الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة المجلد الحادي والعشرين
بسم الله الرحمن الرحيم
حمدًا لمن عز وقدر، وغلب فقهر، وخلق كل شيء بقدر، وصلاةً وسلامًا
على خاتم رسله محمد الذي بعثه رحمةً للبشر، ونذيرًا للأسود والأحمر، وأنزل
عليه أحسن الحديث والسير، والمواعظ والعبر، فاعتز وساد من اهتدى بآياته
وادَّكر، وشقي من أعرض وكفر، ولا تزال ميزانًا لسير البشر، في البدو والحضر
{كَلَاّ وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لإِحْدَى الكُبَرِ * نَذِيراً
لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} (المدثر: 32-37) .
أنذر المعتزين بقوة الأجناد والاستعداد للحرب والجلاد، المغترين بكثرة
الأموال والأولاد، وسعة الملك وعمران البلاد، سنته التي خلت في العباد، الباقية
إلى يوم التناد، في سوء عاقبة البغي والفساد، والفحش والسفاد، ذَكَّرَهُمْ بما عاقب
به مَن قبلهم، ثم أنذرهم عذابًا يبعثه عليهم من فوقهم، أو يثيره بهم من تحت
أرجلهم، أو يلبسهم شيعًا بتنازع أطماعهم في الأرض، ويذيق بعضهم بأس بعض،
فتماروا بالنذر، واتكلوا على ما أوتوا من القوى والحيل، اتكلوا على قوة العلم
والنظام ويا لها من قوة، اتكلوا على قوة الدخان السام والآلات الحربية، اتكلوا على
الغواصات، والمدرعات، والنسافات، والمدمرات البحرية، اتكلوا على قوة
الأموال من المواد والنقود الذهبية، اتكلوا على قوة المكر والخداع والتجسس
والمكايد السياسية، أعد كل ما استطاع من قوة لخذل الحق واتباع الهوى، متكلاً
على ما كانوا يسمونه توازن القوى، لاعتقاد الجميع أن الحق للقوة ، أو أن القوة
تغلب الحق، ثم منى كل نفسه بالنصر وأنه صاحب الحق {وَلَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ
لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} (المؤمنون: 71) {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلائِكُمْ أَمْ
لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ
* بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} (القمر: 43-46) .
نسوا أن علم الله فوق كل علم، وقوله:{وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85) نسوا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوةً وأشد بأسًا وتنكيلاً، نسوا
سنته في قوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا
القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء: 16) وسنته في قوله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُواًّ كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ
أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً
مَّفْعُولاً} (الإسراء: 4-5) إلى آخر تلك الآيات والعبر وأمثالها من الأمثال
والنذر {وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} (القمر: 4- 5) .
إن سنن الله - تعالى - في نوع الإنسان، كسننه في سائر الأكوان: حق
وعدل، ورحمة وفضل، إلا أن الناس يبغون على أنفسهم، ويجنون على فطرتهم،
فيضر الفرد أو الجمع منهم ليضر، ويضر لينتفع ويُسَر، أو لينفع ويَسُر، فيعود
ضرره عليه، ويحفر لأخيه أخدودًا فيقع فيه، يفرِط أو يفرِّط أناس في شهواتهم
البدنية، فتنتابهم الأمراض الجسدية، فإذا عرفوا بذلك سنن الله تعالى فيها، وحكمته
في قوادم أسبابها وخوافيها، كانت فائدة الأمراض أعظم من غوائلها، ونفعها أكبر
من ضررها، ويفرِط قوم ويفرِّط آخرون في الشهوات الاجتماعية، فيعبثون
بالحقوق المشتركة والروابط المعنوية، فيهيج البغي والعدوان بين القبائل والشعوب
وتشتعل بينهم نيران الحروب، فتكون فتنةً وبلاءً للجميع، وإن ظهر ذلك أولاً في
فريق دون فريق، ثم تكون العاقبة للمتقين، والنقمة على الباغين والعادين {ذَلِكَ
وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ الله} (الحج: 60)
و (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) والظالم سيف الله ينتقم به ، ثم
ينتقم منه {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِي} (هود: 102) وما كان يظن بأدق الأمم بحثًا في السنن الإلهية، وأوسعها
علمًا بالشؤون الاجتماعية، أن تكون أشد عدوانًا وبغيًا، من أشد القبائل غباوةً وجهلاً
ولكن كان مَثَل هذه الأمم كمَثَل الأطباء الذين تفتك بشبابهم الأمراض والأدواء ،
لإفراطهم في شُرب المسكر، وإسرافهم في الفحشاء والمنكر، وهم أعلم الناس
بضررها، وأبلغهم لسانًا في التحذير من خطرها، وذلك برهان قطعي على أن
علوم البشر أجمعين، لا تغني في إصلاح حال البشر عن هداية الدين، دين الإذعان
واليقين الحاكم على الإرادة، لا دين التقليد الذي لا يخرج عن حكم العادة، وإن ضل
من اغتر بعلومهم فكفر، وفسق عن أمر ربه وفجر وجهل حكمة الله وصنعه في خلق
البشر، فقال بفنائهم وببقاء الحجر والمدر {فَإِذَا بَرِقَ البَصَرُ * وَخَسَفَ القَمَرُ * وَجُمِعَ
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المَفَرُّ * كَلَاّ لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ
المُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} (القيامة: 7-13) .
لقد أتى على أمم الشمال الغربية حين من الدهر لم تكن شيئًا مذكورًا، إذ كان
أهل الجنوب الشرقيون يملأون الآفاق علمًا ونورًا، لا يزال بعضه مرويًّا مأثورًا،
أو مرئيَّا منظورًا، وذهب البعض الآخر هباءً منثورًا، ثم أتى عليها أحقاب نالت
فيها بالعلم والصناعة ملكًا كبيرًا، وتبوأت من تراث ملوك الشرق جنات وقصورًا،
وزخرفًا وحريرًا، وثلت عروشًا رفعها العدل والعلم، ثم وضعها الجهل والظلم
فدمرها تدميرًا، فكانت سيف الانتقام الإلهي منتضىً مشهورًا، ولكن استكبر أهلها
في أنفسهم، وعتوا عتوًّا كبيرًا، ولم يقيموا الميزان الذي يتبجحون به مينًا وزورًا
ولو غيَّر أهل الجنوب ما بأنفسهم، لغير الله ما حل بهم، ولكن أوشك أن
يدور الزمان، ويعود الأمر كما كان {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ
اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً} (الأحزاب: 38) {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا
إِلَاّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} (القمر: 49-50) .
تعارضت بين دول الشمال المطامع، وتنازعوا على ما يصيبون في الجنوب
والشرق من المنافع، فحكم القضاء في قضيتهم المدافع، وكان عذاب ربك واقعًا ما
له من دافع، فقتلوا من أبنائهم في أربع سنين ، أضعاف من قتلوا في حروب
المطامع في عدة قرون، وخسروا في هذه السنوات من الأموال أضعاف ما ربحوا
من جميع الأجيال {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا
وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ
آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 45-46) ولولا أن خلق الإنسان من عجل، لما استبطأ عدل الله في الأمم
والدول، فمن ذا الذي كان يظن من المستعجلين، أو المستبطئين ، أن يرى العالم
في القرون الطويلة ما أرته هذه الحرب في أربع سنين: ثُل عرش قياصرة الروس
القاهرين، وأبعد القيصر وأهل بيته إلى حيث كان يَعتقِل نابغي العلماء والسياسيين،
وتمزقت كبرى سلطنات (إمبرطوريات) الأرض إلى بضع جمهوريات يسفك
بعضها دماء بعض، فثُل عرش السلطنة النمسوية ، وتمزقت إلى عدة حكومات
جمهورية، وتدهور عن عرشه أعز عاهل على وجه هذه الأرض، بعد أن كاد يقضي
على أكثر أمم الشرق مع الغرب، وهو النافذ الحُكم والإرادة في أوسع أمم الأرض علمًا، وأدقهم نظامًا وأمتنهم حكمًا، فكان سقوطه كسلك انقطع فتناثرت الفرائد،
إذ سقط ملوك الجرمان وأمراؤهم واحدًا بعد واحد، وأجبر قبله على الاستقالة ملك
اليونان، وتلاه كل من ملكي البلغار والرومان، وتقلص ظل الترك عن بلاد العرب
والأرمن والأكراد، التي سفك طغاتهم الاتحاديون فيها الدماء، وأكثروا فيها الفساد
{فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} (الفجر: 13-14)
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ
وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ} (آل عمران: 26) ، {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي
مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَاّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلَاّ ذِكْرَى للبشر} (المدثر: 31) .
ومن أكبر العبر أن الله أنقذ أوربة من ظهور الألمان عليها وما كان يُحذر من
سيطرتهم على مستعمراتها بعد إجلائهم عنها، على يد أقل الشعوب الكبرى استعدادًا
للحرب والجلاد، وأبعدها عن طلب السيادة على الشعوب والطمع في البلاد، وهو
شعب الولايات المتحدة الأمريكية، الذي كان له من الفلج بقوة الحق المعنوية، فوق
ما كان له من الظفر بترجيح قوى الأحلاف الجندية والمادية، فإن دعوة رئيسه
(الدكتور ولسن) إلى بناء صلح الأمم على ما وضعه من قواعد الحق والعدل العام،
واستقلال الشعوب والأقوام، والمساواة بين الأقوياء والضعفاء، والأولياء والأعداء -
هو الذي زلزل نظام الشعوب الجرمانية الراسخ البناء، وأظهر الاشتراكيين
الضعفاء منهم على أولئك الجبارين من الملوك والأمراء، فكان به الظفر للقوة
الأدبية على تلك القوة العسكرية والمالية التي أعدت لمقاومة البرية ، {فَوَقَعَ
الحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ} (الأعراف:
118-
119) فعلم بذلك أن القوة للحق، أو أن قوة الحق فوق قوة الباطل {بَلْ نَقْذِفُ
بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (الأنبياء: 18) وإنما بقاء الباطل في
نومة الحق عنه، أو خداعه للحق حتى يوهمه أنه له أو معه أو شعبة منه، أما وقد
استيقظ الحق من رقدته، صرع الباطل وهو في عنفوان قوته ، فلم يبق إلا أن يجرده
من قوة المكر والخداع، التي هي عتاده الآن في الهجوم والدفاع، والكر في ميادين
الأطماع {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ
وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} (المدثر: 18-23) .
قتل الإنسان ما أكفره، إذا مسه الضر لجأ إلى الحق والعدل، والرحمة
والفضل، فإذا نجا منه استبدل الكفر بالشكر، ولجأ إلى الخديعة والمكر {وَإِذَا أَذَقْنَا
النَّاسَ رَحْمَةً مِّنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ
رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ * هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الفُلْكِ
وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ المَوْجُ مِن كُلِّ
مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ
مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا
بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّمَا
مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ
وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا
أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ
لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (يونس: 21-24) هذا هو القول الفاصل بين الحق والباطل
المبين لحال الأفراد والجماعات في اختلاف الحالات والأوقات، ولكن قد ظهر
لفضلاء العقلاء الأمريكيين والحلفاء، بما رزئ به العالم في هذه الحرب من البأساء
والضراء - أنه لا سلام على الأرض إلا بالمساواة في العدل وترك سياسة المكر
والرياء ، ومعاهدات السر والخفاء، واستقلال جميع الشعوب بأمر حكوماتها،
وتأليف عصبة من علماء الأمم للفصل في خصوماتها، وإلغاء جميع المعاهدات
القديمة السرية، وإن عللت بدعوى إرادة الخير وحسن النية، وإنما الخير كله في
الحرية، وهذا ما دعا إليه (الرئيس) جميع المتحاربين، فواثقوه على أن يقبلوه
مذعنين ، وأسر الكيد له بعض الطامعين ليأخذوا بالشمال ما عجزوا عن أخذه
باليمين {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَاّ
بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (الأنعام: 123) وأما أولئك العقلاء فمتفقون على ما
اقترحه (الرئيس) من وجوب الإخلاص، وأن لا منجاة بدونه ولا مناص، إن
لا تفعلوه تكن فتنته في الأرض وفساد كبير، وانقلاب (لمشفي) شره مستطير، أو
تعود الحرب جذعةً بهذه السياسة الخدعة، الخبأة الطلعة {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ
السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} (فاطر: 10) {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ
الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الغَرُورُ} (لقمان: 33) فهذا ما يذكر به المنار
قُرَّاءه في فاتحة مجلده الحادي والعشرين، كدأبه فيما سبق من السنين، مقتبسًا من
الكتاب المبين ما هو ذكرى للمغرورين بقوتهم، وبشرى للمغلوبين على حريتهم
وحجة على اليائسين ، وعبرة للمعتبرين، وإنما العبرة لمن اعتبر، والموعظة
لمن ازدجر {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} (القمر: 17) .
…
منشئ المنار ومحرره: السيد محمد رشيد رضا
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الانتفاع بالرهن هل هو ربا
؟
س1 من محمد فاضل محمد، أحد مشتركي المنار بسنجرج (منوفية)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله (أما بعد) فما يقول الأستاذ
الفاضل الإمام الهمام السيد محمد رشيد رضا - حفظه الله - في الانتفاع بالأطيان
المرهونة المسمى عند الفلاحين (بالغاروقة) هل هو من الربا المحرم الداخل تحت
قولهم: (كل قرض جر نفعًا فهو ربا) أو يقاس على الظهر والدر في قوله صلى
الله عليه وسلم: (الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونًا ، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا
كان مرهونًا) الحديث، أم أن هذا الحديث لا يقاس عليه شيء غير الذي ورد فيه؟
الرجا أن تفيدونا بالجواب ولكم حسن الثواب.
تحريرًا في (5 ربيع الأول سنة 1337)
ج - إن ما ذكر من الانتفاع بالرهن ليس من الربا، وجملة (كل قرض جر
نفعًا فهو ربا) رويت حديثًا، ولم يصح ، بل قيل بوضعه كما بينا ذلك في المنار
من قبل (ص362 م10) في حديث الصحيحين، وغيرهما أن النبي صلى الله
عليه وسلم زاد في قضاء الدين على الأصل، وعده من حسن القضاء، وإنما تكون
الزيادة ربًا إذا كانت مشروطةً في العقد، وأما الانتفاع بالرهن فالحديث الذي
أوردتموه فيه رواه البخاري في صحيحه وأكثر أصحاب السنن وغيرهم، وورد
بألفاظ أخرى، ولكن الانتفاع بالرهن فيه في مقابل النفقة عليه لا في مقابل الدين،
وقد قال بعض الأئمة بالأخذ به في الرهن الذي يحتاج إلى نفقة مطلقًا، واشترط
بعضهم فيه امتناع الراهن من تلك النفقة ، ومنع أكثرهم الانتفاع بالرهن مطلقًا ،
وأجابوا عن الحديث بما لا محل لبيانه هنا، وبعضهم يجيز انتفاع المرتهن بالرهن
بإذن الراهن، وهو الذي جرت عليه جمعية علماء الحنفية، التي وضعت للدولة مجلة
الأحكام العدلية، ومن الناس من يجري في هذه المسألة على طريقة بيع الوفاء، وهو
معروف، ومقرر في المجلة أيضًا.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مبادئ الانقلاب الاجتماعي الأكبر
وحرية الأمم
(1)
شروط الصلح العالمي أو صلح الأمم العام
التي وضعها، وأعلنها الدكتور ولسُن رئيس جمهورية الولايات المتحدة في أول
سنة 1918 ، وقبلتها حكومات الحلفاء، ثم رضيت الحكومات المحاربة لهن بجعلها
قواعد للصلح العام (وذلك قبل التعديلات التي اقتضت الحال إدخالها عليها)
منقولةً عن الجرائد المصرية، ومصححةً على نسخة التيمس الصادرة في 11
يناير سنة 1918.
1-
إبرام اتفاقات الصلح علانيةً، وإعدادها علانيةً، وبعد عقدها لا تبرم
اتفاقات خاصة من أي نوع كان مما يتناول الشؤون الدولية، ولكن الهيئات السياسية
تعمل دائمًا جهارًا، وعلى مرأًى من العالم.
2-
حرية الإبحار في البحر خارج حرم السواحل مطلقةً من كل قيد (حرم
السواحل 6 أميال) سواء كان في زمن السلم، أو في زمن الحرب إلا في حالة
إقفال البحار كلها أو بعضها بأمر دولي عام تنفيذًا لاتفاقات دولية.
3-
إزالة الحوائل الاقتصادية جهد ما تصل إليه الطاقة، وتقرير المساواة في
الصِّلات التجارية بين جميع الأمم التي ارتضت الصلح وتشاركت في تأييده.
4-
إعطاء الضمانات الكافية وأخذها، بأن يُنقص سلاح كل بلد على أقله مما
يتفق مع أمن البلاد في داخلها.
5-
التسوية الحرة المقرونة بالتساهل والنزاهة التامة للدعاوي الاستعمارية،
يكون مبناها الاحترام التام للمبدأ الذي يجعل مصلحة الشعوب ذات الشأن مساويةً
للدعاوي النزيهة التي تدعيها الحكومة المنوي تقرير صفتها، أو عنوانها.
6-
الجلاء عن الأراضي الروسية كلها، وتسوية كل مسألة تتعلق بروسيا
على وجه يضمن لها أحسن المعاونة وأوسعها من جميع أمم الأرض بحيث تقدم
لروسيا الفرصة الموافقة لتقرر دون حائل ولا مانع عرقلة تقدمها السياسي، والقومي،
ويكفل لها بكل إخلاص قبولها في حجر الأمم الحرة بالأنظمة التي تختارها هي
لنفسها، بل يقدر لها فوق قبولها المساعدة التي قد تحتاج إليها أو تتمناها من كل وجه.
والمعاملة التي تعامل بها روسيا من الأمم شقيقاتها في الأشهر المقبلة تكون
الدليل الناصع على حسن مقصدهن، وعلى معرفتهن حاجات روسيا بصرف النظر
عن مرافقهن الخاصة، بل الدليل على عطفهن المعقول وكرمهن.
7-
العالم كله موافق على قصد الجلاء عن البلجيك وترميمها دون أقل سعي
للنقص من سيادتها التي تتمتع بها كسائر الأمم الحرة، ولا يقوم عمل من الأعمال
كهذا العمل في إعادة ثقة الأمم في القوانين التي وضعتها هي ذاتها وجعلتها دستورًا
لصِلاتها المتبادلة، وبدون هذا العمل يتهدم بناء القانون الدولي، وتضيع قيمته إلى
الأبد.
8-
تحرير جميع الأراضي الفرنساوية، وترميم جميع المناطق المجتاحة،
والغرم الذي أصاب فرنسا من بروسيا في عام 1871 فيما يتعلق بالألزاس واللورين،
وهو الغرم الذي كدر صفو العالم في مدة خمسين سنةً تقريبًا - يجب أن يعوض عليها
حتى تعود ضمانة السلم لمصلحة الجميع.
9 -
تعديل الحدود الطليانية يجب أن يتم طبقًا لمبادئ قومية واضحة كل
الوضوح.
10-
تعطى لشعوب النمسا وهنغاريا التي تريد أن ترى مقامها بين الأمم ثابتًا
ومضمونًا، كل التسهيلات لزيادة استقلالها الإداري.
11-
رومانيا وصربيا والجبل الأسود يجلى عنها، والأراضي المحتلة ترمم،
ويضمن لصربيا طريق إلى البحر، وصِلات الدول البلقانية تكون متبادلةً، ومعينةً
بنصائح ودية، وتجري هذه الصلات على قاعدة التقاليد العنصرية المقررة تاريخيًّا،
ويجب البحث الجد في الضمانات الدولية للاستقلال السياسي والاقتصادي وصيانة
الأملاك لدول البلقان.
12-
الأقاليم التركية من أملاك السلطنة العثمانية الحاضرة يجب أن يضمن
لها سلطان وطني وطيد، ولكن الأمم الأخرى التي هي الآن تحت الحكم التركي
يجب أن تضمن لها حياة أمن لا ريب فيه، وفرصة للتدرج في الاستقلال الإداري
لا شائبة فيها أبدًا، وأما الدردنيل فيجب أن يظل مفتوحًا دائمًا كطريق حرة لبواخر
جميع الأمم ومتاجرها، تحت حماية جميع الدول.
13-
يجب إنشاء دولة بولونية مستقلة، وهذه الدولة تتألف من جميع الأراضي
التي لا يجادَل بأن سكانها من البولونيين، وتضمن لهذه الدولة طريق إلى البحر،
ويضمن باتفاق دولي استقلالها السياسي والاقتصادي كما تضمن سلامة أملاكها
وأراضيها.
14-
يجب أن تؤلف من جميع الأمم عصبة عامة باتفاقات معينة يكون
الغرض منها تبادل الضمان للاستقلال السياسي، وصيانة الأملاك على حد المساواة
للأمم الصغيرة والكبيرة.
(2)
خطبة الرئيس ولسن
في عيد استقلال الأميركيين
مترجمة عن عدد التيمس الذي صدر في 12 يوليو سنة 1918
في اليوم الرابع من يوليو (تموز) الماضي احتفلت الولايات المتحدة
الأميركية بعيد استقلالها، فوقف الرئيس ولسن عند قبر وشنطون على جبل فرنون
وخاطب المجتمعين حوله قائلاً:
يسرني أن آتي معكم إلى هذا المحل الاستشاري القديم البعيد عن الضوضاء؛
لأخاطبكم قليلاً بمغزى هذا اليوم الذي هو عيد حرية أمتنا، المكان منفرد، والهدوء
تام فيه، وهو لا يزال بعيدًا عن ضوضاء العالم كما كان في تلك الأيام الخطيرة
الشأن حينما كان الجنرال واشنطون يأتيه مع الرجال الذين اشتركوا معه في إنشاء
الأمة الأمريكية، كانوا يتطلعون إلى العالم من هذا المكان، فرأوه بعين الخيال التي
تنظر إلى المستقبل، رأوه بعين أبناء هذا العصر التي لا يرضيها ماضٍ تنفر منه
النفوس الأبية، ولذلك لا نشعر بأن هذا المكان موقف رجل ميت ولو كان قبره
أمامنا ، فإنه المكان الذي عُمل فيه عمل عظيم، عمل حي، هنا وعد الناس وعدًا
عظيمًا، قولاً وفعلاً، فالذكرى التي تحيط بنا في هذا المكان وتبث النشاط في
نفوسنا هي ذكرى ذلك الرجل العظيم الذي لم يكن موته سوى خاتمة مجيدة لحياة
مجيدة.
ومن هذه الأكمة الخضراء نتطلع بأعين باصرة إلى العالم المحيط بنا،
ونتصور الوسائل التي يجب أن تحرر نوع الإنسان، ومما لا ريب فيه أن وشنطون
وشركاءه أثبتوا بأخلاقهم وأعمالهم أنهم لم يكونوا يقولون ويفعلون لأجل فريق
من الناس خاصةً، بل لأجل الشعب كله، فعلينا نحن أن نثبت أنهم لم يقولوا ولم
يفعلوا لأجل شعب واحد، بل لأجل العالم أجمع، لم يكن اهتمامهم بأنفسهم ولا
بمصالح الملاك والتجار وأصحاب المصالح الأخرى الذين كانوا يعاملونهم في
فرجينيا وما إليها شمالاً وجنوبًا، بل بالشعب كله الذي كان يرغب في نزع
الامتيازات التي تميز ذوي المقامات العليا ونفي الخاصة وإبطال سلطة حكامهم الذين
لم يختاروهم للحكم عليهم.
لم يكن لوشنطون ومشيريه منافع شخصية، ولا طلبوا امتيازات خاصةً،
وإنما أرادوا أن يكون كل إنسان حرًّا، وأن تكون أميركا ملجأً يلجأ إليه كل من يريد
من أمم الأرض أن يشاركهم في حقوق الأحرار ومزاياهم.
فبهدي أولئك الفضلاء نهتدي معتقدين أن اشتراكنا في هذه الحرب هو ثمرة
الغرس الذي غرسوه، والفرق بيننا وبينهم أنه قسم لنا من حسن حظنا أن نشترك
مع أناس من كل أمة في ما تؤمن به حريتنا وحرية كل الأمم، ويسرنا جدًّا أنه
أتيح لنا أن نفعل ما كان أسلافنا يفعلونه لو كانوا في مكاننا، ويجب أن ينال العالم
كله ما نالته أميركا في العصر الذي أتينا لنتذكره ونستمد الإلهام منه.
لا شبهة في أن هذا المكان من أصلح الأماكن لأن نلتفت منه إلى عملنا،
ونوطن أنفسنا على القيام به، وهو من أصلح الأماكن لأن نبين للأصدقاء الذين
ينظرون إلينا، وللحلفاء الذين كان من حسن الحظ أن شاركناهم في العمل ما هو
الدافع الذي يدفعنا إليه، وما هي الأغراض التي نرمي إليها.
فهذا ما نراه في هذه الحرب التي خضنا غمارها. إن أغراض الخصمين منها
واضحة بينة في كل فصل من فصولها، ففي الجهة الواحدة نرى أمم العالم التي
اشتركت في الحرب فعلاً، والأمم التي تئن من السيادة، ولكنها لا تستطيع المقاومة.
أممًا كثيرة في كل أقطار المسكونة، ومنها أمم روسيا التي تقوض بنيانها الآن.
وفي الجهة الأخرى نرى قواد جيوش ورؤساء حكومات لا يرمون إلى نفع
عام، بل إلى نفع خاص، إلى مطامع شخصية لا ينتفع بها أحد غيرهم، وأسيادًا
شعوبهم كالوقود في أيديهم، وحكومات تخشى من شعوبها، ولكنها متسلطة عليهم
تتصرف في دمائهم وأموالهم كما تشاء، وفي دماء كل الشعوب التي تتسلط عليهم
وأموالهم، حكومات ترتدي حلل سيادة قديمة غريبة عن عصرنا ومعادية له.
فهذه الحرب الزَّبون الناشبة بين الماضي والحاضر وشعوب الأرض تستشهد في
معتركها لا بد من أن تكون فاصلةً حاسمةً لا مهادنة فيها، ولا مراضاة ولا توسط، ولا
هوادة.
الحلفاء يحاربون لأجل أغراض أربعة، ولا يلقون السلاح من أيديهم قبل أن
تتحقق كلها:
(الأول) : ملاشاة كل قوة استبدادية تستطيع أن تزعزع أركان السلم إذا
أرادت ولو سرًّا، وإذا كانت ملاشاة القوى الاستبدادية غير مستطاعة وجب على
الأقل إضعافها، حتى تعجز عن الضرر.
(الثاني) : تسوية كل خلاف سواء كان في أرض أو سلطة أو مصلحة
اقتصادية أو علاقة سياسية، على مبدأ (رضا الشعب) الذي تتعلق به تلك التسوية
مباشرةً، لا على مبدأ المصالح المادية والمنافع الشخصية التي تنال شعبًا آخر،
أو تنال قومًا يرغبون في تسوية أخرى لتعزيز سيادتهم أو نفوذهم الخارجي.
(الثالث) : تسليم الشعوب كلها بأن معاملة بعضهم مع بعض خاضعة لمبادئ
الشرف والاحترام لناموس العمران الذي يخضع له سكان كل الممالك العصرية،
وأن علاقاتهم بعضهم مع بعض خاضعة للقانون القاضي بأن كل العهود والوعود
يجب أن تحفظ حفظًا تامًّا بلا دسيسة ولا مخادعة ولا ضرر ولا ضرار، ولتوثيق
عرى الثقة التامة على أساس الاحترام المتبادل والحقوق المتبادلة.
(الرابع) : إنشاء نظام للسلم يجمع قوة الأمم الحرة لمقاومة كل معتد على
الحق، ويحفظ السلم والعدل بإقامة محكمة من الرأي العام يخضع لها الجميع،
ويكون لها حق الفصل في كل خلاف يقع بين الأمم، ويتعذر عليهم فضه.
هذه الأغراض العظيمة يمكن التعبير عنها بجملة واحدة، وهي أننا نطلب
سلطان القانون المؤسس على رضا الرعايا، والمؤيد برأي البشر المنظم، وهذه
الأغراض العظيمة لا تنال بالبحث والتوفيق بين مطالب رجال السياسة، وما
يشيرون به لتوازن القوة لحفظ مصالح الأمة، وإنما تنال بما يصمم عليه العقلاء
الذين يتوخون العدل والحرية.
ويلوح لي أن هواء هذا المكان سيحمل صدى هذه المبادئ إلى كل الأنحاء،
هنا قامت قوات حسبتها الأمة العظيمة التي وجهت لمقاومتها عصيانًا على سلطتها
الشرعية، ولكنها رأتها بعد ذلك خطوةً في تحرير شعبها كما هي خطوة في تحرير
شعب الولايات المتحدة، وقد وقفت الآن لأتكلم والفخر ملء نفسي، والأمل والثقة
ملء جوانحي، عن نشر هذا العصيان - بل هذا التحرير - في أقطار المسكونة.
إن حكام بروسيا الذين عميت بصائرهم أثاروا قوًى لا يعرفون قدرها، قوى
إذا ثارت لا يمكن إخمادها؛ لأنها مدفوعة بعزم وحزم لا فتور لهما؛ لأن النصر
معقود بناصيتهما.
***
(3)
وجوه الحرب أو مقاصدها وجمعية الأمم
خطبة الدكتور ولسن في نيويورك
منقولة عن عدد التيمس الذي صدر في 4 أكتوبر سنة 1918
خطب الرئيس ولسن في نيويورك قبل فتح باب الاكتتاب في قرض الحرية
الرابع بستة آلاف مليون ريال فقال: إنه لم يعمل منبر الخطابة ليروج القرض،
فإن لترويجه رجالاً ونساءً لا تني همتهم ولا يفتر ولاؤهم، وقفوا أنفسهم بحماسة على
عرضه على مواطنيهم في جميع أنحاء البلاد، وسيكون النجاح التام قرين عملهم لما
هو معروف عن حميتهم وحمية البلاد، وهذه الثقة مؤيدة بما يبذله مديرو المصارف
(البنوك) من المعونة الصادقة القائمة على الخبرة والروية، فإنهم يساعدون مساعدةً
لا تثمن، ويرشدون بآرائهم ومشورتهم، ثم قال:
ما جئت لأروج للقرض، وإنما جئت منتهزًا هذه الفرصة لأطلعكم على
أفكار تظهر لكم الأمور التي يدور عليها هذا النزاع العظيم، وتجلوها لعيونكم أكثر
من قبل، فتزداد حماستكم لحمل واجب تأييد الحكومة برجالكم وما عندكم من
الوسائل المادية والبذل والإيثار (وإنكار الذات) إلى أقصى الحدود، فليس في الدنيا
رجل أو امرأة استوعب معنى هذه الحرب، وهو يتردد في بذل كل ما عنده، فمهمتي
الليلة هي أن أشرح لكم مرةً أخرى معنى هذه الحرب ومغزاها لنا، وحسبي هذا؛
إذكاءً لشعوركم، وتذكيرًا لكم بالواجب عليكم، فإنه كلما انقضى دور من أدوار هذه
الحرب، تجلى لنا ما نروم أن نبلغ بها، ومتى هاج فينا عامل الرجاء والانتظار أشد
هياج، ازداد تأملنا في النتائج التي تبنى عليها، والأغراض التي تنال بها، وزاد ذلك
كله وضوحًا لأعيننا، فإن للحرب أغراضًا معينة لم نوجدها نحن، ولا نستطيع
تغييرها، ليست هذه الأغراض من مخترعات رجال السياسة ومجالس الحكومات،
وليس في طاقة الساسة والمجالس تغييرها وتبديلها؛ لأنها نشأت من طبيعة الحرب
وأحوالها، فجهد ما يستطيعه الساسة ومجالس الحكومات تنفيذ هذه الأغراض أو نبذها
خيانةً منهم، ويحتمل أن هذه الأغراض لم تكن جليةً في أول الأمر ولكنها صارت
جليةً اليوم، فقد دامت الحرب أكثر من أربعة أعوام، وخاضها العالم كله، وحلت
مشيئة بني البشر فيها محل مقاصد الدول، ويحتمل أن تكون الحرب أضرمت بيد
فريق من رجال السياسة والدول، ولكن إيقافها فوق طاقتهم وفوق طاقة خصومهم؛
لأنها صارت حرب شعوب، وشملت شعوبًا من جميع الأجناس على اختلاف
لمراتب في القوة والثروة وقد خضناها لما ثبتت صبغتها، وظهر أنه لا يوجد أمة
تستطيع الوقوف أمامها مغلولة اليدين غير مكترثة لنتائجها، وقد تحدتنا الحرب
فتحدت في قلوبنا كل ما نعز في الدنيا، وكل ما نحيا لأجله، وسمعنا صوتها فكان له
رنة في قلوبنا، وسمعنا أيضًا أصوات إخواننا من جميع أقطار العالم، وأصغينا إلى
نداء إخواننا الذين نادونا بعد ما سقطوا قتلى إلى قاع البحار فلبينا دعوتهم بهمة
عظيمة وشجاعة وكان الجو حولنا صافيًا نقيًّا، فرأينا الأمور على حقيقتها، وظللنا
نراها بأعين شاخصة وعقول لم تتغير من ذلك الحين، وقبلنا الوجوه التي
تدور الحرب عليها بحكم الحقائق، لا كما عرفها جماعات من الناس هنا أو في البلدان
الأخرى، فلا يمكننا أن نقبل نتيجةً لا تطابق تلك الوجوه أو لا تحلها.
وهذه الوجوه أو الأمور الجوهرية هي:
هل يسمح للسطلة العسكرية في أمة أو مجموعة من الأمم أن تثبت الحكم في
مصير شعوب ليس لها من الحق في حكمها سوى الحق المكتسب بالقوة؟
هل يجوز للأمم القوية أن تتعدى على الأمم الضعيفة، وتخضعها لمقاصدها
ومصالحها؟
هل يكون حكم الشعوب في أمورها الداخلية بقوة مطلقة غير مسئولة، أم
بمشيئتها واختيارها؟
هل يكون في العالم مقياس عام للحق والامتياز في جميع الشعوب، أم يفعل
القوي ما يشاء ويعذب الضعيف ولا ناصر له؟
هل يوطد الحق اتفاقًا بمخالفات تعقد اعتباطًا، أو تكون هنالك جمعية من الأمم
توجب احترام الحق العام المشترك؟
هذه وجوه للحرب لم يخترها رجل واحد، ولا جماعة من الناس، فهي
ملازمة للحرب، ويجب أن تبت إما بالاتفاق أو التساهل أو بالتوفيق بين المصالح،
ولكن يجب أن كون بتها نهائيًّا مع التسليم التام الصريح بالمبدأ القائل: إن مصلحة
أضعف الخلق مقدسة كمصلحة أقواهم، وهذا ما نعنيه بالسلم الوطيد الدائم إذا تكلمنا
بإخلاص وفهم وعلم حقيقي بالمسألة التي نحن فيها، فنحن متفقون على أن لا سلم
يحرز بالمساومة والتساهل مع الدولتين الجرمانيتين؛ لأننا عاملناهما قبل اليوم،
ورأيناهما في تعاملهما مع حكومات أخرى كانت تحارب في هذه الحرب، وشاهدنا ما
فعلتا بها في (برست توفسك) و (بخارست) فأقنعتانا بأنهما خاليتان من الشرف ،
وأنهما لا تبتغيان العدل، ولا ترعيان عهدًا، ولا تعرفان مبدأً سوى القوة
ومصلحتهما، فالاتفاق معهما غير مستطاع، وقد جعلتاه مستحيلاً، والشعب الألماني
يعلم الآن أننا لا نقبل عهود الذين جرونا إلى هذه الحرب، فإننا وإياهم على طرفي
نقيض في معنى الاتفاق والتفاهم.
ومن أهم الأمور أن نُجمع إجماعًا تامًّا صريحًا على اجتناب كل صلح يحرز
بالتساهل أو التنازل عن شيء من المبادئ التي جاهرنا بأننا نحارب لأجلها،
ولهذا سأتكلم بمنتهى الصراحة عن الأمور التي يشملها ما تقدم، فإذا كانت
الحكومات التي تحارب ألمانيا وشعوب تلك الحكومات، متفقةً على إحراز صلح
وطيد ثابت كما أعتقد - وجب على جميع الذين يجلسون حول مائدة الصلح أن يأتوا
إليها وهم مستعدون أن يدفعوا الثمن الوحيد الذي يحرز هذا الصلح به، وأن
يوجدوا الأداة الوحيدة التي تكفل تنفيذ معاهدات الصلح واحترامها ، وهذا الثمن هو
العدل المجرد عن الهوى في تنفيذ كل مادة من مواد الصلح بقطع النظر عن
المصالح التي يعترض ذلك لها، وعن أصحاب هذه المصالح، لا أقول العدل
المطلق فقط، بل ارتياح الشعوب التي يحكم في أمورها ومصيرها أيضًا، فالأداة
التي توصل إلى ذلك والتي لا بد منها، هي جمعية الأمم التي تؤلف بعهود فعالة،
ومن دون هذه الأداة التي تكفل دوام السلام يظل السلم العام قائمًا بعضه على وعود
قوم ساقطين من الحقوق؛ لأن ألمانيا يجب أن تبيض سواد صفحتها، لا في مجلس
الصلح، بل فيما يعقبه ، وعندي أن تأليف جمعية الأمم هذه وتعيين الغرض منها
تعيينًا صريحًا جليًّا يجب أن يكون جزءًا من الصلح نفسه، بل أهم جزء فيه.
ولا يمكن تأليف هذه الجمعية الآن، فإنها إذا ألفت الآن كانت عبارة عن
محالفة جديدة مقتصرة على الأمم المتحدة على عدو مشترك، ولا يحتمل أن تؤلف
بعد عقد الصلح إذ من الواجب ضمان السلم، والسلم لا يُضمن بخاطر يخطر بالبال
بعد الصلح، أما السبب الذي يقضي بضمان السلم فهو - بالقلم العريض - وجود
فريق من الذين يبرمونه أثبت للعالم أن عهوده لا يعول عليها، فيجب تدبير وسيلة
عند عقد الصلح لإزالة هذا العامل، ومن الحماقة أن يترك الضمان لمشيئة
الحكومتين اللتين رأيناهما تدمران روسيا وتخدعان رومانيا.
ولكن هذه الأقوال العمومية لا تكشف اللثام عن المسألة، ولا بد من تفاصيل
تجعلها أقرب إلى الأمور العملية منها إلى الأمور النظرية، فإليكم بعض التفاصيل
أتلوها عليكم بثقة أعظم؛ لأنها رسمية تعبر عن تأويل الحكومة الأميركية للواجب
عليها في مسألة السلم.
الأول: أن معنى العدل المجرد عن الهوى هو أن لا نميز بين الذين نريد أن
نعدل فيهم والذين لا نريد أن نعاملهم بالعدل، فالعدل يجب أن لا يفرق ولا يميز ولا
يحابي ولا يعرف من المقاييس سوى التساوي في الحقوق بين الشعوب المختلفة
صاحبة الشأن.
الثاني: لا يجوز أن تجعل المصلحة الخاصة لأمة أو أمم أساسًا لجزء من
الصلح إذا كانت مناقضة لمصلحة الكل.
الثالث: لا يجوز إنشاء محالفات أو عهود خاصة واتفاقات داخل جمعية الأمم
العامة.
الرابع: لا يجوز أن تعقد في قلب جمعية الأمم اتفاقات ومعاهدات اقتصادية
خصوصية مصدرها حب الذات، ولا يجوز استخدام المقاطعة الاقتصادية في أي
شكل كان إلا كعقاب اقتصادي بإخراج المعاقب من أسواق العالم، وهذه سلطة تخول
لجمعية الأمم التأديب والسيطرة.
الخامس: يجب نشر جميع الاتفاقات التي تبرم بين الدول على رؤوس
الأشهاد بحذافيرها وقد كانت المحالفات القومية والمعاهدات على اختلاف أنواعها
والمنافسة الاقتصادية مصدرًا كبيرًا للخطط والشهوات التي تؤدي إلى الحرب، فكل
صلح لا يقضي على هذه المحالفات والاتفاقات يكون صلحًا خاليًا من الإخلاص غير
مأمون البقاء.
إن الثقة التي أتكلم بها عن شعبنا في هذه الأمور لم تنشأ عن تقاليدنا فقط ولا
عن مبدإ العمل الدولي الذي جاهرنا باتباعه دائمًا فقط، فإذا قلت: إن الولايات
المتحدة لا تعقد معاهدات واتفاقات خصوصية مع أمم معينة، فإني أقول أيضًا: إن
الولايات المتحدة مستعدة لحمل نصيبها الكامل من تبعة المحافظة على العهود العامة
والاتفاقات المشتركة التي يشاد السلم عليها من الآن، فإنا لا نزال نتلو وصية
وشنطن الخالدة باجتناب (المحالفات المؤدية إلى المشاكل) ونفهم مضمونها ونلبي
الدعوة التي فيها، على أن المشاكل تأتي من محالفات خصوصية محدودة، فنحن نقبل
الواجب الذي يفرض علينا في العصر الجديد الذي نرجو فيه محالفةً عامةً تجتنب
فيها المشاكل وتطهير جو العالم للتعارف بين شعوبه والمحافظة على حقوقه
المشتركة.
وَصَفتُ الحالة الدولية كما خلَّفتها الحرب، لا لأني أظن أن زعماء الشعوب
العظيمة التي نحن متحدون معها مخالفون لي في الرأي والقصد، بل لأن الجو يظلم
من حين إلى حين بما ينتشر فيه من الضباب وما يطير فيه من الريب والظنون التي
لا أساس لها، وبتشويه الآراء تشويهًا يراد به الشر، فيجب من حين إلى حين
دحض الأقوال التي يقولها غير المسئولين عن دسائس للصلح، أو عن ضعف في
العزيمة ووهن في القصد من جانب ولاة الأمور، ويجب من حين إلى حين المجاهرة
بأتم الصراحة بما تكرر ذكره من قبل.
قلت: إني لم أوجد وجوه الخلاف في هذه الحرب والمحاورة التي تدور عليها
ولم يوجدها غيري من رجال الحكومة بل قابلتها بما أوتيت من بعد النظر والتصميم
الذي اشتد بزيادة وضوح هذه الأمور، ومن الواضح الآن أن هذه النتائج مما لا
يستطيع أحد أن يقلبها إلا إذا تعمد ذلك، فأنا مضطر أن أقاتل لأجلها، كما أظهر
الزمان والأحوال لي ولكل العالم، وحماستنا لهذه الأمور تزداد كلما ازدادت جلاءً،
والقوات التي نقاتل لأجلها تتآزر وتتألب وتقوى بما بينها كلما ازدادت هذه الأمور
وضوحًا أمام أعين الشعوب المتحاربة ، ومن مميزات هذه الحرب العظمى أنه بينما
رجال الدول يبحثون عن تعاريف لتعريف مقاصدهم وأغراضهم ويظهرون بمظهر
المقلب الذي يغير اتجاه نظره - كانت عقول الشعوب التي يفرض على أولئك الرجال
تعليمها وإنارة أذهانها تصقل وتتبين الأغراض التي تحارب لأجلها، فصُرف النظر
عن الأغراض القومية، وحل محلها الغرض العام المشترك للإنسانية المستنيرة،
وصارت آراء الناس أبسط مما كانت وأصدق وأشد اتحادًا من آراء رجال الأعمال
الذين لا يزالون يعتقدون أنهم يقامرون لأجل القوة والسلطة، يقامرون بمبالغ عظيمة.
لهذا قلت: إن الحرب حرب شعوب وليست حرب ساسة، فعلى رجال السياسة
أن يتبعوا سير الفكر العام وإلا سقطوا، وعندي: إن هذا هو المدلول عليه في
الاجتماعات التي يعقدها عامة الناس الآن ويطلبون في كل واحد منها تقريبًا من
رجال حكوماتهم أن يخبروهم بالصراحة التامة ما يبغون من هذه الحرب وما هي
الشروط التي يظنون أنها ستكون شروط تسويتها النهائية، ولم يرتح من ذكرت إلى
ما قيل لهم حتى الآن جوابًا عن سؤالهم؛ لأنهم يخشون أن يكون جواب السؤال
مفرغًا في عبارات تقسيم الأملاك والبحث في السلطة، لا في قالب العدل والرحمة
والسلام، وإرواء غليل المظلومين من الرجال والنساء والشعوب المستعبدة، وهي
الأمور التي يرون أنها جديرة بحرب كهذه غمرت العالم، ويحتمل أن يكون الساسة
لم يدركوا هذا التغيير في عالم السياسة والعمل، ويحتمل أنهم لم يجيبوا مباشرة
عن السؤال المطروح عليهم لأنهم لم ينتبهوا إلى دقة السؤال والجواب المطلوب،
أما أنا فيسرني أن أحاول ترديد الجواب راجيًا أن يفهم العالم أن الشغل الشاغل لي
هو إرضاء الذين يحاربون في الصفوف، وهم أولى الناس بالجواب الذي لا يعذر أحد
على عدم فهمه ما دام يفهم اللغة التي يصاغ هذا الجواب بها أو يستطيع الحصول
على من يترجمه له إلى لغته بالضبط، وعندي أن زعماء الحكومات التي نحن
مشتركون معها سيتكلمون بالصراحة التي أحاول أن أتكلم بها كلما حانت لهم فرصة
وعسى أن يشعروا أنهم أحرار في تخطئتي إذا اعتقدوا أنني مخطئ في تعيين
الأمور التي تنشأ عن الحرب، أو في ما أقول عن الوسائل التي يمكن بها الحصول
على الحل الموافق لهذه الأمور.
إن توحيد القصد بين الدول في هذه الحرب ضروري كتوحيد القيادة في
الميدان، وهذا التوحيد في المشورة والرأي يكفل النصر التام، فالنصر لا يحرز
بغير ذلك (والهجوم الصلحي) لا يقع إلا متى أظهرنا أن كل انتصار تحرزه
الشعوب المتحدة على ألمانيا يدني الأمم من الأمان والطمأنينة ويجعل تكرار حرب
كهذه مستحيلاً، إن ألمانيا لا تفتأ تلمح إلى الشروط التي تقبلها (لعقد الصلح) فتجد
أن العالم لا يقبل شرط الصلح، بل يطلب انتصار العدل انتصارًا نهائيًّا، ويبغي
الإنصاف في المعاملة. انتهى.
***
تعليق المقطم ثم المقتطف على هذه الخطبة
نشر المقطم هذه الخطبة في 2 أكتوبر، وعلق عليها التعليق التالي قال:
(جعل الدكتور ولسن موضوع خطبته (جمعية الأمم) التي يصبو إلى تأليفها
مِن جميع الدول ليكون منها حائل يحول دون وقوع حرب عظيمة أخرى تنكب
بها الإنسانية نكبات تعرقها عرق المدى. والذي ينعم النظر في هذه الخطبة
النفيسة البليغة يجد أنه لم يقل فيها قولاً لم يسبق له أن جاهر به في خطبته
السابقة، وخطاباته التاريخية إلى مجالس الأمة الأمريكية، فقيمتها إذًا في تأييد
المبادئ والقواعد التي وضعها، وبسط الآراء التي كان أول من نادى بها في
معترك الأمم قبل ذلك، على أن نبي الحق ونصير العدل والرأفة في هذا العصر
مصمم على أن يطبق هذه المبادئ النظرية على سياسة العالم العملية بكل ما أوتي
من علم وذكاء ونشاط، وما رزق شعبه من قوة وثروة وعلم وحمية.
إن الاشتراكية الصحيحة الخالصة من كل شائبة والتي ترفع قدر الإنسانية هي
الاشتراكية التي نادى بها الدكتور ولسن بقوله في خطبته هذه: (إن مصلحة
أضعف الخلق مقدسة كمصلحة أقواهم) .
ورب قائل يقول: إن الدكتور ولسن ليس بمبتكر لهذا المبدأ، فقد جاهر به
غيره من قبله، وقد يكون الأمر كذلك، ولكن ولسن ينوي أن يكون أكبر عامل في
تطبيقه فعلاً، وإخراجه من حيز القوة إلى حيز الفعل، واتخاذ الوسائل التي تضمن
المحافظة عليه، وعقاب كل من يجرؤ على نقضه. فإذا كانت الأديان المنزلة قد
علمت هذه المبدأ من قديم الزمان، فإن الذين اشتغلوا بالسياسة في ما مضى من
العصور جعلوا ديدنهم التجمل بهذا المبدأ في الظاهر، ومحاربته في الباطن، فكانوا
يسخرونه لقضاء الأوطار ثم يعبثون بروحه.
فالشعوب الصغيرة في جميع أقطار العالم ترفع أيديها مبتهلةً إلى الله أن يطيل
عمر ولسن ويمنحه القوة اللازمة لتحقيق أمانيه، واسم ولسن سيظل منقوشًا على
صفحات قلوب المظلومين من الرجال والنساء والأمم المستعبدة التي يسعى
لإرواء غليلها بجعل نتيجة هذه الحرب لخدمتها ونفعها، لا لتقسيم البلدان والبحث
في توزيع السلطة والسؤدد.
إن الصوت الصاعد من أميركا هذه الأيام صوت نبوءة يقرع أسماع العالم
بالحق، ويدل الدول على سبيل الصلاح والبقاء، وإذا كان في التاريخ عبر،
وفي علم الاجتماع أوليات، فإنما هي ما نادى به خلف وشنطن، فهو ليس شاعرًا،
ولا هو من السابحين في بحار الخيال، ولكنه رجل أشبع مروءةً ووفاءً، واستوعب
العلم الصحيح المبني على استقراء سليمي العقل والدين من البشر، ورأى الواجب
يقضي عليه بإرشاد الناس إلى سبيل الحق، ورجل كهذا قاد أمةً عظيمةً إلى مواطن
الحرب والبذل والجود، ولبَّت أمته دعوته عن طيب خاطر لتؤيد مبدأ مس قلوبها لا
يذهب كلامه صرخةً في واد.
وقد فصل خطته تفصيلاً حسنًا في هذه الخطبة، وعرف العدل تعريفًا ما رأى
الناس أسمى منه في ما صدر عن عقول البشر، فقال: (إن معنى العدل المجرد
عن الهوى هو أن لا نميز بين الذين نريد أن نعدل فيهم، والذين لا نريد أن نعدل
فيهم، فالعدل يجب أن لا يفرق ولا يميز ولا يحابي ولا يعرف من المقاييس سوى
التساوي في الحقوق بين الشعوب المختلفة) .
نقول: وقد يظل العالم بعيدًا عن بلوغ هذه المرتبة الرفيعة التي وضعها رئيس
الأميركيين نصب العيون؛ لأن الارتقاء إليها صعب شاق، ولكن إنشاء هذا المقياس
الرفيع سيفيد العالم؛ لأنه ينشطه على التطاول لبلوغه، وستفهم أوربا اليوم أن
سياسة (مترنيخ وتيلران وبسمرك) لا تثبت على طوارق الحدثان كما ظهر في ما
جرى بعد مؤتمر (فينا) ومعاهدة (فرنكفورت) لأن البناء المتين لا يقوم على
الرمل، وإنما يثبت إذا قام على الصخر.
فليرحب العالم بصوت المدافع عن الضعفاء من الأفراد والأقوام، وليكرم
صاحبه ويعظم قدره، فقد أنار سبيل الإنسانية ومسح دموعها، فخفق فؤادها أملاً
وامتلأ صدرها رجاءً.
إن الرجل الذي لبى دعوة الإنسانية في أشد عصورها خطرًا عليها تنصت
الإنسانية إلى صوته إنصات كل مخلوق إلى صوت من يعرف حبه وعطفه،
ويدرك تفانيه وإيثاره، ويحترم كفاءته ومقدرته) اهـ.
(المنار)
صدق المقطم في قوله: إن الرئيس ولسن ليس هو الواضع لهذه القواعد للحق
والعدل، ولا هو أول من نادى بها، فإن الواضع لها هو الله تعالى بمثل قوله:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا
بِالْعَدْلِ} (النساء: 58) فذكر الناس كلهم، ويؤيده قوله: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ
قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: 8) والشنآن: البغض
مع الاحتقار، وأول من نادى بها في هذا العهد وزمن هذه الحرب أحرار الروس،
وخاطبوا بذلك دول الحلفاء، فأكبروا خطتهم، وأجابوا عنها بما بيناه في المجلد
(العشرين) الماضي من المنار (ص 48- 57) .
وصدق المقطم في حصر مزية الرئيس ولسن في استعمال قوة أمته لتنفيذ هذه
القواعد بعد تفصيله لها، وفي قوله: إن ديدن السياسيين فيما مضى هو التجمل بها
في الظاهر ومحاربتها في الباطن، وتسخيرها لقضاء المآرب. وقد أصبح جميع
الناس يعرفون هذا، ويسرنا أن نرى جميع أمم الحلفاء تعظم ولسن وتؤيده اليوم.
***
خطاب الرئيس ولسن في مجلس الأمة الأمريكي
ألقى الرئيس على مجلس الأمة المؤلف من الشيوخ والنواب تقريره السنوي
وذكر فيه مسألة تأثير أمته الفاصل في الحرب ومسألة الصلح. وجاءنا روتر في
أول ديسمبر (ك1) بخلاصة منه ننقل ترجمتها عن الجرائد مع تصحيح ما يقابلها
على جريدة التيمس، وهي:
(كان العام الماضي الذي انقضى منذ وقوفي أمامكم للقيام بالواجب الذي
فرضه علي الدستور هو إبلاغ مجلس الأمة المعلومات الخاصة بأحوال البلاد
(أمريكة) مفعمًا بحوادث عظيمة وأعمال كبيرة ونتائج جمة بحيث لا أرجو أن
أعطيكم صورة كافية تمثلها أو تمثل التغييرات البعيدة الغور التي طرأت على حياة
أمتنا وحياة العالم ، وقد شاهدتم بأنفسكم هذه الأمور كما شاهدتها أنا، وعليه قد حان
الوقت لتعيين نصيب كل منا فيها، ولا ريب في أننا نحن الذين نقف في وسط هذه
الأمور بمنزلة جزء منها، وأقل كفاءة من رجال أي جيل آخر فيما يقولونه عن معنى
هذه الحوادث أو عن ماهيتها، على أن هناك حقائق ظاهرة لا يمكن الخطأ فيها، وهذه
الحقائق تكون في الذهن جزءًا من الأعمال العامة التي يقضي علينا واجبنا بالبحث
فيها، وما ذِكْر هذه الحقائق إلا إعداد المكان الصالح لنماء العمل التشريعي والتنفيذي
الذي يجب علينا أن نكيف ونقرره) .
وتناول الرئيس بعد ذلك الكلام على نقل أكثر من مليوني جندي إلى ما وراء
البحار بخسارة 758 شخصًا؛ بسب أعمال العدو، ثم قال: (ولسنا نثير رواكد
الحسد إذا قلنا: إن وراء هذه الحركة العظيمة دعامة تدعمها، وهي قائمة على تنظيم
في صناعات البلاد، وفي جميع أعمالها المثمرة يفوق بكماله وبتمام طريقته
وتباشير نتيجته وبالنشوة المخيمة عليه وباتحاد غايته وسعيه - كل تنظيم وضعته أية
دولة من الدول العظمى الداخلة في الحرب) .
ثم أطرى روح الحمية والبساطة التي أظهرتها الجنود الأميركية في ساحة
القتال قائلا: (إن الجيش الأميركي قام بدوره في أعظم وقت مناسب، وفي أعظم
ساعة حرجة كان مصير العالم فيها هدفًا للأخطار فألقى بقوته بين صفوف الحرية،
فبدأ يأفل نجم العدو، وما زال يزداد أفولاً حتى أدرك قواد دولتي الوسط أنهم قد
ضُربوا ، وها نحن أولاء نرى الآن بلادهم تُصفى) .
وبعد أن أثنى الرئيس على أعمال بنَّائي السفن، وعمال السكك الحديدية،
والذين اشتغلوا في الحرب بأيديهم وعقولهم، أطرى النساء الأميركيات، وصرح
بأن (أقل ثناء يمكن توجيهه إليهن هو أن نجعلهن مساويات للرجل في الحقوق
السياسية بما برهن على أنهن كفؤ لهم في كل عمل اشتغلن به لأنفسهن أو لبلادهن) .
واستطرد الرئيس فقال: (الآن، وقد ضمنا نيل الفوز العظيم الذي بذلت في
سبيله كل تضحية، وقد جاء هذا الفوز تامًّا كاملاً، فعلينا أن نعود حالاً إلى واجباتنا
الخاصة بالسلام: السلام الذي سيقينا اعتداء الملوك المطلقين من كل قيد، ومطامع
العصابات العسكرية. ولنستعد لنظام جديد، ولوضع أساسات جديدة للدولة وللحق) .
وبعد أن تناول الرئيس الكلام على علاقة أميركا بالدول الأجنبية ذكر مسألة
الإصلاح والترميم وإلغاء القيود التجارية وغيرها في أميركا، ثم حث على مساعدة
بلجيكا وفرنسا والجهات الأخرى التي اجتاحها العدو، وناشد المجلس على تأييد
برنامج الأسطول، ثم تناول مسألة سفره أوربا لحضور مؤتمر الصلح فقال:
(إنني أرحب بهذه الفرصة لأعلن للمجلس عزمي على الالتحاق بمندوبي
الحكومات التي نشترك معها في الحرب ضد دولتي الوسط؛ لأدرس معهم النقاط
الجوهرية في معاهدة الصلح، وإني لا أجهل عدم ملاءمة سفري، ولا سيما في هذه
الآونة، على أنني أرجو أن تبدو العوامل التي أوجبت علي السفر أمامكم وجيهة كما
تبدو لي، فقد قبلت حكومات الحلفاء قواعد الصلح التي بينتها لكم يوم 8 يناير
الماضي كما قبلتها حكومتا دولتي الوسط، وترغب هذه الحكومات رغبة كلها عقل
في استشارتي الشخصية فيما يتعلق بتفسير هذه القواعد وتطبيقها، فمن الواجب أن
أقدم هذه المشورة كي تبدو تمامًا رغبة حكومتنا الصادقة في العمل - بدون أن تكون
هناك مصلحة ذاتية ما - لتسوية المسائل التي ستكون ذات فائدة عامة لجميع الأمم
ذات الشأن.
ولا ريب في أن تسوية المسائل الخاضعة بالصلح الذي سيتفق عليه على
جانب عظيم من الأهمية والشأن فيما يتعلق بنا وببقية العالم، وإني لا أعرف مهمةً
أو مصلحةً تبدو ذات أهمية أعظم من تسوية هذه المسائل، فقد قاتلت قواتنا في البر
والبحر؛ لحماية مبادئ تَعرِف أنها مبادئ بلادها، ولقد حاولت أن أعبر عن هذه
المبادئ، فقبلها رجال السياسة كخلاصة أفكارهم وأغراضهم، وبما أن الحكومات
المشتركة قد قبلت هذه المبادئ، فإن علي أن أعمل بحيث لا يمكن إدخال خطأ عليها،
وبحيث يبذل كل مجهود لتنفيذها) .
قال: (فالواجب يقضي علي والحالة هذه بأن ألعب دوري لأحصل لهم على
ما بذلوا لأجله دماءهم وأرواحهم، وليس عندي هنالك واجب يمكن تفضيله على
هذا) .
ثم وعد الرئيس ولسن بأن سيوقف المجلس على جميع المفاوضات التي
ستدور في مؤتمر الصلح كما هي بكل سرعة ممكنة مشيرًا إلى إلغاء الرقابة في
إنكلترا ، وقال:
(أفلا أرجو أن أكون متمتعًا بتأييدكم أيها النواب في جميع الواجبات الدقيقة
التي ستلقى على عاتقي في أوروبا ، وفي مجهوداتي التي سأبذلها بصدق وأمانة
لتفسير المبادئ والأغراض التي تجلها بلادنا التي نحبها؟)
قال: (ولا أجهل عظم الواجب الذي أخذته على عاتقي، ولا المشاق التي
ستعترضني في سبيلي، ولا التبعة العظيمة الملقاة علي) . (إنني خادم الأمة وليس
لدي فكرة خاصة أو غرض خاص في القيام بمثل هذه المهمة، وسأذهب لأبذل
قصارى جهدي في التسوية العامة التي يجب أن أعمل للوصول إليها في مؤتمر الصلح
مع زعماء الحكومات المشتركة، وسأعتمد على تأييدكم ومساعدتكم لي، وسأكون
على صلة معكم، فأقف بواسطة البرقيات البحرية واللاسلكية على كل شيء تريدون
أخذ رأيي فيه، وسأكون مرتاح الفكر لأنني سأكون دائمًا على إلمام تام بمعرفة الأمور
الجليلة الشأن الخاصة بشؤوننا الداخلية.
وسأجعل مدة غيابي قصيرة ما أمكن، وأملي أن أعود إليكم، وأنا على يقين
تام بأن المبادئ العظيمة التي ناضلت أميركا لأجلها قد دخلت في دور العمل
والتنفيذ) اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مستقبل سورية وسائر البلاد العربية
1
- البلاد المحررة
هذا إعلان رسمي من قِبل الحكومتين البريطانية والفرنسوية، نُشر بهذا
العنوان في الجرائد المصرية اليومية في يوم الجمعة 8 نوفمبر سنة 1918 -4 صفر
سنة 1337:
إن الغرض الذي ترمي إليه فرنسة وبريطانية العظمى بمواصلتهما في
الشرق تلك الحرب التي أثارها الطمع الألماني - هو تحرير الشعوب التي طالما ظلمها
الترك تحريرًا نهائيًّا، وتأسيس حكومات ومصالح أهلية تُبنى سلطتها على اختيار
الأهالي الوطنيين لها اختيارًا حرًّا، وقيامهم بذلك من تلقاء أنفسهم. وتنفيذًا لهذه
النيات قد وقع الاتفاق على تشجيع العمل لتأسيس حكومات ومصالح أهلية في
سورية والعراق اللتين أتم الحلفاء تحريرهما ، وفي البلاد التي يواصلون العمل
لتحريرها، وعلى مساعدة هذه الهيئات والاعتراف بها عند تأسيسها فعلاً،
والحلفاء بعيدون عن أن يرغموا سكان هذه الجهات على قبول نظام معين من
النظامات ، وإنما همهم أن يحققوا بعونهم ومساعدتهم النافعة حركة الحكومات
والمصالح التي ينشئها الأهالي لأنفسهم مختارين حركةً منتظمةً ، وأن يضمنوا لهم
قضاءً عادلاً واحدًا للجميع ، وأن يسهلوا انتشار العلم في البلاد، وتقدمها اقتصاديًّا
وذلك بتحريك همم الأهالي وتشجيعها ، وأن يزيلوا الخلاف والتفرق الذي طالما
استخدمته السياسة التركية. ذلك هو ما أخذت الحكومتان المحاربتان على نفسيهما
مسئولية القيام به في البلاد المحررة.
***
2-
البر بالمواثيق
نشر المقطم يوم الاثنين 23 ديسمبر 1918، و19 ربيع الأول 1337 ما
نصه:
تلقينا في الأسبوع الماضي العدد 11 من جريدة المستقبل الغراء الصادر في
باريس يوم 30 سبتمبر الماضي، فقرأنا فيه ما يأتي: (جاء في برقية رسمية من
لندن هذا النبأ الذي طربت له أفئدة أبناء سورية، ولبنان) :
لندن في 35 سبتمبر: إن الجيوش البريطانية التي تؤازرها جنود فرنسية قد
وصلت الآن إلى حدود البقاع الراجع أمر تهيئة سكانها للحكم الذاتي إلى فرنسة طبقًا
للاتفاق الإفرنسي البريطاني المبرم عام 1916.
فبرًّا بالمواثيق ترى الحكومة البريطانية والحكومة الإفرنسية أيضًا أنه من
اللازم تنظيم الإدارة المؤقتة في هذه البقاع طبقًا لاتفاق عام 1916، وأن السلطة
العسكرية البريطانية الموجودة هناك تبر بالمواثيق بر الحكومة البريطانية بها
وستوضع قريبًا هنا على بساط البحث مسألة إدخال هذا الاتفاق في طور العمل)
انتهى بحروفه.
***
3-
إعلان اتفاق سنة 1916 المذكور في باريس
إن جريدة المستقبل التي تصدر في باريس لخدمة فرنسة في مستعمراتها
الأفريقية وسائر البلاد العربية، ويديرها أفراد من مسيحيي لبنان وسورية يعبرون
عن أنفسهم باسم (الجمعية السورية المركزية) قد بينت أمر هذا الاتفاق الذي أشار
إليه فيما نقل عنها المقطم منذ سنة كاملة وصَدَرَ العدد 9 منها في 27 ربيع الأول سنة
1336 -
10 يناير سنة 1918 مزينًا بطبعه بالحبر الأحمر والأزرق، مُصدّرًا
بمقالة افتتاحية في مستقبل سورية الذي صرح به في الجمعية السورية ممثلا
الحكومتين البريطانية والفرنسية، ذلك بأن الحكومة الإنكليزية أوفدت (السير
مارك سايكس) المشهور إلى باريس فضمت إليه حكومتها (المسيو جان فو) ممثلاً
لها ليصرحا في الجمعية السورية باتفاقهما، فعقدوا فيها اجتماعًا حضره بعض
أعضاء مجلسي النواب والشيوخ الفرنسيين، ونائب بطرك الكاثوليك في فرنسة،
وأعضاء الجمعية السورية، وهم المسيو شكري غانم رئيسها الأول ، والمسيو أنيس
شحادة رئيسها الثاني ، والدكتور جورج سمنه كاتم أسرارها العام ، والمسيو نجيب
مكرزل أمين صندوقها - واعتذر يوسف أفندي سعد أحد أعضائها عن الحضور
بانحراف صحته - ورأس الجلسة المسيو (فرنكلان يوبون) أحد أعضاء مجلس
النواب، وبعد افتتاحه الجلسة ألقى المسيو شكري غانم خطبةً، ذكر فيها حبهم
لفرنسة وإعجابهم بإنكلترة ، والتوازن بين الدولتين، وأنه هو أساس (ما اصطلح
الرأي العام على تسميته باسم جمعية الأمم) (؟) وقال: (إن في هذا التوازن
ضمانًا للشعوب الصغيرة؛ لأنه يكفل استقلالنا بصفة أكيدة، بعد تحريرنا من رق
الأتراك الشنيع، ويجعل لنا مقامًا رفيعًا برعاية فرنسة وعونها، وبمصادقة
إنكلترة) إلخ.
ثم تلاه السير مارك سايكس فحث في خطابه السوريين على الاتحاد ونبذ
الخلاف، والاتفاق على القاعدتين الآتيتين اللتين زعم أن في استطاعة جميع أجناس
سورية وأديانها الاتفاق عليهما (؟) وأن الواجب على السوريين الذين يتمتعون
بالحرية في أوربة وأمريكة ومصر أن يرفعوا أصواتهم بهما؛ لأن الذين في البلاد
مكرهون على الصمت، وهما قوله:
1-
يجب بادئ بدء قلب الحكم التركي المشئوم، لأن ما هو - بإجماع
الآراء - فاسد في أرمينية ، غير صالح لسورية.
2-
ثم يجب أن تنتظروا من فرنسة أن تأتيكم بالمساعدة التي لا غنى للشعب
المظلوم عنها، وهو في حاجة إليها كي يقدر على السير بنفسه في طريق الحياة،
وينبغي أن تتطلبوا ضمانات من الدول المتمدنة في العالم لئلا تخضعوا مرةً أخرى
لحكم الأتراك الذي صار بكم إلى الفقر وإلى الشقاق.
وتلاه المسيو غو ممثل الحكومة الفرنسية فقال:
أيها السادة
(إنه ليسرني أن أؤكد لكم برخصة من وزير الخارجية الجمهورية - بعد
النصائح الرشيدة التي سمعتموها من فم السير مارك سايكس ممثل الأمة الحليفة -
أن فرنسة وإنكلترة متفقتان تمام الاتفاق على تحرير الشعوب غير التركية من
النير التركي في آسيا الصغرى، مهما كانت أديان هذه الشعوب وأجناسها وتهيئتها
لمستقبل أحسن من ماضيها) .
وقد صممت الدولتان الحليفتان العزم - بعد طرح كل فكرة ترمي إلى السيطرة
الاستعمارية - على هداية الشعوب التي تتكلم العربية وغيرها من اللغات،
والساكنة في الربوع التي تمتد من الجبال الأناطولية إلى بحر الهند، وللسير بها في
طريق الاستقلال بالحكم، وفي سبيل الحضارة، مع احترام العقائد الدينية وحقوق
الوطنيات، وستعمل كل من الدولتين في منطقة نفوذها، وسيكون الدور الذي تمثله
فرنسة وإنكلترة دور دليل لتحسين حالة المستقبل، ودور حكم بين الجماعات
الدينية والجنسية، والأولى مستعدة للقيام بهذا الدور في الشمال، والثانية في
الجنوب.
إننا نرغب في أن يحيط مواطنوكم كلهم علمًا بهذا الاتفاق الولائي المعقود بين
الدولتين الحرتين الكبريين حتى يقدروه حق قدره، ولا سبيل إلى تحقيق مستقبل
مجيد - وقد أهلتهم له عذاباتهم الماضية، وثِقتهم بمصير وطنهم - إلا بالاتفاق
وبنبذ الشقاق الناتج من حكم الأتراك.
وإنني أدعوكم إلى تحية فجر هذا المستقبل لسورية ولغيرها من البلدان التي
تتكلم بالعربية، شاملين في تحياتنا بريطانيا العظمى وفرنسة وسورية) اهـ.
ثم إن مسيو شكري غانم فاه بكلام خلاصته أن السوريين الذين في مصر
كثيرون ، وهم أرقى السوريين علمًا وثروةً وأشدهم اختلافًا، فينبغي للسير مارك
سايكس السعي لاتفاقهم على الأمرين اللذين دعا إليهما ، أي: بنفوذ حكومته هنا،
ولم يقل مسيو شكري غانم هذا القول إلا لعلمه بأن السواد الأعظم من السوريين هنا
مخالفون له في رأيه ورأي جمعيته، وأنهم لا يرون أنفسهم غير أهل للاستقلال
التام، ولا يطلبون نصب وصي عليهم حتى يؤهلهم له؛ لأنهم يعتقدون أنهم
راشدون لا سفهاء ولا معتوهون.
***
4-
دخول المسألة العربية في طور جديد
بعد ذلك الاتفاق دخلت المسألة في طور جديد بما وضعه الدكتور ولسن رئيس
الولايات المتحدة من الشروط لصلح الأمم، وما فسرها به في تلك الخطب، فصار
أمر الشعب العربي في كل قطر منوطًا به ومفوضًا إليه باتفاق الدول، ولم يبق
للافتيات عليه من سبيل، إلا أن يجني على نفسه، فالدول وأحرار أممها يقولون
له: إن أمره بيده، والمستعمرون الطامعون يقولون له: قد قضي الأمر في شأنه،
فما عليه إلا أن يساعدهم على تمدينه وسبر بلاده.
هذا، وإننا قد بينا من قبل أن الشروط لصحة مثل هذا الاعتراف والإقرار،
أن لا يكون تحت سيطرة عسكرية، ولا ضغط سلطة تنافي الاختيار، وأن يكون
من المقر المعترف على علم بأن أمره بيده، وأن قضيته لم يقض فيها، ولن يقضى
فيها إلا برأيه (راجع ص 48 - 59، و499، و246 من المجلد 20) .
بعد هذا نقول: من المقرر الذي لا ريب فيه أن مسألة الولايات العربية
العثمانية ستعرض على مؤتمر الصلح، وما يقرره فيها هو الذي ينفذ - وأن الدولة
العثمانية ستطلب أن تكون مستقلةً في إدارتها الداخلية عملاً بالشروط ال 12 من
شروط الرئيس ولسن التي قبلت الصلح بها، وقد نقلت التيمس في شهر نوفمبر أن
مجلس النواب العثماني قرر أن تكون الولايات العربية مستقلةً تحكم نفسها كما تشاء
بشروط الارتباط بالسلطان وحده، والظاهر أن المراد بذلك أن تكون تحت سيادته
باعترافها له بالخلافة، لا تحت سيادة الباب العالي ومجلس الأمة - وأن إنكلترة،
وفرنسة ستطلبان تقسيم سورية والعراق على حسب اتفاقهما في سنة 1916 ،
وكل هذا وذاك ينافي تحرير البلاد واستقلالها، خلافًا لما أذاعته البرقيات والجرائد عن
دول الحلفاء من أول سني الحرب إلى آخرها، ولقواعد ولسن وخطبه المفسرة لها،
المصرحة بوجوب استفتاء كل شعب في أمره والعمل برأيه في حكم بلاده، وهذا
الاستفتاء لم يقع.
فالحق أن أمرهم بيدهم من كل وجه، ولهم أن يطلبوا ما يبغونه - بدافع الفطرة
والعقل - من الاستقلال التام المطلق من كل قيد، وهو ما أجمع عليه زعماؤهم
وعقلاؤهم، وقتل في سبيله شهداؤهم، فإذا فاتتهم هذه الفرصة واختاروا العبودية
على الحرية والاستقلال بخداع دعاة الاستعمار، كانوا في حكم من بخع نفسه بيده
بل كانوا قاتلين لأمتهم بأسرها، وملعونين في تاريخها وتاريخ الأمم كلها.
قلنا: وإن أهل المعرفة يقترحون كلما أمكنهم التصريح بمطالب البلاد
الصريحة المعقولة التي لا يختلف فيها إلا المخدوعون أو المأجورون. والمرجو
من الرئيس ولسن العظيم، ومن أحرار سائر الأمم الذين لا ينخدعون بمكايد
المستعمرين، ولو كانوا من أمتهم - أن ينصروا الحرية الكاملة، فيحرروا الشعب
العربي كغيره تحريرًا تامًّا بجعل أمره بيده ، ولله الأمر من قبل، ومن بعد.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
رد المنار على الناقد لذكرى المولد النبوي [
1]
الموضع الثالث عشر
آل البيت [2]
نقل الناقد ما ذكر في حاشية ص 43 من ذكرى المولد من القولين في تفسير
حديث زيد بن أرقم- رضي الله عنه أن آل النبي صلى الله عليه وسلم هم الذين
تحرم عليهم الصدقة، وقول غيره. هم علي وذريته من فاطمة عليهم السلام،
واستنبط من تقديمنا القول الأول وإبهام القائلين بمقابله ترجيحَه ، وتعقبه بقوله:
(ولعل الصواب ما يقوله الآخرون كما حققه شيخ مشايخنا العلامة مولانا
السيد أبو بكر بن عبد الرحمن بن شهاب الدين العلوي) كما قال: (إن المراد بآل
البيت في آية التطهير: علي وفاطمة والحسن والحسين) وهو قول جمهور
العلماء وأكابر أئمة الحديث المعتد بروايتهم ودرايتهم. وإن الأدلة تضافرت بذلك عن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والمصير إلى تفسير من أنزلت عليه متعين
(ثم بين ذلك بحديث أم سلمة المعروف في تفسير آية التطهير، وأشار إلى حديث
عائشة بمعناه ، وذكر أن جميع ذرية فاطمة داخلة في ذلك إلى يوم القيامة، وأن
الأحاديث مصرحة بذلك، ومثل بحديث الجمع بين القرآن والعترة، وبحديث أهل
بيتي أمان لأهل الأرض) وجزم بأن ذلك دالٌّ قطعًا على أن هذه السلالة الطاهرة
هم أهل البيت المطهرون المرادون بكل ما ورد في فضل أهل البيت من الآيات
والأحاديث، وأنهم عدول هذه الأمة وأحد الثقلين المأمور بالتمسك بهما، قال: (وقد
أجمعت الأمة على ذلك) .
وأقول (أولاً) : إنني لم أرد بتقديم قول زيد ترجيحه، ولا بتأخير قول
الآخرين تضعيفه؛ لأنني لست بصدد ذلك، وإنما أخرت ما أخرت لأبني عليه ما
ذكرته بعده من الثناء والمناقب، وهذا سبب من أسباب التأخير معهود في أساليب
الكلام الفصيح ما كان له أن يفهم منه الترجيح ، و (ثانيًا) : إن ما ذكره من
التصويب وادعى أنه هو التحقيق، وأن الأحاديث الصحيحة ناطقة به والأمة
مجمعة عليه - فيه نظر ظاهر، ولا أحب أن أعبر عنه بما دون ذلك، فالأحاديث
الصحيحة في الآل والذرية والعترة كثيرة، والخلاف فيها كثير، والمتبادر من آية
التطهير أنها في نساء النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها تعليل لما قبلها من الأوامر
والنواهي الخاصة بهن، وما بعدها خطاب لهن كالذي قبلها، فلا يمكن أن يكون هذا
التعليل أجنبيًّا في وسط الكلام، ولا يمكن أن يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم
تفسير آية بما ينافي أساليب البلاغة، فكيف بما ينافي المتبادر من اللغة؟ وقد بينت
هذا في المنار من قبل.
ولولا التعصب الذي أوقع أدق علماء اللغة وفرسان بلاغتها في الغلط أحيانًا،
لَما كان يقبل أحد له شمة من العربية أن يقول فيما نزل نصًّا قاطعًا في خطاب معين:
إنه في غير ذلك المخاطب المعين، حتى إنه يشمله بعمومه خلافًا للأصل الذي جرى
عليه جميع العلماء. قال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ} (الأحزاب: 33) : هذا نص في دخول أزواج
النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت ههنا لأنهن سبب نزول هذه الآية وسبب
النزول داخل فيه - قولاً واحدًا - إما وحده، على قول، أو مع غيره، على
الصحيح، اهـ، ويريد بالصحيح: ما جرى عليه أهل الأصول من أن العبرة بعموم
اللفظ لا بخصوص السبب، ولفظ (أهل البيت) هنا عام يدخل فيه كل منتسب إلى
ذلك البيت، ولكن المخاطب منهم في الآية نساؤه صلى الله عليه وسلم، وهُن أهل
البيت السكني المتبادر هنا، وأهل بيت الرجل وآله يطلق على بيت القرابة وعلى
أتباعه، ومنه قوله تعالى:{أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ} (غافر: 46) وقول
عبد المطلب يوم الفيل:
وانصر على آل الصليـ
…
ـب وعابديه اليوم آلك
ولا يمكن أن يراد هذا الأخير من الآية لقرينة الخطاب.. ومثله (آل) القرابة
لولا ما ورد من في الحديث من إدخاله صلى الله عليه وسلم أهل العباء فيهم خبرًا أو
دعاءً، والدعاء هو الذي ثبت في الصحيح. وأما حديث أم سلمة فمضطرب المتن،
ومخالف لمنطوق الآية، وفي أسانيد طرقه كلها علل تمنع الاحتجاج به، فكيف يمكن
ترجيح مفهومه على منطوق القرآن؟ وفي حديث علي عند النسائي ، وأبي هريرة
عند أبي داود مرفوعًا: (من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا آل البيت
فليقل: اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين ، وذريته وأهل بيته،
كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد) فقد عَطف آل البيت) على الأزواج
والذرية ، والأصل في العطف المغايرة.
إنني لا أحب أن أطيل الكلام في مناقشة الناقد في هذه المسألة من عندي، بل
أستغني عن ذلك بأن أنقل له أوسع ما رأيته في تفسير آية التطهير وأجمعه لأقوال
أهل السنة والشيعة؛ ليعلم مكان ما ادعاه من اتفاق العلماء أو إجماع الأمة من
الصحة، وهو ما أورده الشهاب الآلوسي في روح المعاني تفسيرًا لقوله تعالى:
{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: 33) .
قال: استئناف بياني مفيد تعليل أمرهن ونهيهن، والرجس في الأصل: الشيء
القذر، وأريدَ به هنا عند كثير الذنب مجازًا، وقال السدي: الإثم ، وقال الزجاج:
الفسق، وقال ابن زيد: الشيطان ، وقال الحسن: الشرك ، وقيل: الشك ، وقيل
البخل والطمع ، وقيل: الأهواء والبدع ، وقيل: إن الرجس يقع على الإثم ، وعلى
العذاب ، وعلى النجاسة ، وعلى النقائص ، والمراد به هنا: ما يعم كل ذلك، ولا
يخفى عليك ما في بعض هذه الأقوال من الضعف ، و (ال) فيه للجنس أو
للاستغراق، والمراد بالتطهير، قيل: التحلية بالتقوى، والمعنى على ما قيل:
إنما يريد الله ليذهب عنكم الذنوب والمعاصي فيما نهاكم، ويحليكم بالتقوى تحليةً
بليغةً فيما أمركم. وجوز أن يراد به الصون، والمعنى: إنما يريد سبحانه ليذهب عنكم
الرجس ويصونكم من المعاصي صونًا بليغًا فيما أمر ونهى جل شأنه، واختلف في
لام (ليُذهب) فقيل: زائدة وما بعدها في موضع المفعول به لـ (يريد) فكأنه قيل:
يريد الله إذهاب الرجس عنكم، وتطهيركم. وقيل: للتعليل. ثم اختلف هؤلاء،
فقيل: المفعول محذوف ، أي: إنما يريد الله أمركم ونهيكم ليذهب، أو: إنما يريد
منكم ما يريد ليذهب، أو نحو ذلك، وقال الخليل وسيبويه ومن تابعهما: الفعل في
ذلك مقدر بمصدر مرفوع بالابتداء، واللام وما بعدها خبر ، أي: إنما إرادة الله
تعالى للإذهاب، على حد ما قيل في (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه) فلا مفعول
للفعل. وقال الطبرسي: اللام متعلق بمحذوف تقديره: وإرادته ليذهب ، وهو كما
ترى، وهذا الذي ذكروه جارٍ في قوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} (النساء:
26) {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العَالَمِينَ} (الأنعام: 71) وقول الشاعر:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما
…
تمثل لي ليلى بكل مكان
ونصب (أهل) على النداء، وجوز أن يكون على المدح، فيقدر: أمدح، أو
أعني، وأن يكون على الاختصاص، وهو قليل في المخاطب، ومنه: (بك
الله نرجو الفضل) وأكثر ما يكون في المتكلم كقوله:
نحن بنات طارق
…
نمشي على النمارق
و (ال) في (البيت) للعهد، وقيل: عوض عن المضاف إليه، أي: بيت
النبي صلى الله - تعالى - عليه وسلم ، والظاهر أن المراد به بيت الطين والخشب،
لا بيت القرابة والنسب، وهو بيت السكنى لا المسجد النبوي كما قيل ، وحينئذ
فالمراد بأهله نساؤه صلى الله - تعالى - عليه وسلم المطهرات؛ للقرائن الدالة على
ذلك من الآيات السابقة واللاحقة، مع أنه عليه الصلاة والسلام ليس له بيت يسكنه
سوى سكناهن، وروى ذلك غير واحد: أخرج ابن أبي حاتم، وابن عساكر من
طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: نزلت {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ} (الأحزاب: 33) إلخ في نساء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خاصةً. وأخرج
ابن مردويه من طريق ابن جبير عنه ذلك بدون لفظ (خاصةً) وقال عكرمة: من
شاء باهلته أنها نزلت في أزواج النبي صلى الله - تعالى - عليه وسلم. وأخرج ابن
جرير وابن مردويه عن عكرمة أنه قال في الآية: ليس بالذي تذهبون إليه، إنما هو
نساء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. وروى ابن جرير أيضًا أن عكرمة كان ينادي
في السوق أن قوله - تعالى -: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ} (الأحزاب: 33) نزل في نساء النبي عليه الصلاة والسلام. وأخرج ابن سعد عن
عروة {لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ} (الأحزاب: 33) قال: يعني أزواج
النبي صلى الله - تعالى - عليه وسلم.
وتوحيد البيت لأن بيوت الأزواج المطهرات - باعتبار الإضافة إلى النبي
صلى الله تعالى عليه وسلم - بيت واحد، وجمعه فيما سبق ولحق باعتبار الإضافة
إلى الأزواج المطهرات اللاتي كن متعددات، وجمعه في قوله سبحانه الآتي إن شاء
الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَاّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} (الأحزاب:
53) دفعًا لتوهم إرادة بيت زينب لو أُفرد من حيث إن سبب النزول أمر وقع فيه،
كما ستطلع عليه، إن شاء الله تعالى. وأورد ضمير جمع المذكر في (عنكم)
و (يطهركم) رعايةً للفظ الأهل، والعرب كثيرًا ما يستعملون صيغ المذكر في مثل ذلك
رعايةً للفظ، وهذا كقوله - تعالى - خطابًا لسارة امرأة الخليل عليهما السلام
{قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} (هود: 73) ومنه - على ما قيل - قوله سبحانه: {فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ
نَاراً} (طه: 10) خطابًا من موسى عليه السلام لامرأته ، ولعل اعتبار التذكير هنا
أدخل في التعظيم. وقيل: المراد هو صلى الله - تعالى - عليه وسلم، ونساؤه
المطهرات - رضي الله تعالى عنهن - وضمير جمع المذكر لتغليبه عليه الصلاة
والسلام عليهن.
وقيل: المراد بالبيت: بيت النسب، ولذا أُفرد ولم يُجمع كما في السابق
واللاحق. فقد أخرج الحكيم الترمذي والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي معًا
في الدلائل عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله صلى
الله - تعالى - عليه وسلم: (إن الله - تعالى - قسم الخلق قسمين فجعلني في خيرهما
قسمًا، فذلك قوله - تعالى -: (وَأَصْحَابُ اليَمِينِ
…
وأصحاب الشمال) فأنا من
أصحاب اليمين ، وأنا خير أصحاب اليمين، ثم جعل القسمين أثلاثًا فجعلني في خيرها
ثلثًا، فذلك قوله تعالى [3] : {وَأَصْحَابُ المَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ المَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ} (الواقعة: 9-10) فأنا من السابقين ، وأنا خير السابقين، ثم جعل
الأثلاث قبائل ، فجعلني في خيرهم قبيلة وذلك قوله - تعالى -: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً
وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) وأنا أتقى ولد آدم
وأكرمهم على الله - تعالى - ولا فخر، ثم جعل القبائل بيوتًا ، فجعلني في خيرها
بيتًا، فذلك قوله - تعالى -: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: 33) أنا وأهل بيتي مطهرون من الذنوب) فإن
المتبادر من البيت الذي هو قسم من القبيلة البيت النَّسبَي.
واختلف في المراد بأهله، فذهب الثعلبي إلى أن المراد بهم: جميع بني هاشم
ذكورهم وإناثهم، والظاهر أنه أراد مؤمني بني هاشم ، وهذا هو المراد بالآل عند
الحنفية، وقال بعض الشافعية: المراد بهم: آله صلى الله تعالى عليه وسلم الذين
هم مؤمنو بني هاشم والمطلب. وذكر الراغب أن أهل البيت تعورف في أسرة
النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مطلقًا ، وأسرة الرجل - على ما في القاموس -
رهطه ، أي: قومه وقبيلته الأدنون، وقال في موضع آخر: صار أهل البيت متعارفًا
في آله عليه الصلاة والسلام، وصح عن زيد بن أرقم في حديث أخرجه مسلم أنه قيل
له: مَن أهل بيته؟ نساؤه صلى الله - تعالى - عليه وسلم؟ فقال: لا، ايم الله إن
المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر، ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها، أهل
بيته: أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده صلى الله تعالى عليه وسلم. وفي
آخر أخرجه هو أيضًا مبين هؤلاء الذين حرموا الصدقة أنه قال: هم آل علي وآل
عقيل وآل جعفر وآل عباس.
وقال بعض الشيعة: أهل البيت - سواء أريد به بيت المدر والخشب أم بيت
القرابة والنسب - عام، أما عمومه على الثاني فظاهر، وأما على الأول؛ فلأنه
يشمل الإماء والخدم، فإن البيت المدري يسكنه هؤلاء أيضًا، وقد صح ما يدل على
أن العموم غير مراد. أخرج الترمذي والحاكم - وصححاه - وابن جرير وابن
المنذر وابن مردويه والبيهقي في سننه من طرق عن أم سلمة - رضي الله
عنها - قالت: في بيتي نزلت {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
البَيْتِ} (الأحزاب: 33) وفي البيت فاطمة، وعلي، والحسن والحسين، فجللهم
رسول الله صلى الله - تعالى - عليه وسلم بكساء كان عليه، ثم قال: (هؤلاء أهل
بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا) وجاء في بعض الروايات أنه
عليه الصلاة والسلام أخرج يده من الكساء، وأومأ بها إلى السماء وقال: (اللهم
هؤلاء أهل بيتي وخاصتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا) ثلاث مرات،
وفي بعض آخر أنه عليه الصلاة والسلام ألقى عليهم كساءً فدكيًّا، ثم وضع يده
عليهم ثم قال: (اللهم إن هؤلاء أهل بيتي - وفي لفظ: آل محمد -، فاجعل
صلواتك وبركاتك على آل محمد، كما جعلتها على آل إبراهيم إنك حميد مجيد)
وجاء في رواية أخرجها الطبراني عن أم سلمة أنها قالت: فرفعت الكساء لأدخل
معهم فجذبه صلى الله عليه وسلم من يدي، وقال:(إنك على خير) وفي أخرى
رواها ابن مردويه عنها أنها قالت: ألستُ من أهل البيت؟ فقال صلى الله تعالى
عليه وسلم (إنك إلى خير، إنك من أزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم)
وفي آخرها رواها الترمذي وجماعة عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبي عليه
الصلاة والسلام قال: قالت أم سلمة: وأنا معهم يا نبي الله؟ قال: (أنت على
مكانك، وإنك على خير) وأخبار إدخاله صلى الله تعالى عليه وسلم عليًّا
وفاطمةَ وابنيهما - رضي الله تعالى عنهم - تحت الكساء، وقوله عليه الصلاة
والسلام: (اللهم هؤلاء أهل بيتي) ودعاؤه لهم ، وعدم إدخال أم سلمة أكثر
من أن تحصى، وهي مخصصة لعموم أهل البيت بأي معنًى كان البيت، فالمراد
بهم من شملهم الكساء، ولا يدخل فيهم أزواجه صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد
صرح بعدم دخولهن من الشيعة عبد الله المشهدي ، وقال: المراد من البيت: بيت
النبوة ، ولا شك أن أهل البيت لغة شامل للأزواج، بل للخدام من الإماء اللائي
يسكن في البيت أيضًا ، وليس المراد هذا المعنى اللغوي بهذه السعة بالاتفاق،
فالمراد به: آل العباء الذين خصصهم حديث الكساء. وقال أيضًا: إن كون البيوت
جمعًا في (بيوتكن) وإفراد البيت في (أهل البيت) يدل على أن بيوتهن غير
بيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اهـ. وفيه ما ستعلمه، إن شاء الله تعالى.
