياء ، ومعاهدات السر والخفاء، واستقلال جميع الشعوب بأمر حكوماتها،

وتأليف عصبة من علماء الأمم للفصل في خصوماتها، وإلغاء جميع المعاهدات

القديمة السرية، وإن عللت بدعوى إرادة الخير وحسن النية، وإنما الخير كله في

الحرية، وهذا ما دعا إليه (الرئيس) جميع المتحاربين، فواثقوه على أن يقبلوه

مذعنين ، وأسر الكيد له بعض الطامعين ليأخذوا بالشمال ما عجزوا عن أخذه

باليمين {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَاّ

بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (الأنعام: 123) وأما أولئك العقلاء فمتفقون على ما

اقترحه (الرئيس) من وجوب الإخلاص، وأن لا منجاة بدونه ولا مناص، إن

لا تفعلوه تكن فتنته في الأرض وفساد كبير، وانقلاب (لمشفي) شره مستطير، أو

تعود الحرب جذعةً بهذه السياسة الخدعة، الخبأة الطلعة {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ

السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} (فاطر: 10) {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ

الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الغَرُورُ} (لقمان: 33) فهذا ما يذكر به المنار

قُرَّاءه في فاتحة مجلده الحادي والعشرين، كدأبه فيما سبق من السنين، مقتبسًا من

الكتاب المبين ما هو ذكرى للمغرورين بقوتهم، وبشرى للمغلوبين على حريتهم

وحجة على اليائسين ، وعبرة للمعتبرين، وإنما العبرة لمن اعتبر، والموعظة

لمن ازدجر {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} (القمر: 17) .

منشئ المنار ومحرره: السيد محمد رشيد رضا

_________

ص: 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الانتفاع بالرهن هل هو ربا

؟

س1 من محمد فاضل محمد، أحد مشتركي المنار بسنجرج (منوفية)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله (أما بعد) فما يقول الأستاذ

الفاضل الإمام الهمام السيد محمد رشيد رضا - حفظه الله - في الانتفاع بالأطيان

المرهونة المسمى عند الفلاحين (بالغاروقة) هل هو من الربا المحرم الداخل تحت

قولهم: (كل قرض جر نفعًا فهو ربا) أو يقاس على الظهر والدر في قوله صلى

الله عليه وسلم: (الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونًا ، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا

كان مرهونًا) الحديث، أم أن هذا الحديث لا يقاس عليه شيء غير الذي ورد فيه؟

الرجا أن تفيدونا بالجواب ولكم حسن الثواب.

تحريرًا في (5 ربيع الأول سنة 1337)

ج - إن ما ذكر من الانتفاع بالرهن ليس من الربا، وجملة (كل قرض جر

نفعًا فهو ربا) رويت حديثًا، ولم يصح ، بل قيل بوضعه كما بينا ذلك في المنار

من قبل (ص362 م10) في حديث الصحيحين، وغيرهما أن النبي صلى الله

عليه وسلم زاد في قضاء الدين على الأصل، وعده من حسن القضاء، وإنما تكون

الزيادة ربًا إذا كانت مشروطةً في العقد، وأما الانتفاع بالرهن فالحديث الذي

أوردتموه فيه رواه البخاري في صحيحه وأكثر أصحاب السنن وغيرهم، وورد

بألفاظ أخرى، ولكن الانتفاع بالرهن فيه في مقابل النفقة عليه لا في مقابل الدين،

وقد قال بعض الأئمة بالأخذ به في الرهن الذي يحتاج إلى نفقة مطلقًا، واشترط

بعضهم فيه امتناع الراهن من تلك النفقة ، ومنع أكثرهم الانتفاع بالرهن مطلقًا ،

وأجابوا عن الحديث بما لا محل لبيانه هنا، وبعضهم يجيز انتفاع المرتهن بالرهن

بإذن الراهن، وهو الذي جرت عليه جمعية علماء الحنفية، التي وضعت للدولة مجلة

الأحكام العدلية، ومن الناس من يجري في هذه المسألة على طريقة بيع الوفاء، وهو

معروف، ومقرر في المجلة أيضًا.

_________

ص: 16

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مبادئ الانقلاب الاجتماعي الأكبر

وحرية الأمم

(1)

شروط الصلح العالمي أو صلح الأمم العام

التي وضعها، وأعلنها الدكتور ولسُن رئيس جمهورية الولايات المتحدة في أول

سنة 1918 ، وقبلتها حكومات الحلفاء، ثم رضيت الحكومات المحاربة لهن بجعلها

قواعد للصلح العام (وذلك قبل التعديلات التي اقتضت الحال إدخالها عليها)

منقولةً عن الجرائد المصرية، ومصححةً على نسخة التيمس الصادرة في 11

يناير سنة 1918.

1-

إبرام اتفاقات الصلح علانيةً، وإعدادها علانيةً، وبعد عقدها لا تبرم

اتفاقات خاصة من أي نوع كان مما يتناول الشؤون الدولية، ولكن الهيئات السياسية

تعمل دائمًا جهارًا، وعلى مرأًى من العالم.

2-

حرية الإبحار في البحر خارج حرم السواحل مطلقةً من كل قيد (حرم

السواحل 6 أميال) سواء كان في زمن السلم، أو في زمن الحرب إلا في حالة

إقفال البحار كلها أو بعضها بأمر دولي عام تنفيذًا لاتفاقات دولية.

3-

إزالة الحوائل الاقتصادية جهد ما تصل إليه الطاقة، وتقرير المساواة في

الصِّلات التجارية بين جميع الأمم التي ارتضت الصلح وتشاركت في تأييده.

4-

إعطاء الضمانات الكافية وأخذها، بأن يُنقص سلاح كل بلد على أقله مما

يتفق مع أمن البلاد في داخلها.

5-

التسوية الحرة المقرونة بالتساهل والنزاهة التامة للدعاوي الاستعمارية،

يكون مبناها الاحترام التام للمبدأ الذي يجعل مصلحة الشعوب ذات الشأن مساويةً

للدعاوي النزيهة التي تدعيها الحكومة المنوي تقرير صفتها، أو عنوانها.

6-

الجلاء عن الأراضي الروسية كلها، وتسوية كل مسألة تتعلق بروسيا

على وجه يضمن لها أحسن المعاونة وأوسعها من جميع أمم الأرض بحيث تقدم

لروسيا الفرصة الموافقة لتقرر دون حائل ولا مانع عرقلة تقدمها السياسي، والقومي،

ويكفل لها بكل إخلاص قبولها في حجر الأمم الحرة بالأنظمة التي تختارها هي

لنفسها، بل يقدر لها فوق قبولها المساعدة التي قد تحتاج إليها أو تتمناها من كل وجه.

والمعاملة التي تعامل بها روسيا من الأمم شقيقاتها في الأشهر المقبلة تكون

الدليل الناصع على حسن مقصدهن، وعلى معرفتهن حاجات روسيا بصرف النظر

عن مرافقهن الخاصة، بل الدليل على عطفهن المعقول وكرمهن.

7-

العالم كله موافق على قصد الجلاء عن البلجيك وترميمها دون أقل سعي

للنقص من سيادتها التي تتمتع بها كسائر الأمم الحرة، ولا يقوم عمل من الأعمال

كهذا العمل في إعادة ثقة الأمم في القوانين التي وضعتها هي ذاتها وجعلتها دستورًا

لصِلاتها المتبادلة، وبدون هذا العمل يتهدم بناء القانون الدولي، وتضيع قيمته إلى

الأبد.

8-

تحرير جميع الأراضي الفرنساوية، وترميم جميع المناطق المجتاحة،

والغرم الذي أصاب فرنسا من بروسيا في عام 1871 فيما يتعلق بالألزاس واللورين،

وهو الغرم الذي كدر صفو العالم في مدة خمسين سنةً تقريبًا - يجب أن يعوض عليها

حتى تعود ضمانة السلم لمصلحة الجميع.

9 -

تعديل الحدود الطليانية يجب أن يتم طبقًا لمبادئ قومية واضحة كل

الوضوح.

10-

تعطى لشعوب النمسا وهنغاريا التي تريد أن ترى مقامها بين الأمم ثابتًا

ومضمونًا، كل التسهيلات لزيادة استقلالها الإداري.

11-

رومانيا وصربيا والجبل الأسود يجلى عنها، والأراضي المحتلة ترمم،

ويضمن لصربيا طريق إلى البحر، وصِلات الدول البلقانية تكون متبادلةً، ومعينةً

بنصائح ودية، وتجري هذه الصلات على قاعدة التقاليد العنصرية المقررة تاريخيًّا،

ويجب البحث الجد في الضمانات الدولية للاستقلال السياسي والاقتصادي وصيانة

الأملاك لدول البلقان.

12-

الأقاليم التركية من أملاك السلطنة العثمانية الحاضرة يجب أن يضمن

لها سلطان وطني وطيد، ولكن الأمم الأخرى التي هي الآن تحت الحكم التركي

يجب أن تضمن لها حياة أمن لا ريب فيه، وفرصة للتدرج في الاستقلال الإداري

لا شائبة فيها أبدًا، وأما الدردنيل فيجب أن يظل مفتوحًا دائمًا كطريق حرة لبواخر

جميع الأمم ومتاجرها، تحت حماية جميع الدول.

13-

يجب إنشاء دولة بولونية مستقلة، وهذه الدولة تتألف من جميع الأراضي

التي لا يجادَل بأن سكانها من البولونيين، وتضمن لهذه الدولة طريق إلى البحر،

ويضمن باتفاق دولي استقلالها السياسي والاقتصادي كما تضمن سلامة أملاكها

وأراضيها.

14-

يجب أن تؤلف من جميع الأمم عصبة عامة باتفاقات معينة يكون

الغرض منها تبادل الضمان للاستقلال السياسي، وصيانة الأملاك على حد المساواة

للأمم الصغيرة والكبيرة.

(2)

خطبة الرئيس ولسن

في عيد استقلال الأميركيين

مترجمة عن عدد التيمس الذي صدر في 12 يوليو سنة 1918

في اليوم الرابع من يوليو (تموز) الماضي احتفلت الولايات المتحدة

الأميركية بعيد استقلالها، فوقف الرئيس ولسن عند قبر وشنطون على جبل فرنون

وخاطب المجتمعين حوله قائلاً:

يسرني أن آتي معكم إلى هذا المحل الاستشاري القديم البعيد عن الضوضاء؛

لأخاطبكم قليلاً بمغزى هذا اليوم الذي هو عيد حرية أمتنا، المكان منفرد، والهدوء

تام فيه، وهو لا يزال بعيدًا عن ضوضاء العالم كما كان في تلك الأيام الخطيرة

الشأن حينما كان الجنرال واشنطون يأتيه مع الرجال الذين اشتركوا معه في إنشاء

الأمة الأمريكية، كانوا يتطلعون إلى العالم من هذا المكان، فرأوه بعين الخيال التي

تنظر إلى المستقبل، رأوه بعين أبناء هذا العصر التي لا يرضيها ماضٍ تنفر منه

النفوس الأبية، ولذلك لا نشعر بأن هذا المكان موقف رجل ميت ولو كان قبره

أمامنا ، فإنه المكان الذي عُمل فيه عمل عظيم، عمل حي، هنا وعد الناس وعدًا

عظيمًا، قولاً وفعلاً، فالذكرى التي تحيط بنا في هذا المكان وتبث النشاط في

نفوسنا هي ذكرى ذلك الرجل العظيم الذي لم يكن موته سوى خاتمة مجيدة لحياة

مجيدة.

ومن هذه الأكمة الخضراء نتطلع بأعين باصرة إلى العالم المحيط بنا،

ونتصور الوسائل التي يجب أن تحرر نوع الإنسان، ومما لا ريب فيه أن وشنطون

وشركاءه أثبتوا بأخلاقهم وأعمالهم أنهم لم يكونوا يقولون ويفعلون لأجل فريق

من الناس خاصةً، بل لأجل الشعب كله، فعلينا نحن أن نثبت أنهم لم يقولوا ولم

يفعلوا لأجل شعب واحد، بل لأجل العالم أجمع، لم يكن اهتمامهم بأنفسهم ولا

بمصالح الملاك والتجار وأصحاب المصالح الأخرى الذين كانوا يعاملونهم في

فرجينيا وما إليها شمالاً وجنوبًا، بل بالشعب كله الذي كان يرغب في نزع

الامتيازات التي تميز ذوي المقامات العليا ونفي الخاصة وإبطال سلطة حكامهم الذين

لم يختاروهم للحكم عليهم.

لم يكن لوشنطون ومشيريه منافع شخصية، ولا طلبوا امتيازات خاصةً،

وإنما أرادوا أن يكون كل إنسان حرًّا، وأن تكون أميركا ملجأً يلجأ إليه كل من يريد

من أمم الأرض أن يشاركهم في حقوق الأحرار ومزاياهم.

فبهدي أولئك الفضلاء نهتدي معتقدين أن اشتراكنا في هذه الحرب هو ثمرة

الغرس الذي غرسوه، والفرق بيننا وبينهم أنه قسم لنا من حسن حظنا أن نشترك

مع أناس من كل أمة في ما تؤمن به حريتنا وحرية كل الأمم، ويسرنا جدًّا أنه

أتيح لنا أن نفعل ما كان أسلافنا يفعلونه لو كانوا في مكاننا، ويجب أن ينال العالم

كله ما نالته أميركا في العصر الذي أتينا لنتذكره ونستمد الإلهام منه.

لا شبهة في أن هذا المكان من أصلح الأماكن لأن نلتفت منه إلى عملنا،

ونوطن أنفسنا على القيام به، وهو من أصلح الأماكن لأن نبين للأصدقاء الذين

ينظرون إلينا، وللحلفاء الذين كان من حسن الحظ أن شاركناهم في العمل ما هو

الدافع الذي يدفعنا إليه، وما هي الأغراض التي نرمي إليها.

فهذا ما نراه في هذه الحرب التي خضنا غمارها. إن أغراض الخصمين منها

واضحة بينة في كل فصل من فصولها، ففي الجهة الواحدة نرى أمم العالم التي

اشتركت في الحرب فعلاً، والأمم التي تئن من السيادة، ولكنها لا تستطيع المقاومة.

أممًا كثيرة في كل أقطار المسكونة، ومنها أمم روسيا التي تقوض بنيانها الآن.

وفي الجهة الأخرى نرى قواد جيوش ورؤساء حكومات لا يرمون إلى نفع

عام، بل إلى نفع خاص، إلى مطامع شخصية لا ينتفع بها أحد غيرهم، وأسيادًا

شعوبهم كالوقود في أيديهم، وحكومات تخشى من شعوبها، ولكنها متسلطة عليهم

تتصرف في دمائهم وأموالهم كما تشاء، وفي دماء كل الشعوب التي تتسلط عليهم

وأموالهم، حكومات ترتدي حلل سيادة قديمة غريبة عن عصرنا ومعادية له.

فهذه الحرب الزَّبون الناشبة بين الماضي والحاضر وشعوب الأرض تستشهد في

معتركها لا بد من أن تكون فاصلةً حاسمةً لا مهادنة فيها، ولا مراضاة ولا توسط، ولا

هوادة.

الحلفاء يحاربون لأجل أغراض أربعة، ولا يلقون السلاح من أيديهم قبل أن

تتحقق كلها:

(الأول) : ملاشاة كل قوة استبدادية تستطيع أن تزعزع أركان السلم إذا

أرادت ولو سرًّا، وإذا كانت ملاشاة القوى الاستبدادية غير مستطاعة وجب على

الأقل إضعافها، حتى تعجز عن الضرر.

(الثاني) : تسوية كل خلاف سواء كان في أرض أو سلطة أو مصلحة

اقتصادية أو علاقة سياسية، على مبدأ (رضا الشعب) الذي تتعلق به تلك التسوية

مباشرةً، لا على مبدأ المصالح المادية والمنافع الشخصية التي تنال شعبًا آخر،

أو تنال قومًا يرغبون في تسوية أخرى لتعزيز سيادتهم أو نفوذهم الخارجي.

(الثالث) : تسليم الشعوب كلها بأن معاملة بعضهم مع بعض خاضعة لمبادئ

الشرف والاحترام لناموس العمران الذي يخضع له سكان كل الممالك العصرية،

وأن علاقاتهم بعضهم مع بعض خاضعة للقانون القاضي بأن كل العهود والوعود

يجب أن تحفظ حفظًا تامًّا بلا دسيسة ولا مخادعة ولا ضرر ولا ضرار، ولتوثيق

عرى الثقة التامة على أساس الاحترام المتبادل والحقوق المتبادلة.

(الرابع) : إنشاء نظام للسلم يجمع قوة الأمم الحرة لمقاومة كل معتد على

الحق، ويحفظ السلم والعدل بإقامة محكمة من الرأي العام يخضع لها الجميع،

ويكون لها حق الفصل في كل خلاف يقع بين الأمم، ويتعذر عليهم فضه.

هذه الأغراض العظيمة يمكن التعبير عنها بجملة واحدة، وهي أننا نطلب

سلطان القانون المؤسس على رضا الرعايا، والمؤيد برأي البشر المنظم، وهذه

الأغراض العظيمة لا تنال بالبحث والتوفيق بين مطالب رجال السياسة، وما

يشيرون به لتوازن القوة لحفظ مصالح الأمة، وإنما تنال بما يصمم عليه العقلاء

الذين يتوخون العدل والحرية.

ويلوح لي أن هواء هذا المكان سيحمل صدى هذه المبادئ إلى كل الأنحاء،

هنا قامت قوات حسبتها الأمة العظيمة التي وجهت لمقاومتها عصيانًا على سلطتها

الشرعية، ولكنها رأتها بعد ذلك خطوةً في تحرير شعبها كما هي خطوة في تحرير

شعب الولايات المتحدة، وقد وقفت الآن لأتكلم والفخر ملء نفسي، والأمل والثقة

ملء جوانحي، عن نشر هذا العصيان - بل هذا التحرير - في أقطار المسكونة.

إن حكام بروسيا الذين عميت بصائرهم أثاروا قوًى لا يعرفون قدرها، قوى

إذا ثارت لا يمكن إخمادها؛ لأنها مدفوعة بعزم وحزم لا فتور لهما؛ لأن النصر

معقود بناصيتهما.

***

(3)

وجوه الحرب أو مقاصدها وجمعية الأمم

خطبة الدكتور ولسن في نيويورك

منقولة عن عدد التيمس الذي صدر في 4 أكتوبر سنة 1918

خطب الرئيس ولسن في نيويورك قبل فتح باب الاكتتاب في قرض الحرية

الرابع بستة آلاف مليون ريال فقال: إنه لم يعمل منبر الخطابة ليروج القرض،

فإن لترويجه رجالاً ونساءً لا تني همتهم ولا يفتر ولاؤهم، وقفوا أنفسهم بحماسة على

عرضه على مواطنيهم في جميع أنحاء البلاد، وسيكون النجاح التام قرين عملهم لما

هو معروف عن حميتهم وحمية البلاد، وهذه الثقة مؤيدة بما يبذله مديرو المصارف

(البنوك) من المعونة الصادقة القائمة على الخبرة والروية، فإنهم يساعدون مساعدةً

لا تثمن، ويرشدون بآرائهم ومشورتهم، ثم قال:

ما جئت لأروج للقرض، وإنما جئت منتهزًا هذه الفرصة لأطلعكم على

أفكار تظهر لكم الأمور التي يدور عليها هذا النزاع العظيم، وتجلوها لعيونكم أكثر

من قبل، فتزداد حماستكم لحمل واجب تأييد الحكومة برجالكم وما عندكم من

الوسائل المادية والبذل والإيثار (وإنكار الذات) إلى أقصى الحدود، فليس في الدنيا

رجل أو امرأة استوعب معنى هذه الحرب، وهو يتردد في بذل كل ما عنده، فمهمتي

الليلة هي أن أشرح لكم مرةً أخرى معنى هذه الحرب ومغزاها لنا، وحسبي هذا؛

إذكاءً لشعوركم، وتذكيرًا لكم بالواجب عليكم، فإنه كلما انقضى دور من أدوار هذه

الحرب، تجلى لنا ما نروم أن نبلغ بها، ومتى هاج فينا عامل الرجاء والانتظار أشد

هياج، ازداد تأملنا في النتائج التي تبنى عليها، والأغراض التي تنال بها، وزاد ذلك

كله وضوحًا لأعيننا، فإن للحرب أغراضًا معينة لم نوجدها نحن، ولا نستطيع

تغييرها، ليست هذه الأغراض من مخترعات رجال السياسة ومجالس الحكومات،

وليس في طاقة الساسة والمجالس تغييرها وتبديلها؛ لأنها نشأت من طبيعة الحرب

وأحوالها، فجهد ما يستطيعه الساسة ومجالس الحكومات تنفيذ هذه الأغراض أو نبذها

خيانةً منهم، ويحتمل أن هذه الأغراض لم تكن جليةً في أول الأمر ولكنها صارت

جليةً اليوم، فقد دامت الحرب أكثر من أربعة أعوام، وخاضها العالم كله، وحلت

مشيئة بني البشر فيها محل مقاصد الدول، ويحتمل أن تكون الحرب أضرمت بيد

فريق من رجال السياسة والدول، ولكن إيقافها فوق طاقتهم وفوق طاقة خصومهم؛

لأنها صارت حرب شعوب، وشملت شعوبًا من جميع الأجناس على اختلاف

لمراتب في القوة والثروة وقد خضناها لما ثبتت صبغتها، وظهر أنه لا يوجد أمة

تستطيع الوقوف أمامها مغلولة اليدين غير مكترثة لنتائجها، وقد تحدتنا الحرب

فتحدت في قلوبنا كل ما نعز في الدنيا، وكل ما نحيا لأجله، وسمعنا صوتها فكان له

رنة في قلوبنا، وسمعنا أيضًا أصوات إخواننا من جميع أقطار العالم، وأصغينا إلى

نداء إخواننا الذين نادونا بعد ما سقطوا قتلى إلى قاع البحار فلبينا دعوتهم بهمة

عظيمة وشجاعة وكان الجو حولنا صافيًا نقيًّا، فرأينا الأمور على حقيقتها، وظللنا

نراها بأعين شاخصة وعقول لم تتغير من ذلك الحين، وقبلنا الوجوه التي

تدور الحرب عليها بحكم الحقائق، لا كما عرفها جماعات من الناس هنا أو في البلدان

الأخرى، فلا يمكننا أن نقبل نتيجةً لا تطابق تلك الوجوه أو لا تحلها.

وهذه الوجوه أو الأمور الجوهرية هي:

هل يسمح للسطلة العسكرية في أمة أو مجموعة من الأمم أن تثبت الحكم في

مصير شعوب ليس لها من الحق في حكمها سوى الحق المكتسب بالقوة؟

هل يجوز للأمم القوية أن تتعدى على الأمم الضعيفة، وتخضعها لمقاصدها

ومصالحها؟

هل يكون حكم الشعوب في أمورها الداخلية بقوة مطلقة غير مسئولة، أم

بمشيئتها واختيارها؟

هل يكون في العالم مقياس عام للحق والامتياز في جميع الشعوب، أم يفعل

القوي ما يشاء ويعذب الضعيف ولا ناصر له؟

هل يوطد الحق اتفاقًا بمخالفات تعقد اعتباطًا، أو تكون هنالك جمعية من الأمم

توجب احترام الحق العام المشترك؟

هذه وجوه للحرب لم يخترها رجل واحد، ولا جماعة من الناس، فهي

ملازمة للحرب، ويجب أن تبت إما بالاتفاق أو التساهل أو بالتوفيق بين المصالح،

ولكن يجب أن كون بتها نهائيًّا مع التسليم التام الصريح بالمبدأ القائل: إن مصلحة

أضعف الخلق مقدسة كمصلحة أقواهم، وهذا ما نعنيه بالسلم الوطيد الدائم إذا تكلمنا

بإخلاص وفهم وعلم حقيقي بالمسألة التي نحن فيها، فنحن متفقون على أن لا سلم

يحرز بالمساومة والتساهل مع الدولتين الجرمانيتين؛ لأننا عاملناهما قبل اليوم،

ورأيناهما في تعاملهما مع حكومات أخرى كانت تحارب في هذه الحرب، وشاهدنا ما

فعلتا بها في (برست توفسك) و (بخارست) فأقنعتانا بأنهما خاليتان من الشرف ،

وأنهما لا تبتغيان العدل، ولا ترعيان عهدًا، ولا تعرفان مبدأً سوى القوة

ومصلحتهما، فالاتفاق معهما غير مستطاع، وقد جعلتاه مستحيلاً، والشعب الألماني

يعلم الآن أننا لا نقبل عهود الذين جرونا إلى هذه الحرب، فإننا وإياهم على طرفي

نقيض في معنى الاتفاق والتفاهم.

ومن أهم الأمور أن نُجمع إجماعًا تامًّا صريحًا على اجتناب كل صلح يحرز

بالتساهل أو التنازل عن شيء من المبادئ التي جاهرنا بأننا نحارب لأجلها،

ولهذا سأتكلم بمنتهى الصراحة عن الأمور التي يشملها ما تقدم، فإذا كانت

الحكومات التي تحارب ألمانيا وشعوب تلك الحكومات، متفقةً على إحراز صلح

وطيد ثابت كما أعتقد - وجب على جميع الذين يجلسون حول مائدة الصلح أن يأتوا

إليها وهم مستعدون أن يدفعوا الثمن الوحيد الذي يحرز هذا الصلح به، وأن

يوجدوا الأداة الوحيدة التي تكفل تنفيذ معاهدات الصلح واحترامها ، وهذا الثمن هو

العدل المجرد عن الهوى في تنفيذ كل مادة من مواد الصلح بقطع النظر عن

المصالح التي يعترض ذلك لها، وعن أصحاب هذه المصالح، لا أقول العدل

المطلق فقط، بل ارتياح الشعوب التي يحكم في أمورها ومصيرها أيضًا، فالأداة

التي توصل إلى ذلك والتي لا بد منها، هي جمعية الأمم التي تؤلف بعهود فعالة،

ومن دون هذه الأداة التي تكفل دوام السلام يظل السلم العام قائمًا بعضه على وعود

قوم ساقطين من الحقوق؛ لأن ألمانيا يجب أن تبيض سواد صفحتها، لا في مجلس

الصلح، بل فيما يعقبه ، وعندي أن تأليف جمعية الأمم هذه وتعيين الغرض منها

تعيينًا صريحًا جليًّا يجب أن يكون جزءًا من الصلح نفسه، بل أهم جزء فيه.

ولا يمكن تأليف هذه الجمعية الآن، فإنها إذا ألفت الآن كانت عبارة عن

محالفة جديدة مقتصرة على الأمم المتحدة على عدو مشترك، ولا يحتمل أن تؤلف

بعد عقد الصلح إذ من الواجب ضمان السلم، والسلم لا يُضمن بخاطر يخطر بالبال

بعد الصلح، أما السبب الذي يقضي بضمان السلم فهو - بالقلم العريض - وجود

فريق من الذين يبرمونه أثبت للعالم أن عهوده لا يعول عليها، فيجب تدبير وسيلة

عند عقد الصلح لإزالة هذا العامل، ومن الحماقة أن يترك الضمان لمشيئة

الحكومتين اللتين رأيناهما تدمران روسيا وتخدعان رومانيا.

ولكن هذه الأقوال العمومية لا تكشف اللثام عن المسألة، ولا بد من تفاصيل

تجعلها أقرب إلى الأمور العملية منها إلى الأمور النظرية، فإليكم بعض التفاصيل

أتلوها عليكم بثقة أعظم؛ لأنها رسمية تعبر عن تأويل الحكومة الأميركية للواجب

عليها في مسألة السلم.

الأول: أن معنى العدل المجرد عن الهوى هو أن لا نميز بين الذين نريد أن

نعدل فيهم والذين لا نريد أن نعاملهم بالعدل، فالعدل يجب أن لا يفرق ولا يميز ولا

يحابي ولا يعرف من المقاييس سوى التساوي في الحقوق بين الشعوب المختلفة

صاحبة الشأن.

الثاني: لا يجوز أن تجعل المصلحة الخاصة لأمة أو أمم أساسًا لجزء من

الصلح إذا كانت مناقضة لمصلحة الكل.