وقيل: المراد بالبيت: بيت السكنى وبيت النسب ، وأهل ذلك أهل كل من
البيتين، وقد سمعت ما قيل فيه، وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز، وقال بعض
المحققين: المراد بالبيت: بيت السكنى وأهله - على ما يقتضيه سياق الآية وسباقها
والأخبار التي لا تحصى كثرةً، ويشهد له العرف - من له مزيد اختصاص به إما
بالسكنى فيه مع القيام بمصالحه وتدبير شأنه والاهتمام بأمره، وعدم كون الساكن
في معرض التبدل والتحول بحكم العادة الجارية من بيع وهبة كالأزواج، أو
بالسكنى فيه كذلك بدون ملاحظة القيام بالمصالح كالأولاد، أو بقرابة من صاحبه
تقضي بحسب العادة بالتردد إليه والجلوس فيه من غير طلب من صاحبه لذلك، أو
بعدم المنع من ذلك كالأولاد الذين لا يسكنونه، وكأولادهم وإن نزلوا، وكالأعمام
وأولاد الأعمام، وعلى هذا يحصل الجمع بين الأخبار، وقد سمعت بعضها كحديث
الكساء، ولا دلالة فيه على الحصر، وكالحديث الحسن: أنه صلى الله تعالى عليه
وسلم اشتمل على العباس وبنيه بملاءة، ثم قال (يا رب هذا عمي وصنو أبي،
وهؤلاء أهل بيتي، فاسترهم من النار كستري إياهم بملاءتي هذه) فأمَّنت أسكفة
الباب وحوائط البيت فقالت: آمين، ثلاثًا. وجاء في بعض الروايات أنه عليه
الصلاة والسلام ضم إلى أهل الكساء علي وفاطمة والحسنين - رضي الله تعالى
عنهم - وبقية بناته وأقاربه وأزواجه. وصح عن أم سلمة في بعضٍ آخر أنها قالت:
فقلت: يا رسول الله، أما أنا من أهل البيت؟ فقال:(بلى إن شاء الله تعالى)
وفي بعض آخر أيضًا أنها قالت له صلى الله تعالى عليه وسلم: (ألست من أهلك؟)
قال: (بلى) وأنه عليه الصلاة والسلام أدخلها الكساء بعد ما قضى دعاءه لهم
وقد تكرر - كما أشار إليه المحب الطبري - منه صلى الله تعالى عليه وسلم الجمع
وقوله (هؤلاء أهل بيتي) والدعاء في بيت أم سلمة وبيت فاطمة - رضي الله
تعالى عنهما - وغيرهما وبه جُمع بين اختلاف الروايات في هيئة الاجتماع، وما
جلّل صلى الله تعالى عليه وسلم به المجتمعين، وما دعا به لهم، وما أجاب به أم
سلمة، وعدم إدخالها في بعض المرات تحت الكساء، ليس لأنها ليست من أهل البيت
أصلاً ، بل لظهور أنها منهم حيث كانت من الأزواج اللاتي يقتضي سياق الآية
وسباقها دخولهن فيهم بخلاف من أُدخلوا تحته - رضي الله تعالى عنهم - فإنه عليه
الصلاة والسلام لو لم يدخلهم، ويقل ما قال لتُوهم عدم دخولهم في الآية لعدم اقتضاء
سياقها وسباقها ذلك. وذكر ابن حجر على تقدير صحة بعض الروايات المختلفة
الحمل على أن النزول كان مرتين، وقد أدخل صلى الله تعالى عليه وسلم بعض من
لم يكن بينه وبينه قرابة سببية ولا نسبية في أهل البيت توسعًا وتشبيهًا، كسلمان
الفارسي - رضي الله تعالى عنه - حيث قال عليه الصلاة والسلام: (سلمان منا
أهل البيت) وجاء في رواية صحيحة أن واثلة قال: وأنا من أهلك يا رسول الله؟
فقال عليه الصلاة والسلام (وأنت من أهلي) فكان واثلة يقول: إنها لمن أرجى
ما أرجو. والخبر الدال بظاهره على أن المراد بالبيت البيت النَّسبي - أعني خبر
الحكيم الترمذي ومَن معه عن ابن عباس - يجوّز حمل البيت فيه على بيت المدر.
والحيوان ينقسم إلى رومي وزنجي - مثلاً - كما ينقسم الإنسان إليهما، على أن في
رواته من وثقه ابن معين وضعفه غيره، والجرح مقدم على التعديل.
وما روي عن زيد بن أرقم - رضي الله تعالى عنه - من نفي كون أزواجه
صلى الله - تعالى - عليه وسلم أهل بيته، وكون أهل بيته: أصله وعصبته الذين
حرموا الصدقة بعده عليه الصلاة والسلام فالمراد بأهل البيت فيه: أهل البيت
الذين جعلهم رسول الله صلى الله - تعالى - عليه وسلم ثاني الثقلين، لا أهل البيت
بالمعنى الأعم المراد في الآية، ويشهد لهذا ما في صحيح مسلم عن يزيد بن حبان
قال: انطلقت أنا وحصين بن صبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم، فلما
جلسنا إليه قال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيرًا كثيرًا: رأيت رسول الله صلى
الله - تعالى - عليه وسلم ، وسمعت حديثه ، وغزوت معه ، وصليت خلفه، لقد
لقيت يا زيد خيرًا كثيرًا، حدثنا يا زيد بما سمعت من رسول الله صلى الله -
تعالى - عليه وسلم. قال: يا أخي والله لقد كبرت سني وقدم عهدي، فنسيت
بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله - تعالى - عليه وسلم، فما حدثتكم
فاقبلوا، وما لا، لا تكلفونيه. ثم قال: قام رسول الله صلى الله - تعالى - عليه
وسلم يومًا فينا خطيبًا بماء يدعى (خما) بين مكة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ،
ووعظ وذكّر ثم قال: (أما بعد ألا يا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي
رسول ربي فأجيب ، وإني تارك فيكم ثقلين، أولهما: كتاب الله فيه الهدى والنور ،
فخذوا بكتاب الله ، واستمسكوا به) فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال
(وأهل بيتي، أذكِّركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في
أهل بيتي، ثلاثًا. فقال له حصين: ومَن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل
بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حُرم الصدقة بعده، قال: ومن
هم؟ قال: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس) الحديث. فإن الاستدراك
بعد جَعْله النساء من أهل بيته صلى الله تعالى عليه وسلم ظاهر في أن الغرض: بيان
المراد بأهل البيت في الحديث الذي حدث به عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وهم
فيه ثاني الثقلين، فلأهل البيت إطلاقان، يدخل في أحدهما النساء ولا يدخلن في
الآخر، وبهذا يحصل الجمع بين هذا الخبر والخبر السابق المتضمن نفيه - رضي الله
تعالى عنه - كون النساء من أهل البيت، وقال بعضهم: إن ظاهر تعليله نفي كون
النساء أهل البيت بقوله: (ايم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر، ثم
يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها) يقضي أن لا يكنَّ من أهل البيت مطلقًا، فلعله أراد
بقوله في الخبر السابق: (نساؤه من أهل بيته) أنساؤه؟ إلخ، بهمزة الاستفهام
الإنكاري، فيكون بمعنى: ليس نساؤه من أهل بيته كما في معظم الروايات في غير
صحيح مسلم ويكون - رضي الله تعالى - عنه ممن يرى أن نساءه عليه الصلاة
والسلام لسن من أهل البيت أصلاً، ولا يلزمنا أن ندين الله برأيه لا سيما وظاهر الآية
معنا، وكذا العرف، وحينئذ يجوز أن يكون أهل البيت الذين هم أحد الثقلين بالمعنى
الشامل للأزواج، وغيرهن من أصله وعصبته صلى الله - تعالى - عليه وسلم الذين
حرموا الصدقة بعده، ولا يضر في ذلك عدم استمرار بقاء الأزواج كما استمر بقاء
الآخرين مع الكتاب كما لا يخفى اهـ.
وأنت تعلم أن ظاهر ما صح من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم (إني تارك
فيكم خليفتين - وفي رواية: ثقلين - كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض
وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض) يقتضي أن النساء
المطهرات غير داخلات في أهل البيت الذين هم أحد الثقلين؛ لأن عترة الرجل كما
في الصحاح: نسله ورهطه الأدنون. و (أهل بيتي) في الحديث، الظاهر أنه بيان
له، أو بدل منه بدل كل من كل، وعلى التقديرين يكون متحدًا معه، فحيث لم تدخل
النساء في الأول لم تدخل في الثاني، وفي النهاية أن عترة النبي صلى الله تعالى عليه
وسلم بنو عبد المطلب، وقيل: أهل بيته الأقربون والأبعدون منهم اهـ.
والذي رجحه القرطبي أنهم من حرمت عليهم الزكاة، وفي كون الأزواج
المطهرات كذلك خلاف، قال ابن حجر: والقول بتحريم الزكاة عليهن ضعيف، وإن
حكى ابن عبد البر الإجماع عليه فتأمل، ولا يرد على حمل أهل البيت في الآية على
المعنى الأعم ما أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن أبي سعيد الخدري
قال: قال رسول الله صلى الله - تعالى - عليه وسلم: (نزلت هذه الآية في خمسة:
في وفي علي وفاطمة وحسن وحسين {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: 33) إذ لا دليل فيه على الحصر، والعدد لا مفهوم له.
ولعل الاقتصار على من ذَكَر صلوات الله تعالى وسلامه عليهم؛ لأنهم أفضل من
دخل في العموم، وهذا على تقدير صحة الحديث، والذي يغلب على ظني أنه غير
صحيح، إذ لم أعهد نحو هذا في الآيات منه صلى الله تعالى عليه وسلم في شيء من
الأحاديث الصحيحة التي وقفت عليها في أسباب النزول.
وبتفسير أهل البيت بمن له مزيد اختصاص به على الوجه الذي سمعت يندفع ما
ذكره المشهدي من شموله للخدام والإماء والعبيد الذين يسكنون البيت، فإنهم في
معرض التبدل والتحول بانتقالهم من ملك إلى ملك بنحو الهبة والبيع، وليس لهم قيام
بمصالحه واهتمام بأمره وتدبير لشأنه إلا حيث يؤمرون بذلك، ونظمهم في سلك
الأزواج، ودعوى أن نسبة الجميع إلى البيت على حد واحد - مما لا يرتضيه
منصف، ولا يقول به إلا متعسف.
وقال بعض المتأخرين: إن دخولهم في العموم مما لا بأس به عند أهل السنة؛
لأن الآية عندهم لا تدل على العصمة، ولا حجر على رحمة الله عز وجل ،
ولأجل عين ألف عين تكرم، وأما أمر الجمع والإفراد، فقد سمعت ما يتعلق به ،
والظاهر على هذا القول أن التعبير بضمير جمع المذكر في (عنكم) للتغليب، وذكر
أن في (عنكم) عليه تغليبين، أحدهما: تغليب المذكر على المؤنث، وثانيهما:
تغليب المخاطب على الغائب؛ إذ غير الأزواج المطهرات من أهل البيت لم يجر لهم
ذكر فيما قبل، ولم يخاطبوا بأمر أو نهي أو غيرهما فيه، وأمر التعليل عليه ظاهر
وإن لم يكن كظهوره على القول بأن المراد بأهل البيت: الأزواج المطهرات فقط،
واعتذر المشهدي عن وقوع جملة {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ} (الأحزاب: 33) إلخ، في
البين بأن مثله واقع في القرآن الكريم، فقد قال تعالى شأنه: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} (النور: 54) ثم قال
سبحانه بعد تمام الآية {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (البقرة: 43) فعطف
(أقيموا) على (أطيعوا) مع وقوع الفصل الكثير بينهما، وفيه أنه وقع بعد
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} (النور: 56) إلخ {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (النور: 56) فلو كان العطف على ما ذكر لزم عطف (أطيعوا) على (أطيعوا) وهو كما ترى،
سلمنا أن لا فساد في ذلك إلا أن مثل هذا الفصل ليس من محل النزاع، فإنه فصل
بين المعطوف والمعطوف عليه بالأجنبي من حيث الإعراب، وهو لا ينافي البلاغة،
وما نحن فيه - على ما ذهبوا إليه - فصل بأجنبي باعتبار موارد الآيات اللاحقة
والسابقة وإنكار منافاته للبلاغة القرآنية مكابرة لا تخفى، ومما يضحك منه الصبيان
أنه قال بعد: إن بين الآيات مغايرة إنشائية وخبرية؛ لأن آية التطهير جملة ندائية
وخبرية ، وما قبلها وما بعدها من الأمر والنهي جمل إنشائية ، وعطف الإنشائية على
الخبرية لا يجوز، ولعمري إنه أشبه كلام من حيث الغلط بقول بعض عوام الأعجام:
خسن وخسين دختران مغاوية، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور) اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
تابع لما في الجزئين 9 و10 من المجلد 20.
(2)
يراجع النقد في ص 250 م 20.
(3)
قوله: [وَأَصْحَابُ المَشْأَمَةِ] إلخ كذا بخطه، وفيه حذف صدر الآية وهو الثلث الأول اهـ، مصححه.
الكاتب: محمد رشيد رضا
التقاضي والتخاصم في رسالة آدم
الحسد غريزة قديمة في الثقلين، كان أول مظهر عرف لها في التاريخ المأثور
حسد إبليس أبي الشياطين - لعنه الله - لآدم أبي البشر عليه السلام، وكان ينبغي
أن يكون أطهر البشر من هذه الخليقة الذميمة أهل العلم الديني، ولكن ثبت في بعض
الآثار أنهم أشد تغايرًا من التيوس في زروبها كما ثبت بالاختبار أنهم أشد تحاسدًا من
النساء الضرائر في بيوتها.
وقد لبس الحسد الإبليسي في هذا العام وما قبله ثوبي زور من الغيرة على
آدم عليه السلام. ثوبان ظهر بهما بعض محبي الظهور من شبان الأزهريين، وإنما
فصلهما وخاطهما بعض شيوخهم المعروفين، فأما الثوب الأول: فهو تكفير من
يقول بأن قوله تعالى: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} (النساء: 1) ليس نصًّا
قطعيًّا في كون هذه النفس (المنكرة) هي آدم، وفي كونه هو أصل جميع البشر -
وإن كان يقول بهذا عملاً بدلالة الظواهر - وعدم قبول إسلام أحد من القائلين بتعدد
أصول البشر، أو الشاكين في صفة تكوينهم، وقد بينا في المنار كيف كان عاقبة
المفترين في هذه المسألة (راجع ص 6 م20) .
وأما الثوب الثاني: فهو تكفير من يقول: إن رسالة آدم غير ثابتة بنص
قطعي، بل القول بها معارض بظواهر بعض الآيات، وبحديث الشفاعة المتفق
عليه؛ فإن خاتم النبيين والمرسلين صلى الله عليه وسلم يروي فيه عن آدم أن نوحًا
أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، ذكر هذه المسألة في مجلس خاص
بدمنهور الشيخ محمد أبو زيد من مريدينا طلاب دار الدعوة والإرشاد، فانبرى
لتكفيره والتشهير به صاحب الثوب المستعار، ثم ألبس الثوب من رفع عليه
دعوى حسبة إلى قاضي دمنهور الشرعي ليحكم بردته ويفرق بينه وبين زوجه،
فكان مَثَله مع مفصل الثوب ولابسه الأول كَمَثَل من تعلم السحر من هاروت ،
وماروت {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ
أَحَدٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي
الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} (البقرة: 102) .
نظر في الدعوى قاضي دمنهور، فكان فقهه فيها كفقه لابس الثوب وخائطه،
فحكم بردة الرجل وفرق بينه وبين زوجه، فأحدث هذا الحكم هزةً واضطرابًا في
القطر المصري كله، وأظهر الناس استنكاره في جميع الجرائد، وبيَّن أهل العلم
وجوه خطأه في المجالس والمدارس، وانزعجت له وزارة الحقانية، فحظرت النظر
في أمثال هذه الدعوى على المحاكم الشرعية، إلا أن يكون بعد اطلاع الوزارة على
الدعوى، وأخذ الإذن الخاص بالنظر والحكم فيها، وهذا ملخص الحكم المشار إليه:
صورة ملخص الحكم
الصادر في قضية الشيخ أبو زيد
سئل الشيخ عما يعتقده في رسالة ونبوة آدم فقال: (إن آدم ليس نبيًّا ولا
رسولاً بنص قطعي، وإنما نبوته ورسالته ظنيتان، هذا ما نطقت به وما أعتقده
إلى الآن) .
الحكم والأسباب
حيث إن نبوة سيدنا آدم عليه السلام ثابتة بالكتاب والسنة وبالإجماع
ومعلومة من الدين بالضرورة، لذا كفر جاحدها. قال في كتاب العقائد النسفية:
أول الأنبياء آدم عليه السلام، وآخرهم محمد عليه الصلاة والسلام. أما نبوة آدم
فبالكتاب والسنة والإجماع، أما بالكتاب الدال على أنه أمر ونهي، مع القطع بأنه لم
يكن في زمنه نبي آخر، فهو بالوحي لا غير، وكذا بالسنة والإجماع، فإنكار نبوته
على ما نقل عن البعض يكون كفرًا، وفي الفتاوى الهندية، جزء ثاني: من يقول:
آمنت بجميع الأنبياء، ولا أعلم أن آدم نبي أم لا: يكفر، كذا في العتبية، ولم يحك
خلافًا، وفيها أيضًا: رجل قال لغيره: إن آدم عليه السلام نسج الكرباس، فقال له
الغير: فحينئذ نحن أولاد النساج، فهذا كفر، وما ذاك إلا يكون استخفافًا بالنبي؛
لأن هذه العبارة لو قيلت لولي من أولياء الله ما ترتب عليها الكفر، وفي الجزء
الأول من (مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر) ويكفر بقوله: لا أعلم أن آدم عليه
الصلاة والسلام نبي أم لا.
وحيث إن المنصوص عليه شرعًا أن المرتد عن دين الإسلام ينفسخ نكاحه في
الحال ويفرق بينه وبين زوجته وحيث إن الشيخ محمد أبو زيد قد نطق بما يوجب
الردة لإنكاره نبوة ورسالة آدم عليه السلام ، وإن هذه عقيدته كما أقر بذلك، وبذا ارتد
عن دين الإسلام ، وانفسخ نكاحه بزوجته فلانة ، فوجب التفريق.
(لهذا) فرقنا بين الشيخ محمد أبو زيد المذكور، وزوجته.
(المنار)
هذا نص الحكم كما وصل إلينا، وهو على ما فيه من خطأ في العبارة
ظاهر البطلان بعدم انطباقه على الدعوى من جهة الصورة، وبعدم صحة ما استدل
به القاضي - فأما الأول: فإن الشيخ أبا زيد قد صرح بأن نبوة آدم ورسالته
ثابتتان بالأدلة الظنية، وهذا ليس إنكارًا لها كما زعم القاضي، وإلا كان القاضي
نفسه منكرًا لمعظم أحكام الشريعة التي يحكم بها بين الناس في مسائل الأبضاع
والأموال، والكفر والإيمان، فإن معظمها ظني بغير نزاع، وقد صرحوا في العقائد
النسفية وشروحها أن الأدلة الظنية كافية في العقائد، وأما الثاني: فهو أن الردة إنما
تكون بجحد المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة، وهو ما لا يخفى على أحد
من عوام المسلمين وخواصهم، ونبوة آدم ورسالته ليست كذلك، فما نقله عن الفتاوى
الهندية في التكفير بها غير صحيح، وقد قصر القاضي فيما يجب عليه من كشف
شبهة المدعى عليه ومن استتابته.
***
إلغاء الحكم في قضية سيدنا آدم
بحكم محكمة الاستئناف الشرعية الصادر في أول ديسمبر سنة 1918
منقول عن جريدة وادي النيل
عرضت قضية سيدنا آدم المعروفة على محكمة الإسكندرية الكلية الشرعية
أمس برئاسة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ مصطفى سلطان ، وكان الزحام شديدًا
جدًّا، وقد حضر الجلسة جمهور كبير من المحامين الأهليين والشرعيين والعلماء،
وكان المدعى عليه الشيخ محمد أبو زيد حاضرًا ومعه اثنان من المحامين، وكان
المدعي الشيخ محمد صالح الزواوي حاضرًا ومعه محامياه.
وبعد استكمال الإجراءات النظامية سمعت المحكمة كلام المحامين، ثم سألت
المدعى عليه:
تريد المحكمة أن تتبين رأيك في نبوة آدم.
- إن نفسي مطمئنة إلى أنه نبي، ونظري في النصوص هو الذي اطمأنت به
نفسي.
- قلتَ في مذكرتك في الصفحة التاسعة: (فما بال هؤلاء يطلبون حكمًا
شرعيًّا من قاضٍ مسلم يعتقد أن نبوة آدم ورسالته ليستا من العقائد في شيء؟)
- إنهما ليستا من العقائد التي تثبت بالنص القطعي، وهذا تعريف أصولي
اتبعته في جهات من المذكرة [1] .
- جاء في المذكرة ما يدل على أنك ترى الأدلة ظنيةً.
- إن كلامي لا ينافي اعتقاد النبوة، فإنه لا مانع من أن آخذ من الأدلة الظنية
شيئًا ترتاح به نفسي ويطمئن إليه ضميري، وإن أدلة نبوة آدم عليه السلام، وإن
كانت ظنيةً في اصطلاح الأصوليين، فإني مرتاح إليها، وليس هناك خلاف بين ما
أقوله الآن، وما قلته فيما مضى.
وبعد هذا أخذ فضيلة الرئيس يفيض في نصائحه، وكان الأسف والحزن
آخذين من نفسه فقال: أخجلتمونا أمام الناس أعظم خجل، فالإفرنج مشتغلون بما
يفيدهم، وأنتم مشغولون بما لا يفيد، ألستم ترون الكسل والكذب اللذين يتفشيان في
الأخلاق حتى كادا يقتلانا؟ أفما كان الأولى أن نعالج هذين الدائين وغيرهما من
الأدواء المنتشرة بيننا؟ لقد كان الأولى أن يكتب القلم الذي كتبت به هذه المذكرة
فيما ينفع الأمة فيقول لها: اتحدو، لا تحاسدوا، لا تتباغضوا، اعملوا كما يعمل
غيركم، اطلبوا العيش بعزة النفس، لا بالمذلة للأمراء وغير الأمراء، نرجو يا
رجال الدين أن تعالجوا الأدواء المنتشرة بين المسلمين.
وبعد أن فرغ من هذه النصائح الثمينة استحلف رجال الدين أن ينبذوا الشقاق
وصغائر الأمور، وقال: إنني أعرف الآن أنكم حزبان أتيا ليسمعا ما نقضي به
في هذه القضية، فأرجو أن تخرجوا متحدين، ثم قامت المحكمة للمداولة، ثم عادت
فأصدرت الحكم، وهذا نصه:
بعد سماع أقوال الخصوم والاطلاع على ملف القضية الابتدائية، وبعد
المداولة، وللأسباب التي هي:
- استئناف حاز شكله القانوني فهو مقبول.
- المقرر شرعًا أن الكفر هو تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في شيء مما
علم مجيئه به من الدين علمًا ضروريًّا بحيث يستوي فيه الخاصة والعامة، كالتوحيد
وأركان الإسلام ، وألحقوا به كفر العناد ، أو ما يدل على الاستخفاف لتضمن ذلك
معنى الجحود.
- نبوة آدم، وإن دل عليها الكتاب والسنة واتفق عليها العلماء، ولم يعرف
بينهم خلاف فيها ، فإنكارها بأي شكل كان ضلال ومخالفة لما عليه المسلمون، إلا
أنها ليست من ضروريات الدين بحيث يعرفها الكافة، كالصلاة والصوم، بل هي
من الأمور النظرية ، والقول بأنها معلومة من الدين بالضرورة دعوة غير مقبولة.
- منكر شيء من الأمور النظرية مستندًا إلى شبهة - ولو غير صحيحة - لا
يُحكم عليه شرعًا بالكفر على ما هو الحق الذي يجب العمل به في مذهب الحنفية،
ذلك لأن الكفر نهاية في العقوبة، فلا يكون إلا عن نهاية الجناية، وذلك بإنكار الثابت
بالنص القطعي الخالي من الشبهة والاحتمال من الكتاب والسنة المتواترة ، أو الإجماع
القولي الثابت تواترًا، ولذلك قالوا: لا يُفتى بكفر مسلم أمكن حمل كلامه على محمل
حسن، أو كان في عدم كفره رواية ضعيفة ولو في مذهب غيرهم، وأجازوا مع
الكراهة إمامة أهل البدع في الصلاة، وهم ممن يعتقدون خلاف المعروف عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم بلا معاندة، بل بنوع شبهة إن كانت فاسدةً حتى الخوارج
الذين يستحلون دماء وأموال مخالفيهم من المسلمين ، أو ينكرون صفات الله، وقالوا:
لا نكفر أهل البدع ببدعتهم لكونها من تأويل وشبهة وللنهي عن تكفير أهل القبلة
والإجماع على قبول شهادتهم، وذلك ما لم ينكر أحد منهم شيئًا من المعلوم ضرورة.
وفي الفتاوى الصغرى: (الكفر شيء عظيم) وفي جامع الفصولين: (لا
يُخرج الرجل من الإيمان إلا جحود ما أدخله فيه، وما يشك في أنه ردة لا يحكم بها؛
إذ الإسلام الثابت لا يزول بالشك، إن الإسلام يعلو) وقال صاحب نور العين: إن
المسائل الإجماعية تارةً يصحبها التواتر كوجوب الخمس، وقد لا يصحبها إلا بكفر
جاحدها (؟) لمخالفته التواتر لا الإجماع (ثم نقل أنه) إذا لم تكن الآية أو
الخبر المتواتر قطعي الدلالة ، أو لم يكن الخبر متواترًا ، أو كان قطعيًّا ولكن فيه
شبهة ، أو لم يكن إجماع الجميع ، أو كان ولم يكن إجماع جميع الصحابة ، أو لم
يكن قطعيًّا بأن لم يثبت بطريق التواتر ، أو كان قطعيًّا لكن كان إجماعًا سكوتيًّا -
ففي كل هذه الصور لا يكون الجحود كفرًا.
ومن كل هذا ترى العلماء - رضوان الله عليهم - قد احتاطوا نهاية الاحتياط في
عدم تكفير المسلمين.
ما ورد من الآيات والأحاديث في نبوة آدم عليه السلام، وكذا الإجماع عليها،
كل ذلك لم تتوفر فيه تلك القيود، وهذا ما يجب التعويل عليه دون ما عداه،
وعليه يكون حكم محكمة أول درجة في غير محله، ويتعين إلغاؤه.
وكيل المستأنف قال: إنه مكتف بالأدلة الموجودة بمحضر القضية الابتدائية ،
وهي أدلة غير منتجة للدعوى خصوصًا وقد قرر المستأنف عليه اليوم أنه يعتقد تمام
الاعتقاد بنبوة آدم عليه السلام.
لهذا، تقرر قبول هذا الاستئناف شكلاً، وفي الموضوع بإلغاء ما حكمت به
محكمة أول درجة، ورفض دعوى المدعي) اهـ.
(المنار)
هذا الحكم هو الحق وما ذكره القاضي الفاضل في أثناء كلامه من المواعظ
يرجى أن يزيد المدعى عليه المظلوم في تكفيره والتفريق بينه وبين زوجه، هدى.
فإنه قد عاهد الله- تعالى- على يدنا بوقف حياته على خدمة دينه وأمته بمثل هذه
المواعظ، وما كتب مذكرته إلا دفاعًا عن دينه، وهو أثمن شيء يحرص عليه،
فكانت كتابتها في وقتها أفضل مما استحسن القاضي إبداله بها، وأما المبطلون
المكفرون للمؤمنين مع علمهم بما ورد في ذلك، فلم يتعظوا - وهم أحوج إلى
الموعظة - إذ طلبوا إعادة النظر في الحكم مخطئين له، وذلك يتضمن تكفير قاضي
الاستئناف بزعمهم؛ لأنه قال بأن نبوة آدم مسألة نظرية لا قطعية، فهل
فقهوا هذا؟ أم يقولون إن أبا زيد يكفر بما لا يكفر به غيره؟
قالت جريدة وادي النيل:
عود إلى قضية آدم
لم يقنع المدعون في قضية آدم المعروفة بالحكم الذي أصدرته المحكمة
الشرعية الكلية فيها، ويظهر أنهم لم يتأثروا بتلك النصائح الثمينة التي أفاض بها
فضيلة رئيس المحكمة عليهم وعلى رجال الدين عامةً، ومن أغلاها وأثمنها ترك
الخلاف في توافه الأمور، والاتفاق لمعالجة الأدواء التي تضر الأمة في كل شيء ،
وإنا لا يسعنا إلا أن نأسف لهذه الحالة، فقد رفعوا التماس إعادة نظر إلى المحكمة،
وعرض عليها في جلسة أمس (أي: 29 ربيع الأول سنة 1337 -2يناير
1919) فأصدرت الحكم الآتي:
صار الاطلاع على عريضة الالتماس المطلوب بها إلغاء ما حكمت به محكمة
الاستئناف في القضية نمرة 4 سنة 1918 بتاريخ أول ديسمبر سنة 1918
وخلاصتها أنه لم يصادف (كما زعم الطالب) قبولاً في المذهب لبنائه على مجرد
استنتاجات من قواعد عامة؛ ولأن اتفاق العلماء على نبوة آدم (باعتراف المحكمة)
يدل على أنها معلومة من الدين بالضرورة ، لا من الأمور النظرية، فضلاً عن
وجود نصوص قاطعة تدل على أنها معلومة من الدين بالضرورة، ولأن كل الأحكام
الشرعية نظرية ، ولما اشتهر بعضها اشتهارًا تامًّا سمي ضروريًّا ، وذلك لا ينافي
نظريته وأن الضروري متفاوت في الشهرة ، ويكفي فيه أي شهرة، وعلى تسليم أنه
نظري - كما فهمت المحكمة - فإن منكره لا يعفى من التكفير إلا إذا كان خفيًّا،
والمنكر له شبهة، وإن عدول المستأنف إلى الإقرار بنبوة آدم أمر زائد عن الموضوع
الذي فصل فيه ابتدائيًّا، إلخ.
المحكمة: حيث إن الالتماس تقدم في ميعاده القانوني وحيث ما قررته
محكمة الاستئناف في بيان ما حكمت به في القضية المشار إليه لا عمل لها فيه
بشيء سوى جمع ما قاله علماء الحنفية في عدة مواضع في كتب الفروع المعول
عليها (كرد المحتار) وشرحه في باب الإمامة والردة و (البحر) في الردة،
و (فتح القدير) في باب البقاء، وغير ذلك، ومن كتب الأصول (كالتحرير)
و (مسلم الثبوت) القاضية تلك النصوص بأن مذهب أبي حنيفة: عدم تكفير أحد
من المخالفين فيما ليس من الأصول المعلومة من الدين بالضرورة ، وإذن يكون ما
قضي به استئنافيًّا في هذه الحادثة ليس إلا بالتطبيق لما نصوا على أنه المذهب،
والذي يعلم منه أن ما جاء في (الهندية) و (مجمع الأنهر) مخالفًا له لا يمكن
الأخذ به في الأحكام التي لا تكون إلا بأرجح الأقوال من مذهب أبي حنيفة عملاً بما
قالوه في رسم المفتي (راجع مقدمة شرح الدر جزء أول) وجاء القانون نمرة 31
مقررًا له.
وحيث إن التطرف بدعوى أن نبوة آدم معلومة من الدين بالضرورة توصلاً
لتكفير مسلم بأي وسيلة انقيادًا لأحقاد نفسية، ثم الاستدلال عليها بما جاء بعريضة
الالتماس تعده المحكمة تهاترًا وشغبًا في أمر بديهي، ومثله مكابرة مردود من ذاته لا
يستحق التفاتًا.
وحيث إن حكم محكمة الاستئناف لم يُبنَ إلا على أن المستأنف أنكر لشبهة
غير صحيحة أمرًا نظريًّا ليس من الأصول المعلومة ضرورة، كما هو صريح في
أسباب ذلك الحكم ، ولا دخل فيه مطلقًا لما قرره المستأنف بالجلسة، فالقول: إن ما
حصل منه أمر زائد لم يفصل فيه ابتدائيًّا، وجعل ذلك من أسباب الالتماس - قول
صادر بلا روية، ومما ذكر كله وما تبين في أسباب الحكم المستأنف، ومن الرجوع
إلى الكتب التي أخذت منها أسبابه، وإلى كتاب (فيصل التفرقة بين الإسلام
والزندقة) للإمام الغزالي رضي الله عنه يرى أن ما حكمت به محكمة
الاستئناف هو ما يجب الحكم به شرعًا، ويتعين لما ذكر رفض هذا الالتماس
موضوعًا عملاً بالفقرة الثانية من المادة 331 قانون نمرة 31 سنة 1910.
فبناءً عليه، تقرر قبول هذا الالتماس شكلاً وفي الموضوع برفضه وعدم
قبوله اهـ.
(المنار)
نشكر للقاضي الفاضل تصريحه بما ظهر له من أن هذه القضية لم تكن
صادرةً عن غيرة على الدين، ولا حرص على أعراض المسلمين، وإنما هي أحقاد
نفسية أثارها الحسد، وإلا فما بالنا لم نر أحدًا من هؤلاء المكفرين لأهل الصلاح
والإصلاح من المسلمين، لا يدافعون عن الإسلام بالإنكار على من يدعون إلى ترك
جميع نصوصه حتى نصوص الكتاب والسنة والإجماع بجميع أنواعه، وتفضيل ما
يضعونه هم من القوانين عليها كالذين يرد عليهم المنار من رجال القضاء الأهلي،
ولا بالإنكار على المستبيحين لجميع الفواحش والمنكرات؟
_________
(1)
يعني بالمذكرة رسالةً كتبها في المسألة بيَّن فيها خلاف العلماء وطبعها.
الكاتب: محمد رشيد رضا
حجم المنار
والجزء الأول من المجلد الحادي والعشرين
بدأنا بهذا الجزء في ربيع الأول، واضطررنا إلى تأخيره زهاء شهرين، وقد
زدنا فيه كراستين على ما قبله ونرجو أن نزيد فيما يصدر بعد الجزء الثالث إذا ورد
ورق جديد على مصر في هذه المدة، وأن يصدر مطردًا بلا انقطاع، وقد أخرنا
المقالة الرابعة من مقالات (المتفرنجون والإصلاح الإسلامي) ولعلها تنشر في الجزء
التالي له مع ترجمة (باحثة البادية) وتأبينها وشيء من تقريظ المطبوعات الحديثة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
المتفرنجون والإصلاح الإسلامي [*]
(4)
قد بينا في المقالة الثانية رأي أحمد صفوت أفندي [1] في الكتاب والسنة
والإجماع والقياس من أصول الشريعة ، وتكلمنا في المقالة الثالثة على أصلي
الإجماع والقياس، وأرجأنا الكلام على الأصلين الأولين بالتفصيل إلى هذه المقالة
فنقول:
أحكام السنة
ملخص ما نقلناه من خطبة الرجل في أحكام السنة (ص407 م20) أنها
قسمان: خاص: وهو ما كان من قبيل أحكام المحاكم في القضايا الفردية ، وعام:
وهو ما كان من قبيل القواعد والقوانين لزمنه صلى الله عليه وسلم، وزعم أن كلاًّ
من القسمين قد ثبت للرسول صلى الله عليه وآله وسلم بصفته حاكم الأمة وقاضيها ،
أي: لا بكونه رسول الله - تعالى - والمبلغ عنه، وأن لكل حاكم يجيء بعده حق
الحكم والتشريع الذي كان له في الأحكام المدنية، وله أن يغير ويلغي من تلك
الأحكام ما يرى مصلحة الناس في تغييره وإلغائه.
ونقول: إن هذا الذي قرره مخالف لما جرى عليه المسلمون منذ ظهر الإسلام
إلى هذا اليوم، فهو مشاقة للرسول واتباع لغير سبيل المؤمنين، وخروج عن
إجماعهم الحقيقي، لا العرفي عند الأصوليين فقط، ولكنه يقرره بصفته مسلمًا كما
قال، وقد علم مما بيناه في المقالة الثالثة مكانه من الإسلام.
أما المسلمون فهم متفقون على أن الحكم لله وحده {إِنِ الحُكْمُ إِلَاّ لِلَّهِ} (الأنعام: 57) وأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مبلغ عن الله تعالى، وأُمر
أن يحكم بين الناس بما أراه الله فيما أنزل الله من الكتاب والميزان، والمراد
بالميزان: العدل والقسط، والموازنة بين أحكام النصوص في القياس والرأي، قال
تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ
فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ
شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (المائدة: 48) الآية، وقال:
{إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (النساء: 105)
وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} (الشورى: 17)
وقال عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ
النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد: 25) وقال تبارك اسمه: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم
بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (المائدة: 42) وقد أمر الله المؤمنين بما أمر
به الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى
أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58) وقال: {وَلَا
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ
بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة: 8) أي: ولا يكسبنكم بغض قوم وعداوتهم لكم أو
بغضكم لهم، جريمة ترك العدل فيهم، بل يجب أن تعدلوا فيمن تبغضون ومن
يعاديكم، كما يجب أن تعدلوا فيمن يحبكم وفيمن توالون على سواء، فالعدل
واجب لذاته لا يختلف باختلاف من يحكم بينهم ومن يعاملون.
قلنا: إن المسلمين اتفقوا على أن الحكم لله وحده ، أي: هو له لذاته؛ لأنه
هو رب العباد الذي يعلم ما فيه الخير والمصلحة لهم، والذي يجب عليهم الخضوع
والانقياد له، ولهم العز والشرف في ذلك، وليس لبشر أن يعلو على جماعة البشر،
فيكون سيدًا مسيطرًا عليهم بقوته أو عصبيته رضوا أم سخطوا؛ لأن هذا ذل وعبودية
لا تجب عليهم إلا لربهم وخالقهم، ولذلك جعل الله الرسل معلمين هادين، لا جبارين
ولا مسيطرين.
وقد اختلف العلماء في أحكام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: هل كانت كلها
بوحي من الله، أم كان بعضها بالاجتهاد والقياس؟ وهل أذن الله له أن يحكم برأيه فيما
لم يُوحَ إليه فيه شيء لا بالنص ولا بالاقتضاء أم لا؟ وقد جعل الله تعالى أمر المؤمنين
شورى بينهم، حتى إنه أمر الرسول نفسه بمشاورتهم في الأمر، وإنما أوجب عليهم
طاعة أولي الأمر منهم بالتبع لطاعة الله ورسوله، فلا يطاع أحد منهم في
معصيته و (إنما الطاعة بالمعروف) كما ثبت في الحديث الصحيح [2] ، بل قال
تعالى في آية المبايعة للرسول: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} (الممتحنة: 12)
وبهذا يعلم الفرق بين طاعة الرسول وطاعة غيره من أولي الأمر، وقد فصلنا ذلك في
تفسير {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59)[3] فما
قرره أحمد أفندي صفوت من مساواة الرسول صلى الله عليه وسلم بغيره من
الملوك والسلاطين في التشريع - باطل مخالف لكتاب الله وسنة رسوله
وإجماع المسلمين ، وكذا للمعقول، فطاعة الرسول من أصول الإيمان، واستحلال
مخالفته والقول بنسخ آحاد الحكام لأحكامه وشرعه، كفر صريح، بل يشترط
في صحة الإيمان الإذعان لحكمه والرضا به ظاهرًا وباطنًا {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ
حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا
تَسْلِيماً} (النساء: 65)[4] .
هذا وإننا نرى هؤلاء المتفرنجين يقتدون بأئمتهم الإفرنج في كل شيء ضار،
ولا يقتدون بهم في احترام سلفهم من رجال القانون والمشترعين ورؤساء الحكام ،
وناهيك بالإنكليز والأمريكان منهم، فإنهم لا يزالون يحافظون على أقوال سلفهم،
وحكامهم ما لم يضطروا إلى تركها اضطرارًا، ومن ذلك ما يطرق مسامعنا كثيرًا
في هذه الأيام من تكرار مذهب (منرو) واستمساك أهل الولايات المتحدة بعروته
حتى إن منهم من يقاوم به مشروع جمعية الأمم الذي هو أشرف مشروع يعلو به قدر
أمتهم ورئيسهم إذا هو نجح في تنفيذه، وإلا كان الأمر بالعكس أو الضد. وتراهم
مع هذا يقولون: إنه يجب الوقوف به عند حد مذهب (منرو) الذي من مقتضاه:
عدم تدخل حكومتهم في شؤون العالم القديم في مقابلة عدم السماح بالتعرض لشؤون
العالم الجديد تحقيقًا لقول (منرو)(أمريكا للأمريكيين) أفليس كل من يوصف
بالإسلام أجدر بالاستمساك بأقوال نبيه من استمساك هؤلاء الناس بمن لا يساوي
قلامة ظفره من زعمائهم؟ أما إنه كان ينبغي ذلك المنسوب إلى دينه أو قومه ،
وإن لم يكن مؤمنًا به! إلا أنهم جهلوا الدين وفوائده الروحية والدنيوية، فأرادوا
التفلت منه مع البقاء على الاستفادة من الانتساب إليه، على ما تقدم بيانه في المقالة
الأولى.
وقد وقع في بعض ما نقلناه في المقالة الثانية من كلام أحمد صفوت أفندي: أن
الخروج عن السنة لمصلحة لا ينافي طاعة الرسول التي فرضها الله تعالى على
المؤمنين. وفيه أن دعوى الخروج للمصلحة يتوقف على معرفة السنة وجعلها
هي الأصل المتبع بعد كتاب الله تعالى ، وعدم الخروج عن شيء منها إلا بعد أن يثبت
لأهل الحل والعقد من المؤمنين في بعض المسائل أنه عرض من أحوال العصر ما
يجعل العمل بالسنة في تلك المسألة مُخلاًّ بالمصلحة العامة ، ومفضيًا إلى مفسدة
راجحة ، أو حرج وعسر مما رفعه نص الكتاب العزيز بحيث يظهر لأهل الحل والعقد
أن ترك السنة - والحالة هذه - منطبق على القواعد الشرعية المقررة في إباحة
الضرورات للمحظورات وتقديرها بقدرها ، وارتكاب أخف الضررين إذا كان لا بد
من أحدهما، ولكننا نرى هؤلاء المتفرنجين لا يدرسون شيئًا من كتب السنة ألبتة، بل
يقبلون ما يخالفها من المفاسد ويدْعون إليه ، وينسخون به سننًا كثيرةً ونصوصًا في
كتاب الله صريحةً ، كقاعدة الحرية الشخصية التي كررنا ذكرها في المقالات السابقة
من جهة إباحتها للزنا واستحسانه وإبطال أحكام شرعية كثيرة لأجله.
على أنه قال بعد ذلك عند الكلام على الكتاب: إن ما زاد عليه من سنة أو
إجماع، فحكمه الجواز: إن شاء قام به الفرد، وإن لم ير مصلحةً في ذلك فله العدول
عنه. فجعل السنة وإجماع الأمة، كآراء أفراد الناس وأقوالهم، وإن كانوا من الجهال
والأنذال. فإن الحكمة ضالة المؤمن يأخذها من حيث وجدها، فهل وجدت أمة من أمم
الأرض تجعل أحكام أنبيائها وحكم حكمائها وإجماع علمائها وحكامها وزعمائها -
كآراء تحوت الناس وغوغائهم يتبع كل فرد فيها رأيه وهواه، فإن رأى مصلحةً له في
شيء منها كان له أن يأخذ به، وإن لم ير له فيه مصلحةً رده؟ أما إنه لو رزئ البشر
بمثل هذا الرأي الأفين من أول نشأتهم لكانوا أدنى منزلة من جميع أنواع الحيوان،
ولم يتكون منهم قبيلة ولا شعب ولا أمة؛ لأن الشعوب والأمم إنما تتكون بما يفعل
ماضيها في مستقبلها، وسنة الارتقاء فيها أن يبني الخلف على أساس السلف ،
فيحفظوا من الماضي أمثل ما اهتدى إليه العلماء والفضلاء ، ويزيدوا عليه ما يزيد
مقومات الأمة ومشخصاتها قوةً وتمكينًا.
القرآن أصل الأصول للشريعة
جعل أحمد صفوت أفندي أحكام القرآن المجيد ثلاثة أقسام: المحرم ،
والواجب ، والجائز. وقال: إن حكم الأول: أن لا يُتَعَرض له ولا يحكم بشيء
يخالفه في مرماه، ومثَّل له بتحريم نكاح الأم والأخت والجمع بين خمسة أزواج،
وحُكم الثاني: أن يبقى منه ما تتحقق به الحكمة المقصودة منه، ومثل له بإيفاء
العدة والإشهاد على الزواج، وحكم الثالث: أن الإنسان مخير فيه، وأن لكل
حكومة أن تحرم منه بالقوانين الوضعية ما تشاء، ومثَّل له بتعدد الزوجات.
أما كلامه في حكم الأول - وهو ما حرمه الله في كتابه - فمجمل غامض؛ فإن
قوله: (ولا يحكم بشيء يخالفه في مرماه) يجعله كالقسم الثاني؛ لأن مرمى
الشيء هو الغرض الذي يقصد به ، وهو عين حكمته، وإذا كان المراد مراعاة
حكمته دون نصه لا يبقى معنى لقوله: لا يتعرض له، وقد حرم الكتاب الربا والزنا
وجعل للزنا عقابًا بقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (النور: 2) الآية، فهل يجعل هذا العقاب على فعل الزنا نفسه ، أم على مرمى
تحريمه والغرض الذي حُرم لأجله؟ وما هو ذلك المرمى؟ هل لكل أحد من أفراد
الناس أو من رؤساء الحكام أن يعين ذلك المرمى ويعلق الحكم به؟ فإذا فهم أحد
الأفراد أن الغرض من تحريم الزنا ما يترتب عليه من ضرر اختلاط الأنساب، أو
التعادي بين الناس ، أو قلة النسل ، أو حدوث بعض الأمراض - فهل له أن يستبيح
منه ما يأمن هو ذلك الضرر فيه؟ وإذا اعترف بعض الناس للقاضي المسلم بالزنا
فهل يوقف إقامة الحد عليه حتى يعلم أن زناه قد ترتب عليه مرمى التحريم؟ وما
يقال في الزنا يقال في محرمات النكاح، كالأم والبنت والأخت، فقد يدّعي أفراد
المكلفين أو القضاة أن لذلك غرضًا ومرمى هو الذي تمتنع مخالفته ، وأن التحريم
يزول بزواله، وعند ذلك يمكن استباحة جميع ما حرمه الله تعالى لمن شاء.
وأما حكم الثاني - وهو ما أوجبه الله تعالى في كتابه - فقد بين المراد من
بقاء ما تحقق به الحكمة المقصودة منه بالمثلين اللذين ذكرهما، وهو أن حكمة العدة
براءة الرحم من الحمل ، وحكمة الإشهاد على الزواج إعلانه، قال: (فلا حرج
في أن نصل إلى الغرض المقصود من أفيد الطرق وأخصرها) وعَدَّ جعل عقد
الزواج رسميًّا مغنيًا عن الإشهاد، ومرور أكثر مدة الحمل على الطلاق مغنيًا عن
التقيد بالتربص ثلاثة قروء، وقد قلنا في المقالة الثانية: إنه يمكن الاستغناء عن
العدة ألبتة بناءً على قاعدته فيما إذا علم بطريقة فنية براءة الرحم من الحمل ،
كرؤيته خاليًا من الحمل بمثل الأشعة المعروفة بأشعة (رونتجن) .
ونقول: إن الإشهاد على عقد النكاح غير منصوص في الكتاب العزيز،
وإنما أمر في سورة الطلاق بالإشهاد على الرجعة وبت الطلاق ، ولا شك في أن
أحمد صفوت أفندي لا يفرق بينهما في حكمه بالاستغناء عن الإشهاد بجعل ما ذكر
رسميًّا مهما تكن حكمة الأمر به، وجمهور أهل السنة على أن هذا الإشهاد مستحب
لا واجب ، وأن الإشهاد على عقد النكاح واجب وشرط لصحة العقد، وقد ينازع
في زعمه أن جعل العقد رسميًّا يغني عن الإشهاد، فإن فائدة الإشهاد أن يعلم الناس
بأن زيدًا تزوج، فلا يتهمه أحد بأنه يعاشر امرأة بالفسق، وجعل الزواج رسميًّا لا
يترتب عليه هذه الفائدة؛ لأنه قد يحصل بعلم كاتب العقد وحده.
ثم إنه على تقدير قبول قاعدته الفاسدة ينازع بما زعم أنه هو حكمة العدة، فإن
للعدة عدة حكم وفوائد منها ما هو غير مطرد، وهو ظهور براءة الرحم فإنه خاص
بالحائل المستعدة للحمل ، وقد أوجب الله العدة على غير المستعدة له كالصغيرة
واليائسة، ومنها ما هو مطرد كحفظ كرامة الزوج الأول ، والتوسعة على المطلق
في الوقت الذي يمكن أن يؤاخذ فيه نفسه لعله يراجع، وبهذا نعلم شيئًا آخر من
مفاسد القاعدة، وهو تحكم الأهواء في اختراع الحِكم التي تراعى ويحافظ عليها
في الأحكام التي أوجبها كتاب الله، فإذا أخطأ الناس في معرفة الحكمة نكون قد
تركنا حكم ربنا لوهم جهلي تراءى لهم {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} (الكهف: 50)
وأهواؤهم هذه ليس لها أساس ثابت من الحق ولا من الفضيلة ، وما يسمونه
المصلحة تابع للهوى أيضًا، فإن أصل التشريع الأعظم عندهم أن تكون الأحكام
موافقةً لعادات الأمة وأحوالها التي تختلف باختلاف الزمان والمكان، فإذا هم لم
يقفوا عند عقائد الدين وفضائله ، ولا غيره من مقومات الأمة السابقة كما علمنا من
أقوالهم وأفعالهم - فلا يبعد أن يُحللوا ما أشرنا إليه آنفًا من نكاح البنات
والأخوات !! فقد نُقل عن بعض كبرائهم الزنا ببنته وأمثال ذلك، وحَكَم قاضٍ من
قُضاتهم في هذه البلاد منذ سنين قليلة ببراءة أستاذ من أساتذتهم في المدارس
الأميرية تصبَّى امرأة متزوجة بما يفتنها عن زوجها ، ويزري بكرامتها بمثل قوله
لها في الطريق العام: إن جمالها حرم عليه نوم الليل! ! وعلل القاضي المتفرنج
حكمه بالبراءة بأن الأستاذ لم يأت شيئًا نكرًا ، وأن ما صدر عنه ليس إلا الإعجاب
بالحسن والجمال، وهو من آيات الارتقاء في الذوق والخيال، الذي هو منتهى
الكمال! ! وقد اضطربت البلاد لهذا الحكم ، ولهجت الجرائد باستهجانه والإنكار
عليه، ونحمد الله أن أبطلته محكمة الاستئناف، فأرضت الصيانة والعفاف.
وأما حكم الثالث - وهو ما جعله القرآن جائزًا - فقد بينه أيضًا، وجعله كأن
لم يكن ، فأما كون الأفراد مخيرين فيه عملاً فصحيح، وأما كون الحكام يجوز لهم
أن يحرموا منه ما شاءوا فباطل، إذ ليس الحكام أربابًا حتى يحللوا ويحرموا على
الناس بمحض مشيئتهم، فما أحله الله فليس لأحد أن يحرمه إلا بإذن من الله عز
وجل {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ
الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} (النحل: 116) والله
أرحم بعباده من أنفسهم، فهو لم يحرم عليهم إلا ما هو خبيث ضار ، ولم يحل لهم
إلا ما هو طيب نافع، كما قال تعالى في وصف رسوله: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ} (الأعراف: 157) فإذا عرض من حوادث الزمن ما
يجعل بعض الحلال ضارًّا وبعض الحرام ضروريًّا، تغير الحكم بحسب ذلك
العارض وعلى قدره، فقد قال تعالى بعد تحريم محرمات الطعام: {إِلَاّ مَا
اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (الأنعام: 119) فالضرورات تبيح المحظورات وتحظر
المباحات، ولكنها تقدر بقدرها، والرأي في ذلك لأولي الأمر من الأمة ، وهم أهل
الحل والعقد ورجال الشورى في المصالح العامة، ويجب على الحكام أن يحكموا
بما يستنبطونه لهم من أمثال هذه الأحكام التي تختلف باختلاف الزمان والمكان،
ومثلهم نواب الأمة عند أمم الحضارة في هذا العصر.
وخلاصة ما يقترحه هذا المتفرنج من الإصلاح في أحكام كتاب الله: أن ما
أحله الله للناس، فلكل حاكم أن يحرمه عليهم إذا شاء، وما حرمه عليهم تراعى فيه
حكمة التحريم بحسب فهم الناس لها، ولهم أن يفعلوا المحرم إذا كان فعله لا يبطل
تلك الحكمة، وكذا ما أوجبه عليهم فليس عليهم إلا ترك الحكم بما يخالف مرماه،
وغرضه من الإيجاب لا نفس الواجب، وصرح بهذه النتيجة في الأقسام الثلاثة
بقوله عقب التصريح بالاستغناء عن عدة النساء والشهادة على عقد النكاح بقوله:
(وبذلك ينقض وجوب التقيد بالمعاني الحرفية للألفاظ القانونية الواردة في
القرآن) .
وهذا نص صريح في ترك أحكام القرآن كلها، وعدم الرجوع إلى شيء منها
لا للعمل بها ولا للاستنباط منها، ويكفي المسلمين - على هذا الرأي - أن يجمع مثل
أحمد صفوت أفندي ما يفهمه من مرامي الواجبات وحِكم المحرمات في عدة مسائل
أو قواعد تذكر في مقدمات القوانين الوضعية ، أو تجعل شروطًا لبعض أحكامها،
كأن يقال: يشترط في صحة زواج المطلقة أو المتوفى زوجها أن لا تكون حاملاً
من الزوج الأول.
ومن المعلوم بالضرورة أن هذا القانوني الذي تصدى لإصلاح شريعة الإسلام
باسم الإسلام يقول بوجوب التقيد بالمعاني الحرفية للقوانين الوضعية التي وضعها
الإفرنج لمصر، فهي مفضلة عنده وعند أمثاله على كتاب الله تعالى، وليس هذا
بعجيب منه ، ولكن العجيب الذي ليس وراءه عجب أن يخطب خطبةً في جمهور
كبير من رجال القانون بمصر يدعو فيها المسلمين باسم الإسلام إلى نبذ جميع
أحكام كتاب ربهم وسنة رسولهم وإجماع أمتهم وفقه جميع أئمتهم، ويسمي ذلك
إصلاحًا لشريعتهم ومبدأً لترقيتهم، ثم يطبع ذلك وينشره بين الناس ، فيقره جمهور من
رجال القضاء ويسكت عنه الكتاب والعلماء، وحسب هؤلاء تكفير بعضهم بعضًا
بالمسائل الخلافية، ككون الحجة على نبوة آدم وأبوته للناس ظنيةً أو قطعيةً، وإلى
الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
_________
(*) تابع لما في المجلد العشرين.
(1)
وكيل نيابة الدلنجات بالأمس والسكرتير القضائي لفلسطين اليوم.
(2)
رواه أحمد والشيخان ، وغيرهما من حديث علي.
(3)
براجع تفسيرها في ص 180 - 222 من ج 5 من التفسير.
(4)
راجع تفسيرها في ص 232 ج 5 ت.
الكاتب: محمد عبده
انتشار الإسلام بسرعة
لم يُعهد لها نظير في التاريخ
هذا فصل من رسالة التوحيد للأستاذ الإمام - أكرم الله مثواه - قال:
كانت حاجة الأمم إلى الإصلاح عامةً، فجعل الله رسالة خاتم النبيين عامةً
كذلك، لكن يدهش عقل الناظر في أحوال البشر عندما يرى أن هذا الدين يجمع
إليه الأمة العربية من أدناها إلى أقصاها في أقل من ثلاثين سنة، ثم يتناول من بقية
الأمم ما بين المحيط الغربي وجدار الصين في أقل من قرن واحد، وهو أمر لم
يعهد في تاريخ الأديان، ولذلك ضل الكثير في بيان السبب، واهتدى إليه المنصفون،
فبطل العجب.
ابتدأ هذا الدين بالدعوة كغيره من الأديان، ولقي من أعداء أنفسهم أشد ما يلقى
حق من باطل، أوذي الداعي صلى الله عليه وسلم بضروب الإيذاء، وأقيم في
وجهه ما كان يصعب تذليله من العقاب لولا عناية الله، وعذب المستجيبون له
وحرموا الرزق، وطردوا من الدار، وسفكت منهم دماء غزيرة، غير أن تلك
الدماء كانت عيون العزائم تتفجر من صخور الصبر، يثبت الله بمشهدها المستيقنين،
ويقذف بها الرعب في أنفس المرتابين، فكانت تسيل لمنظرها نفوس أهل الريب،
وهي ذوب ما فسد من طباعهم، فتجري من مناحرهم جري الدم الفاسد من
المفصود على أيدي الأطباء الحاذقين في جهنم {لِيَمِيزَ اللَّهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ
وَيَجْعَلَ الخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ
الخَاسِرُونَ} (الأنفال: 37) .
تألبت الملل المختلفة ممن كان يسكن جزيرة العرب وما جاورها على
الإسلام؛ ليحصدوا نبتته، ويخنقوا دعوته، فما زال يدافع عن نفسه دفاع الضعيف
للأقوياء ، والفقير للأغنياء ، ولا ناصر له إلا أنه الحق بين الأباطيل والرشد في
ظلمات الأضاليل، حتى ظفر بالعزة وتعزز بالمنعة، وقد وطئ أهل الجزيرة أقوام
من أديان كانت تدعو إليها، وكانت لهم ملوك وعزة وسلطان ، وحملوا الناس
على عقائدهم بأنواع من المكاره ، ومع ذلك لم يبلغ بهم السعي نجاحًا، ولا أنالهم
القهر فلاحًا.
ضم الإسلام سكان القفار العربية إلى وحدة لم يعرفها تاريخهم، ولم يعهد لها
نظير في ماضيهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أبلغ رسالته بأمر ربه إلى من
جاور البلاد العربية من ملوك الفرس والرومان، فهزأوا وامتنعوا وناصبوه وقومه
الشر، وأخافوا السابلة وضيقوا على المتاجر، فغزاهم بنفسه وبعث إليهم البعوث في
حياته، وجرى على سنته الأئمة من صحابته، طلبًا للأمن وإبلاغًا للدعوة، فاندفعوا
في ضعفهم وفقرهم يحملون الحق على أيديهم وانهالوا به على تلك الأمم في قوتها
ومنعتها وكثرة عددها واستكمال أهبتها وعددها، فظفروا منها بما هو معلوم، وكانوا
متى وضعت الحرب أوزارها واستقر السلطان للفاتح عطفوا على المغلوبين بالرفق
واللين، وأباحوا لهم البقاء على أديانهم وإقامة شعائرها آمنين مطمئنين، ونشروا
حمايتهم عليهم يمنعونهم مما يمنعون منه أهلهم وأموالهم، وفرضوا عليهم كفاء ذلك
جزءًا قليلاً من مكاسبهم على شرائط معينة.
كانت الملوك من غير المسلمين إذا فتحوا مملكةً أتبعوا جيشها الظافر بجيش
من الدعاة إلى دينها، يلجون على الناس بيوتهم ، ويغْشون مجالسهم ليحملوهم على
دين الظافر، وبرهانهم الغلبة وحجتهم القوة، ولم يقع ذلك لفاتح من المسلمين،
ولم يعهد في تاريخ فتوح الإسلام أن كان له دعاة معروفون لهم وظيفة ممتازة
يأخذون على أنفسهم العمل في نشره، ويقفون مسعاهم على بث عقائده بين غير
المسلمين، بل كان المسلمون يكتفون بمخالطة من عداهم ومجاهدتهم في المعاملة ،
وشهد العالم بأسره أن الإسلام كان يعد مجاملةً المغلوبين فضلاً وإحسانًا عندما كان
يعدها الأوربيون ضعةً وضعفًا.
رفع الإسلام ما ثقل من الإتاوات، ورد الأموال المسلوبة إلى أربابها، وانتزع
الحقوق من مغتصبيها، ووضع المساواة في الحق عند التقاضي بين المسلم وغير
المسلم، بلغ أمر المسلمين فيما بعد أن لا يقبل إسلام مِن داخلٍ فيه إلا بين يدي
قاضٍ شرعي بإقرار من المسلم الجديد أنه أسلم بلا إكراه ولا رغبة في دنيا. وصل
الأمر في عهد بعض الخلفاء الأمويين أن كَرِه عمالهم دخول الناس في دين الإسلام
لما رأوا أنه ينقص من مبالغ الجزية، وكان في حال أولئك العمال صد عن سبيل
الدين لا محالة، ولذلك أمر عمر بن عبد العزيز بتعزير مثل أولئك العمال [1] .
عرف خلفاء المسلمين وملوكهم في كل زمان ما لبعض أهل الكتاب، بل
وغيرهم من المهارة في كثير من الأعمال، فاستخدموهم وصعدوا بهم إلى أعلى
المناصب حتى كان منهم من تولى قيادة الجيش في أسبانيا. اشتهرت حرية الأديان
في بلاد الإسلام حتى هجر اليهود أوربا فرارًا منها بدينهم إلى بلاد الأندلس
وغيرها.
هذا ما كان من أمر المسلمين في معاملتهم لمن أظلوهم بسيوفهم، لم يفعلوا
شيئًا سوى أنهم حملوا إلى أولئك الأقوام كتاب الله وشريعته، وألقوا بذلك بين أيديهم
وتركوا الخيار لهم في القبول وعدمه، ولم يقوموا بينهم بدعوة، ولم يستعملوا
لإكراههم عليه شيئًا من القوة، وما كان من الجزية لم يكن مما يثقل أداؤه على من
ضربت عليه، فما الذي أقبل بأهل الأديان المختلفة على الإسلام، وأقنعهم أنه الحق
دون ما كان لديهم حتى دخلوا فيه أفواجًا، وبذلوا في خدمته ما لم يبذله له العرب
أنفسهم؟ .
ظهور الإسلام على ما كان في جزيرة العرب من ضروب العبادات الوثنية،
وتغلبه على ما كان فيها من رذائل الأخلاق وقبائح الأعمال، وسَيره بسكانها على
الجادة القويمة - حقق لقراء الكتب الإلهية السابقة أن ذلك هو وعد الله لنبيه إبراهيم ،
وإسماعيل وتحقيق استجابة دعاء الخليل {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ} (البقرة: 129) وأن هذا الدين هو ما كانت تبشر به الأنبياءُ أقوامَها مِن بعدهم،
فلم يجد أهل النصفة منهم سبيلاً إلى البقاء على العناد في مجاحدته، فتلقوه شاكرين
وتركوا ما كان لهم بين قومهم صاغرين، أوقع ذلك من الريب في قلوب مقلديهم ما
حركهم إلى النظر فيه، فوجدوا لطفًا ورحمةً وخيرًا ونعمةً، لا عقيدة ينفر منها العقل
- وهو رائد الإيمان الصادق - ولا عمل تضعف عن احتماله الطبيعة البشرية، وهي
القاضية في قبول المصالح والمرافق، رأوا أن الإسلام يرفع النفوس بشعور من
(اللاهوت) يكاد يعلو بها عن العلم السلفي ويلحقها بالملكوت الأعلى ويدعوها إلى
إحياء ذلك الشعور بخمس صلوات في اليوم، وهو مع ذلك لا يمنع من التمتع
بالطيبات، ولا يفرض من الرياضات وضروب الزهادة ما يشق على الفطرة البشرية
تجشمه، ويَعِد برضا الله ونيل ثوابه حتى في توفية البدن حقه، متى حسنت النية
وخلصت السريرة، فإذا نزت شهوة أو غلب هوى كان الغفران الإلهي ينتظره متى
حصلت التوبة وكملت الأوبة. تبدت لهم سذاجة الدين عندما قرأوا القرآن ونظروا في
سيرة الطاهرين من حامليه إليهم، وظهر لهم الفرق بين ما لا سبيل إلى فهمه، وما
تكفي جولة نظر في الوصول إلى علمه [*] فتراموا إليه خفافًا من ثقل ما كانوا
عليه.
كانت الأمم تطلب عقلاً في دين فوافاها، وتتطلع إلى عدل في إيمان فأتاها،
فما الذي يحجم بها عن المسارعة إلى طلبتها والمبادرة إلى رغيبتها؟ كانت
الشعوب تئن من ضروب الامتياز التي رفعت بعض الطبقات على بعض بغير حق،
وكان من حكمها أن لا يقام وزن لشؤون الأدنين، متى عرضت دونها شهوات
الأعلين، فجاء دين يحدد الحقوق ويسوي بين جميع الطبقات في احترام النفس
والدين والعِرض والمال، ويسوغ لامرأة فقيرة غير مسلمة أن تأبى بيع بيت صغير
بأية قيمة لأمير عظيم مطلق السلطان في قطر كبير، وما كان يريده لنفسه، ولكن
ليوسع به مسجدًا، فلما عقد العزيمة على أخذه مع دفع أضعاف قيمته رفعت الشكوى
إلى الخليفة، فورد أمره برد بيتها إليها مع لوم الأمير على ما كان منه !! عدل يسمح
ليهودي أن يخاصم مثل علي بن أبي طالب أمام القاضي، وهو من نعلم من هو،
ويستوقفه معه للتقاضي إلى أن قضى الحق بينهما، هذا وما سبق بيانه مما جاء به
الإسلام هو الذي حببه إلى من كانوا أعداءه، ورد إليه أهواءهم حتى صاروا
أنصاره وأولياءه.
غلب على المسلمين في كل زمن روح الإسلام، فكان من خلقهم العطف على
من جاورهم من غيرهم، ولم تستشعر قلوبهم عداوةً لمن خالفهم إلا بعد أن يحرجهم
الجار، فهم كانوا يتعلمونها ممن سواهم، ثم لا يكون إلا طائفًا يحل ثم يرتحل، فإذا
انقطعت أسباب الشغب تراجعت القلوب إلى سابق ما ألفته من اللين والمياسرة،
ومع ذلك - بل وغفلة المسلمين عن الإسلام ، وخذلانهم له وسعي الكثير منهم في هدمه
بعلم وبغير علم - لم يقف الإسلام في انتشاره عند حد، خصوصًا في الصين وفي
أفريقيا، ولم يخل زمن من رؤية جموع كثيرة من ملل مختلفة تنزع إلى الأخذ
بعقائده على بصيرة فيما تنزع إليه، لا سيف وراءها ولا داعي، وإنما هو مجرد
الاطلاع على ما أُودِعه، مع قليل من حركة الفكر في العلم بما شرعه، ومن هذا
تعلم أن سرعة انتشار الدين الإسلامي وإقبال الناس على الاعتقاد به من كل ملة،
إنما كان لسهولة تعقله ويسر أحكامه وعدالة شريعته، وبالجملة لأن فطر البشر تطلب
دينًا وترتاد منه ما هو أمس بمصالحها وأقرب إلى قلوبها ومشاعرها، وأدعى إلى
الطمأنينة في الدنيا والآخرة، ودين هذا شأنه يجد إلى القلوب منفذًا وإلى العقول
مَخلَصًا بدون حاجة إلى دعاة ينفقون الأموال الكثيرة والأوقات الطويلة ويستكثرون من
الوسائل ونصب الحبائل لإسقاط النفوس فيه، هذا كان حال الإسلام في سذاجته الأولى
وطهارته التي أنشأه الله عليها، ولا يزال على جانب عظيم منها في بعض أطراف
الأرض إلى اليوم.
قال من لم يفهم ما قدمناه أو لم يرد أن يفهمه: إن الإسلام لم يعطف على
قلوب العالم بهذه السرعة إلا بالسيف، فقد فتح المسلمون ديار غيرهم والقرآن
بإحدى اليدين والسيف بالأخرى، يعرضون القرآن على المغلوب فإن لم يقبله فصل
السيف بينه وبين حياته، سبحانك هذا بهتان عظيم! ما قدمناه من معاملة المسلمين
مع من دخلوا تحت سلطانهم هو ما تواترت به الأخبار تواترًا صحيحًا لا يقبل
الريبة في جملته، وإن وقع اختلاف في تفصيله، وإنما شهر المسلمون سيوفهم
دفاعًا عن أنفسهم، وكفًّا للعداون عنهم، ثم كان الافتتاح بعد ذلك من ضرورة الملك
ولم يكن من المسلمين مع غيرهم إلا أنهم جاوروهم وأجاروهم، فكان الحوار
طريق العلم بالإسلام، وكانت الحاجة لصلاح العقل والعمل داعية الانتقال إليه.
لو كان السيف ينشر دينًا فقد عمل في الرقاب للإكراه على الدين والإلزام به
مهددًا كل أمة لم تقبله بالإبادة والمحو من سطح البسيطة، مع كثرة الجيوش
ووفرة العدد وبلوغ القوة أسمى درجة كانت تمكن لها، وابتدأ ذلك العمل قبل
ظهور الإسلام بثلاثة قرون كاملة ، واستمر في شدته بعد مجيء الإسلام سبعة
أجيال أو يزيد، فتلك عشرة قرون كاملة لم يبلغ فيها السيف من كسب عقائد البشر
مبلغ الإسلام في أقل من قرن، هذا ولم يكن السيف وحده، بل كان الحسام لا
يتقدم خطوة إلا والدعاة من خلفه، يقولون ما يشاءون تحت حمايته، مع غيرة
تفيض من الأفئدة، وفصاحة تتدفق عن الألسنة، وأموال تخلب ألباب المستضعفين،
إن في ذلك لآيات للمستيقنين.
جلت حكمة الله في أمر هذا الدين ! سلسبيل حياة نَبَعَ في القفار العربية، أبعد
بلاد الله عن المدنية، فاض حتى شملها فأحياها حياةً شعبيةً مليةً، علا مدةً حتى
استغرق ممالك كانت تفاخر أهل السماء في رفعتها، وتعلو أهل الأرض بمدنيتها،
زلزل هديره - على لينه - ما كان استحجر من الأرواح، فانشقت عن مكنون سر
الحياة فيها، قالوا: كان لا يخلو مِن غَلَب (بالتحريك) قلنا: تلك سنة الله في الخلق!
لا تزال المصارعة بين الحق والباطل والرشد والغي، قائمة في هذا العالم إلى أن
يقضي الله قضاءه فيه، إذا ساق الله ربيعًا إلى أرض جدبة ليحيي ميتها وينقع غلتها
وينمي الخصب فيها، أفينقص من قدره أن أتى في طريقه على عقبة فعلاها، أو بيت
رفيع العماد فهوى به؟
سطع الإسلام على الديار التي بلغها أهله، فلم يكن بين أهل تلك الديار وبينه
إلا أن يسمعوا كلام الله ويفقهوه، واشتغل المسلمون بعضهم ببعض زمنًا، وانحرفوا
عن طريق الدين أزمانًا، فوقف وقفة القائد خذله الأنصار وكاد يتزحزح إلى ما
وراءه، لكن الله بالغ أمره، فانحدرت إلى ديار المسلمين أمم من التتار يقودها
جنكيز خان، وفعلوا بالمسلمين الأفاعيل، وكانوا وثنيين جاءوا لمحض الغلبة
والسلب والنهب، ولم يلبث أعقابهم أن اتخذوا الإسلام دينًا، وحملوه إلى أقوامهم
فعمَّهم منه ما عم غيره، جاءوا لشقوتهم فعادوا بسعادتهم.
حمل الغرب على الشرق حملةً واحدةً، لم يَبْقَ ملك من ملوكه ولا شعب من
شعوبه إلا اشترك فيها، واستمرت المجالدات بين الغربيين والشرقيين أكثر من
مائتي سنة جمع فيها الغربيون من الغيرة والحمية للدين ما لم يسبق لهم من قبل،
وجيشوا من الجند ، وأعدوا من القوة ما بلغته طاقتهم، وزحفوا إلى ديار المسلمين،
وكانت فيهم بقية من روح الدين، فغلب الغربيون على كثير من البلاد الإسلامية،
وانتهت تلك الحروب الجارفة بإجلائهم عنها، لمَ جاءوا ، وبماذا رجعوا؟ ظفر
رؤساء الدين في الغرب بإثارة شعوبهم؛ ليبيدوا ما يشاءون من سكان الشرق، أو
يستولي سلطان تلك الشعوب على ما يعتقدون لأنفسهم الحق في الاستيلاء عليه من
البلاد الإسلامية، جاء من الملوك والأمراء وذوي الثروة وعلية الناس جم غفير،
وجاء ممن دونهم من الطبقات ما قدروه بالملايين، استقر المقام لكثير من هؤلاء
في أرض المسلمين، وكانت فترات تنطفئ فيها نار الغضب ، وتثوب العقول إلى
سكينتها تنظر في أحوال المجاورين، وتلتقط من أفكار المخالطين، وتنفعل بما
ترى وما تسمع ، فتبينت أن المبالغات التي أطاشت الأحلام وجسمت الآلام، لم
تُصِب مستقر الحقيقة ، ثم وجدت حريةً في دين، وعلمًا وشرعًا وصنعةً مع كمال
في يقين، وتعلمت أن حرية الفكر وسعة العلم من وسائل الإيمان لا من العوادي
عليه، ثم جمعت من الآداب ما شاء الله، وانطلقت إلى بلادها قريرة العين بما
غنمته من جلادها، هذا إلى ما كتبه السفار من أطراف الممالك إلى بلاد الأندلس
بمخالطة حكمائها وأدبائها، ثم عادوا به إلى شعوبهم ليذيقوهم حلاوة ما كسبوا ،
وأخذت الأفكار من ذلك العهد تتراسل، والرغبة في العلم تزايد بين الغربيين،
ونهضت الهمم لقطع سلاسل التقليد، ونزعت العزائم إلى تقييد سلطان زعماء
الدين، والأخذ على أيديهم فيما تجاوزوا فيه وصاياه وحرفوا في معناه، ولم يكن
بعد ذلك إلا قليل من الزمن حتى ظهرت طائفة منهم تدعو إلى الإصلاح والرجوع
بالدين إلى سذاجته، وجاءت في إصلاحها بما لا يبعد عن الإسلام إلا قليلاً، بل
ذهب بعض طوائف الإصلاح في العقائد إلى ما يتفق مع عقيدة الإسلام إلا في
التصديق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن ما هم عليه إنما هو دينه يختلف
عنه اسمًا، ولا يختلف معنًى إلا في صورة العبادة لا غير.
ثم أخذت أمم أوربا تفتَكُّ مِن أسرها، وتصلح من شؤونها، حتى استقامت
أمور دنياها على مثل ما دعا إليه الإسلام، غافلةً عن قائدها، لاهيةً عن مرشدها،
وتقررت أصول المدنية الحاضرة التي تفاخر بها الأجيال المتأخرة ما سبقها من أهل
الأزمان الغابرة.
هذا طَلٌّ من وابله أصاب أرضًا قابلةً فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج
بهيج، جاء القوم ليبيدوا فاستفادوا وعادوا ليفيدوا، ظن الرؤساء أن في إهاجة شعوبهم
شفاء ضغنهم وتقوية ركنهم، فباءوا بوضوح شأنهم وضعضعة سلطانهم ، وما بيناه
في شأن الإسلام - ويعرفه كل من تفقه فيه - قد ظفر به كثير من أهل النظر في بلاد
الغرب، فعرفوا له حقه، واعترفوا أنه كان أكبر أساتذتهم فيما هم فيه اليوم، وإلى الله
عاقبة الأمور.
***
إيراد سهل الإيراد
يقول قائلون: إذا كان الإسلام إنما جاء لدعوة المختلفين إلى الاتفاق وقال
كتابه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام:
159) فما بال الملة الإسلامية قد مزقتها المشارب، وفرقت بين طوائفها المذاهب؟
إذا كان الإسلام موحدًا فما بال المسلمين عددوا؟ إذا كان موليًّا وجه العبد وجهة
الذي خلق السموات والأرض، فما بال جمهورهم يولون وجوههم من لا يملك
لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، ولا يستطيع من دون الله خيرًا ولا شرًّا، وكادوا يعدون ذلك
فصلاً من فصول التوحيد؟ إذا كان أول دين خاطب العقل ودعاه إلى النظر في
الأكوان وأطلق له العنان يجول في ضمائرها بما يسعه الإمكان، ولم يشرط عليه في
ذلك سوى المحافظة على عقد الإيمان، فما بالهم قنعوا باليسير، وكثير منهم أغلق
على نفسه باب العلم ظنًّا منه أنه قد يرضي الله بالجهل وإغفال النظر فيما أبدع
من محكم الصنع؟ ما بالهم وقد كانوا رسل المحبة أصبحوا اليوم وهم يتنسمونها ولا
يجدونها؟ ما بالهم بعد أن كانوا قدوة في الجد والعمل، أصبحوا مثلاً في القعود
والكسل؟ ما هذا الذي ألحق المسلمون بدينهم ، وكتاب الله بينهم يقيم ميزان القسط
بين ما ابتدعوه وبين ما دعاهم إليه فتركوه؟ فإذا كان الإسلام في قربه من العقول
والقلوب على ما بينت فما باله اليوم - على رأي القوم - تقصر دون الوصول إليه
يد المتناول؟ إذا كان الإسلام يدعو إلى البصيرة فيه، فما بال قراء القرآن لا يقرؤونه
إلا تغنيًا، ورجال العلم بالدين لا يعرفه أغلبهم إلا تظنيًا؟
- إذا كان الإسلام منح العقل والإرادة شرف الاستقلال، فما بالهم شدوهما إلى
أغلال أي أغلال؟
- إذا كان قد أقام قواعد العدل ، فما بال أغلب حكامهم يُضرَب بهم المثل في
الظلم؟
- إذا كان الدين في تشوف إلى حرية الأرقاء، فما بالهم قضوا قرونًا في استعباد
الأحرار؟
- إذا كان الإسلام يعد من أركانه حفظ العهود والصدق والوفاء، فما بالهم قد
فاض بينهم الغدر والكذب والزور والافتراء؟
- إذا كان الإسلام يحظر الغيلة، ويحرم الخديعة، ويوعد على الغش بأن
الغاش ليس من أهله، فما بالهم يحتالون على الله وشرعه وأوليائه؟
- إذا كان قد حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فما هذا الذي نراه بينهم في
السر والعلن والنفس والبدن؟
- إذا كان قد صرح بأن الدين النصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين، خاصتهم
وعامتهم وأن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق
وتواصوا بالصبر، وأنهم إن لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر سلط عليهم
شرارهم فيدعو خيارهم فلا يستجاب لهم، وشدد في ذلك بما لم يشدد في غيره، فما
بالهم لا يتناصحون ولا يتواصون بحق، ولا يعتصمون بصبر، ولا يتناصحون في
خير ولا شر، بل ترك كل صاحبه، وألقى حبله على غاربه، فعاشوا أفذاذًا ،
وصاروا في أعمالهم أفرادًا، لا يحس أحدهم بما يكون من عمل أخيه، كأنه ليس
منه، وكأن لم تجمعه معه صلة، ولم تضمه إليه وشيجة؟
ما بال الأبناء يقتلون الآباء ، وما بال البنات يعققن الأمهات؟ أين وشائج
الرحمة؟ أين عاطفة الرحم على القريب؟ أين الحق الذي فرض في أموال الأغنياء
للفقراء، وقد أصبح الأغنياء يسلبون ما بقي في أيدي أهل البأساء؟
قبس من الإسلام أضاء الغرب كما تقول، وضَوْؤه الأعظم وشمسه الكبرى
في الشرق ، وأهله في ظلمات لا يبصرون! أصحَّ هذا في عقل أو عُهد في نقل؟
ألم تر إلى الذين تذوقوا من العلم شيئًا وهم من أهل هذا الدين أول ما يعلق بأوهام
أكثرهم أن عقائده خرافات وقواعده وأحكامه ترهات، ويجدون لذتهم في التشبه
بالمستهزئين ممن سموا أنفسهم أحرار الأفكار وبعداء الأنظار، وإلى الذين قصروا
هممهم على تصفح أوراق من كتبه، ووسموا أنفسهم بأنهم حفاظ أحكامه القوَّام على
شرائعه، كيف يجافون علوم النظر ويهزءون بها، ويرون العمل فيها عبثًا في
الدين والدنيا، ويفتخر الكثير منهم بجهلها، كأنه في ذلك قد هجر منكرًا وترفع عن
دنيئة؟ فمن وقف على باب العلم من المسلمين يجد دينه كالثوب الخلق يستحي أن
يظهر به بين الناس، ومن غرته نفسه بأنه على شيء من الدين وأنه مستمسك
بعقائده، يرى العقل جِنة والعلم ظِنة، أليس في هذا ما يشهد الله وملائكته والناس
أجمعين على أن لا وفاق بين العلم والعقل وهذا الدين؟
الجواب
ربما لم يبالغ الواصف لما عليه المسلمون اليوم بل من عدة أجيال، وربما
كان ما جاء في الإيراد قليلاً من كثير، وقد وصف الشيخ الغزالي رحمه الله
وابن الحاج وغيرهما من أهل البصر في الدين ما كان عليه مسلمو زمانهم عامتهم
وخاصتهم بما حوته مجلدات، ولكن قد أتيت في خاصة الدين الإسلامي بما يكفي
للاعتراف به مجرد تلاوة القرآن مع التدقيق في فهم معانيه، وحملها على ما فهمه
أولئك الذين أنزل فيهم وعمل به بينهم، ويكفي في الاعتراف بما ذكرته من جميل
أثره قراءة ورقات في التاريخ على ما كتبه محققو الإسلام ومنصفو سائر الأمم،
فذلك هو الإسلام، وقد أسلفنا أن الدين هدى وعقل، من أحسن في استعماله والأخذ
بما أرشد إليه نال من السعادة ما وعد الله على اتباعه، وقد جرب علاج الاجتماع
الإنساني بهذا الدواء فظهر نجاحه ظهورًا لا يستطيع معه الأعمى إنكارًا، ولا
الأصم إعراضًا، وغاية ما قيل في الإيراد أن أعطى الطبيب المريض دواءً فصح
المريض ، وانقلب الطبيب بالمرض الذي كان يعمل لمعالجته، وهو يتجرع
الغصص من آلامه والدواء في بيته وهو لا يتناوله، وكثير ممن يعودونه أو
يتشفون منه ويشمتون لمصيبته، يتناولون من ذلك الدواء فيعانون من مثل مرضه،
وهو في يأس من حياته ، ينتظر الموت، أو تبدل سنة الله في شفاء أمثاله، كلامنا
اليوم في الدين الإسلامي وحاله على ما بينا، أما المسلمون وقد أصبحوا بسيرهم
حجةً على دينهم فلا كلام لنا فيهم الآن، وسيكون الكلام عنهم في كتاب آخر، إن
شاء الله.
(المنار)
جمع الأستاذ الإمام رحمه الله في هذا السؤال والجواب جملة مساوي
المسلمين المخالفة لهدي الإسلام ، بين فيهما كليات محاسنه المفصلة في رسالة
التوحيد بعض التفصيل، ووعد ببيان تفصيل هذه المساوي في كتاب آخر ولكنه لم
يوفق لكتابته، على أنه جاء في كتاب (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية)
بكثير مما أراد من ذلك.
_________
(1)
شكا إليه عامله بمصر ذلك فأجابه (أن محمدًا صلى الله عليه وسلم بُعث هاديًا، ولم يبعث جابيًا) .
(*) الأول كالجمع بين التثليث والتوحيد ، والثاني عالم الغيب غير محال.
الكاتب: محمد رشيد رضا
مستقبل سورية وسائر البلاد العربية [*]
(5)
خطب مؤسسي اتفاق سنتي 1916 و1917
خطبة مسيو بيكو في دمشق
ألقى موسيو بيكو معتمد فرنسا السامي في سورية هذه الخطبة في حفلة
أعدت له ولزميله السير مارك سيكس في النادي العربي بدمشق ونشرت
جرائدها ترجمتها ، فنقلها المقطم في عدد 23 ربيع الآخر- 25 يناير (ك2)
الماضي عن (المقتبس) الدمشقية، وهذا نصها:
أيها السادة
لم أكن أنتظر بعد أن قضيت أيامًا عديدةً وساعات كثيرةً في السفر على متن
القطارات والسيارات أن أصل إلى دمشق فأشهد هذه الحفلة الجميلة التي ضمت خير
الرجال والشبان، بيْد أني لم أستغرب هذا الأمر من صديقي السير مارك سايكس الذي
عودني أن يفاجئني بهكذا حفلات مستغنمًا هذه الفرصة التي سنحت لأهنئ الحكومة
العربية بما نالته من الاستقلال الذي جاهدت الأمة العربية وقاتلت في سبيله.
انضمت الحكومة العربية إلى الحلفاء زمن الحرب وقاتلت معهم لكونها عرفت
قدسية المبدأ الذي يقاتلون عنه، فهي بعملها هذا تستحق الشكر ، وإنني باسم فرنسة
أشكر الأمة العربية والحكومة العربية لجهادهما.
انتهى دور الحرب ، ودخلنا في دور جديد دور العمل والاجتهاد ، ولا أظن أن
الدور الجديد يقل في خطورة شأنه عن دور الحرب، خصوصًا وأن أعداءنا وأعداءكم
لا يزالون موجودين، فلذلك يجب أن نكون متفقين متحدين.
أخذت برقيةً بالأمس من فرنسة جاء فيها أن الأمير فيصل قابل المسيو
كلمنصو مقابلةً طويلةً انتهت باتفاقهما على جميع المبادئ والآراء ولم يوجد بينهما
أثر من آثار الاختلاف.
اتحدنا زمن الحرب وعملنا معًا للوصول إلى النتيجة، فلذلك يجب أن لا يكون
اتحادنا وقتيًّا ، بل ثابتًا وطيدًا لتنال الأمة العربية ثمرة أتعابها وتقطع مع دول الحلفاء
العقبات ويكون مبدأ تمدنها ورقيها.
إننا نرى في الزمن الحاضر زمن المذاكرات الصلحية كثيرًا من الأعداء
ونصادفهم أينما حللنا وذهبنا.
إن هؤلاء الأعداء أتراك يعملون للمصلحة التركية ولقد شاهدناهم يعملون
أعظم الأعمال في أوربة ضدي أنا والسير مارك سايكس.
شاهدناهم في دار نظارة الخارجية يقولون للفرنسويين: لا تؤمنوا للعرب
ولا تصدقوهم ، ولا تنتظروا منهم أن يؤلفوا حكومةً ، وسمعناهم يقولون للإنكليز:
لا تتفقوا مع الفرنسويين ولا تمدوا يدكم إليهم ، ولا تساعدوا العرب. فلذلك يجب
أن نعرف هؤلاء الدساسين فيما يتكلمون به.
قال أحد الخطباء: إننا الآن في دور جديد وعلينا واجبات جمة. لقد صدق أيها
السادة فإن الأمم التي كافحت مع العرب للوصول إلى هذه النتيجة نتيجة الظفر
القطعي ، قد ولد فيها فكر جديد وشعور جديد لم يكونا لها من قبل، ذلك الشعور
شعور الاستقلال والحرية للأمم.
يجب أن تقاوموا كل من يخالف هذا المبدأ إن كان تاجرًا يعمل لرواج سلعته ،
أو صحافيًّا يشتغل لترويج صحيفته ، وأن تُدكُّوا كل المصاعب والعقبات التي تحول
دون اتفاق الشعوب العربية ، أي: كل من ينطق بالعربية؛ لأن الأديان لا تكون
مانعة للاتحاد ، ولا تسمعوا للمفسدين الذين يحاولون تفريق وحدتكم وكلمتكم.
إن فرنسا لم تخُض غِمار هذه الحرب لصد دعاية الألمان عن بلادها فقط، بل
لتأييد مبدأ الحرية والاستقلال ، ولنرى كل أمة تعيش متمتعةً بالاستقلال وأن يكون
لها الحق باختيار طريقة الحكم الذي تريده.
التحابُّ مطلوب ، وخصوصًا بين الأمم التي حاربت جنبًا لجنب ، وإن فرنسا
لا تميل قط إلى الرجل الذي يأتيها ويقول لها: إني أحبك أكثر من وطني؛ لأنه
منافق لا يعرف أن يحب ، فنرده ونقول له: اذهب وحب وطنك أولاً. وإن أعظم
سرور لفرنسا هو أن ترى الأمة العربية متحدةً متفقةً ، والحكومة العربية مستقلةً ،
وإنها - أي: فرنسا - مستعدة لمساعدتها، وإذا كلفت أوربا فرنسا أن تساعد الحكومة
العربية فهي مستعدة لإيفائها بإخلاص ، ويسرنا أن نرى الحكومة والأمة العربية
ناجحةً ناميةً بإذن الله اهـ.
***
خطبة السير مارك سيكس في دمشق
وألقى السير مارك سيكس خطبة في تلك الحفلة نفسها ، وقد نقل المقطم ترجمتها
في عدد 25 ربيع الآخر 27 يناير عن جريدة البلاغ البيروتية الغراء وهو:
يا سعادة الحاكم ، ويا حضرات المجتمعين: سأتكلم بصعوبة هذه الليلة، فقد
سمعت أمرين أوقعاني في الاضطراب ، فالأمر الأول: أنني سمعت أحد الخطباء
يقص على حضراتكم تاريخ حياتي ، ويظهر أنه حفظ شيئًا منه حتى خشيت أن
يتكلم عن سيئاتي ، ولكنني أقول بكل ارتياح: إن معلوماته كانت قاصرة من هذه
الجهة، والأمر الذي أحرج مركزي ذكره أنني طفت البلاد العربية التي تبلغ
مساحتها 7000 ميل ولا أقدر أن أخطبكم باللغة العربية، ووصفني خطيب آخر
بالبطل الساكت وهذا الوصف جيد ومطابق جدًّا إذا كان موجهًا لقائد عسكري، ولا
يكون مطابقًا إذا نعت به أحد السياسيين؛ لأن السياسي متكلم بالطبع.
لا أفيد الشرق بهذا الكلام، وإنني أريد أن ألقي عليكم أمرًا هذه الليلة:
إن يومكم هذا يوم مشهود؛ إذ سيُفتح فيه مؤتمر الصلح (على ما أظن) الذي
ستقرر فيه أعمال مهمة ، وتدبر فيه شؤون الكون لمدة قرنين.
منذ أربع سنين والحرب العامة تبتلع كبار العالم ومشاهيرهم وإننا نخون عهد
إخواننا الذين ذهبوا ضحيتها - ولا أظنهم يقلون عن 5 - 6ملايين- إذا لم نعمل
بتؤدة ، لا فرق عندي في المحلات والأماكن التي لقوا بها حتفهم فالنتيجة واحدة
وهي مفارقتهم هذا العالم سواء قضى الفرنسوي بفرنسا ، أو قضى البريطاني في
فلندر أو في العراق أو في هذه البلاد بلادكم، أو قضى ذلك البحري الذي كان
يقطع أجواز البحار وهو أعزل من السلاح يحمل الميرة إلى المحاربين في أنحاء
المعمورة، في البر أو البحر، أو من رجالكم الذين جاهدوا في سبيلكم، أو كانوا
من النساء والأولاد الذين أخرجوا من ديارهم في المدينة المنورة وأرمينية ، وقتلوا
في الصحراء. فإن كل واحد من هؤلاء مات بسبب واحد ولغاية واحدة، وعلينا أن
نعتقد أن هؤلاء الأبرياء لم يكونوا سوى ضحية القصد الذي ماتوا في سبيله وهو أن
الشعوب المظلومة أيامها ، وأن العالم ينال سلامًا عامًا دائمًا، تلك هي الغاية
العظمى التي ماتوا لأجلها، ولنأت الآن إلى تشريح أقسام هذه الغاية، ومنها ما هو
أمامنا.
هذه مدينتكم دمشق التي كانت مطلع التمدن في الزمن الماضي أصبحت
متأخرةً خربةً، وبعبارة أخرى متقهقرةً، وهذا المكان ربما كان ملك أحد أولئك
الأقوام الذين ضحوا بأنفسهم، وإذا نظرنا إلى هذه البلاد نظرةً عامةً لا نرى سوى
خرائب ، ونشاهد آثار الحكم الجائر خلال 400 سنة تحكم فيها الأتراك، وإذا أمعنا
النظر أكثر من ذلك نجد شيئًا آخر لم يتمكن التركي نفسه من تخريبه.
إن هذا الميل الطبيعي إلى الاتجار والاستثمار الذي بنى تدمر ، والشجاعة
والحكمة اللتين اتصف بهما العرب، وتلك الصفات صفات الشجاعة والإقدام التي
كانت ملازمة لخالد بن الوليد - لا تزال للجندي العربي، وإن الرجولية والشهامة التي
اتصف بها صلاح الدين لا تزال للعرب.
إن الميل إلى الشعور والآداب الذي أوجد الشعر القديم ، وكان الباعث على
وضع كتب التصوير والنقوش التي تعلمناها نحن منكم لا تزال موجودة عندكم،
وإن الميل إلى العلم الذي شيدت أركانه في بغداد وقرطبة ، والذي نقلناه نحن
الأوربيين عنكم لا يزال لكم.
إن الطبيعة قد وهبتكم هذه الهبات التي فطرتم عليها، فلا التركي ولا العفريت
ولا الشيطان يستطيع نزعها منكم.
والآن أنتقل إلى الأمر الآخر، إن هذه الهبات موجودة لديكم أولاً وآخرًا؛ فإن
العرب هم الذين أفاضوا روح التمدن على العالم كله ونشروا ضياء العلم الساطع،
ولكن - ويالسوء الحظ - إن زمن النور الذي انبثق من جانب العرب كان قصير
المدى.
دققوا في التاريخ واسألوا أسفاره تخبركم أن الممالك العربية كانت قصيرة
الأعمار لم يمتد زمن ملكها طويلاً، فلم يَسُد الهاشميون ولا الأمويون ولا
العباسيون أكثر من قرن أو قرنين ، وتأملوا أن هارون الرشيد ذلك الخليفة الذي
مات حاكمًا لجميع البلدان قد أباد ولداه ذلك الملك العظيم، فعليكم أن تحاذروا الوقوع
في هذا الأمر ، ولا تدعوا نهضتكم تكون قصيرة العمر.
إن تمدنكم السابق كان مثل ينبوع ماء عذب تفجر في الصحراء فوق أرض
رملية صخرية، فلم يمض عليه قليل حتى أنبت أزهارًا ونباتات ، ثم علت الغزالة
فأحرقت تلك الأزهار ، وعادت تلك القفار إلى حالها ، وهذا كان خطؤكم العظيم.
في رايتكم شارة سوداء فلتكن هذه الشارة رمزًا يذكركم بالماضي ويحذركم من
الوقوع فيه ، ويدعوكم للاجتماع والاتحاد، فكفاكم 400 سنة قضيتموها في الظلم
والاستبداد، لقد مضى هذا الدور والحمد لله، فقابلوا المستقبل بثبات وعزم وشجاعة
وانظروا إلى باطن الأرض ، وتأملوها واستخرجوا كنوزها ومخبئاتها.
انظروا إلى القرى، انظروا إلى كثرة وفيات الأطفال، انظروا إلى هذه
الطرقات الخربة، انظروا إلى هذه العاصمة العظيمة ، وإلى أية حال وصلت من
الخراب مع أنها ربما كانت أغنى دولة في العالم.
إذا أحببتم إحياء هذه الأراضي فهي تحتاج إلى جميع قواكم ، وقوانا نحن
الحلفاء أيضا؛ لنحيا حياةً طيبةً سعيدةً طويلةً لا قصيرةً تتجاوز المائة أو المائتين
أو الثلاثمائة قرن [كذا ولعل أصله سنة] وأرجوكم بعد ذلك أن تضعوا ثقتكم في
أمر واحد، هذا الأمر هو الفكر الجديد الذي انتشر في أوربا.
اعلموا جيدًا أن السياسة الأوربية قد تغيرت نحو الشرق ، وأن السياسة السرية
والاستعدادات الحربية التي قادت أوربا إلى هذه الحرب الطاحنة قد ذهب زمنها ،
وأنه توجد روح جديدة تنتشر في أوربا، وأن الأوربيين لا يفكرون في توسيع
ممالكهم بل في تمدين الأمم الذين حاربوا لاستقلالهم.
وأرجو منكم قبل الجلوس أن تفكروا جيدًا في مستقبل أبنائكم الذين لم يولدوا
بعد، وفي أجدادكم الذين ماتوا من قبل، والسلام عليكم اهـ.
***
خطبتا بيكو وسايكس في حلب
زار علي رضا باشا الركابي الحاكم العسكري للشام والمسيو جورج بيكو مندوب
فرنسا والسير مارك سايكس مندوب إنكلترا مدينة حلب فأقام نادي العرب حفلةً
إكرامًا لمسيو جورج بيكو ممثل حكومة فرنسا حضرها الشريف ناصر ، والحاكم
العسكري العام ، ورجال الحكومة العربية ، وكثير من ممثلي دول الحلفاء وجم من
العلماء والأدباء والرؤساء الروحيين والأعيان، فابتدأ الكلامَ رئيسُ النادي مُرحبًا
بالقوم وتلاه أحمد أفندي الأبري فألقى خطابًا بديعًا ، ثم خطب بالفرنسية يوسف
أفندي سركيس ، ونهض بعده مسيو جورج بيكو وألقى خطابًا بالإفرنسية عربه
أمين أفندي غريب هذه خلاصته [1] :
خطبة مسيو بيكو
حضرة الحاكم العام وأيها السادة:
أشكركم كثيرًا لأنكم سمحتم لي اليوم بأن آتي وأحمل سلام فرنسا الظافرة
إلى ممثلي الحكومة العربية العظيمة؛ إذ ليس لنا بهجة في هذا الظفر أعظم من رؤية
مثل هذا المحفل، فهو بداية عمل كريم نتج عن الحرب ، هو انتهاء الاستبداد التركي
وتقرير الحرية لشعب عظيم يديره رجال عظام.
كل يعلم ما هي الأسباب التي جعلت هذه الحرب حربًا خاصةً بفرنسا، إذ قد
كان منذ سبع وأربعين سنة في جنبنا جرح غير مندمل وكان لا بد لنا من الانتقام،
ولكن كنا نجتنب الحروب لشدة هولها على الإنسانية، فلما جاء اليوم الذي تجمعت به
القوى البربرية في العالم اضطررنا إلى محالفة قوى التمدن إبقاءً عليه من الشر
المحدق به فانضمت إلينا إنكلترا ثم العرب ثم إيطاليا ثم أميركا ، وبغية كل منهم
الوصول إلى يوم يأمن فيه كل شعب على حريته واستقلاله (تصفيق حاد) .
لا شيء يرضي فرنسة ويسرُّها كرؤيتها حكومة نشأت بالأمس وأخذت تتقدم
وترتقي يوما بعد يوم في هذه الأماكن المحررة من الاستبداد ، وغدًا مع تمام الصلح
لابد أن يزول الحكم العسكري الذي ترونه اليوم مع مناطقه الحاضرة التي اقتضتها
ضرورات الحرب فيطل عليكم نور يوم جديد وعظيم، فليوحد العرب جميعًا كلمتهم
ومساعيهم من حلب حتى أقاصي الصحراء ولينبذوا كل شقاق مهما اختلفت عقائدهم
أو عاداتهم ، وليبذلوا ما بوسعهم من الإقدام أمام هذه الغاية المنشودة.
(حاربت فرنسا أربع سنوات توصلاً للنتيجة التي نراها الآن ، ولها الطالع
الأسعد بأن ترى الحكومة العربية شديدة الأزر محترمة من الجميع ، وتحل بالاتفاق
المتبادل جميع المسائل التي يشكلها عمران سورية وحرية اتصالها بالبحر؛ لأن
اتصالها بالبحر ضروري ولا بد لها منه (؟) ولكن يجب عليكم يا رجال سوريا
ومستقبلها البرَّاق أن توحدوا كلمتكم لتبلغوا هذا النجاح؛ إذ إنكم محاطون بالأعداء
الذين رأيتهم أنا والسير مارك سايكس، حيث كنا نجهر بحقوقكم أمام أوربا ، فكانوا
يتذرعون لإحباط مساعينا متلبسين بزي الأصدقاء فما آبوا إلا بالفشل إذ صممت
الحليفتان على الاعتراف بحكومة عربية كبيرة مستقلة) اهـ.
***
خطبة السير مارك سايكس بحلب
ونهض بعده السير مارك سايكس فقال:
أيها السادة الكرام والمسيو جورج بيكو المحترم، أتكلم اليوم وأنا مرتاح
الضمير، إذ حزت الانتخاب في مجلس الأمة، فأصبحت قادرًا على إتمام العمل الذي
زاولته من أجلكم.
(طرق مسامعكم الآن ما قاله المسيو جورج بيكو وأزيده تأكيدًا، أنه قل أن
يشتغل إنسان كما اشتغل هو في معاونة المبدأ العربي وقد ظهرت نتائجه جليةً) .
(تذكرون ما هي الأيام السوداء التي اضطررنا لاجتياز مراحلها ، فإن الأيام
السعيدة التي نحن فيها الآن لا تنسينا مكاره تلك الأيام ومتاعبها التي كان يشاطرني
مضغها المسيو بيكو الذي لم يقنط قط من نجاح المبدأ العربي رغم ما كنا نلاقيه من
العراقيل الجمة، وأهول بها من عراقيل؛ لأن العدو إذ ذاك ألمانيا وجيشها الجرار
الذي هو أكثر جيوش العالم انتظامًا) .
(كانت بريطانيا سيدة البحار ، وما كان يخطر على بالها ما كانت تدبره لها
عدوتها ألمانيا من المكايد البحرية، ألا وهي الغواصات.
إن العدو الذي كنا نصادمه هو ذاك القادر ذو العظمة والجبروت (ألمانيا)
فمن ذا الذي يستطيع أن يقول سواء كان إنكليزيًّا أو عربيًّا أو إفرنسيًّا أو إيطاليًّا أو
أميركيًّا: أنا الذي أنزلت ألمانيا من حالق عظمتها، وضربت خنزوانة كبريائها؟ لا
يستطيع أحد أن يدعي هذه الدعوى ، وأنه لم يقهرها إلا الله وحده ، إن القدرة الإلهية
التي منحتنا هبة النصر العظيمة تأمرنا بالمحافظة عليها والانتباه كيف يقتضي أن
نستفيد منها؛ لأننا إذا أسأنا استعمالها فهي تستردها منا.
والآن أريد أن أقدم كلمةً على سبيل النصيحة لكافة الحاضرين هنا ممن يتكلم
بالعربية ، وهي قصيدة (إذا) .
وعندها أنشد قصيدةً لأحد شعراء الإنكليز عنوانها (إذا) ضمت من الحِكم
الرائعة ما أصاخ له الجمهور وقابله بالاستحسان.
وعقب ذلك نهض توفيق أفندي شامية وألقى خطابًا بديعًا ، وانفضت الحفلة
والجذل بادٍ على أسرة الجميع. اهـ ما في الأهرام.
***
(6)
أقوال جرائد الحلفاء
رأي حكومة الحجاز
جاء في آخر مقالة افتتاحية طويلة نشرت في العدد 240 من جريدة القبلة
الذي صدر في مكة المكرمة يوم الخميس 15 ربيع الأول ما نصه:
(وها مقطمنا الأغر ينقل لنا في عدد 9038 الصادر بتاريخ 26 صفر 1337
من تصريحات أم صحف العالم ، ولسان حال الشعب البريطاني الذي أثبت فضله
على العالم ومنته على مجتمعه، ولا حرج بمواقفه وثباته واقتداره السياسي
والحربي والمالي ، أما أهوال سنيننا هذه الأربع من حسن نواياها وآمالها وما
تريده ثقةً واعتمادًا على معاشر العرب بقوله (من بحث سياستها القديمة التي
كانت ترمي إلى تسنيد تركيا وشد أزرها على أعدائها وأخذنا نحاول البحث عن بديل
حر يحل محل السلطة العثمانية البالية الفاسدة، ومن هؤلاء الأبدال الذين يحلون
محل تركيا العرب، أما سواهم فلسطين الجديدة وأرمينيا الجديدة) .
(نرحب ونؤهل ونسهل بمن أنزلنا محل ثقته، وتوسمنا بالأهلية لمصادقته،
ولا ريب فإن على مثل هذا يتنافس المتنافسون ولمثله فليعمل العاملون) .
(ألف ألف أهلاً وترحيبةً، وأضعافها شكرًا لمحسن الظن، وإنا لا نجيبه
بما قال أحد أشياخ جاهليتنا: أهملني صغيرًا وحملني كبيرًا، ولكن نقول: إن
العرب اليوم هم كالأشبال أو أفراخ الشياهين والبازي المحتاجة لصيانة آبائها) .
(ومع هذا فستجدهم أيها الداعي المحسن الظن - إن شاء الله تعالى - من
حيث تريد، وتراهم بعنايته بيت القصيد ، فإليكم بني يعرب ما أوتيتموه من طموح
الأنظار إليكم، وآمال أجل شعوب العالم فيكم، فانظروا ماذا تأمرون بعد ما وصفكم
ذلك الشعب بما وصف، فأجيبوا داعي المكرمات، وحققوا في نجابتكم التصورات
وكونوا خير أمة أحيت مندرس معالم سؤدد أسلافها للناس، ولأنتم أرفع وأسمى
من أن تذكر له نكبات التخاذل وموارد الأتعاس، أو تسيئوا بقولنا الظن وعكس
القصد، وايم الله إنه الحق. ونكرر ما أشرنا إليه في أعدادنا السابقة بأنا معاشر
الحجازيين ولا شيء من الرياسة أو السيادة إن كانت في سوري أو في يمني أو في
حجازي ونحوه، ولا يهمنا، ورب الكعبة إلا توليكم لبلادكم كتولي الشعوب المحررة
لبلادها، وإن داء الشامي هو داء اليماني، وإن في شقاء الآخر شقاءً للأول، وإن ما
يصيب أحدهما يصيب الآخر من خير أو عكسه، ومتى تفطنهم في أن أبسط دليل
على هذا قيام الحجازيين ونهضتهم وهم ولا شيء مما أصاب إخوتهم من الضيم
الذي سارت بأنواعه الركبان، علمتم أنهم أدركوا تلك الغاية الجليلة ، واغتنموا تلك
الفرصة لتحليهم بجلائلها، وأن يمتعهم بدعة العيش التي هم بها على مسمع من أنين
المضطهدين من إخوانهم عار عظيم لا يغسله إلا دماؤهم، وكان بفضله ما كان فلا
تعقموا النتيجة ، ولا تهدروا تلك الدماء الزكية، والنفوس الأبية) اهـ كلام القبلة
بحروفه.
(المنار)
إن عبارة جريدة القبلة - على ما فيها من الغلط والمعاظلة - صريحة في
اتفاق حكومة الحجاز مع حكومتي الحليفتين إنكلترة وفرنسة في أمر الولايات العربية
العثمانية وأهمها مسألة فلسطين الجديدة، ولكن جاء في جرائد الحلفاء، ولا سيما
جريدتي الطان والتايمس كلام من مذكرة الأمير فيصل التي قدمها للمؤتمر ما يجلي
المقاصد كما ترى.
_________
(*) تابع لما في الجزء الأول.
(1)
منقول من عدد 28 ربيع الآخر الماضي 30 يناير (ك2) من جريدة الأهرام.
الكاتب: عن جريدة المقطم
الدولة العربية القادمة [*]
هذا عنوان مقالة افتتاحية للتايمس في 7 فبراير عربناها فيما يلي:
(شهد فيصل الأمير الحجازي جلسة المؤتمر في باريس أمس وبسط قضية
أمته ، ويندر أن يكون بين المواضيع التاريخية ما يجهله الجمهور في (بريطانيا)
جهله لتاريخ العرب وما قد يكون لهم من الشأن كأمة في المستقبل، وقد كان السير
مارك سيكس أعظم رجال الدولة البريطانية اهتمامًا بوصف البواعث التي حملت
البريطانيين على تعضيد العرب في حربهم الطويلة مع الترك.
إن الإمبراطورية العربية القديمة التي كانت تمتد في أوج عزها من بغداد إلى
قرطبة (المقطم: كذا في الأصل والصواب أنها كانت تمتد من بلاد فارس إلى
قرطبة) كانت أفضل حكومة قامت بين انحطاط الإمبراطورية الرومانية ونشوء
أوربا الحديثة ، ولعلها كانت أمتن جسر للحضارة في العصور الوسطى، وكان منشأ
هذه الإمبراطورية في الحجاز الذي تكلم الأمير فيصل باسمه في باريس، وكان
للإمبراطورية العربية تهذيب وحضارة خاصان بها خلافًا للسلطة العثمانية، ومما
اختلفت به عن السلطة العثمانية أيضًا أنها عرفت كيف تنتفع أعظم انتفاع بجميع
العناصر التي اتصلت بها حتى لقد دعي عصر عظمتها وعزها العصر الذهبي
للشعب اليهودي ، والحقيقة أن وجوه الشبه بين العرب واليهود لا تقتصر على ما
بينهما من القرابة وصلة الرحم ، بل تتناول ما بينهما من الشبه العظيم في تاريخهما،
فقد أضاع اليهود قوميتهم بالنزاع الشديد الذي وقع بينهم وبين الإمبراطورية
الرومانية ، فحل العرب محل اليهود ، وصاروا قادة الأفكار بين الشعوب السامية،
ثم سقط العرب فريسةً للمغول الذين غزوا بلادهم ، واستولى الترك على الميراث
الذي ورثه العرب من اليهود، وقد كان الأنبياء اليهود أنبياءً عربًا ، وعند الشعبين
كثير من الأخبار ، والأقاصيص التقليدية التي يشتركان فيها ، وبينهما شبه كثير في
تاريخهما، فقد فقدا قوميتهما وانفصل الواحد عن الآخر بتبعيتهما السياسية للبلاد
التي اختارها للإقامة فيها.
والمأمول أن يعالج المؤتمر مشكلة التصرف في أملاك تركيا التي أخذت
منها ويعدها وحدةً كاملةً، فهنالك العرب كما تقدم ، ويليهم اليهود وآمالهم القومية
في فلسطين ، وبعدهم الأرمن، فمستقبل الشرق يتوقف كثيرًا على ما يكون من
الاتفاق بين هذه الأجناس الثلاثة التي سيكون لها أوطان قومية في القريب العاجل ،
ومصير كل منها يهم الآخرين ، فإذا أبدل الحكم العثماني الذي حافظ - ولو في
الظاهر- على وحدة تلك الأنحاء مع أنه لم يفعل شيئًا لترقيتها ماديًّا أو أدبيًّا أو
عقليًّا، إذا أبدل هذا الحكم بمنافسات ومناظرات محلية كان هذا الإبدال مصابًا.
إن المرء يتطلع إلى جامعة عربية تمتد من دمشق إلى بغداد ، ولها منافذ
تجارية إلى البحر المتوسط والبحار الشرقية، وقد لا تكون إمبراطوريةً واحدةً
متجانسةً ، ولكن يمكن أن تكون ولايات متحدة ، وتكون هنالك دولة (أجنبية)
منتدبة ، ويرجح أن هذه الإمبراطورية الجديدة تستعين كثيرًا بمقدرة يهود فلسطين،
كما استعانت إمبراطورية العرب القديمة بيهود أفريقية وأسبانيا ، فيجد اليهود بذلك
لمقدراتهم مجالاً جغرافيًّا أوسع من فلسطين التي هي ليست سوى بلد صغير،
وحينئذ تتحد أعمال الشعبين في إنهاض الشرق من كبوته.
ويشترط لبلوغ هذا الغرض شرطان جوهريان ، الأول: أن تنال اليهودية
ميراثها التام في فلسطين فلا يكون في الدنيا مسألة اسمها (فلسطين الشهيدة)
والثاني: أن يتملص يهود فلسطين من نفوذ الأعمال المالية عليهم فلا ينصرفوا إلى
اغتراف موارد الشرق المادية ، بل يتخذوا لأنفسهم ضربًا من الحضارة الصحيحة
من البلاد نفسها ، ويوجهوا همهم إلى إنشاء تهذيب حقيقي خاص بها يطابق المبادئ
السامية الإنسانية التي وضعتها جمعية الأمم، وتحقيق هذه الأمنية يهم العرب كما يهم
اليهود تقريبًا) اهـ.
_________
(*) منقولة عن المقطم 24 جمادي الأولى - 25 فبراير.
الكاتب: عن جريدة المقطم
الأمير فيصل في المؤتمر [*]
نشرت (المورننج بوست) في 8 فبراير التلغراف التالي لمكاتبها الباريسي
وهو:
(ظل الأمير فيصل يتكلم في مجلس العشرة عشرين دقيقةً، فكان أوجز
المندوبين الذين سمع المجلس أقوالهم، وكان وقع كلام الأمير شديدًا في نفوس
أعضاء المجلس حتى قال أحد هؤلاء الأعضاء: إن وقع كلامه كان كوقع كلام
المسيو فنزيلوس، وكان الأمير يتكلم بالعربية، والكولونيل لورنس يترجم كلامه
إلى الإنجليزية ، ثم ينقل ترجمان كلام هذا إلى الفرنسوية، وكان الأمير يتكلم
ببلاغة وحكمة وفاز فوزًا كبيرًا؛ لما ذكَّر سامعيه بأن مملكته دامت في عالم الوجود
تسع مائة سنة.
وخلاصة أقواله: أن والده ملك الحجاز لا يطلب أن يضم شبرًا واحدًا من
الأرض إلى مملكته، ولكنه يطلب للعرب - ويريد بالعرب الشعوب التي تتكلم
العربية - حق تعيين مصيرهم بحسب نظام التوكيل الدولي ، وهو النظام الذي يعتقد
أن البريطانيين مستعدون لتطبيقه على عرب الحجاز (؟) ولكنه لا يصر على
توكيل دولة دون أخرى ، ولا ينطق باسم عرب أفريقية، ولا يعارض الفرنسويين
إلا حيث يحتمل أن يعارض الفرنسويون في مطالب الذين كانوا حلفاء دول الاتفاق
أكثر من ثلاثة أعوام.
ومما هو جدير بالذكر هنا أن فيصلاً طَلَب العِلم في الآستانة في حكم عبد
الحميد وقضى أعوامًا في مدارسها ، فهو لا يجهل تاريخ السياسة الأوربية الحديث،
والصحف الفرنسوية تراعي قواعد اللياقة والمجاملة معه إذا استثنينا بضع جرائد لا
يعتد بها.
وليس ثمة تنافر جوهري بين مصالح إنكلترا ومصالح فرنسا، ولكن يجب
حل هذه المسألة بأسرع ما يستطاع ، وعندي أن هذا هو تعليل قرار المجلس
الفجائي على أن يسمع أقوال الأمير.
وقد وصفت جريدة (الغلوي) الأمير فيصلاً بقولها: إنه عميل للحكومة
البريطانية ، ذكي غيور ، وقالت: إنها مقتنعة بأن المستر لويد جورج سيخفف
من حدته، واهتمت به الصحف الأخرى، ولكنها اهتمت أيضا بالكولونيل لورنس
اهتمامها بالأمير.
وحادَثَ الأمير فيصل مندوب جريدة إكسلسيور، فأشار إلى الأقوال غير
الصحيحة التي قالها الصحافيون الفرنسيون والبريطانيون عنه وعن المسألة
العربية بالإجمال ، ثم قال: (إن الحجاز لا يطمع بالتوسع وبسط السيادة ولا
يرمي إلى ملك الشرق الأدنى ، ولا يروم فتح البلدان) ثم قال: (وجل ما أطلبه
هو تطبيق قاعدة الدكتور ولسن الخاصة بحق الشعوب في تعيين مصيرها على
العرب في آسيا الصغرى، إن تحرير العرب لا يلاشي النفوذ الموجود، أو الذي
يسعون لإيجاده في سورية ، ولكنه يرقي هذا النفوذ بالطرق السلمية باجتناب كل
نزاع قد ينشأ عن مقاصد ضم الأملاك المستور بستار كثيف أو شفاف، فالعرب
يطلبون أن يعاملوا كما يُعامَل اليونان والصربيون والبلغاريون الذين خلُصوا مثلهم
من استبداد الترك) اهـ.
_________
(*) عن عدد المقطم المنقول عنه ما قبله.
الكاتب: محمد رشيد رضا
رد المنار على الناقد لذكرى المولد النبوي
تتمة [1]
الموضع الرابع عشر
افتتان آل البيت بالغلاة فيهم
أشار الناقد إلى قولنا في حاشية ص43 من ذكرى المولد بعد الثناء على آل
البيت النبوي العلوي: وإن فتن الكثيرون منهم بغلاة المحبين، فكانت فتنتهم لهم
أعم وأدوم من فتنة الأمراء الظالمين؛ إذ كان من أثرها في ذريتهم أن ترك
أكثرهم العلم والأعمال النافعة استغناءً عنهما بشرف النسب غافلاً عن قول جدهم
علي المرتضى- كرم الله وجهه -: (قيمة كل امرئ ما يحسنه) إلخ، وقال:
(ولعل المناسب: وإن فتن بعضهم واغتر بشرف نسبه وترك العلم والأعمال
النافعة غافلاً عن قول جده علي، إلخ؛ لأن إثبات الفتنة للأكثرية ينافي آية التطهير
كما لا يخفى) .
ونقول في الجواب: إننا لم نثبت الفتنة للأكثرين منهم، بل للكثيرين، وإنما
ذكرنا أن أكثر ذريتهم - أي: المتأخرين منهم - تركوا العلوم والأعمال النافعة للأمة
استغناءً عنهما بشرف النسب، وهذا أمر مشاهد معروف في الأقطار كلها؛ فإنك قلَّما
تعد في بطن من بطونهم المشهورة المعظمة بنسبها علماءً محققين يؤخذ عنهم العلم
والدين، أو رؤساء جمعيات ومصالح يرجع الناس إليهم في أمور دينهم ودنياهم،
فإذا كان هذا هوالواقع فهو حجة على أن الآية الكريمة ليست بالمعنى الذي يقول
به الناقد، وإن لم يكن هو الواقع فليرده بسرد أسماء العلماء الأعلام منهم في الحجاز
واليمن وسائر البلاد العربية والعجمية، وبيان نسبتهم العددية إلى الجاهلين المثبتة
أنهم هم الأكثرون عددًا، وقد عُلم مما أوردناه في تفسير الآية من الجزء الماضي أن
الآية في أفق غير أفق هذه المسألة.
فالتحقيق أن قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: 33) إلخ، تعليل لما قبله من الأوامر والنواهي التي
خوطب بها نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وما قرنت به من الوعد بمضاعفة
الأجر على الطاعة والوعيد بمضاعفة العذاب على المعصية، أي إن الله تعالى
لا يريد بذلك إعناتكم والتضييق عليكم يا أهل البيت، وإنما يريد به إذهاب
الرجس عنكم وتطهيركم بحملكم على امتثال ما أمركم به والانتهاء عما نهاكم عنه،
فهو كقوله تعالى في تعليل الأمر بالوضوء والغسل والتيمم:
{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ
عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة: 6) .
خاتمة النقد في العترة والسنة
أشار الناقد إلى ما ذكرناه في تلك الحاشية من اختلاف الرواية في حديث
الثقلين؛ إذ فسر الثقل الثاني في بعضها بالعترة وفي بعضها بالسُّنة، وقال: يظهر
للعاجز أن رواية الأبدال المذكورة على حذف مضاف، أي: حملة سنتي، فتكون
مخصصةً للرواية الأولى، كما أن الأولى مخصصة للثانية، فالمعنى: حملة سنتي
الذين هم من عترتي، أو عترتي حملة سنتي، وأيضًا يظهر أن المراد بالطائفة من
أمته التي لا تزال ظاهرةً على الحق قوَّامة على أمر الله إلى أن تقوم الساعة: هم
عترته الحاملون لسنته، والله أعلم.
أقول: إن هذا الجمع بين الروايتين قوي في المعنى ضعيف في اللفظ؛ فإن
حذف المضاف لا يجوز إلا حيث تدل عليه القرينة، كقوله تعالى:{وَاسْأَلِ القَرْيَةَ} (يوسف: 82) وأما قوته في المعنى فظاهرة، وذلك عين ما أردناه بقولنا في
أصل ذكرى المولد: (فتوفي صلى الله عليه وآله وسلم تاركًا للأمة ما إن تمسكوا
به لن يضلوا من بعده: كتاب الله وسنته في تبيينه، وعترته العاملين بهما من أهل
بيته) وأقول الآن: إنهم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين، وقد هدم الناقد بقوله هذا
جل ما كان بناه من جعل معنى هذين الحديثين وما ماثلهما عامًّا شاملاً للسلالة العلوية
الفاطمية، من وُجد منها ومن يوجد إلى يوم القيامة. حتى إنني استغربت منه قوله في
نقد الموضع الرابع عشر: (وإن فتن بعضهم واغتر بشرف نسبه) إلخ، بعد ما تقدم
من تعصبه في المواضع السابقة لكفار قريش من أجلها، على أنه وإن أطلق ما يدل
على ذلك بالإجمال، فإنه لا يعتقده إذا فكر فيه بالتفصيل، ولا نعرفه إلا محبًّا للحق
وخادمًا للعلم وساعيًا إلى الإصلاح، وما ذاك إلا أثر شدة الحب، بأَولى الناس
وأجدرهم بالحب.
وإذا كان الصحيح عنده ما قال أخيرًا، فإنني أسأله سؤال مستفيد مخلص أن
يدلني على من يعرف من أفراد هذه الطائفة التي ورد الحديث فيها من أهل هذا
العصر عسى أن يكون لنا بهم من ولاء العلم والأدب وصلة القرابة والنسب، ما
يعيننا على التعاون معهم على خدمة العلم والدين، والله يتولى الصالحين اهـ الرد.
_________
(1)
يراجع بقية هذه المسألة في آخر ص 351 من المجلد العشرين.
الكاتب: محمد رشيد رضا
باحثة البادية
وحفني ناصف
(1)
وفاتهما وترجمتهما
(باحثة البادية) لقب للأديبة الشهيرة (ملك) كريمة حفني ناصف بك،
اختارته لتوقيع ما كانت تنشره من مقالاتها وشعرها في الجرائد كما يفعله كثير من
المتنكرين والمتنكرات في الشرق والغرب، توفيت لعشر خلون من المحرم فاتحة هذا
العام، ثم احتفل بتأبينها في اليوم الثاني من شهر ربيع الأول، وقد كان شهر وفاتها
وما بعده من الفترة التي لم يصدر فيها المنار، وشهر تأبينها ضاق عما أعد له،
فرجونا فيه بأن نكتب شيئًا في ترجمتها وتأبينها في هذا الجزء.
وفي هذه الفترة بين الجزئين توفي والدها الأسيف، وكان قبل وفاتها مريضًا
فضاعف الحزن عليها المرض حتى صار حرضًا انتهى بالموت، وكان سبب موتها
هي الانتقال من الفيوم إلى القاهرة، وهي مصابة بالنزلة الوافدة لأجل مواساته في
إثر انكشاف كارثة كانت سبب مرضه أو سبب شدته، فأصيبت بما ضاعف النزلة،
فكانت القاضية، وقد خسر القطر المصري - بل الأمة العربية - بوفاتهما ركنين من
أركان النهضة العربية للرجال والنساء معًا، كما يتضح ذلك لغير العارف بفضلهما
من أهل الأقطار البعيدة، مما تثبت من ترجمتها الوجيزة.
باحثة البادية
هي كبرى أولاد حفني بك ناصف، عُني بتربيتها وتعليمها وهي في شرخ
الشباب وزمن الجهاد في إصلاح التعليم وترقية الآداب، وضعها في المدرسة
السَّنية، التي هي أرقى مدارس البنات الأميرية، فكانت أول ابنة مصرية نالت
شهادتها الابتدائية، ثم انتقلت من القسم الابتدائي إلى قسم المعلمات العالي، فجدت
حتى نالت شهادة هذا القسم فيه، وكانت الأولى أيضًا، وكان من مبادي التوفيق أن
كان من أساتذتها في القسم الأول الشيخ حسن منصور وفي القسم الآخر الشيخ أحمد
إبراهيم، وهذان الأستاذان في الذروة العليا من مدرسي علوم اللغة العربية وفنونها
في مصر، علمًا وآدابًا وأخلاقًا وحذقًا في التعليم، ثم إنها اشتغلت بالتعليم في
المدرسة نفسها، فكانت خير معلمة كما كانت خير متعلمة، امتازت بالذكاء النادر،
والجد والاجتهاد، والتنزه عما ينتقد من عادات الفتيات في هذه البلاد، فتم لها
بالتعليم ركنان من أركان العلم، أو طوران من أطواره الثلاثة التي لا ينضج عالم
إلا بمجموعها، وثالثها الكتابة والتأليف الذي وجهت إليه عنايتها بعد زواجها،
واختيارها بنفسها شؤون الحياة الزوجية وتدبير المنزل، ولم ينقصها من الخبرة
التي تؤهلها لمرتبة الإصلاح النسائي على وجه الكمال، إلا الحرمان من صفة
الأمومة والقيام على تربية الأولاد، فسبحان من تفرد بالكمال، الذي لم يلد ولم
يولد ولم يكن له كفوًا أحد.
ثم إن والدها زوَّجها برضاها من عبد الستار بك الباسل أحد زعماء العرب
المصريين وشيوخهم، وهو وأخوه الأكبر حمد باشا الباسل رئيسا قبيلة الرماح
المقيمة بجوار الفيوم، وقد امتاز هذان الأخوان في عربان الديار المصرية وغيرهم
بالجمع بين فضائل البداوة ومحاسن الحضارة، والتنزه عن رذائلهما، فمن الأولى:
الوفاء والسخاء والنجدة والمروءة وقري الضيف وإغاثة الملهوف، ومن الثانية:
محبة العلم والأدب وأهلهما والاطلاع على شؤون الاجتماع والعمران، ولهما
مشاركة في هذا وما يتعلق به من مسائل التاريخ القديم والحديث والقوانين، زادتها
معاشرتهما للطبقة العليا من العلماء ورجال الحكومة والسياحة في أوربة وبعض
البلاد الشرقية اتساعًا وصقلاً، ولكن هذه المزايا التي اجتمعت لزوجها وسعة الرزق
التي هي في نظر أكثر النساء خير منها ومن النبوغ في أي علم من علوم الدين
والدنيا، كان يظن أن سيعارضها ما هو أقوى منها في نظر فتاة مصرية تعلمت
التعليم العالي، وهو زي عبد الستار بك العربي من الشملة البيضاء والطربوش
المغربي، ذلك بأن وجهة التعليم بمصر أوربية يقصد بها فرنجة المصريين كما قال
لورد كرومر، ومن شأن اللواتي يتعلمن ويتربين على هذه الطريقة أن ينفرن من
كل ما هو وطني محض من الزي والعادات، ويفضلن كل ما هو تقليد للإفرنج منها،
حتى إن بعض بنات الوجهاء المتعلمات لا يقبلن زوجًا لأنفسهن إلا من كان حاملاً
لشهادة عالية من أوروبة، لذلك استغرب كثير من الناس رضاء (ملك ناصف)
بقرين لها من شيوخ العرب، وإن كان بيته أرقى من بيت أبيها ثروةً، وأوسع
معيشةً. كما يرى القارئ هذا فيما ننقله في هذه الترجمة من تأبين تلميذة الفقيدة
وصديقتها (نبوية موسى) التي هي تلوها في الذكاء والتحصيل، وما ذاك إلا أن
فطرة (ملك) وتربيتها المنزلية وهدي أستاذيها في المدرسة حالا دون إفساد
التفرنج للبها، واستحواذ زخرفه على قلبها، وبذلك كانت جديرةً بمعرفة قيمة رجل
من كرام أمتها، لم يخطبها إلا لعلمها وحسن تربيتها، ففضلته على الشبان
المتفرنجين المتطرسين، المتورنين الذين انسلوا من شرف الصيانة وفضائل الدين.
وجدت الفقيدة من قصر الباسل أجمل منظر يتجلى فيه ذوق المرأة وعلمها
بتدبير المنزل، ووجدت من عبد الستار أوفى زوج تهنأ معه الحياة الزوجية لأديبة
مثلها يتساهمان تفضيل المزايا المعنوية على المظاهر الصورية ، ووجدت من
حريته الأدبية ما مكنها من نشر أفكارها الإصلاحية، ويقل أن يوجد في المسلمين
حتى المتفرنجين منهم من يرضى لزوجه أن تنشر آراءها في الصحف المنتشرة،
وتتصدى لمناظرة أرباب الأقلام فيها، بل أكثر البنات اللواتي يتعلمن في مثل بلاد
أوربة ينتهي بالزواج اشتغالهن بالعلم فلا يجدن بعده وقتًا للتأليف ولا لإنشاء
المقالات للصحف، ولذلك كانت آثار النساء القلمية قليلةً جدًّا بالنسبة إلى عدد
المتعلمات منهن في كل أمة إذا قوبلت بآثار الرجال بالنسبة إلى عددهم، ولكن عقيلة
الباسل لم تجد من بيتها وبعلها إلا التنشيط على الكتابة والنشر.
لآل الباسل هؤلاء ثلاث دور آهلة.
(إحداها) : بجوار مزارعهم وقبائلهم من مديرية الفيوم بالقرب من مدينة
الفيوم وتعرف بقصر الباسل، وهي سكنهم الأصلي، وفيها يكونون في أكثر أوقاتهم.
و (الثانية) : بمدينة الفيوم نفسها.
و (الثالثة) : في القاهرة يقيم فيها حمد باشا أيام انعقاد الجمعيات التشريعية
التي هو أحد أعضائها، ومن يتعلم من ولده في المدارس، ويختلف إليها هو وعبد
الستار بك أيامًا من كل شهر لمصالح لهما في العاصمة، وللقاء أصدقائهما فيها،
ويلم بها أزواجهما أيضًا، وقد حُبب لابنة حفني المقام في قصر الباسل لما فيه من
اجتماع محاسن الحضارة والبداوة، وصفاء العيشة الخلوية مع رفاه العيشة
الحضرية وزينتها، وتسنى لها فيه اختبار حال الفلاحين المقيمين بقرية قصر
الباسل، وسكان الخيام من البدو المخيمين بجواره، فكانت تعاشر نساء الفريقين،
وتتعرف على حال حياتهن الزوجية، ومن ثم انتزعت لنفسها لقب (باحثة البادية) .
ظهر اسم (باحثة البادية) أول مرة في صحيفة (الجريدة) سنة 1326 في
ذيل اقتراح بناء مدفن لعظماء رجال مصر، فرددنا على هذا الاقتراح في المنار
ردًّا دينيًّا رجحنا أن المقترح رجل متنكر فقلنا في أول الرد: نشر هذا الاقتراح بتوقيع
(باحثة البادية) وما هو إلا خيال باحث في الحاضرة، أو تمني متفرنج في
العاصمة، إلخ (راجع ص380 م11) وقد أخبرني عبد الستار بك من عهد
غير بعيد أنها أرادت يومئذ أن ترد على المنار، واستشارته في ذلك فأشار عليها
بأن لا تفعل قائلاً: إنك لن تستطيعي أن تجادلي كاتبًا من أئمة الدين في مسألة دينية
كهذه
…
ثم إنه علم منها بعد ذلك أنها استنبطت من ذلك أنه يكره لها أن تكتب في
الصحف مطللقًا، فصرح لها بأن ظنها هذا خطأ، وأنه لا يكره أن تكتب ما ترجى
فائدته، فكان هذا بدء حياتها الإصلاحية وخدمتها العامة، فالعامل في هذه الحياة
الاستعداد الفطري، ثم دار النشأة وروحها الوالد الذي نبين كنهه في ترجمته، ثم
المدرسة وروحها من ذكرنا من الأساتذة، ثم دار الزوج وهو روحها، وقد ذكرنا من
أمر هذا العامل الأخير ما يعرف به قدر تأثيره في هذه الحياة، فهذه العوامل هي
التي كونت (باحثة البادية) في حياتها التي تتجلى للقارئ في مقالاتها الخالدة
وآثارها الباقية، ولما لم يجتمع ذلك لغيرها من بنات مصر في هذا العصر كانت في
مسلمات مصر نادرةً شاذةً.
مقالاتها وآثارها القلمية
كتبت مقالات كثيرة، ونظمت بعض القصائد والمقاطع من الشعر، وألفت
عدة خطب في محافل اجتمع فيها مئات من كرائم النساء في القاهرة، وشرعت في
تأليف كتاب في حقوق النساء في الإسلام وفي أوربة لم يتم، وقد نشر أكثر ما كتبت
في الجريدة وجمع بعضه في كتاب سمي (النسائيات) وطبع الجزء الأول منه في
سنة 1328 ، فقرظه نفر من الأدباء والعلماء، وقد ذكرت في تأبينها أن آثارها
القلمية تدور على بضعة أقطاب، أو تدخل في ستة أبواب:
(الأول) : تربية البنات، وتعليمهن في البيوت والمدارس.
(الثاني) : المرأة - تأثيرها في العالم - تأثيرها الخاص في زوجها وولدها
وأهلها - ما ينبغي لها في كل طور من أطوار حياتها - أحوال القرويات والبدويات
والمدنيات - المقارنة بين المرأة المصرية والمرأة الإفرنجية - الجمال والعادات
والأزياء.
(الثالث) : الزواج - سنه - حقوق الزوجين والعشرة بينهما - تقصير كل
منهما فيما يجب عليه - تزوج المصريين بالأجنبيات.
(الرابع) : الحجاب والسفور.
(الخامس) : الرجال والنساء - جناية كل منهما على الإنسانية بجنايته على
الآخر - وظائف كل منهما - مزايا كلٍّ ومساويه.
(السادس) : شجون وشؤون عامة، كوصف البحر، والعيشة الخلوية
والجمال، وأقلها شوارد شعرية في الحال الاجتماعية السياسية.
وقيمة هذه الآثار ومزيتها التي استحقت به الفقيدة الترجمة في المجلات العلمية
والإصلاحية، وتأبين فضلاء الرجال لها في حفلة عامة، هي في نظري أنها
إصلاحية جاءت وسطًا بين آراء المحافظين الجامدين على كل قديم، والمتهافتين
كالأطفال على كل جديد، وأن الكاتبة مستقلة فيها غير مقلدة.
(للترجمة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقريظ المطبوعات الجديدة
(منتخبات في أخبار اليمن)
من كتاب (شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم) لنشوان بن سعيد
الحميري.
أما كتاب شمس العلوم فقد قال صاحب كشف الظنون فيه ما نصه:
(شمس العلوم في اللغة ثمانية عشر جزءًا لنشوان بن سعيد الحميري اليمني
المتوفى سنة 573 ثلاث وسبعين وخمسمائة، سلك مسلكًا عربيًّا يذكر فيه الكلمة من
اللغة فإن كان لها نفع من جهة ذكره، وذكر في كل مادة أبواب الكلمة واستعمالاتها
ثم اختصره ابنه في جزئين وسماه: (ضياء الحلوم في مختصر شمس العلوم)
أول شمس العلوم: (أما بعد مستحق الحمد) إلخ اهـ ولم يتكلم على المختصر،
وفي مقدمات كتاب المنتخبات كلام عنه وعن مؤلفه ونسخه وسماعه، ومما ذكر
فيها عن المختصر: (الجزء الأول) من كتاب المختصر من شمس العلوم، ودواء
كلام العرب من الكلوم، إملاء القاضي السيد أديب الأدباء وقدوة النجباء، إمام
الأئمة وسراج الظلمة: أبي عبد الله محمد بن نشوان بن سعيد الحميري طول الله
تعالى مدته، وأعلى في الدارين درجته) .
وأما هذه المنتخبات فتدل أن الكتاب معجم لغوي أدبي تاريخي، لكن رأينا عناية
صاحب المنتخبات خاصة بما في الأصل من لغة حمير وتاريخها، ولا سيما ملوكها
وأمرائها وشعرائها وسائر تاريخ اليمن، وفي مادة (س ن د) منه صورة
حروف المسند، وهو خط حمير، قال: وهو موجود كثير في الحجارة والقصور،
وكان يكتب حروفًا مقطعةً كالخطوط الإفرنجية، ولكن يفصل بين الكلم بالصفر
عندهم وهو حرف الألف في خطنا.
طبعت هذه المنتخبات في مطبعة (بريل بليدن) سنة 1916، وكتب على
طرتها بعد ما تقدم من اسم الكتاب المنتخبة منه، واسم مؤلفه (وقد اعتنى بنسخها
وتصحيحها عظيم الدين أحمد) وصفحاتها 119، وإذا أضيف إليها صفحات
الفهارس كان المجموع 163 صفحةً، وهو من الكتب التي طبعت على نفقة أوقاف
ذكرى مستر جب الشهير، وله مقدمات وتعليقات على الكتاب بالإنكليزية، وطبعت
في الجانب الأيسر فيها كلام عن مؤلفه ورواته واختلاف نسخه.
***
(كتاب العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية)
الكتاب من تأليف الشيخ علي بن الحسن الخزرجي، وقد عني بتصحيحه
وتنقيحه الشيخ محمد بسيوني عسل المصري، وطبع على نفقة أوقاف ذكرى مستر
جب بمطبعة الهلال بمصر سنة 1332 هـ - 1914، وأهدي إلينا الجزء الثاني
منه منذ أشهر، ولكن لم يرسل إلينا الجزء الأول، وصفحات الجزء الثاني 320
وهي بقطع المنار وبضم الفهارس إليها تبلغ الصفحات 486 وهو يدخل في ثلاثة
أبواب، الأول منها في أخبار الدولة المجاهدية، والثاني: في قيام الدولة
الأفضلية ووقائعها، والثالث: في قيام الدولة الأشرفية الكبرى وبعض أيامها،
وعسى أن لا نحرم من الجزء الأول وأن نوفق إلى كتابة نبذة في بني رسول عند
تقريظه.
***
(حضارة العرب)
كتاب علمي وجيز صغير الحجم، كبير الفائدة، جمع فيه واضعه أسعد أفندي
داغر خلاصةً من تاريخ العرب في الجاهلية والإسلام في أربعة فصول:
(الأول) : في تاريخ عرب الجاهلية، أو العرب قبل الإسلام.
(الثاني) : في تاريخ العرب بعد الإسلام من عصر الخلفاء الراشدين إلى
العصر العثماني التركي وفيه نبذة في صفات العرب وأخلاقهم وعاداتهم وملابسهم
وآدابهم وآداب الأكل عندهم.
(الثالث) : في علوم العرب اللغوية والدينية والأدبية والعقلية والكونية
والرياضية والسياسية والاقتصادية.
(الرابع) : في فنون العرب الحربية والبحرية والعمرانية، والجميلة.
وقد قال المؤلف في خاتمة كتيبه الجميل: (يرى القارئ مما تقدم أننا أوردنا
في هذا الكتاب بعض مفاخر العرب بغاية ما يمكن من الإيجاز، وأننا اقتصرنا على
كليات علومهم دون جزئياتها وفروعها؛ لأننا لو أردنا الإحاطة بها كلها لاحتجنا إلى
مجلدات ضخمة، وقد جعلنا غايتا من هذا المؤلف الصغير الإشارة إلى ما أحدثه
العرب من الاكتشافات والاختراعات، وما لهم من الآثار الخالدة في عالم الفنون
والصناعة، وما وضعوه من العلوم، وما استدركوه فيها على المتقدمين من تصحيح أو
تكميل مما ثبتت صحته وتناوله الخلف من بعدهم، وهو ليس إلا نقطةً من بحر، أو
جزءًا من كل) .
وفي الكتاب زهاء تسعين رسمًا، بعضها للأناسي المشهورين وأولهم حمورابي
صاحب أقدم شريعة عرفت في التاريخ البشري، وبعضها للمدن والقصور
والمساجد، وغيرها من المباني، وبعضها للنقود والكتابة والأواني والنسيج
والآلات الحربية والعلمية، كالمنجنيق والإصطرلاب والمرصد، وبعضها
للأقطار والممالك، وهو ما يسمونه الخرائط، وهو محرف مأخوذ من مادة (خرت
الأرض) وهو معرفة مضايقها وأنحائها.
كل هذه الرسوم وتلك المسائل الكثيرة قد أودعت في أقل من مائة وخمسين
ورقةً من قطع أصغر من قطع المنار، فقال بعض المنتقدين: إن هذا فهرس لا
كتاب، وهذا قول خطأ ليس بصواب، فإن الفهرس عناوين ناقصة، وهذه مسائل
وقضايا تامة، وعندي أن وجود مثل هذا الكتاب في أيدي القارئين من هذه الأمة
العربية ضروري؛ لأنه خلاصة وجيزة لتاريخ أمتهم المدني يسهل فهمهما
وتعميمها بين جميع الطبقات والأصناف حتى يكون جمهور الأمة على علم إجمالي
بمآثر سلفه ومفاخرهم، يُرجى أن يبعثهم على إحياء مجدهم وتجديد عهدهم.
وينتقد على الكتاب أن بعض مسائله غير محررة، وسبب ذلك أنها ذكرت على
سبيل النموذج لا التحرير والتحقيق، ومن ذلك التفرقة بين بعض العلوم والفنون،
وذكر أعظم رجالها وأئمتها، ويتبع ذلك التساهل في التعبير كقوله في الكلام عن
التصوف: قيل: التصوف نسبة إلى الصوف، أراد أن يقول إن التصوف مشتق
من الصوف، أو أن الصوفي منسوب إلى الصوف الذي كان يلبسه. وفيه أغلاط
طبعية لم تذكر في آخر الكتاب من جدول التصحيح ككلمة (الذكاة) وصوابها
(الزكاة) وكلمة (الفاني الباقلاني) وصوابها (القاضي الباقلاني) كلاهما في ص
153 ، ومثل هذا غير مقلل من فائدة الكتاب التي بيناها، وقد طبع الكتاب بمطبعة
هندية بالقاهرة سنة 1336 وتوجه مؤلفه باسم الأمير فيصل الشهير - جعله تقدمةً له -
فنال منه جائزةً سَنيةً، وهو يباع في مكتبة المنار وغيرها، وثمن النسخة منه 35
قرشا.
***
شذرات
(لقب السيد والسي)
ابتدع بعض الجرائد العربية المحدثة في زمن الحرب إطلاق لقب: (السيد)
على كل أحد، وجعله بدلاً من كلمة أفندي التركية، و (مسيو ومستر) الإفرنجيتين،
فأنكر ذلك السواد الأعظم من العرب، المسلمين والنصارى جميعًا؛ لأن أكثر المسلمين
يخصون بهذا اللقب آل بيت الرسول عليه وعليهم الصلاة والسلام، وبعضهم يجعله
للحسينيين منهم، ويخص الحسنيين بلقب (الشريف) ولا يشذ عن هذا التخصيص
إلى استعمال هذا اللقب لتعظيم كل من يراد تعظيمه إلا القليل من الشاميين والأقل من
غيرهم، ويرى بعض الباحثين أن الأصل في ذلك نزعة ناصبية أو يزيدية، وأما
النصارى فيخصون بهذا اللقب سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام، وبعض كبراء
رجال الدين كالبطرك والمطران، وقد سبق المغاربة والمصريون إلى استعمال كلمة
(السيّ) في هذا المقام، ويظن كثيرون أنها مختصرة من كلمة السيد، والصواب أن
هذا لفظ مستقل، مكسور السين مشدد الياء، ومعناه: المثل، ومثناه:(سيَّان)
مستعمل، وجمعه: أسواء كشبه ومثل، وأشباه وأمثال، وهو جدير بأن يعمم في
الاستعمال.
***
خسارة سورية من رجال العلم والدين
خسرت سورية في أثناء هذه الحرب أكبر رجال الدين فيها علمًا وهديًا
وأخلاقًا: الشيخ عبد الرزاق البيطار، والشيخ محمد كمال الرافعي الطرابلسي، وإننا
ننتظر من أوليائهما أن يوافونا بمذكرتين من تاريخهما نستعين بهما على ترجمتهما.
_________
الكاتب: القلقشندي
أعراب الشام
في القرنين السابع والثامن
للهجرة الشريفة
جاء في الكلام على المملكة الشامية من الجزءِ الرابع من (صبح الأعشى) بيان
عن العربان التابعين لها، وبطون العرب أولو الإمرة فيهم، نلخص منه ما يأتي،
قال:
البطن الأول
آل ربيعة من طيئ من كهلان من القحطانية
وهم بنو ربيعة بن حازم بن علي بن مفرج بن دَغْفَل بن جراح، وقد تقدم
نسبه مستوفًى مع ذكر الاختلاف فيه في الكلام على ما يحتاج إليه الكاتب في المقالة
الأولى. قال في (العِبر) : وكانت الرياسة عليهم في زمن الفاطميين - خلفاء
مصر - لبني الجراح، وكان كبيرهم مفرج بن دغفل بن جراح، وكان من إقطاعه
الرملة، ومن ولده حسان وعلي ومحمود وحرار، وولي حسان بعده فعظم أمره، وعلا
صيته، وهو الذي مدحه الرياشي الشاعر في شعره، قال الحمداني: وكان مبدأ ربيعة
أنه نشأ في أيام الأتابك زنكي صاحب الموصل، وكان أمير عرب الشام أيام طغتكين
السلجوقي صاحب دمشق، ووفد على السلطان نور الدين محمود بن زنكي صاحب
الشام فأكرمه وشاد بذكره. قال: وكان له أربعة أولاد، هم فضل ومراد وثابت
ودغفل، ووقع في كلام المسبحي أنه كان له ولد اسمه بدر، قال الحمداني: وفي آل
ربيعة جماعة كثيرة أعيان لهم مكانة وأبهة، أول من رأيت منهم مانع بن حديثة ،
وغنام بن الطاهر، على أيام الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب. قال:
ثم حضر بعد ذلك منهم إلى الأبواب السلطانية في دولة المعز أيبك والي أيام المنصور
قلاوون زامل بن علي بن حديثة، وأخوه أبو بكر بن علي، وأحمد بن حجي وأولاده
وإخوته، وعيسى بن مُهنا وأولاده وأخوه، وكلهم رؤساء أكابر وسادات العرب
ووجوهها، ولهم عند السلاطين حرمة كبيرة وصيت عظيم، إلى رونق بيوتهم
ومنازلهم.
من تلق منهم تقل: لاقيت سيدهم
…
مثل النجوم التي يسري بها الساري
ثم قال: إلا إنهم مع بعد صيتهم قليل عددهم، قال في (مسالك الأبصار) :
لكنهم كما قيل:
تعيرنا أنا قليل عديدنا
…
فقلت لها: إن الكرام قليل
وما ضرنا أنا قليل وجارنا
…
عزيز وجار الأكثرين ذليل
ولم يزل لهم عند الملوك المكانة العلية والدرجة الرفيعة، يحلونهم فوق
كيوان وينوعون لهم جناس الإحسان، قال الحمداني: وفد فرج بن حية على
المعز أيبك، فأنزله بدار الضيافة، وأقام أيامًا، فكان مقدار ما وصل إليه من عين
وقماش وإقامة - له ولمن معه - ستةً وثلاثين ألف دينار. قال: واجتمع أيام
(الظاهر بيبرس) جماعة من آل ربيعة وغيرهم، فحصل لهم من الضيافة خاصة في
المدة اليسيرة أكثر من هذا المقدار، وما يَعلم ما صُرف على يدي من بيوت الأموال
والخزائن والغلال للعرب خاصة إلا الله تعالى.
واعلم أن آل ربيعة قد انقسموا إلى ثلاثة أفخاذ هم المشهورون منهم، ومن
عداهم أتباع لهم وداخلون في عددهم، ولكل من الثلاثة أمير مختص به.
(الفخذ الأول: آل فضل) : وهو فضل بن ربيعة المقدم ذكره، وهم رأس
الكل وأعلاهم درجةً وأرفعهم مكانةً، قال في (مسالك الأبصار) : وديارهم من
حمص إلى قلعة جعبر إلى الرحبة، آخذين إلى شقي الفرات وأطراف العراق
حتى ينتهي حدهم قبلة بشرق إلى الوشم، آخذين يسارًا إلى البصرة، ولهم مياه
كثيرة، ومناهل مورودة:
ولها منهل على كل ماء
…
وعلى كل دمنة آثار
ثم نقل المؤلف بعد هذا نبذةً من (مسالك الأبصار) في تشعب بني فضل إلى
شعب كثيرة، وأن أفضل بيت من بيوتهم في عهد مؤلفه (آل عيسى) وفروعه،
وقوله فيهم: وهؤلاء آل عيسى في وقتنا هم ملوك البر فيما بعد واقترب، وسادات
الناس ولا تصلح إلا عليهم العرب.
قال المؤلف: وأما الإمرة عليهم فقد جرت العادة أن يكون لهم أمير كبير
منهم يولى من الأبواب السلطانية، ويكتب له تقليد شريف بذلك، ويلبس تشريفًا
أطلس أسوة النواب إن كان حاضرًا، أو مجهز إليه إن كان غائبًا، ويكون لكل
طائفة منهم كبير قائم مقام أميره عليهم، وتصدر إليه المكاتبات من الأبواب الشريفة
إلا أنه لا يكتب إليه تقليد ولا مرسوم. قال في (مسالك الأبصار) : ولم يصرح
لأحد منهم بإمرة على العرب بتقليد من السلطان إلا من أيام العادل أبي بكر أخي
السلطان (صلاح الدين يوسف بن أيوب) .
ثم ذكر بعض أمرائهم، وموالاة بعضهم للتتار، وشؤونهم مع سلاطين مصر.
وبعد انتهاء الكلام على الفخذ الأول من آل ربيعة، قال:
(الفخذ الثاني من آل ربيعة: آل مرا) ، نسبةً إلى مرا بن ربيعة.
وقال في (مسالك الأبصار) : ديارهم من الجيدور والجولان إلى الزرقاء
والخليل إلى بصرى، ومشرقًا إلى الحرة المعروفة بحرة كشت، قريبًا من مكة
المعظمة إلى شعباء إلى نيران مزريد إلى الهضب المعروف بهضب الراقي، طاب
لهم البر وامتد لهم المرعى أوان خصب الشتاء، فتوسعوا في الأرض، وأطالوا عدد
الأيام واليالي حتى تعود مكة المعظمة وراء ظهورهم، ويكاد سهيل يصير شامهم،
ويصيرون بوجوههم مستقبلين الشام، وقد تشعب آل مرا أيضًا شعبًا كثيرةً، وهم
آل أحمد بن حجي ، وفيهم الإمرة، وآل مسخر وآل نمي وآل بقرة وآل شماء.
وممن ينضاف إليهم ويدخل في إمرة أمرائهم: حارثة والخاص ولام وسعيدة
ومدلج وقرير وبنو صخر وزبيد حوران - وهم زبيد صَرخَد - وبنو غني، وبنو
عرقال، ويأتيهم من عرب البرية آل ظفير، والمفارجة، وآل سلطان، وآل غري،
وآل برجس، والحرسان، وآل المنيرة، وآل أبي فضيل، والزراق، وبنو حسين
الشرفاء، ومطين، وخثعم، وعدوان، وغزة. قال: وآل مرا أبطال مناجيد ورجال
صناديد وأفيال) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً ((الإسراء: 50) لا يعد منهم عنترة
العبسي ، ولا عرابة الأوسي، إلا أن الحظ يحظ بني عمهم (بأكثر) مما يحظهم، ولم
تزل بينهم نوب الحرب ولهم في أكثرها الغلب.
قال الشيخ شهاب الدين أبو التتار محمود الحلبي رحمه الله: كنت في نوبة
حمص في واقعة التتار جالسًا على سطح باب الإصطبل السلطاني بدمشق، إذ أقبل آل
مرا زهاء أربعة آلاف فارس شاكين في السلاح على الخيل المسومة والجياد المطهمة
وعليهم الكرغندات الحمر الأطلس المعدني والديباج الرومي، وعلى رءوسهم البيض،
مقلدين بالسياف، وبأيديهم الرماح كأنهم صقور على صقور، أمامهم العبيد تميل على
الركائب ويرقصون بتراقص المهارى، وبأيديهم الجائب التي إليها عيون الملوك
قمورًا، ووراءهم الظعائن والحمول، ومعهم مغنية لهم تعرف بالحضرمية طائرة
السمعة، سافرةً من الهودج وهي تغني:
وكنا حسبنا كل بيضاء شحمةً
…
ليالي لاقينا جذامًا وحِمْيرا
ولما لقينا عُصبة الغلبة
…
يقودون جردًا للمنية ضمرا
فلما فزعنا النبع بالنبع [1] بعضه
…
ببعض أبت عيدانه أن تكسرا
سقيناهم كأسًا سقونا بمثله [2]
…
ولكنهم كانوا على الموت أصبرا
وكان الأمر كذلك، فإن الكرة أولاً كانت على المسلمين، ثم كانت لهم الكرة
على التتار، فسبحان منطق الألسنة ومصرف الأقدار.
(الفخذ الثالث من آل ربيعة: آل علي) وهم فرقة من آل فضل
المقدم ذكرهم ينتسبون إلى علي بن حديثة بن عقبة بن فل بن ربيعة، قال في
(مسالك الأبصار) : وديارهم مرج دمشق وغوطتها، بين إخوتهم آل فضل وبني
عمهم آل مرا، ومنتهاهم إلى الحوف والجبابنة إلى السكة إلى البرادع. قال في
(التعريف) : وإنما نزلوا غوطة دمشق حيث صارت الإمرة إلى عيسى بن مهنا
وبقي جار الفرات في تلابيب التتار، قال في (مسالك الأبصار) : وهم آل بيت
عظيم الشأن، مشهور السادات، إلى أموال جمة ونعم ضخمة ومكانة في الدول
علية، وأما الإمرة عليهم فقد ذكر في (مسالك الأبصار) أنه كان أميرهم في
زمانه رملة بن جماز بن محمد بن أبي بكر بن علي بن حديثه بن عقبة بن فضل بن
ربيعة، ثم قال: وقد كان جده أميرًا ثم أبوه، قلد الملك الأشرف (خليل بن
قلاوون) جده محمد بن أبي بكر إمرة آل فضل، حين أمسك مُهنا بن عيسى، ثم
تقلدها من الملك الناصر أخيه أيضًا حين طرد مهنا وسائر إخوته وأهله. قال:
ولما أمر رملة كان حدث السن، فحسده أعمامه بنو محمد بن أبي بكر، وقدموا على
السلطان بتقادمهم، وتراموا على الأمراء وخواص السلطان وذوي الوظائف، فلم
يحضرهم السلطان إلى عنده ولا أدنى أحدًا منهم، فرجعوا بعد معاينة الحين
بخفي حنين، ثم لم يزالوا يتربصون به الدوائر وينصبون له الحبائل، والله تعالى
يقيه سيئات ما مكروا، حتى صار سيد قومه وفرقد دهره، والمسود في عشيرته،
المبيض لوجوه الأيام بسيرته، وله إخوة ميامين كبرًا، هم أمراء آل فضل وآل
مرّا، وقد ذكر القاضي تقي الدين ابن ناظر الجيش في (التثقيف) : أن الأمير
عليهم في زمانه في الدولة الظاهرية برقوق كان عيسى بن جماز اهـ المراد منه.
هذا تعريف وجيز بآل فضل وآل مرّا من عرب الشام، ثم ذكر القلقشندي في
الجزء الثاني عشر من صبح الأعشى في الكلام على من يولى عن الأبواب
السلطانية بمصر ممن هم خارج دمشق أمراء العربان، وأنهم طبقتان، الطبقة
الأولى من يكتب له منهم تقليد في قطع النصف (بالمجلس العالي) وهو أمير
آل فضل خاصةً سواء كان مستقلاًّ بالإمارة أو شريكًا لغيره فيها، وبعد أن ذكر
صورة تقليدين لهؤلاء -أعني أمراء آل فضل- ذكر أن الطبقة الثانية التي تلي
طبقتهم من عرب الشام هي التي يكتب لها بالإمرة مرسوم شريف لا تقليد، وأنهم
مرتبتان، المرتبة الأولى من يكتب له في قطع النصف، وهم ثلاثة:
(الأول) : أمير آل علي.
(والثاني) : التقدمة على عربي آل فضل وآل علي.
(والثالث) : أمير آل مراء، وذكرا نموذجًا مما يكتب لكل منهم.
وسننشر من ذلك ما فيه العبرة لمن يقابل أمثال هذا وذاك بما صارت إليه
عرب الشام وغيرهم من بعد استيلاء الترك على مصر والشام إلى هذه الأيام،
فقد كانت قبائل الأعراب قوةً عظيمةً للدول المصرية والشامية فأضعفتها الدولة
التركية، وما كان سبب ذلك إلا محافظة الترك على عجمتهم وتعصبهم لتركيتهم،
على ما كانت عليه من الفقر والعداوة، فإنه لم تدون لها المعاجم ويُبدأ بجعلها لغة
علم إلا في النصف الثاني من القرن الماضي (الثالث عشر للهجرة) بعد ضعف
الدولة ودبيب الانحلال فيها، ولو حافظت على العرب والعربية لما حل بها
وبالإسلام ما يبكيان منه في هذه الأيام، وسنبين ذلك بالجلاء التام.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المراد بالنبع القِسيّ وهو في الأصل شجر تتخذ منه.
(2)
الصواب (بمثلها) لأن الكأس مؤنثة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
معاهدة الصلح
(1)
وضع رؤساء وزراء الحلفاء مع الدكتور ولسن رئيس الولايات المتحدة
شروط صلح بينهم وبين الحكومة الألمانية في مجلد ضخم، ونشرت خلاصتها
شركة روتر في برقية وردت من لندن في 7 مايو، وهذه ترجمتها العربية:
هذه خلاصة رسمية لمعاهدة الصلح، وهي تتألف من مقدمة وصفية،
وديباجة وخمسة عشر فصلاً:
المقدمة الوصفية للخلاصة
إن نص معاهدة الصلح الذي سلم إلى الألمان الآن، يراد به أولاً: تبيان
الشروط التي بها وحدها يقبل الحلفاء والدول المشتركة معهم أن يعقدوا الصلح مع
ألمانيا ، وثانيًا: إيجاد التدابير الدولية التي ابتكرها الحلفاء لمنع وقوع الحروب في
المستقبل وتسوية أمور البشر، ولهذا السبب الأخير أدمج في المعاهدة عهد جمعية الأمم
والاتفاق الدولي الخاص بالعمل والعمال.
على أن المعاهدة لا تبحث إلا نادرًا في المشاكل الناشئة عن تصفية
الإمبراطورية النمسوية، ولا في أملاك الدولتين المعاديتين: التركية والبلغارية، إلا
في ما يقيد ألمانية بقبول التسويات المقبلة التي يستقر عليها قرار الحلفاء فيما يتعلق
بهاتين الدولتين.
وتقسم المعاهدة إلى 15 فصلاً، فالفصل الأول يحتوي على عهد جمعية الأمم
التي عينت لها وظائف في مواضع شتى من المعاهدة، والفصل الثاني يصف حدود
ألمانية الجغرافية ابتداءً من المنطقة الشمالية الشرقية من حدود البلجيك الحالية.
ويتألف الفصل الثالث من 12 مادة يشترط فيها على الألمان قبول التغيير
السياسي الذي تقضي به المعاهدة في أوربا، وهذا الفصل يقضي بإنشاء دولتين
جديدتين: دولة التشك والسلوفاك، ودولة بولندة. وينص على الاعتراف بهما،
وينقِّح قاعدة سيادة البلجيك ويغير حدودها، وينص على إنشاء أنظمة جديدة من الحكم
في لكسمبرج ووادي السار، ويرد الإلزاس واللورين إلى فرنسة، ويقضي باحتمال
إضافة أملاك إلى الدنمرك، ويجبر ألمانية على الاعتراف باستقلال النمسة
الجرمانية ، وقبول الشروط التي توضع للدول والحكومات التي نشأت منذ الثورة
الروسية.
ويبحث الفصل الرابع في التعديل السياسي للبلدان الواقعة في خارج أوربة ،
والتي تأثر مركزها بالحرب، وفيه تنازل عام في ألمانية عن أملاكها وحقوقها في
الخارج، وأن تسلم إلى الحلفاء مستعمراتها والحقوق التي اكتسبتها في أفريقية
بالاتفاقات الدولية المختلفة، ولا سيما عقد برلين سنة 1885، وعقد بروكسل سنة
1895 التي عينت نصيب كل من الدول الأوربية في قلب أفريقية، ويتضمن هذا
الفصل اعتراف الدول بالحماية البريطانية على القطر المصري، وينقض عقد
الجزيرة الذي كان خطوةً من خطوات سياسة الاعتداء الألمانية التي أوصلت إلى
الحرب.
ويتضمن الفصل الخامس شروط الصلح العسكرية البرية والبحرية
والجوية، وتحديد جيش ألمانية وأسطولها، ويقضي بإلغاء التجنيد الإجباري في
ألمانية توطئةً لجعل هذا الإلغاء عامًّا.
وينص الفصل السادس على أنه يجب على جميع الدول الموقعة للمعاهدة أن
تصون قبور قتلى الحرب، ويتضمن بيان كيفية إعادة أسرى الحرب إلى أوطانهم.
والفصل السابع خاص بأمور التبعة والعقاب، وهو ينص على محاكمة
الإمبراطور ولهلم.
وفي الفصل الثامن بيان كيفية التعويض المطلوب من ألمانية، وفيه نصوص
خصوصية عن الأوراق، ومفاخر الحرب التي أخذها الألمان في الحروب السابقة.
ويتضمن الفصل التاسع المواد المالية، وهي تختص بتنفيذ ما اشترط في
الفصل السابق.
والفصل العاشر طويل جدًّا كثير الوجوه، وهو يحتوي على النصوص
الاقتصادية ويؤيد المعاهدات والاتفاقات الدولية المختلفة التي ليست بذات صبغة
سياسية كالمعاهدات الخاصة بالبوستة والتلغراف والقوانين الصحية، وبالإجمال
جميع الاتفاقات التي تقيدت بها الدول المتمدنة قبل الحرب، وقد أضيف إلى هذا
الفصل نصوص خاصة للتحكم في تجارة الأفيون والعقاقير التي تماثله.
وأما الفصل الحادي عشر فخاص بالملاحة الجوية.
وفي الفصل الثاني عشر مواد تبحث في المراقبة الدولية على الموانئ،
والترع والأنهار وسكك الحديد، وفيه نصوص خاصة على قنال كيال.
والفصل الثالث عشر يتضمن الاتفاق الدولي الخاص بالعمل والعمال.
وأما الفصل الرابع عشر فيحتوي على الضمانات اللازمة لتنفيذ المعاهدة.
والفصل الخامس عشر عبارة عن مجموعات من المواد المختلفة، منها
الاعتراف بما يعقد بعد هذه المعاهدة من معاهدات الصلح، وتأييد أحكام محاكم
الغنائم.
والمواد الأخيرة تبحث في إبرام المعاهدة وموعد الشروع في تنفيذها، وقد
جاء فيها أن النص الفرنسوي والنص الإنكليزي للمعاهدة يعدان رسميين يعول
عليهما.
ديباجة المعاهدة
في الديباجة بيان وجيز لأصل الحرب، وطلب ألمانية للهدنة، ويلي ذلك أسماء
الدول الموقعة للمعاهدة، والتي تمثلها الدول الخمس العظمى، أي: ولايات أميركا
المتحدة والإمبراطورية البريطانية وفرنسة وإيطالية واليابان ومعها البلجيك وبوليفية
والبرازيل والصين وكوبا وإكوادور واليونان وغواتيمالا وهايتي والحجاز وهندوراس
وليبريا ونكارغوى وبناما وبيرو وبولندا والبورتغال ورومانية وسربية وسيام والتشك
سلوفاكيا وإرغواي من إحدى الجهتين وألمانية من الجهة الأخرى.
ويلي ذلك أسماء المندوبين عن هذه الدول، وبعدها هذه العبارة: (وبعد ما
تبادل هؤلاء المندوبون أوراق اعتمادهم المعلمة لسلطتهم، ووجدت هذه الأوراق
وافيةً اتفقوا على ما يأتي:
تنتهي الحرب في الساعة التي يبدأ فيها بتنفيذ هذه المعاهدة، وتستأنف
العلاقات النهائية بحسب أحكام هذه المعاهدة مع ألمانيا، ومع كل دولة من دولها من
جانب الحلفاء والدول المشتركة معهم) .
الفصل الأول
في جمعية الأمم [1]
العضوية: يكون أعضاء الجمعية من الدول الموقعة لهذا العهد، وسائر الدول
التي تدعى إلى الانضمام إليه، وعلى هذه الدول أن ترسل طلب انضمامها من
غير قيد ولا شرط في خلال شهرين، ويجوز قبول أي دولة أو مستعمرة مستقلة،
أو كانت مستعمرة إذا وافق على قبولها ثلث أعضاء هيئة الجمعية، ويجوز لأية
دولة كانت أن تنسحب من الجمعية إذا أعلنت عزمها على ذلك قبل الانسحاب
بسنتين، وكانت قد قامت بجميع عهودها الدولية.
كتابة السر: تنشأ هيئة دائمة لكتابة سر (سكرتارية) الجمعية في مركزها
الذي سيكون مدينة جنيف.
هيئة الجمعية: تتألف هيئة الجمعية من مندوبي أعضاء الجمعية، وتجتمع
هذه الهيئة في مواعيد معينة، ويكون الاقتراع بالدول (أي: لا بعدد المندوبين)
ولكل دولة من أعضاء الجمعية صوت واحد، ولا يجوز أن يتجاوز عدد مندوبيها
ثلاثةً.
مجلس الجمعية: يتألف مجلس الجمعية من مندوبي الدول الخمس العظمى
(إنكلترة وفرنسة وإيطالية والولايات المتحدة الأمريكية واليابان) مع مندوبي أربع
دول أخرى من الدول الداخلة في الجمعية، وتختارهم هيئة الجمعية من وقت إلى
وقت. ويجوز للمجلس أن يُشرك دولاً أخرى معه بالانتخاب، ويجتمع مرةً واحدةً
في السنة على الأقل، وأما الدول الداخلة في الجمعية والتي ليس لها مندوبون في
المجلس، فتُدعى إلى إرسال مندوب عنها متى بحث المجلس في أمور تهم مصالحها،
ويكون الاقتراع في هذا المجلس بالدول، ولكل دولة صوت واحد ومندوب واحد،
ويجب أن تكون قرارات الهيئة والمجلس بالإجماع إلا فيما يختص بطرق العمل
والتنفيذ، وبعض أمور أخرى نص عليها في عهد الجمعية وفي معاهدة الصلح،
ففي هذه تكون القرارات بالأكثرية.
التسليح: يصوغ المجلس الخطط الخاصة باتفاق السلاح؛ لتوضع موضع
البحث والنظر والقبول، وتنقح هذه الخطط مرةً كل عشر سنوات، ومتى تم
الاتفاق عليها لا يجوز لدولة تكون عضوًا في الجمعية أن تتجاوز قدر السلاح المعين
لها من غير موافقة المجلس، ويتبادل الأعضاء المعلومات الوافية عن السلاح
والتسلح والبيانات العسكرية، وتكون للمجلس لجنة دائمة تمده بالمشورة في الأمور
العسكرية البرية، والبحرية.
منع وقوع الحرب: إذا وقعت حرب أو بما خطر من وقوع حرب، فالمجلس
يجتمع للبحث في ما يجب اتخاذه من العمل المشترك، ويتعهد أعضاء جمعية الأمم
بأن يعرضوا مسائل النزاع بينهم للتحكيم أو التحقيق، وأن لا يلجئوا إلى الحرب إلا
بعد صدور الحكم بثلاثة أشهر، ثم إن الأعضاء متفقون على تنفيذ حكم التحكيم،
وعلى عدم محاربة الخصم الذي يذعن له من الفريقين المتنازعين، فإذا أبى أحد
الأعضاء (الدول) تنفيذ الحكم، فالمجلس يعرض التدابير التي يلزم اتخاذها.
ويضع المجلس الخطط لإنشاء محكمة دولية، والمحكمة تحكم في المنازعات
بين الدول وتقدم المشورة، فالأعضاء (الدول) الذين لا يريدون عرض قضاياهم
على التحكيم يجب أن يقبلوا حكم المجلس أو الهيئة، فإذا اتفق أعضاء المجلس -
ما عدا مندوبي الفريقين المتنازعين - اتفاقًا إجماعيًّا على حقوق أحد الفريقين،
فالأعضاء (الدول) يسلمون بأنهم لا يحاربون الفريق المنازع الذي يذعن لما يشير
المجلس به، وفي هذه الحالة يكون لمشورة الهيئة باتفاق جميع أعضائها (الدول)
الممثلين في المجلس، وبأكثرية بسيطة من الباقين (أي: من الدول الصغرى
التي لها 4 مندوبين في المجلس) - ما عدا الفريقين المتنازعين - قوة القرار
الإجماعي من المجلس، وفي كلتا الحالتين إذا لم يتيسر الوصول إلى الاتفاق
المطلوب فالأعضاء يحفظون لأنفسهم الحق في فعل ما يرونه لازمًا لصون الحق
والعدل.
والأعضاء (الدول) الذي يلجأون إلى الحرب غير مكترثين للعهد، يحرمون
كل اتصال وعلاقة بسائر الأعضاء (الدول) وفي هذه الأحوال يبحث المجلس
في الأعمال العسكرية البرية والبحرية التي يمكن للجمعية أن تعملها لحماية العهد،
ويقدم التسهيلات للأعضاء (الدول) التي تعاون في هذه المهمة.
صحة المعاهدات: جميع المعاهدات أو العهود الدولية التي تبرم بعد إنشاء
جمعية الأمم يجب أن تسجل في كتابة السر (السكرتارية) وتنشر، ويجوز لهيئة
الجمعية أن تشير على أعضائها (دولها) من حين إلى حين بإعادة النظر في
المعاهدات التي لم تعد صالحةً للعمل، أو التي يكون في تطبيقها خطر على السلام،
والعهد يقضي بنقض جميع المعاهدات التي تعقد بين الدول الموقعة له، والتي
تناقض نصوصه، ولكن ليس في العهد ما يمس صحة المعاهدات الدولية،
كمعاهدات التحكيم أو الاتفاقات المحلية، كمذهب (منرو) لأجل صون السلام
وتوطيد أركانه.
نظام التوكيل: إن الوصاية على الشعوب التي لا تستطيع حتى الآن الوقوف وحدها
يعهد فيها إلى الأمم الراقية التي هي أصلح من سواها للقيام بشؤون هذه الوصاية،
والعهد يعترف بثلاث درجات من الارتقاء تقتضي أنواعًا مختلفةً من التوكيل وهي:
(ا) : الشعوب التي من قبيل شعوب السلطنة التركية، وهي التي يمكن أن
يعترف باستقلالها مؤقتًا بشرط أن تستمد المشورة والمساعدة من دولة موكلة يسمح
لتلك الشعوب بأن يكون لها صوت في اختيارها [2] .
(ب) : الشعوب التي هي من قبيل أهل أفريقية الوسطى، وهذه تدار
أمورها بواسطة دول موكلة بشروط يوافق عليها أعضاء جمعية الأمم بالإجمال، وفي
بلاد هذه الشعوب يتساوى جميع أعضاء الجمعية في التجارة، ويحظر فيها بعض
المساوئ، كالنخاسة وبيع السلاح والمسكرات، ويمنع إنشاء القواعد العسكرية البرية
والبحرية والخدمة العسكرية الإجبارية.
(ج) : الشعوب الأخرى التي من قبيل سكان القسم الجنوبي الغربي من
أفريقية وجزائر الباسفيك الجنوبي، فهذه تدار أمورها أحسن إدارة بقوانين الدول التي
توكل بها كما لو كانت أجزاءً من أملاك تلك الدول غير قابلة للانفصال عنها، وفي
جميع الأحوال المتقدمة يتعين على الدول الموكلة أن تقدم تقريرًا سنويًّا، والجمعية
تعين لها درجة سلطتها.
نصوص دولية عامة: تهتم الدول أعضاء الجمعية بالإجمال، وتسعى
بواسطة جمعية دولية يؤلفها مؤتمر العمال للمحافظة على شروط الإنصاف مع
العمال من الرجال والنساء والأولاد، في بلدانهم وسائر البلدان، وتتعهد أيضًا
بأن تعدل مع معاملة الأهالي الوطنيين في البلاد التي تحت سيادتها، وكل ذلك طبقًا
لنصوص الاتفاقات الدولية الموجودة أو التي يتفق عليها فيما بعد، وهذه الدول
تعطي الجمعية حق المراقبة العامة على تنفيذ الاتفاقات الخاصة بمنع الاتجار بالنساء
والأولاد، أو تشغيلهم إلخ، ومراقبة تجارة السلاح والذخيرة في البلاد التي
يجب فيها هذه المراقبة، ثم إن هذه الدول تتخذ ما يلزم من التدابير لحرية
المواصلات والنقل والمساواة في معاملة متاجر جميع أعضاء الجمعية مع
المراعاة الخاصة لحاجات البلاد التي خربت في أثناء الحرب، وتسعى لاتخاذ
التدابير والاحتياطات اللازمة لمنع انتشار الأمراض ومراقبتها بالاتحاد الدولي،
وجميع المكاتب واللجان الدولية الموجودة الآن توضع تحت تصرف جمعية الأمم،
وكذلك اللجان والمكاتب التي تنشأ في المستقبل.
تعديل العهد وتنقيحه: ينفذ كل تعديل يعدل به العهد متى وافق عليه المجلس
وأكثر المندوبين في هيئة الجمعية.
الفصل الثاني
في حدود ألمانية
وصفت حدود ألمانيا في مادتين، إحداهما خاصة بألمانية نفسها، والأخرى
بروسية الشرقية ، وقد وصفت الحدود بين دولة بولندة الجديدة وألمانية، وبين
بولندة وبروسية الشرقية، والحد الجديد بين بروسية الشرقية ولتوانية وصفًا مفصلاً
في كل ما لم يترك الحكم النهائي فيه للجان التحديد التي أرسلت إلى هناك، أما الحد
الفاصل بين ألمانية والبلجيك فيتبع خطًّا وُصف في فصل آخر عن البلجيك، وأما
الحد الفاصل بين ألمانية ولكسمبرج، وبين ألمانية وسويسرة فهو عين الحد الذي
كان في أغسطس سنة 1914، وأما الحد الفاصل بين ألمانية وفرنسة فهو الحد الذي
كان بينهما في 18 يوليو 1870 مع قيد خاص بوادي السار، والحد الذي يفصل
بين ألمانية والنمسة هو الحد الذي كان بينهما في أغسطس 1914 إلى الموضع
الذي تبدأ منه دولة التشك والسلوفاك الجديدة، ويسير حد هذه الدولة الجديدة على
الحد القديم بين ألمانية والنمسة إلى حيث تبدأ بلاد دولة بولندة الجديدة، وأما التخوم
بين ألمانية والدانمرك وجزء من التخوم بين روسية الشرقية وبولندة، فهذه يحكم
فيها في ما بعد بحسب نتيجة الاستفتاء في الحالين.
الفصل الثالث
في المواد السياسية في أوربة
البلجيك: تقبل ألمانية نقض معاهدة سنة 1839 التي قضت بأن تكون البلجيك
محايدةً، وعينت حدودها إلخ، وتوافق سلفًا على أي عهد يتفق الحلفاء على استبداله
بها، وعلى ألمانية أن تعترف بسيادة (ملكية) البلجيك التامة على بلاد
(مورصناه) المختلف عليها، وجزء من بلاد مورصناه البروسية، وأن تتنازل
البلجيك عن جميع حقوقها على (أوبن وتمليدي) وإنما يحق لسكانهما أن يحتجوا
بعد ستة أشهر [3] على هذا التغيير كله أو بعضه، ويكون الحكم النهائي في المسألة
لجمعية الأمم، ويعهد في تسوية تفاصيل الحدود إلى لجنة.
ويتضمن هذا الفصل قوانين شتى عن تغيير الأفراد لرعويتهم، وتكون البلاد
التي تأخذها البلجيك خالصةً من جميع الديون والأعباء.
لكسمبرج: تتنازل ألمانية عن معاهداتها واتفاقاتها المختلفة مع (غرندوقية
لكسمبرج) وتعترف بأنها لم تعد داخلةً في النظام الجمركي الألماني ابتداءً من أول
يناير الماضي، وتتنازل عن كل حقوقها في استغلال سكك الحديد فيها، وتسلم
بإلغاء حيادها، وتقبل سلفًا الاتفاقات الدولية التي يبرمها بشأنها الحلفاء والدول
المشتركة معهم.