الثالث: لا يجوز إنشاء محالفات أو عهود خاصة واتفاقات داخل جمعية الأمم

العامة.

الرابع: لا يجوز أن تعقد في قلب جمعية الأمم اتفاقات ومعاهدات اقتصادية

خصوصية مصدرها حب الذات، ولا يجوز استخدام المقاطعة الاقتصادية في أي

شكل كان إلا كعقاب اقتصادي بإخراج المعاقب من أسواق العالم، وهذه سلطة تخول

لجمعية الأمم التأديب والسيطرة.

الخامس: يجب نشر جميع الاتفاقات التي تبرم بين الدول على رؤوس

الأشهاد بحذافيرها وقد كانت المحالفات القومية والمعاهدات على اختلاف أنواعها

والمنافسة الاقتصادية مصدرًا كبيرًا للخطط والشهوات التي تؤدي إلى الحرب، فكل

صلح لا يقضي على هذه المحالفات والاتفاقات يكون صلحًا خاليًا من الإخلاص غير

مأمون البقاء.

إن الثقة التي أتكلم بها عن شعبنا في هذه الأمور لم تنشأ عن تقاليدنا فقط ولا

عن مبدإ العمل الدولي الذي جاهرنا باتباعه دائمًا فقط، فإذا قلت: إن الولايات

المتحدة لا تعقد معاهدات واتفاقات خصوصية مع أمم معينة، فإني أقول أيضًا: إن

الولايات المتحدة مستعدة لحمل نصيبها الكامل من تبعة المحافظة على العهود العامة

والاتفاقات المشتركة التي يشاد السلم عليها من الآن، فإنا لا نزال نتلو وصية

وشنطن الخالدة باجتناب (المحالفات المؤدية إلى المشاكل) ونفهم مضمونها ونلبي

الدعوة التي فيها، على أن المشاكل تأتي من محالفات خصوصية محدودة، فنحن نقبل

الواجب الذي يفرض علينا في العصر الجديد الذي نرجو فيه محالفةً عامةً تجتنب

فيها المشاكل وتطهير جو العالم للتعارف بين شعوبه والمحافظة على حقوقه

المشتركة.

وَصَفتُ الحالة الدولية كما خلَّفتها الحرب، لا لأني أظن أن زعماء الشعوب

العظيمة التي نحن متحدون معها مخالفون لي في الرأي والقصد، بل لأن الجو يظلم

من حين إلى حين بما ينتشر فيه من الضباب وما يطير فيه من الريب والظنون التي

لا أساس لها، وبتشويه الآراء تشويهًا يراد به الشر، فيجب من حين إلى حين

دحض الأقوال التي يقولها غير المسئولين عن دسائس للصلح، أو عن ضعف في

العزيمة ووهن في القصد من جانب ولاة الأمور، ويجب من حين إلى حين المجاهرة

بأتم الصراحة بما تكرر ذكره من قبل.

قلت: إني لم أوجد وجوه الخلاف في هذه الحرب والمحاورة التي تدور عليها

ولم يوجدها غيري من رجال الحكومة بل قابلتها بما أوتيت من بعد النظر والتصميم

الذي اشتد بزيادة وضوح هذه الأمور، ومن الواضح الآن أن هذه النتائج مما لا

يستطيع أحد أن يقلبها إلا إذا تعمد ذلك، فأنا مضطر أن أقاتل لأجلها، كما أظهر

الزمان والأحوال لي ولكل العالم، وحماستنا لهذه الأمور تزداد كلما ازدادت جلاءً،

والقوات التي نقاتل لأجلها تتآزر وتتألب وتقوى بما بينها كلما ازدادت هذه الأمور

وضوحًا أمام أعين الشعوب المتحاربة ، ومن مميزات هذه الحرب العظمى أنه بينما

رجال الدول يبحثون عن تعاريف لتعريف مقاصدهم وأغراضهم ويظهرون بمظهر

المقلب الذي يغير اتجاه نظره - كانت عقول الشعوب التي يفرض على أولئك الرجال

تعليمها وإنارة أذهانها تصقل وتتبين الأغراض التي تحارب لأجلها، فصُرف النظر

عن الأغراض القومية، وحل محلها الغرض العام المشترك للإنسانية المستنيرة،

وصارت آراء الناس أبسط مما كانت وأصدق وأشد اتحادًا من آراء رجال الأعمال

الذين لا يزالون يعتقدون أنهم يقامرون لأجل القوة والسلطة، يقامرون بمبالغ عظيمة.

لهذا قلت: إن الحرب حرب شعوب وليست حرب ساسة، فعلى رجال السياسة

أن يتبعوا سير الفكر العام وإلا سقطوا، وعندي: إن هذا هو المدلول عليه في

الاجتماعات التي يعقدها عامة الناس الآن ويطلبون في كل واحد منها تقريبًا من

رجال حكوماتهم أن يخبروهم بالصراحة التامة ما يبغون من هذه الحرب وما هي

الشروط التي يظنون أنها ستكون شروط تسويتها النهائية، ولم يرتح من ذكرت إلى

ما قيل لهم حتى الآن جوابًا عن سؤالهم؛ لأنهم يخشون أن يكون جواب السؤال

مفرغًا في عبارات تقسيم الأملاك والبحث في السلطة، لا في قالب العدل والرحمة

والسلام، وإرواء غليل المظلومين من الرجال والنساء والشعوب المستعبدة، وهي

الأمور التي يرون أنها جديرة بحرب كهذه غمرت العالم، ويحتمل أن يكون الساسة

لم يدركوا هذا التغيير في عالم السياسة والعمل، ويحتمل أنهم لم يجيبوا مباشرة

عن السؤال المطروح عليهم لأنهم لم ينتبهوا إلى دقة السؤال والجواب المطلوب،

أما أنا فيسرني أن أحاول ترديد الجواب راجيًا أن يفهم العالم أن الشغل الشاغل لي

هو إرضاء الذين يحاربون في الصفوف، وهم أولى الناس بالجواب الذي لا يعذر أحد

على عدم فهمه ما دام يفهم اللغة التي يصاغ هذا الجواب بها أو يستطيع الحصول

على من يترجمه له إلى لغته بالضبط، وعندي أن زعماء الحكومات التي نحن

مشتركون معها سيتكلمون بالصراحة التي أحاول أن أتكلم بها كلما حانت لهم فرصة

وعسى أن يشعروا أنهم أحرار في تخطئتي إذا اعتقدوا أنني مخطئ في تعيين

الأمور التي تنشأ عن الحرب، أو في ما أقول عن الوسائل التي يمكن بها الحصول

على الحل الموافق لهذه الأمور.

إن توحيد القصد بين الدول في هذه الحرب ضروري كتوحيد القيادة في

الميدان، وهذا التوحيد في المشورة والرأي يكفل النصر التام، فالنصر لا يحرز

بغير ذلك (والهجوم الصلحي) لا يقع إلا متى أظهرنا أن كل انتصار تحرزه

الشعوب المتحدة على ألمانيا يدني الأمم من الأمان والطمأنينة ويجعل تكرار حرب

كهذه مستحيلاً، إن ألمانيا لا تفتأ تلمح إلى الشروط التي تقبلها (لعقد الصلح) فتجد

أن العالم لا يقبل شرط الصلح، بل يطلب انتصار العدل انتصارًا نهائيًّا، ويبغي

الإنصاف في المعاملة. انتهى.

***

تعليق المقطم ثم المقتطف على هذه الخطبة

نشر المقطم هذه الخطبة في 2 أكتوبر، وعلق عليها التعليق التالي قال:

(جعل الدكتور ولسن موضوع خطبته (جمعية الأمم) التي يصبو إلى تأليفها

مِن جميع الدول ليكون منها حائل يحول دون وقوع حرب عظيمة أخرى تنكب

بها الإنسانية نكبات تعرقها عرق المدى. والذي ينعم النظر في هذه الخطبة

النفيسة البليغة يجد أنه لم يقل فيها قولاً لم يسبق له أن جاهر به في خطبته

السابقة، وخطاباته التاريخية إلى مجالس الأمة الأمريكية، فقيمتها إذًا في تأييد

المبادئ والقواعد التي وضعها، وبسط الآراء التي كان أول من نادى بها في

معترك الأمم قبل ذلك، على أن نبي الحق ونصير العدل والرأفة في هذا العصر

مصمم على أن يطبق هذه المبادئ النظرية على سياسة العالم العملية بكل ما أوتي

من علم وذكاء ونشاط، وما رزق شعبه من قوة وثروة وعلم وحمية.

إن الاشتراكية الصحيحة الخالصة من كل شائبة والتي ترفع قدر الإنسانية هي

الاشتراكية التي نادى بها الدكتور ولسن بقوله في خطبته هذه: (إن مصلحة

أضعف الخلق مقدسة كمصلحة أقواهم) .

ورب قائل يقول: إن الدكتور ولسن ليس بمبتكر لهذا المبدأ، فقد جاهر به

غيره من قبله، وقد يكون الأمر كذلك، ولكن ولسن ينوي أن يكون أكبر عامل في

تطبيقه فعلاً، وإخراجه من حيز القوة إلى حيز الفعل، واتخاذ الوسائل التي تضمن

المحافظة عليه، وعقاب كل من يجرؤ على نقضه. فإذا كانت الأديان المنزلة قد

علمت هذه المبدأ من قديم الزمان، فإن الذين اشتغلوا بالسياسة في ما مضى من

العصور جعلوا ديدنهم التجمل بهذا المبدأ في الظاهر، ومحاربته في الباطن، فكانوا

يسخرونه لقضاء الأوطار ثم يعبثون بروحه.

فالشعوب الصغيرة في جميع أقطار العالم ترفع أيديها مبتهلةً إلى الله أن يطيل

عمر ولسن ويمنحه القوة اللازمة لتحقيق أمانيه، واسم ولسن سيظل منقوشًا على

صفحات قلوب المظلومين من الرجال والنساء والأمم المستعبدة التي يسعى

لإرواء غليلها بجعل نتيجة هذه الحرب لخدمتها ونفعها، لا لتقسيم البلدان والبحث

في توزيع السلطة والسؤدد.

إن الصوت الصاعد من أميركا هذه الأيام صوت نبوءة يقرع أسماع العالم

بالحق، ويدل الدول على سبيل الصلاح والبقاء، وإذا كان في التاريخ عبر،

وفي علم الاجتماع أوليات، فإنما هي ما نادى به خلف وشنطن، فهو ليس شاعرًا،

ولا هو من السابحين في بحار الخيال، ولكنه رجل أشبع مروءةً ووفاءً، واستوعب

العلم الصحيح المبني على استقراء سليمي العقل والدين من البشر، ورأى الواجب

يقضي عليه بإرشاد الناس إلى سبيل الحق، ورجل كهذا قاد أمةً عظيمةً إلى مواطن

الحرب والبذل والجود، ولبَّت أمته دعوته عن طيب خاطر لتؤيد مبدأ مس قلوبها لا

يذهب كلامه صرخةً في واد.

وقد فصل خطته تفصيلاً حسنًا في هذه الخطبة، وعرف العدل تعريفًا ما رأى

الناس أسمى منه في ما صدر عن عقول البشر، فقال: (إن معنى العدل المجرد

عن الهوى هو أن لا نميز بين الذين نريد أن نعدل فيهم، والذين لا نريد أن نعدل

فيهم، فالعدل يجب أن لا يفرق ولا يميز ولا يحابي ولا يعرف من المقاييس سوى

التساوي في الحقوق بين الشعوب المختلفة) .

نقول: وقد يظل العالم بعيدًا عن بلوغ هذه المرتبة الرفيعة التي وضعها رئيس

الأميركيين نصب العيون؛ لأن الارتقاء إليها صعب شاق، ولكن إنشاء هذا المقياس

الرفيع سيفيد العالم؛ لأنه ينشطه على التطاول لبلوغه، وستفهم أوربا اليوم أن

سياسة (مترنيخ وتيلران وبسمرك) لا تثبت على طوارق الحدثان كما ظهر في ما

جرى بعد مؤتمر (فينا) ومعاهدة (فرنكفورت) لأن البناء المتين لا يقوم على

الرمل، وإنما يثبت إذا قام على الصخر.

فليرحب العالم بصوت المدافع عن الضعفاء من الأفراد والأقوام، وليكرم

صاحبه ويعظم قدره، فقد أنار سبيل الإنسانية ومسح دموعها، فخفق فؤادها أملاً

وامتلأ صدرها رجاءً.

إن الرجل الذي لبى دعوة الإنسانية في أشد عصورها خطرًا عليها تنصت

الإنسانية إلى صوته إنصات كل مخلوق إلى صوت من يعرف حبه وعطفه،

ويدرك تفانيه وإيثاره، ويحترم كفاءته ومقدرته) اهـ.

(المنار)

صدق المقطم في قوله: إن الرئيس ولسن ليس هو الواضع لهذه القواعد للحق

والعدل، ولا هو أول من نادى بها، فإن الواضع لها هو الله تعالى بمثل قوله:

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا

بِالْعَدْلِ} (النساء: 58) فذكر الناس كلهم، ويؤيده قوله: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ

قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: 8) والشنآن: البغض

مع الاحتقار، وأول من نادى بها في هذا العهد وزمن هذه الحرب أحرار الروس،

وخاطبوا بذلك دول الحلفاء، فأكبروا خطتهم، وأجابوا عنها بما بيناه في المجلد

(العشرين) الماضي من المنار (ص 48- 57) .

وصدق المقطم في حصر مزية الرئيس ولسن في استعمال قوة أمته لتنفيذ هذه

القواعد بعد تفصيله لها، وفي قوله: إن ديدن السياسيين فيما مضى هو التجمل بها

في الظاهر ومحاربتها في الباطن، وتسخيرها لقضاء المآرب. وقد أصبح جميع

الناس يعرفون هذا، ويسرنا أن نرى جميع أمم الحلفاء تعظم ولسن وتؤيده اليوم.

***

خطاب الرئيس ولسن في مجلس الأمة الأمريكي

ألقى الرئيس على مجلس الأمة المؤلف من الشيوخ والنواب تقريره السنوي

وذكر فيه مسألة تأثير أمته الفاصل في الحرب ومسألة الصلح. وجاءنا روتر في

أول ديسمبر (ك1) بخلاصة منه ننقل ترجمتها عن الجرائد مع تصحيح ما يقابلها

على جريدة التيمس، وهي:

(كان العام الماضي الذي انقضى منذ وقوفي أمامكم للقيام بالواجب الذي

فرضه علي الدستور هو إبلاغ مجلس الأمة المعلومات الخاصة بأحوال البلاد

(أمريكة) مفعمًا بحوادث عظيمة وأعمال كبيرة ونتائج جمة بحيث لا أرجو أن

أعطيكم صورة كافية تمثلها أو تمثل التغييرات البعيدة الغور التي طرأت على حياة

أمتنا وحياة العالم ، وقد شاهدتم بأنفسكم هذه الأمور كما شاهدتها أنا، وعليه قد حان

الوقت لتعيين نصيب كل منا فيها، ولا ريب في أننا نحن الذين نقف في وسط هذه

الأمور بمنزلة جزء منها، وأقل كفاءة من رجال أي جيل آخر فيما يقولونه عن معنى

هذه الحوادث أو عن ماهيتها، على أن هناك حقائق ظاهرة لا يمكن الخطأ فيها، وهذه

الحقائق تكون في الذهن جزءًا من الأعمال العامة التي يقضي علينا واجبنا بالبحث

فيها، وما ذِكْر هذه الحقائق إلا إعداد المكان الصالح لنماء العمل التشريعي والتنفيذي

الذي يجب علينا أن نكيف ونقرره) .

وتناول الرئيس بعد ذلك الكلام على نقل أكثر من مليوني جندي إلى ما وراء

البحار بخسارة 758 شخصًا؛ بسب أعمال العدو، ثم قال: (ولسنا نثير رواكد

الحسد إذا قلنا: إن وراء هذه الحركة العظيمة دعامة تدعمها، وهي قائمة على تنظيم

في صناعات البلاد، وفي جميع أعمالها المثمرة يفوق بكماله وبتمام طريقته

وتباشير نتيجته وبالنشوة المخيمة عليه وباتحاد غايته وسعيه - كل تنظيم وضعته أية

دولة من الدول العظمى الداخلة في الحرب) .

ثم أطرى روح الحمية والبساطة التي أظهرتها الجنود الأميركية في ساحة

القتال قائلا: (إن الجيش الأميركي قام بدوره في أعظم وقت مناسب، وفي أعظم

ساعة حرجة كان مصير العالم فيها هدفًا للأخطار فألقى بقوته بين صفوف الحرية،

فبدأ يأفل نجم العدو، وما زال يزداد أفولاً حتى أدرك قواد دولتي الوسط أنهم قد

ضُربوا ، وها نحن أولاء نرى الآن بلادهم تُصفى) .

وبعد أن أثنى الرئيس على أعمال بنَّائي السفن، وعمال السكك الحديدية،

والذين اشتغلوا في الحرب بأيديهم وعقولهم، أطرى النساء الأميركيات، وصرح

بأن (أقل ثناء يمكن توجيهه إليهن هو أن نجعلهن مساويات للرجل في الحقوق

السياسية بما برهن على أنهن كفؤ لهم في كل عمل اشتغلن به لأنفسهن أو لبلادهن) .

واستطرد الرئيس فقال: (الآن، وقد ضمنا نيل الفوز العظيم الذي بذلت في

سبيله كل تضحية، وقد جاء هذا الفوز تامًّا كاملاً، فعلينا أن نعود حالاً إلى واجباتنا

الخاصة بالسلام: السلام الذي سيقينا اعتداء الملوك المطلقين من كل قيد، ومطامع

العصابات العسكرية. ولنستعد لنظام جديد، ولوضع أساسات جديدة للدولة وللحق) .

وبعد أن تناول الرئيس الكلام على علاقة أميركا بالدول الأجنبية ذكر مسألة

الإصلاح والترميم وإلغاء القيود التجارية وغيرها في أميركا، ثم حث على مساعدة

بلجيكا وفرنسا والجهات الأخرى التي اجتاحها العدو، وناشد المجلس على تأييد

برنامج الأسطول، ثم تناول مسألة سفره أوربا لحضور مؤتمر الصلح فقال:

(إنني أرحب بهذه الفرصة لأعلن للمجلس عزمي على الالتحاق بمندوبي

الحكومات التي نشترك معها في الحرب ضد دولتي الوسط؛ لأدرس معهم النقاط

الجوهرية في معاهدة الصلح، وإني لا أجهل عدم ملاءمة سفري، ولا سيما في هذه

الآونة، على أنني أرجو أن تبدو العوامل التي أوجبت علي السفر أمامكم وجيهة كما

تبدو لي، فقد قبلت حكومات الحلفاء قواعد الصلح التي بينتها لكم يوم 8 يناير

الماضي كما قبلتها حكومتا دولتي الوسط، وترغب هذه الحكومات رغبة كلها عقل

في استشارتي الشخصية فيما يتعلق بتفسير هذه القواعد وتطبيقها، فمن الواجب أن

أقدم هذه المشورة كي تبدو تمامًا رغبة حكومتنا الصادقة في العمل - بدون أن تكون

هناك مصلحة ذاتية ما - لتسوية المسائل التي ستكون ذات فائدة عامة لجميع الأمم

ذات الشأن.

ولا ريب في أن تسوية المسائل الخاضعة بالصلح الذي سيتفق عليه على

جانب عظيم من الأهمية والشأن فيما يتعلق بنا وببقية العالم، وإني لا أعرف مهمةً

أو مصلحةً تبدو ذات أهمية أعظم من تسوية هذه المسائل، فقد قاتلت قواتنا في البر

والبحر؛ لحماية مبادئ تَعرِف أنها مبادئ بلادها، ولقد حاولت أن أعبر عن هذه

المبادئ، فقبلها رجال السياسة كخلاصة أفكارهم وأغراضهم، وبما أن الحكومات

المشتركة قد قبلت هذه المبادئ، فإن علي أن أعمل بحيث لا يمكن إدخال خطأ عليها،

وبحيث يبذل كل مجهود لتنفيذها) .

قال: (فالواجب يقضي علي والحالة هذه بأن ألعب دوري لأحصل لهم على

ما بذلوا لأجله دماءهم وأرواحهم، وليس عندي هنالك واجب يمكن تفضيله على

هذا) .

ثم وعد الرئيس ولسن بأن سيوقف المجلس على جميع المفاوضات التي

ستدور في مؤتمر الصلح كما هي بكل سرعة ممكنة مشيرًا إلى إلغاء الرقابة في

إنكلترا ، وقال:

(أفلا أرجو أن أكون متمتعًا بتأييدكم أيها النواب في جميع الواجبات الدقيقة

التي ستلقى على عاتقي في أوروبا ، وفي مجهوداتي التي سأبذلها بصدق وأمانة

لتفسير المبادئ والأغراض التي تجلها بلادنا التي نحبها؟)

قال: (ولا أجهل عظم الواجب الذي أخذته على عاتقي، ولا المشاق التي

ستعترضني في سبيلي، ولا التبعة العظيمة الملقاة علي) . (إنني خادم الأمة وليس

لدي فكرة خاصة أو غرض خاص في القيام بمثل هذه المهمة، وسأذهب لأبذل

قصارى جهدي في التسوية العامة التي يجب أن أعمل للوصول إليها في مؤتمر الصلح

مع زعماء الحكومات المشتركة، وسأعتمد على تأييدكم ومساعدتكم لي، وسأكون

على صلة معكم، فأقف بواسطة البرقيات البحرية واللاسلكية على كل شيء تريدون

أخذ رأيي فيه، وسأكون مرتاح الفكر لأنني سأكون دائمًا على إلمام تام بمعرفة الأمور

الجليلة الشأن الخاصة بشؤوننا الداخلية.

وسأجعل مدة غيابي قصيرة ما أمكن، وأملي أن أعود إليكم، وأنا على يقين

تام بأن المبادئ العظيمة التي ناضلت أميركا لأجلها قد دخلت في دور العمل

والتنفيذ) اهـ.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 17

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مستقبل سورية وسائر البلاد العربية

1

- البلاد المحررة

هذا إعلان رسمي من قِبل الحكومتين البريطانية والفرنسوية، نُشر بهذا

العنوان في الجرائد المصرية اليومية في يوم الجمعة 8 نوفمبر سنة 1918 -4 صفر

سنة 1337:

إن الغرض الذي ترمي إليه فرنسة وبريطانية العظمى بمواصلتهما في

الشرق تلك الحرب التي أثارها الطمع الألماني - هو تحرير الشعوب التي طالما ظلمها

الترك تحريرًا نهائيًّا، وتأسيس حكومات ومصالح أهلية تُبنى سلطتها على اختيار

الأهالي الوطنيين لها اختيارًا حرًّا، وقيامهم بذلك من تلقاء أنفسهم. وتنفيذًا لهذه

النيات قد وقع الاتفاق على تشجيع العمل لتأسيس حكومات ومصالح أهلية في

سورية والعراق اللتين أتم الحلفاء تحريرهما ، وفي البلاد التي يواصلون العمل

لتحريرها، وعلى مساعدة هذه الهيئات والاعتراف بها عند تأسيسها فعلاً،

والحلفاء بعيدون عن أن يرغموا سكان هذه الجهات على قبول نظام معين من

النظامات ، وإنما همهم أن يحققوا بعونهم ومساعدتهم النافعة حركة الحكومات

والمصالح التي ينشئها الأهالي لأنفسهم مختارين حركةً منتظمةً ، وأن يضمنوا لهم

قضاءً عادلاً واحدًا للجميع ، وأن يسهلوا انتشار العلم في البلاد، وتقدمها اقتصاديًّا

وذلك بتحريك همم الأهالي وتشجيعها ، وأن يزيلوا الخلاف والتفرق الذي طالما

استخدمته السياسة التركية. ذلك هو ما أخذت الحكومتان المحاربتان على نفسيهما

مسئولية القيام به في البلاد المحررة.

***

2-

البر بالمواثيق

نشر المقطم يوم الاثنين 23 ديسمبر 1918، و19 ربيع الأول 1337 ما

نصه:

تلقينا في الأسبوع الماضي العدد 11 من جريدة المستقبل الغراء الصادر في

باريس يوم 30 سبتمبر الماضي، فقرأنا فيه ما يأتي: (جاء في برقية رسمية من

لندن هذا النبأ الذي طربت له أفئدة أبناء سورية، ولبنان) :

لندن في 35 سبتمبر: إن الجيوش البريطانية التي تؤازرها جنود فرنسية قد

وصلت الآن إلى حدود البقاع الراجع أمر تهيئة سكانها للحكم الذاتي إلى فرنسة طبقًا

للاتفاق الإفرنسي البريطاني المبرم عام 1916.

فبرًّا بالمواثيق ترى الحكومة البريطانية والحكومة الإفرنسية أيضًا أنه من

اللازم تنظيم الإدارة المؤقتة في هذه البقاع طبقًا لاتفاق عام 1916، وأن السلطة

العسكرية البريطانية الموجودة هناك تبر بالمواثيق بر الحكومة البريطانية بها

وستوضع قريبًا هنا على بساط البحث مسألة إدخال هذا الاتفاق في طور العمل)

انتهى بحروفه.

***

3-

إعلان اتفاق سنة 1916 المذكور في باريس

إن جريدة المستقبل التي تصدر في باريس لخدمة فرنسة في مستعمراتها

الأفريقية وسائر البلاد العربية، ويديرها أفراد من مسيحيي لبنان وسورية يعبرون

عن أنفسهم باسم (الجمعية السورية المركزية) قد بينت أمر هذا الاتفاق الذي أشار

إليه فيما نقل عنها المقطم منذ سنة كاملة وصَدَرَ العدد 9 منها في 27 ربيع الأول سنة

1336 -

10 يناير سنة 1918 مزينًا بطبعه بالحبر الأحمر والأزرق، مُصدّرًا

بمقالة افتتاحية في مستقبل سورية الذي صرح به في الجمعية السورية ممثلا

الحكومتين البريطانية والفرنسية، ذلك بأن الحكومة الإنكليزية أوفدت (السير

مارك سايكس) المشهور إلى باريس فضمت إليه حكومتها (المسيو جان فو) ممثلاً

لها ليصرحا في الجمعية السورية باتفاقهما، فعقدوا فيها اجتماعًا حضره بعض

أعضاء مجلسي النواب والشيوخ الفرنسيين، ونائب بطرك الكاثوليك في فرنسة،

وأعضاء الجمعية السورية، وهم المسيو شكري غانم رئيسها الأول ، والمسيو أنيس

شحادة رئيسها الثاني ، والدكتور جورج سمنه كاتم أسرارها العام ، والمسيو نجيب

مكرزل أمين صندوقها - واعتذر يوسف أفندي سعد أحد أعضائها عن الحضور

بانحراف صحته - ورأس الجلسة المسيو (فرنكلان يوبون) أحد أعضاء مجلس

النواب، وبعد افتتاحه الجلسة ألقى المسيو شكري غانم خطبةً، ذكر فيها حبهم

لفرنسة وإعجابهم بإنكلترة ، والتوازن بين الدولتين، وأنه هو أساس (ما اصطلح

الرأي العام على تسميته باسم جمعية الأمم) (؟) وقال: (إن في هذا التوازن

ضمانًا للشعوب الصغيرة؛ لأنه يكفل استقلالنا بصفة أكيدة، بعد تحريرنا من رق

الأتراك الشنيع، ويجعل لنا مقامًا رفيعًا برعاية فرنسة وعونها، وبمصادقة

إنكلترة) إلخ.

ثم تلاه السير مارك سايكس فحث في خطابه السوريين على الاتحاد ونبذ

الخلاف، والاتفاق على القاعدتين الآتيتين اللتين زعم أن في استطاعة جميع أجناس

سورية وأديانها الاتفاق عليهما (؟) وأن الواجب على السوريين الذين يتمتعون

بالحرية في أوربة وأمريكة ومصر أن يرفعوا أصواتهم بهما؛ لأن الذين في البلاد

مكرهون على الصمت، وهما قوله:

1-

يجب بادئ بدء قلب الحكم التركي المشئوم، لأن ما هو - بإجماع

الآراء - فاسد في أرمينية ، غير صالح لسورية.