ضفة (الرين) اليسرى: يجب على ألمانيا - طبقًا لما نص عليه في الفصل
العسكري التالي - أن لا تُبقي حصونًا ولا معاقل (استحكامات) في مواضع تبعد
عن ضفة نهر الرين الشرقية أكثر من خمسين كيلوا مترًا، ولا تنشئ في تلك
المواضع معاقل جديدة، ولا يجوز لها أن تبقي في الشقة المذكورة قوات مسلحةً
دائمةً أو وقتية، ولا تجري مناورات عسكريةً، ولا تكون لها مبان أو معامل
تسهل تعبئة الجيش، فإذا خرقت نصوص هذه المادة عدت مرتكبةً عملاً عدائيًّا ضد
الدول الموقعة لهذه المعاهدة، واعتبر ذلك منها عزمًا على تكدير صفاء السلم في
العالم، وعليها بحكم هذه المعاهدة أن تلبي كل استيضاح يرسله إليها مجلس جمعية
الأمم.
السار: تتنازل ألمانية لفرنسة عن الملكية التامة لمناجم الفحم في حوض السار
مع كل ما يتبع هذه المناجم من الأدوات والمهمات والوسائل، ويعد هذا تعويضًا
لفرنسة عن مناجم الفحم التي خربها الألمان في شمال بلادها، وجزءًا من الأموال
التي يتعين على ألمانية دفعها على حساب التعويض، وتقدر قيمة هذه المناجم لجنة
التعويض، وتقيد لألمانية في الحساب، وتكون الحقوق الفرنسوية في هذا الحوض
خاضعةً للقوانين الألمانية التي كانت نافذةً عند عقد الهدنة إلا فيما يختص بالتشريع
الحربي، وتحل فرنسة محل أصحاب المناجم الحاليين، وهؤلاء يأخذون العوض
من ألمانية، وتقدم فرنسة المقادير اللازمة من الفحم لسد الحاجات المحلية،
وتدفع نصيبها الحق من الرسوم والضرائب المحلية، ويمتد هذا الحوض من حدود
اللورين كما أعيدت إلى فرنسة ويسير شمالاً إلى (سان فندل) فيشمل من الغرب
وادي السار إلى (سارهولز) ومن الشرق مدينة (هومبرج) لكي تضمن للأهالي
حقوقهم ورفاهيتهم. ولفرنسة الحرية التامة في استغلال المناجم وتتولى حكم الحوض
المذكور لجنة تعينها جمعية الأمم، وتتألف من خمسة أعضاء، أحدهم فرنسوي والآخر
من أهل السار، والثلاثة الباقون ينوبون عن ثلاث بلدان مختلفة غير فرنسة،
وألمانية، وتعين جمعية الأمم أحد أعضاء اللجنة رئيسًا لها، ويكون صاحب السلطة
التنفيذية فيها، وتكون لهذه اللجنة جميع سلطات الحكم الذاتي التي كانت قبلاً
للإمبراطورية الألمانية وبروسية وبلغارية، وتدير سكك الحديد وسواها من المصالح
العمومية، ويكون لها السلطة التامة في تغيير مواد المعاهدة. وتستمر المحاكم
المحلية، ولكنها تكون خاضعةً للجنة، وتظل الشرائع الألمانية الحالية قاعدةً
للقانون، ولكن يجوز للجنة أن تعدلها بعد استشارة مجلس نيابي محلي تؤلفه، وتكون
للَّجنة سلطة فرض الرسوم للأغراض المحلية فقط، ويجب الحصول على
موافقة هذا المجلس المحلي على فرض رسوم جديدة.
وفي كل قانون يسن للعمل والعمال، تُراعى مشيئة جمعية العمال المحلية،
وبيان جمعية الأمم الخاص بالعمال، ويجوز استخدام العمال الفرنسويين وسواهم
بلا قيد ما، ويجوز أن يكون العمال الفرنسيون الذين يستخدمون في العمل تابعين
لنقابات العمال الفرنسية، ولا يكون في بلاد السار خدمةً عسكريةً، وإنما تؤلف فيها
شرطة محلية لحفظ النظام، ويحفظ الأهالي ما لهم من المجالس المحلية وحرية
الأديان والمدارس واللغة، ولكن لا يقترعون إلا للمجالس المحلية، وتبقى لهم
جنسيتهم الحالية إلا حيث يريد الأفراد منهم تغييرها.
والأهالي الذين يرغبون في مغادرة بلاد السار يمنحون كل تسهيل في ما
يختص بأملاكهم، وتكون البلاد داخلةً في النظام الجمركي الفرنسي، ولا تجبى
ضريبة على ما يصدر من فحمها ومعادنها إلى ألمانية، ولا على المحاصيل
والمواد الألمانية التي يؤتي بها إلى الوادي، ولا تجبى رسوم الواردات على ما
يرسل من السار إلى ألمانية، ولا على ما يأتي من ألمانية إلى السار للمقطوعية
المحلية، وذلك لمدة خمس سنوات، ويجوز تداول النقود الفرنسية بلا قيد ولا
تحديد.
وبعد انقضاء خمس عشرة سنةً تستفتى قوى البلاد للوقوف على رغبة أهلها
وهل يفضلون استمرار النظام المنصوص عليه هنا تحت حماية جمعية الأمم، أو
يريدون الانضمام إلى فرنسة، أو الانضمام إلى ألمانية، ويكون الاقتراع حقًّا لجميع
من كان من السكان فوق العشرين من العمر إذا كانوا مقيمين في البلاد عند إمضاء
هذه المعاهدة، ومتى أفتى أهل البلاد وظهر رأيهم، فجمعية الأمم تحكم في
تابعيتها، فإذا أعيد قسم منها إلى ألمانية وجب على الحكومة الألمانية أن تشتري
المناجم الفرنسوية فيه بثمن يقدره الخبيرون، فإذا لم يدفع الثمن بعد ذلك بستة أشهر
فإن هذا القسم يصير ملكًا لفرنسة، وإذا ابتاعت ألمانية المناجم فجمعية الأمم
تعين مقدار الفحم الذي يرسل منها إلى فرنسة.
الإلزاس واللورين: بعدما تعترف ألمانية بالواجب الأدبي المفروض عليها،
وهو تلافي الضرر الذي ألحقته سنة 1871 بفرنسة وشعب الإلزاس واللورين، فإن
الأملاك التي أعطيت لألمانية بموجب معاهدة فرنكفورت ترد إلى فرنسة الآن،
وتكون حدودها كما كانت قبل سنة 1871، ويعتبر تاريخ ذلك من يوم توقيع الهدنة
وتكون هذه البلاد المردودة خالصةً من الديون العمومية، أما الرعوية فيها فتنظم
بنصوص مفصلة يميز فيها بين الذين يعادون حالاً إلى الرعوية الفرنسية الكاملة،
والذين يجب عليهم أن يطلبوا هذه الرعوية رسميًّا، والذين يفتح لهم باب التجنس
بالجنسية الفرنسية بعد ثلاث سنوات، والفريق الأخير يشمل السكان الألمان في
الإلزاس واللورين تمييزًا لهم عن الذين ينالون حقوق أهل البلاد كما عينت في
المعاهدة، وتنتقل ملكية جميع الحكومة، وأملاك عواهل (أمبراطرة) ألمانية
السابقين في الإلزاس واللورين إلى فرنسة من غير أن تدفع ثمنها، وتحل فرنسة
محل ألمانية في ملكيتها سكك الحديد والحقوق التي لها على امتيازات الترمواي،
وتنتقل ملكية كباري الرين إلى فرنسة، وعليها أن تعنى بصونها، وتظل
مصنوعات الإلزاس واللورين تدخل ألمانية من غير أن تدفع رسومًا لمدة خمس
سنوات بحيث لا يتجاوز المجموع السنوي مما يدخل منها كذلك المتوسط السنوي
في السنوات الثلاث السابقة للحرب، ويجوز استيراد مواد النسج من ألمانية إلى
الألزاس واللورين، وإعادة إصدارها معفاةً من الرسوم، وتجب المحافظة على
العقود الخاصة بالتيار الكهربائي من الضفة اليمنى للرين عشر سنوات، وتكون
إدارة مينائي (كال وستراسبرج) لمدة سبع سنوات ويجوز مدها إلى عشر
سنوات - في يد مدير فرنسي تعينه لجنة الرين المركزية وتراقب أعماله.
وتضمن حقوق الملكية في الميناءين، والمساواة في المعاملة في كل ما يتعلق
بالنقل لسفن الأمم وبضائعها، وتبقى العقود المبرمة بين أهل الألزاس واللورين
والألمان مرعيةً، إلا أن لفرنسة حقًّا في نقضها بحجة المصلحة العامة، وتبقى أحكام
المحاكم نافذةً في بعض القضايا، أما في غيرها فلا بد من مرجع قضائي يعيد النظر
فيها، وأحكام العقوبات السياسية التي صدرت في أثناء الحرب تعد ملغاةً، ويفرض
حق تسديد غرامات الحرب، كما هي الحالة في سائر بلدان الحلفاء.
وفي هذا الباب نصوص عامة في المعاهدة تتعلق بأحوال الألزاس واللورين
الخصوصية، وقد تركت بعض أمور التنفيذ إلى اتفاقات تعقد بين فرنسة وألمانية.
النمسة الجرمانية: تعترف ألمانية بالاستقلال التام للنمسة الجرمانية بلاد
التشك والسلوفاك - تعترف ألمانيا بالاستقلال التام لدولة التشك والسلوفاك وهذا
يشمل بلاد (الروذينيين) المستقلين جنوبي جبال كرباتية، وتقبل أن تكون حدود
هذه الدولة كما ستعين، أما الحدود التي تفصلها عن ألمانية فتتبع حد بوهيميا القديم
كما كان سنة 1914 ، ويلي ذلك الشروط المعتادة الخاصة بنيل الرعوية وتغييرها.
بولندة: تتنازل ألمانية لبولندة عن الجانب الأكبر من (سيابزيا) العليا
و (بوزن) وولاية (بروسية) الغربية على الضفة اليسرى من نهر الفستولا ،
وبعد عقد الصلح بخمسة عشر يومًا تؤلف لجنة تحديد من سبعة أعضاء: خمسة
منهم ينوبون عن دول الحلفاء، والدول المشتركة معهم، وواحد لبولندة، وواحد
عن ألمانية؛ لتعيين الحدود، والنصوص الخصوصية اللازمة لحماية الأقليات
القومية أو الدينية توضع في معاهدة تالية تبرم بين الحلفاء وبولندة.
(المنار)
حذفنا من هنا حدود بروسية الشرقية ودنتزج والدنمرك.
هليجرلند: تدمر الاستحكامات والمباني العسكرية والموانئ في جزيرتي
(هليجرلند) وفي الكثيب، ويكون هدمها تحت مراقبة الحلفاء بواسطة عمال ألمان
وعلى نفقة ألمانية، ولا يجوز أن يعاد بناؤها، ولا يسمح بإنشاء استحكامات أو
مبانٍ أخرى مماثلة لها في المستقبل.
روسية: تعترف ألمانيا بالاستقلال التام لجميع البلدان التي كانت جزءًا من
إمبراطورية روسية السابقة، وتحترم هذا الاستقلال، وتقبل ألمانية نهائيًّا إلغاء
معاهدة برست لتوفسك ، وجميع المعاهدات والاتفاقات المختلفة التي أبرمتها
ألمانية منذ الثورة في نوفمبر 1917 مع جميع الحكومات أو الجماعات السياسية
في بلاد إمبراطورية روسية السابقة، ويحفظ الحلفاء لأنفسهم بالنيابة عن روسية
حق التعويض والترضي اللذين يطلبان من ألمانية عملاً بمبادئ المعاهدة الحالية.
(لها بقية)
(المنار)
في أوائل هذا الشهر وصل مندوبو الألمان للنظر في شروط الصلح في
باريس ، وعددهم مع المساعدين والمترجمين مائة وخمسون نسمةً، واجتمعوا
بمندوبي الحلفاء بقصر (فرسايل) في 4 من الشهر، وفي 7 منه عقد الاجتماع
الرسمي الأول لمؤتمر الصلح فافتتحه الرئيس (كلمنصو) بخطبة وجيزة ذكر فيها
أن دول الحلفاء أُكرهت على الحرب، وأن ساعة الحساب الرهيبة دنت، قال: وهذه
شروط الصلح أقدمها لمندوبي الألمان، فإذا كان لهم اعتراض عليها فليقدموه مكتوبًا
في مدة خمسة عشر يومًا فقط، وناول كاتب سر المؤتمر كتاب معاهدة الصلح -
وهو مجلد ضخم فيه أكثر من ألف مادة - للكونت (بروخدورف هنتز) رئيس
مندوبي الألمان فتناوله وخطب خطبةً معتدلةً وهو قاعد، ثم ترجمت خطبته بالفرنسية
والإنكليزية، وأهم ما ذكره فيها الاعتراف بفشلهم في الحرب، أو خسارتهم لها، وبأن
تبعة الحرب ليست عليهم وحدهم، وأنه مستعد للاعتراف بما ارتكبته دولته في
الحرب، ويعيد ما قاله في مجلس النواب سنة 1914 في شأن الاعتداء على البلجيك،
وأن الألمان مستعدون للتعويض، ونوه برضاء الجميع ببناء شروط الصلح على
قواعد الرئيس (ولسون) ووجوب انضمام ألمانية وجميع الدول إلى جمعية الأمم،
وبأنهم سيفحصون شروط الصلح بحسن النية.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
اختار بعض المترجمين كلمة (عصبة الأمم) على جمعية الأمم وهو أصح، ولكننا اعتمدنا في ترجمة المعاهدة وخطب ولسن السابقة على من اعتبزها جمعية.
(2)
عبارة المقطم: الشعوب التي هي تابعة للسلطنة التركية والتي يُعترف باستقلالها إلخ، وعبارة الأهرام: الشعوب التي تماثل شعوب السلطنة التركية والتي يمكن الاعتراف مؤقتًا باستقلالها تكون تحت إرشاد ومساعدة الدول المنتدبة التي يجب أن يكون لهذه الشعوب صوت في انتخابها.
(3)
ترجمه بعضهم (قبل مضي ستة أشهر) .
الكاتب: أحمد نبهان الحمصي
ترجمة
السيد عبد الحميد ابن السيد محمد شاكر
ابن السيد إبراهيم الزهراوي [1]
وُلد هذا الفقيد - رحمه الله تعالى - سنة ألف ومائتين وثمانٍ وثمانين للهجرة
الشريفة بمدينة حمص من أسرة كريمة، ينتهي نسبها إلى الإمام الحسين ابن السيدة
الطاهرة البتول فاطمة الزهراء رضي الله عنها ولما أتم السادسة من عمره
وضعه والده في المكتب فتعلم القراءة والكتابة والحساب واللغة التركية على يد شيخه
الشيخ مصطفى الترك، ثم نقله والده إلى المكتب الرشدي بحمص، فأتقن وبرع في
دروسه حتى أتمها، ففاق أقرانه وتقدم رفاقه وأترابه، وكان في خلال تحصيله موضع
الإعجاب بتؤدته وترويه وحسن خلقه وتحصيله، وبعد إكمال دروسه خرج من
المكتب المُومَى إليه حاملاً شهادة التحصيل، وعكف دائبًا على تحصيل العلوم
بأنواعها، فقرأ فنون العربية بأقسامها على بعض شيوخ بلده، والفقه الحنفي على
أستاذه الشيخ حسن الخوجة، والحديث والتفسير والعقائد على محدث زمانه الشيخ
عبد الساتر أفندي الأتاسبي ، ومنه أخذ الإجازة بقراءة الحديث وروايته، وقرأ
الأصول والكلام والمعقول على الشيخ عبد الباقي الأفغاني نزيل حمص المتوفى فيها،
وكان رحمه الله تعالى يجهد نفسه على التحصيل ومطالعة الكتب المطولة في كل فن
حتى بلغ شأوًا قصر عنه أقرانه.
بعد أن أتم دروسه على أساتذته كما تقدم سافر إلى الآستانة سنة 1308 بقصد
السياحة، فأقام فيها برهةً وجيزةً، ثم سافر منها إلى مصر محط رحال العلماء،
فحل نزيلاً في دار نقيب الأشراف وقتئذ السيد توفيق البكري، وهناك اجتمع بكثير
من الفضلاء والأدباء، وجرت بينه وبينهم مطارحات شعرية على البداهة فكان
محل إعجاب الجميع، ثم رجع إلى وطنه حمص عن طريق بيروت فالشام.
بعد مكثه في بلده بضعة شهور أصدر جريدةً سماها (المنير) كان ينشر في
كل عدد منها مقالات في الإمامة وشروطها، وينتقد أعمال الحكومة الجائرة منبهًا
لها على سوء العاقبة إن دام هذا الجور والعسف [2] ، وكان يطبعها على مادة
غروية على حسابه ويرسلها مجانًا إلى البلدان بواسطة البريد، لذلك اتصلت
أبحاثها بمسامع الحكومة، فكانت تصدر التلغرافات الرمزية إلى المراكز بمنع هذه
الجريدة كغيرها مما ينبه الأذهان وينشط الكسلان حسب العادة المألوفة في ذاك
الزمان.
وفي سنة 1313 سافر ثانية إلى الآستانة بقصد التجارة، فاتخذ مخزنًا هناك
في محل يسمى (سلطان أوطه لر) ولما كان مخلوقًا للعلم والحكمة والإصلاح لا
للتجارة، ثقلت عليه أعمال التجارة فتركها وعكف على مطالعة الفنون والعلوم في دور
الكتب العمومية، وقلما خلت منها واحدة من مراجعته لأكثر كتبها.
في غضون تلك الأيام طلبه صاحب جريدة (المعلومات) طاهر بك؛ ليكون
محررًا لجريدته (المعلومات العربية) فباشر العمل بكل همة ونشاط، فكان يكتب فيها
المقالات الأدبية والإصلاحية التي لم يكن يتجرأ أحد في البلاد العثمانية على نشر مثلها
مع شدة المراقبة على الجرائد في ذلك الحين [3] ، ثم أخذ تحت المراقبة من قِبل
السلطان عبد الحميد؛ لأنه زار سفارة إنكلترة هو وإسماعيل كمال بك الألباني الشهير
مع آخرين مظهرين ارتياحهم لانتصاره على البوير، فساء السلطان أن ألف وفد
سياسي في الآستانة لعمل نفذه ولم يعلم هو به إلا بعد وقوعه، ثم عين إسماعيل كمال
واليًا لطرابلس الغرب بقصد إبعاده عن الآستانة إلى حيث لا يستطيع عملاً سياسيًّا،
بل حيث يسهل الانتقام منه، فلم يقبل، فاسترضته الحكومة حينئذ فلم ينخدع، فلما
أعيتهم الحيل فيه صرفوا النظر عنه، وعُين المترجَم في ذلك الوقت قاضيًا لأحد
الألوية فلم يقبل أيضًا، وكان القصد من هذا التعيين كالأول خشية أن تسري كهربائية
أفكاره المتنورة إلى غيره.
وبعد أن أوقف تحت المراقبة أربعة أشهر، أرسل إلى دمشق الشام (مأمور
إقامة) تحت المراقبة براتب خمسمائة قرش كل شهر.
وفي خلال إقامته بدمشق كتب رسالةً في الإمامة، بين شروطها التي ذكرها
الفقهاء والمتكلمون، ورسالةً في الفقه والتصوف نقد فيها بعض المسائل فيهما،
وبَحَثَ في الاجتهاد شأن من سبقه في مثل هذا النقد والبحث، فلما اطلع على هذه
الرسالة بعض المعاصرين الجامدين، أغروا العامة به زاعمين أنه مخالف للدين،
فضج الناس وقتئذ عن غير روية؛ لأنهم أتباع كل ناعق، وكان الوقت عصر جمعة
من أيام رمضان [4] ، وحشدت العامة من كل فج، فكادوا أن يوقعوا بالمترجَم شرًّا
لولا أن تداركته العناية الإلهية، وذلك مما يدل على شجاعته وإخلاص يقينه بربه
حيث كان غريبًا وحيدًا عن عشيرته في بلد غير بلده، وقد أثار بعض المتصفين
بصفة العلم هذه الفتنة باسم الانتصار للدين، والله يعلم المفسد من المصلح.
شاع الخبر فبلغ الوالي يومئذ، وهو ناظم باشا، فخشي أن ينالوا منه نيلاً،
فحسمًا للفتنة وتخليصًا لصاحب الترجمة من شرهم، وتسكينًا لحميتهم استجلبه
محافظةً على حياته وأوقفه (أي: حبسه حبسًا سياسيًّا لا يخل بكرامته) ليقف على
حقيقة الأمر، ثم إنه أحضر أولئك المحرضين، وجمعه بهم في مجلس خاص للمباحثة
في موضوع الرسالة، وطلب منهم إثبات ما زعموه من أنها مخالفة للدين، فما قامت
لهم حجة مقنعة على دعواهم، بل كانت حجته هي الدامغة.
عندما يئسوا من الوصول إليه بالأذى من هذا الطريق، أوحوا إلى الوالي ما
لفقوه من الإيحاءات السياسية بحقه حتى ألجأوا الوالي لمراجعة الآستانة في أمره،
فجاء الأمر بطلبه إليها، فأرسل محفوظًا عن طريق بيروت (وكانت مدة إقامته
بدمشق سنةً وستة أشهر) فبقي في الآستانة تحت الحفظ ستة أشهر، ثم أرسل
محفوظًا إلى وطنه حمص (مأمور إقامة) بالراتب المذكور، وكانت إعادته عن
طريق ميناء الإسكندرونة فحلب فحماه فحمص.
قضى مدةً عند أهله، فضاق صدره، ففر هاربًا إلى مصر - معهد الحرية -
عن طريق طرابلس الشام سنة 1320، وبعد وصوله ببرهة وجيزة رغب إليه
صاحب جريدة المؤيد أن يكون محررًا فيها، فاستلم الوظيفة وكتب ما كتب فيها من
المقالات المفيدة، ثم ألف بعض كبراء القطر المصري حزبًا سموه حزب الأمة،
وأنشأوا جريدةً له سموها (الجريدة) فدعوه إلى التحرير والتنقيح فيها، فلبى طلبهم
وداوم على عمله حتى حصل الانقلاب العثماني وأُعلن الدستور، فطلبه إخوانه
بحمص ليكون نائبًا عنهم في مجلس النواب (المبعوثين) فأجابهم حبًّا بخدمة الأمة
والوطن، فانتخب هو وخالد أفندي البرازي مبعوثين من لواء حماة، فذهب إلى
الآستانة فكان صوته في المجلس من أعلى الأصوات وأقواها في إقامة الحجة
وإيضاح المحجة.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
جاءتنا هذه الترجمة لفقيدنا العزيز من أخلص خلانه وخلاننا الأستاذ الشيخ أحمد نبهان الحمصي ، وهي ترجمة تاريخية وجيزة ليس فيها شرح لعمل ولا مبالغة في وصف فنشرناها لتضم إلى ما كتبناه في رثائة وترجمته من قبل، وإن كان بعضها تكرارًا لما تقدم.
(2)
كانت تلك الجريدة السرية مؤيدةً لدعوة جمعية الاتحاد والترقي الأولى التي كان أحد أعضائها.
(3)
في أثناء تلك المدة أنشأنا المنار بمصر، ونشرنا في آخر عدد من سنته الأولى أصولاً للإصلاح كانت نشرت في جريدة المعلومات، وناقشناها فيها فكان ذلك أول تلاقٍ بين أفكارنا وأفكار ذلك الصديق من حيث لا ندري ولا يدري؛ لأن ما نشر في (المعلومات) بقلمه لم يكن معزوًّا إليه ولأن المنار كان ممنوعًا من البلاد العثمانية.
(4)
كان تأليب بعض الجاحدين المفسدين العوام في دمشق على الفقيد في مثل ذلك الوقت من ذلك الشهر مثل تأليبهم إياهم علينا فيها بعد ذلك ببضع سنين، فكان ذلك مما يذكر الفقيد من التناسب والموافقات بيننا، وهذه الرسالة هي التي أشار إليها الأستاذ الإمام في مقالات الإسلام والنصرانية (راجع ص 169، 170 من مجلد المنار التاسع عشر) .
الكاتب: محمد رشيد رضا
الشيخ محمد كامل الرافعي
(1)
في أواخر العام الماضي فجعت طرابلس الشام، وهي غارقة مع سائر البلاد
السورية في طوفان مصائبها بوفاة أفضل علمائها وأعلم فضلائها، مَثَل الفضيلة
والإخلاص الأعلى في هذا العصر، وذكرى السلف الصالح في ذلك المصر،
أصدق أصدقائنا وأخلص أوليائنا الشيخ محمد كامل ابن الشيخ عبد الغني الرافعي
الطرابلسي الشهير.
ولد الفقيد في طرابلس الشام سنة 1272 أو 1270 ، ولما بلغ سن التمييز
أقرئ القرآن الكريم وتعلم مبادئ الخط والحساب في أحد مكاتب الصبيان، ثم دخل
المكتب الرشدي العثماني، أي: المدرسة الابتدائية الرسمية للحكومة، فتعلم فيها
مبادئ اللغة التركية وما يدرس بها من مبادئ الفنون الرياضية وغيرها، ومنه النحو
والصرف للغتين العربية والتركية، وعلم الحال وهو عبارة عن العقائد والعبادات
الدينية والآداب، ثم تلقى العلوم العربية والدينية على أعلم علماء العصر الذين بذت
طرابلس بهم كل مصر: والده والشيخ محمود نشابه والشيخ حسن الجسر، فقد كان
وجود هؤلاء في طرابلس مصدقًا لقول المتنبي:
أكارم حسد الأرض السماء بهم
…
وقصرت كل مصر عن طرابلس
ولما كانت الرحلة في طلب العلم مزيد كمال في التعليم - كما قال الحكيم ابن
خلدون - لما فيها من حفز الهمة والانقطاع إليه بمفارقة الأهل والأحبة، وكان
حب عشيرة الرافعية للأزهر وتعلقهم به يفوق ما يعرف من ذلك عند غيرهم من
أهل طرابلس وغيرها من البلاد الإسلامية؛ لأن الرافعي الذي يرحل من طرابلس
إلى مصر لا يشعر كغيره بمفارقة وطن ولا بغربة عن الأهل والسكن، لأن أكثر
عشيرته يقيمون في مصر، فهو في الهجرة المؤقتة إليها يجمع بين فوائد الغربة وأنس
القرابة والقربة - رحل الفقيد إلى مصر في سنة 1297 وجاور في الأزهر سنين لم
أقف على عددها، وكان أشهر شيوخه فيه، كبير الرافعية وأفقه فقهاء الحنفية: الشيخ
عبد القادر الرافعي، والشيخ محمد الشربيني الشافعي الشهير الذي أدركنا الناس أخيرًا
يضعونه في الذروة من علماء الأزهر في كل علم وفن يدرس فيه، وفي المحافظة
على أخلاق علماء الدين، والشيخ عبد الهادي الإبياري الشافعي الشهير بالجمع بين
العلوم الدينية والتفنن في أدبيات اللغة العربية، والشيخ أحمد الرفاعي المالكي الشهير
الذي كان خير مزية له أنه كان آخر من قرأ جميع كتب السنة الستة في الأزهر.
وهؤلاء الشيوخ الكبار لم يكونوا يفوقون شيوخه الثلاثة في طرابلس في علم
من العلوم ولا فن من الفنون، ولا في أخلاق الدين وفضائله إلا أن يكون ما
اشتهر عن الشيخ عبد القادر الرافعي من سعة الاطلاع والتحقيق في فقه الحنفية.
وإننا نقدم على ترجمة الفقيد تعريفًا وجيزًا بشيوخه الثلاثة في طرابلس؛ لأننا
رأينا لكل منهم أثرًا واضحًا في سيرته العلمية والعملية والأدبية.
***
الشيخ محمود نشابه
أما الشيخ محمود نشابه فقد أقام في الأزهر زهاء ثلاثين سنةً، طالبًا
ومدرسًا وأتقن جميع ما يدرس فيه حتى علم الجبر والمقابلة الذي هُجر بعد عهده، ثم
قضى بقية عمره المبارك في طرابلس في تدريس تلك العلوم، فتخرج به كثيرون،
وكان شيخ الشافعية والحنفية جميعًا، وقلما أتقن أحد فقه المذهبين مثله، وقد أدركته
في أوائل الطلب وقرأت عليه الأربعين النووية، وأجازني بها قبل الشروع في طلب
العلوم، ثم كنت أحضر درسه لشرح البخاري في الجامع الكبير وأقرأ عليه صحيح
مسلم وشرح المنهج بداره، وحضرت عليه طائفة من شرح التحرير، وهو في فقه
الشافعية كالمنهج، وما عرفت قيمته وتفوقه على جميع من لقيت من علماء الإسلام في
علومه إلا بقراءة صحيح مسلم عليه، فإنني كنت أقرأ عليه المتن فيضبط لي الرواية
أصح الضبط من غير مراجعة ولا نظر في شرح، وأسأله عن كل ما يشكل علي من
مسائل الرواية والدراية، فيجيبني عنها أصح جواب، وكنت أراجع بعض تلك
المسائل بعد الدرس في شرح مسلم وغيره، ولا أذكر أنني عثرت له على خطأ في
شيء منها، وكان إذا راجعه بعض تلاميذه أو غيرهم في غلط وقع فيه، يقبله بدون
أدنى امتعاض لِما تحلَّى به من الإنصاف والتواضع وغيرهما من الأخلاق المحمدية.
أعطاني شرحه للبيقونية في مصطلح الحديث بخطه، فرأيته استعمل في فاتحته لفظ
الفالح بمعنى المفلح، فراجعته فيه فأمرني أن أصلحه وأصلح كل خطأ من قبيله،
ورأيته ارتاح لذلك وسُر به.
وكانت معيشته معيشة الزهاد لا يبالي بزينة الدنيا ولا زخرفها، ولا يحفل
بحكامها وكبرائها، كان في طرابلس متصرف من أهل العلم، اسمه عارف باشا،
وكان يزوره علماؤها إلا الشيخ، فذهب المتصرف لزيارته في داره فرده عن
الباب ولم يأذن له بالدخول.
خرجت مرةً معه للرياضة في ضواحي البلد فما كدنا نحاذي دار الحكومة بجوار
تل الرمل حتى تعب الشيخ، فالتفت إلي وقال: يا سيد رشيد أعندك كِبر؟ قلت:
أرجو أن لا يكون عندي كِبر، قال: إذًا اقعد معي على الأرض هنا لنستريح، فقعدنا
بجانب الطريق.
وقد رثيته بقصيدة، أذكر منها هذه الأبيات للدلالة على ما كان له من المكانة
في نفسي وقتئذ مع القول بأن هذه المكانة لم تتغير إلى اليوم:
شيخ الشيوخ إمام العصر أوحده
…
ووارث المصطفى فينا ونائبه
فلك الطريقة أو در الحقيقة في
…
يم الشريعة راسيه وراسبه
ومرجع الكل في حمل النصوص وفي
…
حل العويص إذا أعيت مصاعبه
رب الحقائق مكشاف الدقائق محـ ـمود الخلائق مَن جلَّت مواهبه
من حلقت هامة الأفلاك همته
…
وزاحمت منكب الجوزا مناكبه
من لا تُحدّ بتعريفٍ معارفه
…
وليس تحصى بتنقيب مناقبه
من كان عن خشية الله منكسرًا
…
ولان عن رفعة للناس جانبه
من أحيت السنة الغرا مآثره
…
وأفنت البدعة السودا قواضبه
وما قواضبه إلا يراعته
…
والكتب كم ألفت منها كتائبه
ومنها:
خطب أصاب فؤاد الشرق فانفطرت
…
مرارة الكون وارتاعت مغاربه
قد مزق الإفك العلمي أطلسه
…
ومن مكوكبه انقضت كواكبه
ومنهج العلم أمسى اليوم مسلكه
…
وعرًا تجوب مجاهيلاً جوائبه
وصدر (شرح البخاري) ضاق فيه وكم
…
قامت على (مسلم) تبكي نوادبه
لئن بكى تابعو النعمان مذهبه
…
فالدين من بعده ضاقت مذاهبه
هذا (ابن إدريس) بعد الشيخ قد درست
…
دروس مذهبه وارتاع طالبه
ومنها:
لله مثوًى ببطن الأرض مد به
…
بحر تفيض بلا جزر ثوائبه [1]
مثوى حوى منه ذا فضل لقد حسدت
…
ترابه من أخي العليا ترائبه
مثوى لقد حفظ الثأر الأثير على
…
ثراه إذا ظفرت فيه رغائبه
لئن دفنَّا به شخص الكمال ضحى
…
فالروح طارت إلى عدن نجائبه
***
الشيخ عبد الغني الرافعي
وأما والد الفقيد الشيخ عبد الغني الرافعي فقد حصل العلوم والفنون الدينية
واللغوية في طرابلس ودمشق الشام ، وأشهر شيوخه في طرابلس الشيخ نجيب
الزعبي الجيلاني، ولا أعرف شيوخه في دمشق، ومن المعروف المشهور أنه كان
فيها يومئذ نفر من أكبر علماء الإسلام في العالم، وكان الشيخ لوذعي الذكاء،
يُحصِّل في سنة ما لا يُحصِّله الأكثرون في سنين، وقد امتاز بين فقهاء عصره
بالجمع بين النبوغ في علوم الشرع والتصوف والأدب، فكان فقيهًا مدققًا، وصوفيًّا
مصفًّى، وأديبًا شاعرًا ناثرًا، وله في كل ذلك ذوق خاص. سلك طريق الصوفية
على الشيخ رشيد الميقاتي الشهير سلوكًا صحيحًا بالرياضة الشديدة ومداومة الذكر
حتى رأى من الأسرار والعجائب الروحية ما لا محل لذكر شيء منه في هذا التعريف
الاستطرادي، وكان عالي الهمة قوي العناية شديد المواظبة فيما يأخذ فيه من علم أو
عمل، على غير المعهود من أكثر مفرطي الذكاء أمثاله، سمعت منه أنه قرأ كتاب
(أدب الدنيا والدين) ثلاثين مرةً، وقرأ إحياء العلوم للغزالي مرارًا كثيرةً، لا أذكر
عنه عددها.
أدركناه في شيخوخته قوي الجسم والعقل والذاكرة، وكان جميل الصورة
كأن وجهه ورد يحيط به الياسمين من شيبته الناصعة، وكان يلبس أحسن الملابس
ويأكل أطيب المآكل، ويسكن دارًا مزينةً بالنقش والأثاث الجميل، وتزوج في
شيخوخته بكرًا رزق منها أولادًا، وكان يُرى في سن السبعين أنه لم يفقد من
مزايا الشباب شيئًا، ولم يشغله رخاء العيش عن اشتغال القلب واللسان بذكر الله
ومذاكرة العلم. وَليَ إفتاء طرابلس وهو أعلى منصب لرجال العلم في عرف الدولة
العثمانية، وولي القضاء لولاية اليمن، ولم يكن في مكانه من الرياسة والجاه يمتنع من
وضع يده بيد رجل فقير يلبس الأسمال البالية، ويمشي معه في السوق إذا كان له
مزيةً من علم أو صلاح؛ إذ كانت أخلاقه أخلاق كبار الصوفية، ومظهره مظهر كبار
رجال الدنيا، ولكنه ما كان ليجلس بجانب الطريق العام على التراب أمام دار الحكومة
كما فعل الشيخ محمود نشابه.
أذكر مما سمعت من أخبار تصوفه أنه سافر من بلده - وهو في مقام التوكل -
ولم يكن معه شيء من الدراهم، فيسر الله الأمر ورزقه من حيث لا يحتسب.
ومن أخبار أدبه أنه لما سافر إلى الآستانة، لقي في الباخرة بعض رجال العلم
والأدب، فلما عرف الرجل فضله قال له:
فيم اقتحامك لج البحر تركبه
…
وأنت تكفيك منه جرعة الوشل
فأجابه على الفور ببيت من هذه القصيدة (المعروفة بلامية العجم) :
أريد بسطة كف أستعين بها
…
على قضاء حقوق للعلى قِبلي
ولما لم يعرف له رجال الآستانة قيمته أراد التحول عنها إلى مصر، فأرسل
إلى الشيخ عبد الهادي نجا الإبياري رسالة برقية يتوسل بها إلى توفيق باشا عزيز
مصر في ذلك العهد، وهي هذان البيتان:
قالت لي النفس الأبية مذ رأت
…
في الروم ضاع اسمي وضل رشادي
سر بي لدار الفضل مصر لعله
…
يهديك للتوفيق عبد الهادي
وأذكر مما رأيت من إنصافه وتواضعه أنه كان عندما يزورنا في القلمون
يعهد إلي أن أقرأ عليه شيئًا من إحياء العلوم؛ لأنني كنت مولعًا بمطالعته من قبل
الشروع في طلب العلم، فانتهيت في القراءة مرةً إلى فصل في الحاكايات التي
يذكرها أبو حامد الغزالي - رحمه الله تعالى - في بعض الأبواب، كحكايات
المتوكلين والأسخياء، فاستوقفني الشيخ وقال: إنني مستغرب لحشو المصنف -
قدس سره - هذه الحكايات في هذا الكتاب، وكله علم وتحقيق لولا هذه الحكايات!
قلت: إنني أرى هذه الحكايات من أهم مقاصد الكتاب، فإنه كتاب تربية، وإنما تتم
التربية بالتأسي والقدوة، فالترغيب في السخاء بالآثار المروية والحِكم المعقولة لا
يبلغ تأثيره وحده ما يبلغه ما نرى في هذا الكتاب وغيره، من ذكر حكايات الأجواد
من السلف، وإنما كمال التربية في الجمع بين الترغيب بالقول والقدوة بالفعل، فقال
لي: أعيذك بالواحد * من شر كل حاسد * إنني أقرأ هذا الكتاب من قبل أن تُخلَق،
وقد قرأته مرارًا وأنا أفكر في هذه المسألة وأنتقدها على المؤلف، ولم يخطر في بالي
هذا الغرض الواضح الذي لا شك أنه كان يرمي إليه، رضي الله عنه. ولم يكتف
الشيخ - قدس الله روحه - بهذا الثناء بل كان يذكر هذا الجواب في كل مجلس من
مجالسه العلمية والأدبية عقبه، ويقول لمجالسيه وأكثرهم من تلاميذه ومريديه: إنني
كنت مستشكلاً هذه المسألة منذ عشرات من السنين، وقد حلها لي هذا الغلام النابغ
النابه على البداهة، أو ما هذا معناه بالاختصار.
وقد استفاد من إقامته في اليمن فوائد عظيمةً، منها أن مذاكراته ومناظراته
لعلماء الزيدية - مع ما علمت من إنصافه - قوى في نفسه ملكة الاستقلال في فهم
الدين وفقه الحديث، عرف سيرة الإمام الشوكاني فاقتنى كتابه (نيل الأوطال وشرح
منتقى الأخبار) ولما عاد إلى طرابلس كان يقرأه درسًا للنابغين المنتبهين من طلاب
العلم، كنجله الشيخ محمد كامل المترجَم، وقد حضرت بعض هذه الدروس، ولكنني
كنت مبتدئًا لا أفهم شيئًا من الاصطلاحات الأصولية والحديثية فيه، وإنما كان يسمح
لي بحضورها ما كان لي من الكرامة الشخصية عند الشيخ وأهل بيته بموادتهم مع
والدي وأهل بيتنا، ومن أعجب ما سمعناه منه عن أهل اليمن أنه لم يتفق له في مدة
توليه القضاء فيهم أن سمع من أحد منهم شهادة زور أو كذبًا على الحاكم أو الخصوم،
بل كانوا يقولون له: أتحكم بالشرع يا عبد الغني؟ فيقول: نعم، فيصْدُقونه في شرح
منازعاتهم.
توفي حاجًّا بمكة ، فرثيته بقصيدة.
مطلعها:
طوبى لمن بجوار الله قد نزلا
…
وقد أعد له جناته نزلا
ويا هنيئًا لمن أسقاه سيده
…
في معهد القرب من كأس الشهود طلا
ومنها:
نعم لقد مات علم لدين الله وانكسفت
…
شمس الرشاد، وبدر الهُدى قد أفلا
نعم لقد قبضت روح التصوف ولا
…
نصاف منا وجيد الفقه قد عطلا
نعم قد اخترم التبيين واحتكم التلو
…
ين واصطلم التمكن مرتحلا
ومنها:
لئن بكاه بنا علم اليقين فقد
…
قرت به عينه مذ كأسها نهلا
وإن غدا فيه كل الفضل مجتمعًا
…
فقد تفرق في أبنائه النبلا
فللمعارف والإرشاد كالمهم
…
من حالف العلم فيه الهدى والعملا
وفي البلاغة كم (عبد الحميد) سما
…
وللتحدي بها آي البيان تلا
***
المقارنة بين الشيخين
أختم هذا التعريف المختصر بالشيخين اللذين انتهت إليهما الرياسة العلمية في
وطننا بمقابلة وجيزة بينهما، فأقول: إن الشيخ نشابه كان أوسع من الشيخ الرافعي
اطلاعًا ومعرفةً لما عدا التصوف والأدب من العلوم المعقولة والمنقولة، وكان
واقفًا عليها تمام الوقوف بفهم تام لكل ما قرأه من الكتب في الأزهر وغيره كتفسير
البيضاوي وغيره، وشروح كتب السنة وكتب الأصول والفقه وفنون العربية إلخ،
ولكنه كان مقلدًا في المسائل وأدلتها غالبًا، قلما يفكر في استعمال فهمه في انتقاد
المعتمد في تلك الكتب، فكان لهذه العلوم والفنون كحُفاظ الحديث غير المستنبطين،
ويا لها من مزية قلما تجد الآن أحدًا من رجالها، وكانت عبادته كعبادة السلف، وهي
النوافل المأثورة وكثرة تلاوة القرآن، وأما الشيخ الرافعي فكان - على ما امتاز به من
علوم الأخلاق والتصوف والأدب - فقيه النفس مستقل الفكر، إذا ظهر له رجحان
مذهب الزيدية مثلاً على مذهب الحنفية الذي نشأ عليه تحصيلاً وعملاً وإفتاءً
وقضاءً - لا يمتنع من القول بترجيحه.
وقد كان بين الشيخين شيء من تغاير المعاصرة في سن الشباب لانتهاء
الرياسة العلمية إليهما، ولكن علو أخلاقهما وقف بهما دون التنافس الذي يجر عادةً
إلى التحاسد والطعن، ومما وقع بينهما من المناظرة أن الشيخ عبد الغني - رحمه
الله - استخرج من قوله تعالى: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَاّ مَا عَلَّمْتَنَا} (البقرة:
32) مئة سؤال، وجاء مجلس الشيخ محمود نشابه إذ كان يقرأ تفسير هذه الآية في
البيضاوي درسًا، وشرع يلقي عليه سؤالاً بعد سؤال، وهو يجيبه غير مكترث
ولا شاعر بأنه مناظر مختبر، فلما كثرت الأسئلة تنبه، فأطبق الكتاب ووضع
يديه على صدره، والتفت إلى السائل وقال: أتريد أن تسأل يا عبد الغني؟ اسأل
هيه، اسأل هيه، فما زال السائل حتى فرغ مما عنده، ولم يعجز المسئول، ولا
توقف في سؤال من تلك الأسئلة.
***
الشيخ حسين الجسر
وأما الشيخ حسين الجسر فقد حصل العلوم في طرابلس، وأكبر شيوخه فيها
الشيخ محمود نشابه، وجاور في الأزهر بضع سنين، ومن أشهر شيوخه فيه الشيخ
المرصفي الشهير، وقد امتاز بين علماء الدين بالنظر في العلوم والفنون التي
يسمونها العصرية، وبقراءة الجرائد السياسية والمجلات العلمية، فكان لذلك
يرغب في جعل طلاب العلوم الدينية جامعين بينها وبين الإلمام بتلك العلوم والفنون،
فسعى لحمل بعض الأغنياء على إنشاء مدرسة دينية نظامية تعلم فيها بعض
الرياضيات والطبيعيات على الطريقة الأوربية، واللغتان التركية والفرنسية،
فأنشئت (المدرسة الوطنية) وكان هو مديرها، وقد دخل كاتب هذه السطور في القسم
الداخلي منها سنة 1329 أو 1330 ، فكان ذلك أول العهد بطلبه للعلم بعد أن تعلم
القراءة والخط في مكتب الصبيان بالقلمون، وطالع بعض كتب الأدب والتاريخ
والتصوف منفردًا، ولكن لم يطل عمر المدرسة، فإن الحكومة التركية لم تقبل جعلها
من المدارس الدينية التي يعفى طلابها من الخدمة العسكرية، وأصر مديرها - الشيخ
رحمه الله تعالى - على إقفالها إن لم تعترف بها، فأقفلت وطلب للتدريس في المدرسة
السلطانية ببيروت ، فأقام فيها مدةً قصيرةً ثم عاد إلى طرابلس وواظب على التدريس
لطلاب العلوم الدينية في المدرسة الرجبية وفي داره، وواظبنا على حضور تلك
الدروس حتى تخرجنا بها وأخذنا الإجازة بالتدريس والتعليم منه سنة 1315 رحمه
الله تعالى، وجزاه عنا خيرًا.
وكانت طريقته في التدريس أن يوجه كل همه إلى حل المسائل بسهولة
وعبارة سهلة يفهمها الطالب، ولم ندرك زمن تلقي المترجم عنه، ولكننا سمعنا منه
أنه قرأ كتاب امتحان الأذكياء، وأن الشيخ محمد كامل الرافعي كان يقول: إننا
عندما نسمع العبارة من الأستاذ نفهمها ونرى أنها ظاهرة، فإذا أردنا بيانها بعد الدرس
تعذر ذلك علينا ورأيناها مغلقةً.
ولشيخنا الجسر مؤلفات مطبوعة مشهورة أشهرها (الرسالة الحميدية في حقيقة
الديانة الإسلامية، وحقيقة الشريعة المحمدية) التي بين فيها عقائد الإسلام وأركان
عباداته وأهم معاملاته الاجتماعية، مقرونةً بحكمها، وأدلتها، وذكر ما يرد عليها من
الشبهات العصرية وأجوبتها، وقد كافأه السلطان عبد الحميد بنسبة الرسالة إليه برتبة
علمية ووسام، فانتقد الناس ذلك عليه؛ لأنهم كانوا ينسبون إليه قصيدةً بائيةً فيها طعن
شديد على الحكومة، ولا سيما رتبها وأوسمتها، وطلبه السلطان إلى الآستانة ليكون
من شيوخ (يلدز) فأقام بضعة أشهر، ثم طلب الإذن له بالعودة إلى طرابلس معتذرًا
بأن هواء الآستانة لا يوافق صحته - وكان مصدورًا - فأذن له، وأخبرنا بأن العلة
الصحيحة للهرب من الآستانة هي المحافظة على الدين.
وكان رحمه الله على سعة اطلاعه وأخذه حظًّا من العلوم العصرية ووقوفه
على طريقتها الاستقلالية، شديد المحافظة على التقليد في جميع العلوم الدينية، وكنت
فتحت في درسه باب المناقشة في أدلة العقائد والمذاهب، فكان ينهاني عن ذلك، وكان
شديد المحافظة على شرفه وصيته، ولما طبعت الرسالة الحميدية أهداني نسخةً منها،
ثم سألني بعد أيام: هل قرأت الرسالة؟ قلت: قرأت بعضها، قال: إنه يعجبني
رأيك، فكيف رأيتها؟ قلت بعد الثناء عليها بالإجمال: إنني انتقدت منها شيئين
(أحدهما) : التعبير عن المسائل العلمية القطعية التي تعتقدون صحتها، ككروية
الأرض بما يدل على الشك أو الإنكار، فاعتذر عن هذا بمراعاة عقول العوام
والمتعصبين الذين يطعنون في دين من يقول بهذه المسائل، فقلت: إذا لم يتجرأ
أمثالك من الموثوق بعلمهم ودينهم على الجزم بهذه المسائل، فمن يجزم بها، ومتى
يكون ذلك؟ (والثاني) : عدم تقسيم الرسالة إلى أبواب وفصول يوضع لكل منها
عنوان يدل عليه على نحو ما هو مفصل في الفهرس؛ للتنشيط على المطالعة وسهولة
المراجعة، فقال: إن اتصال الكلام ببعض كالماء الجاري من حسن الإنشاء وأساليب
البلاغة، قلت: فلماذا جعل القرآن سورًا، وهو أبلغ الكلام وأفصحه؟
هذا وإنني لما أنشأت المنار انتقد علي - عفا الله عنه - الإنحاء على خرافات
أهل الطريق، والشدة والاستقلال في مسائل أخرى في كتاب كتبه لي بعد أشهر
من صدور المنار، قال فيه: (ظهر المنار بأنوار غريبة إلا أن أشعته مؤلفة من
خيوط قوية كادت تذهب بالأبصار) ثم ذكر تلك المسائل في ورقة واحدة من ورق
المخاطبات العادية، فكتبت إليه جوابًا مفصلاً يدخل في بضع ورقات، بينت فيه ما
عندي من الحجة على صحة ما كتبته، وكونه نافعًا وضروريًّا، وقلت فيه ما
معناه: إنني أعرض هذا على مسامع أستاذي معترفًا بأنني لا أزال تلميذًا له، لكن
على ما عهد مني من عدم قبول شيء إلا بعد الاقتناع به، وإنني أنتظر ما يجيب به؛
لأقرره مذعنًا له إذا ظهر لي أنه الصواب، وإلا راجعته فيه كتابةً إلى أن ينجلي
لي الحق، فلم يرجع إلي قولاً في ذلك، وهو لم يكن ينتقد يومئذ إلا الأسلوب، وما
فيه من نشر عيوب المسلمين.
توفي - رحمه الله تعالى - وأنا بمصر، فطلبت من نجله الكبير الشيخ محمد
يمن أن يرسل إلي ما عنده من المواد؛ لأجل كتابة ترجمة حافلة له، وظللت أنتظر
زمنًا طويلاً فلم أظفر منه بشيء، ولم أكتب شيئًا لأنني لم أحب أن أكتب ترجمةً
بتراءَ، وما رثيته؛ لأنني تركت الشعر من قبل الهجرة إلى مصر، ولذلك لم أرثِ
شيخنا الأستاذ الإمام أيضًا، إلا أنني زدت في مقصورتي أبياتًا فيه، وفي السيد جمال
الدين، رحم الله الجميع وجزاهم عنا خيرًا، وسنذكر في النبذة التالية من الترجمة
تأثير كل من هؤلاء الشيوخ في المترجم، رحمه الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
مياه المد الذي يعقب الجزر ففي البيت (الاحتراس) من أنواع البديع.
الكاتب: محمد رشيد رضا
باحثة البادية
تتمة ترجمتها
(2)
حقيقتها النفسية ومذهبها الإصلاحي
إن ما بيناه من خبر نشأتها وتربيتها، وما أشرنا إليه من آثارها القلمية هما
كالعلة والمعلول والمقدمات والنتيجة، في ظهور صورتها النفسية العقلية وسيرتها
العملية، فثبت عندنا أن باحثة البادية ذات رأي ثابت ومذهب كوّنه العلم والبحث في
تربية النساء المسلمات وتعليمهن وما يجب أن يقمن به من الإصلاح الاجتماعي في
العالم الإسلامي في هذا العصر، وإنها كانت داعية إصلاح منبعثةً بِغَيْرَةٍ نفسية إلى
نشر مذهبها، والحمل على اتباعه، ومناضلة المخالفين له.
قبل أن نبين حقيقة هذا المذهب نقول: إن هذه مَنقبة للمُترجَمة لم تسبقها
إليها امرأة في مصرها في عصرها، ولعلي لا أبالغ إذا قلت: في أمتها العربية كلها،
بل هذا مما يقل في الرجال بله النساء، وقد غفل عن معرفة هذا لها من رثوها
وأبَّنوها في الصحف، وفي حفلة التأبين التي نذكرها بعد؛ لأن مثل هذه الدقائق لا
يلتفت إليها الشعراء والخطباء، ولا أكثر كتاب الصحف.
كتب كثير من الرجال والنساء في المسائل التي كتبت فيها باحثة البادية في
هذا العصر، ولا نجزم بأن أحدًا منهم صاحب مذهب ثابت له حافز من نفسه للدعوة
إليه والدفاع عنه إلا قاسم بك أمين وباحثة البادية، لا أنكر أن من أولئك الكاتبين
من هم أوسع اطلاعًا وأفصح عبارةً من باحثة البادية، وأن منهم من له رأي ثابت
فيما كتب خطأً كان أو صوابًا، ولكنه مقلد فيه لغيره حتى في الاستدلال، ومزيتها
على أمثال هؤلاء أنها قد ارتقت إلى طبقة أهل الإصلاح وأصحاب المذاهب
الاجتماعية.
لما شبت حرب المناظرة والجدال في المسألة التي سموها تحرير المرأة،
وجعل أساس عقيدتها ما سموه السفور أو رفع الحجاب - كنا نرى مقالات كثيرةً
لمقلدة المحافظين على الحجاب، وأخرى لمقلدة التفرنج طلاب السفور، هؤلاء
متهوكون في فتنة التشبه بالإفرنج، ظانين أنهم في التشبه بهم في أهون الأمور
وألذها يكونون مثلهم حتى في غير ما تشبهوا بهم فيه، وأولئك متمسكون بكل ما
تعودوه ودرجوا عليه، ولا سيما إذا كان له شيء من صبغة الدين، خائفون أن
يكون في التحول عنه انحلال أمتهم بذهاب مقوماتها أو مشخصاتها، وإن لم
يكونوا على علم بأن للأمم مقومات ومشخصات تقوى بالاعتصام بها، وتنحل
بانحلالها، وأن ما يحافظون عليه وينافحون دونه منها؛ لأن ذلك الخوف وجداني
مبهم لا علمي مبين، فنرى جمهورهم يظن أن ما جرى عليه أكثر نساء المدن،
وبعض نساء القرى من وضع البراقع على أفواههن هو الحجاب الشرعي.
لم تكن باحثة البادية من هؤلاء ولا من أولئك، بل كان لها مذهب وسط
مبني على أصلين، أحدهما: وجوب التزام النساء جميع ما قرره الإسلام من عقيدة
وأمر ونهي، وثانيهما: اقتباس جميع ما تحتاج إليه المرأة المسلمة من الفنون والنظام
والأعمال؛ للقيام بما يناط بها عند ما تكون زوجًا لرجل وأُمًّا لولد ورئيسةً لمنزل، أو
منقطعةً لإتقان علم أو عمل على ما تقتضيه حالة العصر من مجاراة الأمم العزيزة
القوية في مضمار الارتقاء.
إن تسمية هذا المذهب وسطًا بين نزغات المتفرنجين ورغبات المحافظين
على القديم على علاته، يشعر بتفضيله، وناهيك بقاعدة:(خير الأمور أوساطها)
المسلَّمة عند الجمهور، وقد رويت حديثًا مرفوعًا، أخرجه السمعاني في ذيل تاريخ
بغداد عن علي - كرم الله وجهه - بسند مجهول، ولكن معناه يؤيد بقوله تعالى:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} (البقرة: 143) مع قوله في آية أخرى {كُنتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران: 110) وبما تقرر في علم الأخلاق من كون
الفضائل أوساطًا بين أطراف، هي الرذائل، كالجود بين طرفي البخل والإسراف.
ويمكن بيان ذلك في هذا المذهب بطريقة علمية مستمدة من سنة الله تعالى
في أجساد الناس وأنفسهم وعقولهم، ذلك بأن لله تعالى في تسلسل أفراد الناس
(وغيرهم من الأحياء) بعضهم من بعض، سنتين متقابلتين: سنة التباين،
وسنة التوافق والتوارث، فبمقتضى سنة التوافق يشبه الابن أباه، والفرع أصله،
في بعض صفاته الجسدية والنفسية، وبمقتضى سنة التباين يخالفه في بعض تلك
الصفات، فلا يوجد أحد يماثل أباه أو غيره من أصوله في كل شيء، أو يخالفه
ويباينه في كل شيء، ولولا هاتان السنتان لكان كل فرد من الأفراد التي يتولد
بعضها من بعض مباينًا لغيره، كأنه نوع من جنس لم يوجد منه غيره ، أو لكان
جميع البشر كأبيهم الأول في كل شيء، بحيث يتعذر التفرقة بين اثنين منهم في
سن واحدة، فسبحان الخلاق العليم الحكيم.
ثم إن لله تعالى سنتين كهاتين السنتين في سيرة الناس العملية وحياتهم
الاجتماعية، وهما سنة المحافظة والتقليد، وسنة الاستقلال والتجديد، وحكمة الله
تعالى في جعل مقدار ارتقاء البشر في العلوم والأعمال على اجتماع هاتين السنتين،
كحكمته في جعل مدار وجود الأجناس والأنواع على تينك السنتين، ولو قلد كل
أحد مَن قَبله في كل ما وجدهم عليه، لكانت حياتهم العملية متماثلةً كحياة النحل
والنمل من الحشرات التي تعيش بالاجتماع والتعاون، ولو خالف كل أحد مَن قبله
في كل شيء واستقل بجعله جديدًا، لخرج الإنسان بذلك عن كونه عالمًا اجتماعيًّا
يرتقي بالتعاون وبناء الجديد على القديم مع التحسين فيه، ولما تكونت الأمم
والشعوب، ولا ارتقى علم ولا عمل ولا صناعة، فالأمم تتكون بما يشترك
أفرادها فيه من العلوم والأعمال التي تطبع في أنفسها ملكات وأخلاقًا وأذواقًا
خاصةً تكون من أقوى مقوماتها التي تفصلها من غيرها، ولا يتكون للأمة خلق
جديد في أقل من جيل، وقلما يكمل لها خلق أو ذوق خاص في الفنون والصناعات في
أقل من ثلاثة أجيال، كما يقول بعض علماء الاجتماع.
بعد هذا البيان التمهيدي لبيان قيمة مذهب باحثة البادية في مسألة تربية النساء
المسلمات في هذا العصر، أقول: إن أكثر الذين خاضوا في هذه المسألة يجهلون
هذه الأصول، فكان منهم من غلبت عليه سنة التقليد والمحافظة على القديم برمته،
وهو لا يدري أن الاقتصار عليه ضار على أنه محال، ومنهم من غلبت عليه سنة
حب التجديد لكل شيء وإبطال كل قديم، وهو لا يدري أنه مفسدة على أنه مطلب
لا ينال، وجهل الأكثرون من الفريقين أن التطورات الجديدة الطارئة على الأمة
التي تدعوها إلى تغيير شيء من ماضيها، وتحدث التعارض والتدافع بين
الفريقين المذكورين يجب أن يتروى في أمر تيارها، فلا يساعدها على جرفه
للماضي الذي صار من مقومات الأمة، ولا يقاوم بمحاولة منعه من أي تغيير في
شؤونها، وإن كان إزالة ضار واستبدال نافع به، لهذا نرى من المتفرنجين -
طلاب التجديد بغير علم صحيح ولا فطرة معتدلة - مَن يستعجلون في هدم عقائد
الدين وشعائره، وفي التصرف في اللغة تصرفًا يخرجها عن أصولها وقواعدها
وفي تغيير الأخلاق والآداب الاجتماعية بسفور النساء ومخالطتهن للرجال في
المجامع والملاهي والحانات والمراقص، وما الدافع لهم إلى هذا إلا ما يرون فيه من
اللذة والتمتع والتشبه بالإفرنج فيما يشكو منه حكماؤهم وفضلاؤهم.
كان قاسم بك أمين مستقلاًّ معتدلاً في فريق مقلدة التفرنج، وخصمه محمد
طلعت بك حرب مستقلاًّ معتدلاً في فريق مقلدة التدين والتعود، ثم ظهرت باحثة
البادية مستقلةً معتدلةً، تجاذبها الفريقان، كل منهما يعدها من حزبه فيما توافقه
فيه، غير مشدد عليها بالإنكار فيما تخالفه فيه، فبهذا التفصيل الوجيز تعرف قيمة
هذه المرأة المسلمة العربية المصرية الفاضلة، وأنها فوق قيمة من توصف بأنها كاتبة
ناثرة شاعرة، أو خطيبة ماهرة، فمزيتها في نساء قومها أنها مصلحة مستقلة معتدلة.
الاحتفال بتأبينها
تحدث بعض من حضر مأتم الباحثة من المفكرين في استحسان إقامة حفلة
تأبين لها، تكون مظهرًا لتكريم الرجال للنساء، وترغيبًا لهن في العلم النافع،
والسيرة الزوجية الصالحة، ثم تألفت لذلك لجنة برياسة شيخ الأدباء إسماعيل
صبري باشا، كان أول عملها أن عرضت على السير عدلي باشا يكن وزير
المعارف جعل حفلة التأبين تحت رئاسته، فقبل مرتاحًا، ولما كان الراغبون في
التأبين والرثاء كثيرين، اضطرت اللجنة إلى اختيار ثلاثة من الخطباء، وبضعة
من الشعراء الذين يحضرون الحفلة، واختارت من رسائل التأبين والرثاء كلمةً
وجيزةً بليغةً لصديقة الفقيدة نبوية موسى ناظرة مدرسة البنات الأميرية في
الإسكندرية، وقصيدة لأحمد أفندي الكاشف الشهير.
ثم اختارت أن يكون الاحتفال في قاعة الخطابة الكبرى من دار المدرسة
السعيدية التي كانت دار الجامعة المصرية، وضربت موعدًا لذلك الساعة الرابعة
من مساء يوم الجمعة ثاني ربيع الأول، ولم يكد يجيء الموعد حتى غصت تلك
القاعة الفسيحة بأهل العلم والأدب والوجاهة وطلاب الأزهر والمدارس التجهيزية
والعالية، وكان المنظِّم للمكان والمراقب لنظام الاحتفال علي بك حسني ناظر المدرسة
السعيدية وهو عريق في ذلك وأصيل، وقد اعتذر عن حضور الحفلة عدلي باشا
بانحراف ألمَّ بصحته، وحضرها وكيل نظارة المعارف الذي تولى المساعدة نيابةً عن
الوزير في جعلها في أحد معاهد الوزارة.
وكان أول الخطباء إبراهيم بك الهلباوي المحامي الشهير، وموضوع تأبينه
ترجمة الفقيدة، فذكر كل ما ينبغي ذكره في ذلك بفصاحته وطلاقته التي تشبه بالسيل
المدرار وتدفق الأنهار، وألم بما دار من الجدل والمناقشات في تعليم المرأة وحجابها،
وعد باحثة البادية حجةً على المنكرين، وقد اضطرب الحاضرون عند ذكر مسألة
الحجاب، وكاد بعضهم يقاطع الخطيب ويصرحون بأن الفقيدة حجة على طلاب
السفور؛ لأنها فاقت جميع المتعلمات في مصر ، وهي محافظة على حجابها الشرعي،
وناصرة للقائلين به.
وتلاه الشيخ مصطفى عبد الرازق كاتب سر مجلس الأزهر والمعاهد الدينية
الأعلى، فتلا خطبةً فصيحة العبارة، موضوعها الغرض من إقامة هذا الحفل،
وهو تكريم النابغين المستحقين للتكريم من الرجال والنساء، لما في ذلك من حسن
الأسوة والترغيب في العلم والعمل النافع للأمة، وألمَّ بذكر النهضة الحديثة في
التعليم وتربية البنات، وما للشيخين الأستاذ الإمام محمد عبده والشيخ عبد الكريم
سلمان من الجهاد واليد البيضاء في ذلك، واستغرب من تقصير أصدقاء الشيخ
عبد الكريم الذين هم من كبراء الأمة فيما كان ينبغي من الاحتفال بتأبينه، وما
كان ينبغي لغيرهم أن يتقدم عليهم في الدعوة إلى ذلك، ونوه بما كان من نجاح
باحثة البادية في العلم والدعوة إلى إصلاح حال المرأة، وما كان من صلاحها في
نفسها واشتهارها بعلو الآداب والتقوى الذي استحقت به مثل هذا الاحتفال.
وتلاه كاتب هذه السطور وكان موضوع خطابته: نبوغ باحثة البادية،
وانتظامها في سلك المصلحين، وآيات ذلك من مقالاتها وخطبها، وقد بدأت بذكر
أولياتها الذي تقدمت الإشارة إليه، وذكرت أن منها أن أول مكان خطبت فيه هو
هذه القاعة التي كان تأبينها فيها أول احتفال في مصر بتأبين امرأة، ثم ذكرت نحوًا
مما تقدم في الترجمة من أخبار نشأتها وتعليمها وتربيتها، واستنبطت منه أن
مدارس البنات الأميرية - وغير الأميرية بالأولى - لا يرجى أن تخرج مثلها؛ لأن
نبوغها كان بمجموع تلك الأسباب التي ذكرتها، لا بالمدرسة السَّنية التي تعلمت فيها،
وإلا لرأينا في كل سنة عددًا من المتخرجات مثلها، ذلك بأن التعليم عندنا تقليدي
آلي - نسبة إلى الآلة - يقُصد به إيجاد آلات للحكومة، وما يشبه مصالح الحكومة من
الأعمال الإدارية والزراعية والتعليمية وغيرها، وإنما يكثر النابغون في معاهد
التعليم الاستقلالي، وهي لم توجد عندنا بعد، لذلك كان كل من ظهر من نابغينا في
هذه العصور الأخيرة - كالسيد الأفغاني والأستاذ الإمام ورياض باشا - من
أصحاب الاستعداد الفطري، وما أتيح له من التوفيق والأسباب العارضة.
ثم بينت أن باحثة البادية لم تصل إلى درجة الطبقة العليا من كتاب العصر،
لا شعرائه ولا خطبائه ولا مصنفيه، بل كانت وسطًا في ذلك، وإنما مزيتها التي
استحقت بها التأبين هي استقلالها بالمذهب الإصلاحي النسائي الذي وجهت قلبها
وعقلها بالدعوة إليه، وأوجزت في بيان مذهبها الذي ذكرته في الترجمة آنفًا، وضاق
الوقت عما كنت عازمًا عليه من شرحه شرحًا علميًّا بالطريقة التي رأيت في الترجمة.
ثم أنشدت قصائد الرثاء، مبتدأةً بقصيدة شاعر العرب الشيخ عبد المحسن
الكاظمي مختتمةً بقصيدة شاعر النيل محمد حافظ بك إبراهيم، وبينهما قصائد
الأساتذة الشيخ أحمد الإسكندري والشيخ مهدي خليل والشيخ أحمد الزين ،
والشاعرين الشهيرين محمد أفندي الهلباوي وأحمد أفندي الكاشف، وبعد انتهاء
الساعة السادسة انفض الاجتماع، ويطبع كل ما قيل في الحفلة وما كتب في الصحف
عقب الوفاة وعقب التأبين مع ما أرسل إلى لجنة الاحتفال مما لم يتسع الوقت لقراءته،
ويجمع في كتاب خاص، فمن عنده شيء منه، فليرسله إلى إدارة مجلة المنار
بمصر.
_________
الكاتب: القلقشندي
أمراء أعراب الشام في القرن الثامن
وما كان يكتب لهم من تقليد الإمارة من سلاطين مصر
جاء في (ص118) من الجزء الثاني عشر من كتاب (صبح الأعشى)
في بيان ما يكتب من الطبقة الأولى من أمراء عربان الشام ما نصه:
تقليد بإمرة آل فضل
وهذه نسخة تقليد بإمرة آل فضل [1] كتب به للأمير شجاع الدين فضل بن
عيسى عوضًا عن أخيه مهنا، عندما خرج أخوه المذكور مع (قراسنقر الأفرم) ومن
معهما من المنسحبين، وأقام (هو) بأطراف البلاد، ولم يفارق الخدمة، في شهور
سنة اثنتي عشرة وسبعمائة من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي ، وهو:
الحمد لله الذي منح آل فضل في أيامنا الزاهرة بحسن الطاعة فضلاً، وقدم
عليهم بتقديم الإخلاص في الولاء من أنفسهم شجاعًا، يجمع لهم على الخدمة ألفةً،
وينظم لهم على المخالصة شملاً، وحفظ عليهم من إعزاز مكان بيتهم لدينا مكانةً،
لا تنقض لها الأيام حكمًا، ولا تنقض لها الحوادث ظلاًّ.
نحمده على نعمه التي شملت ببرنا الحضر والبدو، وألهجت بشكرنا ألسنة
العجم في الشدو والعرب في الحدو، وأعملت في الجهاد بين يدينا من اليعملات ما
يباري بالنص، والعنق الصافنات في الخبب والعدو، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له، شهادة ندرأ بها الأمور العظام، ونقلد بيمنها ما أهم من مصالح الإسلام لمن
يجري بتدبيره على أحسن نظام، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث من أعلى
ذوائب العرب وأشرفها، المرجو الشفاعة العظمى يوم طول عرض الأمم وهول
موقفها، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين كرمت بالوفاء أنسابهم، وأضاءت
بتقوى الله وجوههم وأحسابهم، صلاةً لا تزال الألسن تقيم نداءها، والأقلام ترقم
رداءها، وسلم تسليمًا كثيرًا.
وبعد فإن أولى من أجنته الطاعة ثمرة إخلاصه، ورفعته المخالصة إلى أسنى
رتب تقريبه واختصاصه، وألف بمبادرته إلى الخدمة الشريفة قلوب القبائل
وجمع شملها، وقلده حسن الوفاء من أمر قومه، وإمرتهم ما يستشهد فيه بقول الله
تعالى: {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} (الفتح: 26) من ارتقى إلى أسنى رتب دنياه
بحفظه دينه، ودل تمسكه بأيمانه على صحة إيمانه وقوة يقينه، ولاحظته عيون
السعادة فكان في حزب الله الغالب وهو حزبنا، وقابلته وجوه الإقبال فأرته أن المغبون
من فاته تقريبنا وقربنا، ورأى إحساننا إليه بعين لم يطرفها الجحود، ولم يطرقها
إعراض السعود، فسلك جادة الوفاء، وهي من أيمن الطرق طريقًا، واقتدى في
الطاعة والولاء بمن قال فيهم بمثل قوله: {وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً} (النساء: 69) .
ولما كان المجلس العالي
…
هو الذي حاز من سعادة الدنيا والآخرة بحسن
الطاعة ما حاز، وفاز من برنا وشكرنا بجميل المبادرة إلى الخدمة بما فاز، وعلم
مواقع إحساننا إليه، فعمل على استدامة وبلها واستزادة فضلها، والارتواء من
معروفها الذي باء بالحرمان (منه) من خرج عن ظلها، مع ما أضاف إلى ذلك من
شجاعة تبيت منها أعداء الدين على وجل، ومهابة تسري إلى قلوب من بعد من
أهل الكُفر سوى ما قرب من الأجل - اقتضت آراؤنا الشريفة أن نمد على أطراف
الممالك المحروسة منه سورًا مصفحًا بصفاحه، مشرفًا بأسنة رماحه.
فرسم بالأمر الشريف العالي لا زال يقلد وليه فضلاً، ويملأ ممالكه إحسانًا
وعدلاً، أن يفوض إليه كيت وكيت، لما تقدم من أسباب تقديمه، وأومئ إليه من
عنايتنا بهذا البيت الذي هو سر حديثه وقديمه، ولعلمنا بأولويته التي قطبها
الشجاعة وفلكها الطاعة ومادتها الديانة والتقى وجادتها الأمانة التي لا تستزلها
الأهواء ولا تستفزها الرقى.
وليكن لأخبار العدو مطالعًا، ولنجوى حركاتهم وسكناتهم على البعد سامعًا،
ولديارهم كل وقت مصبحًا، حتى يظنوه من كل ثنية عليهم طالعًا، وليُدم التأهب
حتى لا تفوته من العدو غارة ولا غِرة، ويلزم أصحابه بالتيقظ لإدامة الجهاد
الذي جرب الأعداء (منه) مواقع سيوفهم غير مرة، وقد خبرنا من شجاعته
وإقدامه وسياسته في نقض كل أمر وإبرامه، ما يغني عن الوصايا التي ملاكها
تقوى الله تعالى، وهي من سجاياه التي وصفت وخصائصه التي ألفت وعرفت،
فليجعلها مرآة ذكره وفاتحة فكره، والله تعالى يؤيده في سره وجهره بمنه وكرمه
إن شاء الله تعالى.
***
مرسوم بإمرة آل فضل
وهذه نسخة مرسوم شريف بإمرة آل فضل، كتب بها للأمير حسام الدين
(مهنا بن عيسى) من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي، وهي:
الحمد لله الذي أرهف حسام الدين في طاعتنا بيد من يمضي مضاربه بيديه،
وأعاد أمر القبائل وإمرتهم إلى ما لا يصلح أمر العرب إلا عليه، وحفظ رتبة آل
عيسى باستقرارها لمن لا يزال الوفاء والشجاعة والطاعة في سائر الأحوال
منسوبات إليه، وجعل حسن العقبى بعنايتنا لمن لم يتطرق العدو إلى أطراف البلاد
المحروسة إلا ورده الله تعالى بنصرنا وشجاعته على عقبيه.
نحمده على نعمه التي ما زالت مستحقةً لمن لم يزل المقدم في ضميرنا،
المعوَّل عليه في أمور الإسلام وأمورنا، المعين فيما تنطوي عليه أثناء سرائرنا،
ومطاوي صدورنا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً توجب على
قائلها حسن التمسك بأسبابها، وتقتضي للمخلص فيها بذل النفوس والنفائس في
المحافظة على مصالح أربابها، وتكون للمحافظ عليها ذخيرةً يوم تتقدم النفوس
بطاعتها وإيمانها وأنسابها، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث من أشرف ذوائب العرب أصلاً وفرعًا، المفروضة طاعته على سائر الأمم دينًا
وشرعًا، المخصوص بالأئمة الذين بثوا دعوته في الآفاق على سعتها، ولم يَضِيقوا
لجهاد أعداء الله وأعدائه ذرعًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين حازوا
بصحبته الرتب الفاخرة، وحصلوا بطاعة الله وطاعته على سعادة الدنيا والآخرة،
وعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، فلم يزحزحهم عن ظلها الركون إلى الدنيا
الساحرة، صلاةً تقطع الفلوات ركائبها، وتسري بسالكي طرق النجاة نجائبها،
وتنتصر بإقامتها كتائب الإسلام ومواكبها، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فإن أولى من تلقته رتبته التي توهم إعراضها بأيمن وجه الرضا،
واستقبلته مكانته التي تخيل صدودها بأحسن مواقع القبول التي تضمنت الاعتداد من
الحسنات بكل ما سلف، والإغضاء من الهفوات عما مضى، وآلت إليه إمرته التي
خافت العطل منه، وهي به خالية، وعادت منزلته إلى ما ألِفته لدينا من مكانة
مكينة، وعرفته عندنا من رتبة عالية، مَن أمنت شمس سعادته في أيامنا من
الغروب والزوال، ووثقت أسباب نعمه بأن لا يروع مريرها في دولتنا بالانتقاص
ولا ظلالها بالانتقال، وأغنته سوابق طاعته المحفوظة لدينا عن توسط الوسائل،
واحتجت له مواقع خدمه التي لا تجحد مواقفها في نكاية الأعداء، ولا تنكر شهرتها
في القبائل، وكفل له حسن رأينا فيه بما حقق مطالبه وأحمد عواقبه وحفظ له
وعليه مكانته ومراتبه، فما توهم الأعداء أن برقه خبا حتى لمع، ولا ظنوا أن
ودقه أقلع حتى همى وهمع، ولا تخيلوا أن حسامه نبا حتى أرهفته عنايتنا،
فحيثما حل من أوصالهم قطع، وكيف يضاع مثله وهو من أركان الإسلام التي لا
تنزل الأهواء ولا ترتقي الأطماع متونها، ولا تستقر [2] الأعداء عند جهادها،
واجتهادها، في مصالح الإسلام حسبها ودينها.
ولما كان المجلس العالي
…
هو الذي لا يحول اعتقادنا في ولائه، ولا يزول
اعتمادنا على نفاذه في مصالحنا ومضائه، ولا يتغير وثوقنا به عما في خواطرنا
من كمال دينه وصحة يقينه، وأنه ما رفعت بين يدينا راية جهاد إلا تلقاها عرابة
عزمه بيمينه، فهو الولي الذي حسنت عليه آثار نعمنا، والصفي الذي نشأ في
خدمة أسلافنا، ونشأ بنوه في خدمتنا، والتقي الذي يأبى دينه إلا حفظ جانب الله في
الجهاد بين يدي عزيمتنا وأمام هممنا - اقتضت آراؤنا الشريفة أن نصرح له من
الإحسان بما هو في مكنون سرائرنا ومضمون ضمائرنا، ونعلن بأن رتبته عندنا
بمكان لا تتطاول إليه يد الحوادث، وتبين أن أعظم أسباب التقدم ما كان عليه من
عنايتنا وامتناننا أكرم بواعث.
فلذلك رسم أن يعاد إلى الإمرة على أمراء آل فضل ومشايخهم ومقدميهم،
وسائر عربانهم، ومن هو مضاف لهم ومنسوب إليهم على عادته وقاعدته.
فليجر في ذلك على عادته التي لا مزيد على كمالها، ولا محيد عن مبدئها في
مصالح الإسلام ومآلها، آخذًا للجهاد أهبته من جمع الكلمة واتحادها، واتخاذ القوة
وإعدادها، وتضافر الهمم التي ما زال الظفر من موادها والنصر من أمدادها، وإلزام
أمراء العربان بتكميل أصحابهم، وحفظ مراكزهم التي لا تسد أبوابها إلا بهم، والتيقظ
لمكايد عدوهم، والتنبه لكشف أحوالهم في أرواحهم وغدوهم، وحفظ الأطراف التي هم
سورها من أن تسورها مكايد العدا، وتخطف من يتطرق إلى الثغور من قبل أن يرفع
إلى أفقها طرفًا، أو يمد على البعد إلى جهتها المصونة يدًا، وليبث في الأعداء من
مكايد مهابته ما يمنعهم من القرار ويحسن لهم الفرار، ويحول بينهم وبين الكرى
لاشتراك اسم النوم وحد سيفه في مسمى الغرار.
وأما ما يتعلق بهذه الرتبة من وصايا قد ألفت من خلاله وعرفت من كماله،
فهو ابن بجدتها وفارس نجدتها وجهينة أخبارها وحلبة غايتها ومضمارها، فيفعل من
ذلك كله ما شكر من سيرته وحمد من إعلانه وسريرته، وقد جعلنا في ذلك وغيره من
مصالح إمرته أمره من أمرنا، فيعتمد فيه ما يرضي الله تعالى ورسوله، ويبلغ به من
جهاد الأعداء أمله وسوله، والله الموفق بمنه وكرمه والاعتماد.
***
مرسوم شريف بإمرة آل علي
ثم جاء في (ص124) مما يكتب إلى المرتبة الأولى من الطبقة الثانية ما
نصه:
وهذه نسخة مرسوم شريف بإمرة آل علي، كتب به للأمير عز الدين (جماز)
بعد وفاة والده محمد بن أبي بكر، من إنشاء المقر الشهابي ابن فضل الله، وهي:
الحمد لله الذي أنجح بنا كل وسيلة، وأحسن بنا الخلف عمن قضى في طاعتنا
الشريفة سبيله، ومضى وخلي ولده رسيله، وأمسك به دمعة السيوف في خدودها
الأسيلة، وأمضى به كل سيف لا يرد مضاء مضاربه بحيلة، وأرضى بتقليده كل
عنق وجمّل كل جميله.
نحمده على كل نعمة جزيلة وموهبة جميلة، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له شهادةً ترشد من اتخذ فيها نجوم الأسنة دليلة، وتجعل أعداء الله بعز
الدين ذليلة، وأن محمدًا عبده ورسوله الذي أكرم قبيله، وشرَّف به كل قبيلة،
وأظهر به العرب على العجم، وأخمد من نارهم كل فتيلة، صلى الله عليه وعلى
آله وصحبه صلاةً بكل خير كفيلة، وسلم تسليمًا كثيرًا.
وبعد، فإن دولتنا الشريفة لما خفق على المشرق والمغرب جناحها، وشمل
البدو والحضر سماحها، ودخل في طاعتها الشريفة كل راجل ومقيم في الأقطار
وكل ساكن خيمة وجدار، ترعى النعم بإبقائها في أهلها وإلقائها في محلها، مع ما تقدم
من رعاية توجب التقديم، وتودع بها الصنائع في بيت قديم، وتزين بها المواكب إذا
تعارضت جحافلها وتعارفت شعوبها وقبائلها، واستولت جيادها على الأمد وقد سبقت
أصائلها، وتداعت فرسانها وقد اشتبهت مناسبها ومناصبها ومناصلها، وكانت قبائل
العربان ممن تعمهم دعوتنا الشريفة وتضمهم طاعتنا التي هي لهم أكمل وظيفة، ولهم
النجدة في كل بادية وحضر وإقامة وسفر وشام وحجاز وإنجاد وإنجاز، ولم يزل (لآل
علي) فيهم أعلى مكانة، وما منهم إلا من توسد سيفه وافترش حصانه، وهم من
دمشق المحروسة رديف أسوارها وفريد سوارها، والنازلون من أرضها في أقرب
مكان، والنازحون ولهم إلى الدار بها أقطار [3] وأوطان، قد أحسنوا حول البلاد
الشامية مقامهم، واستغنوا عن المقارعة على الضيفان لما نصبوا بقارعة الطريق
خيامهم [4] وباهوا كل قبيلة بقوم كاثر النجومَ عديدُهم، وأوقدوا لهم في اليفاع نارًا إذا
همى القطر شبتها عبيدهم [5] ، هم من آل فضل حيث كان عليٌّها وحديثه في المسامع
حديثها.
فلما انتهت الإمرة إلى الأمير المرحوم شمس الدين محمد بن أبي بكر - رحمه
الله - جمعهم على دولتنا القاهرة، وأقام فيهم يبتغي بطاعتنا الشريفة رضا الله والدار
الآخرة، ثم أمده الله من ولده بمن ألقى إليه همه، وأمضى به عزمه ونفذ به حكمه
ونفَّل قسمه.
وكان الذي يتحمل دونه مشقات أمورهم، ويتلقى شكاوى آمرهم ومأمورهم،
ويرد إلى أبوابنا العالية مستمطرًا لهم سحائب نعمنا التي أخصب بها مرادهم،
وساروا في الآفاق ومن جدواها راحلتهم وزادهم، وتفرد بما جمعه من أبوته وإبائه،
وركز في كل أرض مناخ مطيه ومرسى خبائه، وضاهى في المهاجرة إلى أبوابنا
الشريفة النجوم في السماء، وحافظ على مراضينا الشريفة فما انفك من نار الحرب إلا
إلى نار القرى. وورد عليه مرسومنا الشريف فكان أسرع من السهم في مضائه، كم
له من مناقب لا يغطي عليها ذهب الأصيل تمويهًا! وكم تنقل من كور إلى سرج،
ومن سرج إلى كور، فتمنى الهلال أن يكون لها شبيهًا، كم أجمل من قومه سيره،
وكم جمل سريره، كم أثمر لها أملاً، كم أحسن عملاً، كم سد خللاً، كم جمع من
مهماتنا الشريفة كل من امتطى فرسًا وركب جملاً، كم صفوف به تقدمت وسيوف
أقدمت حمائم الحمام، وحتوف بها على الأعداء ترنمت.
وكان المجلس السامي الأميري الأجلي الكبيري المجاهدي المؤيدي العضدي
النصيري الأوحدي المقدمي الذخري الظهيري الأصلي، مجد الإسلام والمسلمين،
شرف الأمراء في العالمين، همام الدولة حسام الملة، ركن القبائل ذخر العشائر،
نصرة الأمراء والمجاهدين، عضد الدولة والسلاطين جماز بن محمد - أدام الله نعمته
- هو المراد بما تقدم، والأحق بأن يتقدم، والذي لو أن الصباح صوارم، والظلام
جحافل لتقدم، فلما مات والده رحمه الله نحا إلى أبوابنا العالية، ونور ولائه
يسعى بين يديه، ووقف بها، وصدقاتنا الشريفة ترفرف عليه، فرأينا أنه بقية قومه
الذين سلفوا، وخلف آبائه الذين عن زجر الخيل ما عزفوا، وكبيرهم الذي يعترف له
والدهم ووليدهم، وأميرهم الذي ترعى به عهودهم، وشجرتهم التي تلتف عليه من
أنسابهم فروعها، وفريدهم الذي تجتمع عليه من جحافلهم جموعها.
فرسم بالأمر الشريف أن تفوض إليه إمرة آل علي تامةً عامةً، كاملةً شاملةً،
يتصرف في أمورهم، وآمرهم ومأمورهم، قربًا وبعدًا، وغورًا ونجدًا، وظعنًا
وإقامةً، وعراقًا وتهامةً، وفي كل حقير وجليل، وفي كل صاحب رغاء وثغاء
وصرير وصليل، على أكمل عوائد أمراء كل قبيلة، وفي كل أمورهم الكثيرة
والقليلة.
ونحن نأمر بتقوى الله، فبها صلاح كل فريق، وإصلاح كل رفيق، ونجاح
كل سالك في طريق، والحكم فليكن بما يوافق الشرع الشريف، والحقوق فخلصها
على وجه الحق من القوي والضعيف، والرفق بمن وليته من هذا الجم الغفير
والجمع الكبير، وإلزام قومك بما يلزمهم من طاعتنا الشريفة التي هي من الفروض
اللازمة عليهم، والقيام في مهماتنا الشريفة التي تبرز بها مراسمنا المطاعة إليك
وإليهم، وحفظ أطراف البلاد، والذب عن الرعايا من كل طارق يطرقهم إلا بخير،
والمسارعة إلى ما يرسم لهم به ما دامت الأسفار في عصاها سير، والإفراج لعزتك
لا تسمح به إلا لمن له حقيقة وجود، وله في الخدمة أثر موجود، ومنعهم، فلا
يكون إلا إذا توجه منعهم، أو توانت عزائمهم وقل نفعهم، والمهابة، فانشرها
كسمعتك في الآفاق، ودع بوارق سيوفها تشام بالشام، وديمها تراق بالعراق،
وخيول التقادم، فارتد منها كل سابق وسابقة تهف منهما الرياح، ويحسدهما الطير
إذا طار بغير جناح، ولا تتخذ دوننا لك بطانةً ولا وليجةً، ولا تقطع عنا أخبارك
البهيجة، وليعرف قومه له حقه، ويوقره من التعظيم مستحقه فإنه أميرهم، وأمره من
أمرنا المطاع فمن نازع فقد خالف النص والإجماع، والله تعالى يوفقه ما استطاع،
بمنه وكرمه، والخط الشريف.
_________
(1)
يراجع ما نشرناه عن آل فضل في الجزء الذي قبل هذا.
(2)
لعله: (ولا تستقل) .
(3)
المنار: لفظ (أقطار) هنا لا معنى له، فهو محرف عن (أوطار) أخذًا من قول الشريف
الرضي:
لا يذكر الرمل إلا حن مغترب
…
له بذي الرمل أوطار وأوطان.
(4)
مأخوذ من قول الشاعر:
نصبوا بقارعة الطريق خيامهم
…
يتقارعون على قِرى الضيفان
وبعده:
ويكاد موقدهم يجود بنفسه
…
حب القرى حطبًا على النيران.
(5)
مأخوذ من قول المعري في رائيته:
الموقدون بنجد نار بادية
…
لا يحضرون وفقد العز في الحضر
إذا همى القطر شبتها عبيدهم تحت الغمائم للسارين بالقطر.
الكاتب: محمد رشيد رضا
خلاصة معاهدة الصلح [1]
(2)
الفصل الرابع
في المواد السياسية في خارج أوربا
حقوق ألمانية في خارج أوربة: تتنازل ألمانية في خارج أوربة لدول
الحلفاء والدول المشتركة معها عن جميع الحقوق والامتيازات في البلاد التي لها
أو لحلفائها، وتتعهد أن تقبل التدابير التي تتخذها دول الحلفاء الخمس بشأن ذلك.
المستعمرات والأملاك وراء البحار: تتنازل ألمانية لدول الحلفاء والدول
المشتركة معها عن أملاكها الواقعة وراء البحار، مع كل ما لها من الحقوق
والامتيازات فيها، وتنتقل جميع الأموال المنقولة وغير المنقولة التي للإمبراطورية
الألمانية أو لأية دولة من دولها إلى الحكومة التي تكون صاحبة السلطة هناك، ولهذه
الحكومات أن تتخذ ما تستصوب من التدابير لإرجاع الرعايا الألمان من هناك إلى
أوطانهم، والشروط التي تشترط على الرعايا الألمان من سلالة أوربية إذا أرادوا
البقاء وامتلاك الأملاك والاتجار، وتتعهد ألمانية بأن تعوض من الخسارة التي
أصابت الرعايا الفرنسويين في الكمرون أو على حدودها بفعل ولاة الأمور الألمان
الملكيين والعسكريين والأفراد الألمان من أول يناير 1900 إلى 1 أغسطس 1914 ،
وتتنازل ألمانيا عن جميع الحقوق التي اكتسبتها باتفاق 4 نوفمبر 1911 و28 سبتمبر
1912 ، وتتعهد بأن تدفع إلى فرنسا جميع الودائع والحسابات والسُّلف التي حصلت
عليها بموجب هذين الاتفاقين، وذلك بحسب التقدير الذي تقدره لجنة التعويض،
وتتعهد ألمانيا بأن تقبل وتنفذ النصوص التي تضعها دول الحلفاء، والدول المشتركة
معها للاتجار بالسلاح، والمعسكرات في أفريقية، وعقد برلين العام 1885 وعقد
بروكسل العام 1810 أما الحماية السياسية لأهالي المستعمرات الألمانية السابقة فتناط
بالحكومات التي تدير أمور تلك المستعمرات.
الصين: تتنازل ألمانية للصين عن جميع الامتيازات والغرامات التي نالتها
باتفاق البوكسر المبرم سنة 1901 ، وعن جميع المباني والأرصفة والقشلاقات
والحصون وذخيرة الحرب والبواخر وآلات التلغراف اللاسلكي، وسائر الأملاك
العمومية - ما عدا المباني التي للوكالة السياسية والقنصلية - في منطقة امتياز الألمان
في نيان تسن وهنكو ، وفي سائر الأملاك الصينية ما عدا كياوتشو وتقبل أن ترد على
حسابها إلى الصين جميع الآلات الفلكية التي أخذتها سنة 1900 ، وسنة 1901 على
أن الصين لا تتخذ إجراءات للتصرف بالأملاك الألمانية في حي السفارات في بكين
من غير رضا الدول الموقعة لاتفاق البوكسر، وتقبل ألمانيا إلغاء امتيازاتها في
هنكووتسيان تسن، وتقبل الصين أن تفتحهما لاستعمال الأمم، وتتنازل ألمانية عن كل
دعوى على الصين أو أية دولة أخرى من دول الحلفاء والدول المشتركة معها في ما
يختص باعتقال رعاياها في الصين، أو إخراجهم منها، أو ضبط المصالح الألمانية،
أو تصفيتها هناك في 14 أغسطس سنة 1917 ، وتتنازل بريطانية العظمى عن
أملاكها في منطقة الامتياز البريطاني في كنتون ، ولفرنسا والصين معًا عن ملكية
المدرسة الألمانية في منطقة الامتياز الفرنسوي في شنغاي.
سيام: تعترف ألمانية بأن جميع الاتفاقات المبرمة بينها وبين سيام ، وفي
جملتها حقوق الامتيازات الأجنبية زالت من 22 يونيو 1917، وأن جميع الأملاك
العمومية الألمانية في سيام تنتقل ملكيتها إلى سيام بلا عوض ما عدا دور الوكالة
السياسية والقنصليات، أما الأملاك الألمانية الخصوصية فتعامل طبقًا لنصوص
المواد الاقتصادية (في المعاهدة) وتتنازل ألمانية عن كل دعوى لها على سيام
تختص بضبط بواخرها ومصادرتها وتصفية أملاكها وأموالها واعتقال رعاياها.
ليبريا: تتنازل ألمانية عن جميع الحقوق التي اكتسبتها بالاتفاقات الدولية التي
أبرمت في 1911 - 1912 بشأن ليبريا ، ولا سيما الحق في تعيين سنديك
للجمارك، ولا تدخل في كل مفاوضة مقبلة لإرجاع ليبريا إلى سابق منزلتها، وتعد
في حكم المقوض جميع المعاهدات التجارية والاتفاقات المبرمة بينها وبين ليبريا،
وتعترف بحق ليبريا في تعيين شروط إقامة الألمان في بلادها ومنزلتهم فيها.
المغرب الأقصى: تتنازل ألمانية عن جميع الحقوق والامتيازات التي نالتها
بعقد الجزيرة ، والاتفاقات الفرنسوية الألمانية في سنة 1909 وسنة 1911،
وبجميع المعاهدات والاتفاقات التي أبرمتها مع السلطة الشريفية (المغربية)
وتتعهد بأن لا تتعرض لأية مفاوضة تدور على المغرب الأقصى بين فرنسة وسواها
من الدول، وتقبل جميع النتائج الناتجة عن الحماية الفرنسوية هناك، وتتنازل عن
امتيازاتها الأجنبية، ويكون للحكومة الشريفية الحرية التامة في التصرف نحو
الرعايا الألمان، ويكون جميع الأشخاص المشمولين بالحماية الألمانية خاضعين
لقانون البلاد، ويجوز أن تباع جميع الأموال الألمانية المنقولة وغير المنقولة، وفي
جملتها حقوق التعدين بالمزاد العلني، ويعطى الثمن للحكومة الشريفية، ويخصم من
المطلوب لها من التعويض، وعلى ألمانية أيضًا أن تتخلى عن مصالحها في بنك
الدولة في المغرب الأقصى، وتتمتع جميع البضائع المغربية التي تدخل ألمانية
بالامتيازات التي للبضائع الفرنسوية.
مصر: تعترف ألمانية بالحماية البريطانية التي بسطت على مصر في 28
ديسمبر 1914 ، وتتنازل اختيارًا من 4 أغسطس 1914 عن الامتيازات الأجنبية
فيها، وعن جميع المعاهدات والاتفاقات المبرمة بينها وبين مصر ، وتتعهد أن
لا تتعرض لأية مفاوضة تدور على مصر بين بريطانيا العظمى والدول الآخرى.
وفي هذا القسم نصوص تختص بالقوانين التي تسري على الرعايا الألمان
والأموال الألمانية، وعلى قبول ألمانية لكل تغيير يعمل في مجلس صندوق الدين،
وتقبل ألمانية أن تنتقل إلى بريطانيا العظمى السلطة التي كانت ممنوحةً لسلطان
تركيا السابق لضمان حرية الملاحة في قنال السويس، والإجراءات التي تتبع في
أموال الرعايا الألمان في مصر جعلت مشابهةً للإجراءات المتبعة في المغرب
الأقصى وسواه من البلدان، وتعامل البضائع المصرية الإنكليزية التي تدخل
ألمانية، بمثل المعاملة التي تعامل بها البضائع البريطانية.
تركية وبلغارية: تقبل ألمانية جميع التدابير التي تتخذها دول الحلفاء
والدول المشتركة معها مع تركية وبلغارية في ما يختص بالحقوق والامتيازات
والمصالح التي تطالب ألمانية أو رعاياها بها في تينك البلدين، ولم ينص عليها في
مكان آخر.
شانتنغ: تتنازل ألمانية عن جميع الحقوق والامتيازات التي لها، ولا سيما
في كياوتشا، وعن سكك الحديد والمناجم والأسلاك التلغرافية البحرية التي أحرزتها
بالمعاهدة التي أبرمتها مع الصين في 6 مارس 1898 وباتفاقات أخرى.
أما في شانتنغ ، فجميع حقوق ألمانية على سكة الحديد من تسنغ ثاو إلى تسن
انفو ، وفي جملتها حقوق التعدين، وحقوق الاستغلال تنتقل إلى اليابان أيضًا،
وكذلك أسلاك التلغراف البحري الممتدة من تسنغ ثاو إلى شنغاي وشيفو ، فهذه أيضًا
تنقل إلى ملكية اليابان بلا مقابل، وتستولي اليابان على جميع أملاك الدولة الألمانية
المنقولة وغير المنقولة في كياوتشا، بلا مقابل.
الفصل الخامس
في الشروط العسكرية البرية والبحرية والجوية
إنه توطئة للشروع في إنقاص سلاح الأمم إنقاصًا عامًّا تتعهد ألمانية مباشرةً
بأن تسير على المواد العسكرية البرية والبحرية والجوية التالية، وهي:
الشروط البرية: تنص الشروط العسكرية البرية على تسريح الجيوش
الألمانية، وتنفيذ القيود العسكرية الأخرى بعد إمضاء المعاهدة بشهرين (ويكون
ذلك الخطوة الأولى نحو نزع السلاح الدولي) وتلغى الخدمة العسكرية الإجبارية
في بلاد ألمانية، وتدخل قوانين للتجنيد على قاعدة التطوع في قوانين ألمانية
العسكرية، تقضي بتجنيد صف الضباط والجنود لمدة لا تقل عن 12 سنةً متواليةً،
وتشترط أن يخدم الضباط 25 سنةً، ولا يحالوا إلى المعاش قبل أن يبلغوا
الخامسة والأربعين، ولا يسمح بإنشاء احتياطي من الضباط الذين خدموا في الحرب،
ويكون مجموع رجال الجيش الألماني مائة ألف لا يزيد عدد الضباط فيهم على
أربعة آلاف، ولا يجوز تأليف قوة عسكرية غير هذه القوة، ويمنع منعًا خاصًّا
زيادة موظفي الجمارك والغابات أو البوليس، وتعليمهم تعليمًا عسكريًّا، وتكون
وظيفة الجيش الألماني صون النظام الداخلي ومراقبة الحدود، وعلى قيادته العليا
أن تحصر عملها في المهام الإدارية، ولا يسمح بأن يكون لها هيئة أركان حرب
عامةً، وينقص عدد المستخدمين الملكيين في وزارة الحربية والمصالح المشابهة
لها إلى عُشر ما كان في سنة 1913 ، ولا يجوز أن يكون لألمانية أكثر من سبع
فرق من المشاة، وثلاث فرق من الفرسان ، وفيلقين من أركان الحرب، ويقفل ما
يزيد عن حاجة الجيش من المدارس العسكرية ومدارس الضباط، وتلاميذ
المدارس الحربية إلخ، ويقتصر في قبول التلاميذ الذين يعينون ضباطًا على سد
المناصب التي تفرغ في الجيش.
أما صنع السلاح والذخيرة ومهمات الحرب في ألمانية، فيقتصر فيه على بيان
يبنى على قاعدة المقدار اللازم لجيش، كالجيش المتقدم، ولا يجوز إنشاء احتياطي من
السلاح والذخيرة، فجميع الأسلحة والمدافع والمهمات الموجودة فوق الحد المعين
يجب أن تسلم إلى الحلفاء للتصرف فيها، ولا يجوز لألمانية أن تصنغ غازات سامةً،
ولا سوائل ناريةً، ولا يسوغ لها استيرادها، ولا يجوز لها أن تصنع دبابات ولا
أتوموبيلات مدرعةً، وعلى الألمان أن يبلغوا الحلفاء أسماء جميع المصانع التي
تصنع الذخيرة والسلاح، ومواقعها وبيان مصنوعها؛ لأجل الحصول على موافقة
الحلفاء عليها، ويجب إلغاء الترسانات التي لحكومة ألمانية، وصرف مستخدميها،
وأما الذخيرة التي تصنع لاستعمالها في الاستحكامات فتقتصر على 1500 طلقة لكل
مدفع من المدافع التي من عيار 10.5 سنتمتر فما دون و 500 طلقة لكل مدفع من
المدافع التي هي أكبر من ذلك، ويحظر على ألمانية أن تصنع السلاح والذخيرة لبلدان
أجنبية، واستيرادها من الخارج، ولا يجوز لألمانية أن تحافظ على الاستحكامات، أو
تنشئ استحكامات في أرض ألمانية واقعة على أقل من خمسين كيلو مترًا شرقي
الرين ، ولا يجوز لها أن تُبقي في الشقة المذكورة قوات مسلحةً، لا دائمةً ولا وقتيةً،
ويحافظ على الحالة الحاضرة في ما يختص بالحصون القائمة على الحد الجنوبي
والشرق الأصلي للإمبراطورية الألمانية، ولا يجوز إقامة المناورات العسكرية في
(الشقة المذكورة) ولا إنشاء مبانٍ دائمة للمساعدة على تعبئة الجيش، ويجب نزع
السلاح من الاستحكامات في خلال ثلاثة أشهر بعد المعاهدة.
الشروط البحرية: تنص الشروط البحرية على أنه في خلال شهرين لا يجوز
أن تتجاوز قوات ألمانية البحرية ست بوارج من طراز (ديتشليندا ولوترنجن) وستة
طرادات خفيفة، و12 مدمرةً، و12 نسافةً، أو ما يساوي هذا العدد من السفن التي
تحل محلها، ولا يجوز أن يكون في هذه القوات البحرية غواصات، أما سائر
البوارج فتوضع في الاحتياطي أو تخص بالأعمال التجارية، ويجوز لألمانية
أن تُبقي على قدم الاستعداد عددًا معينًا من السفن التي تلتقط الألغام إلى أن يتم التقاط
الألغام في بعض المناطق المعينة في البحر الشمالي وبحر البلطيق، وبعد انقضاء
شهرين (على إمضاء المعاهدة) لا يجوز أن يتجاوز مجموع رجال الأسطول
الألماني 15 ألفًا، منهم 1500 من الضباط وصف الضباط على أعظم تقدير،
وتسلم (إلى الحلفاء) نهائيًّا جميع البوارج الألمانية التي تسير على سطح الماء،
والمعتقلة في موانئ الحلفاء أو المحايدين، وفي خلال شهرين تسلم في موانئ
الحلفاء بوارج ألمانية أخرى مبينة في المعاهدة، وهي راسية الآن في الموانئ
الألمانية، ويجب على الحكومة الألمانية أن تتعهد بتحطيم جميع البوارج الألمانية
التي تسير على سطح الماء، والتي لم يتم صنعها حتى الآن، وأما الطرادات
المحولة ونحوها فينزع سلاحها، وتُعَد بواخر تجاريةً، وبعد شهر تسلم في موانئ
الحلفاء جميع الغواصات الألمانية والبواخر المستعملة لإخراج الغارق، والحياض
الخاصة بالغواصات والتي يمكن أن تسير في البحر بعددها، أو التي يمكن قطرها
وأما الباقي وما لا يزال يصنع في دور الصنعة، فيجب على ألمانية أن تحطمه
في خلال ثلاثة أشهر، ولا يجوز لألمانيا أن تستعمل حطام هذه السفن إلا للأغراض
الصناعية، ولا يجوز بيعها لبلدان أجنبية إلا بشروط معينة لتعويضها، ويحظر
على ألمانية أن تبني أو تحرز بوارج، ويحظر عليها أن تبني أو تحرز غواصات،
والبوارج التي تبقى لها تعطى قدرًا معينًا من السلاح والذخيرة والمهمات الحربية،
وأما ما يفضل من السلاح والذخيرة والمهمات الحربية، فيسلم ولا يجوز لألمانية خزن
شيء منه أو إنشاء احتياطي.
ويجب أن يؤخذ رجال الأسطول الألماني بالتطوع التام، ولا تقل مدة الخدمة
للضباط وصف الضباط عن 25 سنةً متواليةً، وأما صغار صف الضباط أو البحارة،
فمدة الخدمة لهم لا تقل عن 12 سنةً متواليةً بقيود مختلفة.
ولأجل ضمان سلامة الدخول إلى بحر البلطيك لا يجوز لألمانية أن تنشئ
حصونًا في بقاع معينة، ولا أن تنصب مدافع تشرف على الطرق البحرية بين
البحر الشمالي والبلطيك، ويجب عليها أن تهدم (المعاقل) الاستحكامات القائمة
في تلك البقاع وتنزع ما فيها من المدافع ، وأما سائر الحصون الواقعة على بعد
50 كيلو مترًا من شاطئ ألمانية أو القائمة على جزر ألمانية فهذه تبقى؛ لأنها
دفاعية، ولكن لا يجوز إنشاء حصون جديدة، ولا زيادة السلاح في الموجود منها
والحد الأعلى لما يخزن من الذخيرة في هذه المعاقل هو 1500 طلقة للمدفع
الواحد من عيار 1، 4 بوصة فما دون، و500 طلقة لكل مدفع من المدافع التي
هي أكبر من هذا.
ولا يجوز استعمال محطات التلغراف اللاسلكي الألمانية في ناون وهنوفر
وبرلين لإرسال تلغرافات بحرية وعسكرية أو سياسية من غير رضاء الحلفاء،
والدول المشتركة معهم في مدة ثلاثة أشهر، وإنما يجوز استعمالها لأغراض تجارية
تحت المراقبة، وفي هذه المدة لا يجوز لألمانية أن تنشئ محطات كبيرةً أخرى
للتلغراف اللاسلكي، ويجوز لها أن ترمم الأسلاك التلغرافية البحرية التي قطعت،
والتي لا يستعملها الحلفاء، وكذلك أجزاء الأسلاك البحرية التي نقلت بعد قطعها،
والتي لا ينتفع بها الآن، وفي هذه الأحوال تظل الأسلاك المذكورة أو القطع التي
نقلت أو التي استعملت ملكًا للحلفاء والدول المشتركة معهم، وبناءً على ذلك فإن
14 سلكًا، أو أجزاء أسلاك عينت في هذه المادة لا ترد إلى ألمانية.
الشروط الجوية: تنص الشروط الجوية على أن لا يكون في قوات ألمانية
المسلحة أسلحة طيران عسكري أو بحري، ولكن يسمح لها أن تُبقي عندها ما لا
يزيد على 105 طيارة بحرية غير مسلحة لغاية أول أكتوبر 1919 تستعمل للبحث
عن الألغام تحت سطح الماء فقط، ويسرح جميع رجال سلاح الطيران في ألمانية
خلال شهرين ما عدا 1050 رجل بينهم الضباط يجوز إبقاؤهم إلى أكتوبر، وتتمتع
طيارات الحلفاء والدول المشتركة معهم بحرية المرور فوق أملاك ألمانية والنزول
فيها، والنزول في منطقة المياه المحلية التي لها إلى أول يناير 1923 ، إلا إذا كانت
ألمانية قد سبق فقُبلت قبل هذا التاريخ في جمعية الأمم أو سُمح لها بالعمل باتفاق الجو
الدولي، ويحظر صنع الطيارات أو أجزائها في جميع أنحاء ألمانية لمدة ستة أشهر،
وتسلم جميع الطيارات العسكرية والبحرية والبلونات المسيرة ومهمات الطيران إلى
الحلفاء والحكومات المشتركة معهم في خلال ثلاثة أشهر إلا الطيارات البحرية المائة
التي تقدم ذكرها.
شروط عمومية: وتنص الشروط العمومية على تعديل القوانين الألمانية
لتصير مطابقةً للمواد المتقدمة، وعلى ألمانية أن تنفذ جميع المواد الواردة في
المعاهدة تحت مراقبة لجنة دولية من الحلفاء يعينها الحلفاء والحكومات المشتركة
معهم، وعلى الحكومة الألمانية أن تمد هذه اللجنة بجميع التسهيلات ونفقات
مصروفاتها، وأما مهمة اللجان العسكرية، والبحرية، والجوية التي للمراقبة، فقد
نص عليها بالتفصيل.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
تابع لما نشر في الجزء الثالث.
الكاتب: محمد رشيد رضا
فائدة في هدي القرآن
في المعاهدة
من عجائب حِكم القرآن وعلومه أن كل زمان يظهر منها ما لم يكن ظاهرًا فيما
قبله كظهوره فيه، كما فصلناه في تفسير قوله تعالى: {قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن
يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ
بَعْضٍ} (الأنعام: 65) ، ومن هذا القبيل قوله تعالى بعد الأمر بالإيفاء بعهد الله من
سورة النحل: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ
دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} (النحل: 92) إلى قوله: {وَلَا
تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} (النحل: 94) الآية، الأيمان
بالفتح: العهود والمواثيق، والدَّخَل بالتحريك: ما دخل الشيء من أسباب الفساد،
كالخديعة والحيلة، والعبارات التي يراد تأويلها، وتحريفها عن ظواهرها في العهود
وسنبين ذلك بالتفصيل إن شاء الله تعالى.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
المسألة السورية والأحزاب
بينما كان العرب في سورية والعراق يُمنون أنفسهم بالنجاة من طغيان
الطورانيين ، وما سامهم جلادهم جمال باشا وغيره من سوء العذاب إلى نعيم
الاستقلال الصحيح والحرية التامة، ويتلذذون بما يقرءون في المنشورات والجرائد
التي تنقلها إليهم العيون، أو تنثرها عليهم الطيارات (كالقبلة والمقطم والكوكب) كان
السير مارك سايكس والموسيو بيكو (صديقا العرب) يضعان أصول الاتفاق بين
دولتيهما على اقتسام هذه البلاد بينها، ويضعان لها خارتةً [1] تحدد منطقة كل قسم
منها، كما فعل غيرها من رجال دول الأحلاف في بلاد الترك أيضًا، وقد كان أول
من كشف النقاب عن أسرار هذه المعاهدات السرية، أحرار الروس لما أسقطوا
حكومتهم القيصرية ونشروا أسرارها المطوية.
وقد اشتهر أمر معاهدة تقسيم ولايات سورية والعراق بين فرنسة وإنكلترة ،
وكثر كلام الجرائد الأوربية والعربية فيه، ولما ظهرت شروط الرئيس ولسن
واتفقت الدول المتحاربة على جعلها أساسًا للصلح باعتبار ما فسرها من خطبه التي
نشرنا أهمها من قبل، كان يُظَن أنها تنسخ هذه المعاهدة ونظائرها من المعاهدات
السرية التي وضعت لاستيلاء الأقوياء على بلاد الضعفاء نسخًا تامًّا، ولكننا
وجدنا أن عهد عصبة الأمم الذي يحسب الرئيس ولسن أنه غيَّر به نظام الدول
والأمم، ونقل البشر من طور سافل إلى طور عالٍ من الحرية والسلام - قد أجاز
تقسيم بلاد الشعوب الضعيفة بين الأقوياء، بشرط أن يسمى تصرف كل دولة فيما
تأخذه منها وصايةً وتوكيلاً، لا حمايةً ولا امتلاكًا ولا استعمارًا، وزاد على ذلك أن
الشعوب الراقية من أولئك الضعفاء التي يعترف باستقلالها مؤقتًا بشرط قبول هذه
الوصاية (أي: بشرط أن لا تكون مستقلةً) يسمح لها بأن يكون لها صوت في اختيار
الدولة الموكلة بها؛ ليكون ذلك حجةً عليها، وإذا احتج الضعيف على هذا بأنه مناقض
لما قاله ولسن وأمثاله من كبار رجال دول الحلفاء من أن أحد أغراضهم الرئيسية من
الحرب تحرير الشعوب المغلوبة واستقلالها، إذ هو عبارة عن وضع اسم جديد
للاستعمار والاستعباد يخدع الجاهلين ويصرفهم عن المقاومة - قال له من عساه
يتعطف بالجواب: ليس المراد من تحرير الشعوب غير الأوربية جعلها حرةً
كالأوربيين، كما يفهم البلداء الذين يفسرون الألفاظ بما يرونه في معاجم اللغة المخالفة
لمعاجم السياسة، وإنما المراد منه إنقاذها من حكامها الظالمين، وجعلها تحت سيادتنا
العادلة التي هي أفضل للشعب الضعيف من الحرية المطلقة التي لا يقدر على القيام
بأعبائها وشؤونها، وإذا كان ما قارب الشيء يُعطى حكمه، فما القول في ما هو أفضل
منه؟
فإذا قيل: إن صحت هذه النظرية، فاسترقاق الراقين في الحضارة من
الأفراد لمن دونهم خير لهم من الحرية، فلماذا تحرمون استرقاقهم؟ ثم لماذا تبيحون
حرية الفسق والفجور للشعوب الجاهلة، وأنتم ترون ما يجني عليها فشو الزنا
والسكر من الأمراض والفقر وفساد البيوت (العائلات) والأمة؟ إن قيل هذا سكت
لسان المقال، وصاح لسان الحال:
قتل امرئ في غابة
…
جريمة لا تغتفر
وقتل شعب آمن
…
مسألة فيها نظر
كان أولو الإلمام بالسياسة من السوريين يعتقدون منذ آذن دول الحلفاء الدولة
العثمانية بالحرب، أن انتصارهم يفضي إلى تقسيم بلادها بينهما على قاعدة مطامعهم
القديمة فيها بأن تكون الآستانة لروسية وسورية لفرنسة، والعراق لإنكلترة، ولم
تكن أقوال رجال السياسة منهم أنهم يبغون تحرير الأمم والشعوب مضعفةً
لاعتقادهم هذا، ولكن منهم مَن حسَّن الظن بالرئيس ولسن إذ نادى بهذه الحرية
وبوجوب تعميمها وتعميم العدل وعدم التفرقة بين من يجب أن يعدل فيهم، إذ
حسبوا ذلك ناسخًا لما جرت عليه أوربة من وجوب حصر حرية الشعوب في
أقوامها دون الشعوب الآسيوية والأفريقية، ومنهم من لم يحسن الظن به، ولم
يفضله على ساسة أوربة في شيء، وربما كان هؤلاء السيئو الظن هم الأقلين من
أهل الإلمام بالسياسة، وكان سائرهم على رأي عامة شعبهم، وعامة سائر الشعوب
من حسن الظن والرجاء، إلى أن ظهر عهد عصبة الأمم فقال المتمرسون
بالسياسة: إن قواعد ولسن وخطبه لم تأت بشيء جديد إلا زيادة كليمات في معجم
السياسة الخادع، وظل أكثر العامة يفهمون أن المراد من مساعدة الدول الموكلة
للشعوب ليس إلا عبارةً عن إمدادها بما يعوزها من المال والسلاح وغيره كما
يرون من مساعدة إنكلترة لحكومة الحجاز الموالية لها.
هذا، وإن من المعلوم المشهور أن لكل من الفرنسيس والإنكليز صنائع
وأولياء من السوريين يلقون إليهم بالمودة، فطائفة من الموارنة من صنائع فرنسة
وأوليائها، ولها أفراد من الطوائف أخرى قد اجتهد رجالها في تكثير عددهم بعد
احتلال سورية، وطائفة من الدروز من صنائع إنكلترة وأوليائها، وكذلك اليهود
صاروا من أوليائها بوعدها إياهم بجعل بيت المقدس وما حوله من سورية
الجنوبية وطنًا قوميًّا لهم، يرجون أن يستعيدوا فيه ما فقدوا من الملك، وقد استمال
رجالها بعد احتلال هذه البلاد كثيرًا من أفراد الطوائف الأخرى، واستمال إليها
الأمير فيصل كثيرًا من المسلمين، زد على ذلك أن جمهور المتعلمين بالمدارس
الفرنسية يفضلون فرنسة على إنكلترة، والمتعلمين بالمدارس الإنكليزية والأمريكانية
يفضلون أمريكة وإنكلترة على فرنسة، وللدين والمذاهب تأثير عظيم في تفضيل دولة
على دولة وأمة على أمة، ودعاة الدين والمذاهب ما زالوا يتبارون في جذب قلوب من
يربونهم ويعلمونهم في مدارسهم إلى أنفسهم، وينفرونها من المخالفين لهم.
لم يكن للدولة التركية أدنى عناية بمقاومة دعاة النفوذ الأجنبي في بلادها، ولا
اهتمام بمعارضته بمثله فيها، ولا في بلاد أولئك الأجانب أو مستعمراتهم بالأولى،
وليس لغيرها من أمم المشرق الإسلامية ولا غيرها دولة ولا إمارة لها دعاة
يستميلون الناس باسم الدين، ولا باسم الحضارة ولا المصالح، لهذا كان الذين
ينفرون من الترك بالتأثير الأجنبي أو بسبب الظلم وسوء الإدارة - والذين
يتوقعون إفضاء ما عليه الترك من سوء الإدارة إلى سقوط دولتهم، واقتسام الدول
الكبرى لها - لم يكن أحد من هؤلاء ولا أولئك يفكر في مستقبل بلاده، ولا تتمثل
له إحدى الدول الأوربية الطامعة مسيطرةً عليها، متمتعةً بخيراتها، مستخرجةً
لكنوزها.
كان الأمر كذلك إلى أن قام الاتحاديون الطورانيون من الترك ببث دعوة
الجنسية التركية، ومحاولة تتريك جميع الخاضعين لحكمهم من الأجناس الأخرى
بالقوة القاهرة، حتى دَعُّوا هذه الأجناس دعًّا إلى المحافظة على جنسياتها، وإحياء
ما أماته الجهل والإهمال من لغاتها، ثم إلى التفكر في حريتها واستقلالها، فلما
اتخذ الاتحاديون الحرب ذريعةً إلى تنفيذ خطتهم في القضاء على العرب في سورية
والعراق بالقوة القاهرة، وشرعوا ينكلون بهم تقتيلاً وتصليبًا وتغريبًا ومصادرةً
وتخريبًا - كما فعلوا بالأرمن والروم - واشتعلت نار الثورة العربية في الحجاز ،
وانضوى أميره إلى دول الأحلاف المحاربة للترك والجرمان - تعلقت آمال السوريين
الذين يسامون سوء العذاب في سورية وغيرهم من العراقيين بأن تكون لهم دولة
عربية، يكون المؤسس لها ملك الحجاز، وكان النصارى كالمسلمين في تمني ذلك؛
لأن الشدائد التي ذاقوها بأنهم عرب قد أزالت كل خلاف وشقاق كان بينهم.
ولما احتل الحلفاء سورية بعد جلاء الترك عنها، وأخذ جزء من جنوبيها عنوةً
أقاموا فيها ثلاث حكومات عسكريةً على قاعدة معاهدة سنة 1916: حكومة
إنجليزية في سورية الجنوبية (فلسطين) لأنها منطقة إنكلترة، وحكومة فرنسية
في سواحل سورية الشمالية؛ لأنها منطقة فرنسة، وحكومة عربية في الداخلية؛
لأنها منطقة العرب، وكانت كل حكومة تبث نفوذها في منطقتها حتى اعتقد
المتمرسون بالسياسة من أهل البلاد في كل منطقة أنها صارت ملكًا خالصًا لمحتلها،
مهما يكن الاسم الذي يسمى به هذا الملك، وكانت كل حكومة تشدد في منع الاتصال
بين كل قسم من سورية وبين مصر بشدة المراقبة على البريد، وشدة التدقيق في
منع السفر من أحد القطرين إلى الآخر، إلا لمن يوثق بمشايعته للحلفاء في سياستهم
ثم لمن يوثق بأنه لا يخالفهم ولا يشتغل بسياسة غير سياستهم، ذلك بأن من في
مصر أجدر بمعرفة حقائق السياسة وخفاياها من أهل سورية وسائر أقطار الشرق
الأدنى، ولكن الأخبار والأفكار كانت تنقل بالتدريج بتلقين بعض ضباط الجيش
العربي وغيرهم من خدمة الحكومة العربية الذين كانوا يترددون بين مصر والحجاز
وسورية، ثم بتلقين غيرهم، وبما كان يحمل كل من الرسائل، فعرف بذلك
الكثيرون من أهل سورية حقائق المسائل، وكان مما ترتب عليه قوة رجائهم بما
يحبون من الاستقلال التام، وضعف أملهم وتغير رأيهم في ارتباط سورية بحكومة
الحجاز، فلم يعد يرغب في هذا أحد يعتد به من الذين عرفوا حقيقة الحال، ولكن
الأمير فيصلاً نجح بلطفه وسخائه وبمظاهرة الإنكليز له في تأليف حزب كبير يرغب
في جعله ملكًا لسورية مستقلة.
***
الأحزاب السورية
من فقه ما تقدم لم يعجب مما يراه من كثرة اختلاف السوريين في أمر بلادهم،
كما يعجب من لا يعرف من شؤونهم سوى الظواهر التي تتجلي له في جرائدهم
ومجلاتهم، وبراعتهم في التجارة بمصر وأوربة والممالك الأميركية، وإدارتهم
لبعض أعمال الحكومة المصرية، والسودانية.
قال عالم أوربي لشاب سوري من تلاميذه: إنني وقفت على كثير من شؤون
السوريين الاجتماعية وغيرها، وحضرت بعض أنديتهم ومحافلهم، فلم أر بيننا
وبينهم فرقًا يذكر؛ لهذا أخذ مني العجب مأخذه، لما علمت أن كثيرًا منهم يطلبون
أن يكون وطنهم تحت حماية أو وصاية أجنبية، هذه خطة خسف وضِعة لا
يرضى لنفسه بمثلها من نعلم أنهم أدنى من السوريين في كل علم وعمل، وأقل
شعورًا بمعنى الحرية والشرف. ولو علم هذا العالِم أن مصدر هذا الخسف
والضعة بعض أولئك الذين إذا رآهم تعجبه أجسامهم، وإن يقولوا يسمع لقولهم، دون
الجمهور السوري الأعظم الذي لم يسلبه التفرنج ولا التعصب الديني ما عرف
به السوريون وسائر العرب من الشمم والإباء، ثم علم سائر ما أشرنا إليه من
أسباب الخلاف - لما احتقر السوريين كافةً بما صدر عن الأقلين منهم بعذر من
الأعذار التي أشرنا إليها في هذا المقال أو بغير عذر.
من جراء ذلك ألف السوريون في البلاد وفي الممالك الأمريكية ومصر
عدة أحزاب وجمعيات كلها تطلب الاستقلال لسورية برمتها متحدةً غير متجزئة،
ومنها فلسطين ولبنان، إما وحدها وإما متحدة مع العراق وجزيرة العرب، وبعض
اللبنانيين منهم يطلب أن يكون لبنان مملكةً مستقلةً، ويُضَم إليه معظم ولاية بيروت
وجزء من ولاية الشام مما يكثر فيه النصارى بحيث يكون أكثر الأهالي منهم، فتكون
البلاد السورية مملكتين: الساحلية منهما مسيحية، والداخلية إسلامية. بهذا صرح لي
بعض كبرائهم، وأدبائهم، فما الظن بما يصرح به بعضهم لبعضهم؟ ثم إن طلاب
الاستقلال لسورية من هؤلاء السوريين المهاجرين منهم من يطلبه تامًّا مطلقًا ناجزًا،
كحزب الاتحاد السوري بمصر وبعض الأحزاب والجمعيات في الممالك الأمريكية
الموافقة لهذا الحزب، ومنهم من يطلب استقلالها إداريًّا تحت وصاية إحدى الدول
الأوربية الكبرى، أو الولايات المتحدة.
وأما السوريون الذين في البلاد، فالسواد الأعظم منهم كانوا يطلبون الاستقلال
المطلق الناجز مع الارتباط بالوحدة العربية التي يرغبون أن تتألف من جميع
الولايات العربية العثمانية على قاعدة اللامركزية، وقد بثت فيهم دعوة طلب
الوصاية الأجنبية باسم المساعدات، فراجت بين الكثيرين لاعتقادهم أنها عبارة
عن مساعدة بالمال لا تنافي الاستقلال، لا بتشريع ولا بتنفيذ، فلما فهموا المراد
منها نبذها الأكثرون.
أول حزب ألف بمصر (حزب الاتحاد السوري) وكان أعضاؤه المؤسسون من
المسلمين والنصارى والدروز، وأساس برنامجه الاستقلال التام الناجز، والمراد
بالناجز: الحال، ويقابله الاستقلال المستقبل الذي يتوقف على مساعدة أجنبية، ترشح
الشعب له وتقوده إليه، إن كانت تريد ذلك، وإنما فسرناه لأن بعض الناس لم يفهم
المراد منه، حتى قالت إحدى الجرائد السورية: إن المراد بالناجز: التام، فحسبته
تأكيدًا للتام، والمراد بالتام: ما يشمل السياسي والاقتصادي والقضائي، وإن كان
مؤجلاً.
أُلف الحزب أولاً من فريقي الاستقلاليين والاحتلاليين، وكانت المواد الأولى
التي وضعت له مشتملةً على الجمع بين النقيضين: الاستقلال والاحتلال، فكان كل
فريق يقوي المادة الموافقة لمشربه، ويدعى الاحتلالي أنه استقلالي، وأنه إنما طلب
مساعدةً مؤقتةً للضرورة.
وكل يدعي وصلاً بليلى
…
وليلى لا تقر لهم بذاكا
فاشتغلا بالجدال والنضال عدة أشهر، كان الفلج فيها للاستقلاليين، وكان
الاحتلاليون يتسللون منه لواذًا، وينفصلون مثنى وأفذاذًا، وتقرر البرنامج المؤلف
من أربع عشرة مادة بالإجماع في بعضها، وأكثر الآراء في بعض، ورضي كاتب
هذه السطور بأن يكون من مؤسسي هذا الحزب المخالف لمذهبه السياسي في
الجامعة العربية من وجوب اتحاد جزيرة العرب بالولايات العربية العثمانية؛
للحرص على تعاون المسلمين مع النصارى على طلب الاستقلال التام الناجز
لسورية بعد أن أطال الدعوة إلى مذهبه، فلم يستجب له من فضلاء النصارى
بمصر إلا أفراد قليلون؛ ولأن التعاون على استقلال بعض الأقطار العربية لا ينافي
السعي لاستقلال سائرها من طريق آخر، كما صرح به في بعض أيمان الجامعة
العربية، وأنا أصرح هنا بأنني لم أكن موافقًا على كل مواد البرنامج، بل منها ما
أسفر النضال فيه بيني وبين بعض الأعضاء عن فوزي بموافقة الأكثرين من
الأعضاء لي، ثم برجوع بعضهم إلى رأي المخالفين لي إرضاءً لهم؛ لئلا يخرجوا
من الحزب، ولكنهم خرجوا بعد ذلك، على أن كل قانون وكل نظام يشترك في
وضعه كثيرون يتقرر بعض مواده بالاتفاق، وبعضها برأي الأكثرين.
وتلا حزب الاتحاد السوري الحزب الفرنسي الذي يطلب جعل سورية برمتها
(ومنها فلسطين ولبنان) مملكةً واحدةً مستقلةً في إدارتها تحت حماية فرنسة
أو وصايتها، ولم يوجد في مؤسسي هذا الحزب أحد من الطوائف الإسلامية إلا
حقي بك العظم ومختار بك الجزائري، وتلاه الحزب الحر المعتدل الذي يتفق مع
الحزبين السابقين في طلب وحدة سورية وحدودها، ويخالفها في طلب جعل حكومة
الولايات المتحدة وصيةً على سورية ومُساعدةً لها على الاستعداد للاستقلال التام
المطلوب، وليس في مؤسسي هذا الحزب أحد من الطوائف الإسلامية التي تبلغ
أربعة أخماس أهل سورية.
وكان في مصر قبل هذه الأحزاب - بل قبل الحرب أيضًا - جمعية تعرف
بجمعية الاتحاد اللبناني، تطالب الدولة العثمانية بحقوق للبنان المعروف أو الصغير،
فتحولت بعد الحرب إلى مطالبة الحلفاء باستقلال الجبل وتوسيع حدوده وجعله تحت
حماية جميع الدول الكبرى، وكان لمهاجري لبنان في البلاد الأمريكية جمعية أخرى
تعرف بجمعية النهضة اللبنانية، تطالب بتوسيع حدود لبنان وتقوية استقلاله، وجعلة
إمارةً ذات علَم خاص، وجعل أميره أوربيًّا، يُطلب اختياره من الدول الست الضامنة
لاستقلال الجبل، ولهم مطالب أخرى متعارضة نشرناها في المجلد السابع عشر، ثم
كانت هذه الجمعية من طلاب الحماية الفرنسية، وبعد انكشاف الحقائق تغير رأي
مؤسسيها في ذلك، وأشيع أن رئيسها المندوب عنها في باريس طلب الاستقلال التام
وانضم إلى جماعة الأمير فيصل، ولجمعية الاتحاد اللبناني فروع في البلاد الأمريكية
وفي لبنان نفسه، وكان أكثر طائفتي الموارنة والروم الكاثوليك من غير أعضاء هذه
الجمعية يودون أن يكون لبنان وكذا سائر سورية تحت حماية فرنسة، كجمعية النهضة
اللبنانية، ولما انتهت الحرب بظفر الحلفاء، وأعلنوا أن الولايات العربية لن تعود إلى
الحكومة التركية وتألفت الأحزاب السورية للمطالبة باستقلال سورية - على ما تقدم
بيانه - انضم إلى كل من حزبي الاتحاد السوري والحر المعتدل كثير من أعضاء
الجمعيتين، ودخل أناس منهم في أحزاب أخرى استقلالية واحتلالية من طلاب
وصاية الولايات المتحدة، أو وصاية دولة غير معينة، وبقي بعضهم ثابتًا على
المطالبة بفصل لبنان من جسم سورية.
الذي نعلمه أن حزب الاتحاد السوري فاق غيره في بث دعوته في سورية
والمهاجر السورية؛ لأنه على تبرع جميع أعضائه بالعمل وظف له عمال للإدارة
والترجمة والنسخ، واستعان على عمله بسخاء رئيسه ميشيل بك لطف الله ،
وشقيقه جورج بك الذي تبرع له في أول تأسيسه بألفي جنيه مصري، حتى كان
ينفق في بعض الأيام بضع مئين من الجنيهات أجور برقيات إلى أوربة وأمريكة
حيث أجاب دعوته خلق كثير، وبث دعوته في جميع البلاد السورية، ولم يستطع
ذلك غيره، وأما الحزب الحر المعتدل أو الأمريكاني رجع إليه كثير من
الاحتلاليين الذين كانوا راضين بوصاية فرنسة من مهاجري السوريين في مصر
وأمريكة، وقليل من الاستقلاليين، فظلوا السواد الأعظم، ولا سيما في البلاد نفسها
ولم يكن له فروع ولا دعاة فيها، على أن الدعوة إلى طلب مساعدة الولايات
المتحدة قد ظهرت قبل تأسيس هذا الحزب في كل مكان، ونسبتها الجرائد الإنكليزية
إلى الأمير فيصل منذ كان في أوربة، ثم اشتهر أنه بث هذه الفكرة في سورية بعد
عودته إليها، ثم فكرة الدعوة إلى مساعدة إنكلترة إذا لم تقبل حكومة الولايات
المتحدة، وهذا هو الذي وقع، كما سنبينه بعد، ومن البديهي أن السوريين الذين
في الولايات المتحدة وفي غيرها من الدنيا الجديدة كان كثير منهم قبل ذلك يفضل
مساعدة الولايات المتحدة على مساعدة كل دولة أوربية، بل قلما يفضل دولة أوربية
على الولايات المتحدة في هذا الأمر أو ما يشابهه من كل ما يطلب للخير
والإنسانية إلا جاهل غبي، أو متعصب قوي، أو مستأجَر دني، وما كل من طلب
مساعدة دولة أخرى ابتداءً يفضلها على حكومة الولايات المتحدة في ذلك، بل منهم
من طلب غيرها لليأس منها، ومنهم من نفر منها بإقناعه بأنها ميالة إلى مساعدة
اليهود على امتلاك الأرض المقدسة وجعلها وطنًا قوميًّا لهم، والاستقلاليون
يفضلونها على غيرها أيضًا، ولكنهم لا يرضون أن يكون لها أدنى سيادة أو
سلطان في بلادهم بأي اسم من الأسماء.
وجملة الأقوال في الجمعيات والأحزاب أنها على كثرتها ترجع إلى هذه
الثلاثة الأنواع، وأن تأليفها كان خسارًا على نفوذ فرنسة فقد كان أكثر طوائف
النصارى معها فصار أكثرهم عليها، فما القول في المسلمين، وكلهم استقلاليون إلا
الشاذ النادر الذي لا حكم له؟
***
لجنة الاستفتاء الدولية
كان مؤتمر الحلفاء عزم على إرسال لجنة دولية إلى سورية وغيرها من
بلاد الدولة العثمانية؛ لتقف على رأي أهل البلاد في أمر مستقبلها وشكل حكومتها
والدولة التي تفضل أن تندب لمساعدتها على الاستعداد للاستقلال المعترف لها به
مؤقتًا إلى أن تصير قادرةً على النهوض به وحدها، ثم اكتفى بجعل اللجنة من
فضلاء الأمريكيين فأحسن صنعًا؛ لأن هؤلاء أبعد من الأوربيين عن الهوى في
هذه المسألة.
طافت هذه اللجنة أمهات البلاد في الولايات والمتصرفيات الممتازة
والتابعة للولايات، وقابلت في كل منها رجال الأديان والأحزاب والجماعات
المنتخبة، وممثلي الأندية العلمية والأدبية والجمعيات، فظهر لها أن السواد
الأعظم من الأهالي يطلب الاستقلال التام الناجز، ولا يرضى أن يكون لدولة أجنبية
حماية على بلاده ولا وصاية ولا مساعدة تمس الاستقلال، ويزيد أهل سورية
الجنوبية (فلسطين) التصريح بمنع مهاجرة اليهود الصهيونيين إلى بلادهم، وأهل
سورية الشمالية يوافقونهم على ذلك، كما صرح به الوفد السوري الآتي ذكره
وغيره، وأنه إذا أصر مؤتمر الصلح على ندب دولة من الدول العظمى لمساعدة
الأهالي على النهوض بأمر الاستقلال، فيشترطون أن تكون هذه الدولة هي
الولايات المتحدة الأمريكية؛ لأنها غير استعمارية ولا طامعة في البلاد، وأن
تكون مساعدتها مؤقتةً لا تزيد على 15 سنةً، أو 20 ، وأن تكون في الأمور الفنية
والاقتصادية التي لا تمس الاستقلال، وصرح بعضهم بعدم قبول المساعدة ألبتة،
وبعضهم بطلبها من الولايات المتحدة دون سواها، وبعضهم من إنكلترة، وأكثر هذا
الفريق من الدروز، وبعضهم من فرنسة، وأكثر هؤلاء من موارنة لبنان
وبيروت، وما كل الموارنة يرضى بوصاية فرنسة ومساعدتها، وأما المسلمون
فقد صرحوا في كل بلد بعدم قبول مساعدتها بحال من الأحوال، وما شذ إلا أفراد لا
يعتد بهم، ولأجل الفرار من مساعدتها أو وصايتها، قال بعض المرجحين
لمساعدة الولايات المتحدة: إنها إذا لم تقبل فإنهم يرجحون إنكلترة على غيرها
بالشروط التي رجحوا بها الأولى، إذا كان لا بد من هذه المساعدة التي احتجوا
عليها وعلى المادة الثانية والعشرين من عهد عصبة الأمم المتضمنة لها.
ذلك بأنه قد ألف في سورية مؤتمر بأمر الأمير فيصل؛ لأجل مقابلة لجنة
الاستفتاء وإطلاعها على رأي أهل البلاد ووضع (مشروع) قانون أساسي لها
انتخب أعضاؤه في أكثر البلاد من قبل المنتخبين الثانويين الذين انتخبوا نواب
البلاد في مجلس المبعوثين العثماني الأخير، ومنهم أعضاء من طوائف لبنان كلها،
لا ندري كيف انتخبوا؟ ولم يمكن إقناع هؤلاء ولا غيرهم بالرضا بمساعدة
الولايات المتحدة ثم إنكلترة بالشروط التي أشرنا إليها، إلا بعد أن بثت الدعوة
فيهم بهذه الصفة: إن انتداب دولة من الدول الكبرى لمساعدة البلاد على السير في
سبيل الاستقلال أمر مقرر في المؤتمر لا مرد له، وإن فرنسة تَمُتُّ إلى المؤتمر
وجميع الدول بدعاوى كثيرة ليندبها لذلك، أهمها أن أهل البلاد يفضلونها، وأن
لها صنائع يصدقونها ويتمنون مساعدتها، فإذا اقتصر الأكثرون على طلب الاستقلال
بدون مساعدةٍ ما، يُخشى أن تُرجَّح فرنسة بحجة أن بعض الأهالي يطلبها،
والآخرون لا يفرقون بينها وبين غيرها، بناءً على هذا وعلى العلم بأن رئيس
الحكومة البريطانية صرح بأن دولته لا تقبل الانتداب لمساعدة سورية؛ لأن ما بينها
وبين فرنسة من عهد وميثاق يحول دون ذلك، وما هو بالذي يجعل قصاصة
ورق، وضع المؤتمر القرار الذي قدمه إلى لجنة الاستفتاء وسنذكره بنصه في
مكان آخر من المنار.
إذا لم يكن جميع أعضاء المؤتمر الذي قرر هذا منتخبين من الأمة لينوبوا
عنها فيه، فقد جعلهم في معنى المنتخبين موافقة أكثر من استفتهم اللجنة لهم كما
شرحته الجرائد السورية في بيانها لأعمال اللجنة في البلاد المختلفة، فجاء ما تقدم
كله مصداقًا لما كنا قلناه مرارًا لبعض الباحثين معنا من الأجانب والوطنيين، وهو
أن السواد الأعظم في سورية يطلب الاستقلال التام المطلق، ولله الحمد من قبل
ومن بعد.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
الخارتة في الأصل: اسم فعل من: خرت الأرض يخرتها (من باب نصر) إذا عرف طرقها، ومضايقها، ومنه: الدليل الخريت، وهو العارف بذلك، وفي اللسان عن الكسائي: خرتنا الأرض: إذا عرفناها، ولم تخف علينا طرقها اهـ، فإذا أطلق لفظ (الخارتة) على الصحيفة التي يرسم فيها وجه الأرض وما فيها من جبال وبحار وغير ذلك كان هذا الإطلاق صحيحًا باعتبار أن الصحيفة المشتملة على ذلك كالعارفة به، فهو وصف مجازي يكثر في العربية.
الكاتب: أحمد نبهان الحمصي
السيد الزهراوي
تتمة ترجمته
بقلم صديقه الشيخ أحمد نبهان الحمصي
في أول سنة من مبعوثيته وقعت حادثة 31 مارث الشهيرة، فحوصر المجلس
من قِبل العسكر بحجة الارتجاع عن الدستور، وهددوا المبعوثين بالرصاص حتى
إنه قتل أحدهم (محمد بك أرسلان) مبعوث اللاذقية رميًا بالرصاص في باب
المجلس، ومنهم من رمى نفسه من أحد النوافذ العالية حتى تحطم خوفًا على نفسه من
القتل، وفر كثير من المبعوثين حفظًا لحياتهم، وبقي المترجم - رحمه الله تعالى -
مع بضعة أشخاص ثابتي الجأش، غير مبالين بتلك القوة الهائلة التي تهددهم، وهم
يخابرون المراكز بالتلفون ويذكرون الوقعة وما هم فيه، حتى كادت تلك القوة أن
تقضي على بقية المبعوثين، ثم خرج المترجم يخترق صفوف العساكر بلا اكتراث،
حتى وصل إلى منزله وانفض الجمع.
هذا الثبات في مثل هذا الموقف الحرج مما يدل على شجاعته وقوة يقينه.
على أثر هذه الحادثة التي شاع خبرها حتى بلغ الرومللي مكبرًا ، زحف
محمود شوكت بجيوشه ليضرب الآستانة؛ لحماية الدستور، ولينكل بالارتجاعيين
وينتقم ممن أثاروا هذه الفتنة، فأرسلت الحكومة إذ ذاك هيئةً مؤلفةً من الأعيان
والمبعوثين لمقابلة الباشا وإبلاغه حقيقة الحال، فكان صاحب الترجمة من أعضاء
تلك الهيئة الموقرة، فاستقبلوه في (إياستفانوس) من ضواحي الآستانة، وأوقفوه
على جلية الخبر الشائع، ولطفوه في سمعه حتى سكت غضبه وسكن جأشه ودخل
بغير إزعاج لأحد.
وفي أثناء تلك المدة - أعني الدورة الأولى لمجلس المبعوثين - أصدر
المترجم جريدةً عربيةً في الآستانة، سماها (الحضارة) بشركة شاكر بك الحنبلي ،
ثم انسحب هذا الأخير منها إذ تعين متصرفًا للواء عكا بعد إنذار الحكومة له.
وكان السبب في إنشاء تلك الجريدة أنه لما بلغ الاتحاديون ما بلغوا من الأثرة
والاستبداد وتسميم الأفكار بالجرائد التي أنشأوها لبث أفكارهم السوءى،
وتصويرهم المحال بصورة الحقائق - تأسس الحزب الحر المعتدل لمعارضتهم،
وكان معظم مؤسسيه من مبعوثي العرب، وحزب الائتلاف وكان معظم مؤسسيه
من الترك، ثم امتزج الحزبان باسم حزب الحرية والائتلاف، وكان المترجَم من
مؤسسي الحزبين المذكورين لمعارضة حزب الاتحاد والترقي، فأصدر جريدته
(الحضارة) باللغة العربية للمحافظة على مبدئه الثابت، وهو الاعتدال المحض
حتى كان رفاقه يلومونه لشدة هذا الاعتدال والتروى، وحتى إن كبار الاتحاديين
كانوا يعجبون من اعتداله مع معارضته لرأيهم، وكان كثير منهم يقول: ليت جميع
المعارضن مثل هذا الحر المعتدل.
…
...
…
... * والفضل ما شهدت به الأعداء *
وفي أثناء تلك المدة أيضًا وقع اضطراب واختلال في الروملي، فعينت
الحكومة يومئذ لجنةً من الأعيان والمبعوثين للكشف عن أحوال تلك البلاد، وكان
المترجم رحمه الله من أعضاء تلك اللجنة.
وفي أثناء مدته نشبت الحرب في طرابلس الغرب ، فصعد المترجم منبر
الخطابة في المجلس وهيج الخواطر وحرك السواكن ثم أجهش في البكاء، فقال له
بعض الحاضرين من المبعوثين: لا تبكِ فإننا سنستردها، فقال: أنا لا أبكي على
طرابلس الغرب، ولكنني أبكي على الروملي وسورية والحجاز والعراق.
من تأمل هذه الجملة الجوابية منه يعلم أنه قد لمح من وراء حجب الغيب ما
سيكون في المستقبل استنباطًا حدسيًّا من سوء تدبير من بيدهم الحل والعقد، وقد
اتفق مثل هذا لغيره من أصحاب الروية، والحدس، فوقع ما توقعوه، ولله الأمر
من قبل ومن بعد.
في مدة إقامته في الآستانة سواء كان مبعوثًا أو لم يكن، كان بيته مجمع
الفضلاء والأدباء على اختلاف لغاتهم، والكبراء مع تفاوت رتبهم، يستمدون من
آرائه السديدة، عرف هذا من شاهده بالعيان حتى كانت جلساته على مراتب، لكل
فريق وقت يقضيه، فيأتي فريق آخر حتى تنقضي الساعة السابعة بل الثامنة من
الليل.
وكان مع كل هذا لا يأخذه ملل ولا ضجر ولا سآمة مما يدل على سعة صدره،
وحسن مجلسه.
في أواخر هذه الدورة للمجلس حصلت مناقشة بشأن المادة 35 من القانون
الأساسي، ووقع الخلاف الشديد حتى آل الأمر إلى فض المجلس وتجديد الانتخاب
ثانيةً، فعاد المترجم - رحمه الله تعالى - إلى وطنه وزيارة أهله وذويه، فأوحت
الحكومة الاتحادية إلى جميع المراكز، وأوعزت للحكومات أن يكون انتخاب
المبعوثين ممن لا يخالف رأيهم، وكانت تواصل التلغرافات والمندوبين للمراكز
بالوعد والوعيد، والتخويف والتهديد، ولهذه الأحوال وشدة الضغط ما تمكن الأهالي
من انتخاب المترجم؛ لأن حريتهم سلبت حتى امتنع كثير من التصويت.
على أثر ذلك سافر إلى الآستانة للقيام بأشغال الجريدة، فانعقد المجلس من
مبعوثين صار تعيينهم من قِبل الاتحاديين في الباطن، وإن كان في الظاهر
بالانتخاب.
ثم تغلب حزب الائتلاف على حزب الاتحاد وتشكلت الوزارة، ففضوا ذلك
المجلس الجديد، فعاد المترجَم إلى وطنه، فوقعت حرب البلقان، فصرف النظر
عن الانتخاب إلى أن تضع الحرب أوزاراها.
في ذلك الأوان سافر إلى مصر فانتخب من حزب اللامركزية المؤلف هناك
رئيسًا للمؤتمر الذي انعقد في باريس؛ لأجل مطالبة الحكومة التركية بإصلاح بلاد
العرب وإعطاء هذه الأمة المهضومة حقها القانوني المهضوم، وقد طبعت
مقررات المؤتمر والخطب التي ألقيت فيه، فلا حاجة إلى بيان ذلك.
وفي أثناء إقامته في باريس كان محل إعجاب الجميع في اعتداله، فإذا
طالعت تلك المقررات المطبوعة، وتلوت ما فاه به رحمه الله حكمت له بذلك
الاعتدال، وبأن ذلك الإعجاب به كان بحق، وحسبك شهادة الأجانب، فإن جريدتي
المانان والطان - وهما من أكبر الصحف الفرنسية وأشهرها - قالتا كما نقلته
الجرائد المصرية والسورية في ذلك الحين: (إن السيد عبد الحميد أفندي الزهراوي
كان للمؤتمر بمثابة الدماغ من الجسد) وذلك بمناسبة ترؤسه للمؤتمر وحسن إدارته
له.
وكان مدة إقامته في باريس موضع التبجيل والاحترام، واجتمع بالمسيو
بيشرن ناظر خارجية فرنسة في مقر النظارة، فأعجب به غاية الإعجاب وأنزله
منزلة الإكرام.
بعد إتمام وظيفة المؤتمر انفض أعضاؤه وبقي المترجَم - رحمه الله تعالى -
هناك مع نفر من رفاقه، مطالبين بالإصلاح العربي، فاضطرت الحكومة الاتحادية
للتحيل على جلبهم، فأرسلت مِن قِبلها مدحت باشا شكري البك، الكاتب العمومي
لمركز الاتحاديين، والمرحوم عبد الكريم الخليل للسعي لإرضائهم ورجائهم؛ خدعةً
ومكرًا منها، فعادا بالخيبة وما نالا غايةً ولا مقصدًا، فأعادوهما ثانيةً وأدنوا
لهما بوعد جماعة المؤتمر بإجابتهم إلى ما يلزم من الإصلاحات للبلاد العربية،
فوعدا وأقسما بالأيمان على ذلك، فحضر عندها المترجَم إلى الآستانة اعتمادًا على
أيمانهم الكاذبة المبنية على الخداع والمكر، وعين عضوًا في مجلس الأعيان
ليشرف على إنجاز وعدهم، فبقي ينتظر تلك المواعيد الفارغة (وناهيك بمهارة
الأتراك بالمواعيد) إلى أن نشبت الحرب العامة بسوء تدبير الرؤساء الذين أهلكوا
الحرث والنسل، وضيعوا ذلك الملك العظيم من أيديهم، وكان من لوازم ذلك
إعلان الإدارة العرفية في البلاد، فجعل جمال باشا قائدًا عامًّا في سورية بصلاحية
واسعة لتنفيذ أوامر الجمعية الخادعة بالإصلاح الذي كانت تنويه، وهو الانتقام من
مُتنوري أبناء العرب ونابغيهم، واتخذوا الحرب فرصة لتنفيذ ما تكنه صدورهم
من الضغائن على هذا الجنس الشريف.
صلب المترجم بدمشق الشام مع جملة من وجهاء البلاد السورية بلا محاكمة
ولا سؤال عن شيء، وذلك ليلة السبت رجب سنة 1334 هجرية ، و23 نيسان
سنة 1916 ميلادية، وكان لسان حاله يقول:
يا جزع نح وابك واندب جثة خلقت
…
من يوم (قالوا بلى) للضنك والمحن
وحي أهلاً وجيرانًا وآونةً
…
حي الرفاق وحي سائر الوطن
حبًّا بصالحهم أصبحت فديتهم
…
ليقطفوا ثمرًا من راحتي جني
***
(صفاته)
رحمه الله
كان مستجمعًا لصفات الكمال، وقورًا، ذا ذهن حاد وفكرة واسعة وذاكرة
عجيبة، يتوقد ذكاءً، وملامحه أكبر دليل على ذلك، واسع الصدر سليمه، لين
الجانب، بطيء الغضب، لا يقابل أحدًا بمكروه، لا يمل من جليسه كيف ما كان،
ولا جليسه من محادثته، يعاشر كل إنسان على قدر علمه، أكثر أحاديثه في مجالسه
بما يعود بالفائدة، لا يستغيب أحدًا، ولا يحب أن يُغتاب أحد بحضوره، قليل الكلام
الفارغ، كثير التفكر، أبي النفس، شجاعًا، شديد الصبر على الشدائد، قوي
اليقين بربه تعالى، كريم الخلق، جميل الخلق والهيئة، يحبه من يراه لأول وهلة،
عفيف النفس، لا يبالي بزخارف الدنيا، بعيد عن الكلف، شديد البحث والتدقيق
في المسائل، يتتبع الأدلة والمستندات، وقافًا عند الحق، يحب أن تكون الحجة مع
غيره ما أمكن، معتدلاً في شؤونه كلها، متمسكًا بمبادئه، محافظًا عليها، عرف
ذلك منه كل من عاشره حق المعاشرة.
***
مكتوباته، رحمه الله
كتب في مواضيع عديدة كلها فوائد، منها ما حوته جريدته (الحضارة) التي
أصدرها في الآستانة ثلاث سنين، ومنها مقالات في التربية كان ينشرها في جريدة
(ثمرات الفنون) البيروتية قبل إعلان الدستور، ومنها ما نشرته المؤيد، والمعلومات
العربية، والجريدة، والمنبر، وخلافها من الجرائد المصرية والسورية، وكتب في
مجلة المنار عدة مقالات، وله كتاب (نظام الحب والبغض) نشر منه في المنار عدة
فصول، وما أكمله لموانع سياسية، ومنها رسالة في الفقه والتصوف، وهي التي
نوهنا بها قبلاً، وأخرى في الإمامة، ورسالة ترجمة السيدة خديجة، سلك فيها
مسلكًا غريبًا لطيفًا، أبدع فيه كل الإبداع، وأتى بكل ما يستطاع، من طالعها حق
المطالعة يقف على مقدرة هذا المترجم واطلاعه وسلامة ذهنه وسلامة قلمه ودقة فكره
ونزاهة سره، ولا سيما الأبحاث الأخيرة منها، وقد طبعت بمطبعة المنار، وكانت
نيته أن يجعلها الحلقة الأولى لسلسلة تاريخية، فحالت دون ذلك أشغال قامت مانعًا عن
إخراج هذا الفكر إلى حيز الوجود، ومنها رسالة في النحو، وأخرى في المنطق،
وغيرها في علوم البلاغة: المعاني والبيان والبديع، وكتاب في الفقه بأسلوب قريب
المأخذ سهل العبارة يدعم مسائله بالأدلة الدامغة [1] ، وله محاضرات كان يلقيها في
بيروت وحمص أيام ذهابه إلى الآستانة وعودته منها.
وله مكتوبات غير ما ذكر، بقيت مسودةً بخطه، اغتالتها أيدي الأتراك عندما
أرسل من الآستانة إلى (عاليه) مركز الديوان العرفي الذي أسسه جمال باشا
المخذول.
وله شعر لطيف في كل باب من أبواب الشعر، ومساجلات مع بعض
أصحابه، ومراسلات كلها رقاق.
من ألطف شعره، القصيدة العصماء في موضوعها وحسن أسلوبها ورقة
معناها، وقد أثبتُّها برمتها ليقف المطالع على رسوخ قدمه - رحمه الله تعالى - وبعد
أفكاره وحسن يقينه واعتقاده، وهي هذه:
لا تكذبنا يا بصر
…
لا تخدعينا يا فكر
إن الحقائق تحت طي النـ
…
ـشر فوق المنتظر
لكن برؤيتها دعاوي النـ
…
ـاس تعبي من حصر
وسوى سراب لم يروا
…
والآل كم غر النظر
أنى التصور يا حجا
…
للسر في هذي الصور
الكون مبني على الـ
…
ـحركات كل في قدر
مجموع ذر يقتضي
…
كل لها ضم الأخر
والأرض تجمعنا فنحـ
…
ـسب أنها إحدى الكبر
والشمس تعربنا لنا
…
فنظنها المعنى الأغر
صور تغيّر لا نعي
…
صفةً لها غير الغير
ويجل مصدر أمرها
…
عن أن تحيط به الفكر
هو مصدر بوجوده
…
تقضي اشتقاقات الأثر
وتحيرت في ذاته
…
وصفاته فطن غرر
والخبرة المثلى التبا
…
عد عن دعاوٍ للخبر
كم مدّعٍ لمعارف
…
علياء عرف بالنكر
ما أنت يا إنسان هل
…
تدري دماغك لم شعر
أفأنت تدرك مَن جميـ
…
ـع الكون عنه قد ظهر
لم ذي الدعاوي يا فتى
…
أأحاط منك به البصر
أأحاط منك به الحجى
…
خُبرًا كما هو فانسبر
أعرفت من قبل المؤثـ
…
ـر كل تفصيل الأثر
أعرفت هذا الفضا
…
ء وما به من كل ذر
دع عنك دعوى واستمع
…
قولاً مفيدًا مختصر
الناس عثّر في الغرو
…
ر ولاجئون إلى الغرر
ويرى بنو الإنسان أنـ
…
ـهمو خلاصة ما فطر
دعوى بها يسلون ما
…
يلقون من تعب وضر
فهمو رهان الكدح ما
…
داموا وتلك هي السير
ذو الحال نائب من مضى
…
والعمر جملته خبر
سيان ذي الأنعام في
…
حاج الحياة وذا البشر
فتسل فيما اسطعت أن
…
فكرت فيما قد حضر
واعبر على المقياس من
…
ماض إلى ما ينتظر
واعلم بأن المفلحيـ
…
ـن بذي الحياة أولو العبر
والكون ظرف جواهر
…
والسر فيه ما ظهر
_________
(1)
المنار: كان سبب تأليف هذا الكتاب محاورة طويلة دارت بيننا وبين الفقيد من جهة، وأحمد فتحي باشا زغلول أيام كان وكيلاً لوزارة الحقانية بمصر من جهة أخرى، ولو تم على عهد الباشا لسعى إلى طبعه على الحكومة لأجل المحاكم الشرعية.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الشيخ محمد كامل الرافعي
(2)
ورث المترجم من والده عفة النفس، وحسن الهدي والسمت، والصفاء وحسن
النية، وحب التصوف وإخلاص الصوفية - ولكنه لم يتسن له من السلوك ما تسنى
له، والاشتغال بآداب اللغة، فكان منثوره كمنثوره، وقلت عنايته بالمنظوم، فلم
يبلغ فيه شأو الوالد، وإنما بلغها وفاقها أخوه عبد الحميد بك شاعر طرابلس
المشهور، وقد أشرت إلى ذلك في رثاء الوالد:
وإن غدا فيه كل الفضل مجتمعًا
…
فقد تفرق في أبنائه النسلا
فللمعارف والإرشاد كاملهم
…
من حالف العلم فيه الهدي والعملا
وفي البلاغة كم (عبد الحميد) سما
…
وللتحدي بها آي البيان تلا
وكان أيضًا يحذو حذو والده في التأنق في مطعمه وملبسه، حتى إنه كان
يتولى شراء ذلك بنفسه، وإذا لم يعجبه ما يريد من الخضر والفاكهة، وغيرها في
السوق القريبة من داره يذهب بالخادم إلى سوق أخرى، فكان من أهنأ الناس معيشةً
جامعًا بين التمتع بالطيبات وتقوى الله تعالى، والرضا بما قسمه له، ولكنه ترك
التأنق في الملبس في أواخر عمره.
وورث من أستاذه الشيخ محمود نشابه حب الاستقصاء والتحقيق في العلم،
فكان بعد زمن الطلب والتلقي عن الشيوخ، عاكفًا على مطالعة أشهر الكتب
وأعوصها، إما وحده وإما بالمشاركة مع بعض أصدقائه من أهل العلم، كالشيخ
محمد الحسيني والشيخ محيي الدين الحفار والشيخ عبد اللطيف نشابه نجل الشيخ
محمود نشابه.
لما بدأت بطلب العلم ألفيته يطالع مع صديقه الشيخ محمد الحسيني الذي هو
أشهر علماء طرابلس اليوم، أشهر كتب المنطق والأصول والكلام، كسلم العلوم،
ومسلم الثبوت، والمواقف، والمقاصد، ولم أدرك زمن حضوره دروس الشيوخ إلا
درس (نيل الأوطار) على والده، ولم يتمه.
والفصل بينه، وبين أستاذه الشيخ محمود نشابه أن أستاذه، وأستاذنا هذا وقف
في العلوم عند غاية فهم أشهر الكتب التي تلقاها في الأزهر ، والتي قرأها للطلبة،
فرضي لنفسه بما صححه فقهاء القرون الوسطى ومتكلموها ومفسروها ومحدِّثوها،
وغيرهم من علماء اللغة والمعقول، وكان يصرف سائر وقته في العبادة، وأكثر
عبادته تلاوة القرآن، وأما المترجم فقد طلب العلم من سن التمييز إلى منتهى الأجل،
فلم تكن نفسه تقف في العلم عند غاية، وإذا لم تطمئن بما قاله أشهر المدققين، وما
صُحح في أشهر الكتب المتداولة، يظل يبحث وينقب إلى أن يصل إلى ما يرتاح له
ويقتنع به، ولهذا كان يبحث ويسأل دائمًا عما يطبع في مصر والهند من الكتب
الجديدة، ويستحضر ما يعجبه ويرجو فائدته منها، فهو أول من أطلعنا على مؤلفات
السيد حسن صديق خان ملك بهوبال، وعلى (زاد المعاد في هدي خير العباد)
المطبوع في الهند، وعلى (سلم العلوم) و (مسلم الثبوت) و (روح المعاني)
وغيرهما من مطبوعات الهند ومصر.
وورث من أستاذه الشيخ حسين الجسر الميل إلى الوقوف على حالة العصر
العلمية والاجتماعية والسياسية، والعناية بمطالعة المجلات والجرائد والاقتناع بشدة
حاجة المسلمين إلى مجاراة الأمم الغربية في العلوم والفنون التي عليها مدار العمران
والقوة في هذا العصر، مع المحافظة على أصول ديننا وهديه، وآدابه التي تفضل كل
ما عليه تلك الأمم، وغيرها ما لم يخالفها، وكثير مما هي عليه موافق لها أو مقتبس
منها، فكان المترجم بهذه المزايا محبوبًا محترمًا عند العوام والخواص من المسلمين
وغيرهم، ولو أنه وفق لِنزْع قلادة التقليد من عنقه، ووجّه عنايته إلى حل مشكلات
المسائل بالاستقلال التام في الفهم بدلاً من كثرة مراجعة الكتب، لكان بما أوتي من
الجد والاجتهاد والإخلاص والإنصاف في البحث، آية في التحقيق وحل المشاكل!
على أنه كان على مقربة من ذلك.
ولولا أن شغل بعمل الحكومة عن التدريس والتصنيف، لكان للأمة من سعة
اطلاعه وفقه نفسه وحسن بيانه عدد غير قليل من العلماء الذين يجمعون
بالتخرج على يديه بين العلم والعمل للأمة والملة، ومن المصنفات النافعة التي
يخرج بها علمه وفهمه من حيز الإجمال إلى حيز التفصيل، ومن محجبات
الصدور إلى سافرات السطور، فإنه - رحمه الله تعالى - كان من الأولين الذين
طلبوا العلم لله، لا للمال ولا للجاه، وقلما تصدى طلابهم للتدريس والتصنيف
إلا بنيتهما وباعث الرغبة فيهما، وآية ذلك أن ترى أكثر تلاميذهم يهينون العلم في
سبيلهما، وأكثر تصانيفهم خالية من كل ما تصلح به الأنفس وتهذب به الأخلاق،
وفاقد الشيء لا يعطيه.
***
أخلاقه وآدابه
وأما أخلاق الرجل وآدابه، فقد كانت المثل الذي يضرب للأسوة، والإمام
الذي ينصب للقدوة: عفة وصيانة، صدق وأمانة، جود وسخاء، عزة وإباء،
نجدة ومروة، شجاعة وفتوة، رأفة ورحمة، وفاء وعلو همة، وناهيك بصبره
وثباته، وبحبه الخالص، وبإخلاصه لذي رحِمِه وإخوانه، فقد كان للأسرة الرافعية
الكثيرة العدد في القطرين الشامي والمصري كالوالد العطوف والأم الرءوم، يقوم لكل
منهم بما تقتضيه حاله من غنى وفقر، وصحة ومرض. كان من زار طرابلس من
المقيمين في القطر المصري منهم يرى من حفاوته به، وإقامة المآدب النفيسة له،
والعناية بخدمته، والقيام بشؤونه ما لا ينتظر مثله من والد حفي ولا ولد بار تقي، ولا
صديق غني وفي، ولا أمير سخي أبي.
توفي أخوه أحمد أفندي في اليمن ، وكان حاكمًا إداريًّا في بعض بلادها
العثمانية، وترك غلامًا وجارية صغيرين حضنتهما أمهما، ثم بلغه أنها تزوجت،
فخاف أن يكون ذلك مضيعةً لهما، فأخذ إجازةً من الحكومة وسافر إلى اليمن؛
لأجل إحضارهما وتولي تربيتهما، وبعد البحث عنهما في اليمن علم أن زوج
أمهما رحل بها وبهما إلى العراق عاملاً للحكومة، فسافر إلى العراق في المحيط
الهندي في فصل الصيف، إذ يشتد اضطرابه واصطخابه حتى إن أمواجه لتجرف
الناس عن ظهور البواخر أحيانًا، فيضطر البحارة العاملون على الظهر إلى ربط
أنفسهم بالحبال، وفي مثل ذلك البحر في ذلك الزمن يظهر للمسافر أنه لا مبالغة في
تشبيه التنزيل للموج بالجبال، فما حدّث به المترجم وغيره أن السفينة عندما تقع
بين موجتين ترى كأنها في واد عميق من أودية الجبال، وقد عجب كل من لقيه في
سفره هذا من أهل اليمن والعراق - كأهل وطنه السوري - من شدة غيرته وعلو
همته وتفانيه في سعيه لكفالة هذين الولدين، وما كان من غبطته وسروره بالظفر
بهما بعد ما كابده في سبيلهما من المشاق والأهوال، وبذل ما يفوق طاقته من المال.
وقد قال فيه أخوه الصغير (وهو لأب) : (والله لم يمضني فقد أبي كفقدي
أخي، فقد كفاني غصص اليتم بعطفه وبره وإحسانه، ثم أدبني فأحسن تأديبي بقوة
روحه وسعة فضله وبيانه) اهـ.
أقول: كذلك كان عطفه ووفاؤه لأصدقائه وإخوانه، يكاد يضاهي بره وإحسانه
بذي قرباه ورحمه، فكانت داره مثابةً لهم في كل وقت من ليل أو نهار، ولكن عنايته
بهم كانت أشد وزيارته لهم أكثر، وقد أجمع على حبه والاعتراف بفضله والثقة
بإخلاصه، النصارى كالمسلمين، ولم نر دارًا من دور علماء الدين في طرابلس
كداره، يتردد عليها أهل الوجاهة والأدب من جميع الطوائف، ولا يظن القارئ أن
سائر علماء طرابلس جفاة أو متكبرون، أو ضُرب على أبواب دورهم حجاب من
التعصب الديني فلا يزورون ولا يزارون، كلا إنهم بالرقة واللطف مشهورون، ولكن
الفقيد كان ممتازًا فيهم وفي سائر الناس بما ذكرنا من الشمائل والصفات، كما أنه كان
ممتازًا بين رجال الدين بالعناية بشؤون السياسة والعمران؛ لأن نفسه كانت تعشق
جميع المعارف والحقائق، وتطلب فيها الكمال.
كتب إليَّ أخوه عمر أفندي صاحب العبارة التي ذكرناها آنفًا، وهو أصغر
إخوته وأشدهم عشقًا لمذهبه واستعذابًا لمشربه، جملةً بمعنى ما تقدم في وصفه،
قال:
كان رحمه الله على صحة موفورة من العلم والفضل ومكارم الأخلاق،
عَزوفًا عن اللغو واللهو، ولوعًا في البحث والدرس، كثير التنقيب عن نفائس
الكتب واقتنائها، والوقوف على نوادر مسائلها، فكانت داره لذلك ناديًا لأهل العلم
ينتابونه من كل جانب للمذاكرة والمحاورة والإفادة والاستفادة، وقد كان رحمه الله
شديد الاهتمام بالعالم الإسلامي والأمم الإسلامية لحد لا يوصف، فتراه دائمًا مستطلعًا
طلع أخبارهم، متسائلاً عن أحوالهم وأطوارهم، فكان إذا سمع خيرًا استبشر وتهلل،
وإن سمع شرًّا بات بليلة الملسوع يتأسف ويحوقل، وكان شديد العناية والعطف على
أهله وقرابته، كثير الوفاء لأصدقائه وذوي مودته، وناهيكم بما نُكب به في سبيل
تمسكه بمودة الصديق الوحيد والأستاذ الكامل الرشيد، وذلك في أواخر أيام السلطان
عبد الحميد، وأما إيتاؤه ذوي القربى واليتامى من أهله، فحدث ولا حرج، فقد كان
يلقب نفسه بأبي العشيرة والقبيلة رحمه الله نظرًا لكثرة ما كان يهتم للقريب والبعيد
عنه من أهله المنتشرة في سورية ومصر وبلاد الله أجمع.
ولولا تعهده إياي مدة اليتم في الصبا، وأيام نكبتي السياسية في دور الشباب
لهلكت، وايم الله، ولولا غرسه في نفسي حب الفضيلة والالتحاق بأهلها لما كنت
لمثلكم عاشقًا، وبكم طروبًا.
(كان رحمه الله صبورًا على اللأواء والضر، ولقد خسرت طرابلس
بوفاته عالمًا كريمًا وبارًّا رحيمًا، بكاه المسلم وغير المسلم؛ لصلابته في دينه
وعلمه وفضله وثباته العجيب في مبدئه الحق، وهو حب الحق ونصرته بكل
وسيلة وذريعة، ولكثير من المسيحيين النبلاء عندنا حب له بوجه خاص نظرًا لما
عرفوا من حريته وشجاعته وصدق وطنيته، ولولا مخافة التطويل لأقمت لكم
على ذلك ألف دليل، وحسبي مع ذلك أن أقول: إن مجاهرة المرحوم بكل ما كان
يعتقد من حق صريح، ووقوفه في وجه الظلمة الطغاة من كبار رجال الحكومة
البائدة في عهد عبد الحميد ومن بعده، بل وإحسانه إلى مواطنيه المسيحيين على
اختلاف طبقاتهم بالتأمين والتطمين لهم أيام الحرب العامة كلما هم بهم شيطان من
شياطين الحكومة، أو طرأ عليهم حادث من حدثان يطرأ على الأمة - قد عرفهم بكثير
من مزايا الإسلام، وفضل علمائه العاملين....) .
(ويلي هذا كلام قطعه المراقب من الكتاب) .
***
مودة المترجَم وولايته لصاحب المنار
كان بين آل بيتنا وبين الرافعية في طرابلس مودة ورثها الأب عن الجد،
ولكنها مع بعض الأفراد أقوى من بعض، فكان الشيخ عبد الغني أحب شيوخهم إلى
والدي، ونجله المترجم أحب شبانهم إليه، لذلك كنت منذ الشروع في طلب العلم
أتردد عليه وأحب مذاكرته على شدة إعراضي عن معاشرة الناس، محافظةً
على سلامة الفطرة والأخلاق، وقد وجدته أقرب المشتغلين بالعلم إلى ذوقي؛ لحبه
التصوف وعنايته بكتبه، وكنت لا أعرف من كتب الصوفية إلا إحياء العلوم
للغزالي - رحمه الله تعالى - فشوقني إلى كتب الشعراني وكان مغرمًا بها،
وأعارني المتن والعهود الكبرى والطبقات، فألفيتها دون الإحياء، فكنت أعرف
منها وأنكر، وكنت أحضر في بعض الأوقات دروس مطالعته الخاصة التي بينتها
من قبل، وألقي السمع إلى بعض المسائل في الكلام والأصول، فإذا فهمتها
ذكرت له ولرفيقه رأيي في الخلاف فيها، فإذا تبين له بعد البحث ومقابلة الدلائل
أن ما قلته هو الراجح، قال لي: من أين جئت بهذا الرأي وأنت لم تحضر درسًا
واحدًا في هذا الفن، ولا سمعت هذه المسألة وأمثالها من قبل؟ فكنت أقول له:
إنني رجعت إلى نفسي، فوجدتها لا تعقل الحق إلا فيما قلته، أو ما هذا ما معناه،
ولما تكرر ذلك صار يبتدأني أحيانًا بالسؤال، فيذكر مسألةً مشكلةً، ويقول بعد بيان
الخلاف فيها: ارجع إلى نفسك، واذكر لي حكمها فيها.
كان هذا مبدأ حسن ظن المترجم بأخيه في الله، ثم نمى الاعتقاد، كما ينمي
في اليد الخضاب، حتى انتهى فيه أخيرًا إلى رأي العالم الناسك الشهير الشيخ عبد
الباقي الأفغاني، إذ كان يقول: إن علم (فلان) لدنِّي، فإن مثل هذا لا يأتي
بالتحصيل الكسبي، فكان المترجم - أجزل الله ثوابه - وليًّا ونصيرًا لي منذ أقدمت
على الدعوة إلى الإصلاح الديني والمدني في عهد طلب العلم إلى أن توفاه الله تعالى
إليه كما أشار إلى ذلك أخوه فيما رويناه عنه آنفًا.
ولا مندوحة لي عن ذكر بعض الأمثلة والشواهد على ذلك؛ لأنها من أهم ما
يكتب في ترجمة الرجل من حيث هو ركن من أركان النهضة الإسلامية الحديثة في
طرابلس:
دعاني بعض إخواننا مرةً إلى حضور حفلة الذكر السنوية الأولي للمولوية في
طرابلس، ويسمونها المقابلة، ولم أكن رأيتها قبل ذلك - ولا رأيتها بعده - فذهبنا
بعد صلاة الجمعة إلى تكيتهم في وادي نهر أبي علي جنوبي القلعة، وإنه لواد وسيم
صح فيه الماء، واعتل النسيم ، وإنها فيه لدار من أجمل الديار ، في جنات تجري
من تحتها الأنهار ، وقد أمها في ذلك اليوم خلق كثير من العلماء والوجهاء وسائر
الطبقات، فجلسنا مع أمثل النظارة (المتفرجين) في منظرة (كُشك) تجاه مكان
المقابلة، فرأينا شيخ المولوية جالسًا على جلد من جلود الضأن أو الماعز، ورأينا
جماعة الذاكرين - بل الراقصين - منهم وقوفًا لابسين جلابيب رقصهم المعروف عند
أكثر الناس في كل بلد يوجدون فيه، ورأيناهم يقبلون على شيخهم الجالس،
فيحيونه بالركوع وتنكيس الرؤوس، وسمعنا العازفين بالناي يعزفون لهم في
موضع معين من تلك (الحضرة) ويخيل إلي أنه كان هنالك معازف أخرى، فلما
رأيت ما رأيت وسمعت ما سمعت، أخذتني صورة الغضب ورأيت - والقوم
كلهم سكوت مقرون لذلك - أنه تعين عليّ القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر، فوقفت في وسط النظارة وبينت لهم أن هذه بدع ومنكرات شر ما
فيها أنها جُعلت من الدين، والدين بريء منها إلخ، وأمرت الناس بالخروج؛ لأن
إقرار المنكر كفعله، وخرجت ولم ينبس أحد من الناس بكلمة استحسان ولا استهجان،
ولما بعدت عن المكان قليلاً نظرت ورائي فوجدت أناسًا يتبعونني، ولكنهم قليل
بالنسبة إلى من بقي.
كان هذا الإنكار مثارًا للعجب في طرابلس الشام، وصار حديث الناس في
أنديتهم وسمارهم وملاهيهم، وهم بين مستحسن ومستهجن، ومعترض ومجيب،
وكنت أرى أن أقوى المؤيدين لي، والمدافعين عني صاحب الترجمة على شدة
أدبه مع جميع المنتسبين إلى طرق التصوف وتأثره ببعض خرافات كتب
الشعراني، ومن العجائب أن أستاذي الشيخ حسينًا الجسر وصديقه وصديق
والدي الشيخ عبد الله البركة من العلماء - كانا من المنكرين عليّ الناصحين ليّ
بالسكوت عن مثل هذه الأمور، فقد دعاني معهم في تلك الأيام إبراهيم أفندي السبع
إلى طعام أعده لنا في بستان، وهو ما يسميه أهل طرابلس بالسيران، وهنالك
سألني الشيخان عن حقيقة ما يتحدث به الناس في تلك الحادثة، فنصصت القول
على غره، فصار شيخنا يدافع عن المولوية بمثل ما يؤثر في الكتب من الدفاع
عن الصوفية، وأنا أحتج بالسنة ونصوص الشرع، حتى قال متبرمًا: إن مذهبنا
(يعني الحنفية) أشد من مذهبكم (يعني الشافعي) في تحريم السماع والمعازف
ولكن الصوفية لهم حالة أخرى مع الله، وإني أخاف عليك من عاقبة الخوض فيهم
والطعن عليهم، قلت له: إن هؤلاء القوم ليسوا من الصوفية في شيء حتى يسلم لهم
بأن لهم اجتهادًا وأحوالاً تعرض لهم في بعض الأوقات يعذرون فيها بما لا يعذر به
غيرهم، قال: فما بالك تخص هؤلاء بالإنكار، وتسكت عن مرتكبي المعاصي
الصريحة التي لا تأويل لها، فإن من الناس من يشرب الخمر ومن يلعب بالقمار؟
قلت: إني لم أر من هؤلاء أحدًا، على أن حالهم أهون من حال مَن يجعل البدع
والمنكرات دينًا، قال: لك الحق من الجهة الشرعية، وقد بينت لك رأيي وبذلت
نصحي، فاختر لنفسك ما يحلو، أو ما هذا معناه.
(للترجمة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
قرار المؤتمر السوري العام
وَعَدنا في مقال (المسألة السورية والأحزاب) بأن ننشر نص قرار المؤتمر
السوري الذي قدمه للجنة الاستفتاء الدولية، وهذا هو النص العربي الأصلي الذي
قدمت ترجمته بالإنكليزية:
(إننا نحن الموقعون أدناه بإمضاءاتنا وأسمائنا أعضاء المؤتمر السوري
العام المنعقد في دمشق الشام ، والمؤلف من مندوبي جميع المناطق الثلاث: الجنوبية
والشرقية والغربية، الحائزين على اعتمادات سكان مقاطعاتنا وتفويضاتهم من
مسلمين ومسيحيين وموسويين، وقد قررنا في جلستنا المنعقدة في نهار الأربعاء
المصادف لتاريخ 2 تموز (يوليو) سنة 1919 وضع هذه اللائحة المبينة لرغبات
سكان البلاد الذين انتدبونا، ورفعها إلى الوفد الأميركي المحترم من اللجنة الدولية.
(أولاً) : إننا نطلب الاستقلال التام الناجز للبلاد السورية التي يحدها شمالاً
جبال طوروس ، وجنوبًا رفح ، فالخط المار من جنوب الجوف إلى جنوب العقبة
الشامية والعقبة الحجازية ، وشرقًا نهر الفرات فالخابور ، والخط الممتد شرقي
أبي كمال إلى شرقي الجوف، وغربًا البحر المتوسط - بدون حماية ولا وصاية.
(ثانيًا) : إننا نطلب أن تكون حكومة هذه البلاد السورية ملكيةً مدنيةً نيابيةً
تدار مقاطعاتها على طريقة اللامركزية الواسعة، وتحفظ فيها حقوق الأقليات على
أن يكون مَلِك هذه البلاد الأمير فيصل الذي جاهد في سبيل تحرير هذه الأمة جهادًا
استحق به أن نضع تمام الثقة بشخصه، وأن نجاهر بالاعتماد على سموه.
(ثالثًا) : حيث إن الشعب العربي الساكن في البلاد السورية هو شعب لا
يقل رقيًّا من حيث الفطرة عن سائر الشعوب الراقية، وليس هو في حالة أحط من
حالات شعوب البلغار والصرب واليونان ورومانيا في مبدأ استقلالها - فإننا
نحتج على المادة الثانية والعشرين الواردة في عهد جمعية الأمم، القاضية بإدخال
بلادنا في عداد الأمم المتوسطة التي تحتاج إلى دولة منتدبة.
(رابعًا) : إذا لم يقبل مؤتمر الصلح هذا الاحتجاج العادل لاعتبارات لا نعلم
كنهها، فإننا بعدما أعلن الرئيس ولسن أن القصد من دخوله في الحرب هو القضاء
على فكرة الفتح والاستعمار - نعتبر مسألة الانتداب الواردة في عهد جمعية الأمم
عبارةً عن مساعدة فنية واقتصادية، لا تمس باستقلالنا السياسي التام، وحيث إننا
لا نريد أن تقع بلادنا في أخطار الاستعمار، وحيث إننا نعتقد أن الشعب الأمريكي
هو أبعد الشعوب عن فكرة الاستعمار، وأنه ليس له مطامع سياسية في بلادنا، فإننا
نطلب هذه المساعدة الفنية والاقتصادية من الولايات المتحدة الأميركية على أن لا
تمس هذه المساعدة باستقلال البلاد السياسي التام، وعلى أن لا يزيد أمد هذه المساعدة
عن عشرين عامًا.
(خامسًا) : إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من قبول طلبنا هذه المساعدة منها،
فإننا نطلب أن تكون هذه المساعدة من دولة بريطانيا العظمى على أن لا تمس
باستقلال بلادنا السياسي التام ووحدتها، وعلى أن لا يزيد أمدها عن المدة
المذكورة في المادة الرابعة.
(سادسًا) : إننا لا نعترف بأي حق تدعيه الدولة الإفرنسية في أي بقعة
كانت من بلادنا السورية، ونرفض أن يكون لها مساعدة أو يد في بلادنا بأي حال
من الأحوال.
(سابعًا) : إننا نرفض مطالب الصهيونيين بجعل القسم الجنوبي من البلاد
السورية - أي فلسطين - وطنًا قوميًّا للإسرائيليين، ونرفض هجرتهم إلى أي قسم
من بلادنا؛ لأنه ليس لهم فيها أدنى حق، ولأنهم خطر شديد جدًّا على شعبنا من
حيث الاقتصاديات والقومية والكيان السياسي، أما سكان البلاد الأصليون من
إخواننا الموسويين، فلهم ما لنا وعليهم ما علينا.