2-

ثم يجب أن تنتظروا من فرنسة أن تأتيكم بالمساعدة التي لا غنى للشعب

المظلوم عنها، وهو في حاجة إليها كي يقدر على السير بنفسه في طريق الحياة،

وينبغي أن تتطلبوا ضمانات من الدول المتمدنة في العالم لئلا تخضعوا مرةً أخرى

لحكم الأتراك الذي صار بكم إلى الفقر وإلى الشقاق.

وتلاه المسيو غو ممثل الحكومة الفرنسية فقال:

أيها السادة

(إنه ليسرني أن أؤكد لكم برخصة من وزير الخارجية الجمهورية - بعد

النصائح الرشيدة التي سمعتموها من فم السير مارك سايكس ممثل الأمة الحليفة -

أن فرنسة وإنكلترة متفقتان تمام الاتفاق على تحرير الشعوب غير التركية من

النير التركي في آسيا الصغرى، مهما كانت أديان هذه الشعوب وأجناسها وتهيئتها

لمستقبل أحسن من ماضيها) .

وقد صممت الدولتان الحليفتان العزم - بعد طرح كل فكرة ترمي إلى السيطرة

الاستعمارية - على هداية الشعوب التي تتكلم العربية وغيرها من اللغات،

والساكنة في الربوع التي تمتد من الجبال الأناطولية إلى بحر الهند، وللسير بها في

طريق الاستقلال بالحكم، وفي سبيل الحضارة، مع احترام العقائد الدينية وحقوق

الوطنيات، وستعمل كل من الدولتين في منطقة نفوذها، وسيكون الدور الذي تمثله

فرنسة وإنكلترة دور دليل لتحسين حالة المستقبل، ودور حكم بين الجماعات

الدينية والجنسية، والأولى مستعدة للقيام بهذا الدور في الشمال، والثانية في

الجنوب.

إننا نرغب في أن يحيط مواطنوكم كلهم علمًا بهذا الاتفاق الولائي المعقود بين

الدولتين الحرتين الكبريين حتى يقدروه حق قدره، ولا سبيل إلى تحقيق مستقبل

مجيد - وقد أهلتهم له عذاباتهم الماضية، وثِقتهم بمصير وطنهم - إلا بالاتفاق

وبنبذ الشقاق الناتج من حكم الأتراك.

وإنني أدعوكم إلى تحية فجر هذا المستقبل لسورية ولغيرها من البلدان التي

تتكلم بالعربية، شاملين في تحياتنا بريطانيا العظمى وفرنسة وسورية) اهـ.

ثم إن مسيو شكري غانم فاه بكلام خلاصته أن السوريين الذين في مصر

كثيرون ، وهم أرقى السوريين علمًا وثروةً وأشدهم اختلافًا، فينبغي للسير مارك

سايكس السعي لاتفاقهم على الأمرين اللذين دعا إليهما ، أي: بنفوذ حكومته هنا،

ولم يقل مسيو شكري غانم هذا القول إلا لعلمه بأن السواد الأعظم من السوريين هنا

مخالفون له في رأيه ورأي جمعيته، وأنهم لا يرون أنفسهم غير أهل للاستقلال

التام، ولا يطلبون نصب وصي عليهم حتى يؤهلهم له؛ لأنهم يعتقدون أنهم

راشدون لا سفهاء ولا معتوهون.

***

4-

دخول المسألة العربية في طور جديد

بعد ذلك الاتفاق دخلت المسألة في طور جديد بما وضعه الدكتور ولسن رئيس

الولايات المتحدة من الشروط لصلح الأمم، وما فسرها به في تلك الخطب، فصار

أمر الشعب العربي في كل قطر منوطًا به ومفوضًا إليه باتفاق الدول، ولم يبق

للافتيات عليه من سبيل، إلا أن يجني على نفسه، فالدول وأحرار أممها يقولون

له: إن أمره بيده، والمستعمرون الطامعون يقولون له: قد قضي الأمر في شأنه،

فما عليه إلا أن يساعدهم على تمدينه وسبر بلاده.

هذا، وإننا قد بينا من قبل أن الشروط لصحة مثل هذا الاعتراف والإقرار،

أن لا يكون تحت سيطرة عسكرية، ولا ضغط سلطة تنافي الاختيار، وأن يكون

من المقر المعترف على علم بأن أمره بيده، وأن قضيته لم يقض فيها، ولن يقضى

فيها إلا برأيه (راجع ص 48 - 59، و499، و246 من المجلد 20) .

بعد هذا نقول: من المقرر الذي لا ريب فيه أن مسألة الولايات العربية

العثمانية ستعرض على مؤتمر الصلح، وما يقرره فيها هو الذي ينفذ - وأن الدولة

العثمانية ستطلب أن تكون مستقلةً في إدارتها الداخلية عملاً بالشروط ال 12 من

شروط الرئيس ولسن التي قبلت الصلح بها، وقد نقلت التيمس في شهر نوفمبر أن

مجلس النواب العثماني قرر أن تكون الولايات العربية مستقلةً تحكم نفسها كما تشاء

بشروط الارتباط بالسلطان وحده، والظاهر أن المراد بذلك أن تكون تحت سيادته

باعترافها له بالخلافة، لا تحت سيادة الباب العالي ومجلس الأمة - وأن إنكلترة،

وفرنسة ستطلبان تقسيم سورية والعراق على حسب اتفاقهما في سنة 1916 ،

وكل هذا وذاك ينافي تحرير البلاد واستقلالها، خلافًا لما أذاعته البرقيات والجرائد عن

دول الحلفاء من أول سني الحرب إلى آخرها، ولقواعد ولسن وخطبه المفسرة لها،

المصرحة بوجوب استفتاء كل شعب في أمره والعمل برأيه في حكم بلاده، وهذا

الاستفتاء لم يقع.

فالحق أن أمرهم بيدهم من كل وجه، ولهم أن يطلبوا ما يبغونه - بدافع الفطرة

والعقل - من الاستقلال التام المطلق من كل قيد، وهو ما أجمع عليه زعماؤهم

وعقلاؤهم، وقتل في سبيله شهداؤهم، فإذا فاتتهم هذه الفرصة واختاروا العبودية

على الحرية والاستقلال بخداع دعاة الاستعمار، كانوا في حكم من بخع نفسه بيده

بل كانوا قاتلين لأمتهم بأسرها، وملعونين في تاريخها وتاريخ الأمم كلها.

قلنا: وإن أهل المعرفة يقترحون كلما أمكنهم التصريح بمطالب البلاد

الصريحة المعقولة التي لا يختلف فيها إلا المخدوعون أو المأجورون. والمرجو

من الرئيس ولسن العظيم، ومن أحرار سائر الأمم الذين لا ينخدعون بمكايد

المستعمرين، ولو كانوا من أمتهم - أن ينصروا الحرية الكاملة، فيحرروا الشعب

العربي كغيره تحريرًا تامًّا بجعل أمره بيده ، ولله الأمر من قبل، ومن بعد.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 33

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌رد المنار على الناقد لذكرى المولد النبوي [

1]

الموضع الثالث عشر

آل البيت [2]

نقل الناقد ما ذكر في حاشية ص 43 من ذكرى المولد من القولين في تفسير

حديث زيد بن أرقم- رضي الله عنه أن آل النبي صلى الله عليه وسلم هم الذين

تحرم عليهم الصدقة، وقول غيره. هم علي وذريته من فاطمة عليهم السلام،

واستنبط من تقديمنا القول الأول وإبهام القائلين بمقابله ترجيحَه ، وتعقبه بقوله:

(ولعل الصواب ما يقوله الآخرون كما حققه شيخ مشايخنا العلامة مولانا

السيد أبو بكر بن عبد الرحمن بن شهاب الدين العلوي) كما قال: (إن المراد بآل

البيت في آية التطهير: علي وفاطمة والحسن والحسين) وهو قول جمهور

العلماء وأكابر أئمة الحديث المعتد بروايتهم ودرايتهم. وإن الأدلة تضافرت بذلك عن

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والمصير إلى تفسير من أنزلت عليه متعين

(ثم بين ذلك بحديث أم سلمة المعروف في تفسير آية التطهير، وأشار إلى حديث

عائشة بمعناه ، وذكر أن جميع ذرية فاطمة داخلة في ذلك إلى يوم القيامة، وأن

الأحاديث مصرحة بذلك، ومثل بحديث الجمع بين القرآن والعترة، وبحديث أهل

بيتي أمان لأهل الأرض) وجزم بأن ذلك دالٌّ قطعًا على أن هذه السلالة الطاهرة

هم أهل البيت المطهرون المرادون بكل ما ورد في فضل أهل البيت من الآيات

والأحاديث، وأنهم عدول هذه الأمة وأحد الثقلين المأمور بالتمسك بهما، قال: (وقد

أجمعت الأمة على ذلك) .

وأقول (أولاً) : إنني لم أرد بتقديم قول زيد ترجيحه، ولا بتأخير قول

الآخرين تضعيفه؛ لأنني لست بصدد ذلك، وإنما أخرت ما أخرت لأبني عليه ما

ذكرته بعده من الثناء والمناقب، وهذا سبب من أسباب التأخير معهود في أساليب

الكلام الفصيح ما كان له أن يفهم منه الترجيح ، و (ثانيًا) : إن ما ذكره من

التصويب وادعى أنه هو التحقيق، وأن الأحاديث الصحيحة ناطقة به والأمة

مجمعة عليه - فيه نظر ظاهر، ولا أحب أن أعبر عنه بما دون ذلك، فالأحاديث

الصحيحة في الآل والذرية والعترة كثيرة، والخلاف فيها كثير، والمتبادر من آية

التطهير أنها في نساء النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها تعليل لما قبلها من الأوامر

والنواهي الخاصة بهن، وما بعدها خطاب لهن كالذي قبلها، فلا يمكن أن يكون هذا

التعليل أجنبيًّا في وسط الكلام، ولا يمكن أن يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم

تفسير آية بما ينافي أساليب البلاغة، فكيف بما ينافي المتبادر من اللغة؟ وقد بينت

هذا في المنار من قبل.

ولولا التعصب الذي أوقع أدق علماء اللغة وفرسان بلاغتها في الغلط أحيانًا،

لَما كان يقبل أحد له شمة من العربية أن يقول فيما نزل نصًّا قاطعًا في خطاب معين:

إنه في غير ذلك المخاطب المعين، حتى إنه يشمله بعمومه خلافًا للأصل الذي جرى

عليه جميع العلماء. قال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ

لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ} (الأحزاب: 33) : هذا نص في دخول أزواج

النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت ههنا لأنهن سبب نزول هذه الآية وسبب

النزول داخل فيه - قولاً واحدًا - إما وحده، على قول، أو مع غيره، على

الصحيح، اهـ، ويريد بالصحيح: ما جرى عليه أهل الأصول من أن العبرة بعموم

اللفظ لا بخصوص السبب، ولفظ (أهل البيت) هنا عام يدخل فيه كل منتسب إلى

ذلك البيت، ولكن المخاطب منهم في الآية نساؤه صلى الله عليه وسلم، وهُن أهل

البيت السكني المتبادر هنا، وأهل بيت الرجل وآله يطلق على بيت القرابة وعلى

أتباعه، ومنه قوله تعالى:{أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ} (غافر: 46) وقول

عبد المطلب يوم الفيل:

وانصر على آل الصليـ

ـب وعابديه اليوم آلك

ولا يمكن أن يراد هذا الأخير من الآية لقرينة الخطاب.. ومثله (آل) القرابة

لولا ما ورد من في الحديث من إدخاله صلى الله عليه وسلم أهل العباء فيهم خبرًا أو

دعاءً، والدعاء هو الذي ثبت في الصحيح. وأما حديث أم سلمة فمضطرب المتن،

ومخالف لمنطوق الآية، وفي أسانيد طرقه كلها علل تمنع الاحتجاج به، فكيف يمكن

ترجيح مفهومه على منطوق القرآن؟ وفي حديث علي عند النسائي ، وأبي هريرة

عند أبي داود مرفوعًا: (من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا آل البيت

فليقل: اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين ، وذريته وأهل بيته،

كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد) فقد عَطف آل البيت) على الأزواج

والذرية ، والأصل في العطف المغايرة.

إنني لا أحب أن أطيل الكلام في مناقشة الناقد في هذه المسألة من عندي، بل

أستغني عن ذلك بأن أنقل له أوسع ما رأيته في تفسير آية التطهير وأجمعه لأقوال

أهل السنة والشيعة؛ ليعلم مكان ما ادعاه من اتفاق العلماء أو إجماع الأمة من

الصحة، وهو ما أورده الشهاب الآلوسي في روح المعاني تفسيرًا لقوله تعالى:

{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: 33) .

قال: استئناف بياني مفيد تعليل أمرهن ونهيهن، والرجس في الأصل: الشيء

القذر، وأريدَ به هنا عند كثير الذنب مجازًا، وقال السدي: الإثم ، وقال الزجاج:

الفسق، وقال ابن زيد: الشيطان ، وقال الحسن: الشرك ، وقيل: الشك ، وقيل

البخل والطمع ، وقيل: الأهواء والبدع ، وقيل: إن الرجس يقع على الإثم ، وعلى

العذاب ، وعلى النجاسة ، وعلى النقائص ، والمراد به هنا: ما يعم كل ذلك، ولا

يخفى عليك ما في بعض هذه الأقوال من الضعف ، و (ال) فيه للجنس أو

للاستغراق، والمراد بالتطهير، قيل: التحلية بالتقوى، والمعنى على ما قيل:

إنما يريد الله ليذهب عنكم الذنوب والمعاصي فيما نهاكم، ويحليكم بالتقوى تحليةً

بليغةً فيما أمركم. وجوز أن يراد به الصون، والمعنى: إنما يريد سبحانه ليذهب عنكم

الرجس ويصونكم من المعاصي صونًا بليغًا فيما أمر ونهى جل شأنه، واختلف في

لام (ليُذهب) فقيل: زائدة وما بعدها في موضع المفعول به لـ (يريد) فكأنه قيل:

يريد الله إذهاب الرجس عنكم، وتطهيركم. وقيل: للتعليل. ثم اختلف هؤلاء،

فقيل: المفعول محذوف ، أي: إنما يريد الله أمركم ونهيكم ليذهب، أو: إنما يريد

منكم ما يريد ليذهب، أو نحو ذلك، وقال الخليل وسيبويه ومن تابعهما: الفعل في

ذلك مقدر بمصدر مرفوع بالابتداء، واللام وما بعدها خبر ، أي: إنما إرادة الله

تعالى للإذهاب، على حد ما قيل في (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه) فلا مفعول

للفعل. وقال الطبرسي: اللام متعلق بمحذوف تقديره: وإرادته ليذهب ، وهو كما

ترى، وهذا الذي ذكروه جارٍ في قوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} (النساء:

26) {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العَالَمِينَ} (الأنعام: 71) وقول الشاعر:

أريد لأنسى ذكرها فكأنما

تمثل لي ليلى بكل مكان

ونصب (أهل) على النداء، وجوز أن يكون على المدح، فيقدر: أمدح، أو

أعني، وأن يكون على الاختصاص، وهو قليل في المخاطب، ومنه: (بك

الله نرجو الفضل) وأكثر ما يكون في المتكلم كقوله:

نحن بنات طارق

نمشي على النمارق

و (ال) في (البيت) للعهد، وقيل: عوض عن المضاف إليه، أي: بيت

النبي صلى الله - تعالى - عليه وسلم ، والظاهر أن المراد به بيت الطين والخشب،

لا بيت القرابة والنسب، وهو بيت السكنى لا المسجد النبوي كما قيل ، وحينئذ

فالمراد بأهله نساؤه صلى الله - تعالى - عليه وسلم المطهرات؛ للقرائن الدالة على

ذلك من الآيات السابقة واللاحقة، مع أنه عليه الصلاة والسلام ليس له بيت يسكنه

سوى سكناهن، وروى ذلك غير واحد: أخرج ابن أبي حاتم، وابن عساكر من

طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: نزلت {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ} (الأحزاب: 33) إلخ في نساء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خاصةً. وأخرج

ابن مردويه من طريق ابن جبير عنه ذلك بدون لفظ (خاصةً) وقال عكرمة: من

شاء باهلته أنها نزلت في أزواج النبي صلى الله - تعالى - عليه وسلم. وأخرج ابن

جرير وابن مردويه عن عكرمة أنه قال في الآية: ليس بالذي تذهبون إليه، إنما هو

نساء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. وروى ابن جرير أيضًا أن عكرمة كان ينادي

في السوق أن قوله - تعالى -: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ} (الأحزاب: 33) نزل في نساء النبي عليه الصلاة والسلام. وأخرج ابن سعد عن

عروة {لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ} (الأحزاب: 33) قال: يعني أزواج

النبي صلى الله - تعالى - عليه وسلم.

وتوحيد البيت لأن بيوت الأزواج المطهرات - باعتبار الإضافة إلى النبي

صلى الله تعالى عليه وسلم - بيت واحد، وجمعه فيما سبق ولحق باعتبار الإضافة

إلى الأزواج المطهرات اللاتي كن متعددات، وجمعه في قوله سبحانه الآتي إن شاء

الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَاّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} (الأحزاب:

53) دفعًا لتوهم إرادة بيت زينب لو أُفرد من حيث إن سبب النزول أمر وقع فيه،

كما ستطلع عليه، إن شاء الله تعالى. وأورد ضمير جمع المذكر في (عنكم)

و (يطهركم) رعايةً للفظ الأهل، والعرب كثيرًا ما يستعملون صيغ المذكر في مثل ذلك

رعايةً للفظ، وهذا كقوله - تعالى - خطابًا لسارة امرأة الخليل عليهما السلام

{قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} (هود: 73) ومنه - على ما قيل - قوله سبحانه: {فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ

نَاراً} (طه: 10) خطابًا من موسى عليه السلام لامرأته ، ولعل اعتبار التذكير هنا

أدخل في التعظيم. وقيل: المراد هو صلى الله - تعالى - عليه وسلم، ونساؤه

المطهرات - رضي الله تعالى عنهن - وضمير جمع المذكر لتغليبه عليه الصلاة

والسلام عليهن.

وقيل: المراد بالبيت: بيت النسب، ولذا أُفرد ولم يُجمع كما في السابق

واللاحق. فقد أخرج الحكيم الترمذي والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي معًا

في الدلائل عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله صلى

الله - تعالى - عليه وسلم: (إن الله - تعالى - قسم الخلق قسمين فجعلني في خيرهما

قسمًا، فذلك قوله - تعالى -: (وَأَصْحَابُ اليَمِينِ

وأصحاب الشمال) فأنا من

أصحاب اليمين ، وأنا خير أصحاب اليمين، ثم جعل القسمين أثلاثًا فجعلني في خيرها

ثلثًا، فذلك قوله تعالى [3] : {وَأَصْحَابُ المَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ المَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ

السَّابِقُونَ} (الواقعة: 9-10) فأنا من السابقين ، وأنا خير السابقين، ثم جعل

الأثلاث قبائل ، فجعلني في خيرهم قبيلة وذلك قوله - تعالى -: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً

وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) وأنا أتقى ولد آدم

وأكرمهم على الله - تعالى - ولا فخر، ثم جعل القبائل بيوتًا ، فجعلني في خيرها

بيتًا، فذلك قوله - تعالى -: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ

وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: 33) أنا وأهل بيتي مطهرون من الذنوب) فإن

المتبادر من البيت الذي هو قسم من القبيلة البيت النَّسبَي.

واختلف في المراد بأهله، فذهب الثعلبي إلى أن المراد بهم: جميع بني هاشم

ذكورهم وإناثهم، والظاهر أنه أراد مؤمني بني هاشم ، وهذا هو المراد بالآل عند

الحنفية، وقال بعض الشافعية: المراد بهم: آله صلى الله تعالى عليه وسلم الذين

هم مؤمنو بني هاشم والمطلب. وذكر الراغب أن أهل البيت تعورف في أسرة

النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مطلقًا ، وأسرة الرجل - على ما في القاموس -

رهطه ، أي: قومه وقبيلته الأدنون، وقال في موضع آخر: صار أهل البيت متعارفًا

في آله عليه الصلاة والسلام، وصح عن زيد بن أرقم في حديث أخرجه مسلم أنه قيل

له: مَن أهل بيته؟ نساؤه صلى الله - تعالى - عليه وسلم؟ فقال: لا، ايم الله إن

المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر، ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها، أهل

بيته: أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده صلى الله تعالى عليه وسلم. وفي

آخر أخرجه هو أيضًا مبين هؤلاء الذين حرموا الصدقة أنه قال: هم آل علي وآل

عقيل وآل جعفر وآل عباس.

وقال بعض الشيعة: أهل البيت - سواء أريد به بيت المدر والخشب أم بيت

القرابة والنسب - عام، أما عمومه على الثاني فظاهر، وأما على الأول؛ فلأنه

يشمل الإماء والخدم، فإن البيت المدري يسكنه هؤلاء أيضًا، وقد صح ما يدل على

أن العموم غير مراد. أخرج الترمذي والحاكم - وصححاه - وابن جرير وابن

المنذر وابن مردويه والبيهقي في سننه من طرق عن أم سلمة - رضي الله

عنها - قالت: في بيتي نزلت {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ

البَيْتِ} (الأحزاب: 33) وفي البيت فاطمة، وعلي، والحسن والحسين، فجللهم

رسول الله صلى الله - تعالى - عليه وسلم بكساء كان عليه، ثم قال: (هؤلاء أهل

بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا) وجاء في بعض الروايات أنه

عليه الصلاة والسلام أخرج يده من الكساء، وأومأ بها إلى السماء وقال: (اللهم

هؤلاء أهل بيتي وخاصتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا) ثلاث مرات،

وفي بعض آخر أنه عليه الصلاة والسلام ألقى عليهم كساءً فدكيًّا، ثم وضع يده

عليهم ثم قال: (اللهم إن هؤلاء أهل بيتي - وفي لفظ: آل محمد -، فاجعل

صلواتك وبركاتك على آل محمد، كما جعلتها على آل إبراهيم إنك حميد مجيد)

وجاء في رواية أخرجها الطبراني عن أم سلمة أنها قالت: فرفعت الكساء لأدخل

معهم فجذبه صلى الله عليه وسلم من يدي، وقال:(إنك على خير) وفي أخرى

رواها ابن مردويه عنها أنها قالت: ألستُ من أهل البيت؟ فقال صلى الله تعالى

عليه وسلم (إنك إلى خير، إنك من أزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم)

وفي آخرها رواها الترمذي وجماعة عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبي عليه

الصلاة والسلام قال: قالت أم سلمة: وأنا معهم يا نبي الله؟ قال: (أنت على

مكانك، وإنك على خير) وأخبار إدخاله صلى الله تعالى عليه وسلم عليًّا

وفاطمةَ وابنيهما - رضي الله تعالى عنهم - تحت الكساء، وقوله عليه الصلاة

والسلام: (اللهم هؤلاء أهل بيتي) ودعاؤه لهم ، وعدم إدخال أم سلمة أكثر

من أن تحصى، وهي مخصصة لعموم أهل البيت بأي معنًى كان البيت، فالمراد

بهم من شملهم الكساء، ولا يدخل فيهم أزواجه صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد

صرح بعدم دخولهن من الشيعة عبد الله المشهدي ، وقال: المراد من البيت: بيت

النبوة ، ولا شك أن أهل البيت لغة شامل للأزواج، بل للخدام من الإماء اللائي

يسكن في البيت أيضًا ، وليس المراد هذا المعنى اللغوي بهذه السعة بالاتفاق،

فالمراد به: آل العباء الذين خصصهم حديث الكساء. وقال أيضًا: إن كون البيوت

جمعًا في (بيوتكن) وإفراد البيت في (أهل البيت) يدل على أن بيوتهن غير

بيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اهـ. وفيه ما ستعلمه، إن شاء الله تعالى.

وقيل: المراد بالبيت: بيت السكنى وبيت النسب ، وأهل ذلك أهل كل من

البيتين، وقد سمعت ما قيل فيه، وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز، وقال بعض

المحققين: المراد بالبيت: بيت السكنى وأهله - على ما يقتضيه سياق الآية وسباقها

والأخبار التي لا تحصى كثرةً، ويشهد له العرف - من له مزيد اختصاص به إما

بالسكنى فيه مع القيام بمصالحه وتدبير شأنه والاهتمام بأمره، وعدم كون الساكن

في معرض التبدل والتحول بحكم العادة الجارية من بيع وهبة كالأزواج، أو

بالسكنى فيه كذلك بدون ملاحظة القيام بالمصالح كالأولاد، أو بقرابة من صاحبه

تقضي بحسب العادة بالتردد إليه والجلوس فيه من غير طلب من صاحبه لذلك، أو

بعدم المنع من ذلك كالأولاد الذين لا يسكنونه، وكأولادهم وإن نزلوا، وكالأعمام

وأولاد الأعمام، وعلى هذا يحصل الجمع بين الأخبار، وقد سمعت بعضها كحديث

الكساء، ولا دلالة فيه على الحصر، وكالحديث الحسن: أنه صلى الله تعالى عليه

وسلم اشتمل على العباس وبنيه بملاءة، ثم قال (يا رب هذا عمي وصنو أبي،

وهؤلاء أهل بيتي، فاسترهم من النار كستري إياهم بملاءتي هذه) فأمَّنت أسكفة

الباب وحوائط البيت فقالت: آمين، ثلاثًا. وجاء في بعض الروايات أنه عليه

الصلاة والسلام ضم إلى أهل الكساء علي وفاطمة والحسنين - رضي الله تعالى

عنهم - وبقية بناته وأقاربه وأزواجه. وصح عن أم سلمة في بعضٍ آخر أنها قالت:

فقلت: يا رسول الله، أما أنا من أهل البيت؟ فقال:(بلى إن شاء الله تعالى)

وفي بعض آخر أيضًا أنها قالت له صلى الله تعالى عليه وسلم: (ألست من أهلك؟)

قال: (بلى) وأنه عليه الصلاة والسلام أدخلها الكساء بعد ما قضى دعاءه لهم

وقد تكرر - كما أشار إليه المحب الطبري - منه صلى الله تعالى عليه وسلم الجمع

وقوله (هؤلاء أهل بيتي) والدعاء في بيت أم سلمة وبيت فاطمة - رضي الله

تعالى عنهما - وغيرهما وبه جُمع بين اختلاف الروايات في هيئة الاجتماع، وما

جلّل صلى الله تعالى عليه وسلم به المجتمعين، وما دعا به لهم، وما أجاب به أم

سلمة، وعدم إدخالها في بعض المرات تحت الكساء، ليس لأنها ليست من أهل البيت

أصلاً ، بل لظهور أنها منهم حيث كانت من الأزواج اللاتي يقتضي سياق الآية

وسباقها دخولهن فيهم بخلاف من أُدخلوا تحته - رضي الله تعالى عنهم - فإنه عليه

الصلاة والسلام لو لم يدخلهم، ويقل ما قال لتُوهم عدم دخولهم في الآية لعدم اقتضاء

سياقها وسباقها ذلك. وذكر ابن حجر على تقدير صحة بعض الروايات المختلفة

الحمل على أن النزول كان مرتين، وقد أدخل صلى الله تعالى عليه وسلم بعض من

لم يكن بينه وبينه قرابة سببية ولا نسبية في أهل البيت توسعًا وتشبيهًا، كسلمان

الفارسي - رضي الله تعالى عنه - حيث قال عليه الصلاة والسلام: (سلمان منا

أهل البيت) وجاء في رواية صحيحة أن واثلة قال: وأنا من أهلك يا رسول الله؟

فقال عليه الصلاة والسلام (وأنت من أهلي) فكان واثلة يقول: إنها لمن أرجى

ما أرجو. والخبر الدال بظاهره على أن المراد بالبيت البيت النَّسبي - أعني خبر

الحكيم الترمذي ومَن معه عن ابن عباس - يجوّز حمل البيت فيه على بيت المدر.

والحيوان ينقسم إلى رومي وزنجي - مثلاً - كما ينقسم الإنسان إليهما، على أن في

رواته من وثقه ابن معين وضعفه غيره، والجرح مقدم على التعديل.