(ثامنًا) : إننا نطلب عدم فصل القسم الجنوبي من سورية المعروف
بفلسطين، والمنطقة الغربية الساحلية التي من جملتها لبنان عن القطر السوري،
ونطلب بأن تكون وحدة البلاد مصونةً لا تقبل التجزئة بأي حال كان.
(تاسعًا) : إننا نطلب الاستقلال التام للقطر العراقي المحرر، ونطلب عدم
إيجاد حواجز اقتصادية بين القطرين.
(عاشرًا) : إن القاعدة الأساسية من قواعد الرئيس ولسن التي تقضي بلغو
المعاهدات السرية، تجعلنا نحتج أشد الاحتجاج على كل معاهدة تقضي بتجزئة
بلادنا السورية، أو كل وعد خصوصي يرمي إلى تمكين الصهيونيين من القسم
الجنوبي من بلادنا، ونطلب أن تلغى تلك المعاهدات والوعود بأي حال كان.
هذا وإن المبادئ الشريفة التي صرح بها الرئيس ولسن لتجعلنا واثقين كل
الثقة في أن رغائبنا هذه الصادرة من أعماق القلوب، ستكون هي الحسم القطعي في
تقرير مصيرنا، وإن الرئيس ولسن والشعب الأمريكي الحر، سيكون عونًا على
تحقيقها فيثبتون الجلاء مصداق مبادئهم السامية وغاياتهم الشريفة نحو البشرية
بنوع عام، وشعبنا العربي بنوع خاص، وإن لنا الثقة الكبرى في أن مؤتمر السلم
يلاحظ أننا لم نثر على الدولة التركية التي كنا وإياها شركاء في جميع الحقوق
التمثيلية والمدنية والسياسية إلا لأنها تحاملت على حقوقنا القومية فيحقق لنا
رغائبنا بتمامها، فلا تكون حقوقنا قبل الحرب أقل منها بعد الحرب، بعد أن أرقنا
من الدماء ما أرقناه في سبيل الحرية والاستقلال، ونطلب السماح لنا بإرسال وفد
يمثلنا في مؤتمر السلام للدفاع عن حقوقنا الثابتة تحقيقًا لرغباتنا، والسلام) اهـ.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الدولة العثمانية بعد الهدنة
اشترط دول الحلفاء في مهادنة الدولة العثمانية أن يكون لهم الحق في احتلال
جيوشهم للبلاد، والمواقع العسكرية التي يتوقف تنفيذ شروط الهدنة على احتلالها،
كتأمين تسريح الجيش وإعادة الأسرى، وجعلوا هذا الشرط وسيلةً لاحتلال كاد
يكون عامًّا شاملاً لجميع الولايات التركية بعدما احتلوا جميع الولايات العربية في
سورية والعراق ، ومن البديهي أن هذا الاحتلال يمكِّنهم من تسريح جميع الجنود
العثمانية إلا ما يراه الحلفاء نافعًا لهم في حفظ الأمن تحت إدارتهم، كالشرطة
وأعوانها، ومن جمع السلاح، بحيث يكون تقسيم البلاد بينهم سهلاً سائغًا، لا مشقة
فيه ولا خسارة، ولم يكتفوا بجعل هذا الاحتلال لجيوش الدول الكبرى الظافرة،
بل انتهوا في إذلال الدولة والشعب التركي إلى الإذن لجيش من اليونان أن يحتل
ولاية أزمير أهم الولايات التركية بعد ولاية الآستانة ، فطفق هؤلاء يستذلون أهلها،
فكانت هذه النكاية حافزةً للترك إلى الخروج مما خنعوا له أولاً من احتلال الآستانة
وغيرها، فهاجت الآستانة وماجت، واجتمع مئات الألوف في الميدان بين مسجد
أياصوفيا ومسجد السلطان أحمد ، واحتجوا أشد الاحتجاج على عمل الحلفاء،
واحتج السلطان محمد وحيد الدين نفسه عليه بأن أعلن الاستقالة من الخلافة
والسلطنة، وأبى ولي عهده أن يقبل المبايعة لنفسه، واضطر السلطان إلى البقاء
في (دسته) وتألفت العصابات المسلحة في ولاية أزمير وغيرها من الأناضول
لقتال اليونان، فحملتهم خسائر عظيمة، ثم عزم الترك في الأناضول على مقاتلة
كل جيش يحتل بلادهم أو يجعلها تحت حماية أجنبية، وهو المتبادر من عمل
أوربة ، وفر أنور باشا وغيره من الضباط إلى القوقاز، فتولوا تأليف العصابات
لقتال الإنكليز الذين احتلوا بعض تلك البلاد، والمساعدة على نشر البلشفية في أمم
الشرق الإسلامية.
بهذه العصابات التي ينتمي أكثر قوادها إلى جمعية الاتحاد والترقي التي لم
تدع في الجيش أحدًا من غير رجالها ذا قيمة، أخذت الجمعية تبني لها مجدًا جديدًا
في البلاد بعد أن ظن أكثر الناس أنه قضي عليها بسوء عاقبة الحرب التي أهلكت
بها الدولة والأمة، وبما تلا الهدنة من فرار أكبر زعمائها واعتقال الباقين، وبما
للسلطان محمد وحيد الدين الذي كان يمقتها أشد المقت من النفوذ الخاص الذي يعرفه
له أهل المكانة من الترك وغيرهم، حتى وصفه عربي وجيه كان مقيمًا في
الآستانة وعرفه حق المعرفة بقوله: إنه جمع بين ديانة أبيه عبد المجيد ،
وشجاعة عمه عبد العزيز ، ودهاء أخيه عبد الحميد، وقال عربي آخر مختبر: إن
مشربه تجديد حياة الدولة بالمحافظة على مكانتها الإسلامية والعناية بالترقي
المدني، وإبطال التقاليد الضارة، ويرى العارفون بشؤون الدولة الآن أنه راض في
الباطن من مؤسسي العصابات، كمصطفى كمال باشا وغيره، وإن كانوا غير
خاضعين لحكومة الآستانة الخاضعة لاحتلال الحلفاء.
فالحرب الآن في الأناضول مستعرة كروسية، ونيران الفتن في البلقان
مستورة برماد دقيق تنكشف من تحته تارةً بعد أخرى، وجميع أمم الأرض
مضطربة جائعة، وسبب ذلك كله مؤتمر الصلح الأعرج الأعشى، الذي اكتفى بعقد
الصلح مع ألمانية ليقيدها بقيود تمكنه من التصرف في سائر الأمم بما يهوى،
ومعاهدة الصلح معها لم يُظهر رضاءه عنها أحد إلا الحكومة الإنكليزية الواضعة
لها، ولا يعلم عاقبة ذلك أحد إلا الله تعالى، فنسأله سبحانه اللطف بعباده
المهضومي الحقوق، والإدالة ولهم من ظالميهم الطامعين، آمين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
ذات بين الحجاز ونجد أو الخرمة
والوهابية والمتدينة
في هذا الصيف كثر خوض الجرائد الأوربية والعربية المصرية والسورية
في المسألة العربية، وذكرت أنه وقع بين الوهابيين التابعين لابن سعود أمير نجد
والحجازيين، حرب سببها الخلاف في المذهب، انتصر فيها الأولون انتصارًا فاصلاً
في (تربة) فنكّلوا بجيش الأمير عبد الله نجل ملك الحجاز ، وأخذوا جميع ما كان
معه من المدافع والسلاح والذخائر، ثم أذيع أنهم احتلوا مكة المكرمة ، وإن
ملكها لما شعر بقرب وصولهم إليها أخلاها لهم وسافر إلى جدة ، فأقام فيها
واستجار بحليفته بريطانية العظمى، وكثر حديث الناس في هذا المعنى، وكان مما
ذكرته هذه الجرائد أن الوهابية مصلحون في الإسلام، وتربة هذه (بضم ففتح)
قرية في الشرق الجنوبي من مكة والطائف ، وفي الغرب من وادي تربة الشهير
الذي قال فيه صاحب معجم البلدان: إنه وادٍ بالقرب من مكة على مسافة
يومين منها.
أما أخذ النجديين مكة المكرمة فهو كذب، صرح بتكذيبه كل من الوكالة
العربية الهاشمية بمصر ، ودار الحماية الانكليزية، وأما وقوع القتال وانكسار
جيش الأمير عبد الله في (تربة) وأخذ جميع أسلحته، فقد ثبت رسميًّا كما فصل
في برقية وردت من عدن.
وأما ما علمناه في المسألة من ثقات الضباط الذين كانوا في الحجاز وغيرهم،
فهو أن النزاع والقتال كان بين حكومة مكة وبين الشريف خالد صاحب
(الخرمة) وهي قرية في الشرق الشمالي من مكة قريبة من وادي تربة، والشريف
خالد هذا من شرفاء مكة وعشيرة الإمارة فيها، وكان قد استنجد لمساعدة الشريف
علي على فتح المدينة المنورة فلبى، وهو الذي أسر أشرف بك أشقى الفدائيين
الاتحاديين إذ كان مرسلاً بمبلغ كبير من الجنيهات المجيدية إلى الأمير ابن الرشيد ،
ثم وقع الخلاف والنفور بين الشريف علي قائد الجيش العربي المحاصر للمدينة
المنورة، وبين الشريف خالد، فعاد الثاني إلى الخرمة، وصار ملك الحجاز يرسل
الحملة بعد الحملة لقتاله فيظفر بها، وينضم إليه الكثير من بدوها ويدخلون في
جماعة الإخوان المتدينة الذين نذكر خبرهم قريبًا، ولما سلّم الترك المدينة المنورة
إلى جيش الأمير علي بعد عقد الهدنة بين الدولة العثمانية والحلفاء، ألَّف الشريف
عبد الله حملة من الجيش النظامي الذي كان محاصرًا لها فيها عشرات من الضباط
زيدت مرتباتهم، وجهزت بأنواع الأسلحة الجديدة من المدافع الجبلية والرشاشة
وغيرها وبالديناميت.
قال بعض الضباط الذين كانوا في الحجاز: إن هذه أعظم حملة يمكن لحكومة
الحجاز أن تكافح بها الشريف خالدًا، فإذا كسرها تيسر له الاستيلاء على مكة المكرمة
إذا شاء، ثم بلغنا ما تقدم من أن جيش ابن سعود هو الذي كسر الحملة، ثم نقل إلينا
أن الحملة المنظمة استظهرت على الشريف خالد، فأمرها ملك الحجاز بالزحف على
نجد، فعند ذلك أرسل الأمير ابن سعود بجيوشه لقتالها فظفرت بها، ثم زحفت تقصد
مكة حتى قيل: إنها وصلت إلى وادي الليمون وأن ملك الحجاز استنجد بالحكومة
الانكليزية على ابن سعود، فسألت الأمير ابن سعود عما يريده من الحجاز، فأجاب
بأنه هو أحق بحكم الحجاز من شرفاء مكة، وأن أكثر أهله يفضلونه عليهم لعلمهم
بعدله، وشكواهم من ظلم جميع الشرفاء واستبدادهم مع ما كان من سيطرة الترك
عليهم، وأنه مع هذا لا يبغي الاستيلاء عليه، وإنما يطلب أن يكون (وادي تربة)
هو الحد الفاصل بينه وبين نجد، وأن تعترف به الحكومتان حتى لا تعتدي واحدة
منهما على ما وراءه، وأن يكون لحكومة نجد معتمد في مكة ينظر في مصالح
رعاياها، ويراجع حكومتها في شأنهم، فإن شريف مكة كثيرًا ما يظلمهم، وفي بعض
السنين يصدهم عن أداء فريضة الحج فلا يسمح لهم بها، فرأى الإنكليز أن هذين
المطلبين حق، فوعدوا ابن سعود بأن يتوسطوا بينه وبين ملك الحجاز فيهما بشرط أن
يمتنع هو وجميع أتباعه من المتدينة من التعدي على الحجاز. وبلغنا أيضًا أنهم
خاطبوا ملك الحجاز في ذلك، فأبى أن يعترف لنجد لها بحدود، أو يقبل منها معتمدًا،
والظاهر أن الإنكليز يظاهرونه لإعلانه موافقته لسياستهم في بلاد العرب.
المتدينة والوهابية
يعلم الملايين من البشر - بعضهم بالمشاهدة والاختبار، وبعضهم بالروايات
الثابتة بالتواتر - أن الأعراب (البدو) في الحجاز وغير الحجاز قد عادوا إلى شر
مما كانوا عليه في الجاهلية من الغزو والسلب والنهب والقتل حتى للحجاج المحرمين
في أرض الحرم والأشهر الحرم، وأنهم يستحلُّون ذلك ويسمونه كسبًا، وأن لهم شرائع
وأحكامًا عرفيةً مخالفةً للشرع لا يرضون الحكم بدونها، وأن أكثرهم لا يصلون ولا
يصومون، ومن يحج منهم لا يلتزم أحكام الشرع في الحج ولا يعرفها، ولا يمنعه
الإحرام بالحج عن القتل والسلب والنهب إن قدر عليه، ولا شك في أن من كان
كذلك، فهو ليس بمسلم ولا ذي دين، هذا ما هو مشهور عنهم ويظن كثير من الناس
أنهم كلهم على ذلك، وهذا خطأ عظيم، فإنه يصدق عليهم في هذا العصر ما بينه الله
عز وجل من حال أسلافهم في عصر التنزيل، وهو أن منهم الكافر والمنافق
والمؤمن الصادق، ولكن كفر الكافرين منهم كله - أو جله - عن جهل بضروريات
الدين التي لا يعذر أحد بجهلها، ولعله لا يوجد فيهم شيء من كفر العناد والجحود.
وأما الذين عادوا إلى الدين من أعراب الحجاز وما حوله، فالفضل في هدايتهم
لشيوخ السنوسية ودعاة علماء نجد. أما السنوسيون فقد كان لهم في نشر طريقتهم شرة
(أي: نشاط وقوة) تلتها فترة، وأما النجديون فقد بلغنا أن شرتهم ونشاطهم بلغا
أشدهما في هذه السنين الأخيرة، ويسمون من يستجيب لهم: المتدينة، ويقابلهم من لا
دين لهم يهتدون به، وهم الذين لا يعرفون عقيدة الإسلام ولا شرائعه، ويستبيحون
الغزو والسلب والنهب لمجرد الكسب، وبلغنا أن الدعاة يبينون في دعوتهم هذه الحقيقة
لكشف غرور من يظن من أولئك الأعراب أن تسمية أنفسهم مسلمين يغني عنهم شيئًا،
فيذكرون لهم أن الإسلام علم وعمل، فمن لا علم له بحقيقة عقيدته - وأساسها التوحيد
الخالص وتنزيه الله تعالى ووصفه بما وصف به نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله
صلى الله عليه وسلم ولا بأحكام أركانه وشرائعه، وأن من لا يذعن لأحكامه بعد
العلم بها، فليس منه في شيء، وأن من مات من آبائهم وأجدادهم غير عالم بذلك ولا
مذعن له بالعمل من مستبيحي القتل والسلب، فقد مات كافرًا.
حال المتدينة
واشتراكيتهم الاختيارية
وبلغنا أن من استجاب لدعوة هؤلاء الدعاة من الأعراب يتوب عن الكسب
بالغزو والنهب، ويتحولون عن البداوة، فيبنون البيوت ويغرسون الشجر
ويزرعون، ويأخذون بتعلم القراءة والكتابة حتى قبل التحضر، فتراهم يحملون
ألواح الكتابة على ظهور الإبل يتعلمون بها، ولا يبعد أن تجد فيهم من يقول، كما
قال أحد أعراب شنقيط:
قد اتخذنا ظهور العيس مدرسةً
…
بها نبين دين الله تبيانا
وإن التعاطف والتعاون بينهم يشبه ما كان في صدر الإسلام بين المهاجرين
والأنصار - رضي الله تعالى عنهم - فقد روينا عن أحد المختبرين من أهل مكة
المكرمة أن الرجل منهم إذا كان عنده ألف شاة وكان يكفيه لنفسه وعياله نصفها أو
ربعها مثلاً، فإنه يبذل الباقي كله لمصلحة الإخوان.
ولا يمكن حملهم على قتل أحد إلا بحجة دينية، فإذا قنعوا بأن القتال واجب
شرعًا وشرعوا فيه، فإنهم يندفعون بشجاعة واستبسال، وينفق كل في سبيله كل ما
تصل إليه يده من المال، على حين نرى غيرهم لا يقاتل إلا مأجورًا، فإذا وجد من
يزيد في أجره على من يقاتل معه ليقاتله، فعل.
وبلغنا أن دعوتهم تغلغلت في جميع قبائل نجد والحجاز وعسير ، وأطراف
هذه البلاد وما جاورها، حتى إن قبيلتي غامد وزهران الحضريتين طلبتا مرشدين من
علمائهم.
ما ينتقد على المتدينة
هذا مجمل ما بلغنا من خبرهم من المختبرين المعجبين بنهضتهم، الذين
يرجون تجديد الإسلام في الجزيرة بهذه الحركة، ولا نجد بدًّا من ذكر انتقاد بعض
رواة خبرهم غلوهم في كثير المسائل، وتشديدهم فيها إلى أنهم يحرمون بعض
المباحات، ويجزُون على بعض الذنوب بأشد العقوبات، وآفة ذلك جهل بعض
الدعاة بالأحكام الشرعية تفصيلاً، وهو جهل لا يرجى تلافيه إلا بالتوسع في العلم
الشرعي، فإن الذي يأخذ الدين بقوة يرجع إلى ما يعلم من أحكامه وهدايته.
وخصوم هؤلاء المتدينة ينبزونهم بلقب الوهابية الذي وضعته السياسة لأهل
نجد وسمته مذهبًا، وقد حدثني ثقة عن عالم من أهل الحديث رآه في مكة، وكان
في نجد أن علماء نجد ينتقدون على المتدينة غلوهم في الدين والجهل بكثير من
أحكامه التي لا غنى لمسلم يقيم دينه عنها، وسبب ذلك أنه لا يوجد في نجد من
الدعاة والمعلمين الراسخين في علم السنة ومذهب الإمام أحمد من يكفي لتعليم هذه
القبائل الكثيرة التي تركت تقاليد الجاهلية، وانتظمت في سلك المتدينة، وإننا رأينا
أكثر الذين ينصفون الوهابية في الأمصار الإسلامية يقولون: لا شك في أنهم مجددون
للإسلام في بلاد العرب، ولكنهم غلاة متشددون، ولشدة تمسكهم بظواهر النصوص
وأخذها بقوة بدوية، لا يشعرون بأنهم غلاة متشددون.
***
حقيقة الوهابية ومذهبهم
ترى في كتب التاريخ الحديث أن لفظ (الوهابية) يطلق على أتباع الشيخ محمد
ابن عبد الوهاب العالم السني الشهير - الآتي ذكره - المجدد للنهضة الدينية في نجد،
وقد اتخذ أمير نجد تلك النهضة في إبان ظهورها وسيلةً للاستيلاء على بلاد الحجاز
التي طال عليها عهد الظلم والجهل، ولم يظهر فيها مصلح علمي ولا إداري.
فانبرت حكومة الآستانة لمناهضته وإخراجه من الحجاز الذي هو مناط عظمتها
وسلطتها الإسلامية، واستعانت على ذلك بحكومة محمد علي باشا الفتاة؛ إذ كانت
عاجزةً عن تولي ذلك بنفسها. وأرادت أن تشوه تلك الحركة الإصلاحية فأذاعت
أنها عبارة عن إحداث مذهب جديد مبتدع في الإسلام مخالف لمذاهب أهل السنة،
وأغرت أنصارها من العلماء الرسميين والمفتين بالرد على هذا المذهب وتضليل أهله
أو تكفيرهم.
وهم ينكرون كل مذهب في الأصول غير مذهب السلف الصالح، ويتبعون في
الفروع مذهب الإمام أحمد بن حنبل وأصحابه، ولكن الدولة العثمانية والحكومة
المصرية كانتا أقدر منهم على إقناع أكثر أهل بلادهما بأنهم يتبعون مذهبًا جديدًا، وأن
محمد علي باشا كان مجاهدًا ناصرًا للإسلام بقتالهم، وإن كان أصدق مؤرخي عصره،
وهو الشيخ عبد الرحمن الجبرتي يثبت ضد ذلك في سيرته، وفي وصف جيشه
وجيشهم، فأما كلامه في سيرته فكثير، وأما ما رواه عن المقارنة والمقاتلة بين
الجيشين، فحسبك منه ما ذكره في أول حوادث سنة 1227 عند ذكر الذين انهزموا
من عسكر محمد علي، ورجعوا إلى مصر، وهو:
رواية الجبرتي في الوهابية
وعسكر محمد علي
(ولقد قال لي بعض أكابرهم من الذين يدَّعون الصلاح والتورع: أين لنا
بالنصر وأكثر عساكرنا على غير الملة، وفيهم من لا يتدين بدين ولا ينتحل
مذهبًا؟ وصَحِبتنا صناديق المسكرات، ولا يُسمع في عرضينا أذان ولا تقام به
فريضة، ولا يخطر في بالهم ولا خاطرهم شعائر الدين، والقوم (يعني الوهابية)
إذا دخل الوقت أذن المؤذنون، وينتظمون صفوفًا خلف إمام واحد بخشوع
وخضوع، وإذا حان وقت الصلاة والحرب قائمة أذن المؤذن وصلوا صلاة الخوف،
فتتقدم طائفة للحرب، وتتأخر الأخرى للصلاة، وعسكرنا يتعجبون من ذلك؛
لأنهم لم يسمعوا به فضلاً عن رؤيته، وينادون في معسكرهم: هلموا إلى حرب
المشركين المحلقين الذقون، المستبيحين الزنا واللواط، الشاربين الخمور،
التاركين للصلاة، الآكلين الربا، القاتلين الأنفس، المستحلين المحرمات، وكشفوا
عن كثير من قتلى العسكر فوجدوهم غير مختونين) اهـ.
نظرة في أقوال الناس في الوهابية
لا يزال كثير من مسلمي الحجاز ومصر وسورية والآستانة والأناضول
والرومللي يظنون أن لأهل نجد مذهبًا مخالفًا لمذاهب أهل السنة؛ لأن بعض الذين
كتبوا عنهم قالوا: إنهم يكفرون غيرهم من المسلمين، ويقولون في النبي عليه أفضل
الصلاة والسلام ما يعد إهانةً، وإنهم عند الاستيلاء على المدينة المنورة أخذوا الكوكب
الدري من الحجرة النبوية مع غيره من الجواهر والذخائر، وإنهم ربطوا الخيل في
المسجد الشريف، وهم لا يحققون هذه التهم، ولا ما يصح أن يعد منها كفرًا وما لا
يعد، وهي تهم خصوم سياسيين، والسياسة تستحل الكذب والبهتان والتحريف وكل
منكر يوصلها إلى غايتها، ثم إنهم يغفلون عما في قوانين حكومتهم من المخالفة
لأصول الدين وفروعه القطعية المجمع عليها، المعلومة من الدين بالضرورة التي
يكفر جاحدها باتفاق مذاهبهم، كإباحة الزنا والربا والقتل لأسباب عسكرية وسياسية
مخالفة للشرع، وعن قول علمائهم: إن الرضا بالكفر كفر، وعما يسمعون من الأقوال
ويرون من الأفعال التي يعدها فقهاؤهم كفرًا أو فسقًا يكفر مستحله، ولا يقولون: لعل
ما يقال عن أهل نجد - إن صح - يكون من جهل بعض أفرادهم لا من مذهبهم، كما
أن ما في بلادنا من أحكام القوانين وأعمال الكثير من الفساق والمرتدين هو من جهل
بعض الناس بالدين أو ترك الاهتداء، وليس عملاً بمذهب أبي حنيفة الذي هو مذهب
الحكومة وأكثر الولايات التركية، ولا بمذهبي مالك والشافعي اللذين ينتمي إليهما
أكثر أهل هذه الولايات العربية.
أهل نجد الذين يسمون وهابيةً كلهم حنابلة، يتلقون من كتب السنة المشهورة،
وكتب مذهب الإمام أحمد رابع الأئمة الأربعة المشهورين، وأوسعهم علما بالسنة،
كما يعلم ذلك أهل الحديث في كل بلاد الإسلام، وهو أستاذ أشهر مدوني كتب السنة
كالبخاري ومسلم صاحبي الصحيحين اللذين هما أصح كتب الإسلام بعد كتاب الله
تعالى، وحكومة نجد لا تحكم إلا بفقه الإمام أحمد، فلا يوجد فيها قوانين غيره،
ولا أحد هنالك يعمل أو يحكم بقول للشيخ محمد بن عبد الوهاب قاله باجتهاده،
ولا يوجد أحد في تلك البلاد يجاهر بمعصية من المعاصي الكبائر.
فهم باستمساكهم بمذهب الإمام أحمد يشبهون أهل أفغانستان في شدة استمساكهم
بمذهب الحنفية والتعصب له وشدة الإنكار على مخالفه، ولكنهم يفضلون سائر
المنتمين إلى المذاهب الأخرى بتقديم نصوص الكتاب والسنة على أقوال علماء
مذهبهم عملاً بقوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن
كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (النساء: 59) ويعذرون من يأخذ بأقوال أي
إمام من المجتهدين، ولكنهم ينكرون على من يأخذ بقول أي مؤلف منسوب إلى
مذهبه فيما يخالف فيه السنة الصحيحة الصريحة، وذلك كثير، وأما الأفغانيون
فيعاقبون من يخالف مذهبهم، ولو إلى قول مجتهد أرجح، أو عملاً بحديث صحيح.
فمن المنقول عنهم أن يعاقبون من يقول: (آمين) بعد الفاتحة حتى إن بعضهم
سمع رجلاً يصلي بجانبه في الصف قال: (آمين) مع تأمين الإمام، فضربه
بمجموع يده على صدره ضربةً وقع بها على قفاه!! وينقل عنهم أنهم إذا رأوا مصليًا
رفع سبابته عند التشهد، فإنهم يعاقبونه بقطعها، وقد سألت عن هذا بعض طلبة
العلم منهم في مسجد لاهور الأثري الكبير بالهند فقالوا: إنه صحيح، وأرادوا أن
يحتجوا عليه، فقصرت الكلام معهم متلطفًا في الإنكار عليهم.
وأخبار تعصب أهل المذهب بعضهم على بعض مشهورة مسطورة في كتب
التاريخ، وكل ما كان ينكره على الحنابلة أهلُ الكلام في العقائد وأهلُ الرأي في الفقه،
هو الاعتصام بظواهر نصوص الكتاب والسنة وترجيح ما كان عليه السلف الصالح
على ما جاء به أذكياء أهل النظر من بعدهم، لذلك كانوا هم أحق بلقب أهل السنة من
الذين ينتحلونه لأنفسهم دونهم.
وأميرهم لهذا العهد من العقلاء المعتدلين، لا من الغلاة المشددين، فقد بلغنا
أن الإنكليز اجتهدوا في أول العهد بالحرب الأخيرة في استمالته لقتال الترك،
فاعتذر عن ذلك بأنهم مسلمون، وأن ما كان من حرب أهل بلاده لهم من قبل، فإنما
هو دفاع لا اعتداء، وكبار علمائهم أولى بالاعتدال وإنصاف المخالف، فلم يبق إلا أن
خصومهم يجعلون شذوذ بعض الغلاة منهم قاعدةً متبعةً ومذهبًا لهم كافةً.
وإنني أذكر لهم شاهدًا على مبالغتهم في سوء الظن بدين أهل البلاد التي
فشت فيها الأقوال الشركية، كدعاء غير الله تعالى، ولا سيما في وقت الشدة،
وعلى كونهم مع هذا يتبعون الدليل إذا ظهر لهم ويقنعون به.
زارني في مكة شاب نجدي يظهر أنه من طلاب العلم، فقال: إنني أريد أن
أسألك عن شيء أشكل علي من عملك، وإنما أسألك عنه لأنك من علماء الحديث
وأنصار السنة ومقاومي البدع، قلت: سل، قال: إنني رأيتك تصلي مقتديًا بأئمة
الحرم، وقد فشا فيهم دعاء غير الله تعالى فيما لا يطلب من غيره، والاستعانة بسواه
فيما هو خارج عن الأسباب التي يتعاون الناس فيها، وغير ذلك من الشرك
الجلي.....، قلت: إنني لم أصلِّ مقتديًا بأحد سمعت منه مثل ذلك أو علمته عنه،
وإنه لا يوجد عمل أدل على إسلام المرء وإيمانه من الصلاة، فأنا أصلي مع كل من
رأيته يصلي إذا لم يكن عندي علم بأنه على عقيدة باطلة، وإذا كان الله تعالى يقول:
{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} (النساء: 94) والسلام أضعف
الأمارات على الإيمان، فهل يصح أن أقول بكفر المصلي والصلاة أقوى أمارات
الإيمان؟ فرأيته قنع بهذا الدليل ورضي به، ولكنني رأيت من المتعذر إقناع أولئك
الطلاب الأفغانيين في لاهور بخطأ قومهم فيما ذكرت آنفًا، ومثلهم من يقلد شيوخ
السوء المفرقين في تكفير من يسمونهم الوهابية.
لا يوجد عالم سني ولا شيعي ولا خارجي يدَّعي العصمة لأهل مذهبه،
فكل فرد من أفراد كل فرقة عرضة للخطأ، وإن بلغ من سعة العلم ما بلغ، وكان
الإمام مالك يقول: كل أحد يؤخذ من قوله ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر، ويشير
إلى قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، وخير المخطئين من يكون خطأه عن اجتهاد
وحسن نية، سواء كان في تنقيح المناط أو في تحقيقه، وآيته أنه إذا ظهر له
الدليل على خطأه رجع عنه إلى الصواب، وشر المخطئين من يتبع في خطأه من
ليس معصومًا ويصر عليه وإن ظهر له الدليل من الكتاب والسنة على خلافه فما أضاع
الدين وروج بضاعة الجاهلين والدجالين إلا هذا التقليد الأعمى من الشيع والفرق لكل
من ينسب إلى مذهب من يسمونه إمامهم من غير علم ولا بصيرة، حتى إنهم يقلدونهم
فيما يخالف نصوص الأئمة الذين يدعون اتباع مذاهبهم، والشواهد على ذلك كثيرة في
المنتسبين إلى كل مذهب من المذاهب، ولكنهم يتخذون أسماء الأئمة دروعًا يدفعون
بها حجج كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، المثبتة إعراضهم عنهما
واتباعهم سنن من كان قبلهم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع مصداقًا للحديث المشهور،
وإنما أرادوا أن يسلبوا أهل نجد مثل هذا الدفاع عن أنفسهم فسلبوهم اسم الحنابلة
وسموهم الوهابية، وإلا فليأتوا بمسألة واحدة مما عليه جمهور أهل نجد لا أصل لها
في الكتاب والسنة ولا في كتب مذهب الإمام أحمد بن حنبل، كما يأتيهم هؤلاء بكثير
من المسائل المخلة بعقيدة الإسلام وأحكامه التعبدية والقضائية الفاشية في بلادهم مما
ليس له أصل في الكتاب والسنة ولا كلام الأئمة.
تلك حقيقة من يسمون الوهابية، والمتدينة ونسبتهم إلى غيرهم من المنتمين
إلى المذاهب المشهورة لخصناها مما قرأناه في كتبهم، ومما وقفنا عليه بالروية
والاختبار، ومن كتب التاريخ التي خلطت الحق بالباطل، وجمعت بين ما كتبه
المسلمون والإفرنج على اختلاف الروايات والأهواء، كدأب الناس في كل ما
تدخل فيه السياسة وتتنازع فيه الأحزاب والشيع، وإننا ننقل ما كتبه مؤرخ من
أهل العلم الذين صدّقوا - كما كنا نصدّق - ما أذاعته السياسة من تأسيس الشيخ محمد
عبد الوهاب لمذهب جديد، وما ذاك إلا رجوعه إلى مذهب السلف الذي رجع إليه
أكبر حذاق الطرق من أهل الكلام في أواخر أعمارهم، كالأشعري والغزالي
والرازي ، وأضرابهم على تفاوت بينهم في معرفة السنة وآثار السلف والتدرج في
الرجوع، وهو:
مذهب الوهابية وعقائدهم
كتب المرحوم الشيخ عبد الباسط الفاخوري الذي كان مفتي بيروت في عهد
السلطان عبد الحميد في ترجمة السلطان محمود الثاني العثماني من كتابه (تحفة
الأنام، مختصر تاريخ الإسلام) الذي ألف وطبع في بيروت سنة 1325 ما نصه:
(ثم في غضون ذلك ظهرت الطائفة الوهابية في بلاد نجد، واستولوا على
مكة المكرمة والمدينة المنورة وباقي بلاد الحجاز، حتى قاربوا بلاد الشام من جهة
دمشق) .
(وهم قوم كثيرون من عرب نجد اتبعوا طريقة الشيخ عبد الوهاب، وهو
رجل ولد في (الدرعية) بأرض العرب من بلاد الحجاز، طلب أولاً العلم على
مذهب أبي حنيفة في بلاده، ثم سافر إلى أصفهان وأخذ عن علمائها حتى اتسعت
معلوماته في فروع الشريعة وتفسير القرآن الكريم، ثم عاد إلى بلاده سنة
(1170)
ثم أدته ألمعيته إلى الاجتهاد [1] ، فأنشأ مذهبًا مستقلاًّ، وقرره لتلامذته
وشاع أمره في (نجد) و (الأحساء) و (القطيف) و (عمان) و (بني عتبة) من
أرض (اليمن) ولم يزل أمرهم شائعًا ومذهبهم متزايدًا وجماعتهم تكثر إلى أن صدرت
الإرادة السنية إلى محمد علي باشا عزيز مصر بقتال وردع هذه الطائفة؛ خوفًا من
انتشار شرهم في البلاد الإسلامية، فأطفأ سراجهم [1] وبدد شملهم وأخفى ذكرهم، وقد
توفي زعيمهم سعود سنة (1229) فساد الأمن في طريق الحج، وأتى الناس أفواجًا
لتأدية فريضة الحج، وبهذه السنة حج محمد علي باشا بعد أن لم يكن أحد يتمكن من
أداء هذه الفريضة، وهاك رسالة من كلامهم تدل على مذهبهم ومعتقداتهم:
(اعلموا رحمكم الله أن الحنيفية ملة إبراهيم أن تعبد الله مخلصًا له الدين،
وبذلك أمر الله جميع الناس، وخلقهم له كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ
إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) فإذا عرفت أن الله تعالى خلق العباد للعبادة،
فاعلم أن العبادة لا تسمى عبادةً إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تسمى صلاةً إلا
مع الطهارة، فإذا دخل الشرك في العبادة فسدت، كالحدث إذا دخل في الطهارة،
كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم
بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} (التوبة: 17) فمن دعا
غير الله طالبًا منه ما لا يقدر عليه إلا الله من جلب خير أو دفع ضر، فقد أشرك
في العبادة، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَاّ يَسْتَجِيبُ لَهُ
إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا
بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (الأحقاف: 5-6) وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ
مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوَهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ
وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر: 13-14)
فأخبر تبارك وتعالى أن دعاء غير الله شرك، فمن قال: يا رسول الله، أو: يا ابن
عباس، أو: يا عبد القادر، زاعمًا أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده ووسيلته
إليه [2] ، فهو المشرك الذي يهدر دمه، وماله إلا أن يتوب من ذلك، وكذلك الذين
يحلفون بغير الله، أو الذين يتوكلون على غير الله ، أو يرجُوا غير الله، أو يخاف
وقوع الشر من غير الله، أو يلتجئ إلى غير الله، أو يستعين بغير الله فيما لا يقدر
عليه إلا الله، فهو أيضًا مشرك، وما ذكرنا من أنواع الشرك هو الذي قاتل رسول
الله المشركين عليه، وأمرهم بإخلاص العبادة كلها لله تعالى، ويصح ذلك - أي
التشنيع عليهم - بمعرفة أربع قواعد ذكرها الله في كتابه:
(أولها) : أن تعلم أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله يقرون أن الله هو
الخالق، الرزاق، المحيي، المميت، المدبر لجميع الأمور، والدليل على ذلك قوله
تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن
يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ
أَفَلَا تَتَّقُونَ} (يونس: 31)، وقوله تعالى: ( {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن
كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ
العَرْشِ العَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ
يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (المؤمنون: 84-89) . إذا عرفت هذه القاعدة وأشكل عليك الأمر، فاعلم أنهم
بهذا أقروا، ثم توجهوا إلى غير الله يدعونه من دون الله، فأشركوا.
القاعدة الثانية:
إنهم يقولون: ما نرجوهم إلا لطلب الشفاعة عند الله، نريد من الله لا منهم،
ولكن بشفاعتهم، وهو شرك، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن
دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ
بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: 18) وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ
لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ
هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر: 3) إذا عرفت هذه القاعدة فاعرف:
القاعدة الثالثة:
وهي أن منهم من طلب الشفاعة من الأصنام، ومنهم من تبرأ من الأصنام
وتعلق بالصالحين مثل عيسى وأمه والملائكة، والدليل على ذلك قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ
الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ
عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} (الإسراء: 57) ورسول الله لم يفرق بين من
عبد الأصنام، ومن عبد الصالحين في كفر الكل، وقاتلهم حتى يكون الدين كله لله) وإذا عرفت هذه القاعدة فاعرف:
القاعدة الرابعة:
وهي أنهم يخلصون لله في الشدائد وينسون ما يشركون، والدليل عليه
قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ
إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت: 65) وأهل زماننا يخلصون الدعاء في الشدائد
لغير الله!! فإذا عرفت هذا فاعرف أن المشركين في زمان النبي أخف شركًا من
عقلاء مشركي زماننا؛ لأن أولئك يخلصون لله في الشدائد، وهؤلاء يدعون
مشايخهم في الشدائد، والرخاء، والله أعلم) اهـ.
(وهذه الرسالة والقواعد التي أسسها ذلك الشيخ لا شبهة فيها؛ لأن هذا هو
الدين الذي جاء به النبي والأنبياء من قبله صلوات الله وسلامه عليه وعليهم
أجمعين، لكن هذا الشيخ لم يتحقق ولم يحقق هذه المسألة، واتبعه قومه من بعده
فأفرطوا وفرطوا وقصروا، حتى تولد منهم بسبب هذه القواعد تنقيص وتحقير
ما عظمه الله وأمرنا بتعظيمه ومحبته وتوقيره، وقاسوا المسلمين المخلصين في
التوحيد بالمشركين، حتى قاتلوا المسلمين في أفضل البقاع، واستحلوا دماءهم
وأموالهم، كما وأن أكثر العوام من جهلة الإسلام قد تغالوا وأفرطوا وابتدعوا بدعًا
تخالف المشروع من الدين القويم، فصاروا يعتمدون على الأولياء الأحياء منهم
والأموات، معتقدين أن لهم التصرف وبأيديهم النفع والضر، ويخاطبونهم بخطاب
الربوبية، وهذا غلو في الدين القويم، وخروج عن الصراط المستقيم، وقد ورد في
الحديث المرفوع (دين الله تعالى بين المغالي والمقصر) اهـ.
(المنار)
هذا ما كتبه مفتي بيروت رحمه الله ولا يخلو كلامه الأخير من تعارض،
لعل سببه محاولة الجمع بين اعترافه بصحة عقيدتهم التي رواها مجملةً،
وبين ما ينقله عنهم خصومهم. على أنه كان مضطرًّا فيما كتبه إلى اتقاء وشاية المفسدين والسعاية به إلى السلطان عبد الحميد الذي كانوا يخوفونه من استعداد الوهابية للخروج عليه، وهؤلاء يقولون في ذلك: إذا كان المؤلف قد اعترف بأن هذه القواعد هي دين الله الذي أرسل بها رسله كلهم، فكيف يكون مؤسسها
واضعًا لمذهب جديد ، وهل الجديد إلا مخالفتها؟ وإذا كان قد اعترف أن أكثر العوام
من جهلة الإسلام خالفوا الدين القويم بالاعتماد على الأولياء الأحياء والأموات
إلخ ومن المعلوم أن غير الأكثر الجاهلين أقروهم على ذلك، فكيف يكون من بيَّن لهم
الحق الذي ضلوا عنه وقاتلهم عليه مخطئًا؟ وأين قياس الموحدين المخلصين
بالمشركين؟ وإذا صح قوله: إن هذه القواعد قد تولد منها تنقيص ما عظمه الله،
وهي حق باعترافه، أفلا يكون ذلك من قبيل قوله تعالى في كتابه: {يُضِلُّ بِهِ
كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} (البقرة: 26) وما المراد بذلك التنقيص؟ إن المؤمن
بالله وبكتابه الغالي في اتباعه لا يصدر منه تنقيص لما أُمر بتعظيمه، ولكن
خصومنا يطلقون ذلك على إنكارنا غلوهم في تعظيم الصالحين بوصفهم بما لا
يوصف به إلا الله خالقهم، ودعائهم واستعانتهم بهم فيما لا يطلب إلا منه تعالى
فإن تجاوز بعضنا هذا الحد إلى ما يُعَد تنقيصًا في عرف الشرع دون عرف أهل البدع
أو الشرك - كما هو مقرر في القواعد - فإننا ننكر عليه، كما ننكر على كل مخالف،
ولا نبرئ كل من انتمى إلينا من الخطأ في فهم قواعدنا أو مخالفتها،وحسبنا أن ما
دعونا إليه وقاتلنا في سبيله من جردوا علينا الحملات العسكرية لأجل المُلك هو دين
الله على لسان خاتم رسله، ودين سائر أنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم، كما اعترف
بذلك المفتي رحمه الله.
هذا ما يقولونه، وللشيخ محمد عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - رسائل في
رد شبهات المخالفين، ربما ننشر بعضها في المنار ليطلع عليها من لا يعرف عنه
شيئًا إلا من كلام المعترضين.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
لا يخفى ما في هاتين الجملتين من الإشارة إلى الاستحسان، ولو صرح لعاقبتة السياسية وصادرت الكتاب.
(2)
هذا الإجمال يفسره ما بعده، والقوم لا ينكرون الشفاعة، بل يأخذون فيها بنص القرآن كما
صرح به ابن عبد الوهاب في رسائله.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الوحدة العربية
ودعوة ملك الحجاز إلى قتال الوهابية
قويت في هذا القرن وحدة الأجناس، ولا سيما الذين يجمعهم وطن واحد،
ويتعارفون بلغة جامعة، وتوجهت همم المشتغلين بالسياسة والشؤون العامة إلى
ترقية أقوامهم وجمع كلمتهم ووحدة حكومتهم، وكان من أمر العرب التابعين للدولة
العثمانية في ذلك ما فصلنا القول فيه من قبل.
ونقول الآن: إن ثورة مكة المكرمة وإعلان أميرها الحسين بن علي الخروج
على متغلبة الاتحاديين الطورانيين، ثم على دولة الترك بجملتها في عهد الحرب
الأوربية، بل البشرية الكبرى قد أطمع بعض أهل الغيرة والإخلاص من العرب
باتخاذ ذلك وسيلةً إلى جمع كلمة عرب الجزيرة والاستعانة بوحدتهم واتفاقهم على
إنقاذ عرب سورية والعراق من ظلم الاتحاديين واضطهادهم إياهم في زمن الحرب،
والتعاضد معهم بعدها على ما يرتقي به الجميع سواء انتصر أحلاف الدولة العثمانية
وظلوا مرتبطين بها، أو انكسرت بانكسارهم وفصل بينهم وبينها، وزاد في طمعهم
هذا إعلان الزعيم العربي الثائر أن ثورته عربية جنسية لا تفرق بين المسلمين
وغيرهم من العرب، ومما نقل عنه وعن أنجاله قواد جيوشه، وانتشر في جميع
الأقطار التي يقطن فيها الناطقون بالضاد قوله: إننا كنا عربًا قبل موسى وعيسى
ومحمد ، أي: فيجب أن نقيم وحدتنا العربية التي كانت قبلهم، صلوات الله وسلامه
عليهم، فلا تكون مللهم حائلةً دون ذلك.
لهذا سعى إليه بعض هؤلاء الطامعين في جمع الكلمة بأن يعقد اتفاق بين
شريف مكة ، والأمير ابن سعود صاحب نجد ، والإمام يحيى صاحب اليمن ،
والسيد الإدريسي صاحب عسير على قاعدة الاعتراف لكل منهم باستقلاله في بلاده،
والتعاون بينهم على دفع العدوان الأجنبي ورفع شأن الجنس العربي في بيان كان قد
وضع قبل الحرب، ووصل خبره إلى الشريف بعد إيصاله إليهم واستحسانهم له،
والعلم برغبتهم في الوقوف على تفصيله، والبحث في طريقة تنفيذه، ولم يعلم رأيه
فيه قبل الثورة، ولما عرض عليه بعدها وقد ظهرت شدة الحاجة إليه، وسئل أن
يشرع في تنفيذه، قال: إن سعيه إليه يحمل عندهم على خوفه من الترك وقصد
الاستعانة عليهم لا على الإخلاص، وأنه يرى تأجيله إلى أن يفتح المدينة المنورة ،
ولا يبقى للترك شيء في الحجاز، ولكن روى عنه بعض عماله أنه تكلم بعد هذا
السعي في المسألة، فقال كلامًا حاصله احتقار أولئك الأمراء والأئمة وكون سلطتهم
اليوم ستزول غدًا، أي: سيزيلها هو.
ثم صرنا نرى في أعداد تلقى إلينا من جريدة القبلة (بعد قطعها المبادلة مع
المنار على إثر منع الحكومة الهاشمية دخوله في الحجاز) مقالات ومنشورات في
الطعن في أهل نجد، والدعوة الدينية إلى قتالهم، ثم بلغنا خبر إرسال حكومة مكة
الهاشمية الحملة بعد الحملة لقتال الشريف خالد في الخرمة، ثم بلغنا بعد تسليم
المدينة المنورة بأشهر خبر القتال بين الجيش الذي كان محاصرًا لها، وبين
النجديين أنفسهم، فكان ذلك مثار حزن شديد في قلبنا وقلب كل عربي يحب وحدة
قومهم واتفاقهم، وكل مسلم يكره التعادي والتقاتل بين أبناء دينه ، بل ذلك مما يحزن
كل شرقي يكره أن يستعبد الغربيون الشعوبَ الشرقية، وأن تكون هذه الشعوب هي
التي تمهد لهم السبيل إلى ذلك بتعاديها وتقاتلها، وإلى الله المشتكى ولا حول ولا قوة
إلا بالله العلي العظيم.
وإننا نثبت في هذه الفصول التاريخية المحزنة ما نشر في جريدة القبلة من
ذلك، فمنها المنشور الرسمي الذي صدر به عدد القبلة الذي صدر في غرة ربيع
الأول من هذه السنة ننقله عن الجرائد، وهو:
منشور ملك الحجاز
أعلنا في منشورنا الصادر يوم الأربعاء 9 شوال سنة 1336 الذي نشرته
(القبلة) في عددها 202 الصادر يوم الخميس 24 شوال سنة 1336 عن البدع
والزيغ الديني الذي تلقنه أهل الخرمة - القرية المعروفة الكائنة في شرق مكة
المكرمة، وفي الشرق الشمالي من الطائف ، وتبعد عنه نحو الثلاثماية فرسخ - من
بقايا منتحلي العقيدة الوهابية من ساكني بعض قرايا نجد المكفرين لكل العالم
الإسلامي بالاحتمالات المعلومة الساقطة عقلاً ونقلاً، التي من جملتها زيارة روضته
صلوات الله عليه وسلامه، كما يشهد عليهم اجتناب كل فرد ينسب إلى اعتقاد تلك
الأضاليل لزيارته صلوات الله عليه وسلامه، وكشارب التنباك وحامل السبحة،
ونحو ذلك، وأن لابد للرجل أن يعترف بأن أباه وجد جده ماتوا على غير الإسلامية ،
وها أن مجتهديهم قد أتونا في هذه المرة أيضًا بتكفير من يضحك أو يروي الشعر أو
من يحدو، إلى غير ذلك من الأباطيل التي تبين ماهية علمهم، وكوقوعهم فيما يرمون
به أهل السنة والجماعة باعترافهم على أنفسهم بالنفع والضر بالعصا، بقولهم: إنها
تنفع وتضر، ومحمد زاده الله شرفًا وتعظيمًا. . . إلخ، وجهلهم أن معاشر أهل السنة
بصرف النظر عن أنهم لا يقولون بذلك - والعياذ بالله - فإنهم يعتقدون ما هو أعم
وأبلغ مما تزعمه المبتدعة المذكورة، كاعتقادنا بأن الماء لا يروي والطعام لا يشبع
والنار لا تحرق، ولا تقطع السكين إلا بقدرته وإرادته جل شأنه وعلا، وإننا لا نريد
إلا فيما أراده الصديق الأكبر والفاروق الأعظم - رضوان الله عليهما - من الإلحاح
في دفنهما عندما أدرك كلاًّ منهما الأجل عند قدميه الشريفين صلوات الله عليه
وسلامه، وهذا على سبيل الاختصار، فليتأمل.
وعليه، وعلى ما أشرنا إليه في منشورنا البادئ الذكر أعلاه من عزمنا على
الرفق في معاملاتهم، والتباعد عن كل ما يؤدي إلى سفك الدماء وصيانتها، ولكن
أبت تلك الضلالة وذلك الزيغ عن منتحليهما إلا الإصرار على المقاومة، كما يعلم
من الوقائع التي نشرتها جريدة (القبلة) من قبيل الحوادث، ولتجاوز جرأتهم
بواقعة يوم السبت الماضي الموافق 20 صفر سنة 1337 على مركز المؤن الكائنة
في (عشيرة) وتشجيعهم بالمدد الوارد إليهم من إخوان بدعتهم برفق سلطان بن
بجاد المعروف لديهم بسلطان الدين، وغيره من عرفائه، رأت الحكومة - وهي لا
تشك بأنها في ضمن قوله صلوات الله عليه وسلم: يؤجر المرء رغم أنفه [1]- أن تقوم
بمقابلة أولئك المبتدعة بالمثل مباشرة، بالأصالة عن نفسها، وبالنيابة عن كافة
المسلمين مع مراعاة الرفق أيضًا لمحو هذه البدعة خدمةً للدين، وتنزيهًا له مما في هذا
الزيغ والضلال ، وسلامة البلاد من سيئاته، والله ولي التوفيق اهـ.
في هذا المنشور تصريح بأن التخاصم كان أولاً بين الخرمة وحكومة الحجاز،
كما تقدم في أول هذه الفصول، وأن أهل الخرمة ساعدهم غيرهم بعد ذلك، وما ذكر
في المنشور من بدع الوهابية نسب إلى بقايا منهم في بعض قرى نجد، وهذا لا يبيح
إطلاق القول في تكفير أهل نجد كلهم ولا جملتهم ولا يبيح قتالهم، وإنما على حكومتهم
أن تنظر في أمر من ضل منهم، وإن صحت الرواية على ظاهرها.
وقد اطلعنا على منشور صدر بعد هذا العدد الذي صدر من جريدة القبلة في 8
جمادى الأولى ووقع أعلاه (باسم الحسين بن علي) وهذا نصه:
منشور كريم
بسم الله الرحمن الرحيم
] وَمَا يُبْدِئُ البَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ [[*]
الحمد لله رب العزة، من استهدى به هداه، ومن توكل عليه كفاه، والصلاة
والسلام على خيرته ومجتباه، وآله الطهر، وأصحابه الميامين الغر، ما كمد حسود
وجحود.
أما بعد فقد ضاق ذرع حسادنا، ونضبت جعبة تلفيقات مخترعات إفكهم،
فأصبحوا لا يجدون ما يقولون، ولا يفقهون بما علينا به يفترون، إلا إشاعتهم في
هذه الخطرة بأن العرب مختلفو الرأي متفرقو الكلمة، أدى بهم اختلافهم إلى
القتال وشبوب نار حربه بينهم؛ لإثبات عدم كفائتنا معاشر العرب أمام العالم الذي
أعلن - والثناء لله - ثقته بنا وحسن ظنه فينا إلى الدرجة التي لا نرى من حاجة
للبحث عنها، كما أنا لا نرى أيضًا البحث عن تلك المختلقات الساقطة بطبعها
بالوفود الذي لا يخلو شهر من قدومهم علينا من أقاصي البلاد على مرأى ومشهد
العامة إلا إن أرادوا تجدد دعوى مبتدعة الوهابية المذكورة الذين نشر أمرهم غير
مرة على صحائف (القبلة) فنحن نحرر منشورنا هذا علاوةً على ما سبق؛ ليعلم
القاصي والداني بأنه متى تحقق لدينا عدم نجاح خطة الدفاع أمام مبادئتهم، فلا بد
للسلطان من قتالهم بكل موجوديته، ويعتبره من أشرف الوظائف وأهمها مصلحة
لا لإرادة ملك أو حرصًا على رياسة كما بيناه في الحفلة العمومية الأخيرة، وصرحنا
لمن حضرها بأنكم إن رأيتم من هو أرشد وأصلح مني للأمر، فهذه يدي ممدودة
لعهده، وأيدنا قولنا هذا بالحجج المعلومة لدى حضارها، ولكن يقاتلهم للقصد والغاية
التي زحفت من أجلها على مركزهم جيوش مولانا محمد علي باشا الأكبر طاب ثراه،
ولسلامة وصيانة البلاد من كفر وفسوق وعدوان أمثال هذه الخارجة، وشوائب
خروجهم عن الإسلامية، فإنه بصرف النظر عن تكفيرهم لمن سواهم من العالم
الإسلامي، ونيلهم من سيد الأولين والآخرين مَن وَصَفَه جلت قدرته بأنه عزيز [2]
عليه، وأنه رحمة للعالمين، فتبجحهم بقولهم: إن العالم سيبعث شاء المولى أو لم يشأ
- والعياذ بالله - وهو عز من قائل يقول: {قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} (عبس:
17) نعم - قتل الإنسان ما أكفره - إلى قوله عظمت قدرته: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ *
ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ} (عبس: 21-22) الآية، كفاية للمتبصر، لا يبقى بعد هذه
المجاهرة بهذه الشناعة متأمل، فليعتبر وليتهم بعد أن اعتقدوها وأمثالها أكنته
صدورهم، لينظر إليهم كسائر المنتحلين والمعتقدين من المسلمين وسواهم (كذا)
ولكنهم تظاهروا بها، وأباحوا دماء من لم يجب دعاتهم على اعتقادها وأمثالها،
وبدأوهم بالقتال، واستحلوا أموالهم وأنفسهم، فكيف لا يقال والحالة هذه بقتالهم، أم
كيف نتحاشى عن إعلانه بمنشورنا على صحيفة القبلة أولاً ، ثم إردافه بأنا على ما
قلناه وصرحنا به المرة بعد الأخرى بأن مبايعتنا بالذات أو بالواسطة إذا رأوا المصلحة
في سوانا، فهذه أيدينا وأولادي لعهد من يريدونه مبسوطة، وإن لم نكن كذلك فنبرأ من
الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ونكن من الذين عليهم لعنة الله والملائكة
والناس أجمعين، وهذا منا كما يعلم الله سبحانه وتعالى حرصًا على رابطة جامعة
أقوامنا أن يفتنهم الأُجراء ومبغضو تجدد مجد وسؤدد علياء الأسلاف باتهامنا ونسبتنا
بحب الرياسة والحرص على الجاه، وهو العليم الخبير، فلا تسألون عما أجرمنا، ولا
نسأل عما تعملون اهـ. في 5 جمادى الأولى سنة 1337.
(المنار)
هذان المنشوران الرسميان قليل من كثير مما نشرته جريدة القبلة التي
هي لسان ملك الحجاز باسمه واسمها في تكفير الوهابية أو النجديين، والدعوة إلى
قتالهم باسم الدين تارةً، واقتداءً بمحمد علي باشا تارةً أخرى، ومن العجيب أن
يسمي ملك الحجاز (محمد علي) مولاه!! ويجعله قدوةً له في قتال أهل نجد، بناءً
على أنه قتال لا يطلب به ملك ولا جاه، كأن محمد علي من الخلفاء الراشدين المهديين
الذين خلفوا الرسول صلى الله عليه وسلم في إقامة الدين!! فعسى أن يراجع تاريخ
الجبرتي المعاصر له الذي كان يدون أخباره عند حدوثها يومًا بعد يوم ليعلم مبلغ علمه
بالدين وعمله به، وأن يقرأ قانونه (قانون الكرباج) الذي طبع في المطبعة الأميرية
منذ أول العهد بتأسيسها، وهو مع هذا يتكلم في تكفير القوم بلسان العالم المستدل،
ومحمد علي كان أميًّا لا عاميًّا فقط، ويتكلم في وجوب ذلك عليه باسم من ولي إمامة
المسلمين، وخلافة نبيهم صلى الله عليه وسلم ليقيم دينهم، وينفذ أحكامه وحدوده في
المرتدين والبغاة، ومحمد علي كان واليًا لمصر من قِبل السلطان العثماني وبأمره
حارب الوهابية، وملك الحجاز اليوم كان أميرًا من قِبل السلطان العثماني على الحجاز
بسلطة محدودة، فخرج عليه موالاةً لدول الحلفاء، وسمي ملكًا للحجاز باعترافهم له،
ولا يزال الحجاز بحسب القانون الدولي من بلاد الدولة العثمانية، ولن يزال كذلك
حتى يعقد الصلح بين الحلفاء وبين الدولة العثمانية، ويفصل فيه بأمر الحجاز.
وأما أهل نجد فهم مستقلون منذ قرون كثيرة، وحاكمهم يسمونه إمامًا، وما
نظن أنهم يبايعونه بالإمامة (أي: الخلافة) كما يبايع أهل اليمن أئمتهم، وحكومتا
اليمن ونجد شرعيتان، والحكومة العثمانية قد اعترفت باستقلال إماميهما، وليس
فيهما قوانين وضعية، ولا معاهدات تقيدهما بقيود غير شرعية، فإن خرجت
إحداهما عن الشرع، أو ارتد أهلها كلهم أو جلهم عن الدين (فرضًا) فأجدر
بالأخرى أن تكون هي تقيم حكم الله فيها.
وأما تصدي ملك الحجاز - الذي بينا صفة حكومته - لمثل ذلك بمساعدة
حلفائه وأوليائه، فلا يخفى حكمه، وهو يستلزم أن يقاتل أهل الشام إذا تم لهم ما
يطلبونه من الاستقلال دونه، وإنشاء حكومة مدنية إذا خالفت حكومتهم الشرع في
بعض أصوله، وكذا بعض فروعه المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة، وهو
لا يستطيع ذلك مهما تكن الحالة التي يقر أمر حكومته عليها مؤتمر الصلح، بل ليس
للمسلمين إمام في هذا العصر يستطيع أن يقوم بالأمر الذي تدعو إليه هذه المنشورات
الحجازية، فلم يبق إلا أن المسألة يراها جمهور المسلمين مسألة تنازع وتقاتل بين
طائفتين متجاورتين من المسلمين تكفر كل منهما الأخرى، والواجب إذًا على أصحاب
الاستطاعة منهم أن يحكموا فيهما قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ
اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّمَا
المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ *} (الحجرات: 9- 11) .
والمسلمون المستقلون القادرون على هذا هم جيران الحجاز ونجد من أهل
اليمن وعسير، فالمطالَب بذلك شرعًا إمام اليمن والسيد الإدريسي صاحب عسير،
وأما مسلمو سورية والعراق فهم خاضعون الآن لأحكام دول الحلفاء العسكرية،
فليس لهم حرية ولا قوة على عمل شيء باسم الإسلام، ولا باسم الوحدة العربية،
وهمهم في هذه الأيام محصور في درء خطر الاستعمار الأوربي عنهم، ويتمنون لو
يتفق على الوحدة الوطنية مؤمنهم الصادق وملحدهم المجاهر والمنافق، واليهودي
والنصراني، والدرزي والنصيري والإسماعيلي، وإنه ليوجد في مسلمي العرب
ملاحدة كملاحدة الترك من الاتحاديين وغيرهم، ومنهم من يصرحون في خطب
يلقونها ومقالات ينشرونها على الجماهير بوجوب جعل الدين الإسلامي محصورًا
في المساجد لا يتجاوزها إلى دواوين الحكومة أو المحاكم، فما يفعل بهؤلاء مَن
يقاتل الوهابية إقامةً لأحكام الدين؟
وقد نقل إلينا عن هؤلاء الوهابية وعن بعض الحجازيين والترك وغيرهم
أن أمراء مكة من الشرفاء لهم قانون سري وضعه لهم جدهم (أبو نميّ) قد شرع
للشرفاء فيه أحكامًا خاصةً بهم تصادم الكتاب والسنة وما أجمع عليه جميع المسلمين،
ككون الشريف منهم إذا قتل يقتل به أربعة من قبيلة القاتل، وغير ذلك من
الأحكام التي تبيح لهم من أموال الناس ودمائهم ما حرمه الله تعالى، ويدعي
هؤلاء الوهابية أن ملك الحجاز الذي قام يناوئهم يدين بهذا القانون وينفذ أحكامه،
وأن هذا كفر بإجماع المذاهب الإسلامية كلها، وأنه هو يعاقب بالقتل والصلب
والقطع ومصادرة الأموال من غير محاكمة ولا حكم شرعي ولا غيره، وأن
استباحة ذلك كفر صريح بالإجماع.
فالذي ينبغي لمن يتصدى لإصلاح ذات البين أن لا يقبلوا كلام أحد الفريقين
في الآخر، ولا يسمحون له أن يتحكم في عقيدته ومذهبه بالقوة، بل تؤمَّن البلاد
ويجعل الفصل للحجة والبرهان، لا للسيف والسنان.
وأما ابن سعود فلم يبلغنا عنه شيء في مقاومة صاحب الحجاز، إلا ملخص
المنشور الذي أرسله إلى بلاد الشام بعد إعلان حكومة دمشق طلب التطوع لإنشاء
جيش الحجاز، وهذا نصه:
خطاب ابن سعود لأهل الشام
خطاب إلى حضرات كبار ورؤساء (روحيين ومدنيين) أهالي بلاد الشام
مسلمين وسواهم ممن تلزمه الحجة ويتناوله التكليف، السلام عليكم ورحمة الله
تعالى وبركاته.
لقد بلغنا عنكم ما لا يوافق صالحنا وصالحكم، ولا ينطبق على الحق والعدل،
ولذلك فرضنا إلى أحد مريدينا أن يلقي إليكم برسالتنا هذه، وهي في مقام شكوى
وتذكير، فنقول:
إنكم تعلمون أننا منذ مئات من السنين قابضون على زمام حكومة نجد
(وتوابعها) أبًا عن جد مستقلين لا ينازعنا فيها منازع، وليس لدولةٍ ما أدنى
علاقة بديارنا سوى العلاقة الودية التي نتجت عن تحسس ديني لخليفة المسلمين
بالآسانة، والتي أوجبها ورعنا وورع آبائنا العظام، على حين أن بلاد الحجاز
كبلاد الشام كانت في ملكية الدولة العثمانية، حتى جاءت الحرب العامة وانتهت
بما ترونه من تشتت شمل الأمة وتمزق وحدة الملة، وكان ما كان في تلك الأثناء
من أمير مكة المكرمة مما لا شأن لنا به لو أنه قصر عمله وفعلته على الحجاز،
ولكنه - جازاه الله بعمله - عقد عقودًا وأبرم مواثيق رمى بها سائر الأقطار
العربية إلى مهاوي الهلاك، وهي - كما تعلمون - منبع الإسلام، فطوح بها إلى
حضيض الذل والهوان بعد أن عزت آلافًا من الدهور.
إلى أن قال: ذلك تجاوز منه وجرأة على الله والأمة، وأنى له هذا الحق؟
والبلاد العربية فيها ممالك مستقلة ذات خيرات ومبرات وملوك وسلاطين منحدرين
عن أصلاب طَيِّبَةٍ وأرحام طاهرة، هم سادات وأشراف أثبت منه نسبًا وأكرم حسبًا.
هذا، وقد آلينا على أنفسنا - نحن المتحدون بالله وإلى الله - أن لا نرجع حتى
يرجع الحق إلى نصابه، ويشهد الله أن ذلك ليس منَّا انتصارًا لدولة، ولا طمعًا في
توسيع مُلك.
نحن نعلم أن ذلك الأمير يلفق علينا مقولات ويرمينا بالمروق عن الدين
ويدعونا وهابيةً؛ ليستفز ثائرة المسلمين علينا ويجمع الجند منهم ويقاتلنا بهم، فيريد
بذلك نشر الفتنة وتعظيم الخلاف.
فيا أبناء الشام وأهل باب كعبة رب الأنام، نحن مثلكم مسلمون مؤمنون
موحدون، ندين بدين محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم، ونقر
بترتيب الأصحاب كما جاءوا في الحكم والاستخلاف، ونقلد في عباداتنا الإمام
الأعظم أحمد بن حنبل ، ونعترف أن إخوته الأئمة الباقين هم مثله في العظمة
والصدق والصحة، فحذار ثم حذار أن يغركم ويفسدكم ويفتنكم، فتعطوه جندًا
ومالاً، فما أمامكم إلا إخوتكم في الله يجاهدون في الله،ولم يسبق بيننا وبينكم عداوة
ولا نحن طامعون في بلادكم، فبلادكم تعلمون مصيرها، فخلوا بيننا وبينه ليزول
الأعجل، ويقضي الله أمرًا كان مفعولاً، أما إن كانت لكم كلمة نافذة فاصرفوها في
سبيل إحقاق الحق.
وبعد، فإن من يتجند إلى قتالنا، فحسبنا الله عليه، والسلام على من سمع،
فوعى.
…
...
…
...
…
عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل السعود
***
(تذكير المنار للفريقين)
أيها العرب الكرام ليس هذا الوقت وقت التفرق والانقسام والتقاتل بدعوى
تأييد الإيمان وإقامة الإسلام، بل هذا وقت يتفق فيه الأقوياء من دول أوربة على
تقسيم بلاد العرب كلها، ووضعها تحت سيطرتهم، حتى إن حياتها ومعيشتها تكون
رهن أيديهم.
تذكروا أن جميع الممالك العربية التي زالت وزالت دولتها ما زالت إلا
بتخاذل أمرائها وزعمائها، كذلك كان زوال ملك العرب بالأندلس والجزائر
ومراكش وتونس وكذلك زالت أكثر ممالك الشرق في الهند وغيرها، خربوا
بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
_________
(1)
المنار: لم يرو أحد من حفاظ السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال هذه الجملة، ولكنها مما يدور على الألسنة، وسبب تسمية الكثير من أمثال هذه الجملة حديثًا شبهها بالأحاديث في اختصارها وإفادتها حكمةً أو حكمًا.
(2)
المنار: يشير بهذا إلى قوله تعالى: [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ](التوبة: 128) وظاهر عبارة المنشور أن قوله تعالى: [عَزِيزٌ عَلَيْهِ](التوبة: 128) وصف للرسول مستقل، معناه أنه مكرم عنده تعالى كما يقول الناس اليوم: فلان عزيز علينا، أو عندنا، والصواب أن قوله:[مَا عَنِتُّمْ](التوبة: 128) معمول له، و (ما) مصدرية، أي: عزيز عليه عنتكم، أي: شديد شاق عليه أن تقعوا في شدة أو مكروه.
(*)(سبأ: 49) .
الكاتب: محمد رشيد رضا
احتجاج السوريين
صورة التلغراف الذي أرسلته الجمعيات السورية
إلى سمو الأمير فيصل ، إلى الرئيس ولسن ، إلى المستر لويد جورج ، إلى
رئيس مؤتمر السلم، إلى السنيور أورلاندو ، إلى ممثلي الحلفاء في العاصمة، إلى
الحاكم العسكري العام، إلى اللجنة الأمريكية، إلى محمد رستم بك حيدر نائب سمو
الأمير فيصل في مؤتمر السلام، إلى حبيب بك لطف الله مندوب الاتحاد السوري
في باريس:
نحن الموقعون أدناه نحتج على ما صرحت به اللجنة الأميركية في جنوبي
سورية باسم مؤتمر السلام من لزوم تسمية دولة تنتدب للوصاية على بلادنا، وإننا
نرفع احتجاجنا هذا إلى دول الحلفاء الذين ما زالوا يصرحون أنهم ما حاربوا إلا
لتحرير الشعوب ونصرة المظلوم، ونطلب منهم أن يبروا بوعودهم من ترك
تعيين مصير بلادنا لنا، ونصرح للملأ أجمع أننا لا نطلب سوى الاستقلال التام،
بلا حماية ولا وصاية ولا إشراف، ولا أقل شيء يمس باستقلالنا الخارجي
والداخلي، وبالختام نؤمل أننا لواثقون بعدالة دول الحلفاء الكرام التي اعترفت
بالاستقلال التام لكثير من الشعوب اليوم، وأيدت مبدأ القومية والمساواة بكل قواها،
بأن تنصف شعبًا حارب مع الحلفاء جنبًا لجنب من أجل الاستقلال التام.
عن الاتحاد السوري: واثق المؤيد، عبد الرحمن شهبندر، سعد الدين المؤيد
نصوح المؤيد، هشام المؤيد.
عن الاستقلال العربي: عبد القادر العظم، جميل مردم، أحمد قدري، يوسف
سليمان مخيمر، أحمد مريود، رضا مردم.
عن جمعية النهضة الأدبية: سامي البكري، عبد الرحمن السفرجلاني، نديم
الصواف، يحيى الشماع.
عن العهد السوري: عبد القادر كبوان، أبو النصر اليافي، أسعد المالكي،
حسني البرازي.
عن العهد العراقي: جميل لطفي المحمد العراقي، إسماعيل نامق، رشيد
الخوجة.
عن المؤتمر السوري: منيح هارون (اللاذقية) عادل الطائع (اللاذقية)
مظهر رسلان (حمص) سعيد حيدر (بعلبك) معين الماضي (فلسطين) فائز
الشهابي (حاصبيا) عبد القادر الخطيب (دمشق) محمد المدرس (حلب) .
عن جمعية النهضة الفلسطينية: سليم عبد الرحمن، الحاج إبراهيم، محمد
صالح المعمادي.
عن الجمعية البقاعية: عجاج الهمياني، عوض البقاعي.
عن الشبيبة البيروتية: محمد الصانع، أحمد مختار الفاخوري.
عن التعاون الخيري: محمد الياسين، عارف الدوهجي.
عن الإسعاف الخيري: عبد الرحمن الدوالبي، أحمد صبري.
عن جمعية الأطباء: حسام الدين أبو السعود، مرشد خاطر.
عن جمعية الصيادلة: منير المحايري، حسني الهبل.
عن جمعية المحامين: نجيب الحكيم، سعيد حيدر.
عن النداء الخيري: شكيب كحالة، صالح الجيلاني.
عن جمعية المعلمين: محمد أبو الخير القوطي، عجاج البقاعي.
عن جمعية طلاب المدارس: عبد القادر سري، مصطفى الرفاعي.
عن جمعية الإخاء العلوية: أديب التقي البغدادي، محمد مرتضى.
عن خريجي المدارس العالية: المهندس درويش أبو العافية، الزراعي عمر
شاكر.
عن جمعية فتيان الجزيرة: عثمان قاسم (صاحب الاستقلال العربي) أحمد
فؤاد المحاسني، سعيد الحافظ، رشدي الصالح ملحس (مدير جريدة الاستقلال
العربي) أديب الصفدي.
عن النادي التجاري: لطفي الحفار، سعيد عبيد، ياسين دياب.
عن الجمعية الزراعية السورية: هاشم العمري، صبحي الحسيني.
عن النقابة الصحافية: خير الدين زركلي (صاحب المفيد) أسعد داغر
(صاحب العقاب) عجاج البقاعي (صاحب الانقلاب) أبو الهدى اليافي
(صاحب الكنانة) .
عن الحرف والنقابات: محمد كوكس، محمد البرم.
عن جمعية نهضة الطباعة العربية: سعدي العمري، محمود الجيلاني.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الاشتراكية والبلشفية والدين
كثر ذم البرقيات والصحف الأوربية في البلشفية التي فشت في روسية
وما جاورها من أوربة وآسية، فوُصفت بأنها عبارة عن فوضى وهرج وسفك
دماء وانتهاك أعراض وسلب أموال بغير قانون ولا نظام، ونرى جميع الدول
الراقية خائفة من سريانها إلى بلادها، وغلبتها على أنظمتها وقوانينها ودينها وآدابها،
فكان هذا الخوف والحذر مما أوجب الريب في صدق ذلك الذم والقدح فيها؛ لأن تلك
الفضائح المخالفة لكل دين، المستقبحة في كل عقل، المباينة لكل أدب وعلم - لا
يُخشى أن تهدم كل دين وأدب ونظام وسنة الله في بقاء الأمثل والأصلح التي هي
أساس الاجتماع. وقد عهد الناس من لسان السياسة ذم الحسن ومدح القبيح، وغير
ذلك من قلب الحقائق، لهذا نرى الناس يرجون من البلشفية خيرًا، وإن لم يعرفوا
حقيقتها، ويودون لو يعرفون معناها، ويقفون على أنظمتها.
تحارب إنكلترة وأحلافها البلشفية بالقول والفعل والمال والدين، وقد كلفت
الشيخ محمد بخيت مفتي مصر ، فأفتى في جواب سؤال بأن البلشفية محرمة في
الإسلام وفي كل دين؛ لأنها عبارة عن الإباحة المطلقة للدماء والأموال والأعراض،
وجعلها عين (المزدكية والزردشتية) التي ظهرت في أمة الفرس، فرد عليه كثير من
الكتاب الأزهريين وغير الأزهريين من الجهة التاريخية والدينية وغير الدينية، وكثر
خوض الجرائد المصرية في ذلك، ولكن الحكومة المصرية أخذت صورة فتواه
الخطية بآلة التصوير الشمسي، ونقشتها في لوح معدني، وطبعت عنها نسخًا كثيرةً لم
يوزع شيء منها في مصر، فالظاهر أنها توزع في بعض البلاد الإسلامية الآسيوية
التي سرت إليها البلشفية.
وقد كثر سؤال الناس إيانا عن رأينا في البلشفية ما حقيقتها؟ وهل هي ضرر
وشر محض كما تقول السياسة والفتوى؟ أم هل هي خير عام أو خير خاص بقوم
وشر على آخرين؟ فنقول:
إن الذي فهمناه من مجموع ما اطلعنا عليه في البلشفية أنها هي عين
الاشتراكية المقصود منها إزالة سلطان أرباب الأموال الطامعين وأعوانهم من
الحكام الناصرين لهم الذين وضعوا قوانينهم المادية على قواعد هضم حقوق العمال
في بلادهم، واستعمار بلاد المستضعفين من غيرهم، وأن معناها الحرفي
(الأكثرية) فالمراد منها أن يكون الحكم الحقيقي في كل شعب للأكثرية من أهله،
وهم العمال في الصناعة والزارعة وغيرها، وذلك بعد إسقاط سلطة أرباب الثراء
والكبراء المشايعين لهم، وقد فعلوا ذلك في روسية بعد إسقاط دولة القياصرة الطاغية
الظالمة التي لم يمنع مدعي الحكوماتِ الديمقراطية من الفرنسيس والإنكليز ظلمُها
وطغيانُها من محالفتها والاتفاق معها على اقتسام بلاد العثمانيين والفرس، وقد قام في
البلاد مِن بقايا أولئك القيصريين مَن يناوئهم ويقاتلهم على السلطة، ومن شأن أهل
السلطة في كل بلاد أن يقاوموا الخارجين عليهم فيها بما يمكنهم من الشدة والبأس،
سواء كان ذلك الخروج بحق أو بغير حق، فإذا كان للمطاعن الشديدة في قسوة
البلشفيين هنالك أصل - كما هو الظاهر - فهذا أحد سببين له، وهو سبب لا تستطيع
حكومة أن تبرئ نفسها من مثله، والسبب الثاني: هو أنهم لم يكونوا متمرنين على
الأحكام، وكان الزمن زمن فوضى وفتن وفقر، عجزوا عن جعل قسوتهم وشدتهم
بنظام يمكن لأهله أن يسموها به بضد اسمه.
ونحن نجزم بأن أعماله وأنظمتهم لا يعقل أن تكون موافقةً لأحكام الإسلام،
ولا للمسلمين المذعنين لدينهم أن يتبعوهم فيها، ولكن ليس خاصًّا بهم. بل جميع
القوانين الوضعية المتبعة في أوربة، وكذا في الشرق كمصر والدولة العثمانية -
فيها ما يخالف الشرع الإسلامي، والمسلمون يتمنون نجاح الاشتراكيين نجاحًا يزول
به استعباد الشعوب - وكلهم العمال - وإن كانوا ينكرون عليهم، كما ينكرون على
غيرهم كل ما يخالف الشرع، على أنهم غير مطالبين عندنا بفروع الشريعة ما
داموا غير مسلمين.
وإننا ننشر هنا مقالةً توضح ما أشرنا إليه من مقاصد القوم، رأيناها في
جريدة (سورية المتحدة) التي تصدر في المكسيك ، وهذا نصها:
اقرأ أيها التاجر الكبير ما أكتبه اليوم بإمعان وحكمة، فإن خطر الاشتراكية
يحدق بكل هذه الكرة الأرضية!
تقول الأمثال اللاتينية: (إن صوت الشعب هو صوت الله) أعني أن
الأكثرية متى أرادت الحصول على حاجة ضرورية لها أخذتها عنوةً واقتدارًا؛ لأن
الأكثرية هي الحقيقة، والحقيقة هي القوة التي لا تقاوم.
تمر الدقائق، والساعات، والأيام، وفي كل يوم تمثل أمامنا روايات عديدة
تفهمنا أن الحق للقوة، وهذه القوة هي الأكثرية، كما رأينا في الحرب التي أقامتها
ألمانيا.
إن شعوب الأرض حسبت أن ألمانية تظلم الشعوب والإنسانية بالحرب التي
شهرتها على فرنسة ، وبلجيوم ، وسربية ، وانقلبت الأكثرية عليها، ولم تخش
قوتها العسكرية ولا استعداداتها الحربية من غواصات شيطانية وطيارات جهنمية
ومدافع ضخمة وبعيدة المرمى، بل حملت عليها من كل حدب وصوب حتى أصبحت
الأكثرية ضد ألمانية، وهذه الأكثرية هي الحقيقة، كما أشرنا في بدء كلامنا.
والرأي العام اليوم أو الأكثرية هو الاشتراكية - والأكثرية هي ترجمة كلمة
(بولشفيكي) الروسية - وهذه تطلب بناء أركان ضخمة، ودعائم ثابتة عادلة
للسلام العالمي، وشروط حسنة للعمال في كل أقطاب الأرض.
قلنا: إن معنى كلمة (بولشفيكي) هي الأكثرية، وهذه هي الاشتراكية التي
نحسبها من الأخطار المقبلة.
لا يعجب القارئ إذا قلنا له: إن 99 في المائة من سكان الكرة الأرضية هم
من الاشتراكيين أو البلشفيكيين، وهؤلاء هم الشعب الذي تقول الأمثال: إن صوته هو
صوت الله، وهذا الشعب هو الذي يقلب الحكام ويثل العروش ويسقط الملوك، وهو
الذي يحمي أموال الغني ونساءه وبناته وأملاكه ومواشيه ومعامله ببنادق أفراده،
ويضحي بحياته في سبيل إكثار أموال الأغنياء وزيادة أرباحهم.
العمل الشغل، هو نصيحة الآباء لأبنائهم. وفي المدارس يسمع التلامذة من
معلمهم صدى هذه الكلمات مرات عديدة في كل يوم من أيام حداثتهم، وكذلك الحكام
يحثون الشعب على العمل؛ لأن به سعادة البلاد وبعكسه خرابها.
قلنا: إن الشعب العامل هو 99 في المئة من كل سكان الأرض، وقلنا: إن
عليه تتوقف سعادة البلاد وخرابها، وإنه هو الذي يُرسَل في الحروب لإقرار الأمن
ولإغاثة المظلوم ومحاكمة الظالم، أفلا يجب على الأقل أن تقدس حقوقه وتحترم
ويحصل على حاجياته الضرورية؟
تقطع العلائق الودية بين دولة وأخرى، ويكون سبب ذلك طمع الواحدة ببقعة
أرض غنية بالمعادن أو خصبة للأخرى، وتكون هذه البقعة لأحد الأغنياء فتسوق
الأولى شعبها برمته لساحة الحتف، والفناء؛ دفاعًا عن تلك البقعة لتحفظها للغني.
وتسوق الثانية كل شعبها لساحة الموت والدمار لتنزع تلك البقعة وتبيعها من
متمول آخر في بلادها.
يترك العامل فأسه أو محراثه أو منشاره أو مطرقته، ويترك زوجته وأولاده
وعائلته وبيته عرضةً للجوع والعري والإهانة، ويعتقل البندقية لملاقاة الموت الزؤام
بين لعلعة المدافع وصفير البنادق ودوي انفجار الألغام وصليل السيوف وانفجار
ينابيع الدماء - للدفاع عن أموال الغني وأرضه ومناجمه ومعامله، والغني يخطر
مشمخرًا بين النمارق الوثيرة يعاقر كؤوس الخمور، ويتربع فوق الطنافس الناعمة
لمداعبة ناحلات الخصور.
يفعل الشعب كل هذا باسم الوطن، وهو لا يملك من هذا الوطن شروى نقير،
فيعود من المجزرة البشرية مقشعر الشعور شائب الرأس ناحل الجسم عليلاً، فيجد
أولاده وزوجته فريسة الجوع والبرد والإهانة، فتقول له الحكومة: اذهب واشتغل،
وهكذا يقضي العامل الفقير أيام حياته بين الفأس والمحراث، لا يكسب من وراء عمله
أجورًا عادلةً، ولا يحصل إلا على اليسير من رديء الغذاء وفضلات الكساء.
مضت العصور والأجيال، والشعب يتحمل كل هذا الشقاء والعناء ويحاول
كسر نير الأغنياء الفولاذي، فتضربه الحكومات، وهن شريكات الأغنياء بجرائمهم
ومعاصيهم، فيرضى بجورهم عن خوف ورهبة، لا عن عدل ورحمة.
أما الآن، فالشعب هو غير ما كان عليه بالأمس، فهو الذي يقبض على القوة
المسلحة ويدير حركتها، ويقبض على السلاح والذخائر والخطوط الحديدية
والمواصلات، ومئة مليون روسي في أخصب بقع الأرض وأغناها بالمعادن وزيت
البترول والفحم الحجري، تؤيد مطالب العامل وتؤلف أول حكومة شعبية في الأرض،
دعك أن شعوب أواسط أوربة أعلنوا انضمامهم للحكومات الشعبية، وكذلك نرى
العمال في فرنسة وإيطالية وسويسرة وفي كل أوربة وأميركة وآسية يطلبون إسقاط
حكوماتهم وإنشاء حكومات شعبية (بولشفيكية) وهم لا يخشون حكوماتهم؛ لأن منهم
الجندي والبندقية بيده، ومنهم البحار والسفينة وكل ما بها يتقيد بأمره، ومنهم سائق
القطارات وصانع المدافع والقذائف، بل إن كل شيء بيده، وعليه يتوقف انقلاب
الحركة الأرضية والثورة العامة؛ لإيجاد العدالة وإقرار السلام، ولا يتم هذا إلا بإنشاء
الحكومات الشعبية التي تشعر بحاجات الشعب وتعترف بلوازمه.
نعم، إنه لا يستطاع إنشاء حكومات شعبية إلا بعد أن تتبعثر ثروة الأغنياء،
وذلك لمقاومتهم ومناوأتهم لمطالب الشعب العادلة، فيضطر هذا لأخذها بالقوة
والإرغام، فيتضرر الأغنياء في كل أقطاب المسكونة، ولكن الشعب لا يظلمهم
بذلك، بل إن طمعهم بإبقاء سيطرتهم المطلقة ينتج لهم هذه النتيجة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
صورة البيان
الذي قدمته عائلات الشهداء
للجنة الأميركية في دمشق
وقابلت هذه اللجنة يوم تقديمه
إننا بالنظر لاتصالنا العائلي بشهداء سورية نستطيع أن نبين أمام حضراتكم
رغائبهم المقدسة التي هي ركن النهضة العربية السورية، والأساس الذي بنيت
عليه ثورتنا، والاجتماعات التي كانوا يعقدونها في بيوتنا مع أصحابهم والأحاديث
التي كانت تدور في خلواتهم كانت ترمي دائمًا إلى رفع الأمة السورية والحصول
على استقلالها التام، لهذه الغاية كانوا يعملون، ولتحقيقها فادوا بأنفسهم، وعلى
دمائهم أرادوا أن يبنى أساسها، إن هذه الروح الشريفة هي المخيمة على الشعب
السوري اليوم، وهي التي تدير زعماء سورية وترشدهم في أعمالهم، وها نحن
أولاد عائلات أولئك الشهداء نطلب من ممثلي الشعب الأميركي الكريم الذي يعرف
معنى الشهادة في سبيل الوطن أن يحققوا الآمال التي عقدناها عليهم، ويبلغوا
الدكتور ولسن حامل لواء الحرية أننا لا نريد إلا الاستقلال التام، وكتاب
الإيضاحات السياسية الذي وضعه أحمد جمال باشا؛ ليبرر فيه جناياته التي اقترفها
في سورية هو شاهد عدل على الغاية السامية التي كانوا يجدُّون للحصول عليها.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
خلاصة معاهدة الصلح [1]
(3)
الفصل السادس
في أسرى الحرب
أسرى الحرب: تتولى لجنة تؤلف من مندوبي الحلفاء ومندوبي الحكومة
الألمانية مع لجان فرعية محلية - إعادة أسرى الحرب الألمان والملكيين المعتقلين
إلى أوطانهم، ويرد الأسرى الملكيون والمعتقلون من الألمان إلى أوطانهم بلا
تأخير بواسطة الحكومة الألمانية وعلى حسابها، والذين حكم عليهم لذنوب ارتكبوها
ضد النظام العسكري، قبل 1 مايو سنة 1919 يردون إلى أوطانهم، ولو لم يكملوا
المدة المحكوم بها عليهم، ولكن هذا لا يسري على الجرائم المختلفة للنظام العسكري،
ويحق للحلفاء أن يبقوا عندهم ضباطًا مختارين من الألمان إلى أن تسلم الحكومة
الألمانية الأسرى الذين ارتكبوا جرائم ضد قوانين الحرب وعرفها، ويحق للحلفاء أن
يتصرفوا بما يستصوبون مع الرعايا الألمان الذين لا يرغبون في العودة إلى أوطانهم،
ويشترط في كل مسألة إعادة الألمان إلى أوطانهم الإفراج المعجل عن رعايا الحلفاء
الذين لا يزالون في ألمانية ، وعلى الحكومة الألمانية أن تسهل على لجان التحقيق جمع
المعلومات عن أسرى الحرب المفقودين، ومعاقبة الموظفين الألمان الذين أخفوا
رعايا الحلفاء.
وعلى الحكومة الألمانية أن ترد إلى الأسرى من الحلفاء جميع أموالهم،
ويتبادل الفريقان المتعاقدان المعلومات عن الأسرى الذين ماتوا وقبورهم.
القبور: يحترم الحلفاء وحكومات ألمانية قبور جميع الجنود والبحارة المدفونين
في أملاكهم ويعترفون باللجان المعينة للعناية بها، ويساعدونها في مهمتها ويسهلون
التسهيل المستطاع في نقل الرفات والدفن.
* * *
الفصل السابع
في تبعة جنايات الحرب
يتهم الحلفاء علانيةً الإمبراطور السابق ولهلم الثاني (بارتكابه الجريمة العظمى
ضد الآداب الدولية وحرمة المعاهدات) وسيطلب من الحكومة الهولندية
تسليم الإمبراطور السابق، وتؤلف محكمة خاصة من قاضٍ واحد لكل دولة من
الدول الخمس العظمى، وتهتدي هذه المحكمة بأسمى المبادئ في السياسة الدولية،
ويناط بها مهمة تعيين العقاب الذي ترى وجوب إنزاله، ويؤلف الحلفاء محاكم
عسكرية لمحاكمة المتهمين بارتكاب أفعال خرقوا بها قوانين الحرب وعرفها،
وعلى الحكومة الألمانية أن تسلم جميع الأشخاص المتهمين بهذه التهم، وتعين كل
دولة من دول الحلفاء محاكم كهذه لمحاكمة الذين ارتكبوا أمورًا جنائيةً ضد رعاياها،
ويحق للمتهمين ان يعينوا المحامين عنهم، وتتعهد الحكومة الألمانية أن تقدم جميع
الأوراق والمعلومات التي يقتضي إبرازها.
* * *
الفصل الثامن
في التعويض والرد
إن الحكومات المشتركة تلقي على ألمانية وحلفائها تبعة كل خسارة وعطل
أصابا الحلفاء والدول المشتركة معهم ورعاياهم من جراء الحرب التي سيقوا
إليها باعتداء ألمانية وحلفائها، وإن ألمانية تسلم بتبعتها وتبعة حلفائها، ومع أن
الحلفاء والحكومات المشتركة معهم يعترفون بأن موارد ألمانية لا تفي بتعويض
هذه الخسارة وذلك الضرر لنقص مواردها الناتج عن المطالب الأخرى المنصوص
عليها في المعاهدة، فإنهم يتقاضون منها التعويض من كل عطل أصاب الأهالي في
الفئات السبع الكبرى التالية، وهي:
(أ) العطل الحادث عن الأذى البدني للأهالي بسبب الأعمال الحربية
المباشرة وغير المباشرة، وفي جملتها إلقاء القنابل من الجو.