وما روي عن زيد بن أرقم - رضي الله تعالى عنه - من نفي كون أزواجه

صلى الله - تعالى - عليه وسلم أهل بيته، وكون أهل بيته: أصله وعصبته الذين

حرموا الصدقة بعده عليه الصلاة والسلام فالمراد بأهل البيت فيه: أهل البيت

الذين جعلهم رسول الله صلى الله - تعالى - عليه وسلم ثاني الثقلين، لا أهل البيت

بالمعنى الأعم المراد في الآية، ويشهد لهذا ما في صحيح مسلم عن يزيد بن حبان

قال: انطلقت أنا وحصين بن صبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم، فلما

جلسنا إليه قال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيرًا كثيرًا: رأيت رسول الله صلى

الله - تعالى - عليه وسلم ، وسمعت حديثه ، وغزوت معه ، وصليت خلفه، لقد

لقيت يا زيد خيرًا كثيرًا، حدثنا يا زيد بما سمعت من رسول الله صلى الله -

تعالى - عليه وسلم. قال: يا أخي والله لقد كبرت سني وقدم عهدي، فنسيت

بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله - تعالى - عليه وسلم، فما حدثتكم

فاقبلوا، وما لا، لا تكلفونيه. ثم قال: قام رسول الله صلى الله - تعالى - عليه

وسلم يومًا فينا خطيبًا بماء يدعى (خما) بين مكة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ،

ووعظ وذكّر ثم قال: (أما بعد ألا يا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي

رسول ربي فأجيب ، وإني تارك فيكم ثقلين، أولهما: كتاب الله فيه الهدى والنور ،

فخذوا بكتاب الله ، واستمسكوا به) فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال

(وأهل بيتي، أذكِّركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في

أهل بيتي، ثلاثًا. فقال له حصين: ومَن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل

بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حُرم الصدقة بعده، قال: ومن

هم؟ قال: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس) الحديث. فإن الاستدراك

بعد جَعْله النساء من أهل بيته صلى الله تعالى عليه وسلم ظاهر في أن الغرض: بيان

المراد بأهل البيت في الحديث الذي حدث به عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وهم

فيه ثاني الثقلين، فلأهل البيت إطلاقان، يدخل في أحدهما النساء ولا يدخلن في

الآخر، وبهذا يحصل الجمع بين هذا الخبر والخبر السابق المتضمن نفيه - رضي الله

تعالى عنه - كون النساء من أهل البيت، وقال بعضهم: إن ظاهر تعليله نفي كون

النساء أهل البيت بقوله: (ايم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر، ثم

يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها) يقضي أن لا يكنَّ من أهل البيت مطلقًا، فلعله أراد

بقوله في الخبر السابق: (نساؤه من أهل بيته) أنساؤه؟ إلخ، بهمزة الاستفهام

الإنكاري، فيكون بمعنى: ليس نساؤه من أهل بيته كما في معظم الروايات في غير

صحيح مسلم ويكون - رضي الله تعالى - عنه ممن يرى أن نساءه عليه الصلاة

والسلام لسن من أهل البيت أصلاً، ولا يلزمنا أن ندين الله برأيه لا سيما وظاهر الآية

معنا، وكذا العرف، وحينئذ يجوز أن يكون أهل البيت الذين هم أحد الثقلين بالمعنى

الشامل للأزواج، وغيرهن من أصله وعصبته صلى الله - تعالى - عليه وسلم الذين

حرموا الصدقة بعده، ولا يضر في ذلك عدم استمرار بقاء الأزواج كما استمر بقاء

الآخرين مع الكتاب كما لا يخفى اهـ.

وأنت تعلم أن ظاهر ما صح من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم (إني تارك

فيكم خليفتين - وفي رواية: ثقلين - كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض

وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض) يقتضي أن النساء

المطهرات غير داخلات في أهل البيت الذين هم أحد الثقلين؛ لأن عترة الرجل كما

في الصحاح: نسله ورهطه الأدنون. و (أهل بيتي) في الحديث، الظاهر أنه بيان

له، أو بدل منه بدل كل من كل، وعلى التقديرين يكون متحدًا معه، فحيث لم تدخل

النساء في الأول لم تدخل في الثاني، وفي النهاية أن عترة النبي صلى الله تعالى عليه

وسلم بنو عبد المطلب، وقيل: أهل بيته الأقربون والأبعدون منهم اهـ.

والذي رجحه القرطبي أنهم من حرمت عليهم الزكاة، وفي كون الأزواج

المطهرات كذلك خلاف، قال ابن حجر: والقول بتحريم الزكاة عليهن ضعيف، وإن

حكى ابن عبد البر الإجماع عليه فتأمل، ولا يرد على حمل أهل البيت في الآية على

المعنى الأعم ما أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن أبي سعيد الخدري

قال: قال رسول الله صلى الله - تعالى - عليه وسلم: (نزلت هذه الآية في خمسة:

في وفي علي وفاطمة وحسن وحسين {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ

وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: 33) إذ لا دليل فيه على الحصر، والعدد لا مفهوم له.

ولعل الاقتصار على من ذَكَر صلوات الله تعالى وسلامه عليهم؛ لأنهم أفضل من

دخل في العموم، وهذا على تقدير صحة الحديث، والذي يغلب على ظني أنه غير

صحيح، إذ لم أعهد نحو هذا في الآيات منه صلى الله تعالى عليه وسلم في شيء من

الأحاديث الصحيحة التي وقفت عليها في أسباب النزول.

وبتفسير أهل البيت بمن له مزيد اختصاص به على الوجه الذي سمعت يندفع ما

ذكره المشهدي من شموله للخدام والإماء والعبيد الذين يسكنون البيت، فإنهم في

معرض التبدل والتحول بانتقالهم من ملك إلى ملك بنحو الهبة والبيع، وليس لهم قيام

بمصالحه واهتمام بأمره وتدبير لشأنه إلا حيث يؤمرون بذلك، ونظمهم في سلك

الأزواج، ودعوى أن نسبة الجميع إلى البيت على حد واحد - مما لا يرتضيه

منصف، ولا يقول به إلا متعسف.

وقال بعض المتأخرين: إن دخولهم في العموم مما لا بأس به عند أهل السنة؛

لأن الآية عندهم لا تدل على العصمة، ولا حجر على رحمة الله عز وجل ،

ولأجل عين ألف عين تكرم، وأما أمر الجمع والإفراد، فقد سمعت ما يتعلق به ،

والظاهر على هذا القول أن التعبير بضمير جمع المذكر في (عنكم) للتغليب، وذكر

أن في (عنكم) عليه تغليبين، أحدهما: تغليب المذكر على المؤنث، وثانيهما:

تغليب المخاطب على الغائب؛ إذ غير الأزواج المطهرات من أهل البيت لم يجر لهم

ذكر فيما قبل، ولم يخاطبوا بأمر أو نهي أو غيرهما فيه، وأمر التعليل عليه ظاهر

وإن لم يكن كظهوره على القول بأن المراد بأهل البيت: الأزواج المطهرات فقط،

واعتذر المشهدي عن وقوع جملة {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ} (الأحزاب: 33) إلخ، في

البين بأن مثله واقع في القرآن الكريم، فقد قال تعالى شأنه: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ

وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} (النور: 54) ثم قال

سبحانه بعد تمام الآية {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (البقرة: 43) فعطف

(أقيموا) على (أطيعوا) مع وقوع الفصل الكثير بينهما، وفيه أنه وقع بعد

{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} (النور: 56) إلخ {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (النور: 56) فلو كان العطف على ما ذكر لزم عطف (أطيعوا) على (أطيعوا) وهو كما ترى،

سلمنا أن لا فساد في ذلك إلا أن مثل هذا الفصل ليس من محل النزاع، فإنه فصل

بين المعطوف والمعطوف عليه بالأجنبي من حيث الإعراب، وهو لا ينافي البلاغة،

وما نحن فيه - على ما ذهبوا إليه - فصل بأجنبي باعتبار موارد الآيات اللاحقة

والسابقة وإنكار منافاته للبلاغة القرآنية مكابرة لا تخفى، ومما يضحك منه الصبيان

أنه قال بعد: إن بين الآيات مغايرة إنشائية وخبرية؛ لأن آية التطهير جملة ندائية

وخبرية ، وما قبلها وما بعدها من الأمر والنهي جمل إنشائية ، وعطف الإنشائية على

الخبرية لا يجوز، ولعمري إنه أشبه كلام من حيث الغلط بقول بعض عوام الأعجام:

خسن وخسين دختران مغاوية، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور) اهـ.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

تابع لما في الجزئين 9 و10 من المجلد 20.

(2)

يراجع النقد في ص 250 م 20.

(3)

قوله: [وَأَصْحَابُ المَشْأَمَةِ] إلخ كذا بخطه، وفيه حذف صدر الآية وهو الثلث الأول اهـ، مصححه.

ص: 38

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌التقاضي والتخاصم في رسالة آدم

الحسد غريزة قديمة في الثقلين، كان أول مظهر عرف لها في التاريخ المأثور

حسد إبليس أبي الشياطين - لعنه الله - لآدم أبي البشر عليه السلام، وكان ينبغي

أن يكون أطهر البشر من هذه الخليقة الذميمة أهل العلم الديني، ولكن ثبت في بعض

الآثار أنهم أشد تغايرًا من التيوس في زروبها كما ثبت بالاختبار أنهم أشد تحاسدًا من

النساء الضرائر في بيوتها.

وقد لبس الحسد الإبليسي في هذا العام وما قبله ثوبي زور من الغيرة على

آدم عليه السلام. ثوبان ظهر بهما بعض محبي الظهور من شبان الأزهريين، وإنما

فصلهما وخاطهما بعض شيوخهم المعروفين، فأما الثوب الأول: فهو تكفير من

يقول بأن قوله تعالى: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} (النساء: 1) ليس نصًّا

قطعيًّا في كون هذه النفس (المنكرة) هي آدم، وفي كونه هو أصل جميع البشر -

وإن كان يقول بهذا عملاً بدلالة الظواهر - وعدم قبول إسلام أحد من القائلين بتعدد

أصول البشر، أو الشاكين في صفة تكوينهم، وقد بينا في المنار كيف كان عاقبة

المفترين في هذه المسألة (راجع ص 6 م20) .

وأما الثوب الثاني: فهو تكفير من يقول: إن رسالة آدم غير ثابتة بنص

قطعي، بل القول بها معارض بظواهر بعض الآيات، وبحديث الشفاعة المتفق

عليه؛ فإن خاتم النبيين والمرسلين صلى الله عليه وسلم يروي فيه عن آدم أن نوحًا

أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، ذكر هذه المسألة في مجلس خاص

بدمنهور الشيخ محمد أبو زيد من مريدينا طلاب دار الدعوة والإرشاد، فانبرى

لتكفيره والتشهير به صاحب الثوب المستعار، ثم ألبس الثوب من رفع عليه

دعوى حسبة إلى قاضي دمنهور الشرعي ليحكم بردته ويفرق بينه وبين زوجه،

فكان مَثَله مع مفصل الثوب ولابسه الأول كَمَثَل من تعلم السحر من هاروت ،

وماروت {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ

أَحَدٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي

الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} (البقرة: 102) .

نظر في الدعوى قاضي دمنهور، فكان فقهه فيها كفقه لابس الثوب وخائطه،

فحكم بردة الرجل وفرق بينه وبين زوجه، فأحدث هذا الحكم هزةً واضطرابًا في

القطر المصري كله، وأظهر الناس استنكاره في جميع الجرائد، وبيَّن أهل العلم

وجوه خطأه في المجالس والمدارس، وانزعجت له وزارة الحقانية، فحظرت النظر

في أمثال هذه الدعوى على المحاكم الشرعية، إلا أن يكون بعد اطلاع الوزارة على

الدعوى، وأخذ الإذن الخاص بالنظر والحكم فيها، وهذا ملخص الحكم المشار إليه:

صورة ملخص الحكم

الصادر في قضية الشيخ أبو زيد

سئل الشيخ عما يعتقده في رسالة ونبوة آدم فقال: (إن آدم ليس نبيًّا ولا

رسولاً بنص قطعي، وإنما نبوته ورسالته ظنيتان، هذا ما نطقت به وما أعتقده

إلى الآن) .

الحكم والأسباب

حيث إن نبوة سيدنا آدم عليه السلام ثابتة بالكتاب والسنة وبالإجماع

ومعلومة من الدين بالضرورة، لذا كفر جاحدها. قال في كتاب العقائد النسفية:

أول الأنبياء آدم عليه السلام، وآخرهم محمد عليه الصلاة والسلام. أما نبوة آدم

فبالكتاب والسنة والإجماع، أما بالكتاب الدال على أنه أمر ونهي، مع القطع بأنه لم

يكن في زمنه نبي آخر، فهو بالوحي لا غير، وكذا بالسنة والإجماع، فإنكار نبوته

على ما نقل عن البعض يكون كفرًا، وفي الفتاوى الهندية، جزء ثاني: من يقول:

آمنت بجميع الأنبياء، ولا أعلم أن آدم نبي أم لا: يكفر، كذا في العتبية، ولم يحك

خلافًا، وفيها أيضًا: رجل قال لغيره: إن آدم عليه السلام نسج الكرباس، فقال له

الغير: فحينئذ نحن أولاد النساج، فهذا كفر، وما ذاك إلا يكون استخفافًا بالنبي؛

لأن هذه العبارة لو قيلت لولي من أولياء الله ما ترتب عليها الكفر، وفي الجزء

الأول من (مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر) ويكفر بقوله: لا أعلم أن آدم عليه

الصلاة والسلام نبي أم لا.

وحيث إن المنصوص عليه شرعًا أن المرتد عن دين الإسلام ينفسخ نكاحه في

الحال ويفرق بينه وبين زوجته وحيث إن الشيخ محمد أبو زيد قد نطق بما يوجب

الردة لإنكاره نبوة ورسالة آدم عليه السلام ، وإن هذه عقيدته كما أقر بذلك، وبذا ارتد

عن دين الإسلام ، وانفسخ نكاحه بزوجته فلانة ، فوجب التفريق.

(لهذا) فرقنا بين الشيخ محمد أبو زيد المذكور، وزوجته.

(المنار)

هذا نص الحكم كما وصل إلينا، وهو على ما فيه من خطأ في العبارة

ظاهر البطلان بعدم انطباقه على الدعوى من جهة الصورة، وبعدم صحة ما استدل

به القاضي - فأما الأول: فإن الشيخ أبا زيد قد صرح بأن نبوة آدم ورسالته

ثابتتان بالأدلة الظنية، وهذا ليس إنكارًا لها كما زعم القاضي، وإلا كان القاضي

نفسه منكرًا لمعظم أحكام الشريعة التي يحكم بها بين الناس في مسائل الأبضاع

والأموال، والكفر والإيمان، فإن معظمها ظني بغير نزاع، وقد صرحوا في العقائد

النسفية وشروحها أن الأدلة الظنية كافية في العقائد، وأما الثاني: فهو أن الردة إنما

تكون بجحد المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة، وهو ما لا يخفى على أحد

من عوام المسلمين وخواصهم، ونبوة آدم ورسالته ليست كذلك، فما نقله عن الفتاوى

الهندية في التكفير بها غير صحيح، وقد قصر القاضي فيما يجب عليه من كشف

شبهة المدعى عليه ومن استتابته.

***

إلغاء الحكم في قضية سيدنا آدم

بحكم محكمة الاستئناف الشرعية الصادر في أول ديسمبر سنة 1918

منقول عن جريدة وادي النيل

عرضت قضية سيدنا آدم المعروفة على محكمة الإسكندرية الكلية الشرعية

أمس برئاسة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ مصطفى سلطان ، وكان الزحام شديدًا

جدًّا، وقد حضر الجلسة جمهور كبير من المحامين الأهليين والشرعيين والعلماء،

وكان المدعى عليه الشيخ محمد أبو زيد حاضرًا ومعه اثنان من المحامين، وكان

المدعي الشيخ محمد صالح الزواوي حاضرًا ومعه محامياه.

وبعد استكمال الإجراءات النظامية سمعت المحكمة كلام المحامين، ثم سألت

المدعى عليه:

تريد المحكمة أن تتبين رأيك في نبوة آدم.

- إن نفسي مطمئنة إلى أنه نبي، ونظري في النصوص هو الذي اطمأنت به

نفسي.

- قلتَ في مذكرتك في الصفحة التاسعة: (فما بال هؤلاء يطلبون حكمًا

شرعيًّا من قاضٍ مسلم يعتقد أن نبوة آدم ورسالته ليستا من العقائد في شيء؟)

- إنهما ليستا من العقائد التي تثبت بالنص القطعي، وهذا تعريف أصولي

اتبعته في جهات من المذكرة [1] .

- جاء في المذكرة ما يدل على أنك ترى الأدلة ظنيةً.

- إن كلامي لا ينافي اعتقاد النبوة، فإنه لا مانع من أن آخذ من الأدلة الظنية

شيئًا ترتاح به نفسي ويطمئن إليه ضميري، وإن أدلة نبوة آدم عليه السلام، وإن

كانت ظنيةً في اصطلاح الأصوليين، فإني مرتاح إليها، وليس هناك خلاف بين ما

أقوله الآن، وما قلته فيما مضى.

وبعد هذا أخذ فضيلة الرئيس يفيض في نصائحه، وكان الأسف والحزن

آخذين من نفسه فقال: أخجلتمونا أمام الناس أعظم خجل، فالإفرنج مشتغلون بما

يفيدهم، وأنتم مشغولون بما لا يفيد، ألستم ترون الكسل والكذب اللذين يتفشيان في

الأخلاق حتى كادا يقتلانا؟ أفما كان الأولى أن نعالج هذين الدائين وغيرهما من

الأدواء المنتشرة بيننا؟ لقد كان الأولى أن يكتب القلم الذي كتبت به هذه المذكرة

فيما ينفع الأمة فيقول لها: اتحدو، لا تحاسدوا، لا تتباغضوا، اعملوا كما يعمل

غيركم، اطلبوا العيش بعزة النفس، لا بالمذلة للأمراء وغير الأمراء، نرجو يا

رجال الدين أن تعالجوا الأدواء المنتشرة بين المسلمين.

وبعد أن فرغ من هذه النصائح الثمينة استحلف رجال الدين أن ينبذوا الشقاق

وصغائر الأمور، وقال: إنني أعرف الآن أنكم حزبان أتيا ليسمعا ما نقضي به

في هذه القضية، فأرجو أن تخرجوا متحدين، ثم قامت المحكمة للمداولة، ثم عادت

فأصدرت الحكم، وهذا نصه:

بعد سماع أقوال الخصوم والاطلاع على ملف القضية الابتدائية، وبعد

المداولة، وللأسباب التي هي:

- استئناف حاز شكله القانوني فهو مقبول.

- المقرر شرعًا أن الكفر هو تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في شيء مما

علم مجيئه به من الدين علمًا ضروريًّا بحيث يستوي فيه الخاصة والعامة، كالتوحيد

وأركان الإسلام ، وألحقوا به كفر العناد ، أو ما يدل على الاستخفاف لتضمن ذلك

معنى الجحود.

- نبوة آدم، وإن دل عليها الكتاب والسنة واتفق عليها العلماء، ولم يعرف

بينهم خلاف فيها ، فإنكارها بأي شكل كان ضلال ومخالفة لما عليه المسلمون، إلا

أنها ليست من ضروريات الدين بحيث يعرفها الكافة، كالصلاة والصوم، بل هي

من الأمور النظرية ، والقول بأنها معلومة من الدين بالضرورة دعوة غير مقبولة.

- منكر شيء من الأمور النظرية مستندًا إلى شبهة - ولو غير صحيحة - لا

يُحكم عليه شرعًا بالكفر على ما هو الحق الذي يجب العمل به في مذهب الحنفية،

ذلك لأن الكفر نهاية في العقوبة، فلا يكون إلا عن نهاية الجناية، وذلك بإنكار الثابت

بالنص القطعي الخالي من الشبهة والاحتمال من الكتاب والسنة المتواترة ، أو الإجماع

القولي الثابت تواترًا، ولذلك قالوا: لا يُفتى بكفر مسلم أمكن حمل كلامه على محمل

حسن، أو كان في عدم كفره رواية ضعيفة ولو في مذهب غيرهم، وأجازوا مع

الكراهة إمامة أهل البدع في الصلاة، وهم ممن يعتقدون خلاف المعروف عن رسول

الله صلى الله عليه وسلم بلا معاندة، بل بنوع شبهة إن كانت فاسدةً حتى الخوارج

الذين يستحلون دماء وأموال مخالفيهم من المسلمين ، أو ينكرون صفات الله، وقالوا:

لا نكفر أهل البدع ببدعتهم لكونها من تأويل وشبهة وللنهي عن تكفير أهل القبلة

والإجماع على قبول شهادتهم، وذلك ما لم ينكر أحد منهم شيئًا من المعلوم ضرورة.

وفي الفتاوى الصغرى: (الكفر شيء عظيم) وفي جامع الفصولين: (لا

يُخرج الرجل من الإيمان إلا جحود ما أدخله فيه، وما يشك في أنه ردة لا يحكم بها؛

إذ الإسلام الثابت لا يزول بالشك، إن الإسلام يعلو) وقال صاحب نور العين: إن

المسائل الإجماعية تارةً يصحبها التواتر كوجوب الخمس، وقد لا يصحبها إلا بكفر

جاحدها (؟) لمخالفته التواتر لا الإجماع (ثم نقل أنه) إذا لم تكن الآية أو

الخبر المتواتر قطعي الدلالة ، أو لم يكن الخبر متواترًا ، أو كان قطعيًّا ولكن فيه

شبهة ، أو لم يكن إجماع الجميع ، أو كان ولم يكن إجماع جميع الصحابة ، أو لم

يكن قطعيًّا بأن لم يثبت بطريق التواتر ، أو كان قطعيًّا لكن كان إجماعًا سكوتيًّا -

ففي كل هذه الصور لا يكون الجحود كفرًا.

ومن كل هذا ترى العلماء - رضوان الله عليهم - قد احتاطوا نهاية الاحتياط في

عدم تكفير المسلمين.

ما ورد من الآيات والأحاديث في نبوة آدم عليه السلام، وكذا الإجماع عليها،

كل ذلك لم تتوفر فيه تلك القيود، وهذا ما يجب التعويل عليه دون ما عداه،

وعليه يكون حكم محكمة أول درجة في غير محله، ويتعين إلغاؤه.

وكيل المستأنف قال: إنه مكتف بالأدلة الموجودة بمحضر القضية الابتدائية ،

وهي أدلة غير منتجة للدعوى خصوصًا وقد قرر المستأنف عليه اليوم أنه يعتقد تمام

الاعتقاد بنبوة آدم عليه السلام.

لهذا، تقرر قبول هذا الاستئناف شكلاً، وفي الموضوع بإلغاء ما حكمت به

محكمة أول درجة، ورفض دعوى المدعي) اهـ.

(المنار)

هذا الحكم هو الحق وما ذكره القاضي الفاضل في أثناء كلامه من المواعظ

يرجى أن يزيد المدعى عليه المظلوم في تكفيره والتفريق بينه وبين زوجه، هدى.

فإنه قد عاهد الله- تعالى- على يدنا بوقف حياته على خدمة دينه وأمته بمثل هذه

المواعظ، وما كتب مذكرته إلا دفاعًا عن دينه، وهو أثمن شيء يحرص عليه،

فكانت كتابتها في وقتها أفضل مما استحسن القاضي إبداله بها، وأما المبطلون

المكفرون للمؤمنين مع علمهم بما ورد في ذلك، فلم يتعظوا - وهم أحوج إلى

الموعظة - إذ طلبوا إعادة النظر في الحكم مخطئين له، وذلك يتضمن تكفير قاضي

الاستئناف بزعمهم؛ لأنه قال بأن نبوة آدم مسألة نظرية لا قطعية، فهل

فقهوا هذا؟ أم يقولون إن أبا زيد يكفر بما لا يكفر به غيره؟

قالت جريدة وادي النيل:

عود إلى قضية آدم

لم يقنع المدعون في قضية آدم المعروفة بالحكم الذي أصدرته المحكمة

الشرعية الكلية فيها، ويظهر أنهم لم يتأثروا بتلك النصائح الثمينة التي أفاض بها

فضيلة رئيس المحكمة عليهم وعلى رجال الدين عامةً، ومن أغلاها وأثمنها ترك

الخلاف في توافه الأمور، والاتفاق لمعالجة الأدواء التي تضر الأمة في كل شيء ،

وإنا لا يسعنا إلا أن نأسف لهذه الحالة، فقد رفعوا التماس إعادة نظر إلى المحكمة،

وعرض عليها في جلسة أمس (أي: 29 ربيع الأول سنة 1337 -2يناير

1919) فأصدرت الحكم الآتي:

صار الاطلاع على عريضة الالتماس المطلوب بها إلغاء ما حكمت به محكمة

الاستئناف في القضية نمرة 4 سنة 1918 بتاريخ أول ديسمبر سنة 1918

وخلاصتها أنه لم يصادف (كما زعم الطالب) قبولاً في المذهب لبنائه على مجرد

استنتاجات من قواعد عامة؛ ولأن اتفاق العلماء على نبوة آدم (باعتراف المحكمة)

يدل على أنها معلومة من الدين بالضرورة ، لا من الأمور النظرية، فضلاً عن

وجود نصوص قاطعة تدل على أنها معلومة من الدين بالضرورة، ولأن كل الأحكام

الشرعية نظرية ، ولما اشتهر بعضها اشتهارًا تامًّا سمي ضروريًّا ، وذلك لا ينافي

نظريته وأن الضروري متفاوت في الشهرة ، ويكفي فيه أي شهرة، وعلى تسليم أنه

نظري - كما فهمت المحكمة - فإن منكره لا يعفى من التكفير إلا إذا كان خفيًّا،

والمنكر له شبهة، وإن عدول المستأنف إلى الإقرار بنبوة آدم أمر زائد عن الموضوع

الذي فصل فيه ابتدائيًّا، إلخ.

المحكمة: حيث إن الالتماس تقدم في ميعاده القانوني وحيث ما قررته

محكمة الاستئناف في بيان ما حكمت به في القضية المشار إليه لا عمل لها فيه

بشيء سوى جمع ما قاله علماء الحنفية في عدة مواضع في كتب الفروع المعول

عليها (كرد المحتار) وشرحه في باب الإمامة والردة و (البحر) في الردة،

و (فتح القدير) في باب البقاء، وغير ذلك، ومن كتب الأصول (كالتحرير)

و (مسلم الثبوت) القاضية تلك النصوص بأن مذهب أبي حنيفة: عدم تكفير أحد

من المخالفين فيما ليس من الأصول المعلومة من الدين بالضرورة ، وإذن يكون ما

قضي به استئنافيًّا في هذه الحادثة ليس إلا بالتطبيق لما نصوا على أنه المذهب،

والذي يعلم منه أن ما جاء في (الهندية) و (مجمع الأنهر) مخالفًا له لا يمكن

الأخذ به في الأحكام التي لا تكون إلا بأرجح الأقوال من مذهب أبي حنيفة عملاً بما

قالوه في رسم المفتي (راجع مقدمة شرح الدر جزء أول) وجاء القانون نمرة 31

مقررًا له.

وحيث إن التطرف بدعوى أن نبوة آدم معلومة من الدين بالضرورة توصلاً

لتكفير مسلم بأي وسيلة انقيادًا لأحقاد نفسية، ثم الاستدلال عليها بما جاء بعريضة

الالتماس تعده المحكمة تهاترًا وشغبًا في أمر بديهي، ومثله مكابرة مردود من ذاته لا

يستحق التفاتًا.

وحيث إن حكم محكمة الاستئناف لم يُبنَ إلا على أن المستأنف أنكر لشبهة

غير صحيحة أمرًا نظريًّا ليس من الأصول المعلومة ضرورة، كما هو صريح في

أسباب ذلك الحكم ، ولا دخل فيه مطلقًا لما قرره المستأنف بالجلسة، فالقول: إن ما

حصل منه أمر زائد لم يفصل فيه ابتدائيًّا، وجعل ذلك من أسباب الالتماس - قول

صادر بلا روية، ومما ذكر كله وما تبين في أسباب الحكم المستأنف، ومن الرجوع

إلى الكتب التي أخذت منها أسبابه، وإلى كتاب (فيصل التفرقة بين الإسلام

والزندقة) للإمام الغزالي رضي الله عنه يرى أن ما حكمت به محكمة

الاستئناف هو ما يجب الحكم به شرعًا، ويتعين لما ذكر رفض هذا الالتماس

موضوعًا عملاً بالفقرة الثانية من المادة 331 قانون نمرة 31 سنة 1910.

فبناءً عليه، تقرر قبول هذا الالتماس شكلاً وفي الموضوع برفضه وعدم

قبوله اهـ.

(المنار)

نشكر للقاضي الفاضل تصريحه بما ظهر له من أن هذه القضية لم تكن

صادرةً عن غيرة على الدين، ولا حرص على أعراض المسلمين، وإنما هي أحقاد

نفسية أثارها الحسد، وإلا فما بالنا لم نر أحدًا من هؤلاء المكفرين لأهل الصلاح

والإصلاح من المسلمين، لا يدافعون عن الإسلام بالإنكار على من يدعون إلى ترك

جميع نصوصه حتى نصوص الكتاب والسنة والإجماع بجميع أنواعه، وتفضيل ما

يضعونه هم من القوانين عليها كالذين يرد عليهم المنار من رجال القضاء الأهلي،

ولا بالإنكار على المستبيحين لجميع الفواحش والمنكرات؟

_________

(1)

يعني بالمذكرة رسالةً كتبها في المسألة بيَّن فيها خلاف العلماء وطبعها.

ص: 49

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌حجم المنار

والجزء الأول من المجلد الحادي والعشرين

بدأنا بهذا الجزء في ربيع الأول، واضطررنا إلى تأخيره زهاء شهرين، وقد

زدنا فيه كراستين على ما قبله ونرجو أن نزيد فيما يصدر بعد الجزء الثالث إذا ورد

ورق جديد على مصر في هذه المدة، وأن يصدر مطردًا بلا انقطاع، وقد أخرنا

المقالة الرابعة من مقالات (المتفرنجون والإصلاح الإسلامي) ولعلها تنشر في الجزء

التالي له مع ترجمة (باحثة البادية) وتأبينها وشيء من تقريظ المطبوعات الحديثة.

_________

ص: 56

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المتفرنجون والإصلاح الإسلامي [*]

(4)

قد بينا في المقالة الثانية رأي أحمد صفوت أفندي [1] في الكتاب والسنة

والإجماع والقياس من أصول الشريعة ، وتكلمنا في المقالة الثالثة على أصلي

الإجماع والقياس، وأرجأنا الكلام على الأصلين الأولين بالتفصيل إلى هذه المقالة

فنقول:

أحكام السنة

ملخص ما نقلناه من خطبة الرجل في أحكام السنة (ص407 م20) أنها

قسمان: خاص: وهو ما كان من قبيل أحكام المحاكم في القضايا الفردية ، وعام:

وهو ما كان من قبيل القواعد والقوانين لزمنه صلى الله عليه وسلم، وزعم أن كلاًّ

من القسمين قد ثبت للرسول صلى الله عليه وآله وسلم بصفته حاكم الأمة وقاضيها ،

أي: لا بكونه رسول الله - تعالى - والمبلغ عنه، وأن لكل حاكم يجيء بعده حق

الحكم والتشريع الذي كان له في الأحكام المدنية، وله أن يغير ويلغي من تلك

الأحكام ما يرى مصلحة الناس في تغييره وإلغائه.

ونقول: إن هذا الذي قرره مخالف لما جرى عليه المسلمون منذ ظهر الإسلام

إلى هذا اليوم، فهو مشاقة للرسول واتباع لغير سبيل المؤمنين، وخروج عن

إجماعهم الحقيقي، لا العرفي عند الأصوليين فقط، ولكنه يقرره بصفته مسلمًا كما

قال، وقد علم مما بيناه في المقالة الثالثة مكانه من الإسلام.

أما المسلمون فهم متفقون على أن الحكم لله وحده {إِنِ الحُكْمُ إِلَاّ لِلَّهِ} (الأنعام: 57) وأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مبلغ عن الله تعالى، وأُمر

أن يحكم بين الناس بما أراه الله فيما أنزل الله من الكتاب والميزان، والمراد

بالميزان: العدل والقسط، والموازنة بين أحكام النصوص في القياس والرأي، قال

تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ

فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ

شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (المائدة: 48) الآية، وقال:

{إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (النساء: 105)

وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} (الشورى: 17)

وقال عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ

النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد: 25) وقال تبارك اسمه: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم

بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (المائدة: 42) وقد أمر الله المؤمنين بما أمر

به الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى

أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58) وقال: {وَلَا

يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ

بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة: 8) أي: ولا يكسبنكم بغض قوم وعداوتهم لكم أو

بغضكم لهم، جريمة ترك العدل فيهم، بل يجب أن تعدلوا فيمن تبغضون ومن

يعاديكم، كما يجب أن تعدلوا فيمن يحبكم وفيمن توالون على سواء، فالعدل

واجب لذاته لا يختلف باختلاف من يحكم بينهم ومن يعاملون.

قلنا: إن المسلمين اتفقوا على أن الحكم لله وحده ، أي: هو له لذاته؛ لأنه

هو رب العباد الذي يعلم ما فيه الخير والمصلحة لهم، والذي يجب عليهم الخضوع

والانقياد له، ولهم العز والشرف في ذلك، وليس لبشر أن يعلو على جماعة البشر،

فيكون سيدًا مسيطرًا عليهم بقوته أو عصبيته رضوا أم سخطوا؛ لأن هذا ذل وعبودية

لا تجب عليهم إلا لربهم وخالقهم، ولذلك جعل الله الرسل معلمين هادين، لا جبارين

ولا مسيطرين.

وقد اختلف العلماء في أحكام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: هل كانت كلها

بوحي من الله، أم كان بعضها بالاجتهاد والقياس؟ وهل أذن الله له أن يحكم برأيه فيما

لم يُوحَ إليه فيه شيء لا بالنص ولا بالاقتضاء أم لا؟ وقد جعل الله تعالى أمر المؤمنين

شورى بينهم، حتى إنه أمر الرسول نفسه بمشاورتهم في الأمر، وإنما أوجب عليهم

طاعة أولي الأمر منهم بالتبع لطاعة الله ورسوله، فلا يطاع أحد منهم في

معصيته و (إنما الطاعة بالمعروف) كما ثبت في الحديث الصحيح [2] ، بل قال

تعالى في آية المبايعة للرسول: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} (الممتحنة: 12)

وبهذا يعلم الفرق بين طاعة الرسول وطاعة غيره من أولي الأمر، وقد فصلنا ذلك في

تفسير {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59)[3] فما

قرره أحمد أفندي صفوت من مساواة الرسول صلى الله عليه وسلم بغيره من

الملوك والسلاطين في التشريع - باطل مخالف لكتاب الله وسنة رسوله

وإجماع المسلمين ، وكذا للمعقول، فطاعة الرسول من أصول الإيمان، واستحلال

مخالفته والقول بنسخ آحاد الحكام لأحكامه وشرعه، كفر صريح، بل يشترط

في صحة الإيمان الإذعان لحكمه والرضا به ظاهرًا وباطنًا {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ

حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا

تَسْلِيماً} (النساء: 65)[4] .

هذا وإننا نرى هؤلاء المتفرنجين يقتدون بأئمتهم الإفرنج في كل شيء ضار،

ولا يقتدون بهم في احترام سلفهم من رجال القانون والمشترعين ورؤساء الحكام ،

وناهيك بالإنكليز والأمريكان منهم، فإنهم لا يزالون يحافظون على أقوال سلفهم،

وحكامهم ما لم يضطروا إلى تركها اضطرارًا، ومن ذلك ما يطرق مسامعنا كثيرًا

في هذه الأيام من تكرار مذهب (منرو) واستمساك أهل الولايات المتحدة بعروته

حتى إن منهم من يقاوم به مشروع جمعية الأمم الذي هو أشرف مشروع يعلو به قدر

أمتهم ورئيسهم إذا هو نجح في تنفيذه، وإلا كان الأمر بالعكس أو الضد. وتراهم

مع هذا يقولون: إنه يجب الوقوف به عند حد مذهب (منرو) الذي من مقتضاه:

عدم تدخل حكومتهم في شؤون العالم القديم في مقابلة عدم السماح بالتعرض لشؤون

العالم الجديد تحقيقًا لقول (منرو)(أمريكا للأمريكيين) أفليس كل من يوصف

بالإسلام أجدر بالاستمساك بأقوال نبيه من استمساك هؤلاء الناس بمن لا يساوي

قلامة ظفره من زعمائهم؟ أما إنه كان ينبغي ذلك المنسوب إلى دينه أو قومه ،

وإن لم يكن مؤمنًا به! إلا أنهم جهلوا الدين وفوائده الروحية والدنيوية، فأرادوا

التفلت منه مع البقاء على الاستفادة من الانتساب إليه، على ما تقدم بيانه في المقالة

الأولى.

وقد وقع في بعض ما نقلناه في المقالة الثانية من كلام أحمد صفوت أفندي: أن

الخروج عن السنة لمصلحة لا ينافي طاعة الرسول التي فرضها الله تعالى على

المؤمنين. وفيه أن دعوى الخروج للمصلحة يتوقف على معرفة السنة وجعلها

هي الأصل المتبع بعد كتاب الله تعالى ، وعدم الخروج عن شيء منها إلا بعد أن يثبت

لأهل الحل والعقد من المؤمنين في بعض المسائل أنه عرض من أحوال العصر ما

يجعل العمل بالسنة في تلك المسألة مُخلاًّ بالمصلحة العامة ، ومفضيًا إلى مفسدة

راجحة ، أو حرج وعسر مما رفعه نص الكتاب العزيز بحيث يظهر لأهل الحل والعقد

أن ترك السنة - والحالة هذه - منطبق على القواعد الشرعية المقررة في إباحة

الضرورات للمحظورات وتقديرها بقدرها ، وارتكاب أخف الضررين إذا كان لا بد

من أحدهما، ولكننا نرى هؤلاء المتفرنجين لا يدرسون شيئًا من كتب السنة ألبتة، بل

يقبلون ما يخالفها من المفاسد ويدْعون إليه ، وينسخون به سننًا كثيرةً ونصوصًا في

كتاب الله صريحةً ، كقاعدة الحرية الشخصية التي كررنا ذكرها في المقالات السابقة

من جهة إباحتها للزنا واستحسانه وإبطال أحكام شرعية كثيرة لأجله.

على أنه قال بعد ذلك عند الكلام على الكتاب: إن ما زاد عليه من سنة أو

إجماع، فحكمه الجواز: إن شاء قام به الفرد، وإن لم ير مصلحةً في ذلك فله العدول

عنه. فجعل السنة وإجماع الأمة، كآراء أفراد الناس وأقوالهم، وإن كانوا من الجهال

والأنذال. فإن الحكمة ضالة المؤمن يأخذها من حيث وجدها، فهل وجدت أمة من أمم

الأرض تجعل أحكام أنبيائها وحكم حكمائها وإجماع علمائها وحكامها وزعمائها -

كآراء تحوت الناس وغوغائهم يتبع كل فرد فيها رأيه وهواه، فإن رأى مصلحةً له في

شيء منها كان له أن يأخذ به، وإن لم ير له فيه مصلحةً رده؟ أما إنه لو رزئ البشر

بمثل هذا الرأي الأفين من أول نشأتهم لكانوا أدنى منزلة من جميع أنواع الحيوان،

ولم يتكون منهم قبيلة ولا شعب ولا أمة؛ لأن الشعوب والأمم إنما تتكون بما يفعل

ماضيها في مستقبلها، وسنة الارتقاء فيها أن يبني الخلف على أساس السلف ،

فيحفظوا من الماضي أمثل ما اهتدى إليه العلماء والفضلاء ، ويزيدوا عليه ما يزيد

مقومات الأمة ومشخصاتها قوةً وتمكينًا.

القرآن أصل الأصول للشريعة

جعل أحمد صفوت أفندي أحكام القرآن المجيد ثلاثة أقسام: المحرم ،

والواجب ، والجائز. وقال: إن حكم الأول: أن لا يُتَعَرض له ولا يحكم بشيء

يخالفه في مرماه، ومثَّل له بتحريم نكاح الأم والأخت والجمع بين خمسة أزواج،

وحُكم الثاني: أن يبقى منه ما تتحقق به الحكمة المقصودة منه، ومثل له بإيفاء

العدة والإشهاد على الزواج، وحكم الثالث: أن الإنسان مخير فيه، وأن لكل

حكومة أن تحرم منه بالقوانين الوضعية ما تشاء، ومثَّل له بتعدد الزوجات.

أما كلامه في حكم الأول - وهو ما حرمه الله في كتابه - فمجمل غامض؛ فإن

قوله: (ولا يحكم بشيء يخالفه في مرماه) يجعله كالقسم الثاني؛ لأن مرمى

الشيء هو الغرض الذي يقصد به ، وهو عين حكمته، وإذا كان المراد مراعاة

حكمته دون نصه لا يبقى معنى لقوله: لا يتعرض له، وقد حرم الكتاب الربا والزنا

وجعل للزنا عقابًا بقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (النور: 2) الآية، فهل يجعل هذا العقاب على فعل الزنا نفسه ، أم على مرمى

تحريمه والغرض الذي حُرم لأجله؟ وما هو ذلك المرمى؟ هل لكل أحد من أفراد

الناس أو من رؤساء الحكام أن يعين ذلك المرمى ويعلق الحكم به؟ فإذا فهم أحد

الأفراد أن الغرض من تحريم الزنا ما يترتب عليه من ضرر اختلاط الأنساب، أو

التعادي بين الناس ، أو قلة النسل ، أو حدوث بعض الأمراض - فهل له أن يستبيح

منه ما يأمن هو ذلك الضرر فيه؟ وإذا اعترف بعض الناس للقاضي المسلم بالزنا

فهل يوقف إقامة الحد عليه حتى يعلم أن زناه قد ترتب عليه مرمى التحريم؟ وما

يقال في الزنا يقال في محرمات النكاح، كالأم والبنت والأخت، فقد يدّعي أفراد

المكلفين أو القضاة أن لذلك غرضًا ومرمى هو الذي تمتنع مخالفته ، وأن التحريم

يزول بزواله، وعند ذلك يمكن استباحة جميع ما حرمه الله تعالى لمن شاء.

وأما حكم الثاني - وهو ما أوجبه الله تعالى في كتابه - فقد بين المراد من

بقاء ما تحقق به الحكمة المقصودة منه بالمثلين اللذين ذكرهما، وهو أن حكمة العدة

براءة الرحم من الحمل ، وحكمة الإشهاد على الزواج إعلانه، قال: (فلا حرج

في أن نصل إلى الغرض المقصود من أفيد الطرق وأخصرها) وعَدَّ جعل عقد

الزواج رسميًّا مغنيًا عن الإشهاد، ومرور أكثر مدة الحمل على الطلاق مغنيًا عن

التقيد بالتربص ثلاثة قروء، وقد قلنا في المقالة الثانية: إنه يمكن الاستغناء عن

العدة ألبتة بناءً على قاعدته فيما إذا علم بطريقة فنية براءة الرحم من الحمل ،

كرؤيته خاليًا من الحمل بمثل الأشعة المعروفة بأشعة (رونتجن) .

ونقول: إن الإشهاد على عقد النكاح غير منصوص في الكتاب العزيز،

وإنما أمر في سورة الطلاق بالإشهاد على الرجعة وبت الطلاق ، ولا شك في أن

أحمد صفوت أفندي لا يفرق بينهما في حكمه بالاستغناء عن الإشهاد بجعل ما ذكر

رسميًّا مهما تكن حكمة الأمر به، وجمهور أهل السنة على أن هذا الإشهاد مستحب

لا واجب ، وأن الإشهاد على عقد النكاح واجب وشرط لصحة العقد، وقد ينازع

في زعمه أن جعل العقد رسميًّا يغني عن الإشهاد، فإن فائدة الإشهاد أن يعلم الناس

بأن زيدًا تزوج، فلا يتهمه أحد بأنه يعاشر امرأة بالفسق، وجعل الزواج رسميًّا لا

يترتب عليه هذه الفائدة؛ لأنه قد يحصل بعلم كاتب العقد وحده.

ثم إنه على تقدير قبول قاعدته الفاسدة ينازع بما زعم أنه هو حكمة العدة، فإن

للعدة عدة حكم وفوائد منها ما هو غير مطرد، وهو ظهور براءة الرحم فإنه خاص

بالحائل المستعدة للحمل ، وقد أوجب الله العدة على غير المستعدة له كالصغيرة

واليائسة، ومنها ما هو مطرد كحفظ كرامة الزوج الأول ، والتوسعة على المطلق

في الوقت الذي يمكن أن يؤاخذ فيه نفسه لعله يراجع، وبهذا نعلم شيئًا آخر من

مفاسد القاعدة، وهو تحكم الأهواء في اختراع الحِكم التي تراعى ويحافظ عليها

في الأحكام التي أوجبها كتاب الله، فإذا أخطأ الناس في معرفة الحكمة نكون قد

تركنا حكم ربنا لوهم جهلي تراءى لهم {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} (الكهف: 50)

وأهواؤهم هذه ليس لها أساس ثابت من الحق ولا من الفضيلة ، وما يسمونه

المصلحة تابع للهوى أيضًا، فإن أصل التشريع الأعظم عندهم أن تكون الأحكام

موافقةً لعادات الأمة وأحوالها التي تختلف باختلاف الزمان والمكان، فإذا هم لم

يقفوا عند عقائد الدين وفضائله ، ولا غيره من مقومات الأمة السابقة كما علمنا من

أقوالهم وأفعالهم - فلا يبعد أن يُحللوا ما أشرنا إليه آنفًا من نكاح البنات

والأخوات !! فقد نُقل عن بعض كبرائهم الزنا ببنته وأمثال ذلك، وحَكَم قاضٍ من

قُضاتهم في هذه البلاد منذ سنين قليلة ببراءة أستاذ من أساتذتهم في المدارس

الأميرية تصبَّى امرأة متزوجة بما يفتنها عن زوجها ، ويزري بكرامتها بمثل قوله

لها في الطريق العام: إن جمالها حرم عليه نوم الليل! ! وعلل القاضي المتفرنج

حكمه بالبراءة بأن الأستاذ لم يأت شيئًا نكرًا ، وأن ما صدر عنه ليس إلا الإعجاب

بالحسن والجمال، وهو من آيات الارتقاء في الذوق والخيال، الذي هو منتهى

الكمال! ! وقد اضطربت البلاد لهذا الحكم ، ولهجت الجرائد باستهجانه والإنكار

عليه، ونحمد الله أن أبطلته محكمة الاستئناف، فأرضت الصيانة والعفاف.

وأما حكم الثالث - وهو ما جعله القرآن جائزًا - فقد بينه أيضًا، وجعله كأن

لم يكن ، فأما كون الأفراد مخيرين فيه عملاً فصحيح، وأما كون الحكام يجوز لهم

أن يحرموا منه ما شاءوا فباطل، إذ ليس الحكام أربابًا حتى يحللوا ويحرموا على

الناس بمحض مشيئتهم، فما أحله الله فليس لأحد أن يحرمه إلا بإذن من الله عز

وجل {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ

الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} (النحل: 116) والله

أرحم بعباده من أنفسهم، فهو لم يحرم عليهم إلا ما هو خبيث ضار ، ولم يحل لهم

إلا ما هو طيب نافع، كما قال تعالى في وصف رسوله: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ

وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ} (الأعراف: 157) فإذا عرض من حوادث الزمن ما

يجعل بعض الحلال ضارًّا وبعض الحرام ضروريًّا، تغير الحكم بحسب ذلك

العارض وعلى قدره، فقد قال تعالى بعد تحريم محرمات الطعام: {إِلَاّ مَا

اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (الأنعام: 119) فالضرورات تبيح المحظورات وتحظر

المباحات، ولكنها تقدر بقدرها، والرأي في ذلك لأولي الأمر من الأمة ، وهم أهل

الحل والعقد ورجال الشورى في المصالح العامة، ويجب على الحكام أن يحكموا

بما يستنبطونه لهم من أمثال هذه الأحكام التي تختلف باختلاف الزمان والمكان،

ومثلهم نواب الأمة عند أمم الحضارة في هذا العصر.

وخلاصة ما يقترحه هذا المتفرنج من الإصلاح في أحكام كتاب الله: أن ما

أحله الله للناس، فلكل حاكم أن يحرمه عليهم إذا شاء، وما حرمه عليهم تراعى فيه

حكمة التحريم بحسب فهم الناس لها، ولهم أن يفعلوا المحرم إذا كان فعله لا يبطل

تلك الحكمة، وكذا ما أوجبه عليهم فليس عليهم إلا ترك الحكم بما يخالف مرماه،

وغرضه من الإيجاب لا نفس الواجب، وصرح بهذه النتيجة في الأقسام الثلاثة

بقوله عقب التصريح بالاستغناء عن عدة النساء والشهادة على عقد النكاح بقوله:

(وبذلك ينقض وجوب التقيد بالمعاني الحرفية للألفاظ القانونية الواردة في

القرآن) .

وهذا نص صريح في ترك أحكام القرآن كلها، وعدم الرجوع إلى شيء منها

لا للعمل بها ولا للاستنباط منها، ويكفي المسلمين - على هذا الرأي - أن يجمع مثل

أحمد صفوت أفندي ما يفهمه من مرامي الواجبات وحِكم المحرمات في عدة مسائل

أو قواعد تذكر في مقدمات القوانين الوضعية ، أو تجعل شروطًا لبعض أحكامها،

كأن يقال: يشترط في صحة زواج المطلقة أو المتوفى زوجها أن لا تكون حاملاً

من الزوج الأول.

ومن المعلوم بالضرورة أن هذا القانوني الذي تصدى لإصلاح شريعة الإسلام

باسم الإسلام يقول بوجوب التقيد بالمعاني الحرفية للقوانين الوضعية التي وضعها

الإفرنج لمصر، فهي مفضلة عنده وعند أمثاله على كتاب الله تعالى، وليس هذا

بعجيب منه ، ولكن العجيب الذي ليس وراءه عجب أن يخطب خطبةً في جمهور

كبير من رجال القانون بمصر يدعو فيها المسلمين باسم الإسلام إلى نبذ جميع

أحكام كتاب ربهم وسنة رسولهم وإجماع أمتهم وفقه جميع أئمتهم، ويسمي ذلك

إصلاحًا لشريعتهم ومبدأً لترقيتهم، ثم يطبع ذلك وينشره بين الناس ، فيقره جمهور من

رجال القضاء ويسكت عنه الكتاب والعلماء، وحسب هؤلاء تكفير بعضهم بعضًا

بالمسائل الخلافية، ككون الحجة على نبوة آدم وأبوته للناس ظنيةً أو قطعيةً، وإلى

الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

_________

(*) تابع لما في المجلد العشرين.

(1)

وكيل نيابة الدلنجات بالأمس والسكرتير القضائي لفلسطين اليوم.

(2)

رواه أحمد والشيخان ، وغيرهما من حديث علي.

(3)

براجع تفسيرها في ص 180 - 222 من ج 5 من التفسير.

(4)

راجع تفسيرها في ص 232 ج 5 ت.

ص: 73

الكاتب: محمد عبده

‌انتشار الإسلام بسرعة

لم يُعهد لها نظير في التاريخ

هذا فصل من رسالة التوحيد للأستاذ الإمام - أكرم الله مثواه - قال:

كانت حاجة الأمم إلى الإصلاح عامةً، فجعل الله رسالة خاتم النبيين عامةً

كذلك، لكن يدهش عقل الناظر في أحوال البشر عندما يرى أن هذا الدين يجمع

إليه الأمة العربية من أدناها إلى أقصاها في أقل من ثلاثين سنة، ثم يتناول من بقية

الأمم ما بين المحيط الغربي وجدار الصين في أقل من قرن واحد، وهو أمر لم

يعهد في تاريخ الأديان، ولذلك ضل الكثير في بيان السبب، واهتدى إليه المنصفون،

فبطل العجب.

ابتدأ هذا الدين بالدعوة كغيره من الأديان، ولقي من أعداء أنفسهم أشد ما يلقى

حق من باطل، أوذي الداعي صلى الله عليه وسلم بضروب الإيذاء، وأقيم في

وجهه ما كان يصعب تذليله من العقاب لولا عناية الله، وعذب المستجيبون له

وحرموا الرزق، وطردوا من الدار، وسفكت منهم دماء غزيرة، غير أن تلك

الدماء كانت عيون العزائم تتفجر من صخور الصبر، يثبت الله بمشهدها المستيقنين،

ويقذف بها الرعب في أنفس المرتابين، فكانت تسيل لمنظرها نفوس أهل الريب،

وهي ذوب ما فسد من طباعهم، فتجري من مناحرهم جري الدم الفاسد من

المفصود على أيدي الأطباء الحاذقين في جهنم {لِيَمِيزَ اللَّهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ

وَيَجْعَلَ الخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ

الخَاسِرُونَ} (الأنفال: 37) .

تألبت الملل المختلفة ممن كان يسكن جزيرة العرب وما جاورها على

الإسلام؛ ليحصدوا نبتته، ويخنقوا دعوته، فما زال يدافع عن نفسه دفاع الضعيف

للأقوياء ، والفقير للأغنياء ، ولا ناصر له إلا أنه الحق بين الأباطيل والرشد في

ظلمات الأضاليل، حتى ظفر بالعزة وتعزز بالمنعة، وقد وطئ أهل الجزيرة أقوام

من أديان كانت تدعو إليها، وكانت لهم ملوك وعزة وسلطان ، وحملوا الناس

على عقائدهم بأنواع من المكاره ، ومع ذلك لم يبلغ بهم السعي نجاحًا، ولا أنالهم

القهر فلاحًا.

ضم الإسلام سكان القفار العربية إلى وحدة لم يعرفها تاريخهم، ولم يعهد لها

نظير في ماضيهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أبلغ رسالته بأمر ربه إلى من

جاور البلاد العربية من ملوك الفرس والرومان، فهزأوا وامتنعوا وناصبوه وقومه

الشر، وأخافوا السابلة وضيقوا على المتاجر، فغزاهم بنفسه وبعث إليهم البعوث في

حياته، وجرى على سنته الأئمة من صحابته، طلبًا للأمن وإبلاغًا للدعوة، فاندفعوا

في ضعفهم وفقرهم يحملون الحق على أيديهم وانهالوا به على تلك الأمم في قوتها

ومنعتها وكثرة عددها واستكمال أهبتها وعددها، فظفروا منها بما هو معلوم، وكانوا

متى وضعت الحرب أوزارها واستقر السلطان للفاتح عطفوا على المغلوبين بالرفق

واللين، وأباحوا لهم البقاء على أديانهم وإقامة شعائرها آمنين مطمئنين، ونشروا

حمايتهم عليهم يمنعونهم مما يمنعون منه أهلهم وأموالهم، وفرضوا عليهم كفاء ذلك

جزءًا قليلاً من مكاسبهم على شرائط معينة.

كانت الملوك من غير المسلمين إذا فتحوا مملكةً أتبعوا جيشها الظافر بجيش

من الدعاة إلى دينها، يلجون على الناس بيوتهم ، ويغْشون مجالسهم ليحملوهم على

دين الظافر، وبرهانهم الغلبة وحجتهم القوة، ولم يقع ذلك لفاتح من المسلمين،

ولم يعهد في تاريخ فتوح الإسلام أن كان له دعاة معروفون لهم وظيفة ممتازة

يأخذون على أنفسهم العمل في نشره، ويقفون مسعاهم على بث عقائده بين غير

المسلمين، بل كان المسلمون يكتفون بمخالطة من عداهم ومجاهدتهم في المعاملة ،

وشهد العالم بأسره أن الإسلام كان يعد مجاملةً المغلوبين فضلاً وإحسانًا عندما كان

يعدها الأوربيون ضعةً وضعفًا.