(ب) العطل الذي أصاب الأهالي، وفي جملته التعرض للبرد والجوع في
البحر من جراء أعمال القسوة التي أمر العدو بها، والعطل الذي أصاب الأهالي في
الولايات المحتلة.
(ج) الضرر الحادث من إساءة معاملة الأسرى.
(د) الخسارة التي نزلت بشعوب الحلفاء، وهي ممثلة بالمعاشات والإعانات
الممنوحة لعائلات الجنود إذا حولت إلى رأس مال عند إمضاء هذه المعاهدة.
(هـ) العطل الذي أصاب الأملاك والأموال غير المهمات العسكرية البحرية
والبرية.
(و) الضرر الذي أصاب الأهالي بالسخرة.
(ز) الخسارة الحادثة من البلص والغرامات التي فرضها العدو.
وعلاوةً على ذلك تتعهد ألمانية بأن ترد جميع المبالغ التي اقترضتها البلجيك
من الحلفاء بسبب خرق ألمانية لمعاهدة 1839 ، وذلك لغاية 11 نوفمبر 1918
ولهذا الغرض تسلم ألمانية في الحال إلى لجنة التعويض 5 في المئة ذهبًا وسندات
تستحق في سنة 1926 (المقطم: يظهر أنه سقطت عبارة هنا، والمرجح أنه جاء
فيه ذكر ألف مليون جنيه سندات) أما جملة المطلوب دفعه من ألمانية - كما هو
مبين في كشف العطل والضرر - فيعين ويبلغ إليها بعد أن تُسمع أقوالها بالإنصاف،
ويكون تسليمه إليها من لجنة التعويض التي للحلفاء قبل 1 مايو 1921 وفي الوقت
عينه يقدم كشف الدفعات التي يتعين على ألمانية دفعها في خلال ثلاثين سنةً لتوفية ما
عليها، وهذه الدفعات عرضةً للتأجيل إذا طرأ عليها بعض الطوارئ، وتعترف ألمانية
اعترافًا قاطعًا لا رجوع فيه بما لهذه اللجنة من السلطة التامة، وتقبل أن تمدها بجميع
المعلومات اللازمة، وتسن القوانين لتنفيذ قراراتها، وتقبل أن ترد إلى الحلفاء النقود
وبعض الأشياء التي تمكن معرفتها.
ومن الأمور المعجلة التي يطلب من ألمانية عملها في سبيل رد الشيء بها تدفع
في خلال سنتين ألف مليون جنيه إما ذهبًا أو بضائع أو بواخر، أو غير ذلك من
أشكال الدفع المعينة، وهذا المبلغ يدخل في سند الألف مليون جنيه المشار إليه في ما
تقدم ولا يكون علاوةً عليه، مع العلم بأن بعض المصروفات، كمصروفات جيوش
الاحتلال وثمن الطعام، والمواد الخام قد تحسم اتباعًا لما يستصوب الحلفاء.
ولجنة التعويض في تقدير مَقْدِرة ألمانية على الدفع في الآجال المعينة تفحص
نظام الضرائب في ألمانية أولاً، والغرض من ذلك أن تجعل المبالغ التي يطلب من
ألمانية دفعها للتعويض عبئًا على جميع إيراداتها قبل أن يصرف من هذه الإيرادات
شيء في تسديد فائدة ديونها الداخلية، أو استهلاك شيء منها، وثانيًا: لتتأكد اللجنة
أن اللجنة الألمانية هي بالإجمال بالغة من الكبر النسبي مبلغها في بلاد أية دولة من
الدول التي لها مندوبون في اللجنة، هذا والتدابير التي يحق للحلفاء والدول
المشتركة معهم اتخاذها إذا تقاعدت ألمانية باختيارها عن دفع الأقساط المطلوبة،
والتي تعترف ألمانية بأنها لا تعد أعمال حرب - تشمل القيود الاقتصادية والمالية
ومقابلة الشيء بمثله، وبالإجمال جميع التدابير التي تعدها الحكومات المذكورة
لازمةً في تلك الأحوال، وتتألف هذه اللجنة من مندوب عن كل من الولايات
المتحدة وبريطانية العظمى وفرنسة وإيطالية والبلجيك ، ومندوب عن سربيا واليابان
يحل محل مندوب البلجيك حينما يقع ما يمس مصالح إحدى هاتين الدولتين، ثم إن
سائر دول الحلفاء يحق أن يكون لها مندوبون في اللجنة متى نظر في مطالبها
ودعاويها من غير أن يكون لها حق الاقتراع، وتجيز اللجنة الألمانية أن تقيم البينة
على مقدرتها على الدفع وتوسع لها المجال لإبداء حججها، ويكون مركز هذه اللجنة
في باريس وهي تضع نظام إجراءاتها وتعين موظفيها ومستخدميها، وتكون لها
الرقابة العامة على مسألة التعويض كلها، وتصير الوكيل الوحيد للحلفاء لاستلام
التعويض والدفع وحيازته وبيعه وتوزيعه.
وتكون قرارات اللجنة بالأكثرية، وإنما يشترط الإجماع في المسائل التي
تمس سيادة حليف من الحلفاء، وإعفاء ألمانية من جميع عهودها أو من بعضها
وتعيين مواعيد بيع السندات الصادرة من ألمانية وكيفية بيعها وتوزيعها
وصرفها وتأجيل الدفعات السنوية بين سنة 1921 وسنة 1926 إلى ما وراء
1930 وتأجيل الدفعات بعد سنة 1926 لمدة ثلاث سنوات وتغيير أسلوب تقدير
العطل والخسارة وتفسير الشروط. ويجوز للدول سحب مندوبيها من هذه اللجنة إذا
أعلنت عزمها على ذلك قبل وقوعه باثني عشر شهرًا، ويجوز للجنة أن تطلب من
ألمانية أن تعطيها من وقت إلى وقت على سبيل الضمان والتأمين سندات لتسديد
المطلوبات التي لم تسددها، ولهذا الغرض ولأجل بيان مجموع المطلوب من
ألمانية تُطَالَبُ الآن بأن تقدم سندات تعترف فيها بالمبالغ المطلوبة منها، وهي ألف
مليون جنيه إنكليزي تدفع قبل انقضاء أول مايو 1921 بلا فائدة، وألفا مليون جنيه
إنكليزي بفائدة 2.5 في المئة بين 1921 و 1926، ثم تصير الفائدة 5 في المئة،
ومال الاستهلاك 1 في المئة، ويبدأ الدفع سنة 1926 ، وتتعهد ألمانية بأن تعطي
سندات بألفي مليون جنيه إنكليزي آخر بفائدة 5 في المئة، وبشروط تعينها اللجنة
فيما بعد.
وتكون الفائدة على هذه الديون التي على ألمانية 5 في المئة إلا إذا عينت
اللجنة فائدةً أخرى في المستقبل، والدفعات التي لا تدفع ذهبًا يمكن للجنة أن تقبل
فيها بدلاً من الذهب أملاكًا وبضائع وحقوق اتجار وامتيازات إلخ، ويجوز
للجنة أن تصدر للدولة صاحبة الشأن شهادات تمثل السندات أو البضائع التي
أخذتها من ألمانية، ومتى انتقلت السندات من حيازة اللجنة، ووزعت على الدول
يعتبر أن ما يساوي قيمتها من دين ألمانية أوفى.
البواخر: تعترف الحكومة الألمانية بأنه يحق للحلفاء أن يطالبوها بتعويضهم
من جميع البواخر التجارية وسفن الصيد التي فقدت أو عطلت بسبب الحرب،
وأن يطلبوا منها أن تبدلها بما يساويها طنًّا بطن، وطرزًا بطرز بمثله، وتقبل أن
تسلم إلى الحلفاء جميع البواخر الألمانية التي حمولتها من 16000 طن فصاعدًا
ونصف بواخرها التي حمولتها بين 1600 طن، و 1000 طن وربع بواخر الصيد
(سفن الصيد) وتسلم هذه البواخر كلها بعد شهرين للجنة التعويض مع عقود التنازل
الدالة على نقل ملكية البواخر خاليةً من كل شبهة.
وعلاوةً على ذلك من قبيل التعويض تقبل ألمانية أن تبني بواخر لحساب
الحلفاء إلى قدر لا يتجاوز 255 ألف طن في السنة، في السنوات الخمس التالية،
وترد جميع البواخر النهرية التي أخذتها من الحلفاء، ويكون ردها في خلال شهرين
وكل خسارة تكون قد أصابت هذه البواخر تعوضها ألمانية بإعطاء جانب من
بواخرها النهرية لا يتجاوز عشرين في المئة منها.
الولايات المخربة: تتعهد ألمانية بأن تقف مواردها الاقتصادية على تعمير
الولايات التي غزتها، وتكون للجنة التعويض السلطة بمطالبة ألمانية بتعويض ما
دمر بتسليم الحيوانات والآلات إلخ الموجودة في ألمانية، وصنع المهمات
المطلوبة للتعمير مع مراعاة حاجات ألمانية الداخلية الضرورية.
الفحم إلخ: على ألمانية أن تسلم إلى فرنسة مدة عشر سنوات من الفحم ما
يساوي الفرق بين ما كان يستخرج سنويًّا من الفحم من مناجم (التور وباد كاله)
وما يستخرج منها سنويًّا لمدة نحو عشر سنوات، ثم إن ألمانية تعطي لفرنسة الخيار
لمدة عشر سنوات بأن تسلم سبعة ملايين طن من الفحم سنويًّا لفرنسة علاوةً على ما
تقدم، وتسلم ثمانية ملايين طن للبلجيك، وتسلم إيطالية فحمًا يختلف مقداره من
4.
5 مليون طن في سنة 1919 و1920 إلى 8.5 مليون طن في سنتي 1923
و1924 بأثمان تعين حسب ما هو وارد في المعاهدة، ويجوز أخذ فحم الكوك بدلاً
من الفحم على نسبة 3 أطنان منه لأربعة أطنان من الفحم، ونص أيضًا على تسليم
البترول وقطران الفحم وسلفات الأمونيا إلى فرنسة لمدة ثلاث سنوات، وللجنة
السلطة بأن تؤجل تسليم هذه المقادير أو تلغيه إذا كان تسليمها يعرقل مطلوبات
الصناعة في ألمانية.
الأصباغ والعقاقير: تعطي ألمانية اللجنة حقًّا بأن تأخذ من الأصباغ
والعقاقير - وفي جملتها الكينا - نصف الموجود منها في ألمانية في وقت الشروع في
تنفيذ المعاهدة، وتعطيها حقًّا كهذا كل ستة أشهر من السنة إلى سنة 1924 بحيث
لا يتجاوز 25 في المئة مما يكون قد صنع في الأشهر الستة السابقة.
الأسلاك التلغرافية البحرية: تتنازل ألمانية عن كل حق لها في أسلاك معينة
وتقيد قيمة الأسلاك التي لها أصحاب من الأفراد أو الشركات لحساب ألمانية،
وتطرح من التعويض المطلوب منها.
نصوص خصوصية: تعويضًا من تدمير مكتبة لوفان تقدم ألمانية من الكتب
الخطية والكتب المطبوعة القديمة والصور إلخ ما يساوي ما أتلف في المكتبة
المذكورة، وزد علي ذلك أن ألمانية تسلم إلى البلجيك الجناحين الخاصين بمذبح
سجود الحمل الذي صنعه (هوفرت وجان فان ليك) وهما موجودان في برلين
الآن، ووسط هذا المذبح موجود الآن في كنيسة القديس بافو في غنت ، وكذلك
الجناحين الموجودين الآن في برلين ومونخ ، وهما من مذبح يمثل العشاء الأخير
صنعه درك بوتس ، والقسم الأوسط من هذا المذبح موجود في كنيسة القديس
بطرس في لوفان.
وعلى ألمانية أن ترد إلى ملك الحجاز في خلال ستة أشهر مصحف الخليفة
عثمان الذي كان قبلاً في المدينة، وترد إلى الحكومة البريطانية جمجمة السلطان
مكرى التي كانت قبلاً في شرق أفريقية الألماني، وترد إلى الحكومة الفرنسوية
الأوراق التي أخذها ولاة الأمور الألمان سنة 1870 وهي للمسيو روهو ، وترد
الرايات الفرنسية التي أخذتها في حرب 1870 - 1871.
* * *
الفصل التاسع
في المالية
إن الدول التي ستأخذ أملاكًا ألمانيةً تتحمل جانبًا من الدين الذي كان على
ألمانية قبل الحرب، وهذا المبلغ تعينه لجنة التعويض على قاعدة النسبة بين
إيرادات الأملاك المقتطعة، ومجموع إيرادات ألمانية في السنوات الثلاث الأخيرة
السابقة للحرب، ولكن نظرًا للأحوال الخصوصية التي سُلخت فيها الإلزاس
واللورين عن فرنسة سنة 1871 لما أبت ألمانية أن تحمل شيئًا من دين فرنسة
العمومي، ففرنسة لا تحمل شيئًا من الدين الذي كان على ألمانية قبل الحرب، ولا
تحمل بولندة شطرًا ما من الديون التي استدانتها ألمانية للاستبداد ببولندة، أما قيمة
أملاك الحكومة الألمانية في البلاد التي تنازلت عنها، فهذه بالإجمال تحسب لألمانية
في حساب التعويض إلا في الإلزاس واللورين حيث لا يقيد شيء كهذا لحساب
الحكومة الألمانية، أما الدول الموكلة فلا تحمل شيئًا من ديون ألمانية، ولا تقيد
شيئًا لحسابها مقابل أملاك الحكومة الألمانية، وتتنازل ألمانية عن كل حق في تعيين
مندوبين لها، أو السيطرة على بنوك الحكومة أو اللجان، أو غير ذلك من المعاهد
والجمعيات المالية والاقتصادية.
وعلى ألمانية أن تدفع جميع مصروفات جيوش الاحتلال من تاريخ الهدنة ما
دامت هذه الجيوش مرابطةً في بلاد ألمانية، ويكون المبلغ اللازم لتسديد هذه
المصروفات أول ما يؤخذ من إيراداتها، وتتلوه مبالغ التعويض بعد دفع أثمان
الواردات التي يعدها الحلفاء لازمةً لألمانية، ويجب على ألمانية أن تسلم إلى دول
الحلفاء جميع المبالغ التي أوردتها تركيا والنمسا والمجر في ألمانية لأجل المساعدة
المالية التي ساعدتهم ألمانية بها في أثناء الحرب، وأن تنقل إلى ملكية الحلفاء جميع
المطلوبات التي لها قِبل النمسا والمجر وبلغارية وتركية من جراء الاتفاقات المبرمة
بينهم في أثناء الحرب.
وتؤيد ألمانية نقض معاهدتي بخارست وبرست لتوفسك ، وبناءً على طلب
لجنة التعويض تنزع ألمانيا ما لرعاياها من حقوق الملكية أو المصلحة في المنافع
العمومية في البلاد التي تتنازل عنها، وفي البلاد التي ستديرها دول الحلفاء بالوكالة
وفي تركية والصين وروسية والنمسة والمجر، وبلغارية، وتنقل هذه الحقوق
والمصالح إلى حيازة لجنة التعويض، وهذه اللجنة تقيد لها قيمة ذلك بالحساب،
وتتعهد ألمانية أن تسدد إلى البرازيل المبالغ التي تجمدت من بيع بن سان باولو وكانت
قد أبت على البرازيل أن تسحبه من ألمانية.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
تابع لما نشر في الجزء الرابع.
الكاتب: الوليد بن عبد الله بن طعمة
لا قوة إلا بالاتحاد [
1]
كونوا جميعًا يا بني إذا اعترى
…
خطب ولا تتفرقوا آحادا
تأبى القداح إذا اجتمعن تكسرا
…
وإذا افترقن تكسرت أفرادا
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... أكثم بن صيفي
أنشد الحكيم العربي هذين البيتين عندما شعر بدنو الأجل، فلخوفه على أولاده
من التفرق دعاهم لسماع وصيته الأخيرة، وكان قد استحضر لضامةً من السهام،
فطلب إليهم أن يكسروها، فلم يقدر واحد منهم على كسرها، ثم بددها، فاستسهلوا
كسرها، فقال لهم: كونوا مجتمعين ليعجز من ناوأكم عن كسركم كما عجزتم عن
كسرها، فإذا تفرقتم سهل كسركم، وضاع قدركم، وهان أمركم.
فيا حبذا لو ائتم العرب بشعر حكيمهم، وانتصحوا بأنفع النصائح، إذًا لما فقدوا
الملك والخلافة، واشتغلوا عن االحوادث والحدثان بأحاديث خرافة، فبين التنازع
والتقاطع خربوا مملكتهم بأيديهم، وقد كانت أعظم مملكة طلعت عليها الشمس، وبينما
كانوا أسياد الشعوب إذا هم عبيد الترك والروم، لكنهم صبروا على الأعادي، وسبروا
غور العوادي، فوقاهم تعلقهم بأهداب عروبتهم، وتمسكهم بأستار كعبتهم، فحفظوا
بكتبهم وأقلامهم ما كان دونه تكسير سيوفهم وتنكيس أعلامهم، فالحمد لله على بقاء
القوة كامنةً في صدورهم ليبنوا قصورهم على قبورهم، وإن في حفاظهم على العصبية
أساس الوحدة العربية.
لا قوة بلا اتحاد، ولا اتحاد بلا اتفاق، وإنما الاتفاق بحسن التفاهم وصدق
التساهل، وذلك ميسور للذين رجحت أحلامهم وكرمت أخلاقهم، فعلى العرب أن
يتفقوا ويتحدوا بالتي هي أحسن؛ لتلافي التي هي أقبح، وإلا اعتلَّت عربيتهم
وانحلَّت عصبيتهم، فأصبحوا لا يعرفون أوطانًا ولا يرفعون أعلامًا، السيل
الأوربي يكاد يطغى عليهم ويفرقهم كما تفرقت أيدي سبأ، وإنه لأكثر خطرًا
وأشد هولاً من سيل العرم الذي أجحف التبابعة ومزق ملكهم، فليبنوا له من
لسانهم وقرآنهم سدًّا أمتن من سد مأرب، وما استناموا إلى الأوربيين رأوا منهم
أصلالاً وثعابين، وكفى بنكبة إخوانهم عرب الغرب عبرةً وإنذارًا، ومن فظائع
الصليبيين في الماضي يعرفون مقدار فجائعهم في الآتي، فما أقرب الغد من الأمس،
والخطر أدنى من قاب قوسين، الفرنج يضربون أخماسًا لأسداس، ويستضعفون
العرب لتخاذلهم، فلا قوة لهم إلا باتحادهم وتوحيد حُكامهم وبلادهم.
قيل إن زرقاء اليمامة كانت تبصر الشيء من مسير ثلاثة أيام، فجهز حسان
ابن تبع جيشًا وسار إلى غزو قومها جديس، فصعدت ونظرت إلى الجيش،
فرأت كل رجل قد حمل شجرةً ليلبسوا عليها، فقالت: أتتكم يا قوم الأشجار، أو
أتتكم حمير!! فلم يصدقوها ولم يستعدوا حتى صبحهم حسان فاجتاحهم، وإني
لقومي نذير لئلا يحل بهم ما حل بقوم الزرقاء، لقد علموا أن بين زرق العيون
وسودها عداوة جراثيمها في العروق، فكيف يركن العربي إلى الفرنجي، وهو
العدو الأزرق، وبينهما من المباينة ما لا يزول بالملاينة؟ فليحذر العرب خشونة
القلانس بعد ليونة الملامس، إن الفرنج يصانعونهم لينالوا منهم أربًا، ثم يقولون: لا
نعرف عربًا، المثل يقول: من جرب مُجرَّبًا كان عقله مُخرَّبًا، فأي شعب لم
يجربهم ويتأكد أن أعمالهم تخالف أقوالهم، فإذا دخلوا أرضًا مزقوها، وإذا حكموا
أمةً فرقوها، وبعد ما تركز أعلامهم وتغرز أقدامهم، يستبدلون العنف من الرفق،
والقوة من الخدعة، فويل للعرب من الفرنسيس والإنكليز إذا لم يوحدوا كلمتهم
توحيدهم لله.
لو حفظ العرب عصبيتهم في الإسلام، كما حفظوها في الجاهلية لظلوا حتى
اليوم أهل السيادة والقيادة، لكنهم أضاعوا الدولة والخلافة بتحكيم الغرباء، وتسليم
الأمور إلى الدخلاء، فأصبحوا محرومين من ملك بني على أجسادهم وأكبادهم،
وصار إلى الفرس والترك والأكراد ما فتحته سيوف أجدادهم، والبلية من
سياسة الخلفاء الخرقاء بتقديم العجم على العرب، واعتمادهم على المماليك في
السياسة والحرب، فلو جعلوا الأحكام للعرب دون غيرهم لصانوا شرفهم وشرف
العروبة والخلافة، وقد ظنوا دولتهم إسلاميةً تقوم بالمسلمين من جميع الشعوب،
فما كان الإسلام شافعًا لهم عند نزوة الشعوبية ونعرة العصبية، وهكذا أسقطوا
العرب وأبعدوهم فسقطوا؛ إذ لا حماة للدولة إلا الذين بنوها، والدولة التي يتربع
في دستها الأجانب صائرة إلى انحلالها واضمحلالها.
لما قتل باغر التركي المتوكل على الله، رثاه المهلبي بقصيدة قال في آخرها،
يخاطب بني العباس:
فلو جعلتم على الأحرار نعمتكم
…
حمتكم السادة المركوزة الحشد
قوم هم الجذم والأنساب تجمعكم
…
والمجد والدين والأرحام والبلد
لقد صدق المهلبي !! فليس للمرء إلا أهله وقومه في الشدة.
إن معن بن زائدة الشيباني قاتل المنصور مع ابن هبيرة نصرةً لبني أمية، فاشتد
طلب المنصور له وهدر دمه، فاختفى زمنًا طويلاً، وبعد ما قتل المنصور أبا مسلم
ثار عليه الراوندية وقصدوا قصره؛ ليقتلوه، فبرز البطل العربي معن بن زائدة متلثمًا
وقاتل العصابة الفارسية وحده حتى ظفر بها ومزق شملها. فتمردُ الفرس على الخليفة
العربي أنساه العداوة، فصان وقار الخليفة والعرب، وبما عنده من النخوة العربية
والغيرة العصبية، ركب مركبًا خشنًا وأبلى بلاءً حسنًا، فلو كان حول الخلفاء حاشية
وجند من أحرار العرب لما تطاولت إليهم أيدي الغلمان والمماليك، وقد كان سقوط
الدولة العربية لبعد العرب عنها وتفرقهم وانقسامهم، فالدولة لا تقوم إلا باتحاد الأُصلاء
وإبعاد الدخلاء.
عسى أن يكون للعرب عبرة من الماضي، فيجددوا ويؤسسوا دولةً عربيةً
خالصةً، فحينما تخلو من الشوائب تجلو كل النوائب، ويصير العربي سيدًا، وإليه
العقد والحل، والنهي والأمر، فتصدر الأحكام، وتتصدر الحكام من العرب للعرب
في كل أرض شرفت بالعروبة، وتشرفت بالاستعراب، وبحكم الشرع يكون فيها
عربيًّا كل مولود ومكتوب ومصكوك، وتظللها الراية التي طلعت من بطحاء
مكة سوداء خضراء بيضاء، لقد كان سوادها وقارًا، واخضرارها رجاءً،
وبياضها هدًى وسلامًا، فتحتها يجب أن يتم اتحاد العرب في الشرق والغرب،
وهي المشْرَع وإليها المهْرَع، ولا عزة للمسلمين من غير العرب إلا بها؛ لأنها
راية الخلافة العظمى، فما أحراهم بأن يتراجعوا إليها، ويقسموا إليها اليمين عليها
مستعربين لغةً كما استعربوا دينًا، إن باندماجهم في أمة الرسول شرفًا لهم فوق كل
شرف، هكذا تنبسط الدولة العربية الكبرى، ولها جناح في المشرق وجناح في
المغرب، فيرسو أصلها وتمتد فروعها بجيش مرصوص وأسطول مرصوف،
فتظل عربيةً عرباءَ لا دخلاء فيها ولا غرباء.
على العرب أن يحققوا هذه الأماني، ولو كانت دونها المنايا، تاريخهم
مكتوب بدم أجدادهم، فليكتبوا بدمهم وصيةً لأولادهم، فإذا عجزوا عن إتمام خطتهم
أتمها الآتون بعدهم، فللشعوب آجال تقصر عندها أجيال، وما كان العرب ليخشوا
محذورًا إذا طلبوا محظورًا، إنهم جبارون أصحاب بأس وبطش ونجدة وشدة، فلو
كانوا متحدين متعاونين لسدوا كل ثغرة، وصدوا عدوًّا له شر فمرة، فطالما حاربت
قبائلهم دولاً ذوات جحافل وأساطيل، فأطلقوا الأعنة وشرعوا الأسنة تجاه قذافة النار،
فكانت سواعدهم أشد من فوهات المدافع وأفتك، تشهد لهم أعداؤهم بالبسالة والنصر،
والفضل ما تشهد به الأعداء.
أجل إن الأعاجم يرهبونهم على افتقارهم وتفرقهم، فكيف إذا وحدوا أوطانًا
واتحدوا أعوانًا، حينئذ تكون لهم أيام كأيام حليمة وذي قار واليرموك والقادسية
وشريس وعروبة، فما أكبر ذلهم في خضوعهم للترك والروم بعد شرف راسخ ومجد
بازخ، وقد كانوا في جاهليتهم أسيادًا وأبطالاً، فلم يجسر الغزاة على وطء أرضهم،
وهي كعرينة الأسود، فوقف غزاة الفرس واليونان والروم متأهبين متهيبين على
حدود البادية الرهيبة، وظلت الأمة العربية بكرًا حرةً في رمالها وجبالها.
كانت قوة العرب بشدة اتحادهم وصحة اعتقادهم لا بكثرة العدة والعدد، فقد
كسرت شراذمهم جيوشًا جرارةً، وفتحوا في ثمانين سنةً ما لم يفتحه الرومان في
ثماني مئة، وكانوا يتغلبون بصبرهم وإقدامهم واتحادهم على القواد المجربين،
والأجناد المدربين، فحكموا مائة مليون من البشر، وعددهم لا يربي على مئة ألف،
وكانت أوامر الخلفاء تصدر في دمشق وبغداد وتنفذ في الهند والصين ، والأندلس،
وقد حدد أبو تمام دولة الخلافة في أيام المعتصم ببيت من قصيدة مدحه بها، قال:
فاعقد لهارون الخلافة إنه
…
سكن لوحشتها ودار قرار
فالصين منظوم بأندلس إلى
…
حيطان رومية فملك ذمار
هذه حدود الدولة العربية التي شيدها جبابرة العرب، فهدمها مماليكهم وما
رممها صعاليكهم، وقد كان أوائلهم متنسكين، فأصبح أواخرهم باللذات متمسكين،
ولما صاروا أحزابًا غدت مملكتهم أقسامًا، فطمع بها الطامعون، وليس للفتنة
قامعون، وكانوا متحاسدين في الرئاسة، متخالفين في السياسة، فضعفوا بتقاتلهم
وتخاذلهم، وعاونوا أعداءهم على نفوسهم، وما فقدوا ملكهم إلا لأنهم أرادوا أن
يكونوا جميعهم ملوكًا وأمراء، وتلك عزة عربية لا تزال حتى اليوم حائلةً دون
اتفاق أمرائهم.
لا تقوم للعرب قائمة حتى يوم الدين إذا لم يعتصبوا على الأجانب، وربما
ذهبت لغتهم وأخلاقهم وأوطانهم بعد ذهاب دولتهم، فللروم كرة بعد كرة في حرب
صار فيها العربي حريبًا.
إن في قصيف المدافع مواعظ لهم، فليتهم يتعظون وإن يكونوا ضعفاء في الحكم
لتكن لهم قوة من بغض أعدائهم وحب بعضهم لبعض، إن من البغض لقوة أكبر من
قوة الحب عند اصطدام المنازع، فإياهم والاغترار بمواعيد الأوربيين، فالأفاعي
مالسة جلودها، حادة نيوبها، إنهم يظهرون لينًا حتى إذا فازوا وحازوا، قبضوا بأيدٍ
من حديد، فلا تنعتق الأمة الضعيفة من الرق ولا تنطلق من الأسر، وقد حجروا عليها
وحجزوا سلاحها، يصنعون السلاح، وكالسلع يبيعونه، أحقر الجمهوريات الأميركية
وأصغر الممالك الأوربية، فبيعه حلال عندهم لأهل الجبل الأسود وأوربة وأهل
البرغواي في أميركة، ولكنه محرم على الشعوب الأفريقية والآسيوية التي ملكوا
نواصيها، وبعد شك سلاحهم ينزعون ما عندها من السلاح، ويمنعونها من أن تصنع
أو تشترى، فتصبح عزلاء تحت رحمتهم، وقد أحاطت بها القلاع والمدافع، فويل
للعرب إذا علق العرق الفرنجي بأرضهم، فامتد واشتد.
لقد ناموا مستسلمين إلى الأقدار، والأوربيون ينصبون أشراكًا ويطرحون
شباكًا، ولما استيقظوا أبصروا الأساطيل تدمر ثغورهم، والمدافع تحصد صفوفهم،
فأيقنوا أن لا طاقة لهم عليها بسيوف رقيقة ورماح دقيقة، وقد جنى الأتراك على
نفوسهم وعلى العرب؛ لأنهم ضعفوا وأضعفوهم معًا، فوثب الفرنسيس
والإنكليز عليها وعاثوا في بلادهم وعبثوا بحرمتهم، فهلا علم العرب أن لا حق
إلا للقوة وبالقوة، وأن لا قوة بلا اتحاد؟ لا ريب بأنهم ضعفاء اليوم، ولكن لهم
قوة باتحادهم فوق قوة السلاح، فليجمعوا آمالهم وعواطفهم كلما جمع الأوربيون
قواصف تنثر قذائف، فبعد الحفيظة والحفاظ يرون فجر الحرية منبلجًا، وجيش
العبودية منفلجًا، وإذا توسلوا بالقوة الأدبية توصلوا إلى القوة المادية، فعلى هذا
المنهج سار الذين كانوا من المغضوب عليهم والضالين، فلتتوغل العروبة نفوسهم
كلما توغل الفرنج بلادهم، فإما أن يعيشوا عربًا وإما أن يموتوا عربًا.
أليس من الغبن والحيف أن تلم أحدث الأمم شعثها، ولا ترى أقدمها
وأشرفها بعد الموت بعثها، أما كفى الأمة العربية شقاؤها بحكم الترك حتى تصير
أشقى بحكم الروم، الله أكبر على الذين يمزقون بلادها ويفرقون أولادها، فلا
سبيل إلى العزاء، والصبر لا يفرج الهم، والخطب قد ادلهم، وأنى ذلك، والعرب
البيض الوجوه الشم الأنوف عبيد؟ وقد صار الزنج في أميركة أحرارًا، ألا تكون
لأعظم السلالات دولة حرة جامعة، ولأحقرها دول شتى في القارتين الأوربية
والأميركية؟ ألا يشفع للعرب فضلهم على الإفرنج بما أخذوه من مدنيتهم وعلومهم
وآدابهم، ألا يعرفون لهم جميلاً بدماء أهرقوها، وأكباد أحرقوها في الذود عن
حياضهم؟ لا ورب الكعبة، فالحق يعرفه المرء ضعيفًا وينكره قويًّا، فقل للعرب:
اتحدوا لتصيروا أقوياء، وانتصفوا من أهل القوة بالقوة، فقد قال الله تعالى في
كتابه الكريم: {وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} (الحديد: 25) لا خلافة لكم في
هذا الخلاف ولا دولة والخصام بينكم، والأعاجم خصومكم، فشيدوا دولةً ذات
عز وسلطان ولا ترضوا بالسلطة إلا من السماء، بئست الحكومة إذا كان الأجنبي
فيها حكمًا، وبئس الخليفة إذا كان صنمًا، لا جلال ولا مهابة للخلافة إلا بأمثال:
عمر بن الخطاب ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وعبد الملك بن مروان ، وهارون
الرشيد ، وعبد الرحمن الناصر، ولا منعة للدولة إلا بأسطول يحمي الثغور
ويخوض البحار، وأميره مثل: حميد بن معيوب الذي عقد الرشيد له اللواء، ولا
سطوة للملك إلا بخميس يقوده أمثال: خالد بن الوليد ، وأبي عبيدة بن الجراح ،
وعمرو بن العاص ، وأسد بن عبد الله ، ومحمد القسري ، وموسى بن نصير ،
والحجاج بن يوسف ، وقتيبة بن مسلم ، ويزيد بن مزيد ، وأبي سعيد محمد بن
يوسف.
باتحاد العرب واتفاقهم تتألف الدولة العربية الكبرى، فتعم الحجاز واليمن ونجدًا
والشام والعراق والموصل وديار بكر ، وتنضم إليها كل أرض تغلبت فيها العروبة،
وكل أرض أراد أهلها أن يستعربوا، هذه خريطة الدولة العربية في آسية حتى توضع
لها خريطة في أفريقية، فتسيطر في الشرق والغرب وتنتظم البلاد العربية انتظام
البلاد الألمانية بدهاء بسمرك ، والإيطالية بسياسية كافور، وليس الأمر بعسير على
سلالة كبيرة قديرة، كالسلالة العربية، فقد كاد يتم على يد عبد القادر ومحمد علي لولا
معاكسة الفرنسيس والإنكليز وأهل أوربة أجمعين، فقد كانوا ولا يزالون ساعين إلى
إحباط مساعي العرب خشيةً من سطوتهم وبطشهم، ولولا مساعدة الأوربين ما ظل
الأتراك متحكمين بهم وبسائر الشعوب، لقد كانوا جميعهم على الأتراك في أوربة
ومعهم في آسية، وطالما ادعوا حماية النصارى في الشرق، ولم يكترثوا لمذابح
الأرمن وما لبوا لهم دعاءً لكنهم - لأهواء فاسدة - أنجدوا أهل اليونان والبلقان
وعاونوهم على نيل استقلالهم، وما كان أولئك أقوى من العرب والأرمن وأصلح
للحكم، ولا هم أهل مدنية وثروة وسلطان، إنما المطامع والمآرب جعلتهم يدوسون
حقوق الشرقيين، ويدسون لهم.
وهذا يوسف كرم البطل اللبناني، قد خانته فرنسة ذات الوجهين واللسانين،
فهي التي عاكسته وشاكسته وقضت عليه بذل الأسر ووحشة المنفى، فقد لاينته
وخادعته حتى استسلم، ثم أعرضت عنه إعراضًا، وإذا كانت طامعةً بامتلاك لبنان
خافت أن يفضي الأمر إليه، فأغرت به طائفته وبطريركها، فكانوا شر أعدائه، وما
عرفوا له قدرًا، هذه حقيقة ساطعة وحجة قاطعة، فلا اعتراض ولا افتراض.
هكذا الفرنسيس والإنكليز يفرقون الشرقيين شذر مذر، فقل للعرب: الحذر
الحذر، فاتحدوا اتحادًا متينًا لتسلم أوطانكم وأعراضكم، وقاوموا بوارجهم ومدافعهم
ومناطيدهم بتاريخكم ولغتكم ودينكم وأخلاقكم، فإذا حفظتموها حفظتكم، وهي عليكم
محافظة ما دمتم عليها محافظين.
قال بسمرك: غلبنا الفرنسيس بالمدارس، والمثل العربي يقول: (الدارس
غلب الفارس) فادرسوا واثبتوا، ولكم حق ويقين حتى يكون يومًا فتح من الله ونصر
مبين، حينئذ يجتمع أمراؤكم ويجمعون أوطانًا ويبايعون سلطانًا، فتبقى لكل أمير
إمارته، وتعطى كل ولاية حقها، فتستقل بإدارتها الداخلية وتبعث نوابها وأعيانها إلى
مجلس الشورى ودار الندوة، ويكون مرجع الولايات كلها إلى حكومة مختلطة
عاصمتها إحدى المدن العربية الكبرى، وينظم جيش بري وجيش بحري من جميع
طوائف العرب، والمناصب للذين هم أهل لها دون تمييز في الدين والبقعة، فلا فضل
لعربي على آخر إلا بما أوتيه من المواهب، وبما يأتيه من الأعمال، هذه خطة
أرسمها رسمًا، ويعدها البعض هوسًا ووهمًا، ولكنها ستصير حقيقةً، فالليالي حبالى
يلدن كل عجيبة، ولا بد من أن ينهض العرب كاليابان، فما السلالة الصفراء بأفضل
من السمراء.
هذا اتحاد مقدس يريده كل العرب، ولكن الفرنسيس والإنكليز لا يريدون،
فكأن العباد عبيدهم والبلاد تليدهم، فيعطوا ويحرموا ما يشاءون ومن يشاءون أبدًا
ينبشون للشعوب قبورًا، ويقولون: نمدن همجًا ونعمر بورًا، فتراهم يعتصبون
ويغتصبون متغزلين بالحرية والمدنية، فمتى يستريح الناس من هذه الأغنية التي
غلب الفرنجي بها الشيطان؟ كنا ظنناهم قد تابوا إلى الله والمظلومين بعد ما لطمتهم
ألمانية وحطمتهم، فإذا هم طامعون بالذراع بعد الكراع، وقد أفلتوا من البراثن
واللهوات، بالأمس كانوا يشكون ظلمها معولين، على الأميركان معولين، واليوم
يظلمونها بأشد من ظلمها، وينقضون عهد نصرائهم إذ تحفزوا لملك رقابهم وحكم
بلادهم، وهكذا يجزون الإحسان بالإساءة، ويقابلون الشر بشر أعظم، لقد نهبوا
ألمانية وسلبوها، ولو استطاعوا لسحقوها وخنقوها، فأي فضل لهم إذا لم يعفوا عن
مقدرة والعفو من شيم الكرام.
أما العرب فكانوا أسوأ الناس حظًّا، وما كان الرومي مع العربي إلا فظًّا، لقد
حالفوهم فكانت كل المخالفة من تلك المحالفة، فبعد ما نصروهم قاموا ينحتون في
أثلتهم، ويقسمون بلادهم إربًا إربًا، فيقول الإنكليز: ليس للعرب إلا الحجاز، فلنا
العراق وفلسطين ، ويقول الفرنسيس: لم تكن سورية يومًا عربيةً، فهي لنا منذ
الأزل وإلى الأبد، وبعض الخونة يمالئونهم على الأحرار الذين يناوئونهم، فيا
خيبة المسعى والأمل، وهذه قصة الذئب والحمل، الوفاء قد غاض والحق التوى
فهل يرحمنا الذي على العرش استوى؟ ولم يكتفوا بأن يمالوا من فقرنا، بل
يريدون أن ينزلوا اليهود في عقر دارنا، فيجعلون مقاومة اليهود شغلاً شاغلاً لنا؛
لننصرف عنهم ويتيسر لهم إضعافنا وإذلالنا، فلا ريب في تعمدهم تفريق العرب لئلا
تكون دولةً عربيةً، نعم إنهم لا يريدون أن تكون لهذه الأمة دولة تجمعها وراية ترفعها
، فلا تبقى للشهم الأبي بقعةً عربيةً يلجأ إليها من جورهم ومكرهم فيرى الموت تحت
أية راية في الغربة أفضل من العيش في وطنه تحت راياتهم، إن له صبرًا جميلاً في
البلاد الأجنبية، ولكن لا صبر له وهو غريب في الديار العربية، فيلعنهم ثلاثًا،
وربما لعن في يأسه أرضًا لم تكن يومًا لأبنائها، وإذ ينظر إلى نزاع أمته وانقراضها
يود أن تستقل أو تموت تحت أنقاضها.
أبدًا يمكرون بنا متظاهرين بالعطف علينا، وحجتهم في استبعادنا أننا
قاصرون ضعفاء ينبغي لنا وصاية وحماية. الأرض إرث لنا من آبائنا وأجدادنا،
ويريدون أن ينتزعوها منا ومن أولادنا، وإذا سألناهم: لماذا؟ أجابونا: نود
تمدينكم وتأهيلكم للاستقلال، فلو كان صدقًا ما يقولون لجاءونا بالكتب والأقلام
لا بالكتائب والأعلام، الساعي إلى الصلاح لا يحتاج إلى السلاح، فما هذه الحامية
والنار الحامية، وما بالهم يعدوننا أصدقاءهم، ويدخلون علينا مسلحين؟ ألا يجوز
أن يكون التمدين سلمًا، فيرشدوننا لأجر أو بأجرة، ويتركون لنا السيادة والحكم
والحرية في أرضنا، ويشاركوننا بتعميرها واستثمارها؟! لكنهم يريدون أن يملكوا
الأرض ويقرضوا النسل ليصير العالم فرنسويًّا وإنكليزيًّا، فإذا قلنا لهم: نريد
أن نجتمع ونتحد لنؤلف أمةً، يقولون لنا: لستم صالحين لذلك وأنتم جماعات
متفرقة، لا زعماء لها يقودونها، ولا حكماء يرشدونها، والله يشهد أن تفرقتا
وانقسامنا بإغرائهم وإغوائهم، فلو تركونا وشأننا لأصلحنا ذات البين، أو تناضلنا
حتى يفوز خيارنا ويقر قرارنا، والأمم جميعها ِأخذت نظامها من الفوضى،
وطمأنينتها من الثورة، وما كانت بالأمس أفضل منا اليوم، ولكنها تطورت
وترقت تدريجيًّا، أما الرجال فالحوادث تظهرهم، والأمور مرهونة لأوقاتها.
ويقولون زورًا وبهتانًا: لستم أهلاً لأن تستقلوا وتتمدنوا، فنقول لهم: ليس
الاستقلال من الفلسفة والمنطق لنأخذه عنكم، فالإنسان مستقل ما لم يُستعبَد،
والعصفور مستقل ما لم يقفص، لكل حريته في المعيشة ناعمةً كانت أو خشنةً، ولكل
المخلوقات حكمة في تدبير شؤونها وتحسين أحوالها، فما البشر في أرضهم دون النمل
في قريتها والنحل في خليتها، ولنا مدنية قديمة بها اهتديتم، فنحن في غنى عن
مدنيتكم، سنجدد معالمها ونرفع منائرها ونضيف إليها حسنات المدنية الحديثة، وإن ما
تُكرهوننا عليه من مدنيتكم يفسد أخلاقنا ويثقل أعناقنا.
هذا شرح القصة، فهلا اعتبر العرب بما تراه أبصارهم وبصائرهم؟ وما كانت
بلاياهم إلا من تقاطعهم وتنازعهم، فلن يكون لهم مقام بين الشعوب ما داموا متعاندين
متباعدين، فعلى قلتهم في بدء عهدهم كان لهم قوة باتحادهم، واليوم على كثرتهم لا
تُخشى لهم صولةً ولا تُبنى دولة، ولعزتهم وإبائهم لا يخضع أمير منهم لأمير،
والعرب جميعهم أمراء، وهذا سبب التخاذل والتقاتل بينهم وتقوية الأجانب عليهم، فلو
فطنوا لتعاهدوا وتعاونوا وكانت لهم قدوة بمبايعة عمر لأبي بكر، وإلا كان الروم بعد
الترك شر خلف لشر سلف.
لقي أبو جعفر المنصور أعرابيًّا، فقال له: يا أعرابي! احمد لله الذي رفع
الطاعون عنكم بولايتنا، فقال له الأعرابي: إن الله أعدل من أن يجمع علينا حشفًا
وسوء كيلة، فلا يجمع بين ولايتكم والطاعون، هذا ما يقوله كل عربي للفرنسيين
والإنكليز بعد رحيل النكبة وحلولهم، فليعلم العرب أن حياة الأمة بقوتها الأدبية، وأن
لا قوة إلا بالاتحاد.
…
...
…
...
…
...
…
الوليد بن عبد الله بن طعمة
_________
(1)
للكاتب الفاضل (الوليد بن طعمة) صاحب الروح العربية العالية عن العدد 14 من (سورية الجديدة) الصادر في البرازيل في أول أيار (مايو) سنة 1919.
الكاتب: محمد رشيد رضا
التطور السياسي والديني
والاجتماعي بمصر
لا ينتقل شعب من طور إلى طور أعلى منه أو أدنى إلا بسير إليه مقدر في
الواقع ونفس الأمر تقديرًا تكون المسببات بقدر الأسباب، وسواء كان ذلك السير
بتأثير حوادث الزمان وتقلب شؤون الاجتماع التي لا يشعر جمهور الشعب بها ولا
يفطن لما يترتب عليها من العواقب النافعة أو الضارة، وإنما يشعر أفراد منه ببعض
أحداث التغيير في الأعمال والعادات، فيحمدها أناس ويذمها آخرون، ولا يصل نظر
الحامد ولا الذامّ إلى ما سيكون من مستقرها في مستقبل الأيام، أو كان السير بنظام
موضوع لغرض مقصود، وقواد من الزعماء ألفوا الجمعيات وحزبوا الأحزاب
ونقحوا أنظمة التربية وبرامج التعليم، أو كان مذبذبًا بين هذا وذاك.
أما الحال الأولى فهي حال تطور الشعوب الجاهلة التي ليس فيها زعماء
حكماء يقودونها في سيرها على علم بسنن الكون وشؤون الاجتماع، بل ينتقل إليها
تغير الآراء وتجدد الأفكار والأنظار من شعوب أخرى على سبيل الاتفاق، أو
على سبيل القصد من تلك الشعوب، كما هو شأن الشعوب القوية المستعمِرة مع
الشعوب الضعيفة التي تطمع هي في بلادها، فإنها تتعمد إحداث التغيير في عقائدها
وآرائها وعاداتها بالقدر الذي تحل به روابطها الاجتماعية، وتفسد عليها مقوماتها
ومشخصاتها القومية، فتصبح مقسمةً على نفسها، ويجد الطامع فيها ما يطلب من
الأعوان له عليها آنًا بعد آن.
قال اللورد سالسبوري: إن مدارس المبشرين أول خطوة من خطوات
الاستعمار، فهي تحدث في البلاد التي تنشأ فيها انقسامًا وتفريقًا بين أهلها يفقدون به
وحدتهم، فيكونون عونًا للمستعمِر على أنفسهم -أو ما هذا مؤداه- وجاء في الجزء
الكبير الذي خصصته مجلة (العالم الإسلامي) الفرنسية في مبحث (فتح العالم
الإسلامي) [1] : إن المدارس التي أنشأها المبشرون في الآستانة وغيرها من
البلاد العثمانية قد كان تأثيرها في حل المسألة الشرقية أعظم من عمل جميع سفراء
الدول ومعتمديهم السياسيين [2] .
وأما الحال الثانية: فهي حال الشعوب العلمية الراقية ذات الزعماء الحكماء
الذين يعرفون أمراض الاجتماع وعلله، فيداوون أمراضه ويصلحون خلله، ويكملون
نقصه بما يهديهم إليه العلم بسنن الله في خلقه، فيزداد كمالاً، أو يعجزون عن ذلك،
فيعود إلى الضعف والفساد.
وأما الحال الثالثة: فهي حال الشعوب المخضرمة بمشابهتها للجاهلة الساذجة
من وجه، وللعلمية من وجه آخر، وهي الشعوب الضعيفة ذات العلم التقليدي
الناقص، كأهل البلاد التي بثت فيها تعاليمهم وآراءهم، فتبعتها تقاليدهم وعاداتهم،
فتفرق أهلها شيعًا وأحزابًا مختلفةً متدابرةً، يعد كل منها الآخر ضارًّا للبلاد ومفسدًا
لأهلها، وتكون فيها زعماء بالتكلف والتحزب يعملون للكسب والشهرة لا للمصلحة
العامة، بل يجاهدون من هم أولى بالزعامة وأقدر على النهوض بالأمر منهم إلى أن
يغلب فريق منهم الآخر باستمالة الرأي العام إليه.
ليس المقام مقام بيان شؤون كل شعب من هذه الشعوب على التفصيل، وإنما
المراد من هذه المقدمة تذكير القارئ بأن ما نعنيه بالتطور - وهو انتقال الأمة من
طور إلى طور - إنما يكون بسير اجتماعي، منه ما هو صناعي، كالذي يكون بسعي
زعماء الأمم الراقية، ومنه ما هو طبيعي ظاهر لبعض أهل البصيرة والعلم، أو
خفي لا يُعلم به إلا بعد ظهور أثره، كتفجير الينابيع بعد تجمع الماء بالسريان في
باطن الأرض، أو بين الجلي والخفي، كسير الظل.
ثم إن سير السنن الاجتماعية الذي يكون به التطور قد يكون بطيئًا لا ينتهي
إلى غايته إلا في عدة أجيال، وقد يكون سريعًا بما يُحدث في العالم من كبر أحداث
الاجتماع، كظهور الاسلام في العرب الأميين، الذي أحدث أكبر انقلاب اجتماعي
في جميع العالم القديم، فكان له ذلك الأثر العظيم في آسية وأفريقية وأوربة
بإحياء موات العلم ودارس الحضارة، وكالثورة الفرنسية التي زلزلت ما كانت
عليه دول أوربة من الاستبداد والاستعباد، وكحرب المدنية العامة الأخيرة التي
زلزلت جميع الأمم والشعوب أشد زلزال، ومخضت العالم البشري مخضًا لم يتم
تكوين زبده إلى الآن، وجميع الأمم والشعوب شاخصة الأبصار، متلعة الأعناق،
مصيخة الأسماع، ترتقب النتيجة التي يجتهد أولو الأطماع المتداعون على افتراس
الشعوب الضعيفة، كتداعي الجياع إلى القصاع في جعلها شر بلاء أصيب به البشر
بعد أن ملأوا الأرض صياحًا بأنهم ما حاربوا إلا لتحرير البشر.
كانت مصر مستقلةً استقلالاً داخليًّا تامًّا تحت سيادة الدولة العثمانية - التي لم
يكن لها أدنى تدخل في إدارة مصر الداخلية - وكانت أوربة كلها مصدقةً على هذا
الاستقلال وتناولها في البلاد معتمدون سياسيون، وكان الاحتلال الإنكليزي الذي
وقع بطلب أمير البلاد ورضاء الدولة صاحبة السيادة موقتًا لم ينازع في استقلال
البلاد، ولا في سيادة الدولة عليها، ووعدت الدولة وعودًا رسميةً كثيرةً بأنه لا بد
من الجلاء عنها وتركها لأهلها، ولكنها في أثناء الحرب أعلنت الحماية عليها
وجعلتها ميدانًا حربيًّا، وأباحت لسلطتها العسكرية أن تتصرف فيها تصرف المالك،
فلما عقدت الهدنة هب المصريون للمطالبة باعتراف إنكلترة وسائر الدول - التي
تعقد الصلح بين الأمم - لها بالإستقلال التام، وتألف وفد منها للسعي إلى ذلك اختار
سعد باشا زغلول الشهير بصدق الوطنية والشجاعة الأدبية وقوة العارضة، وسعة
المعارف في القوانين، رئيسًا له، وأخذ الوفد وثائق كثيرة من الألوف من المصريين
الذين يمثلون الرأي العام المصري باستنابته عنهم، كأعضاء الجمعية التشريعية
ومجالس المديريات والبلديات، وسائر طبقات الأهالي، وطفق يخاطب بذلك
الحكومة البريطانية والرئيس ولسون ، وسائر الدول بواسطة وكلائها السياسيين، ثم
عقد الوفد اجتماعًا عامًّا في دار وكيله حمد باشا الباسل خطب فيه الرئيس والوكيل
وغيرهم في بيان حقيقة المسألة المصرية، وما تطلبه البلاد من الاعتراف لها
بالاستقلال، وأراد الرئيس عقد اجتماع آخر في داره، فمنعته السلطة العسكرية
البريطانية من ذلك، ثم اعتقلته مع الوكيل المذكور وعضوين آخرين من أعضاء
الوفد، هما: محمد باشا محمود سليمان وإسماعيل صدقي باشا، وأرسلتهم إلى مالطة،
فهاجت الأمة المصرية لذلك هياجًا، وقامت بمظاهرات عظيمة في القاهرة
والإسكندرية وغيرهما من المدائن، وهاج الفلاحون وقبائل العربان، وقطعوا أسلاك
البرق وقلعوا خطوط حديد السكك، ودمروا بعض محطاتها، حتى صار الهياج ثورةً
عامةً، واستقالت وزارة حسين رشدي باشا احتجاجًا على مصادرة الحرية الشخصية،
بنفي من ذُكر من أعضاء الوفد، وتعذر على السلطة تأليف وزارة جديدة.
وكان حسين رشدي قد طلب قبل ذلك كله من الحكومة الإنكليزية الإذن له،
ولعدلي باشا وزير المعارف بالسفر إلى إنكلترة لمفاوضة أولي الأمر فيها بما
سيكون عليه شكل الحكومة بعد الحرب التي عاونت البلادُ المصرية وحكومتها
فيها السلطة البريطانية أعظم معاونة شملت زهاء مليون شاب مصري، ساعدت
السلطة الإنكليزية العسكرية على الأعمال الحربية في فلسطين حتى إنها كانت تسمي
الحملة التي فتحت القدس الشريف (الحملة المصرية) وهذا الفتح هو الذي قال
فيه المستر لويد جورج رئيس الوزارة الإنكليزية: إنه آخر حرب صليبية،
وساعدتها كذلك في العراق ، وفي مواضع أخرى، وناهيك بالمنافع المالية بأنواعها ،
ولكن الحكومة الإنكليزية أرجأت طلب الوزيرين أولاً، ثم أرادت أن يسافرا
فأبيا إلا أن تأذن للوفد المصري بالسفر أيضًا، فصدر الأمر من لندن بالإذن لهما
ولمن شاء من المصريين، ومنهم الأربعة المعتقلون في مالطة.
فلما ظفر المصريون بالإذن لوفدهم بالسفر، نظموا مظاهرات أخرى، اشترك
فيها جميع طبقات الأهالي حتى النساء المخدرات، فكن يطفن بسياراتهن
ومركباتهن المزينات بالأعلام والرياحين، ويهتفن مع الهاتفين: لتحيى مصر،
ليحيى الاستقلال التام: ليحيى سعد باشا زغلول، ليحيى أعضاء الوفد المصري إلخ.
وقد حاولت السلطة العسكرية البريطانية منع المظاهرات الأولى والآخرة
فلم تفلح، حتى إنها أطلقت رصاص البنادق والمدافع الرشاشة مرارًا على
المتظاهرين، فلم يثنهم ذلك عن تكرار المظاهرات، بل منهم من قاوموا الجنود،
وقتلوا منهم كثيرين، ولكن من قتلهم الجنود أكثر بالطبع، وقد قدرت السلطة من
قتل في الشوارع بزهاء ألف نسمة منهم الكبير والصغير، وليس غرضنا من هذه
الخلاصة تحرير تاريخ هذه الحوادث، ولا وصفها وصفًا شعريًّا لأجل التأثير،
وإنما غرضنا أن نجعلها مقدمةً لما هو مقصدنا بالذات لما ترتب عليها من التطور
الديني باتفاق المسلمين والقبط، وجعل الجامع الأزهر معهد السياسة الأكبر في
مصر، والتطور الاجتماعي بدخول النساء في المظاهرات السياسية وإلقائهن
الخطب في الشوارع والأسواق، فهذا أهم ما يُعنى به المنار.
_________
(1)
هو جزء شهر نوفمبر سنة 1911 ونشرت ترجمة المقالة في المنار بعنوان (الغارة على العالم الإسلامي) فليراجع المجلد 15 سنة 1330 هـ من المنار.
(2)
هو جزء شهر نوفمبر سنة 1911 ونشرت ترجمة المقالة في المنار بعنوان (الغارة على العالم الإسلامي) فليراجع المجلد 15 سنة 1330 هـ من المنار.
الكاتب: محمد رشيد رضا
دولة الكلام المبطلة الظالمة
إن المعقول المتبادر من حكمة الله في نعمة النطق، ومزية الكلام التي ميز بها
الإنسان وفضله من سائر أنواع جنسه الحيواني، هو أنها التعبير عما في النفس
من العلم؛ ليتعاون الناس بإفضاء كل بما في نفسه إلى غيره على تكميل علومهم،
وتحسين أعمالهم ، ولكن الأشرار منهم كفروا هذه النعمة بما أساءوا من استعمالها في
الكذب والإفك والخلابة، حتى قال بعض الأذكياء: إن حكمة الكلام وفائدته إخفاء
ما في النفس، وصرف الأذهان عن الحقائق.
وقد أجمع الناس على ما هدت إليه الأديان، وقرره الحكماء من مدح الصدق
والصادقين، وذم الكذب والكاذبين، إلا ما قيل في حال التعارض بين مفسدة الكذب في
مسألة معينة، ومفسدة أخرى أكبر منها، كالكذب على صائل ظالم يريد قتل بريء
محترم الدم بما يصرفه عن قتله بإنكار المكان الذي يوجد فيه، أو غير ذلك، والإسلام
يهدي في مثل هذه الحال إلى التفصي من الكذب بالتعريض، ففي حديث عمران بن
حصين في البخاري: (إن في المعاريض مندوحة عن الكذب) ولكن كثيرًا من الناس
ينظمون في سلك هذا الاستثناء ما ليس منه، كالتعارض بين الصدق وما يخشونه من
فوت بعض شهواتهم ومطامعهم غير المشروعة به، فيستبيحون الكذب للتوسل به إلى
تلك الشهوات والمطامع الشخصية أو القومية.
اللصوص وقطاع الطرق والشطار المحتالون، وشهداء الزور،
وأصحاب الدعاوي الباطلة ووكلاؤهم، كل أولئك وأمثالهم يكذبون لأجل
مطامعهم الشخصية، ورجال السياسة من الأمراء والوزراء والسفراء، ومَن
دونهم من الوكلاء السياسيين وكُتابهم وجواسيسهم، كل أولئك يكذبون لأجل
مطامع دولتهم ومنافع أممهم، والفريقان يذمان الكذب مع الذامين، ويمدحان
الصدق مع المادحين، ولا يعترف أحد منهم بأنه يكذب لدفع الضرر عن نفسه أو
قومه، أو لجلب النفع لهم، كما يعترف من كذب تصريحًا أو تعريضًا لدفع
الصائل الظالم عن البريء إلا أن يكون الاعتراف من بعض المشتركين في هذا
الإثم لبعض، أو لمن يعلم حالهم ممن له صلة بهم.
من عجيب أمر الانسان أن الكذب والإفك وقول الزور وطمس معالم الحق
وتشييد صروح الباطل، لم يكن مقصورًا على المتكالبين على الشهوات الدنيوية
والمطامع المالية والسياسة، بل تجاوزهم إلى رجال الأديان ورجال المذاهب من أهل
الدين الواحد، وهم أجدر بالصدق والتزام الحق، ولكنهم جعلوا الدين الذي موضوعه
الهدى وتزكية النفس بالاعتقاد الصحيح والفضائل، وسيلة للمال والجاه، فصاروا
كطلاب المنافع الشخصية بالسرقة والغصب ونحوهما، وطلاب المنافع السياسية
بالبغي والعدوان على الأمم والشعوب. وأعجب أمر هؤلاء وأغربه أن فيهم أناسًا
يتعمدون الكذب على خصومهم، واستباحة أفحش ما حرمه دينهم في سبيل عداوتهم،
لا يبتغون بذلك مالاً ولا جاهًا، بل يقصدون التقرب به إلى إلههم، معتقدين أنه
يرضيه كل ما فيه إيذاء أعدائه، وإن كان من الباطل والشر الذي حرمه على أبنائه
وأحبائه في معاملة بعضهم لبعض، ومن كان يظن في ربه وإلهه حب الباطل والشر
والرضاء بهما، فكيف يطمع منه عدوه بالتزام حق أو عمل خير؟ ! أولئك الذين
يقولون: إن المقاصد والغايات الحسنة، تبيح الوسائل المحرمة والمبادي السيئة، وإن
الباطل قد يوصل إلى الحق، والشر قد يؤدي إلى الخير، أي إنهم يختارون أن يكونوا
مبطلين أشرارًا، مجرمين في الحال؛ ليصيروا أخيارًا في المآل.
إذا كان علماء الأديان وأولياؤها، وشيع المذاهب وأنصارها، يؤلفون
الكتب ويدونون الأسفار في تضليل المجادلات والمشاغبات؛ ليؤيد كل فريق منهم
ما يوصف به وينتمي إليه منها، فهل يكثر على عبيد المال وعشاق العظمة
والجاه ومنهومي اللذات والشهوات، ومفتوني السلطة والسيادة، أن يقلبوا جميع
الحقائق، ويستحلّوا جميع المحارم في سبيل التمتع بتلك اللذات، والعلو في تلك
الدرجات، والإشراف على الأمم والشعوب بالأمر والنهي، وغير ذلك من التصرف
والتشريع الذي هو شأن الرب عز وجل؟
إن دولة الكلام المؤيدة بجحافل الكذب والزور والبهتان والإفك، والافتراء
والإخلاق والاختراق والخلابة والتمويه والتلبيس والتدليس تترقى بترقي الحضارة،
وتتدلى بتدليها، وتتسع باتساع دائرة العلوم والمعارف، وتضيق بضيقها، فهي
مساوقة لدولة الأحكام مؤيدة لها.
الكذب شر الرذائل على الإطلاق، فهو مفسد الأديان والتواريخ، ومزيل الثقة
بين الأفراد والجماعات، ومولد الفتن والحروب بين الأمم، وقلما تستغني رذيلة من
الرذائل، أو فتنة من الفتن عن شد أزرها بالكذب، أو أحد جنوده وحملة بنوده،
وما ألجأ الناس إلى الكذب على شدة قبحه، وفحش ضرره، والإجماع على ذمه إلا
عدم التناصف بينهم، وترك تحكيم العدل فيما تتعارض فيه منافعهم، وتتنازع
منازعهم، والأصل في ذلك أن الضعيف هو الذي يكذب على القوي الذي لا ينصفه
أو لا يواتيه، والقوة والضعف أنواع شتى، فكم من قوي في شيء، ضعيف في
غيره، فإذا رأيت السيد يكذب على عبده، والمخدوم على خادمه، والأمير على
السوقة، فلا تظن أن هذا جاء على خلاف الأصل، فإن في هؤلاء السادة
المخدومين والأفراد الحاكمين ضعفًا في الأخلاق، وقبائح الأعمال، فيتحرون
كتمانها عن خدمهم وأتباعهم، فلا يجدون وسيلةً لذلك إلا الكذب أو التلبيس والتمويه،
فيلجأون إليه صاغرين.
الحكومة المستبدة تعلم الشعب الضعيف الخاضع، الكذب والرياء حتى
يصير ملكةً له يفسد عليه أمور دينه ودنياه، وقلما يحتاج رجال هذه الحكومة إلى
الكذب على شعبهم المسكين؛ لأنه خاضع لكل ظلم، قابل لكل ضيم، وإنما يكذب
الضعيف على القوي الجائر الذي لا يرضى بالحق، ورُب قوي في شيء، ضعيف
في غيره، فيكذب فيما هو ضعيف فيه، ومن هذا النوع حكومات الأمم القوية بالعلم
والنظام والأحزاب السياسية، فكل حكومة من هذه الحكومات تكذب على نواب أمتها
ورؤساء أحزابها في كل ما تعلم أنه لا يرضيهم من أعمالها الاستعمارية
وسياستها الخارجية وغير ذلك، ويستتبع ذلك الكذب على أهل المستعمرات،
وإلباس كثير من الأعمال ثوب زور والكذب على أهل العلم والرأي لا يرجى أن
يروج له إلا بلبس الحق الذي نخشى مغبة ظهوره، وكذلك كذب الحكومات القوية
بالعلم والاستعداد الحربي بعضهم على بعض؛ فلذلك صار الكذب فنًّا من أدق الفنون
وركنًا من أركان السياسة.
وليعتبر القارئ في ذلك بما نشرناه من قبل من أقوال أقطاب ساسة الحلفاء،
وكبار وزرائهم في الأسباب الحاملة لدولهم على الحرب، وأساسها حرية الشعوب
واستقلالها، ومن خطب الرئيس ولسن في ذلك، ووجوب تعميمه في جميع الأمم
والشعوب في الشرق كالغرب، ومن قواعدها الأربع عشرة التي وضعها لبناء
صرح الصلح العادل عليها، فقبلها المتحاربون. ثم (ليعتبر) بمعاهدة الصلح
الكبرى التي ننشر خلاصتها في المنار، وبما تنقله البرقيات والجرائد الأوربية
من التنازع والمساومة بين الحلفاء على اقتسام البلاد التي نص في معاهدة الصلح
على الاعتراف لها بالاستقلال المطلق مع اشتراط قبول المساعدة التي ترضاها
بنفسها من الدولة التي تختارها لمساعدتها، وما ذكر لفظ المساعدة إلا لجعله محللاً
لامتلاك البلاد واستعباد أهلها باسم جديد يزعمون أن معناه لا ينافي الاستقلال
المقرر والقواعد التي بني عليها، وإذا شئت تفصيل هذا الإجمال، فانظر ذلك
المقال الذي كتبناه منذ بضعة أشهر في (الاستقلال) وتعذر نشره وقتئذ في كل من
مصر والشام.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
ذات بين الحجاز ونجد
عود على بدء
(2)
كتبنا ما رآه القراء من الفصول تحت هذا العنوان، ونحن في أشد الحزن
والامتعاض مما كان قد بلغنا من أنباء هذه الفتنة، وهو أن الحرب ستستأنف بين
الحجازيين والنجديين باسم الدين، وأن الجنود الهندية الإنكليزية ستمد الأولين ، فقد
ذهب فريق منها لأداء فريضة الحج، وروي أنها ستذهب بعد الحج إلى الطائف بحجة
زيارة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فخشينا أن يكون المراد من الطائف ما
وراءه، وهو نجد ، ونحن من أدرى العرب والمسلمين بسوء عاقبة مثل هذا القتال في
هذه الأيام، فكان قصدنا مما كتبناه أن ندرأ هذه الفتنة من أقرب الطرق وأرجاها،
وهو الإقناع العلمي أو القوة العملية.
أما الإقناع، فمن ثلاثة أوجه ، (أحدها) : ما بيناه من أن ما جُعل سببًا للقتال
لا يصح، وذلك أن ما يُتهم به كل فِرق من مخالفة بعض أصول الدين من العقائد،
والأعمال التي يعدها كفرًا إذا صح بعضه أو كله، فإنما يكون من بعض الأفراد
لا من الجميع، وهو في نظر المنطقي والأصولي مشترك الإلزام، فالحَكَم
المنصف يقول لكل واحد من الخصمين: إنك تتهم خصمك بمثل ما يتهمك به،
فأنت تجزم بكفر الكثيرين في بلاده بأدلة تقيمها من الشريعة على أن كذا وكذا من
الأقوال والأفعال كفر، وهو يجزم بكفر الكثيرين في بلادك بأقوال وأفعال أخرى،
يقيم الأدلة الشرعية على كونها كفرًا، وكل منكما من أهل القبلة الذين يؤمنون بأن
جميع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من أمر الدين حق، إلا أنكم اختلفتم
في الفهم، فتكفير كل منكما للآخر متأول فيه، لا طاعن في الإسلام نفسه، ولا
سبيل إلى ظهور حجة أحد منكما على الآخر إلا بالعلم وحرية البيان والنشر مع
الأدب في القول اهتداءً بقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ
الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) الآية، وأسوة برسول الله
صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية فقد تساهل مع المشركين؛ لأجل حرية
الدعوة، وليس لأحد أن يدعي أن من كفر بسوء فهم وقلة علم وفساد تأويل،
وهو يؤمن إجمالاً بأن جميع ما جاء به الرسول حق - أسوأ حالاً وأجدر بسوء
المعاملة من المشرك المجاهر الذي كذب الرسول وقاتله، فليؤمِّن كل منكما الآخر
في بلاده، ويجتهد ما استطاع في تعليمه وإقناعه، والحق يعلو ولا يعلى.
(الوجه الثاني) أن المجادلة بالتي هي أسوأ، وهي الوقيعة والتقريع،
والسب والتكفير، لا تأتي إلا بالنتيجة التي هي أسوأ، وهي العداوة والبغضاء التي
يخفى معها الحق إن فرضنا أنها - أي: المجادلة - اشتملت عليه، ذلك بأن
المخاطب بها يشغله التألم بتحقيره عن التأمل في غيره من معاني الكلام الذي يعتقد
أنه صادر عن سوء نية، فلا يقصد به إظهار حقيقة، وما تعصب أكثر الناس
لآرائهم الشخصية أو المذهبية إلا بسبب المراء وسوء أسلوب الجدال من
المخالفين لهم. بل الأمر أعظم من ذلك: نبغ في علماء المسلمين إمام مجتهد،
واسع العلم، قوي الحجة، شديد العارضة إلا أنه كان حديد المزاج، وقد ألف كتابًا
في الفقه، قرن فيه كل مسألة بالحجة عليها، والرد على المخالف فيها بعبارة
فصيحة وأسلوب جلي، كان مظهرًا لما وصفناه به آنفًا من الصفات التي منها حدة
المزاج، فكان في عبارته من الحمز في اللمز، واللذع في الصدع، ما كان سببًا
لإعراض جماهير الأمة عن الاستفادة منه والأخذ عنه، ولولا ذلك لكان أتباعه
أكثر من أتباع غيره من أئمة الفقه المشهورين، أو مساوين لأكثرهم تابعًا، ذلك
الإمام أبو محمد ابن حزم صاحب كتاب (المحلى) الذي شهد سلطان العلماء العز
ابن عبد السلام الشافعي الأصل الذي شهد له العلماء بالاجتهاد المطلق، بأنه أحسن
ما كتب المسلمون في الفقه، ولم يقرن به إلا كتاب (المغني) للشيخ الموفق
الحنبلي.
(الوجه الثالث) : إذا كان المراء والمجادلة بالتي هي أسوأ تثمر العداوة
والبغضاء وشدة استمرار الخلاف، فكيف تكون ثمرة القتال بين فريقين يقتتلان
بسبب الاختلاف في فهم الدين؟ وهل كان قتال محمد علي باشا للوهابية، الذي
يريد التأسي به ملك الحجاز سببًا لرجوعهم عما كانوا عليه في ذلك الوقت، وعادوا
إليه الآن حتى نعود إلى قتالهم؟ كلا.
وأما ما أشار إليه الملك في بعض منشوراته من وجوب ذلك على السلطان،
فهو لا يظهر في الواقعة الحاضرة، لا من حيث موضوع التهمة التي تقدم القول
فيها، ولا من حيث السلطان الذي يجب عليه ذلك، وهو الإمام الحق المجتهد في
أصول الدين وفروعه، المقيم لأحكامه وحدوده بسلطته التي يخضع لها سواد
المسلمين مع الاعتصام باستشارة أهل الحل والعقد، وملك الحجاز - سدده الله
ووفقه - لم يدَّع هذا المقام لنفسه، بل ترك أمر الخلافة إلى الرأي الإسلامي
العام، فأنصف بذلك إنصافًا حمده الخاص والعام في جميع أقطار الإسلام، وهو يعلم
أيضًا أن مملكته الحجازية لا تصلح الآن لإقامة خلافة فيها، لا خلافة حقيقية
مستوفاة الشروط، ولا خلافة تَغَلُّب، أما الأول فظاهر من جميع وجوهه، وأما
الثاني فلأنها أضعف من جميع البلاد المستقلة التي حولها، فهي لا تقدر أن تحفظ
نفسها بنفسها، وليست مقرًّا لجماعة أهل الحل والعقد من علماء المسلمين
وزعمائهم وقوادهم الذين تثق الأمة بهم إذا بايعوا حاكمها باختيارهم، ولا حاجة إلى
بسط هذه المسألة في هذه العجالة التي نقصد بها درء الفتنة، فإذا اقتضت الحال
بسطها بسطناها في مقال طويل لا يدع مجالاً لشبهة مشتبه، وما قيل في الحجاز
يقال في نجد على ما لا يجعل التفاوت بينهما.
وإذا كان الأمر كما ذكرنا، فالمرجو من حاكمي البلادين أن يتفقا على إقفال
باب الفتنة الذي فتحه الشيطان بينهما، ولا يدعا للأجنبي وسيلةً لتقوية نفوذه في
البلاد المقدسة وحرمها، فإن شجر بينهما خلاف، فليحكما فيه من يرضياه من
أهلهما وجيرانهما.
وأما القوة الفعلية التي رأيناها أهلاً لإصلاح ذات بينهما، إذا هما لم ينصفا
من أنفسهما، فهي قوة جيرانهما أهل اليمن وعسير، فالواجب عليهما أن يتصديا
لهذا الأمر، وأن يطلب الفريقان حكمهما فيه عملاً بآيتي سورة الحجرات اللتين
ذكَّرناهما بهما في الفصول السابقة {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا} (الحجرات: 9) إلخ، بل يجب على أئمة هذه الجزيرة الإسلامية
الشريفة وأمرائها أن يعقدوا بينهم المحالفة التي اقترحها عليهم بعض أهل البصيرة
من المسلمين على قاعدة اعتراف كل منهم للآخر باستقلاله في بلاده، وعدم اعتداء
أحد منهم على حدود الآخر، واتفاق الجميع على كبح جماح المعتدي وعقابه،
وتعاونهم بالأولى على مقاومة كل أجنبي يعتدي على أي بلد من بلادهم، ألا
وليتذكروا ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته، ويتداركوا ما
قصر فيه مَن قبلهم، وإلا فقد قرب عهد زوال سلطتهم، وتغلغل النفوذ الأجنبي في
جزيرتهم، ولا يكونوا كحكومة مراكش الجاهلة الغبية التي أنذرناها في السنة
الأولى للمنار مثل ما ننذرهم اليوم، فتمارت بالنذر، حتى ضاع استقلالها، ألا
وليعلموا أن جزيرتهم هذه معقل الإسلام ومأزره، فإذا مكنوا الأجنبي منها بتخاذلهم
كانوا لعنةً على لسان كل مسلم في مشارق الأرض ومغاربها إلى يوم القيامة.
***
كتاب كشف الشبهات [*]
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعين
اعلم رحمك الله أن التوحيد هو إفراد الله بالعبادة وهو دين الرسل الذي
أرسلهم الله به إلى عباده، فأولهم نوح عليه السلام، أرسله الله إلى قومه لما
غلوا في الصالحين ودًّا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا، وآخر الرسل محمد صلى
الله عليه وسلم وهو الذي كسَّر صور هؤلاء الصالحين: أرسله إلى قوم يتعبدون
ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله، ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم
وبين الله، يقولون: نريد منهم التقرب إلى الله، ونريد شفاعتهم عنده مثل الملائكة
وعيسى ومريم وأناس غيرهم من الصالحين، فبعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم
يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم، ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله لا
يصلح منه شيء لا لملَك مقرب ولا لنبي مرسل فضلاً عن غيرهما، وإلا فهؤلاء
المشركون يشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له وأنه لا يرزق إلا هو، ولا
يُحيي إلا هو ولا يميت إلا هو، ولا يدبِّر الأمر إلا هو، وأن جميع السموات ومن
فيهن والأرض ومن فيها كلهم عبيد، وتحت تصرفه وقهره.
فإذا أردت الدليل على أن هؤلاء الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
يشهدون لها فاقرأ قوله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ
السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ
الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (يونس: 31) وقوله: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ
وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ
السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ
شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى
تُسْحَرُون} (المؤمنون: 84-89) وغير ذلك من الآيات.
إذا تحققت أنهم مقرون بهذا ولم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة الذي
يسميه المشركون في زماننا (الاعتقاد) كما كانوا يدعون الله سبحانه ليلاً ونهارًا،
ثم منهم من يدعو الملائكة؛ لأجل صلاحهم وقربهم إلى الله ليشفعوا له، أو يدعو
رجلاً صالحًا مثل اللات، أو نبيًا مثل عيسى. وعرفت أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قاتلهم على هذا الشرك ودعاهم إلى إخلاص العبادة كما قال تعالى:
{وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: 18) وقال: {لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ} (الرعد: 14) - وتحققت
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم ليكون الدعاء كله لله والنذر كله لله
والذبح كله لله والاستغاثة كلها بالله وجميع العبادات كلها لله: وعرفت أن
إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة والأنبياء
والأولياء يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم.
وعرفت حينئذ التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى عن الإقرار به المشركون وهذا
التوحيد هو معنى قولك: لا إله إلا الله فإن الإله عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور سواء كان ملكًا أو نبيًا أو وليًا أو شجرة أو قبرًا أو جنيًا، لم يريدوا أن الإله
هو الخالق الرازق المدبر فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده كما قدمت لك، وإنما يعنون
بالإله ما يعني: المشركون في زماننا بلفظ السيد فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم
يدعوهم إلى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد
لفظها، والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو
إفراد الله تعالى بالنطق بالكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه فإنه لما قال لهم: قولوا لا إله إلا الله قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص: 5) .
فإذا عرفت ما ذكرت لك معرفة قلب، وعرفت الشرك بالله الذي قال الله فيه
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48)
وعرفت دين الله الذي أرسل به الرسل من أولهم إلى آخرهم الذي لا يقبل الله من
أحد سواه، وعرفت ما أصبح غالب الناس فيه من الجهل بهذا أفادك فائدتين:
الأولى: الفرح بفضل الله ورحمته كما قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ
فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (يونس: 58) وأفادك أيضًا الخوف العظيم،
فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه، وقد يقولها وهو جاهل
فلا يُعذر بالجهل، وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه إلى الله كما [كان يفعل][1] الكفار
خصوصًا إنْ ألهمك الله ما قص عن قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم أنهم أتوه،
قائلين: {اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} (الأعراف: 138) فحينئذ يعظم حرصك
وخوفك على ما يخلصك من هذا وأمثاله.
واعلم أنه سبحانه من حكمته لم يبعث نبيًا بهذا التوحيد إلا جعل له أعداءً كما
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواًّ شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى
بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً} (الأنعام: 112) وقد يكون لأعداء التوحيد علوم
كثيرة وكتب وحُجج كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُم
مِّنَ العِلْمِ} (غافر: 83)
إذا عرفت ذلك وعرفت أن الطريق إلى الله لا بد له من أعداء قاعدين عليه
أهل الفصاحة وعلم وحجج، فالواجب عليك أن تعلم من دين الله ما يصير لك
سلاحًا تقاتل هؤلاء الشياطين الذين قال إمامهم ومقدمهم لربك عز وجل: {قَالَ فَبِمَا
أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ
أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ} (الأعراف: 16-17) ولكن إذا أقبلت على الله وأصغيت
إلى حججه وبيناته فلا تخف {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} (النساء: 76)
والعامي من الموحدين يغلب ألفًا من علماء هؤلاء المشركين، كما قال تعالى:
{وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ} (الصافات: 173) فجند الله هم الغالبون بالحجة
واللسان، كما هم الغالبون بالسيف والسِّنان، وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك
الطريق وليس معه سلاح، وقد منّ الله تعالى علينا بكتابه الذي جعله تبيانًا لكل شيء
وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين. فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما
ينقضها ويبين بُطلانها كما قال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَاّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ
تَفْسِيراً} (الفرقان: 33) قال بعض المفسرين: هذه الآية عامة في كل حُجة يأتي
بها أهل الباطل إلى يوم القيامة.
وأنا أذكر لك أشياء مما ذكر الله في كتابه جوابًا لكلام احتج به المشركون في
زماننا علينا فنقول: جواب أهل الباطل من طريقين مجمل ومفصل. أما المجمل
فهو الأمر العظيم والفائدة الكبيرة لمن عقلها وذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ
عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ} (آل عمران: 7) وقد صح عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك
الذين سماهم الله فاحذروهم) . مثال ذلك إذا قال لك بعض المشركين: {أَلَا إِنَّ
أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (يونس: 62) وأن الشفاعة حق وأن
الأنبياء لهم جاه عند الله، أو ذكر كلامًا للنبي صلى الله عليه وسلم يستدل به على
شيء من باطلها، وأنت لا تفهم معنى الكلام الذي ذكره فجاوبه بقولك: إن الله ذكر
أن الذين في قلوبهم زيع يتركون لمحكم، ويتبعون المتشابه وما ذكرته لك من أن
الله ذكر أن المشركين يقرون بالربوبية وأن كفرهم بتعلقهم على الملائكة والأنبياء
والأولياء مع قولهم: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} (يونس: 18) هذا أمر محكم
بيِّن لا يقدر أحد أن يغير معناه وما ذكرت لي أيها المُشرك من القرآن أو كلام النبي
صلى الله عليه وسلم لا أعرف معناه ولكن أقطع أن الله لا ينتاقض وأن كلام النبي
صلى الله عليه وسلم لا يخالف كلام الله. وهذا جواب سديد ولكن لا يفهمه إلا من
وفقه الله فلا تستهونه فإنه كما قال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا
إِلَاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (فصلت: 35) .
وأما الجواب المفصل فإن أعداء الله لهم اعتراضات كثيرة يصدون بها الناس
منها قولهم: نحن لا نشرك بالله، بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا
يضرّ إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه
نفعًا ولا ضرًّا فضلاً عن عبد القادر أو غيره، ولكن أنا مذنب والصالحون لهم جاه
عند الله وأطلب من الله بهم. فجاوبه بما تقدم وهو أن الذين قاتلهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم مقرون بما ذكرت ومقرُّون أن أوثانهم لا تدبِّر شيئًا، وإنما أرادوا
الجاه والشفاعة، واقرأ عليه ما ذكر الله في كتابه ووضحه، فإن قال: هؤلاء
الآيات نزلت فيمن يعبد الأصنام، كيف تجعلون الصالحين أصنامًا، فجاوبه بما تقدم
فإنه إذا أقر أن الكفار يشهدون بالربوبية كلها لله وأنهم ما أرادوا ممن قصدوا إلا
الشفاعة ولكن أراد أن يفرق بين فعلهم وفعله بما ذكر، فاذكر له أن الكفار منهم من
يدعو الصالحين والأصنام، ومنهم من يدعو الأولياء الذين قال الله فيهم: {أُوْلَئِكَ
الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} (الإسراء: 57) ويدعون
عيسى ابن مريم وأمه، وقد قال الله تعالى: {مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَاّ رَسُولٌ قَدْ
خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ
انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (المائدة: 75) واذكر قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ
يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ
كَانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} (سبأ: 40-41) فقل له: أعرفت أن
الله كفَّر من قصد الأصنام وكفر أيضا من قصد الصالحين وقاتلهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم؟ فإن قال: الكفار يريدون منهم، وأنا أشهد أن الله هو النافع الضار
المدبر لا أريد إلا منه. والصالحون ليس لهم من الأمر شيء ولكن أقصدهم أرجو
من الله شفاعتهم، فالجواب أن هذا قول الكفار سواء بسواء فاقرأ عليه قوله تعالى:
{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3){هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} (يونس: 18) واعلم أن الشبه الثلاث هي أكبر ما عندهم، فإذا عرفت أن الله
وضحها في كتابه وفهمتها فهما جيدًا فما بعدها أيسر منها. فإن قال لك: أنا لا أعبد إلا
الله وهذا الالتجاء إلى الصالحين ودعاؤهم ليس بعبادة. فقل له: أنت تقر أن الله
فرض عليك إخلاص العبادة وهو حقه عليك، فإنه لا يعرف العبادة ولا أنواعها فبينها
له بقولك: قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} (الأعراف: 55) إذا
علمت بهذا، هل هو عبادة؟ فلا بد أن يقول: نعم والدعاء مخ العبادة. فقل له: إذا
أقررت أنها عبادة ودعوت الله ليلاً ونهارًا خوفًا وطمعًا ثم دعوت في تلك
الحاجة نبيًا أو غيره، هل أشركت في عبادة الله غيره إذ قال الله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ
وَانْحَرْ} (الكوثر: 2) وأطعت الله ونحرت له فلا بد أن يقول نعم: فقل له: إذا
نحرت لمخلوق نبي أو جني أو غيرهما هل أشركت في هذه العبادة غير الله؟ فلا بد
أن يقر ويقول: نعم، وقل له أيضا: المشركون الذين نزل فيهم القرآن هل كانوا
يعبدون الملائكة والصالحين واللات وغير ذلك؟ فلا بد أن يقول: نعم. فقل له:
وهل كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح والالتجاء ونحو ذلك؟ وإلا
فهم مقرون أنهم عبيد الله تحت قهره، وأن الله هو الذي يدبر الأمر ولكن
دعوهم والتجؤوا إليهم للجاه والشفاعة وهذا ظاهر جدًّا.
فإن قال: أتنكر شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ منها؟ فقل: لا
أنكرها ولا أتبرأ منه، بل هو صلى الله عليه وسلم الشافع والمشفع، وأرجو
شفاعته لكن الشفاعة كلها لله كما قال تعالى: {قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} (الزمر:
44) ولا تكون إلا من بعد إذن الله كما قال عز وجل: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَاّ
بِإِذْنِهِ} (البقرة: 255) ولا يشفع في أحد إلا من بعد أن يأذن الله فيه، كما قال
عز وجل: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى} (الأنبياء: 28) وهو لا يرضى إلا
التوحيد كما قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} (آل عمران:
85) فإذا كانت الشفاعة كلها لله ولا تكون إلا بعد إذنه ولا يشفع النبي صلى الله
عليه وسلم ولا غيره في أحد حتى يأذن الله فيه ولا يأذن إلا لأهل التوحيد تبين أن
الشفاعة كلها لله أطلبها منه، وأقول: اللهم لا تحرمني شفاعته اللهم شفعه في.
وأمثال هذا.
فإن قال: النبي صلى الله عليه وسلم أُعطي الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه
الله. فالجواب أن الله أعطاه الشفاعة ونهاك عن هذا، وقال: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ
أَحَداً} (الجن: 18) وأيضا فإن الشفاعة أعطيها غير النبي صلى الله عليه
وسلم، فصح أن الملائكة يشفعون والأولياء يشفعون، أتقول: إن الله أعطاهم
الشفاعة وأطلبها منهم، فإن قلت هذا رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكر الله في
كتابه وإن قلت: لا. بطل قولك: (أعطاه الله الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه
الله) .
فإن قال: أنا لا أشرك بالله شيئًا حاش وكلا، ولكن الالتجاء إلى الصالحين
ليس بشرك فقل له: إذا كنت تقر أن الله حرم الشرك أعظم من تحريم الزنا وتقر
أن الله لا يغفره فما هذا الأمر الذي عظمه الله وذكر أنه لا يغفره؟ فإنه لا يدري،
فقل له كيف تبرئ نفسك من الشرك وأنت لا تعرفه؟ أم كيف يحرم الله عليك هذا
ويذكر أنه لا يغفره ولا تسأل عنه ولا تعرفه؟ أتظن أن الله يحرمه ولا يبينه لنا؟
فإن قال: الشرك عبادة الأصنام ونحن لا نعبد الأصنام. فقل: وما معنى
عبادة الأصنام؟ أتظن أنهم يعتقدون أن تلك الأخشاب والأحجار تخلق وترزق وتدبر
أمر من دعاها؟ فهذا يكذبه القرآن ، أو هو قصد خشبة أو حجر أو بنية أو غيره
يدعون ذلك ويذبحون له يقولون: إنه يقربنا إلى الله زلفى، ويدفع عنا ببركته؟ فقد
صدقت هذا هو فعلكم عند الأحجار والبنايا التي على القبور وغيرها. فهذا أقر أن
فعلهم هذا هو عبادة الأصنام، ويقال أيضا قولك:(الشرك عبادة الأصنام) هل
مرادك أن الشرك مخصوص بهذا؟ وأن الاعتماد على الصالحين ودعاءهم لا يدخل
في هذا؟ فهذا يرده ما ذكر الله في كتابه من كفر من تعلق على الملائكة وعيسى
والصالحين، فلا بد أن يقر لك من أن من أشرك في عبادة الله أحدًا من الصالحين
فهو الشرك المذكور في القرآن، وهذا هو المطلوب.
وسر المسألة أنه إذا قال: أنا لا أشرك بالله فقل وما الشرك بالله؟ فسره لي،
فإن قال: هو عبادة الأصنام فقل وما معنى عبادة الأصنام؟ فسرها لي فإن قال: أنا
لا أعبد إلا الله [وحده] فقل ما معنى عبادة الله وحده؟ فسرها لي، فإن فسرها بما
بينه القرآن فهو المطلوب، وإن لم يعرفه، فكيف يدَّعي شيئًا وهو لا يعرفه، وإن
فسر ذلك بغير معناه بينت له الآيات الواضحات في معنى الشرك بالله وعبادة
الأوثان الذي يفعلون في هذا الزمان بعينه، وأن عبادة الله وحده لا شريك له هي
التي ينكرون علينا ويصيحون كما صاح إخوانهم حيث قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً
وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص: 5) .
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
يتلى
_________
(*) هذا الكتاب تأليف الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهو إحدى الرسائل التي وعدنا بنشر بعضها
(راجع الجزء (الخامس) ص 229) .