رفع الإسلام ما ثقل من الإتاوات، ورد الأموال المسلوبة إلى أربابها، وانتزع

الحقوق من مغتصبيها، ووضع المساواة في الحق عند التقاضي بين المسلم وغير

المسلم، بلغ أمر المسلمين فيما بعد أن لا يقبل إسلام مِن داخلٍ فيه إلا بين يدي

قاضٍ شرعي بإقرار من المسلم الجديد أنه أسلم بلا إكراه ولا رغبة في دنيا. وصل

الأمر في عهد بعض الخلفاء الأمويين أن كَرِه عمالهم دخول الناس في دين الإسلام

لما رأوا أنه ينقص من مبالغ الجزية، وكان في حال أولئك العمال صد عن سبيل

الدين لا محالة، ولذلك أمر عمر بن عبد العزيز بتعزير مثل أولئك العمال [1] .

عرف خلفاء المسلمين وملوكهم في كل زمان ما لبعض أهل الكتاب، بل

وغيرهم من المهارة في كثير من الأعمال، فاستخدموهم وصعدوا بهم إلى أعلى

المناصب حتى كان منهم من تولى قيادة الجيش في أسبانيا. اشتهرت حرية الأديان

في بلاد الإسلام حتى هجر اليهود أوربا فرارًا منها بدينهم إلى بلاد الأندلس

وغيرها.

هذا ما كان من أمر المسلمين في معاملتهم لمن أظلوهم بسيوفهم، لم يفعلوا

شيئًا سوى أنهم حملوا إلى أولئك الأقوام كتاب الله وشريعته، وألقوا بذلك بين أيديهم

وتركوا الخيار لهم في القبول وعدمه، ولم يقوموا بينهم بدعوة، ولم يستعملوا

لإكراههم عليه شيئًا من القوة، وما كان من الجزية لم يكن مما يثقل أداؤه على من

ضربت عليه، فما الذي أقبل بأهل الأديان المختلفة على الإسلام، وأقنعهم أنه الحق

دون ما كان لديهم حتى دخلوا فيه أفواجًا، وبذلوا في خدمته ما لم يبذله له العرب

أنفسهم؟ .

ظهور الإسلام على ما كان في جزيرة العرب من ضروب العبادات الوثنية،

وتغلبه على ما كان فيها من رذائل الأخلاق وقبائح الأعمال، وسَيره بسكانها على

الجادة القويمة - حقق لقراء الكتب الإلهية السابقة أن ذلك هو وعد الله لنبيه إبراهيم ،

وإسماعيل وتحقيق استجابة دعاء الخليل {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ} (البقرة: 129) وأن هذا الدين هو ما كانت تبشر به الأنبياءُ أقوامَها مِن بعدهم،

فلم يجد أهل النصفة منهم سبيلاً إلى البقاء على العناد في مجاحدته، فتلقوه شاكرين

وتركوا ما كان لهم بين قومهم صاغرين، أوقع ذلك من الريب في قلوب مقلديهم ما

حركهم إلى النظر فيه، فوجدوا لطفًا ورحمةً وخيرًا ونعمةً، لا عقيدة ينفر منها العقل

- وهو رائد الإيمان الصادق - ولا عمل تضعف عن احتماله الطبيعة البشرية، وهي

القاضية في قبول المصالح والمرافق، رأوا أن الإسلام يرفع النفوس بشعور من

(اللاهوت) يكاد يعلو بها عن العلم السلفي ويلحقها بالملكوت الأعلى ويدعوها إلى

إحياء ذلك الشعور بخمس صلوات في اليوم، وهو مع ذلك لا يمنع من التمتع

بالطيبات، ولا يفرض من الرياضات وضروب الزهادة ما يشق على الفطرة البشرية

تجشمه، ويَعِد برضا الله ونيل ثوابه حتى في توفية البدن حقه، متى حسنت النية

وخلصت السريرة، فإذا نزت شهوة أو غلب هوى كان الغفران الإلهي ينتظره متى

حصلت التوبة وكملت الأوبة. تبدت لهم سذاجة الدين عندما قرأوا القرآن ونظروا في

سيرة الطاهرين من حامليه إليهم، وظهر لهم الفرق بين ما لا سبيل إلى فهمه، وما

تكفي جولة نظر في الوصول إلى علمه [*] فتراموا إليه خفافًا من ثقل ما كانوا

عليه.

كانت الأمم تطلب عقلاً في دين فوافاها، وتتطلع إلى عدل في إيمان فأتاها،

فما الذي يحجم بها عن المسارعة إلى طلبتها والمبادرة إلى رغيبتها؟ كانت

الشعوب تئن من ضروب الامتياز التي رفعت بعض الطبقات على بعض بغير حق،

وكان من حكمها أن لا يقام وزن لشؤون الأدنين، متى عرضت دونها شهوات

الأعلين، فجاء دين يحدد الحقوق ويسوي بين جميع الطبقات في احترام النفس

والدين والعِرض والمال، ويسوغ لامرأة فقيرة غير مسلمة أن تأبى بيع بيت صغير

بأية قيمة لأمير عظيم مطلق السلطان في قطر كبير، وما كان يريده لنفسه، ولكن

ليوسع به مسجدًا، فلما عقد العزيمة على أخذه مع دفع أضعاف قيمته رفعت الشكوى

إلى الخليفة، فورد أمره برد بيتها إليها مع لوم الأمير على ما كان منه !! عدل يسمح

ليهودي أن يخاصم مثل علي بن أبي طالب أمام القاضي، وهو من نعلم من هو،

ويستوقفه معه للتقاضي إلى أن قضى الحق بينهما، هذا وما سبق بيانه مما جاء به

الإسلام هو الذي حببه إلى من كانوا أعداءه، ورد إليه أهواءهم حتى صاروا

أنصاره وأولياءه.

غلب على المسلمين في كل زمن روح الإسلام، فكان من خلقهم العطف على

من جاورهم من غيرهم، ولم تستشعر قلوبهم عداوةً لمن خالفهم إلا بعد أن يحرجهم

الجار، فهم كانوا يتعلمونها ممن سواهم، ثم لا يكون إلا طائفًا يحل ثم يرتحل، فإذا

انقطعت أسباب الشغب تراجعت القلوب إلى سابق ما ألفته من اللين والمياسرة،

ومع ذلك - بل وغفلة المسلمين عن الإسلام ، وخذلانهم له وسعي الكثير منهم في هدمه

بعلم وبغير علم - لم يقف الإسلام في انتشاره عند حد، خصوصًا في الصين وفي

أفريقيا، ولم يخل زمن من رؤية جموع كثيرة من ملل مختلفة تنزع إلى الأخذ

بعقائده على بصيرة فيما تنزع إليه، لا سيف وراءها ولا داعي، وإنما هو مجرد

الاطلاع على ما أُودِعه، مع قليل من حركة الفكر في العلم بما شرعه، ومن هذا

تعلم أن سرعة انتشار الدين الإسلامي وإقبال الناس على الاعتقاد به من كل ملة،

إنما كان لسهولة تعقله ويسر أحكامه وعدالة شريعته، وبالجملة لأن فطر البشر تطلب

دينًا وترتاد منه ما هو أمس بمصالحها وأقرب إلى قلوبها ومشاعرها، وأدعى إلى

الطمأنينة في الدنيا والآخرة، ودين هذا شأنه يجد إلى القلوب منفذًا وإلى العقول

مَخلَصًا بدون حاجة إلى دعاة ينفقون الأموال الكثيرة والأوقات الطويلة ويستكثرون من

الوسائل ونصب الحبائل لإسقاط النفوس فيه، هذا كان حال الإسلام في سذاجته الأولى

وطهارته التي أنشأه الله عليها، ولا يزال على جانب عظيم منها في بعض أطراف

الأرض إلى اليوم.

قال من لم يفهم ما قدمناه أو لم يرد أن يفهمه: إن الإسلام لم يعطف على

قلوب العالم بهذه السرعة إلا بالسيف، فقد فتح المسلمون ديار غيرهم والقرآن

بإحدى اليدين والسيف بالأخرى، يعرضون القرآن على المغلوب فإن لم يقبله فصل

السيف بينه وبين حياته، سبحانك هذا بهتان عظيم! ما قدمناه من معاملة المسلمين

مع من دخلوا تحت سلطانهم هو ما تواترت به الأخبار تواترًا صحيحًا لا يقبل

الريبة في جملته، وإن وقع اختلاف في تفصيله، وإنما شهر المسلمون سيوفهم

دفاعًا عن أنفسهم، وكفًّا للعداون عنهم، ثم كان الافتتاح بعد ذلك من ضرورة الملك

ولم يكن من المسلمين مع غيرهم إلا أنهم جاوروهم وأجاروهم، فكان الحوار

طريق العلم بالإسلام، وكانت الحاجة لصلاح العقل والعمل داعية الانتقال إليه.

لو كان السيف ينشر دينًا فقد عمل في الرقاب للإكراه على الدين والإلزام به

مهددًا كل أمة لم تقبله بالإبادة والمحو من سطح البسيطة، مع كثرة الجيوش

ووفرة العدد وبلوغ القوة أسمى درجة كانت تمكن لها، وابتدأ ذلك العمل قبل

ظهور الإسلام بثلاثة قرون كاملة ، واستمر في شدته بعد مجيء الإسلام سبعة

أجيال أو يزيد، فتلك عشرة قرون كاملة لم يبلغ فيها السيف من كسب عقائد البشر

مبلغ الإسلام في أقل من قرن، هذا ولم يكن السيف وحده، بل كان الحسام لا

يتقدم خطوة إلا والدعاة من خلفه، يقولون ما يشاءون تحت حمايته، مع غيرة

تفيض من الأفئدة، وفصاحة تتدفق عن الألسنة، وأموال تخلب ألباب المستضعفين،

إن في ذلك لآيات للمستيقنين.

جلت حكمة الله في أمر هذا الدين ! سلسبيل حياة نَبَعَ في القفار العربية، أبعد

بلاد الله عن المدنية، فاض حتى شملها فأحياها حياةً شعبيةً مليةً، علا مدةً حتى

استغرق ممالك كانت تفاخر أهل السماء في رفعتها، وتعلو أهل الأرض بمدنيتها،

زلزل هديره - على لينه - ما كان استحجر من الأرواح، فانشقت عن مكنون سر

الحياة فيها، قالوا: كان لا يخلو مِن غَلَب (بالتحريك) قلنا: تلك سنة الله في الخلق!

لا تزال المصارعة بين الحق والباطل والرشد والغي، قائمة في هذا العالم إلى أن

يقضي الله قضاءه فيه، إذا ساق الله ربيعًا إلى أرض جدبة ليحيي ميتها وينقع غلتها

وينمي الخصب فيها، أفينقص من قدره أن أتى في طريقه على عقبة فعلاها، أو بيت

رفيع العماد فهوى به؟

سطع الإسلام على الديار التي بلغها أهله، فلم يكن بين أهل تلك الديار وبينه

إلا أن يسمعوا كلام الله ويفقهوه، واشتغل المسلمون بعضهم ببعض زمنًا، وانحرفوا

عن طريق الدين أزمانًا، فوقف وقفة القائد خذله الأنصار وكاد يتزحزح إلى ما

وراءه، لكن الله بالغ أمره، فانحدرت إلى ديار المسلمين أمم من التتار يقودها

جنكيز خان، وفعلوا بالمسلمين الأفاعيل، وكانوا وثنيين جاءوا لمحض الغلبة

والسلب والنهب، ولم يلبث أعقابهم أن اتخذوا الإسلام دينًا، وحملوه إلى أقوامهم

فعمَّهم منه ما عم غيره، جاءوا لشقوتهم فعادوا بسعادتهم.

حمل الغرب على الشرق حملةً واحدةً، لم يَبْقَ ملك من ملوكه ولا شعب من

شعوبه إلا اشترك فيها، واستمرت المجالدات بين الغربيين والشرقيين أكثر من

مائتي سنة جمع فيها الغربيون من الغيرة والحمية للدين ما لم يسبق لهم من قبل،

وجيشوا من الجند ، وأعدوا من القوة ما بلغته طاقتهم، وزحفوا إلى ديار المسلمين،

وكانت فيهم بقية من روح الدين، فغلب الغربيون على كثير من البلاد الإسلامية،

وانتهت تلك الحروب الجارفة بإجلائهم عنها، لمَ جاءوا ، وبماذا رجعوا؟ ظفر

رؤساء الدين في الغرب بإثارة شعوبهم؛ ليبيدوا ما يشاءون من سكان الشرق، أو

يستولي سلطان تلك الشعوب على ما يعتقدون لأنفسهم الحق في الاستيلاء عليه من

البلاد الإسلامية، جاء من الملوك والأمراء وذوي الثروة وعلية الناس جم غفير،

وجاء ممن دونهم من الطبقات ما قدروه بالملايين، استقر المقام لكثير من هؤلاء

في أرض المسلمين، وكانت فترات تنطفئ فيها نار الغضب ، وتثوب العقول إلى

سكينتها تنظر في أحوال المجاورين، وتلتقط من أفكار المخالطين، وتنفعل بما

ترى وما تسمع ، فتبينت أن المبالغات التي أطاشت الأحلام وجسمت الآلام، لم

تُصِب مستقر الحقيقة ، ثم وجدت حريةً في دين، وعلمًا وشرعًا وصنعةً مع كمال

في يقين، وتعلمت أن حرية الفكر وسعة العلم من وسائل الإيمان لا من العوادي

عليه، ثم جمعت من الآداب ما شاء الله، وانطلقت إلى بلادها قريرة العين بما

غنمته من جلادها، هذا إلى ما كتبه السفار من أطراف الممالك إلى بلاد الأندلس

بمخالطة حكمائها وأدبائها، ثم عادوا به إلى شعوبهم ليذيقوهم حلاوة ما كسبوا ،

وأخذت الأفكار من ذلك العهد تتراسل، والرغبة في العلم تزايد بين الغربيين،

ونهضت الهمم لقطع سلاسل التقليد، ونزعت العزائم إلى تقييد سلطان زعماء

الدين، والأخذ على أيديهم فيما تجاوزوا فيه وصاياه وحرفوا في معناه، ولم يكن

بعد ذلك إلا قليل من الزمن حتى ظهرت طائفة منهم تدعو إلى الإصلاح والرجوع

بالدين إلى سذاجته، وجاءت في إصلاحها بما لا يبعد عن الإسلام إلا قليلاً، بل

ذهب بعض طوائف الإصلاح في العقائد إلى ما يتفق مع عقيدة الإسلام إلا في

التصديق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن ما هم عليه إنما هو دينه يختلف

عنه اسمًا، ولا يختلف معنًى إلا في صورة العبادة لا غير.

ثم أخذت أمم أوربا تفتَكُّ مِن أسرها، وتصلح من شؤونها، حتى استقامت

أمور دنياها على مثل ما دعا إليه الإسلام، غافلةً عن قائدها، لاهيةً عن مرشدها،

وتقررت أصول المدنية الحاضرة التي تفاخر بها الأجيال المتأخرة ما سبقها من أهل

الأزمان الغابرة.

هذا طَلٌّ من وابله أصاب أرضًا قابلةً فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج

بهيج، جاء القوم ليبيدوا فاستفادوا وعادوا ليفيدوا، ظن الرؤساء أن في إهاجة شعوبهم

شفاء ضغنهم وتقوية ركنهم، فباءوا بوضوح شأنهم وضعضعة سلطانهم ، وما بيناه

في شأن الإسلام - ويعرفه كل من تفقه فيه - قد ظفر به كثير من أهل النظر في بلاد

الغرب، فعرفوا له حقه، واعترفوا أنه كان أكبر أساتذتهم فيما هم فيه اليوم، وإلى الله

عاقبة الأمور.

***

إيراد سهل الإيراد

يقول قائلون: إذا كان الإسلام إنما جاء لدعوة المختلفين إلى الاتفاق وقال

كتابه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام:

159) فما بال الملة الإسلامية قد مزقتها المشارب، وفرقت بين طوائفها المذاهب؟

إذا كان الإسلام موحدًا فما بال المسلمين عددوا؟ إذا كان موليًّا وجه العبد وجهة

الذي خلق السموات والأرض، فما بال جمهورهم يولون وجوههم من لا يملك

لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، ولا يستطيع من دون الله خيرًا ولا شرًّا، وكادوا يعدون ذلك

فصلاً من فصول التوحيد؟ إذا كان أول دين خاطب العقل ودعاه إلى النظر في

الأكوان وأطلق له العنان يجول في ضمائرها بما يسعه الإمكان، ولم يشرط عليه في

ذلك سوى المحافظة على عقد الإيمان، فما بالهم قنعوا باليسير، وكثير منهم أغلق

على نفسه باب العلم ظنًّا منه أنه قد يرضي الله بالجهل وإغفال النظر فيما أبدع

من محكم الصنع؟ ما بالهم وقد كانوا رسل المحبة أصبحوا اليوم وهم يتنسمونها ولا

يجدونها؟ ما بالهم بعد أن كانوا قدوة في الجد والعمل، أصبحوا مثلاً في القعود

والكسل؟ ما هذا الذي ألحق المسلمون بدينهم ، وكتاب الله بينهم يقيم ميزان القسط

بين ما ابتدعوه وبين ما دعاهم إليه فتركوه؟ فإذا كان الإسلام في قربه من العقول

والقلوب على ما بينت فما باله اليوم - على رأي القوم - تقصر دون الوصول إليه

يد المتناول؟ إذا كان الإسلام يدعو إلى البصيرة فيه، فما بال قراء القرآن لا يقرؤونه

إلا تغنيًا، ورجال العلم بالدين لا يعرفه أغلبهم إلا تظنيًا؟

- إذا كان الإسلام منح العقل والإرادة شرف الاستقلال، فما بالهم شدوهما إلى

أغلال أي أغلال؟

- إذا كان قد أقام قواعد العدل ، فما بال أغلب حكامهم يُضرَب بهم المثل في

الظلم؟

- إذا كان الدين في تشوف إلى حرية الأرقاء، فما بالهم قضوا قرونًا في استعباد

الأحرار؟

- إذا كان الإسلام يعد من أركانه حفظ العهود والصدق والوفاء، فما بالهم قد

فاض بينهم الغدر والكذب والزور والافتراء؟

- إذا كان الإسلام يحظر الغيلة، ويحرم الخديعة، ويوعد على الغش بأن

الغاش ليس من أهله، فما بالهم يحتالون على الله وشرعه وأوليائه؟

- إذا كان قد حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فما هذا الذي نراه بينهم في

السر والعلن والنفس والبدن؟

- إذا كان قد صرح بأن الدين النصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين، خاصتهم

وعامتهم وأن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق

وتواصوا بالصبر، وأنهم إن لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر سلط عليهم

شرارهم فيدعو خيارهم فلا يستجاب لهم، وشدد في ذلك بما لم يشدد في غيره، فما

بالهم لا يتناصحون ولا يتواصون بحق، ولا يعتصمون بصبر، ولا يتناصحون في

خير ولا شر، بل ترك كل صاحبه، وألقى حبله على غاربه، فعاشوا أفذاذًا ،

وصاروا في أعمالهم أفرادًا، لا يحس أحدهم بما يكون من عمل أخيه، كأنه ليس

منه، وكأن لم تجمعه معه صلة، ولم تضمه إليه وشيجة؟

ما بال الأبناء يقتلون الآباء ، وما بال البنات يعققن الأمهات؟ أين وشائج

الرحمة؟ أين عاطفة الرحم على القريب؟ أين الحق الذي فرض في أموال الأغنياء

للفقراء، وقد أصبح الأغنياء يسلبون ما بقي في أيدي أهل البأساء؟

قبس من الإسلام أضاء الغرب كما تقول، وضَوْؤه الأعظم وشمسه الكبرى

في الشرق ، وأهله في ظلمات لا يبصرون! أصحَّ هذا في عقل أو عُهد في نقل؟

ألم تر إلى الذين تذوقوا من العلم شيئًا وهم من أهل هذا الدين أول ما يعلق بأوهام

أكثرهم أن عقائده خرافات وقواعده وأحكامه ترهات، ويجدون لذتهم في التشبه

بالمستهزئين ممن سموا أنفسهم أحرار الأفكار وبعداء الأنظار، وإلى الذين قصروا

هممهم على تصفح أوراق من كتبه، ووسموا أنفسهم بأنهم حفاظ أحكامه القوَّام على

شرائعه، كيف يجافون علوم النظر ويهزءون بها، ويرون العمل فيها عبثًا في

الدين والدنيا، ويفتخر الكثير منهم بجهلها، كأنه في ذلك قد هجر منكرًا وترفع عن

دنيئة؟ فمن وقف على باب العلم من المسلمين يجد دينه كالثوب الخلق يستحي أن

يظهر به بين الناس، ومن غرته نفسه بأنه على شيء من الدين وأنه مستمسك

بعقائده، يرى العقل جِنة والعلم ظِنة، أليس في هذا ما يشهد الله وملائكته والناس

أجمعين على أن لا وفاق بين العلم والعقل وهذا الدين؟

الجواب

ربما لم يبالغ الواصف لما عليه المسلمون اليوم بل من عدة أجيال، وربما

كان ما جاء في الإيراد قليلاً من كثير، وقد وصف الشيخ الغزالي رحمه الله

وابن الحاج وغيرهما من أهل البصر في الدين ما كان عليه مسلمو زمانهم عامتهم

وخاصتهم بما حوته مجلدات، ولكن قد أتيت في خاصة الدين الإسلامي بما يكفي

للاعتراف به مجرد تلاوة القرآن مع التدقيق في فهم معانيه، وحملها على ما فهمه

أولئك الذين أنزل فيهم وعمل به بينهم، ويكفي في الاعتراف بما ذكرته من جميل

أثره قراءة ورقات في التاريخ على ما كتبه محققو الإسلام ومنصفو سائر الأمم،

فذلك هو الإسلام، وقد أسلفنا أن الدين هدى وعقل، من أحسن في استعماله والأخذ

بما أرشد إليه نال من السعادة ما وعد الله على اتباعه، وقد جرب علاج الاجتماع

الإنساني بهذا الدواء فظهر نجاحه ظهورًا لا يستطيع معه الأعمى إنكارًا، ولا

الأصم إعراضًا، وغاية ما قيل في الإيراد أن أعطى الطبيب المريض دواءً فصح

المريض ، وانقلب الطبيب بالمرض الذي كان يعمل لمعالجته، وهو يتجرع

الغصص من آلامه والدواء في بيته وهو لا يتناوله، وكثير ممن يعودونه أو

يتشفون منه ويشمتون لمصيبته، يتناولون من ذلك الدواء فيعانون من مثل مرضه،

وهو في يأس من حياته ، ينتظر الموت، أو تبدل سنة الله في شفاء أمثاله، كلامنا

اليوم في الدين الإسلامي وحاله على ما بينا، أما المسلمون وقد أصبحوا بسيرهم

حجةً على دينهم فلا كلام لنا فيهم الآن، وسيكون الكلام عنهم في كتاب آخر، إن

شاء الله.

(المنار)

جمع الأستاذ الإمام رحمه الله في هذا السؤال والجواب جملة مساوي

المسلمين المخالفة لهدي الإسلام ، بين فيهما كليات محاسنه المفصلة في رسالة

التوحيد بعض التفصيل، ووعد ببيان تفصيل هذه المساوي في كتاب آخر ولكنه لم

يوفق لكتابته، على أنه جاء في كتاب (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية)

بكثير مما أراد من ذلك.

_________

(1)

شكا إليه عامله بمصر ذلك فأجابه (أن محمدًا صلى الله عليه وسلم بُعث هاديًا، ولم يبعث جابيًا) .

(*) الأول كالجمع بين التثليث والتوحيد ، والثاني عالم الغيب غير محال.

ص: 81

الكاتب: محمد رشيد رضا

مستقبل سورية وسائر البلاد العربية [*]

(5)

خطب مؤسسي اتفاق سنتي 1916 و1917

خطبة مسيو بيكو في دمشق

ألقى موسيو بيكو معتمد فرنسا السامي في سورية هذه الخطبة في حفلة

أعدت له ولزميله السير مارك سيكس في النادي العربي بدمشق ونشرت

جرائدها ترجمتها ، فنقلها المقطم في عدد 23 ربيع الآخر- 25 يناير (ك2)

الماضي عن (المقتبس) الدمشقية، وهذا نصها:

أيها السادة

لم أكن أنتظر بعد أن قضيت أيامًا عديدةً وساعات كثيرةً في السفر على متن

القطارات والسيارات أن أصل إلى دمشق فأشهد هذه الحفلة الجميلة التي ضمت خير

الرجال والشبان، بيْد أني لم أستغرب هذا الأمر من صديقي السير مارك سايكس الذي

عودني أن يفاجئني بهكذا حفلات مستغنمًا هذه الفرصة التي سنحت لأهنئ الحكومة

العربية بما نالته من الاستقلال الذي جاهدت الأمة العربية وقاتلت في سبيله.

انضمت الحكومة العربية إلى الحلفاء زمن الحرب وقاتلت معهم لكونها عرفت

قدسية المبدأ الذي يقاتلون عنه، فهي بعملها هذا تستحق الشكر ، وإنني باسم فرنسة

أشكر الأمة العربية والحكومة العربية لجهادهما.

انتهى دور الحرب ، ودخلنا في دور جديد دور العمل والاجتهاد ، ولا أظن أن

الدور الجديد يقل في خطورة شأنه عن دور الحرب، خصوصًا وأن أعداءنا وأعداءكم

لا يزالون موجودين، فلذلك يجب أن نكون متفقين متحدين.

أخذت برقيةً بالأمس من فرنسة جاء فيها أن الأمير فيصل قابل المسيو

كلمنصو مقابلةً طويلةً انتهت باتفاقهما على جميع المبادئ والآراء ولم يوجد بينهما

أثر من آثار الاختلاف.

اتحدنا زمن الحرب وعملنا معًا للوصول إلى النتيجة، فلذلك يجب أن لا يكون

اتحادنا وقتيًّا ، بل ثابتًا وطيدًا لتنال الأمة العربية ثمرة أتعابها وتقطع مع دول الحلفاء

العقبات ويكون مبدأ تمدنها ورقيها.

إننا نرى في الزمن الحاضر زمن المذاكرات الصلحية كثيرًا من الأعداء

ونصادفهم أينما حللنا وذهبنا.

إن هؤلاء الأعداء أتراك يعملون للمصلحة التركية ولقد شاهدناهم يعملون

أعظم الأعمال في أوربة ضدي أنا والسير مارك سايكس.

شاهدناهم في دار نظارة الخارجية يقولون للفرنسويين: لا تؤمنوا للعرب

ولا تصدقوهم ، ولا تنتظروا منهم أن يؤلفوا حكومةً ، وسمعناهم يقولون للإنكليز:

لا تتفقوا مع الفرنسويين ولا تمدوا يدكم إليهم ، ولا تساعدوا العرب. فلذلك يجب

أن نعرف هؤلاء الدساسين فيما يتكلمون به.

قال أحد الخطباء: إننا الآن في دور جديد وعلينا واجبات جمة. لقد صدق أيها

السادة فإن الأمم التي كافحت مع العرب للوصول إلى هذه النتيجة نتيجة الظفر

القطعي ، قد ولد فيها فكر جديد وشعور جديد لم يكونا لها من قبل، ذلك الشعور

شعور الاستقلال والحرية للأمم.

يجب أن تقاوموا كل من يخالف هذا المبدأ إن كان تاجرًا يعمل لرواج سلعته ،

أو صحافيًّا يشتغل لترويج صحيفته ، وأن تُدكُّوا كل المصاعب والعقبات التي تحول

دون اتفاق الشعوب العربية ، أي: كل من ينطق بالعربية؛ لأن الأديان لا تكون

مانعة للاتحاد ، ولا تسمعوا للمفسدين الذين يحاولون تفريق وحدتكم وكلمتكم.

إن فرنسا لم تخُض غِمار هذه الحرب لصد دعاية الألمان عن بلادها فقط، بل

لتأييد مبدأ الحرية والاستقلال ، ولنرى كل أمة تعيش متمتعةً بالاستقلال وأن يكون

لها الحق باختيار طريقة الحكم الذي تريده.

التحابُّ مطلوب ، وخصوصًا بين الأمم التي حاربت جنبًا لجنب ، وإن فرنسا

لا تميل قط إلى الرجل الذي يأتيها ويقول لها: إني أحبك أكثر من وطني؛ لأنه

منافق لا يعرف أن يحب ، فنرده ونقول له: اذهب وحب وطنك أولاً. وإن أعظم

سرور لفرنسا هو أن ترى الأمة العربية متحدةً متفقةً ، والحكومة العربية مستقلةً ،

وإنها - أي: فرنسا - مستعدة لمساعدتها، وإذا كلفت أوربا فرنسا أن تساعد الحكومة

العربية فهي مستعدة لإيفائها بإخلاص ، ويسرنا أن نرى الحكومة والأمة العربية

ناجحةً ناميةً بإذن الله اهـ.

***

خطبة السير مارك سيكس في دمشق

وألقى السير مارك سيكس خطبة في تلك الحفلة نفسها ، وقد نقل المقطم ترجمتها

في عدد 25 ربيع الآخر 27 يناير عن جريدة البلاغ البيروتية الغراء وهو:

يا سعادة الحاكم ، ويا حضرات المجتمعين: سأتكلم بصعوبة هذه الليلة، فقد

سمعت أمرين أوقعاني في الاضطراب ، فالأمر الأول: أنني سمعت أحد الخطباء

يقص على حضراتكم تاريخ حياتي ، ويظهر أنه حفظ شيئًا منه حتى خشيت أن

يتكلم عن سيئاتي ، ولكنني أقول بكل ارتياح: إن معلوماته كانت قاصرة من هذه

الجهة، والأمر الذي أحرج مركزي ذكره أنني طفت البلاد العربية التي تبلغ

مساحتها 7000 ميل ولا أقدر أن أخطبكم باللغة العربية، ووصفني خطيب آخر

بالبطل الساكت وهذا الوصف جيد ومطابق جدًّا إذا كان موجهًا لقائد عسكري، ولا

يكون مطابقًا إذا نعت به أحد السياسيين؛ لأن السياسي متكلم بالطبع.

لا أفيد الشرق بهذا الكلام، وإنني أريد أن ألقي عليكم أمرًا هذه الليلة:

إن يومكم هذا يوم مشهود؛ إذ سيُفتح فيه مؤتمر الصلح (على ما أظن) الذي

ستقرر فيه أعمال مهمة ، وتدبر فيه شؤون الكون لمدة قرنين.

منذ أربع سنين والحرب العامة تبتلع كبار العالم ومشاهيرهم وإننا نخون عهد

إخواننا الذين ذهبوا ضحيتها - ولا أظنهم يقلون عن 5 - 6ملايين- إذا لم نعمل

بتؤدة ، لا فرق عندي في المحلات والأماكن التي لقوا بها حتفهم فالنتيجة واحدة

وهي مفارقتهم هذا العالم سواء قضى الفرنسوي بفرنسا ، أو قضى البريطاني في

فلندر أو في العراق أو في هذه البلاد بلادكم، أو قضى ذلك البحري الذي كان

يقطع أجواز البحار وهو أعزل من السلاح يحمل الميرة إلى المحاربين في أنحاء

المعمورة، في البر أو البحر، أو من رجالكم الذين جاهدوا في سبيلكم، أو كانوا

من النساء والأولاد الذين أخرجوا من ديارهم في المدينة المنورة وأرمينية ، وقتلوا

في الصحراء. فإن كل واحد من هؤلاء مات بسبب واحد ولغاية واحدة، وعلينا أن

نعتقد أن هؤلاء الأبرياء لم يكونوا سوى ضحية القصد الذي ماتوا في سبيله وهو أن

الشعوب المظلومة أيامها ، وأن العالم ينال سلامًا عامًا دائمًا، تلك هي الغاية

العظمى التي ماتوا لأجلها، ولنأت الآن إلى تشريح أقسام هذه الغاية، ومنها ما هو

أمامنا.

هذه مدينتكم دمشق التي كانت مطلع التمدن في الزمن الماضي أصبحت

متأخرةً خربةً، وبعبارة أخرى متقهقرةً، وهذا المكان ربما كان ملك أحد أولئك

الأقوام الذين ضحوا بأنفسهم، وإذا نظرنا إلى هذه البلاد نظرةً عامةً لا نرى سوى

خرائب ، ونشاهد آثار الحكم الجائر خلال 400 سنة تحكم فيها الأتراك، وإذا أمعنا

النظر أكثر من ذلك نجد شيئًا آخر لم يتمكن التركي نفسه من تخريبه.

إن هذا الميل الطبيعي إلى الاتجار والاستثمار الذي بنى تدمر ، والشجاعة

والحكمة اللتين اتصف بهما العرب، وتلك الصفات صفات الشجاعة والإقدام التي

كانت ملازمة لخالد بن الوليد - لا تزال للجندي العربي، وإن الرجولية والشهامة التي

اتصف بها صلاح الدين لا تزال للعرب.

إن الميل إلى الشعور والآداب الذي أوجد الشعر القديم ، وكان الباعث على

وضع كتب التصوير والنقوش التي تعلمناها نحن منكم لا تزال موجودة عندكم،

وإن الميل إلى العلم الذي شيدت أركانه في بغداد وقرطبة ، والذي نقلناه نحن

الأوربيين عنكم لا يزال لكم.

إن الطبيعة قد وهبتكم هذه الهبات التي فطرتم عليها، فلا التركي ولا العفريت

ولا الشيطان يستطيع نزعها منكم.

والآن أنتقل إلى الأمر الآخر، إن هذه الهبات موجودة لديكم أولاً وآخرًا؛ فإن

العرب هم الذين أفاضوا روح التمدن على العالم كله ونشروا ضياء العلم الساطع،

ولكن - ويالسوء الحظ - إن زمن النور الذي انبثق من جانب العرب كان قصير

المدى.

دققوا في التاريخ واسألوا أسفاره تخبركم أن الممالك العربية كانت قصيرة

الأعمار لم يمتد زمن ملكها طويلاً، فلم يَسُد الهاشميون ولا الأمويون ولا

العباسيون أكثر من قرن أو قرنين ، وتأملوا أن هارون الرشيد ذلك الخليفة الذي

مات حاكمًا لجميع البلدان قد أباد ولداه ذلك الملك العظيم، فعليكم أن تحاذروا الوقوع

في هذا الأمر ، ولا تدعوا نهضتكم تكون قصيرة العمر.

إن تمدنكم السابق كان مثل ينبوع ماء عذب تفجر في الصحراء فوق أرض

رملية صخرية، فلم يمض عليه قليل حتى أنبت أزهارًا ونباتات ، ثم علت الغزالة

فأحرقت تلك الأزهار ، وعادت تلك القفار إلى حالها ، وهذا كان خطؤكم العظيم.

في رايتكم شارة سوداء فلتكن هذه الشارة رمزًا يذكركم بالماضي ويحذركم من

الوقوع فيه ، ويدعوكم للاجتماع والاتحاد، فكفاكم 400 سنة قضيتموها في الظلم

والاستبداد، لقد مضى هذا الدور والحمد لله، فقابلوا المستقبل بثبات وعزم وشجاعة

وانظروا إلى باطن الأرض ، وتأملوها واستخرجوا كنوزها ومخبئاتها.

انظروا إلى القرى، انظروا إلى كثرة وفيات الأطفال، انظروا إلى هذه

الطرقات الخربة، انظروا إلى هذه العاصمة العظيمة ، وإلى أية حال وصلت من

الخراب مع أنها ربما كانت أغنى دولة في العالم.

إذا أحببتم إحياء هذه الأراضي فهي تحتاج إلى جميع قواكم ، وقوانا نحن

الحلفاء أيضا؛ لنحيا حياةً طيبةً سعيدةً طويلةً لا قصيرةً تتجاوز المائة أو المائتين

أو الثلاثمائة قرن [كذا ولعل أصله سنة] وأرجوكم بعد ذلك أن تضعوا ثقتكم في

أمر واحد، هذا الأمر هو الفكر الجديد الذي انتشر في أوربا.

اعلموا جيدًا أن السياسة الأوربية قد تغيرت نحو الشرق ، وأن السياسة السرية

والاستعدادات الحربية التي قادت أوربا إلى هذه الحرب الطاحنة قد ذهب زمنها ،

وأنه توجد روح جديدة تنتشر في أوربا، وأن الأوربيين لا يفكرون في توسيع

ممالكهم بل في تمدين الأمم الذين حاربوا لاستقلالهم.

وأرجو منكم قبل الجلوس أن تفكروا جيدًا في مستقبل أبنائكم الذين لم يولدوا

بعد، وفي أجدادكم الذين ماتوا من قبل، والسلام عليكم اهـ.

***

خطبتا بيكو وسايكس في حلب

زار علي رضا باشا الركابي الحاكم العسكري للشام والمسيو جورج بيكو مندوب

فرنسا والسير مارك سايكس مندوب إنكلترا مدينة حلب فأقام نادي العرب حفلةً

إكرامًا لمسيو جورج بيكو ممثل حكومة فرنسا حضرها الشريف ناصر ، والحاكم

العسكري العام ، ورجال الحكومة العربية ، وكثير من ممثلي دول الحلفاء وجم من

العلماء والأدباء والرؤساء الروحيين والأعيان، فابتدأ الكلامَ رئيسُ النادي مُرحبًا

بالقوم وتلاه أحمد أفندي الأبري فألقى خطابًا بديعًا ، ثم خطب بالفرنسية يوسف

أفندي سركيس ، ونهض بعده مسيو جورج بيكو وألقى خطابًا بالإفرنسية عربه

أمين أفندي غريب هذه خلاصته [1] :

خطبة مسيو بيكو

حضرة الحاكم العام وأيها السادة:

أشكركم كثيرًا لأنكم سمحتم لي اليوم بأن آتي وأحمل سلام فرنسا الظافرة

إلى ممثلي الحكومة العربية العظيمة؛ إذ ليس لنا بهجة في هذا الظفر أعظم من رؤية

مثل هذا المحفل، فهو بداية عمل كريم نتج عن الحرب ، هو انتهاء الاستبداد التركي

وتقرير الحرية لشعب عظيم يديره رجال عظام.

كل يعلم ما هي الأسباب التي جعلت هذه الحرب حربًا خاصةً بفرنسا، إذ قد

كان منذ سبع وأربعين سنة في جنبنا جرح غير مندمل وكان لا بد لنا من الانتقام،

ولكن كنا نجتنب الحروب لشدة هولها على الإنسانية، فلما جاء اليوم الذي تجمعت به

القوى البربرية في العالم اضطررنا إلى محالفة قوى التمدن إبقاءً عليه من الشر

المحدق به فانضمت إلينا إنكلترا ثم العرب ثم إيطاليا ثم أميركا ، وبغية كل منهم

الوصول إلى يوم يأمن فيه كل شعب على حريته واستقلاله (تصفيق حاد) .

لا شيء يرضي فرنسة ويسرُّها كرؤيتها حكومة نشأت بالأمس وأخذت تتقدم

وترتقي يوما بعد يوم في هذه الأماكن المحررة من الاستبداد ، وغدًا مع تمام الصلح

لابد أن يزول الحكم العسكري الذي ترونه اليوم مع مناطقه الحاضرة التي اقتضتها

ضرورات الحرب فيطل عليكم نور يوم جديد وعظيم، فليوحد العرب جميعًا كلمتهم

ومساعيهم من حلب حتى أقاصي الصحراء ولينبذوا كل شقاق مهما اختلفت عقائدهم

أو عاداتهم ، وليبذلوا ما بوسعهم من الإقدام أمام هذه الغاية المنشودة.

(حاربت فرنسا أربع سنوات توصلاً للنتيجة التي نراها الآن ، ولها الطالع

الأسعد بأن ترى الحكومة العربية شديدة الأزر محترمة من الجميع ، وتحل بالاتفاق

المتبادل جميع المسائل التي يشكلها عمران سورية وحرية اتصالها بالبحر؛ لأن

اتصالها بالبحر ضروري ولا بد لها منه (؟) ولكن يجب عليكم يا رجال سوريا

ومستقبلها البرَّاق أن توحدوا كلمتكم لتبلغوا هذا النجاح؛ إذ إنكم محاطون بالأعداء

الذين رأيتهم أنا والسير مارك سايكس، حيث كنا نجهر بحقوقكم أمام أوربا ، فكانوا

يتذرعون لإحباط مساعينا متلبسين بزي الأصدقاء فما آبوا إلا بالفشل إذ صممت

الحليفتان على الاعتراف بحكومة عربية كبيرة مستقلة) اهـ.

***

خطبة السير مارك سايكس بحلب

ونهض بعده السير مارك سايكس فقال:

أيها السادة الكرام والمسيو جورج بيكو المحترم، أتكلم اليوم وأنا مرتاح

الضمير، إذ حزت الانتخاب في مجلس الأمة، فأصبحت قادرًا على إتمام العمل الذي

زاولته من أجلكم.

(طرق مسامعكم الآن ما قاله المسيو جورج بيكو وأزيده تأكيدًا، أنه قل أن

يشتغل إنسان كما اشتغل هو في معاونة المبدأ العربي وقد ظهرت نتائجه جليةً) .

(تذكرون ما هي الأيام السوداء التي اضطررنا لاجتياز مراحلها ، فإن الأيام

السعيدة التي نحن فيها الآن لا تنسينا مكاره تلك الأيام ومتاعبها التي كان يشاطرني

مضغها المسيو بيكو الذي لم يقنط قط من نجاح المبدأ العربي رغم ما كنا نلاقيه من

العراقيل الجمة، وأهول بها من عراقيل؛ لأن العدو إذ ذاك ألمانيا وجيشها الجرار

الذي هو أكثر جيوش العالم انتظامًا) .

(كانت بريطانيا سيدة البحار ، وما كان يخطر على بالها ما كانت تدبره لها

عدوتها ألمانيا من المكايد البحرية، ألا وهي الغواصات.

إن العدو الذي كنا نصادمه هو ذاك القادر ذو العظمة والجبروت (ألمانيا)

فمن ذا الذي يستطيع أن يقول سواء كان إنكليزيًّا أو عربيًّا أو إفرنسيًّا أو إيطاليًّا أو

أميركيًّا: أنا الذي أنزلت ألمانيا من حالق عظمتها، وضربت خنزوانة كبريائها؟ لا

يستطيع أحد أن يدعي هذه الدعوى ، وأنه لم يقهرها إلا الله وحده ، إن القدرة الإلهية

التي منحتنا هبة النصر العظيمة تأمرنا بالمحافظة عليها والانتباه كيف يقتضي أن

نستفيد منها؛ لأننا إذا أسأنا استعمالها فهي تستردها منا.

والآن أريد أن أقدم كلمةً على سبيل النصيحة لكافة الحاضرين هنا ممن يتكلم

بالعربية ، وهي قصيدة (إذا) .

وعندها أنشد قصيدةً لأحد شعراء الإنكليز عنوانها (إذا) ضمت من الحِكم

الرائعة ما أصاخ له الجمهور وقابله بالاستحسان.

وعقب ذلك نهض توفيق أفندي شامية وألقى خطابًا بديعًا ، وانفضت الحفلة

والجذل بادٍ على أسرة الجميع. اهـ ما في الأهرام.

***

(6)

أقوال جرائد الحلفاء

رأي حكومة الحجاز

جاء في آخر مقالة افتتاحية طويلة نشرت في العدد 240 من جريدة القبلة

الذي صدر في مكة المكرمة يوم الخميس 15 ربيع الأول ما نصه:

(وها مقطمنا الأغر ينقل لنا في عدد 9038 الصادر بتاريخ 26 صفر 1337

من تصريحات أم صحف العالم ، ولسان حال الشعب البريطاني الذي أثبت فضله

على العالم ومنته على مجتمعه، ولا حرج بمواقفه وثباته واقتداره السياسي

والحربي والمالي ، أما أهوال سنيننا هذه الأربع من حسن نواياها وآمالها وما

تريده ثقةً واعتمادًا على معاشر العرب بقوله (من بحث سياستها القديمة التي

كانت ترمي إلى تسنيد تركيا وشد أزرها على أعدائها وأخذنا نحاول البحث عن بديل

حر يحل محل السلطة العثمانية البالية الفاسدة، ومن هؤلاء الأبدال الذين يحلون

محل تركيا العرب، أما سواهم فلسطين الجديدة وأرمينيا الجديدة) .

(نرحب ونؤهل ونسهل بمن أنزلنا محل ثقته، وتوسمنا بالأهلية لمصادقته،

ولا ريب فإن على مثل هذا يتنافس المتنافسون ولمثله فليعمل العاملون) .

(ألف ألف أهلاً وترحيبةً، وأضعافها شكرًا لمحسن الظن، وإنا لا نجيبه

بما قال أحد أشياخ جاهليتنا: أهملني صغيرًا وحملني كبيرًا، ولكن نقول: إن

العرب اليوم هم كالأشبال أو أفراخ الشياهين والبازي المحتاجة لصيانة آبائها) .

(ومع هذا فستجدهم أيها الداعي المحسن الظن - إن شاء الله تعالى - من

حيث تريد، وتراهم بعنايته بيت القصيد ، فإليكم بني يعرب ما أوتيتموه من طموح

الأنظار إليكم، وآمال أجل شعوب العالم فيكم، فانظروا ماذا تأمرون بعد ما وصفكم

ذلك الشعب بما وصف، فأجيبوا داعي المكرمات، وحققوا في نجابتكم التصورات

وكونوا خير أمة أحيت مندرس معالم سؤدد أسلافها للناس، ولأنتم أرفع وأسمى

من أن تذكر له نكبات التخاذل وموارد الأتعاس، أو تسيئوا بقولنا الظن وعكس

القصد، وايم الله إنه الحق. ونكرر ما أشرنا إليه في أعدادنا السابقة بأنا معاشر

الحجازيين ولا شيء من الرياسة أو السيادة إن كانت في سوري أو في يمني أو في

حجازي ونحوه، ولا يهمنا، ورب الكعبة إلا توليكم لبلادكم كتولي الشعوب المحررة

لبلادها، وإن داء الشامي هو داء اليماني، وإن في شقاء الآخر شقاءً للأول، وإن ما

يصيب أحدهما يصيب الآخر من خير أو عكسه، ومتى تفطنهم في أن أبسط دليل

على هذا قيام الحجازيين ونهضتهم وهم ولا شيء مما أصاب إخوتهم من الضيم

الذي سارت بأنواعه الركبان، علمتم أنهم أدركوا تلك الغاية الجليلة ، واغتنموا تلك

الفرصة لتحليهم بجلائلها، وأن يمتعهم بدعة العيش التي هم بها على مسمع من أنين

المضطهدين من إخوانهم عار عظيم لا يغسله إلا دماؤهم، وكان بفضله ما كان فلا

تعقموا النتيجة ، ولا تهدروا تلك الدماء الزكية، والنفوس الأبية) اهـ كلام القبلة

بحروفه.

(المنار)

إن عبارة جريدة القبلة - على ما فيها من الغلط والمعاظلة - صريحة في

اتفاق حكومة الحجاز مع حكومتي الحليفتين إنكلترة وفرنسة في أمر الولايات العربية

العثمانية وأهمها مسألة فلسطين الجديدة، ولكن جاء في جرائد الحلفاء، ولا سيما

جريدتي الطان والتايمس كلام من مذكرة الأمير فيصل التي قدمها للمؤتمر ما يجلي

المقاصد كما ترى.

_________

(*) تابع لما في الجزء الأول.

(1)

منقول من عدد 28 ربيع الآخر الماضي 30 يناير (ك2) من جريدة الأهرام.

ص: 91

الكاتب: عن جريدة المقطم

‌الدولة العربية القادمة [*]

هذا عنوان مقالة افتتاحية للتايمس في 7 فبراير عربناها فيما يلي:

(شهد فيصل الأمير الحجازي جلسة المؤتمر في باريس أمس وبسط قضية

أمته ، ويندر أن يكون بين المواضيع التاريخية ما يجهله الجمهور في (بريطانيا)

جهله لتاريخ العرب وما قد يكون لهم من الشأن كأمة في المستقبل، وقد كان السير

مارك سيكس أعظم رجال الدولة البريطانية اهتمامًا بوصف البواعث التي حملت

البريطانيين على تعضيد العرب في حربهم الطويلة مع الترك.

إن الإمبراطورية العربية القديمة التي كانت تمتد في أوج عزها من بغداد إلى

قرطبة (المقطم: كذا في الأصل والصواب أنها كانت تمتد من بلاد فارس إلى

قرطبة) كانت أفضل حكومة قامت بين انحطاط الإمبراطورية الرومانية ونشوء

أوربا الحديثة ، ولعلها كانت أمتن جسر للحضارة في العصور الوسطى، وكان منشأ

هذه الإمبراطورية في الحجاز الذي تكلم الأمير فيصل باسمه في باريس، وكان

للإمبراطورية العربية تهذيب وحضارة خاصان بها خلافًا للسلطة العثمانية، ومما

اختلفت به عن السلطة العثمانية أيضًا أنها عرفت كيف تنتفع أعظم انتفاع بجميع

العناصر التي اتصلت بها حتى لقد دعي عصر عظمتها وعزها العصر الذهبي

للشعب اليهودي ، والحقيقة أن وجوه الشبه بين العرب واليهود لا تقتصر على ما

بينهما من القرابة وصلة الرحم ، بل تتناول ما بينهما من الشبه العظيم في تاريخهما،

فقد أضاع اليهود قوميتهم بالنزاع الشديد الذي وقع بينهم وبين الإمبراطورية

الرومانية ، فحل العرب محل اليهود ، وصاروا قادة الأفكار بين الشعوب السامية،

ثم سقط العرب فريسةً للمغول الذين غزوا بلادهم ، واستولى الترك على الميراث

الذي ورثه العرب من اليهود، وقد كان الأنبياء اليهود أنبياءً عربًا ، وعند الشعبين

كثير من الأخبار ، والأقاصيص التقليدية التي يشتركان فيها ، وبينهما شبه كثير في

تاريخهما، فقد فقدا قوميتهما وانفصل الواحد عن الآخر بتبعيتهما السياسية للبلاد

التي اختارها للإقامة فيها.

والمأمول أن يعالج المؤتمر مشكلة التصرف في أملاك تركيا التي أخذت

منها ويعدها وحدةً كاملةً، فهنالك العرب كما تقدم ، ويليهم اليهود وآمالهم القومية

في فلسطين ، وبعدهم الأرمن، فمستقبل الشرق يتوقف كثيرًا على ما يكون من

الاتفاق بين هذه الأجناس الثلاثة التي سيكون لها أوطان قومية في القريب العاجل ،

ومصير كل منها يهم الآخرين ، فإذا أبدل الحكم العثماني الذي حافظ - ولو في

الظاهر- على وحدة تلك الأنحاء مع أنه لم يفعل شيئًا لترقيتها ماديًّا أو أدبيًّا أو

عقليًّا، إذا أبدل هذا الحكم بمنافسات ومناظرات محلية كان هذا الإبدال مصابًا.

إن المرء يتطلع إلى جامعة عربية تمتد من دمشق إلى بغداد ، ولها منافذ

تجارية إلى البحر المتوسط والبحار الشرقية، وقد لا تكون إمبراطوريةً واحدةً

متجانسةً ، ولكن يمكن أن تكون ولايات متحدة ، وتكون هنالك دولة (أجنبية)

منتدبة ، ويرجح أن هذه الإمبراطورية الجديدة تستعين كثيرًا بمقدرة يهود فلسطين،

كما استعانت إمبراطورية العرب القديمة بيهود أفريقية وأسبانيا ، فيجد اليهود بذلك

لمقدراتهم مجالاً جغرافيًّا أوسع من فلسطين التي هي ليست سوى بلد صغير،

وحينئذ تتحد أعمال الشعبين في إنهاض الشرق من كبوته.

ويشترط لبلوغ هذا الغرض شرطان جوهريان ، الأول: أن تنال اليهودية

ميراثها التام في فلسطين فلا يكون في الدنيا مسألة اسمها (فلسطين الشهيدة)

والثاني: أن يتملص يهود فلسطين من نفوذ الأعمال المالية عليهم فلا ينصرفوا إلى

اغتراف موارد الشرق المادية ، بل يتخذوا لأنفسهم ضربًا من الحضارة الصحيحة

من البلاد نفسها ، ويوجهوا همهم إلى إنشاء تهذيب حقيقي خاص بها يطابق المبادئ

السامية الإنسانية التي وضعتها جمعية الأمم، وتحقيق هذه الأمنية يهم العرب كما يهم

اليهود تقريبًا) اهـ.

_________

(*) منقولة عن المقطم 24 جمادي الأولى - 25 فبراير.

ص: 100

الكاتب: عن جريدة المقطم

‌الأمير فيصل في المؤتمر [*]

نشرت (المورننج بوست) في 8 فبراير التلغراف التالي لمكاتبها الباريسي

وهو:

(ظل الأمير فيصل يتكلم في مجلس العشرة عشرين دقيقةً، فكان أوجز

المندوبين الذين سمع المجلس أقوالهم، وكان وقع كلام الأمير شديدًا في نفوس

أعضاء المجلس حتى قال أحد هؤلاء الأعضاء: إن وقع كلامه كان كوقع كلام

المسيو فنزيلوس، وكان الأمير يتكلم بالعربية، والكولونيل لورنس يترجم كلامه

إلى الإنجليزية ، ثم ينقل ترجمان كلام هذا إلى الفرنسوية، وكان الأمير يتكلم

ببلاغة وحكمة وفاز فوزًا كبيرًا؛ لما ذكَّر سامعيه بأن مملكته دامت في عالم الوجود

تسع مائة سنة.

وخلاصة أقواله: أن والده ملك الحجاز لا يطلب أن يضم شبرًا واحدًا من

الأرض إلى مملكته، ولكنه يطلب للعرب - ويريد بالعرب الشعوب التي تتكلم

العربية - حق تعيين مصيرهم بحسب نظام التوكيل الدولي ، وهو النظام الذي يعتقد

أن البريطانيين مستعدون لتطبيقه على عرب الحجاز (؟) ولكنه لا يصر على

توكيل دولة دون أخرى ، ولا ينطق باسم عرب أفريقية، ولا يعارض الفرنسويين

إلا حيث يحتمل أن يعارض الفرنسويون في مطالب الذين كانوا حلفاء دول الاتفاق

أكثر من ثلاثة أعوام.

ومما هو جدير بالذكر هنا أن فيصلاً طَلَب العِلم في الآستانة في حكم عبد

الحميد وقضى أعوامًا في مدارسها ، فهو لا يجهل تاريخ السياسة الأوربية الحديث،

والصحف الفرنسوية تراعي قواعد اللياقة والمجاملة معه إذا استثنينا بضع جرائد لا

يعتد بها.

وليس ثمة تنافر جوهري بين مصالح إنكلترا ومصالح فرنسا، ولكن يجب

حل هذه المسألة بأسرع ما يستطاع ، وعندي أن هذا هو تعليل قرار المجلس

الفجائي على أن يسمع أقوال الأمير.

وقد وصفت جريدة (الغلوي) الأمير فيصلاً بقولها: إنه عميل للحكومة

البريطانية ، ذكي غيور ، وقالت: إنها مقتنعة بأن المستر لويد جورج سيخفف

من حدته، واهتمت به الصحف الأخرى، ولكنها اهتمت أيضا بالكولونيل لورنس

اهتمامها بالأمير.

وحادَثَ الأمير فيصل مندوب جريدة إكسلسيور، فأشار إلى الأقوال غير

الصحيحة التي قالها الصحافيون الفرنسيون والبريطانيون عنه وعن المسألة

العربية بالإجمال ، ثم قال: (إن الحجاز لا يطمع بالتوسع وبسط السيادة ولا

يرمي إلى ملك الشرق الأدنى ، ولا يروم فتح البلدان) ثم قال: (وجل ما أطلبه

هو تطبيق قاعدة الدكتور ولسن الخاصة بحق الشعوب في تعيين مصيرها على

العرب في آسيا الصغرى، إن تحرير العرب لا يلاشي النفوذ الموجود، أو الذي

يسعون لإيجاده في سورية ، ولكنه يرقي هذا النفوذ بالطرق السلمية باجتناب كل

نزاع قد ينشأ عن مقاصد ضم الأملاك المستور بستار كثيف أو شفاف، فالعرب

يطلبون أن يعاملوا كما يُعامَل اليونان والصربيون والبلغاريون الذين خلُصوا مثلهم

من استبداد الترك) اهـ.

_________

(*) عن عدد المقطم المنقول عنه ما قبله.

ص: 101

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌رد المنار على الناقد لذكرى المولد النبوي

تتمة [1]

الموضع الرابع عشر

افتتان آل البيت بالغلاة فيهم

أشار الناقد إلى قولنا في حاشية ص43 من ذكرى المولد بعد الثناء على آل

البيت النبوي العلوي: وإن فتن الكثيرون منهم بغلاة المحبين، فكانت فتنتهم لهم

أعم وأدوم من فتنة الأمراء الظالمين؛ إذ كان من أثرها في ذريتهم أن ترك

أكثرهم العلم والأعمال النافعة استغناءً عنهما بشرف النسب غافلاً عن قول جدهم

علي المرتضى- كرم الله وجهه -: (قيمة كل امرئ ما يحسنه) إلخ، وقال:

(ولعل المناسب: وإن فتن بعضهم واغتر بشرف نسبه وترك العلم والأعمال

النافعة غافلاً عن قول جده علي، إلخ؛ لأن إثبات الفتنة للأكثرية ينافي آية التطهير

كما لا يخفى) .

ونقول في الجواب: إننا لم نثبت الفتنة للأكثرين منهم، بل للكثيرين، وإنما

ذكرنا أن أكثر ذريتهم - أي: المتأخرين منهم - تركوا العلوم والأعمال النافعة للأمة

استغناءً عنهما بشرف النسب، وهذا أمر مشاهد معروف في الأقطار كلها؛ فإنك قلَّما

تعد في بطن من بطونهم المشهورة المعظمة بنسبها علماءً محققين يؤخذ عنهم العلم

والدين، أو رؤساء جمعيات ومصالح يرجع الناس إليهم في أمور دينهم ودنياهم،

فإذا كان هذا هوالواقع فهو حجة على أن الآية الكريمة ليست بالمعنى الذي يقول

به الناقد، وإن لم يكن هو الواقع فليرده بسرد أسماء العلماء الأعلام منهم في الحجاز

واليمن وسائر البلاد العربية والعجمية، وبيان نسبتهم العددية إلى الجاهلين المثبتة

أنهم هم الأكثرون عددًا، وقد عُلم مما أوردناه في تفسير الآية من الجزء الماضي أن

الآية في أفق غير أفق هذه المسألة.

فالتحقيق أن قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ

وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: 33) إلخ، تعليل لما قبله من الأوامر والنواهي التي

خوطب بها نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وما قرنت به من الوعد بمضاعفة

الأجر على الطاعة والوعيد بمضاعفة العذاب على المعصية، أي إن الله تعالى

لا يريد بذلك إعناتكم والتضييق عليكم يا أهل البيت، وإنما يريد به إذهاب

الرجس عنكم وتطهيركم بحملكم على امتثال ما أمركم به والانتهاء عما نهاكم عنه،

فهو كقوله تعالى في تعليل الأمر بالوضوء والغسل والتيمم:

{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ

عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة: 6) .

خاتمة النقد في العترة والسنة

أشار الناقد إلى ما ذكرناه في تلك الحاشية من اختلاف الرواية في حديث

الثقلين؛ إذ فسر الثقل الثاني في بعضها بالعترة وفي بعضها بالسُّنة، وقال: يظهر

للعاجز أن رواية الأبدال المذكورة على حذف مضاف، أي: حملة سنتي، فتكون

مخصصةً للرواية الأولى، كما أن الأولى مخصصة للثانية، فالمعنى: حملة سنتي

الذين هم من عترتي، أو عترتي حملة سنتي، وأيضًا يظهر أن المراد بالطائفة من

أمته التي لا تزال ظاهرةً على الحق قوَّامة على أمر الله إلى أن تقوم الساعة: هم

عترته الحاملون لسنته، والله أعلم.

أقول: إن هذا الجمع بين الروايتين قوي في المعنى ضعيف في اللفظ؛ فإن

حذف المضاف لا يجوز إلا حيث تدل عليه القرينة، كقوله تعالى:{وَاسْأَلِ القَرْيَةَ} (يوسف: 82) وأما قوته في المعنى فظاهرة، وذلك عين ما أردناه بقولنا في

أصل ذكرى المولد: (فتوفي صلى الله عليه وآله وسلم تاركًا للأمة ما إن تمسكوا

به لن يضلوا من بعده: كتاب الله وسنته في تبيينه، وعترته العاملين بهما من أهل

بيته) وأقول الآن: إنهم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين، وقد هدم الناقد بقوله هذا

جل ما كان بناه من جعل معنى هذين الحديثين وما ماثلهما عامًّا شاملاً للسلالة العلوية

الفاطمية، من وُجد منها ومن يوجد إلى يوم القيامة. حتى إنني استغربت منه قوله في

نقد الموضع الرابع عشر: (وإن فتن بعضهم واغتر بشرف نسبه) إلخ، بعد ما تقدم

من تعصبه في المواضع السابقة لكفار قريش من أجلها، على أنه وإن أطلق ما يدل

على ذلك بالإجمال، فإنه لا يعتقده إذا فكر فيه بالتفصيل، ولا نعرفه إلا محبًّا للحق

وخادمًا للعلم وساعيًا إلى الإصلاح، وما ذاك إلا أثر شدة الحب، بأَولى الناس

وأجدرهم بالحب.

وإذا كان الصحيح عنده ما قال أخيرًا، فإنني أسأله سؤال مستفيد مخلص أن

يدلني على من يعرف من أفراد هذه الطائفة التي ورد الحديث فيها من أهل هذا

العصر عسى أن يكون لنا بهم من ولاء العلم والأدب وصلة القرابة والنسب، ما

يعيننا على التعاون معهم على خدمة العلم والدين، والله يتولى الصالحين اهـ الرد.

_________

(1)

يراجع بقية هذه المسألة في آخر ص 351 من المجلد العشرين.

ص: 103

الكاتب: محمد رشيد رضا

باحثة البادية

وحفني ناصف

(1)

وفاتهما وترجمتهما

(باحثة البادية) لقب للأديبة الشهيرة (ملك) كريمة حفني ناصف بك،

اختارته لتوقيع ما كانت تنشره من مقالاتها وشعرها في الجرائد كما يفعله كثير من

المتنكرين والمتنكرات في الشرق والغرب، توفيت لعشر خلون من المحرم فاتحة هذا

العام، ثم احتفل بتأبينها في اليوم الثاني من شهر ربيع الأول، وقد كان شهر وفاتها

وما بعده من الفترة التي لم يصدر فيها المنار، وشهر تأبينها ضاق عما أعد له،

فرجونا فيه بأن نكتب شيئًا في ترجمتها وتأبينها في هذا الجزء.

وفي هذه الفترة بين الجزئين توفي والدها الأسيف، وكان قبل وفاتها مريضًا

فضاعف الحزن عليها المرض حتى صار حرضًا انتهى بالموت، وكان سبب موتها

هي الانتقال من الفيوم إلى القاهرة، وهي مصابة بالنزلة الوافدة لأجل مواساته في

إثر انكشاف كارثة كانت سبب مرضه أو سبب شدته، فأصيبت بما ضاعف النزلة،

فكانت القاضية، وقد خسر القطر المصري - بل الأمة العربية - بوفاتهما ركنين من

أركان النهضة العربية للرجال والنساء معًا، كما يتضح ذلك لغير العارف بفضلهما

من أهل الأقطار البعيدة، مما تثبت من ترجمتها الوجيزة.

باحثة البادية

هي كبرى أولاد حفني بك ناصف، عُني بتربيتها وتعليمها وهي في شرخ

الشباب وزمن الجهاد في إصلاح التعليم وترقية الآداب، وضعها في المدرسة

السَّنية، التي هي أرقى مدارس البنات الأميرية، فكانت أول ابنة مصرية نالت

شهادتها الابتدائية، ثم انتقلت من القسم الابتدائي إلى قسم المعلمات العالي، فجدت

حتى نالت شهادة هذا القسم فيه، وكانت الأولى أيضًا، وكان من مبادي التوفيق أن

كان من أساتذتها في القسم الأول الشيخ حسن منصور وفي القسم الآخر الشيخ أحمد

إبراهيم، وهذان الأستاذان في الذروة العليا من مدرسي علوم اللغة العربية وفنونها

في مصر، علمًا وآدابًا وأخلاقًا وحذقًا في التعليم، ثم إنها اشتغلت بالتعليم في

المدرسة نفسها، فكانت خير معلمة كما كانت خير متعلمة، امتازت بالذكاء النادر،

والجد والاجتهاد، والتنزه عما ينتقد من عادات الفتيات في هذه البلاد، فتم لها

بالتعليم ركنان من أركان العلم، أو طوران من أطواره الثلاثة التي لا ينضج عالم

إلا بمجموعها، وثالثها الكتابة والتأليف الذي وجهت إليه عنايتها بعد زواجها،

واختيارها بنفسها شؤون الحياة الزوجية وتدبير المنزل، ولم ينقصها من الخبرة

التي تؤهلها لمرتبة الإصلاح النسائي على وجه الكمال، إلا الحرمان من صفة

الأمومة والقيام على تربية الأولاد، فسبحان من تفرد بالكمال، الذي لم يلد ولم

يولد ولم يكن له كفوًا أحد.

ثم إن والدها زوَّجها برضاها من عبد الستار بك الباسل أحد زعماء العرب

المصريين وشيوخهم، وهو وأخوه الأكبر حمد باشا الباسل رئيسا قبيلة الرماح

المقيمة بجوار الفيوم، وقد امتاز هذان الأخوان في عربان الديار المصرية وغيرهم

بالجمع بين فضائل البداوة ومحاسن الحضارة، والتنزه عن رذائلهما، فمن الأولى:

الوفاء والسخاء والنجدة والمروءة وقري الضيف وإغاثة الملهوف، ومن الثانية:

محبة العلم والأدب وأهلهما والاطلاع على شؤون الاجتماع والعمران، ولهما

مشاركة في هذا وما يتعلق به من مسائل التاريخ القديم والحديث والقوانين، زادتها

معاشرتهما للطبقة العليا من العلماء ورجال الحكومة والسياحة في أوربة وبعض

البلاد الشرقية اتساعًا وصقلاً، ولكن هذه المزايا التي اجتمعت لزوجها وسعة الرزق

التي هي في نظر أكثر النساء خير منها ومن النبوغ في أي علم من علوم الدين

والدنيا، كان يظن أن سيعارضها ما هو أقوى منها في نظر فتاة مصرية تعلمت

التعليم العالي، وهو زي عبد الستار بك العربي من الشملة البيضاء والطربوش

المغربي، ذلك بأن وجهة التعليم بمصر أوربية يقصد بها فرنجة المصريين كما قال

لورد كرومر، ومن شأن اللواتي يتعلمن ويتربين على هذه الطريقة أن ينفرن من

كل ما هو وطني محض من الزي والعادات، ويفضلن كل ما هو تقليد للإفرنج منها،

حتى إن بعض بنات الوجهاء المتعلمات لا يقبلن زوجًا لأنفسهن إلا من كان حاملاً

لشهادة عالية من أوروبة، لذلك استغرب كثير من الناس رضاء (ملك ناصف)

بقرين لها من شيوخ العرب، وإن كان بيته أرقى من بيت أبيها ثروةً، وأوسع

معيشةً. كما يرى القارئ هذا فيما ننقله في هذه الترجمة من تأبين تلميذة الفقيدة

وصديقتها (نبوية موسى) التي هي تلوها في الذكاء والتحصيل، وما ذاك إلا أن

فطرة (ملك) وتربيتها المنزلية وهدي أستاذيها في المدرسة حالا دون إفساد

التفرنج للبها، واستحواذ زخرفه على قلبها، وبذلك كانت جديرةً بمعرفة قيمة رجل

من كرام أمتها، لم يخطبها إلا لعلمها وحسن تربيتها، ففضلته على الشبان

المتفرنجين المتطرسين، المتورنين الذين انسلوا من شرف الصيانة وفضائل الدين.

وجدت الفقيدة من قصر الباسل أجمل منظر يتجلى فيه ذوق المرأة وعلمها

بتدبير المنزل، ووجدت من عبد الستار أوفى زوج تهنأ معه الحياة الزوجية لأديبة

مثلها يتساهمان تفضيل المزايا المعنوية على المظاهر الصورية ، ووجدت من

حريته الأدبية ما مكنها من نشر أفكارها الإصلاحية، ويقل أن يوجد في المسلمين

حتى المتفرنجين منهم من يرضى لزوجه أن تنشر آراءها في الصحف المنتشرة،

وتتصدى لمناظرة أرباب الأقلام فيها، بل أكثر البنات اللواتي يتعلمن في مثل بلاد

أوربة ينتهي بالزواج اشتغالهن بالعلم فلا يجدن بعده وقتًا للتأليف ولا لإنشاء

المقالات للصحف، ولذلك كانت آثار النساء القلمية قليلةً جدًّا بالنسبة إلى عدد

المتعلمات منهن في كل أمة إذا قوبلت بآثار الرجال بالنسبة إلى عددهم، ولكن عقيلة

الباسل لم تجد من بيتها وبعلها إلا التنشيط على الكتابة والنشر.

لآل الباسل هؤلاء ثلاث دور آهلة.

(إحداها) : بجوار مزارعهم وقبائلهم من مديرية الفيوم بالقرب من مدينة

الفيوم وتعرف بقصر الباسل، وهي سكنهم الأصلي، وفيها يكونون في أكثر أوقاتهم.

و (الثانية) : بمدينة الفيوم نفسها.

و (الثالثة) : في القاهرة يقيم فيها حمد باشا أيام انعقاد الجمعيات التشريعية

التي هو أحد أعضائها، ومن يتعلم من ولده في المدارس، ويختلف إليها هو وعبد

الستار بك أيامًا من كل شهر لمصالح لهما في العاصمة، وللقاء أصدقائهما فيها،

ويلم بها أزواجهما أيضًا، وقد حُبب لابنة حفني المقام في قصر الباسل لما فيه من

اجتماع محاسن الحضارة والبداوة، وصفاء العيشة الخلوية مع رفاه العيشة

الحضرية وزينتها، وتسنى لها فيه اختبار حال الفلاحين المقيمين بقرية قصر

الباسل، وسكان الخيام من البدو المخيمين بجواره، فكانت تعاشر نساء الفريقين،

وتتعرف على حال حياتهن الزوجية، ومن ثم انتزعت لنفسها لقب (باحثة البادية) .

ظهر اسم (باحثة البادية) أول مرة في صحيفة (الجريدة) سنة 1326 في

ذيل اقتراح بناء مدفن لعظماء رجال مصر، فرددنا على هذا الاقتراح في المنار

ردًّا دينيًّا رجحنا أن المقترح رجل متنكر فقلنا في أول الرد: نشر هذا الاقتراح بتوقيع

(باحثة البادية) وما هو إلا خيال باحث في الحاضرة، أو تمني متفرنج في

العاصمة، إلخ (راجع ص380 م11) وقد أخبرني عبد الستار بك من عهد

غير بعيد أنها أرادت يومئذ أن ترد على المنار، واستشارته في ذلك فأشار عليها

بأن لا تفعل قائلاً: إنك لن تستطيعي أن تجادلي كاتبًا من أئمة الدين في مسألة دينية

كهذه

ثم إنه علم منها بعد ذلك أنها استنبطت من ذلك أنه يكره لها أن تكتب في

الصحف مطللقًا، فصرح لها بأن ظنها هذا خطأ، وأنه لا يكره أن تكتب ما ترجى

فائدته، فكان هذا بدء حياتها الإصلاحية وخدمتها العامة، فالعامل في هذه الحياة

الاستعداد الفطري، ثم دار النشأة وروحها الوالد الذي نبين كنهه في ترجمته، ثم

المدرسة وروحها من ذكرنا من الأساتذة، ثم دار الزوج وهو روحها، وقد ذكرنا من

أمر هذا العامل الأخير ما يعرف به قدر تأثيره في هذه الحياة، فهذه العوامل هي

التي كونت (باحثة البادية) في حياتها التي تتجلى للقارئ في مقالاتها الخالدة

وآثارها الباقية، ولما لم يجتمع ذلك لغيرها من بنات مصر في هذا العصر كانت في

مسلمات مصر نادرةً شاذةً.

مقالاتها وآثارها القلمية

كتبت مقالات كثيرة، ونظمت بعض القصائد والمقاطع من الشعر، وألفت

عدة خطب في محافل اجتمع فيها مئات من كرائم النساء في القاهرة، وشرعت في

تأليف كتاب في حقوق النساء في الإسلام وفي أوربة لم يتم، وقد نشر أكثر ما كتبت

في الجريدة وجمع بعضه في كتاب سمي (النسائيات) وطبع الجزء الأول منه في

سنة 1328 ، فقرظه نفر من الأدباء والعلماء، وقد ذكرت في تأبينها أن آثارها

القلمية تدور على بضعة أقطاب، أو تدخل في ستة أبواب:

(الأول) : تربية البنات، وتعليمهن في البيوت والمدارس.

(الثاني) : المرأة - تأثيرها في العالم - تأثيرها الخاص في زوجها وولدها

وأهلها - ما ينبغي لها في كل طور من أطوار حياتها - أحوال القرويات والبدويات

والمدنيات - المقارنة بين المرأة المصرية والمرأة الإفرنجية - الجمال والعادات

والأزياء.

(الثالث) : الزواج - سنه - حقوق الزوجين والعشرة بينهما - تقصير كل

منهما فيما يجب عليه - تزوج المصريين بالأجنبيات.

(الرابع) : الحجاب والسفور.

(الخامس) : الرجال والنساء - جناية كل منهما على الإنسانية بجنايته على

الآخر - وظائف كل منهما - مزايا كلٍّ ومساويه.

(السادس) : شجون وشؤون عامة، كوصف البحر، والعيشة الخلوية

والجمال، وأقلها شوارد شعرية في الحال الاجتماعية السياسية.

وقيمة هذه الآثار ومزيتها التي استحقت به الفقيدة الترجمة في المجلات العلمية

والإصلاحية، وتأبين فضلاء الرجال لها في حفلة عامة، هي في نظري أنها

إصلاحية جاءت وسطًا بين آراء المحافظين الجامدين على كل قديم، والمتهافتين

كالأطفال على كل جديد، وأن الكاتبة مستقلة فيها غير مقلدة.

(للترجمة بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 105

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المطبوعات الجديدة

(منتخبات في أخبار اليمن)

من كتاب (شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم) لنشوان بن سعيد

الحميري.

أما كتاب شمس العلوم فقد قال صاحب كشف الظنون فيه ما نصه:

(شمس العلوم في اللغة ثمانية عشر جزءًا لنشوان بن سعيد الحميري اليمني

المتوفى سنة 573 ثلاث وسبعين وخمسمائة، سلك مسلكًا عربيًّا يذكر فيه الكلمة من

اللغة فإن كان لها نفع من جهة ذكره، وذكر في كل مادة أبواب الكلمة واستعمالاتها

ثم اختصره ابنه في جزئين وسماه: (ضياء الحلوم في مختصر شمس العلوم)

أول شمس العلوم: (أما بعد مستحق الحمد) إلخ اهـ ولم يتكلم على المختصر،

وفي مقدمات كتاب المنتخبات كلام عنه وعن مؤلفه ونسخه وسماعه، ومما ذكر

فيها عن المختصر: (الجزء الأول) من كتاب المختصر من شمس العلوم، ودواء

كلام العرب من الكلوم، إملاء القاضي السيد أديب الأدباء وقدوة النجباء، إمام

الأئمة وسراج الظلمة: أبي عبد الله محمد بن نشوان بن سعيد الحميري طول الله

تعالى مدته، وأعلى في الدارين درجته) .

وأما هذه المنتخبات فتدل أن الكتاب معجم لغوي أدبي تاريخي، لكن رأينا عناية

صاحب المنتخبات خاصة بما في الأصل من لغة حمير وتاريخها، ولا سيما ملوكها

وأمرائها وشعرائها وسائر تاريخ اليمن، وفي مادة (س ن د) منه صورة

حروف المسند، وهو خط حمير، قال: وهو موجود كثير في الحجارة والقصور،

وكان يكتب حروفًا مقطعةً كالخطوط الإفرنجية، ولكن يفصل بين الكلم بالصفر

عندهم وهو حرف الألف في خطنا.

طبعت هذه المنتخبات في مطبعة (بريل بليدن) سنة 1916، وكتب على

طرتها بعد ما تقدم من اسم الكتاب المنتخبة منه، واسم مؤلفه (وقد اعتنى بنسخها

وتصحيحها عظيم الدين أحمد) وصفحاتها 119، وإذا أضيف إليها صفحات

الفهارس كان المجموع 163 صفحةً، وهو من الكتب التي طبعت على نفقة أوقاف

ذكرى مستر جب الشهير، وله مقدمات وتعليقات على الكتاب بالإنكليزية، وطبعت

في الجانب الأيسر فيها كلام عن مؤلفه ورواته واختلاف نسخه.

***

(كتاب العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية)

الكتاب من تأليف الشيخ علي بن الحسن الخزرجي، وقد عني بتصحيحه

وتنقيحه الشيخ محمد بسيوني عسل المصري، وطبع على نفقة أوقاف ذكرى مستر

جب بمطبعة الهلال بمصر سنة 1332 هـ - 1914، وأهدي إلينا الجزء الثاني

منه منذ أشهر، ولكن لم يرسل إلينا الجزء الأول، وصفحات الجزء الثاني 320

وهي بقطع المنار وبضم الفهارس إليها تبلغ الصفحات 486 وهو يدخل في ثلاثة

أبواب، الأول منها في أخبار الدولة المجاهدية، والثاني: في قيام الدولة

الأفضلية ووقائعها، والثالث: في قيام الدولة الأشرفية الكبرى وبعض أيامها،

وعسى أن لا نحرم من الجزء الأول وأن نوفق إلى كتابة نبذة في بني رسول عند

تقريظه.

***

(حضارة العرب)

كتاب علمي وجيز صغير الحجم، كبير الفائدة، جمع فيه واضعه أسعد أفندي

داغر خلاصةً من تاريخ العرب في الجاهلية والإسلام في أربعة فصول:

(الأول) : في تاريخ عرب الجاهلية، أو العرب قبل الإسلام.

(الثاني) : في تاريخ العرب بعد الإسلام من عصر الخلفاء الراشدين إلى

العصر العثماني التركي وفيه نبذة في صفات العرب وأخلاقهم وعاداتهم وملابسهم

وآدابهم وآداب الأكل عندهم.

(الثالث) : في علوم العرب اللغوية والدينية والأدبية والعقلية والكونية

والرياضية والسياسية والاقتصادية.

(الرابع) : في فنون العرب الحربية والبحرية والعمرانية، والجميلة.

وقد قال المؤلف في خاتمة كتيبه الجميل: (يرى القارئ مما تقدم أننا أوردنا

في هذا الكتاب بعض مفاخر العرب بغاية ما يمكن من الإيجاز، وأننا اقتصرنا على

كليات علومهم دون جزئياتها وفروعها؛ لأننا لو أردنا الإحاطة بها كلها لاحتجنا إلى

مجلدات ضخمة، وقد جعلنا غايتا من هذا المؤلف الصغير الإشارة إلى ما أحدثه

العرب من الاكتشافات والاختراعات، وما لهم من الآثار الخالدة في عالم الفنون

والصناعة، وما وضعوه من العلوم، وما استدركوه فيها على المتقدمين من تصحيح أو

تكميل مما ثبتت صحته وتناوله الخلف من بعدهم، وهو ليس إلا نقطةً من بحر، أو

جزءًا من كل) .

وفي الكتاب زهاء تسعين رسمًا، بعضها للأناسي المشهورين وأولهم حمورابي

صاحب أقدم شريعة عرفت في التاريخ البشري، وبعضها للمدن والقصور

والمساجد، وغيرها من المباني، وبعضها للنقود والكتابة والأواني والنسيج

والآلات الحربية والعلمية، كالمنجنيق والإصطرلاب والمرصد، وبعضها

للأقطار والممالك، وهو ما يسمونه الخرائط، وهو محرف مأخوذ من مادة (خرت

الأرض) وهو معرفة مضايقها وأنحائها.

كل هذه الرسوم وتلك المسائل الكثيرة قد أودعت في أقل من مائة وخمسين

ورقةً من قطع أصغر من قطع المنار، فقال بعض المنتقدين: إن هذا فهرس لا

كتاب، وهذا قول خطأ ليس بصواب، فإن الفهرس عناوين ناقصة، وهذه مسائل

وقضايا تامة، وعندي أن وجود مثل هذا الكتاب في أيدي القارئين من هذه الأمة

العربية ضروري؛ لأنه خلاصة وجيزة لتاريخ أمتهم المدني يسهل فهمهما

وتعميمها بين جميع الطبقات والأصناف حتى يكون جمهور الأمة على علم إجمالي

بمآثر سلفه ومفاخرهم، يُرجى أن يبعثهم على إحياء مجدهم وتجديد عهدهم.

وينتقد على الكتاب أن بعض مسائله غير محررة، وسبب ذلك أنها ذكرت على

سبيل النموذج لا التحرير والتحقيق، ومن ذلك التفرقة بين بعض العلوم والفنون،

وذكر أعظم رجالها وأئمتها، ويتبع ذلك التساهل في التعبير كقوله في الكلام عن

التصوف: قيل: التصوف نسبة إلى الصوف، أراد أن يقول إن التصوف مشتق

من الصوف، أو أن الصوفي منسوب إلى الصوف الذي كان يلبسه. وفيه أغلاط

طبعية لم تذكر في آخر الكتاب من جدول التصحيح ككلمة (الذكاة) وصوابها

(الزكاة) وكلمة (الفاني الباقلاني) وصوابها (القاضي الباقلاني) كلاهما في ص

153 ، ومثل هذا غير مقلل من فائدة الكتاب التي بيناها، وقد طبع الكتاب بمطبعة

هندية بالقاهرة سنة 1336 وتوجه مؤلفه باسم الأمير فيصل الشهير - جعله تقدمةً له -

فنال منه جائزةً سَنيةً، وهو يباع في مكتبة المنار وغيرها، وثمن النسخة منه 35

قرشا.

***

شذرات

(لقب السيد والسي)

ابتدع بعض الجرائد العربية المحدثة في زمن الحرب إطلاق لقب: (السيد)

على كل أحد، وجعله بدلاً من كلمة أفندي التركية، و (مسيو ومستر) الإفرنجيتين،

فأنكر ذلك السواد الأعظم من العرب، المسلمين والنصارى جميعًا؛ لأن أكثر المسلمين

يخصون بهذا اللقب آل بيت الرسول عليه وعليهم الصلاة والسلام، وبعضهم يجعله

للحسينيين منهم، ويخص الحسنيين بلقب (الشريف) ولا يشذ عن هذا التخصيص

إلى استعمال هذا اللقب لتعظيم كل من يراد تعظيمه إلا القليل من الشاميين والأقل من

غيرهم، ويرى بعض الباحثين أن الأصل في ذلك نزعة ناصبية أو يزيدية، وأما

النصارى فيخصون بهذا اللقب سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام، وبعض كبراء

رجال الدين كالبطرك والمطران، وقد سبق المغاربة والمصريون إلى استعمال كلمة

(السيّ) في هذا المقام، ويظن كثيرون أنها مختصرة من كلمة السيد، والصواب أن

هذا لفظ مستقل، مكسور السين مشدد الياء، ومعناه: المثل، ومثناه:(سيَّان)

مستعمل، وجمعه: أسواء كشبه ومثل، وأشباه وأمثال، وهو جدير بأن يعمم في

الاستعمال.

***

خسارة سورية من رجال العلم والدين

خسرت سورية في أثناء هذه الحرب أكبر رجال الدين فيها علمًا وهديًا

وأخلاقًا: الشيخ عبد الرزاق البيطار، والشيخ محمد كمال الرافعي الطرابلسي، وإننا

ننتظر من أوليائهما أن يوافونا بمذكرتين من تاريخهما نستعين بهما على ترجمتهما.

_________

ص: 109