(1)
كل عبارة بين هاتين الدعامتين [] من وضع صالح مخلص رضا.
الكاتب: محمد رشيد رضا
خلاصة معاهدة الصلح [1]
(4)
الفصل العاشر
في المواد الاقتصادية
الجمارك: تتضمن المعاهدة مواد تفصيليةً لمنع ألمانية من التمييز، مباشرةً
أو غير مباشرة بين متاجر الحلفاء والبلدان المشتركة معهم، وتظل هذه النصوص
نافذة المفعول خمس سنوات إلا إذا مدها مجلس جمعية الأمم، وهنالك نص وقتي
يقضي بأن يدخل المالية بلا رسوم ما، مقادير معينة من محاصيل ومصنوعات
الإلزاس واللورين ولكسمبرج ، والأملاك التي تنازلت ألمانية عنها لبولندا ، أما
الرسوم الجمركية التي تفرضها ألمانية على الواردات من بلاد الحلفاء في الحال فلا
يجوز أن تتجاوز أدنى الرسوم التي كانت مفروضةً سنة 1914، وبعد ستة أشهر
يجوز لألمانية أن ترفع رسومها الجمركية، بشرط أن تتقاضاها على السواء، على
واردات الحلفاء إلا فيما يختص بأشياء قليلة معينة، معظمها حاصلات زراعية، فهذه
تظل القيود الموضوعة لها نافذةً لمدة 2.5 سنة أخرى، ويحق للحلفاء أن ينفذوا نظامًا
جمركيًّا خاصًّا في الولايات التي يحتلونها.
البواخر: تتمتع بواخر الحلفاء بما تتمتع به بواخر ألمانية أَولى الدول
بالمراعاة في ألمانية لمدة لا تقل عن خمس سنوات، ويستمر هذا النص نافذًا بعد
ذلك، بشرط أن يعامل الحلفاء ألمانية به إلا إذا عدله مجلس جمعية الأمم، أما فيما
يختص بصيد السمك والاتجار ببواخر السواحل وقطر السفن، فألمانية تعامل الحلفاء
معاملة أولى الدول بالمراعاة للمدة المنصوص عليها فيما يختص بالرسوم الجمركية،
وهنالك نص يقضي على ألمانية بالاعتراف بشهادات البواخر، والمواضع التي
تسجل فيها بواخر الدول التي ليس لها سواحل بحرية.
المناظرة المجحفة: تتعهد ألمانية بأن تحمي متاجر الحلفاء من المناظرة
المجحفة، وأن تلغي خصوصًا استعمال المركات المقلدة، والإشارات الدالة على
أصل المصنوع (كذا) وتحترم - على شرط التبادل في المعاملة - القوانين
والقرارات القضائية الصادرة من بلاد الحلفاء والحكومات المشتركة معهم فيما
يختص بأسماء الخمور والمشروبات الروحية، وهي الأسماء المستعملة حيث تعصر
هذه الخمور وتستقطر هذه المشروبات.
معاملة الرعايا: لا يجوز لألمانية أن تقيد رعايا الحلفاء وأملاكهم وأموالهم
(في بلادها) بقيود لم تكن موجودةً عندها قبل الحرب، ولا ضرائب كذلك إلا إذا
فرضت مثل هذه القيود والضرائب على رعاياها، ويحظر عليها أيضًا أن تضع
قيودًا تقيد بها الأعمال، إذا لم تكن هذه القيود عامةً لجميع الجانب في بلادها،
ويعمل بهذه النصوص خمس سنوات، وتتجدد لمدة لا تتجاوز خمس سنوات أخرى
إذا قررت ذلك أكثرية مجلس جمعية الأمم، وتزول الرعوية الألمانية عن كل شخص
صار من رعايا إحدى دول الحلفاء، أو إحدى دول الحكومات المشتركة معهم.
الاتفاقات بين ألمانية ودول الحلفاء: جدد نحو أربعين اتفاقًا كانت مبرمةً من
قبل بين ألمانية وبعض دول الحلفاء، ولكن اشترطت شروط خصوصية على
إعادة قبول ألمانية في بعضها، ومن ذلك: الاتفاقات الخاصة بالبريد والتلغراف، ولا
يجوز لألمانية أن تمسك عن الموافقة على الاتفاقات الخصوصية التي تبرمها الدول
الجديدة، وعليها أيضًا في مسألة اتفاق التلغراف اللاسلكي أن تقبل بالقوانين الوقتية
التي ستبلغ لها، والموافقة على الاتفاق الجديد متى صيغت مواده، وفي الاتفاقات
الخاصة بمصايد السمك في البحر الشمالي وبيع المسكرات فيه تكون المراقبة على
سفن الصيد التي لشعوب الحلفاء، وإقامة النظام بينها من حقوق سفن دول الحلفاء
دون سواها لمدة لا تقل عن خمس سنوات، وتفقد ألمانية الحق الذي مُنحته بالمادة
الثالثة من معاهدة سامواي المبرمة سنة 1899 وغيرها من المعاهدات، وتتنازل
خصوصًا عن حقها في تعويضات البوكسر بعد تاريخ دخول الصين في الحرب.
المعاهدات بين ألمانية ودولة من دول الحلفاء: يجوز لكل دولة من دول
الحلفاء إذا شاءت أن تجدد إحدى معاهداتها مع ألمانية إذا كان تجديدها لا يناقض
معاهدة الصلح، وذلك بأن تعلن عن عزمها على ذلك قبل وقوعه بستة أشهر،
وتنقض المعاهدات التي أبرمتها ألمانية منذ أول أغسطس 1914 مع سائر دول
الأعداء، أو قبل ذلك أو بعده، مع رومانية وروسية ، أو الحكومات الواقعة في
بلاد روسية، كما كانت، وتلغى الامتيازات التي منحت للرعايا الألمان بالضغط
والتشديد، ويتمتع الحلفاء بالامتيازات الممنوحة بالمعاهدات التي أبرمتها ألمانية مع
دول الأعداء الأخرى قبل 1 أغسطس 1914، وبالمعاهدات التي أبرمتها ألمانية مع
دول المحايدين في أثناء الحرب.
الديون السابقة للحرب: تنشأ مكاتب تصفية في خلال ثلاثة أشهر في ألمانية
وفي بلاد كل دولة من دول الحلفاء، والحكومات المشتركة معها تتولى وضع
الخطط لتسوية الديون السابقة للحرب (المعرب: سقط في الأصل هنا عبارة أو
بضع كلمات) وكل تسوية من هذا القبيل تتم بواسطة هذه المكاتب، وتحظر
تسوية هذه الديون مباشرة، ثم إن توزيع الأموال الناتجة من بيع أموال العدو
وأملاكه يتم بواسطة هذه المكاتب، وعلى كل دولة أن تحمل تبعة العهود المالية التي
على رعاياها نحو رعايا دول الخصم إلا إذا كان المدين في حكم المفلس عند وقوع
الحرب.
ويدور البحث في المطلوبات بين مكتبي التصفية التابعين للبلدين صاحبي
الحق، فإذا لم يتم الاتفاق بينهما تحال القضية إلى التحكيم، أو إلى محكمة التحكيم
المختلطة التي نص على تأليفها فيما يلي ، والمبالغ المطلوبة لرعايا كل بلد تدفع
من مكتب التصفية في البلاد المذكورة وهو يقيد على البلاد نفسها الديون المطلوبة
من رعاياها، وتدفع الديون بنقود البلاد لمخالفة صاحبة الشأن، وأما سعر الكمبيوتر
الذي يجري عليه فالسعر الذي كان دارجًا في البلاد نفسها قبل وقوع الحرب بين تلك
البلاد وألمانية بشهر، هذا إذا لم يكن في العقد التجاري بين العاملين نص خاص
على كيفية الدفع، ولكل دولة من دول الحلفاء الخيار في الاشتراك في هذا النظام.
أملاك الأعداء وأموالهم: كل ما عمل من التصفية والمراقبة ونحوهما في
بلدان الحلفاء وألمانية بشأن أملاك الأعداء وأموالهم ومتاجرهم بحكم تدابير
الحرب الاستثنائية يثبت في هذه المعاهدة بشرط تعويض ما فقد من أملاك وأمول
رعايا الحلفاء التعويض الذي تقرره محكمة التحكيم المختلطة، والذي يؤخذ من
أموال الرعايا الألمان التي تكون في حيازة حكومة الطالب، أما التعويضات
المطلوبة للرعايا الألمان فهذه تدفعها ألمانية.
كل قضية للتصفية والمراقبة ونحوها في ألمانية توقف، وإذا كانت أملاك
وأموال رعايا الحلفاء لم تصفّ تمامًا فإنها ترد إلى رعايا البلدان التي لم تصفَّ
الأموال الألمانية فيها، والتي يمكن أن تطلب رد أموالها وأملاكها بواسطة
الحكومة الألمانية من الأشخاص الذين صارت تلك الأموال والأملاك في حيازتهم،
وهنالك نصوص على حماية ما رُد من الأملاك والأموال والمتاجر في ألمانية
ووقايته في المستقبل، ويحفظ الحلفاء لأنفسهم حق الاحتفاظ بجميع الأملاك
والأموال الألمانية في بلدانهم وتصفيتها، والصافي من بيعها في أثناء الحرب
وبعدها يعتبر لحساب ألمانية، وتسدد به كل دولة مطلوب رعاياها عن أموال
وأملاك لهم في ألمانية، أو في ديون لهم قبل الألمان.
العقود: إن العقود (الكونتراتات) المبرمة بين رعايا الحلفاء والرعايا
الألمان قبل الحرب تعد بالإجمال ملغاةً من تاريخ وقوع الحرب بين الفريقين،
ويستثنى من هذا الحكم العقود الخاصة بنقل أموال منقولة أو غير منقولة إذا كانت
هذه الأموال سلمت فعلاً، وإيجارات الأراضي والبيوت، وعقود الرهن والكفالة،
وامتيازات المناجم، والعقود المبرمة مع الحكومات والمجالس العمومية، وعقود
التأمين ، وقد نص على عقود التأمين نصًّا مفصلاً فيما يلي:
ويحفظ الحق في تنفيذ العقود التي ترى الدولة المحالفة أن تنفيذها في
المصلحة العامة بشرط دفع تعويض عادل إذا اقتضت الحال، تعينه محكمة التحكيم
المختلطة ، ونظرًا إلى الصعوبات الدستورية فيما يتعلق بالولايات المتحدة والبرازيل
واليابان، تستثنى هذه البلاد الثلاث من النصوص الخاصة بالعقود المبرمة قبل
الحرب، ولا تعد عقود التأمين من الحريق منحلةً بوقوع الحرب، ولو لم تكن
رسوم التأمين قد دفعت، ولكنها تعتبر منقوضةً في ميعاد دفع القسط
السنوي الأول الذي يستحق بعد إبرام الصلح بثلاثة أشهر. أما عقود التأمين على
الحياة فلا تنحل لسبب وقوع الحرب فقط لكن في الأحوال التي انقطع فيها دفع
الرسوم بسبب تنفيذ القوانين الحربية يحق للمؤمن أن يطالب القيمة (البوليصة) التي
تستحقها عند تاريخ الكف عن الدفع، ويجوز إعادة التأمين واستئنافه إذا دفعت الرسوم
المتأخرة مع فوائدها. أما عقود التأمين البحري فتعد محلولة بوقوع الحرب إلا إذا كان
الضرر قد سبق وقوعه، فإذا كان هذا الضرر مغطى بتأمين أخر العقد، بعد ابتداء
الحرب تعد البوليصة الجديدة كأنها حلت محل البوليصة القديمة، فإذا لم يكن قد وقع
ضرر قبل الحرب، فالرسوم التي دفعت تسترد ، وألغي اتفاقات التأمين إلا إذا كان
الغزو قد حال دون وجود المؤمن لمن يؤتيه على ما يريد ، ويجوز لكل دولة من دول
الحلفاء، والدول المشتركة معها أن تلغي جميع عقود التأمين المبرمة بين رعاياها
وشركة تأمين ألمانية، ويجب على الشركة أن تسلم من أموالها وموجوداتها جانبًا يكون
على نسبة بوالص التأمين هذه.
تنشأ محكمة تحكيم مختلطة بين كل دولة من دول الحلفاء وألمانية تتألف من
عضو تعينه كل من الحكومتين ورئيس يختاره مجلس جمعية الأمم إذا لم تتفق
الدولتان على تعيينه، أو يعينه قبل تأليف جمعية الأمم رئيس الاتحاد السويسري
الحالي، وتفصل المحكمة في جميع النزاعات المتعلقة بالعقود المبرمة قبل تاريخ
معاهدة الصلح بين رعايا الحلفاء والرعايا الألمان في كل ما لا يدخل في
اختصاص محاكم الحلفاء والدول المشتركة معهم، أو المحاكم عامةً.
الملكية الصناعية: أعيدت الحقوق الخاصة بالملكية الصناعية والأدبية، وما
يتعلق منها بالفنون الجميلة ، أما الحقوق التي للألمان فعرضة لنتيجة التدابير
الحربية الخاصة التي اتخذها الحلفاء ، وقد حفظ حق فرض شروط وقيود على
حقوق الطبع وامتيازات الحصر الألمانية للمصلحة العامة، وكذلك حق السعي في
حمل ألمانية على إنجاز عهودها، ويمكن تمديد الوقت لإنجاز الإجراءات الرسمية
في مسألة امتيازات الحصر، والحصول على الحقوق بموجب المعاهدات الدولية،
وجميع الرخص التي كانت قبل الحرب تلغى إلا ما كان منها بين أميركا وألمانية
ولكن يبقى لصاحب الرخصة حق المطالبة برخصة جديدة بشروط توضع خصيصًا،
ولا تجوز المطالبة بتعويض من ضرر حدث في أثناء الحرب إلا بين الدولتين
المذكورتين.
الأفيون: تتعهد الدول الموقعة على هذا، والتي لم تمض معاهدة الأفيون
المعقودة سنة 1912، ولا وافقت عليها بأن تنفذها الآن.
* * *
الفصل الحادي عشر
في النقل الجوي
الطيران: يكون لطيارات الحلفاء والدول المشتركة معهم حق الطيران في
جو ألمانية أو النزول في أرضها، وحق استعمال ميادين الطيران الألمانية أسوةً
بالطيارات الألمانية، وتعامل من حيث وسائل النقل الداخلية في ألمانية معاملة أكثر
الأمم مراعاةً، وتوافق ألمانية على قبول الشهادات التي يصدرها الحلفاء بشأن
جنسية الطيارات وكفاءتها للطيران، وعلى تطبيق الاتفاق المختص بالطيران،
والمعقود بين الحلفاء والدول المشتركة معهم على طياراتها هي في جوها، وهذه
القواعد تبقى نافذة المفعول حتى سنة 1923 إلا إذا دخلت ألمانية في خلال هذه المدة
جمعية الأمم، أو قبلت الاتفاق المذكور آنفًا.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
تابع لما نشر في الجزء الخامس.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الاستقلال.. ما هو [*]
الاستقلال ما الاستقلال، وما أدراك ما الاستقلال؟ الاستقلال كلمة تدور في
هذه الأيام على ألسنة الشعوب والأقوام، فيظن أنها مما يشترك في فهم كنهه الخواص
والعوام، وما الظن إلا من بعض الآثام.
الاستقلال كلمة من كلم السياسة، وهي من أسماء الأجناس المنقسمة إلى
أنواع، كالاستقلال السياسي، والاستقلال الإداري، والاستقلال الاقتصادي، وكان
يظن أن إطلاق لفظ الاستقلال أو وصفه بالتام يشمل جميع أنواع هذا المسمى بحيث
يكون الشعب الذي يطلبه لنفسه وتعترف به الدول حرًّا في جميع أنواع التصرف في
حكومته، لا فرق بينه وبين الدول الكبرى كإنكلترة وفرنسة أو الصغرى كسويسرا
والبرتغال، وقد كانت الدولة العثمانية من الدول الكبرى المعترف لها بالاستقلال التام
المطلق ولكنا رأيناها عاجزة عن زيادة ضريبة المكس والجمرك على ما يرد من
صادرات الممالك الأجنبية، وعاجزة عن تنفيذ قانون وضعته للمواد الكحولية، أقره
مجلس الأمة وصدرت به الإرادة السنية، ذلك بأن الدول الكبرى عارضت في هذا
وذاك، وما فتح للدول باب الافتيات عليها إلا تلك الامتيازات التي كان أصلها منحةً
من القوي للضعيف وعطفًا عليه وتساهلاً في معاملته عملاً بهداية الشرع الإسلامي،
ورأينا في أثناء هذه الحرب تصرفًا أغرب من هذا. ذلك التصرف الذي قام به دول
الأحلاف في بلاد اليونان المستقلة، تم الاستقلال باعترافهم حتى أفضى إلى خلع ملكهم
وإخراجه من بلادهم، وحجتهم في ذلك أنه خالف دستور البلاد وهم ضامنون له.
ما كل من يلوك كلمة الاستقلال بفمه أو يرسمها بقلمه بين كلمه فهو مدرك
لمعناها عند أهلها. وما كل من يدعي أنه يطلب الاستقلال لقوم فهو مخلص لهم ساع
لخيرهم، بل رُب ساعٍ لاستقلال قوم في الظاهر، وهو إنما سعى لاستعبادهم، سواء
كان منهم أو أجنبيًّا عنهم، من كان في شك من ذلك فليعتبر بما نقلته إلينا البرقيات
والصحف عن سياسة أوربة في أثناء هذه الحرب من وضع هذه الكلمة في موضعها أو
تحريفها عنه.
قال رئيس الوزارة لإيطالية في خطاب ألقاه في مجلس الشيوخ عند البحث
في مسألة احتلال الجرمان للبلاد الروسية، والبحث معها في الصلح على قاعدة
(استقلال الشعوب كلها، وعدم الضم والغرم) ونقلته الجرائد المصرية في أوائل
يناير (ك2) 1918 ما ترجمته بالعربية:
(إن دولتي الوسط أعلنتا أنهما لا ينويان إزالة الاستقلال السياسي من البلاد
التي احتلَّاها. فكلمة (الاستقلال السياسي) لا تنفي أي اعتداء على الاستقلال الآخر
كالاستقلال الاقتصادي مثلاً ولا تضمن أيضًا عودة المملكة المستقلة إلى جميع
أراضيها كاملةً. أضف إلى ما تقدم أن كلمة (استقلال الشعوب) كلمة مهمة لا
تزينها الشكوك وما تضمره دول الوسط من المطامع، فإنهما تقولان أنهما لا تريدان
ضمًّا بالقوة، ومفهوم ذلك أنهما تريدان ضمًّا بغير القوة، فمتى يمكن إذًا وصف
الضم بالقوة؟ الجواب من ذلك أن الأمر معلق على وجود القوة وعلى شكل الخيار
الذي يعرض على الشعوب الموجودة تحت نير الغازين) اهـ المراد منه. ونزيد
عليه أن الوزير صرح بأن الشعب الذي يراد استفتاؤه في أمره وحكم نفسه لا يعتمد
على رأيه إلا بعد سحب القوة الأجنبية المحتلة لبلاده.
وكما يتلاعب السياسيون بلفظ الاستقلال تفسيرًا أو تأويلاً واستنباطًا من
العوامل والنعرات والقيود التي يجرونها عليه، يتلاعبون أيضًا بما يقابله من ألفاظ
الضم والفتح والحماية والرعاية والاحتلال الموقت وغير الموقت، والمساعدة.
ولمَّا اقترح أحرار الروس وجوب بناء عقد الصلح على قاعدة استقلال جميع
الشعوب الكبيرة والصغيرة وعدم الضم والغرامة، أي عدم ضم أي دولة بنفسها شعبًا
من بلاد غيرها، ودول التحالف الجرماني يومئذ في أوج مجدها - استحسنت حكومة
الولايات المتحدة وكذا دول الحلفاء هذه القاعدة، وطفقوا يتباحثون فيها. إلا أن مستر
سكويث رئيس الوزارة البريطانية قال: مستر لويد جورج بين أن لضم البلاد في
معجم (قاموس) السياسة أربعة معانٍ:
(1)
ضم بعض البلدان لتحرير الشعوب الراسفة في قيود الظلم وأغلال
الاستبداد وهو أمر مشروع، وعدَّه من أغراض القتال لهم.
(2)
ضم البلاد التي تحتوي على أجناس فُصلت عن أصولها بإرجاع
الفرع إلى أصله.
(3)
الضم لأجل الاحتفاظ بمواقع حربية تكون ضرورية للدفاع لا للهجوم.
(4)
الضم بمعنى فتح البلدان للتوسع والتبسط للسؤدد السياسي والربح
الاقتصادي، وقال: إن هذا الأخير وحده لا يلقى شيئًا من التأييد في بريطانيا ولا بين
الحلفاء.
ونقول: إن هذا الأمر لا يعرف إلا بالنية؛ إذ لا يدعيه أحد في هذا العصر،
بل كل من حاول أخذ شيء من أرض غيره يدعي حسن النية فيه ويحاول تعليقه على
أحد الثلاثة الأولى من معانيه وهو ما أنكره رئيس الوزارة الإيطالية على ألمانية
والنمسة فيما أشرنا إليه من خطبته آنفًا. ومتى كانت السياسة من الأمور التعبدية
ومقامات الصوفية حتى يحكم فيها أو عليها بحسن النية؟ كلا! إنها تأويلات السياسة
التي تجعل الحرام حلالاً، والحلال حرامًا (يحلونه عامًا ويحرمونه عامًا) فمن تدبر
كلام الوزيرين الايطالي والبريطاني يظهر له أنه لا ينبغي للعاقل البصير أن يغتر
بظاهر كلام السياسيين إذا أطلقوا كلمة (الاستقلال) أو الحرية و (تحرير الشعوب
والأمم) فيظن أنها تنافي ما يقابلها، أو يضادها من الاستعباد أو لاستعمار، أو الضم
باسم الحماية، أو الرعاية، أو المساعدة الموقتة أو المطلقة، فإن المتكلم يستعمل
عندهم استعمالات مجازية، ويختلف معناها حتى بما لا يمكن اطلاع أحد عليه وهو
النية، فإن قيل لهم: إن الأصل في الألفاظ المطلقة أن تحمل على معانيها الحقيقية
تفصوا من ذلك بصرف اللفظ عن حقيقته بالقرائن اللفظية، أوالمعنوية.
فإذا طلب شعب من الشعوب من مؤتمر الصلح الاعتراف باستقلاله مع
مساعدة بعض الدول له على النهوض بشؤون استقلاله، كان ذلك عندهم دليلاً على
أنه يطلب استقلالاً مجازيًّا، أي: تصرفًا ناقصًا مقرونًا بمساعدة أجنبية من شأنه أن
يأول إلى الاستقلال التام الحقيقي الذي هو عبارة عن نهوضه بأمر حكومته وحده
على حد {أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} (يوسف: 36) أي عنبًا يأول أمره إلى أن
يكون خمرًا إذا هو لم يفسد فيستحيل خلاًّ.
فإذًا يجب أن يقيد الطلب الذي يراد به الحقيقة بوصف الاستقلال بالتام المطلق
الناجز. وبعدم شيء ينافيه ويُعد قرينة على مجازيته، وأن يصرح الشعب الطالب
بأن لا يقبل أن يكون لدولة من الدول صفة رسمية لا قولية ولا فعلية ولا امتياز في
بلاده، وأن يكون أمر أمته بيدها وحكمها نيابيًّا لا يعتد فيه إلا بما يقرره مجلس
نوابه فيها.
بهذا البيان يظهر لغير المتمرس بالسياسة ما يراه من التناقض أو التعارض
في الاتفاق الفرنسي البريطاني على بلاد الشعوب العثمانية غير التركية، كبلادنا
العربية المعبر عنه باتفاق سنة 1916 الذي أعلنه بباريس السير مارك سايكس باسم
الحكومة الإنكليزية، والمسيو غو باسم الحكومة الفرنسية في أواخر ديسمبر (ك1)
من تلك السنة ثم أعلنته الحكومتان رسميًّا في 8 نوفمبر (ت2) من السنة الماضية
فقد صرح ممثل إنكلترة بباريس (بأنه لا يعقل أن يستقل الحجاز وتبقى سورية غير
مستقلة، وصرح عقيبه ممثل فرنسة في خطبته بأن الدولتين متفقتان على تحرير
الشعوب غير التركية من النير التركي في آسية الصغرى مهما كانت هذه الشعوب
وأجناسها وتهيئتها لمستقبل أحسن من ماضيها، وللسير بها في طريق الاستقلال
بالحكم وفي سبيل الحضارة مع احترام العقائد الدينية وحقوق الوطنيات، وستعمل
كل من الدولتين في منطقة نفوذها، وسيكون الدور الذي تمثله فرنسة وإنكلترة
دور دليل لتحسين حالة المستقبل ودور حكم بين الجماعات الدينية والجنسية والأولى
مستعدة بهذا الدور في الشمال والثانية في الجنوب) اهـ.
فعلم من هذا التصريح أن التحرير الذي يقولونه هو تحرير مقيد بكونه خاصًّا
بإزالة سلطة الترك لا مطلق. وأن الاستقلال الذي وعدوا به عبارة عن قيادة البلاد
في طريق الاستقلال، لا الاستقلال الحقيقي الناجز، ونستغني بهذا عن شرح البلاغ
الذي نشر في 8 نوفمبر، والجمع بين ما فيه من تعارض بين إعطاء أهل البلاد
السورية والعراقية حق الاختيار لشكل حكومتهم، وبين ضمان الدولتين للجميع
قضاءً عادلاً واحدًا، ومساعدة الحكومات والمصالح الأهلية على الأمور العلمية
والاقتصادية، وإزالة الخلاف والتفرق من بينهم، فإن هذا لا يكون إلا بتوليهما
إدارة البلاد.
هذا وإنما ذكر لفظ (الاختيار) في البلاغ لتطبيقه على قواعد الدكتور ولسن
رئيس جمهورية الولايات المتحدة التي وضعها لصلح الأمم، فإنه صرح بأنه يجب
استفتاء كل شعب في أمره، وأن لا تحكم بلاده إلا بما يختاره لها، وأنه ليس لدولة من
الدول حق تمتاز به في بلاد غيرها بدعوى المصالح السياسية والأدبية، أو
الاقتصادية، ولا بأية دعوة أخرى، وبأنه يجب تأسيس عصبة من الأمم تضمن تنفيذ
شروط الصلح ودوام السلم، وحقوق الأمم المستضعفة، وتقوم بما يلزم لها من
المساعدة.
وقد قرأنا أخيرًا في البرقيات والجرائد الباريسية تصريحًا لرئيس الوزارة
الفرنسية بأن مسألة الولايات العثمانية العربية وغيرها ستعرض على مؤتمر
الصلح فيكون حكمه فيها هو الفصل، وأن وفاق سنة 1916 كان وفاقًا موقتًا والحالة
الحاضرة فيه موقتة أيضًا. وقد كتب هذا الرئيس كتابًا بهذا المعنى نشر في العدد
120 من جريدة (المستقبل) التي تصدر في باريس بالعربية لخدمة الحكومة
الفرنسية.
بعد هذا كله نعجب لبقاء بعض السوريين مختلفين في أمر مستقبل بلادهم،
وزعم بعضهم أن وفاق سنة 1916 كالقضاء الإلهي المنزل، لا يتحول ولا
يتزلزل، فيجب إظهار الرضا به والسبق إلى نيل الزلفى عند الحكومة التي
فوض إليها أمرهم بزعمهم، ومن مقاومة آخرين لهؤلاء بطلب تفويض أمر تنظيم
البلاد إلى دولة أخرى غير الدولة التي يزعم أولئك أنها صارت أو ستصير مالكة
أمرهم، وقصارى ذلك التنازع والتفاضل بين دولتين، بحجة ارتكاب أخف
الضررين، وما أغنانا عن كل منهما، فكيف نتخير فيهما؟
وأعجب من هذا أن كل فريق يزعم أنه يطلب الاستقلال والخير لوطنه في
الحال والاستقبال ولا شك في أن فيهم المخلصين وغير المخلصين.
ويسرنا أن السواد الأعظم من أهل البلاد لا يرضى لنفسه إلا الاستقلال التام
الناجز، والحرية الكاملة الناجزة لا مجرد الإطلاق من قيد سلطة ضعيفة عاجزة
لتحل محلها دولة قادرة، وإنما كان بعضهم يغش أو يغلط فقيَّد رغبته بقيود يحسبها
نافعةً غير ضارة، ولكن الأمر قد انكشف وظهر فلا يخفى إلا على أكمه لا يبصر
القمر !! وشرط صحة إقرار العلم: الاختبار. فالواجب الآن أن يكسر المقيد قيده
الذي تقيد به قبل العلم بأن أمره بيده وحرية القول والكتابة في الإقرار والتوكيل
والإنابة.
ذلك بأن يستأنف زعماء البلاد بطريقة منظمة التوقيع على طلب الاستقلال
التام المطلق، وجعل حكومة البلاد نيابيةً (ديمقراطيةً) تبني أحكامها على أساس
العدل والمساواة وحفظ حقوق الفئات القليلة العدد من أهل البلاد، وأن يضمن لها
ذلك جمعية الأمم لا دولة من الدول وأن يرفع ذلك بالبرق والبريد إلى مؤتمر الصلح
وإلى الرئيس ولسن، وأن ينيب هؤلاء الزعماء الذين يسعون لذلك واحدًا من كل
ولاية يمثلون الطوائف من الملل المختلفة، وإرسالهم إلى مؤتمر الصلح بطلب هذا
الاستقلال.
يا أبناء وطني الأعزاء: قد أجمعت الدول الكبرى على جعل استقلال الشعوب
من قواعد صلح الأمم، وعلى تفويض أمر الولايات إليها فلا تستطيع دولة منها أخذ
شيء من بلادنا إلا بقرار منا، فالويل والشقاء الملازم لأمة تبخع نفسها، وتُنحر
مختارةً بيدها، مخدوعةً بأن تنال بذلك مساعدةً تحيا بها، وأعيذكم بالله من هذه العاقبة
وأسأله لكم حسن الخاتمة.
_________
(*) هذا هو المقال الموعود به في الجزء الخامس ص 280.
الكاتب: محمد توفيق صدقي
مدرسة دار الدعوة والإرشاد
دروس سنن الكائنات
محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي
(19)
المعالجة - إذا حقن [*] المصاب بالسلفرسان (Salvarsan) (وهو
المسمى 606 والجديد منه يسمى 914) بمقدار20. جم إلى 30. جم انخفضت
الحرارة وذهبت الحلزونيات من الدم في ظرف 7 ساعات أو 14 أو 20 ساعة على
الأكثر زد على ذلك أن هذه الحقنة قد منعت حصول النكس في المصابين بنسبة 92
في المئة.
وإذا لم يحقن عولجت هذه الحمى بمثل معالجة الحميات الأخرى. فيلزم
المريض الفراش في غرفة متجددة الهواء نقيته، وتعطى له الأغذية السائلة. وإذا
اشتدت الحرارة عولجت بالماء البارد، كما سبق في الحميات الأخرى، ومما يخفف
الصداع وضع الكمادات الباردة على الرأس. وإذا كان المريض متألمًا من الكبد أو
الطحال وضعت الكمادات الساخنة عليهما، وإذا عرق المريض عرقًا شديدًا وجب
تنشيف جسمه في الحال، ويقاوم الهبوط الذي قد يحصل عند البحران بالتدفئة
والمنبهات المنعشات. وفي أواخر الفترات بين نوب الحمى يحسن تغذية المريض
بجميع الأطعمة الجيدة، وتعطى له المقويات ليتحمل نكس المرض إذا حصل.
الوقاية - تكون بالنظافة التامة واتقاء القمل وغيره من الحشرات، كالقردان
وإبادتها بكافة الوسائل الفعالة كليلي ونحوه.
***
الإفرنجي
Syphilis
تكلمنا في الجزء الأول من هذا الكتاب (ص 128 - 130) على هذا
المرض بشيء من الإيجاز ونريد الآن أن نفصل القول في ميكروبه وطرق
تشخيصه العملية وكذلك في معالجته الحديثة.
أما ميكروبه فيسمى بالإفرنجية] pallida Spirochaeta [والكلمة
الأولى يونانية بمعنى (الحلزوني) والثانية لاتينية بمعنى الأكمد (الباهت) لتعسر
رؤيته بالمجهر، فإنه من أدق الميكروبات الحلزونية، وقد اكتشف هذا الميكروب
سنة 1905 ميلادية، وهو طويل دقيق سريع الحركة ملتوٍ على نفسه نحوًا من
6 -
14 طية وينتهي بطرفين وهدبين دقيقين جدًّا، يبلغ طوله نحوًا من
4 إلى 20 مك [1] وعرضه (35. 0) من الميكرون، وهو من نوع الحييوينات
الأولى] Protozoa [.
يوجد هذا الميكروب في جميع القروح الإفرنجية الأولى والثانية وفي أنواع
الطفح الثانوي المختلفة، وفي غير ذلك. فتراه مثلاًً في العقد اللمفاوية القريبة من
القروح أو من الطفح، وقد نجده أحيانًا في الدم وفي الطحال.
أما في الطور الثالث من الإفرنجي وهو الذي كانوا يعتبرونه غير مُعدٍ فوجوده
ليس بالسهولة التي في الطورين الأولين، ومع ذلك تمكن مشاهدته في محيط
الأورام الصمغية، لا في وسطها غالبًا، وكذلك يشاهد في غير ذلك من الإصابات
الإفرنجية الثلاثية مثل التهاب الأبهر (الأورطي) وفي قشرة المخ في مرض
الشلل العام للمجانين، ويستمر وجوده بعد الطور الأول في الجسم إلى سنين عديدة،
ويوجد في الإفرنجي الوراثي كثيرًا بالدم والأحشاء، كالكبد والطحال والرئتين.
واعلم أن هذا الميكروب إذا تلقح به الجسم أخذ عدة ساعات حتى ينتشر فيه،
ولذلك وجد بعض الباحثين [متشنيكوف Metchnikoff] أنه إذا لقح بعض أنواع
القردة بالميكروب ثم دهن موضع التلقيح (بمرهم الزئبق الحلو) أمكن منع العدوى
حتى بعد مضي 18 ساعة من التلقيح.
والمطهرات تقتل هذا الميكروب، وكذلك الحرارة التي درجتها من 52
ستيجراد فصاعدًا، والمعالجة بالزئبق، وبـ 606، أو 914 تذهب الميكروب من
الجسم، أو تقلله.
أما تشخيصه - فمن أسهل طرقه أن يؤخذ جزء من إفراز القروح، ويوضع
على لوح من ألواح المجهر الزجاجية، ويلون بالحبر الهندي المعتاد، ويبسط على
اللوح حتى يكون طبقةً دقيقةً، فإذا جفت ونظر إليها بالمجهر رأيت الحلزونيات فيها
بسهولة، هذا والداء في أطواره الثلاثة الأولى المعتادة قل أن يتعسر على الطبيب
معرفته، ولكن الصعوبة في معرفته حينما ينشأ عنه في آخر أطواره فسادُ بعض
الأعصاب أو الشرايين بسمه الذي يحدث فيها تلفًا أو التهابًا مزمنًا فيتسبب من ذلك
أنواع من الشلل وتصلب في الشرايين، وغير ذلك من الأعراض العضالة التي
يتعذر علاجها في أكثر الأحوال، وأحسن الطرق لمعرفة الداء حينئذ ببحث مصل
دم المصاب، أو جزء من السائل المخي النخاعي بطريقة [وزرمان
Wassermann] الألماني، وهي مبنية على بعض حقائق بكتيريولوجية يحب
أن نبينها قبل وصف هذه الطريقة، فنقول:
إنك إذا حقنت حيوانًا بسم ميكروب، أو بالميكروب نفسه، أو بخلايا دم، أو
بغيره، أو بأي مادة أخرى زلالية تولدت في البنية [مادة مضادة Anti - body]
للمادة المحقونة، ولذلك تسمى المادة المحقونة [مولدة الضد Anti - gen] فمثلاًً
إذا حقنت حيوانًا بمقدار غير مميت من سم ميكروب الدفتيريا تولد في دمه شيء
مضاد لسم الدفتيريا، وحماه من أذاه - كما سبق بيان ذلك - وإذا حقنت الميكروب
تولد في الدم ما يذيبه ويبيده، وإذا حقنت كريات حمراء تولد فيه ما يذيبها أيضًا،
وكذلك إذا حقنت خلايا أو غيرها تولد فيه ما يحلها ويذيبها [2] وهلم جرًّا، واعلم
أن المادة المتولدة لا تكون مضادةً إلا لما ولدها لا لغيره، فإذا كانت المادة المحقونة
دم الأرنب مثلاً كانت المادة المتولدة مضادةً له لا لدم الحصان مثلاً، ولا لميكروب
ولا لغيره و [المادة المضادة Anti - body] التي تولدت لا تذيب المادة المحقونة
مولدة الضد [مولدة الضد Anti - gen] إلا بمساعدة مادة أخرى تكون عادةً في دم
الحيوان المحقون، وتسمى المادة [المساعدة أو المكملة Complement]
ووجودها في الدم طبيعي لا حادث، فإذا سخن الدم أو مصله حتى صارت درجة
حرارته 55 - 60 سنتجراد فسدت المادة المساعدة وبطل عملها، وأصبحت المادة
المضادة وحدها لا تذيب المادة المولدة للضد، وتفسد المادة المساعدة أيضًا بغير
التسخين كما سيأتي بيانه.
إذا علمت ذلك فاعلم أن المصاب بالإفرنجي توجد في دمه مادة مضادة للمرض،
وهي التي تولدت في البنية بسبب تلقحه بهذا الداء، ونحصل على هذه المادة بأخذ
جزء من مصل دم المصاب، أو جزء من سائل النخاع الشوكي له، فإذا مزج هذا
المصل أو هذا السائل بمادة [مولدة الضد] للإفرنجي، وبعبارة أخرى: المادة التي
إذا حقنت في شخص ولدت ما يضاد الإفرنجي، أو بعبارة أصرح: مادة مشتملة على
ميكروب الإفرنجي ككبد جنين امرأة مصابة بالإفرنجي مثلاً، فإذا مزج هذا المصل أو
السائل المشتمل على مضاد الإفرنجي] body -[Anti بجزء من هذا الكبد المولد
للضد]-gen Anti [كان لهذا المزج خاصية إفساد المادة المساعدة
[Complenment] التي توجد في دم أي حيوان وإبطال عملها في الإذابة، فإذا
أضيف لدم هذا الحيوان الذي أفسدنا مادته المساعدة مادة مع مادة مولدة للضد، لما
أمكن لهذا الدم أن يقوم بعمله في الإذابة.
ولبيان هذه الطريقة عملاً ليتمكن القارئ من فهمها، نقول:
لفحص شخص يُظن أنه مصاب بالإفرنجي يؤخذ من أحد أوردته 5 - 10
سنتي مترًا مكعبًا من الدم، أو مقدار أكبر من ذلك بقليل من سائل النخاع الشوكي
بالبزل القطني، ويمزج مصل هذا الدم أو السائل النخاعي بكبد جنين مصاب
بالإفرنجي، ويضاف عليهما جزء من مصل دم أحد خنازير الهند، وهو مشتمل
بطبيعته على تلك المادة التي سميناها [بالمادة المساعدة Complement] ويترك
هذا المزيج مدة ساعة في حرارة درجتها 37 سنتجراد.
هذا ونكون قد استحضرنا من قبل أرنبًا وحقناه عدة مرات بدم ثور حتى تتولد
فيه مادة مضادة (مذيبة) لكريات دم الثور، وهي كما قلنا لا تذيبه إلا بوجود المادة
المساعدة التي تكون معها في الحالة الطبيعية، ونأخذ دم هذا الأرنب، ونزيل منه
بالتسخين المادة المساعدة - كما سبق بيانه - ليبقى عندنا دم فيه المادة المضادة فقط
لدم الثور، ونضيف على دم هذا الأرنب بعدئذ ذلك المزيج المذكور سابقًا (وهو
مصل الإنسان المشتبه في إصابته بالإفرنجي مع كبد الجنين مع مصل خنزير الهند
المشتمل على المادة المساعدة بدل التي أضعناها بالتسخين من دم الأرنب) ونضيف
إليه أيضًا جزءًا من دم الثور، ثم نسخن جميع هذا الخليط حتى تصير درجة
الحرارة 37 سنتجراد، ونبقيه في هذه الحرارة ساعتين، فإذا وجد مصل الإنسان
المشتبه في إصابته توجد فيه حقيقة المادة المضادة للإفرنجي لأفسدت هي ومادة كبد
الجنين المادة المساعدة على الإذابة التي بدم خنزير الهند، وحينئذ لا تذوب كريات
دم الثور بدم الأرنب، ويستنتج من ذلك أن الشخص الذي نفحصه مصاب بالإفرنجي،
أما إذا ذابت كريات دم الثور علمنا أن هذا الإنسان ليس مصابًا بالإفرنجي، ولذلك لم
يفسد مصله المادة المساعدة على الإذابة التي بدم خنزير الهند.
هذه هي طريقة (وزرمان) علمًا وعملاً، وهي أهم الطرق الآن لتشخيص
الإفرنجي، ويجب معرفتها على كل طبيب، ولذلك توسعنا في ذكرها هنا.
وهي تنجح إذا عُملت في أثناء الطور الأول من الإفرنجي بعد 5 - 8 أسابيع
من حصول العدوى، وتنجح أيضًا في الطور الثاني في 95 في المئة، وفي الثالث
في 75 في المئة، وفي الإفرنجي الكامن (الذي لم تظهر أعراضه) في 50 في
المئة، وكذلك تنجح في الأمهات اللاتي يلدن أطفالاً مصابين بالإفرنجي الوراثي،
وهن في الظاهر سليمات منه، وذلك بنسبة 70 أو أكثر في المئة منهن.
وفي الأطوار الأخيرة الإفرنجية التي ينشأ منها الشلل العام للمجانين وداء
اختلال الحركة المسمى أيضًا [بسل النخاع [3] Dorsalis Tabes] تنجح هذه
الطريقة في كافة الأحوال تقريبًا (أي نحو 100 في 100) سواء أعملت بمصل دم
المصاب، أو بسائل النخاع الشوكي، أما في الحالات التي يصاب فيها المخ أو
النخاع بالأورام الصمغية الإفرنجية فنجاحها قليل.
هذا وإذا علمنا أن مصل الإنسان يشتمل بطبيعته على مادة تذيب كريات دم
الغنم، وكذلك يشتمل على المادة المساعدة على الإذابة - إذا علمنا ذلك أمكننا
اختصار تلك الطريقة السابقة باستعمال دم الغنم بدون الاحتياج لدم خنزير الهند ولا
لدم الأرنب والثور، بل نضيف فقط لمصل الإنسان كبد جنين مصاب بالإفرنجي
ودم الغنم. على أنه قد وُجد أيضًا أن كبد الجنين غير ضروري فإن مواد أخرى
يمكن أن تعمل عمله كخلاصة أي كبد سليم، أو قلب، أو أحشاء، أو أنسجة أخرى
وغير ذلك كثير، كمحلول الكولسترين [Cholesterin] واللسثين
[Lecithin] ومن ذلك يعلم أن المادة التي نبحث عنها في مصل الإنسان ليست
هي المادة المضادة للإفرنجي بالمعنى الصحيح بل هي مادة أخرى مخصوصة توجد
في الدم إذا أصيب الشخص بالإفرنجي، فوجودها يدل على الإصابة، والعكس
بالعكس.
وإذا عولج الشخص قد تصبح طريقة (وزرمان) غير ناجحة في التشخيص،
ولكن من الغريب أنه إذا حقن حينئذ بحقنة (606) تعود فتصبح ناجحةً، وذلك يدل
على أنه لم يشف تمامًا من الداء، وعليه فلا يمكن الاعتراف بطهارة شخص من
هذا الداء إلا إذا عملت طريقة (وزرمان) بعد هذه الحقنة التي تسمى حينئذ (الحقنة
المحرضة) على نجاح الطريقة [Provocative] .
المعالجة - نظرًا لتعسر تطهير البنية من هذا الداء يجب أن تكون مدة
المعالجة طويلةً جدًّا وإلا لما خلص الجسم من الميكروب وسمومه ، وهناك ثلاثة
أنواع من الأدوية لها نفع عظيم جدًّا في هذا المرض: (1) الزئبق ومركباته
و (2) يودور البوتاسيوم، و (3) بعض مركبات الزرنيخ، وأشهرها حقنة 606
و914.
أما المعالجة بالزئبق واليودور فهي قديمة، ولذلك لا نريد أن نتكلم عليها هنا
لأنها معروفة مشهورة، وإنما نريد أن نتكلم على معالجته الحديثة بالمركبات
الزرنيخية فنقول:
قد وفق العلامة أرلخ [Ehrlich] هو ومساعده هاتا [Hata][4]
سنة 1909 ميلادية إلى تركيب كيماوي زرنيخي نافع في هذا المرض، سمياه
606؛ لأنهما وفقا إليه بعد عمل تجارب عديدة بلغت هذا العدد، ولذلك سمي بهذا
الاسم، ويسمى أيضًا [أرلخ هاتا Hata - Ehrlich] نسبةً لهما، ويعرف
عند الإفرنج أيضًا باسم [السلفرسان Salvarsan] ، ولم أقف على أصل
هذه الكلمة، وإنما أظن أنها مركبة من كلمتين، (أولاهما: بالألمانية Salbe،
وبالإنكليزية Salve، ومعناها مرهم أو دواء للقروح) و (ثانيتهما اسم الزرنيخ
[Arsenic] في اللغات الإفرنجية) فإذا صح هذا الظن كان معنى ذلك الاسم
(الشفاء الزرنيخي)، وتركيبه الكيماوي هو:
(Dihydroehlorde benzol - areno -
Dioxydiamino) ومعنى [Di] في اليونانية (مثنى، أو مزدوج)
و [OXY] من كلمة [oxygen] ، و [Amine] تركيب كيماوي
يشبه النوشادر [Ammonia] في عناصره وخواصه، وهو مشتق منه
و [Arseno] الزرنيخ كما سبق و [Benzol] أو [Benzene] مركب
كيماوي من الهيدروجين والكربون بنسبة ستة جواهر فردة [Atom] من الأول إلى
مثلها من الثاني في كل ذرة [Molecule] و [Hydro] من
كلمة [Hydrogen] ، و [Chlor] من [Clorin] ، وعليه فحقنة
606 مركبة بنسب مخصوصة من (الأكسجين والنيتروجين والهيدروجين
والزرنيخ والكربون والكلورين) ، ولونها أصفر لامع، وهي مسحوق يباع في أنابيب
صغيرة زجاجية لا يجوز فتحها إلا وقت الاستعمال؛ لأنها تفسد وتتأكسد إذا ترك
المسحوق معرضًا للهواء؛ ولذلك يملأ الفراغ الذي يبقى بالأنبوبة بغاز غير
الأكسجين، وهذا المسحوق يذوب في الماء ببطء، ويكون المحلول حمضيًّا
مشتملاً على 34.15 في المئة من الزرنيخ.
ويحقن بمقدار 0.30 جرامًا إلى 0.60 جرامًا.
وكل أنبوبة تشتمل عادةً على هذا المقدار الأخير (0.60 جم) والأفضل أن
تحقن في الأوردة.
طريقة الحقن - يذاب السلفرسان في 30 أو 40 سنتيمتر مكعب من الماء
الساخن المقطر حديثًا والمعقم، ثم يضاف إليه جزء من محلول هيدرات
الصوديوم (بنسبة 15% من الهيدرات إلى الماء المذاب فيه) فيتكون راسب أولاً
وذلك يأخذ في الذوبان بالتدريج كلما زدت مقدار محلول الهيدرات، فإذا ذاب
الراسب أضف محلولاً دافئًا من ملح الطعام النقي (بنسبة 5 في الألف) يصنع بماء
مقطر حديثًا إلى أن يصير مقدار السائل كله 250 جم، وعندئذ يصير صالحًا للحقن
في الأوردة بشرط أن تكون درجة حرارته عند دخوله نحو 38 سنتجراد.
ويجب أن يلتزم المريض الفراش قبل الحقن مدة 24 ساعةً، ويكون طعامه
خفيفًا في تلك المدة وتطلق أمعاؤه بمسهل، وكذلك يجب أن يبقى في الفراش بعد
الحقن 21 ساعةً أخرى، ومن المحتم أن تلتزم طرق التعقيم والتطهير التامة في كل
هذه العملية من أولها إلى آخرها.
وكثيرًا ما يحدث بعد الحقن ارتفاع خفيف في حرارة المصاب لبضع ساعات.
وإذا روعيت جميع الاحتياطات التي ذكرناها بدقة نجا المريض من الأعراض
الخطرة، مثل الرعدة، والحمى الشديدة، والقيء والإسهال، وخصوصًا إذا روعي
أن الماء يجب أن يكون معقمًا ومقطرًا حديثًا، فإذا كان مقطرًا قديمًا رسبت فيه
بعض الميكروبات من الهواء حتى إذا غليته قبل الاستعمال فإن هذه الميكروبات
تموت، ولكن تبقى أجسامها في الماء وهذه تسبب بعض الأعراض الشديدة التي
تحصل كثيرًا عقب الحقنة.
أما طريقة الحقن في العضلات فهي أن يذاب المقدار اللازم من السلفرسان في
10 سنتي متر مكعب من الماء المقطر المعقم الدافئ، ثم يضاف عليه 6 سنتي متر
مكعب من محلول هيدرات الصوديوم بنسبة 4 في المائة، ثم 6 في المائة من
حامض الخليك حتى يبدأ السائل في أن يكون تأثيره حمضيًّا، ثم نقطة من محلول
هيدرات الصوديوم بحيث يصير قلويًّا، ثم يحقن في عضلات الإلية، أو غيرها،
وهذه الطريقة قد تحدث ورمًا مؤلمًا في مكان الحقن، ولذلك يفضل عليها الحقن في
الأوردة.
ولا يجوز الحقن تحت الجلد ولا لمصاب بمرض في القلب أو الكلى أو
الشرايين أو المصاب بالسل ، وقد أعطاها بعضهم لمثل هؤلاء بمقادير طفيفة.
والمعتاد أن يحقن المريض مرتين أو ثلاثًا بعد فترة أسبوع أو أسبوعين؛
لأن الداوء لا يخرج من البنية إلا بعد نحو أسبوع.
وفائدة هذه الحقنة أنها تشفي القروح الإفرنجية بأنواعها، والأورام الصمغية
بسرعة عجيبة حتى إن القروح المزمنة تشفى بعد الحقن ببضعة أيام، وفائدتها
ليست قاصرةً على الإفرنجي المكتسب بل هي نافعة أيضًا في الإفرنجي الوراثي
على حد سواء، أما في أطوار الإفرنجي الأخيرة [Parasyphllitic]
فلم يثبت إلى الآن نفعها العظيم، غاية الأمر أنها قد توقف المرض وتخفف من
أعراضه المؤلمة.
وهذه الحقنة تذهب ميكروب الإفرنجي من الدم، وتصير طريقة (وزرمان)
سلبيةً، بمعنى أنها تظهر الدم حتى إن المصاب يكون كأنه لم يصب بشيء.
ومن المستحسن جدًّا أن يعالج المصاب بعد هذه الحقنة بالزئبق مدة سنتين أو
ثلاثًا حتى يشفى تمامًا من الإفرنجي.
وهذه الحقنة لا تخلو من الخطر فقد مات بها كثيرون أصابهم بعدها تشنج
وغيبوبة ذهبت بحياتهم، ولا يمكن نسبة ذلك لأي سبب سوى أن بنيتهم لا تتحمل
العلاج بها لاستعداد خاص للتأثر بها لا نعرف سببه.
أما السلفرسان الجديد [Neo-Salvarsan] ويسمى أيضًا 914 لمثل
السبب المذكور آنفًا، فهو يختلف قليلاً من الوجهة الكيماوية عن السلفرسان القديم،
ويزيد عليه بعض المركبات التي فيها (الكبريت والصوديوم) وهو مسحوق
أصفر سهل الذوبان في الماء، ويكوِّن معه محلولاً متعادلاً (لا قلويًّا ولا حمضيًّا) .
ومقدار ما يحقن منه في الأوردة جرام واحد يذاب في 250 سنتي متر مكعب
من الماء المقطر وكثيرًا ما يحقن في العضلات أيضًا.
ويعتقد العلماء أن تأثيره في الإفرنجي كتأثير القديم على السواء، ولكنه أقل
خطرًا منه، ويجوز تكرار الحقن به بعد شهر.
هذا ولما كانت الحرب الحالية قد منعت التجارة الألمانية في كثير من بلدان
العالم، فكر بعض علماء الفرنسويين [الدكتور مونيرات Mouneyrat] في
إيجاد مركب آخر يغنيهم عن مركبات الألمان المذكورة سابقًا وسماه [الجاليل
Galyl] أو 1116 وهو مركب من الكربون والهيدروجين والأكسجين
والنيتروجين والفسفور والزرنيخ بالنسب الآتية: (24 كربون - 22 هيدروجين -
8 أكسجين - 4 نيتروجين - 2 فسفور - 4 زرنيخ) ويسمى بلغة الكيماويين: obenzene aminadiarse tetra Tetraoxydiphospho
وقد سبق أننا فسرنا جميع مقاطع (أجزاء) هذه الكلمة، ما عدا كلمة
[Tetra] وهي يونانية معناها أربعة، وهذا الداواء نافع - كالمركبات
الألمانية- في الأمراض الأخرى الناشئة عن الميكروبات الحيوانية كالحمى الراجعة
ومرض النوم.
وهذا الدواء مسحوق أصفر يباع في أنابيب مقفلة، ولا يتغير بمضي الزمن،
وهو سهل الذوبان في الماء، ويقول مخترعه: إنه لا يضر عصب البصر ولا
عصب السمع كما يحدث أحيانًا من المركبات الألمانية، ومقدار ما يحقن منه 0.30
جم إلى 0.35 جم كل ثمانية أيام، والعادة أن تزول الأعراض بعد ثلاث أو أربع
حقن، ولكن الأفضل أن يعمل ست حقن، وينبغي تكرار الحقن كل سنة لمدة أربع
سنوات ليزول الداء من البنية، ويكون الحقن في الأوردة، ويجوز أن يعمل أيضًا
داخل العضلات، وهناك دواء آخر إنجليزي يسمى [حارسفان Kharsivan]
وهو مثل السلفرسان سواء بسواء.
***
مرض النوم
Sleeping Siekaess
ينشأ هذا المرض من ميكروب حيواني يشبه الحلزونيات المذكورة آنفًا يسمى
بالإفرنجية Trybanosome يعيش في دم الحيوانات الفقرية، وينتقل من
بعضها إلى البعض الآخر بواسطة الحشرات (اللافقرية) أي: الذباب، ومن
الحيوانات الفقرية التي يعيش في دمها هذا الميكروب ما لا يتأثر به ولا يشعر
بوجوده ويكون بالنسبة للميكروب كمستودع طبيعي (خزان) له، ومنه ينتقل إلى
الأنواع الأخرى بالذباب ليحدث له المرض.
يشبه هذا الميكروب الدودة فله جسم طويل متحرك. ولكنه ليس مفتولاً بل
مسطحًا وله طرفان، في الأمامي منهما هدب واحد كالشارب له، وفي أحد جانبيه
غشاء دقيق كثير التماوج، وله نواتان إحداهما كبيرة والأخرى صغيرة، والكبيرة
في وسطه، والصغيرة بقرب الطرف الذي لا هدب له، ومنها يبتدئ خيط دقيق
يمر بحافة الغشاء المتماوج، وينتهي هذا الخليط بالشارب.
وهذا الميكروب هو خلية واحدة طولها من 18 - 25 ميكرونًا، وعرضها من
2 إلى 2.8 مك، فطوله نحو ثلاثة أمثال قطر كرومة الدم الحمراء.
وهو يتولد بالانقسام الطولي (وقد يحدث الانقسام نادرًا بالعرض) ويشاهد
هذا الميكروب في دم المصاب والغدد اللمفاوية وسائل النخاع الشوكي، ولا
يدخل هذا الميكروب في كريات الدم الحمراء، أما البيضاء فتأكله وتبيده.
الأسباب - عرف حدوث هذا المرض منذ زمن بعيد في شاطئ أفريقية الغربي
بين نهري سنغال Sanegal ولواندا Lganda وعلى بعد بضعة آلاف ميل
من البحر وقد عرف أيضًا حديثًا في بلاد [أوغندا Uganda) وفي جهات
أخرى من العالم، ولكن المصابين فيها كانوا ممن ذهبوا إلى أفريقية، ويندر حدوث
هذا المرض لغير السود، ويصيب الأشخاص في جميع الأعمار، والذكور والإناث
على حد سواء، وقد يستثنى من ذلك الأطفال الرضع والشيوخ الفانين.
وينقل الميكروب من مصاب لآخر نوع من الذباب المسمى Tsetse وهو
أكبر بقليل من الذباب المعتاد، ويشبهه شبهًا عظيمًا، ولكنه لا يوجد إلا حيث يوجد
هذا المرض، ومما يمتاز به أن أنثاه لا تلد بيضًا بل تلد جنينًا تام التكوين.
الأعراض - لا شك أن ميكروب المرض قد يوجد في دم بعض الناس مدةً
طويلةً بدون أن تظهر عليهم أعراض المرض، وقد ينتهي الأمر بموت الميكروب
وأول أعراض الداء حمى تمكث بضع ساعات أو بضعة أيام، ثم تعود بعد بضعة
أسابيع، ولا تمتاز أعراض هذه الحمى كثيرًا عن غيرها من الحميات الأخرى.
وإذا وصل الميكروب إلى تجويف العنكبوتية للمخ، أو النخاع ظهرت حينئذ
الأعراض المميزة لهذا الداء، فيؤخذ المصاب بسنة (نعاس) تزداد تدريجيًّا حتى
تصير سباتًا فغيبوبة تامة، وفي أول درجة النعاس قد يحاول المريض العمل،
ولكنه يكون في غاية الخمول والكسل والضعف، فإذا بلغ درجة النوم لم يتقلب في
فراشه إلا إذا قلبناه، ولا يأكل إلا إذا أطعمناه، ومع ذلك لا يُتم عمل الأكل بل يترك
الطعام في فمه ويستمر في نومه، ومدة المرض من خمسة أشهر إلى خمسة عشر
شهرًا، ولم يعرف أن أحدًا أصيب به ونجا منه، وميكروب هذا المرض يحدث
التهابًا مزمنًا في المخ والنخاع، وأغشيتهما (السحايا) .
المعالجة - قل أن تنجح. وتنحصر في العناية الشديدة بالمريض وبنظافته
وتغذيته وتقليبه في فراشه، وحقنه ببعض مركبات الزرنيخ، كالدواء المسمى
(أتوكسل Atoxyl) إما وحده، أو مع بعض مركبات الزئبق، أو غيره.
***
الحمى السوداء أو الكلا أزار
Black Fever or kala _ Azar
مرض كثير الانتشار في بلاد الهند والصين وغيرهما من بلاد أسية ، ويوجد
أيضًا في مصر وتونس والجزائر، وسببه ميكروب حيواني، أول من وصفه كان
السير [ليثمان Leishman Sir] والدكتور [دونوفان Donovan. Dr]
ولذلك سمي هذا الميكروب باسميهما [Leishman - Donovan]
ويوجد في المصاب في طحاله وكبده، وفي غدده اللمفاوية، وفي رئتيه، وفي جدر
أمعائه، وغير ذلك، ويمكن الحصول عليه أثناء الحياة ببزل الطحال أو الكبد،
وأخذ جزء من دمها، وينتقل من شخص لآخر بواسطة بق الأسرة وغيره.
الأعراض - حمى مستطيلة والصفار (الأنيميا) والضعف والنحافة وضخامة
الكبد والطحال والرعاف أحيانًا، أوالنزف من اللثة، أو تحت الجلد، وآلام في
العظام، وتورم بالوجه والقدمين، بل واستسقاء بالبطن إذا عظم حجم الكبد،
ويصاب المريض بالإسهال أو الدوسنطاريا، وبالالتهاب الرئوي، وهذه
المضاعفات كثيرًا ما تكون سببًا في الموت، ويمكث المريض عدة أشهر، والموت
فيه يكون بنسبة تسعين في المائة من المصابين.
العلاج - يكون بمركبات الكنين أو الزرنيخ.
***
داء التوت الشوكي أو العليق الإفرنجي
Framboesia
سمي بذلك لأن أورامه التي تظهر بالجسم تشبه هذا النوع من التوت في شكله
وحجمه، وهو مرض مُعدٍ كثير الانتشار في البلاد الحارة كإفريقية والهند وغيرها،
يصيب الذكور والإناث على حد سواء، والشبان أكثر من غيرهم، والسود أكثر من
البيض، وهو يشبه الإفرنجي Syphilis شبهًا عظيمًا في ميكروبه وأعراضه
وعلاجه حتى ظن بعض الباحثين أنه نوع منه، ولكن الحقيقة غير ذلك فإنه يمكن
أن يصاب الشخص بالمرضين معًا.
تحصل العدوى بتلقيح الجلد بالميكروب في أي سحج أو جرح، أو نحو ذلك،
ويندر حصول التلقيح في أعضاء التناسل، ومدة التفريخ من أسبوعين إلى أربعة،
يظهر بعدها في مكان التلقيح دمل يتقرح، أو يستحيل إلى مادة كالأزرار اللحمية
تبرز من الجلد، وتضخم الغدد اللمفاوية التي حولها، وقل أن تتقيح.
هذا هو الطور الأول، أما الثاني فيظهر بعد شهر أو ثلاثة من مبدأ ظهور
الطور الأول، ويسبقه توعك وحمى، ثم تظهر دمامل صغيرة جدًّا في أول الأمر،
ثم تكبر حتى تصير نحو بوصتين أو أقل، وهي تشبه التوت الشوكي، وهذه
أيضًا تتقرح، وهي تصيب كل أجزاء سطح الجسم، والطور الثالث كطور الأورام
الصمغية الإفرنجية.
وميكروب هذا المرض من نوع الحلزونيات، ويوجد في الدمامل والقروح،
وفي الطحال والعقد اللمفاوية وغيرها، ويمكث المرض سنة أو عدة سنين، وقل أن
يميت.
المعالجة - تكون بحقنة السلفرسان، وكان يعالج قديمًا - كالإفرنجي -
بمركبات الزئبق واليود والزرنيخ، وتعالج بالمطهرات كالمعتاد.
إلى هنا انتهى الجزء الثاني وسيليه - إن شاء الله - الجزء الثالث ويبدأ بالأمراض
التي لم تعرف ميكروباتها إلى الآن.
_________
(*) ويكون الحقن إما داخل العضلات، أو في الأوردة ، وهو الأفضل.
(1)
ومتوسط الطول من 8 - 9 مك.
(2)
يراجع أيضًا الجزء الأول ص 49.
(3)
سمي بذلك لما ينشأ عنه من الضمور في الأحبال العصبية الخلفية للنخاع.
(4)
هو بكتيريولوجي ياباني كان مساعدًا لأرلخ الألماني.
الكاتب: محمد بهجت البيطار
ترجمة الشيخ عبد الرزاق البيطار
بقلم حفيده الشيخ محمد بهجة البيطار
(عبد الرزاق بن حسن بن إبراهيم بن
حسن بن محمد بن حسن البيطار الدمشقي)
في عاشر ربيع الأول من سنة 1335 فجعت دمشق الشام بوفاة أكبر وأشهر
علمائها وأعلامها، علامة الأقطار الأستاذ الجد سيدي الشيخ عبد الرزاق البيطار -
رحمه الله ورضي عنه - ولقد كانت وفاته خسارة عظمى على المسلمين والإسلام،
وإليك نبذة يسيرة من ترجمة حياته.
***
مولده وتحصيله
ولد المرحوم بمحلة الميدان من دمشق الشام سنة ألف ومائتين وثلاث وخمسين
سنة 1253، تعلم القراءة والكتابة، ثم حفظ القرآن الكريم وجوده على الشيخ الفاضل
أحمد الحلواني شيخ قراء الشام، ثم حفظ المتون في مبادئ العلوم على والده العلامة
الجليل المتفنن الشيخ حسن البيطار وكان يحضر دروسه الخاصة والعامة، ثم في أول
رمضان سنة 1272 توفي والده رحمه الله فقرأ على شقيقه الأكبر الشيخ محمد
فقه أبي حنيفة النعمان، رضي الله عنه. وأخوه هذا كان أمين فتوى دمشق يوم كان
مفتيها العلامة الشهير محمود أفندي حمزة، وأخذ عن شقيقه الثاني العلامة الشيخ عبد
الغني علم القراءات، ثم لازم دروس العلامة المحقق الشيخ محمد الطنطاوي ، فأكمل
عليه العلوم العربية والشرعية، وتوسع في المعقول والمنقول، وأخذ عنه علم الميقات
والفلك والحساب، ثم صحب العارف بالله تعالى الأمير عبد القادر الجزائري فقرأ عليه
جملةً من كتب الحقائق، وأعظمها الفتوحات المكية.
***
صحبته للأمير عبد القادر
لازم فقيدنا المرحوم الأمير الملازمة التامة، وأخذ عنه الفصل بالعدل في
القضايا العامة، ولقد كان يَردِ على الأمير - قدس سره - كثير من الخصومات بين
الخلق، إذ كان هو المرجع للناس في دمشق، فكان يحولها إليه، ويحيل أصحابها
عليه، فيكون قوله الفصل بإجراء الحكم على سنة العدل، ولقد استفاد المرحوم
من أخلاق السيد وآدابه، حتى عد ثاني الأمير في حياته، وعهد إليه بتربية أولاده
وتعليمهم، وكنت أسمع من أصدق أصدقاء المرحوم علامة الشام الثاني فقيد الإسلام
شيخنا الشيخ جمال الدين القاسمي رحمه الله أن أدب الأستاذ أدب الملوك، قلت:
صدق رحمه الله ويعرف ذلك كل من جلس إليه وسمع حسن عبارته، ورأى
لطف إشارته.
***
صدعه بالحق وتأثير أفكاره
كان عصر المرحوم الذي تلقى فيه دروسه الشرعية عصر جمود على القديم،
وتلقي الأقوال بالتسليم من دون تمحيص للصحيح من السقيم، فاستمر فقيدنا على
طريقة معاصريه متأثرًا بها إلى ما بعد الخمسين، ولقد سمعته في منزله يقول
لعلامة العراق السيد محمود شكري الآلوسي لما كان نزيل دمشق سنة 1333، وقد
جاء ذكر أحد أئمة الإسلام العظام: كنا أيام التحصيل عند شيوخنا إذا ذكر مثل هذا
الإمام نظنه رجلاً خارجًا عن دائرة الإسلام. ثم ألهمه الله - تعالى - الأخذ من الكتاب
والسنة، وعدم قبول رأي أحد من دون حجة، كما كان على ذلك السلف الأمة،
وكما أوصى جميع الأئمة رضي الله عنهم بعدم الأخذ بقولهم إلا بعد معرفة
دليلهم، فصار يأخذ الأحكام والدلائل، ويقبل قول الحق من أي قائل، ويصدع به
ولا يخاف في الله لومة لائم. فإن كان العلم الصحيح أخذ المسائل بأدلتها - كما
يقولون - فهو في بلاد الشام من أول العلماء بلا شبهة ولا مراء، لأنه أول من أخذ
بالدليل وجاهد في هذا السبيل، ورفع فوق رءوس أهل الحق راية السنة والتنزيل.
وكان رحمه الله تعالى - فصيح اللهجة، قوي الحجة، غزير المادة، وكان
لدى مناظريه البطل المغوار والبحر الزخار، لا يشق له غبار. وما ناظره أحد إلا
واعترف له بالسبق في هذا المضمار، وكان له مع صديقه المرحوم القاسمي
مساجلات علمية ومحاورات أدبية، تشف عن سعة علم وأدب جم.
وكان له في المسائل القريبة أساليب في الإقناع غريبة، فمنها أن بعضهم
زعم مرةً أنه يجب القيام، عند ذكر ولادة الرسول عليه الصلاة والسلام وجوبًا
بدعيًّا - تعظيمًا له صلى الله عليه وسلم وألف في ذلك رسالةً، وحملها للفقيد ليكتب
له عليها تقريظًا، فاعتذر إليه، فألح عليه، وأخيرًا قال له الأستاذ المرحوم: أنت
مقصودك من هذه الرسالة أنه إذا قيل ولد الرسول عليه الصلاة والسلام يجب القيام؟
قال: نعم، قال: والذي لا يقوم عند ذكر ولادته صلى الله عليه وسلم؟ قال:
يكون آثمًا لأنه ترك واجبًا، قال: أكلما قيل: ولد الرسول صلى الله عليه وسلم
يجب ذلك؟ قال: نعم، فعندئذ قال له الأستاذ: ها أنا ذا قد ذكرت لك ولادته صلى
الله عليه وسلم ثلاث مرات فلم لم تقم؟ فقال له: لأنه لا يوجد هنا الآن مولد،
فأجابه الأستاذ: أنت إذًا تقوم تعظيمًا لما اشتمل عليه المولد لا لمن ولد! فخجل ولم
يجب، ثم أرشده الأستاذ إلى أن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم الحقيقي باتباعه
في أقواله وأفعاله ونشر هدايته التي جاء بها عن ربه مشتملةً على سعادة خلقه.
***
خَلْقُهُ وخُلُقه
كان المرحوم طويل القامة جميل الطلعة والهيئة، جليل الهيئة والوقار، يكاد
سنا برق جماله وجلاله يذهب بالأبصار، كلامه السحر الحلال، وأدبه ألعب
بالعقول من الغيث في الحقول، أما رقة شمائله - رحمه الله تعالى - فلا أعلم له بها
نظيرًا في العلماء الأعلام من بني الإسلام، ولقد كان الأستاذ القاسمي رحمه الله
مولعًا بسمو أخلاقه، ومعجبًا بعظيم آدابه، وناهيك بذوق الجمال الذي كان معدن
اللطف والظرف، وقال لي مرةً بعض الأفاضل: ليت الأستاذ يكتب لنا رسالةً في
الأخلاق يستمليها من صفاته وآدابه فتكون أنفع ما كُتب في هذا الفن، ولقد قلت
مرةً لأستاذنا القاسمي - رحمه الله تعالى -: إني قد عرفت كثيرًا من العلماء،
وخالطتهم فلم أجد أكرم منكما أي هو والأستاذ الجد، رحمهما الله تعالى - عشرةً ولا
أرق عاطفةً، ولا أخف روحًا، ولا ألطف حديثًا، مع ما رزقتما من سعة العلم
والفضل، فأنا لا أريد أن أفارق مجلسكما ولو إلى النعيم، ولا أمل حديثكما ولو استمر
سنين، فقال لي: لهذا السر نحن لا نأنس بغيرنا كما نأنس ببعضنا ولا نسر إذا كنا
منفردين.
وقال لي مرةً رب السيف والقلم الأمير محيي الدين باشا الجزائري نجل الأمير
عبد القادر - رحمهما الله تعالى - ما معناه: إن للمرحوم أدبًا ممتازًا وكلامًا جذابًا
أكسبه ثقة الأمراء ومحبة العظماء، ونزل من نفوسهم منزلةً رفيعةً لا يدانيه فيها أحد
من العلماء.
وكان - رحمه الله تعالى - يراعي في مجلسه الطبقات، ويعطي كل إنسان
نصيبه من الالتفات. ومن عجيب أمره - قدس الله روحه - أنه كان يجلس إليه
العالم والكاتب والشاعر والزارع والصانع، والتاجر في مجلس واحد فيتبادل الأفكار
والآراء مع كل واحد منهم بعلمه، ويفيده به الفوائد الجمة حتى يخرج الكل من عنده
فرحين مسرورين.
وكان - رحمه الله تعالى - واسع الصدر جدًّا، كريمًا مضيافًا، يغضب للحق
ولا يغضب لنفسه أبدًا، وكان يتحمل من الناس فوق ما يتحمل، ومن سعة صدره
وشدة تحمله أنه مهما اشتد به الغضب لمسألة ما فلا يبدو شيء على أسارير وجهه.
والحاصل أنه ليس في وسعي أن أحيط بمكارم أخلاقه، وحسبي أن أقول: إنه
كان بها قدوةً، وكان مصداق قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21) .
***
صحبة عالم الشام له وثناؤه في درسه عليه
وما كتبه عنه في حادثة سنة 24
كان أشد الناس صحبةً للمرحوم وملازمةً له صديقه الأبر الشيخ جمال الدين
القاسمي، فهو صاحبه ومريده العظيم الذي كان له معه أدب الولد البار مع أبيه،
قرأ عليه رسالةً في الفلك، وكان ينسخها دروسًا بخطه، ويكتب على هامشها تقرير
الأستاذ بنصه، ولقد حضرت على المرحوم القاسمي مع تلاميذه دروسه في بيته
وجامعه ومدرسته نحو ثلاث سنوات، فندر جدًّا أن يمر يوم يذكر لنا فيه الأستاذ
المرحوم إلا ويقرر لنا فيه عظمته، أو يطرفنا بنادرة مما اتفق له معه أو مع غيره،
وإذا ذكره في الدرس فيذكره دائما بلفظ شيخنا، وكان يعده عالم الشام، وأذكر أنَّا
كنا مرةً نقرأ عليه في فن البيان (باب القصر) فقال في مثال قصر الصفة على
الموصوف قصرًا ادعائيًّا: لا عالم إلا الشيخ عبد الرزاق البيطار، قال: مع أنه
يوجد غيره ممن يسمون بالعلماء، ولكن مع حشو وجمود فلا يعتد بعلمهم.
وأخبرني عم والدي المفضال شقيق المترجَم سيدي الشيخ محمد سليم البيطار
بأنهم لما كانوا في مصر سنة 21 كان مفتي الديار المصرية الأستاذ الإمام - رحمه
الله تعالى - يجل الأستاذ المرحوم كثيرًا، ولا يتقدمه أبدًا، حتى ظن بعض أفاضل
العلماء في مصر بأن الأستاذ الإمام قد تلقى العلم عن المرحوم أيام كان في بلاد الشام.
وإليك ما كتب عنه الأستاذ القاسمي بخطه في حادثة سنة 24 التي جرت
للمترجم مع بعض العلماء بشأن قبور الأنبياء والأولياء بتزوير بعض السفهاء، قال:
إن الشيخ عبد الرزاق البيطار - ذاك العالم الجليل - ممن اشتهر بالإنكار على أرباب
الخرافات، وممن يقاوم بلسانه وبراهينه تلك الخزعبلات، فإنه ممن لا تأخذه في
إبانة الحق لومة لائم، ولا يصده عتب عاتب، ولا قومة قائم، وله صدع بالحق
عجيب، وعدم محاباة ومداراة، وكل ما يروى من حكايات (المتمفقرين) فإنه يزنه
بميزان العقل، فإن أباه رده جهارًا وقابل قائله بالصد إنكارًا، وطالما صرح
بالسخرية ممن ينادي من يعتقد فيه العامة من الأموات، ويستشفع به في قضاء
الحاجات، ويعرفهم ما قاله السلف في هذا الباب من أنه أمر ما أذن الله به، إذ أمر
بدعائه وحده! فدعاء غيره مما لا يرضاه، كما صرح به في غير آية من كريم
الكتاب، وقصده ترقية العامة عن نداء أحد إلا الله، وتعليق القلب بالخالق تبارك
وتعالى. انتهى.
***
صبره واحتسابه
مر على فقيدنا المرحوم - كما مر على فطاحل الرجال وأساطين العلم
والحكمة قديمًا وحديثًا - كثير من المصائب والفتن، فكان بها مثالاً للصبر والثبات،
وإنما كانت تدار تلك التدابير السيئة بيد بعض المدلسين والمفسدين، ومن لا خلاق لهم
من الجامدين، وإليك بعضها:
اتهم بتأسيس مذهب جديد، وبتسليم سورية لنجد ، ومصر للإنكليز، وذلك سنة
24 وكان مما قاله لوالي سورية إذ ذاك (هو شكري باشا ، وكان رجلاً عاقلاً جدًّا) :
هل سورية ومصر - يا حضرة الوالي - تُفاحتان في جيبي حتى أسلمهما؟ ثم إن كان
في إمكاني أن أتصرف بهما وأسلمهما لغيري فلم لا أبقيهما لنفسي؟ ووراء ذلك فإن
كان يتيسر لمثلي تسليمهما فرجل أقدر مني يسلم البلاد العثمانية كلها للأجانب، وأين
الحكومة وقوتها؟ فخجل الوالي وقال: أنا أعلم أن هذه وشايات وأراجيف لا أصل
لها، ولكني دعوتك عندي من أجل أن آنس بك، وأفطر هذا المساء معك وكان ذلك
في رمضان سنة 24.
وفتشت كتبه وداره مرات متوقعين أن يعثروا عنده على بعض أوراق سياسية
أومخابرات سرية فيسجنوه أو ينفوه، ولكن طاش سهمهم فإن الأستاذ رحمه الله
لم يشتغل بالأمور السياسية ، ولم تكن كتب العلم تنزل عن يده إلا لحاجة ضرورية.
***
زهده في الوظائف وبعده عنها وخدمته للعلم
كان المرحوم بعيدًا عن التربع في المناصب، والاغترار بالمظهر الكاذب،
ولقد عرض عليه - إذ كان في الآستانة سنة 14 - من قِبل المشيخة الإسلامية
الإفتاء أو القضاء في مدينة من أمهات المدن السورية، فرفض كل وظيفة غير
خدمة العلم الصحيح، ونشره في طبقات الأمة بالتعليم والإرشاد والتصنيف، ولكن
تأثيره - كما قال عالم الشام جمال الدين - أكبر من أثره، كحكيم الإسلام جمال
الدين.
وكان - رحمه الله تعالى - يلقي دروسه العامة في جامع كريم الدين الشهير
بالدقاق في محلة الميدان، ودروسه الخاصة في حجرته من ذلك الجامع، وفي بيته
أيضًا، وقد انتفع به كثير من الطلاب، وحضرت عليه في دروسه العامة والخاصة
طائفةً من كتب التفسير والحديث والفقه، عدا دروسي الخاصة التي كنت أقرأها
عليه على انفراد، وبعد أن وقع الانقلاب سنة 26، وأصبحت الحكومة دستورية
شوروية، ثم بويع السلطان محمد الخامس بعد خلع عبد الحميد، انتخبته دمشق مع
بعض رجالها لمبايعة السلطان محمد، ولتقديم واجبات التهاني والتبريك له، فكتبت
عنه في ذلك جرائد العاصمة التركية، ما رددت صداه الجرائد العربية السورية، ثم
ملأت هذه أعمدتها من آيات الشرف والافتخار، برجوع شيخ الديار الشامية إلى
الديار.
***
تآليفه
أما تآليفه فتبلغ بضعة عشر كتابًا، بعضها ديني، وأكثرها أدبي، وأكبرها
تاريخه في رجال القرن الثالث عشر ذكر فيه المشاهير وغيرهم، وكان أذن لي في
اختصاره، وتآليفه الدينية منها: المنة في العمل بالكتاب والسنة، والمباحث الغرر
في حكم الصور، واللمعة في الاقتداء حال التشهد من صلاة الجمعة، وشرح العقيدة
الإسلامية للعلامة محمود أفندي حمزة مفتي دمشق.
أما رسائله وقصائده ومكاتيبه العلمية والأدبية فتبلغ لو جُمعت مئات الأوراق،
ونسأل المولى أن ييسر سبيل الجمع وتقديم الأهم منها للطبع بمنه وكرمه.
***
نبذة من كلامه رحمه الله
نختم هذه الترجمة بإيراد نبذة يسيرة من كلامه ليقف منها القارئ على مشربه
في الحديث، وتمييزه الصحيح من الضعيف، ونقده لكلام المؤلفين، على عادة
العلماء المحققين قال رضي الله عنه في رسالته (المباحث الغرر في حكم
الصور) التي حررها في جواب سؤال ورد من أحد علماء الهند، باختصار: ولا
التفات لما نسب للفاضل أبي الوليد محمد بن عبد الكريم المعروف بالأزرقي -
رحمه الله المتوفى كما في كشف الظنون سنة 227 من أنه قال في تاريخه
الموجود الآن في المكتبة العمومية في دمشق المحمية، الذي ألفه في خصوص
البيت الحرام، فقال في مناسبة بناء قريش الكعبة ما نصه ، مع بعض اختصار
وتصرف:
وجعلوا في دعائمها صور الأنبياء وصور الأشجار وصور الملائكة، فكان
منها صورة إبراهيم خليل الرحمن شيخًا يستقسم بالأزلام، وصورة عيسى ابن مريم ،
وأمه، فلما كان يوم الفتح دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت فأرسل
الفضل بن العباس بن عبد المطلب فجاء بماء من زمزم ثم أمر بثوب فبُل بالماء،
وأمر بطمس تلك الصور فطمست، قال: ووضع كفيه على صورة عيسى ابن
مريم وأمه وقال: امحوا جميع الصور إلا ما تحت يدي، ورفع يده عن عيسى وأمه،
ونظر إلى صورة إبراهيم عليه السلام فقال: قاتلهم الله، جعلوه يستقسم
بالأزلام؟! ما لإبراهيم وللأزلام. انتهى.
ثم ساق الأزرقي هذه القصة بأسانيد عديدة مضطربة المتن، ولذلك قال
الأستاذ رحمه الله: أقول: هذا الحديث الذي ذكره بصور متعددة وألفاظ
متقاربة من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمحو الصور إلا ما كان من صورة
عيسى ومريم - لم يذكره أحد من المحدثين ولا من المفسرين، ولا من أهل السير،
ولا ممن ألفوا المؤلفات في تاريخ بيت الله الحرام أو غيره، لا من كان قبله، ولا
ممن عاصره، ولا ممن كان بعده (إلى أن قال) : فإن عامة أهل الشرع من الفقهاء
والمحدثين على خلاف ذلك، ولو كان ذلك له أصل لوجب عليهم استثناء صورة
مريم وعيسى من عموم التحريم؛ لأن الإطلاق في مقام التقييد خطأ كالعكس (ثم قال)
ويلزم على تسليمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تناقض كلامه واختلفت
في هذه المسألة أحكامه، فتارةً يعمم الأمر في محو الصور، وتارةً يستثني عيسى
وأمه بمقتضى هذا الخبر، وتارةً يقتضي أنه ما دخل حتى محيت الصور كلها،
وتارةً أنه دخل قبل محو شيء منها، مع أن هذا الأمر بعيد جدًّا بل باطل، لا يعول
عليه إلا قاصر أو جاهل، فلم يبق إلا أن ذلك مدسوس عليه، ومنسوب كذبًا
وزورًا وبهتانًا إليه، وقد تجاسر كثير من الناس من قديم وحديث على ذكر جمل
من الكلام، وسموها بالحديث، وأدخلوها في عبارة الكتب وظنوا أنها فضيلةً مع
أنها - وإن كانت في الترغيب والترهيب - رذيلة، وأي رذيلة!! وكذلك دسوا
بعض عبارات على كثير من الأفاضل والسادات، فحينئذ لا يلتفت إلى هذه العبارة
التي دسها في كلامه بعض أهل الغواية، ممن له بها حاجة وغاية، ولم يخش من
الكذب على النبي المختار، ولا أفزعه قوله صلى الله عليه وسلم (من كذب علي
متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) وظن أنه يروج المحال وأنه ليس في السويداء رجال،
مع أن الشريعة محفوظة، وبعين العناية ملحوظة، فما أدخل قائل قولاً باطلاً إلا ورُدَّ
عليه، ولا دس بها جاهل منكَرًا إلا وسهام التكذيب قد توجهت إليه. وكل ما أجاب به
بعض الناس عنها مع تسليم نسبتها لهذا الإمام، فإنه يريد النقض لا الإبرام، ومن كان
عنده جواب لائق، ولما ذكره أهل الشرع موافق، فليتكرم بإلحاقه في هذا المكان،
ومولاه يعامله بجزيل الفضل والإحسان. اهـ.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
دمشق
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... (الحفيد)
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... محمد بهجة البيطار
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الشيخ محمد كامل الرافعي
(3)
حبه للمنار وإيذاؤه فيه
قلنا: إن المودة بيننا وبين الفقيد كانت موروثةً ثم قويت بما كان بيننا من
المشاكلة في حب العلم والتصوف، ثم ازدادت قوةً بتصدينا للأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر، ثم بالدعوة إلى الإصلاح الديني والاجتماعي في طرابلس الشام، حيث
كان رحمه الله وأحسن مثوبته - أقوى المدافعين والأنصار، فلما أنشأنا المنار
وتصدت الحكومة الحميدية لمقاومته وإيذاء قرائه بدسائس بعض المقربين من السطان
- كان هو أقوى الثابتين على الانتصار له والمجاهرين بولاء صاحبه.
منعت الحكومة الحميدية إدخال المنار إلى ممالكها منذ سنته الأولى بإرادة
سلطانية، فكان يرسَل في البُرُد الأجنبية ويقرأه الناس في زوايا بيوتهم سرًّا منفردين
ثم يخفون نسخه في المخابئ، وكان هو وحده يقرأه على من يسمر معه في حجرة
الضيوف والسمار ويحمله في جيبه إلى دار الحكومة، ويضعه في درج مكتبه
لينظر فيه عند سنوح فرصة فترات العمل، فلما اشتد الضغط والإيذاء لقرائه
وفتشت بيوت المتهمين بقراءته كان نصيبه من الجزاء أن حبس في دار الحكومة
مع بعض إخواننا، فصبر على هذه المحنة صبر الكرام، ولم يداهن الحكومة
الظالمة بقول ولا فعل.
وقد سيم قبل ذلك أن يرد على المنار، أو ينكر على صاحبه مسلكه في شرح
خرافات أهل الطريق ومفاسد الظلمة وتقصير العلماء فيما يجب عليهم من الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، فأبى مصرحًا بأن هذا الذي يقوله المنار هو الحق وأنه
أدى به النصيحة التي هي روح الدين وقوامه، وأوعز بمثل هذا الرد إلى كثير ممن
يرون رأيه في المنار وصاحبه، ومنهم من يدعي صحبته ومودته فسمعوا وأطاعوا،
وكانت جريدة طرابلس ميدانًا واسعًا لجولان أقلامهم، وكل منهم يعتذر لمثل الفقيد من
إخواننا الصادقين بأنه مُكره لا مختار يخشى إيذاء رئيس زبانية الجلاوزة، وغضب
المتصرف، فإن أمن شرهما في نفسه وماله وشرفه لمكانة له في بلده فلا يأمن من شر
المحرك لهما من ضفاف البسفور، ومنهم من زعم أنما كُتب عن لسانه في تلك الجريدة
كذب وأنه لا يجرؤ على التكذيب.
وكان في جميع الأوقات والأحوال راضيًا عن جميع مباحث المنار وآرائه
الدينية والأدبية والاجتماعية والسياسية مؤيدًا له فيها مناضلاً كل ما يسمعه من نقد أو
اعتراض عليها، وكان يرجح ما يحققه المنار من قواعد العقائد ومشكلات الفقه
ومسائل التصوف على جميع ما خالفه من أقوال المتقدمين والمتأخرين، وإن عظمت
شهرتهم وضخمت ألقابهم.
ولما جئت طرابلس عقب إعلان الدستور العثماني بذل منتهى طاقته واجتهاده
في الحفاوة بي، وكانت مدة إقامتي في داره أضعاف مدة إقامتي في دار أمي وأبي،
وكان يتفنن لي كل يوم باختيار أطايب الطعام، وأنواع الحلوى، وأصناف الفاكهة،
لتجديد الرغبة فيها، وإثارة الشهوة لها، وأمن الملل من المتكرر منها، وكان فوق
ذلك كله يغتنم فرص خلو المكان من الزائرين - وقلما كان يتفق ذلك إلا عند المنام
وبعد صلاة الفجر - فيطرح علي مشكلات المسائل العلمية التي تعرض له في
مطالعته لأشهر الكتب، وغير ذلك مما يفكر فيه من الأمور السياسية تارةً والروحية
أخرى.
إنني لم أعرف أحدًا من الناس أشد من هذا الرجل حرصًا على العلم، وحبًّا
للحق، وإخلاصًا في القلب، وصفاءً في النفس، وبعدًا عن الهوى، وبغضًا
للدعوى، وسلامةً من الشكوى، فهو على مخاللته إياي، ومكاشفته لي بكل ما
يجول في ذهنه، ويعلق بقلبه لم أره في يوم من الأيام شكا إليّ بغض أحد له، أو
بغضه لأحد إلا ما كان يؤلمه من غفلة الناس وإعراضهم عن الحق، وعدم قبولهم
دعوة الإصلاح؛ حبًّا فيهم وحرصًا على هدايتهم. فمن كان متحليًا بهذه الصفات لا
يستغرب منه الرغبة المخلصة في الاستفادة من كل من يراه أهلاً للإفادة العامة أو
الخاصة، وإن كان يفضله في كل ما عدا ما يستفيده منه، فكيف يكثر منه طلب
الفائدة بمنتهى الصفاء والإخلاص ممن غرس في قلبه حسن الاعتقاد فيه من أول
نشأته، ولم يزل ذلك الغرس ينمى ويترعرع حتى صار شجرةً عظيمةً ثابة الأصل
سامية الفرع يانعة الثمر الذي هو أحب الثمار إليه وإن كرهه من يخالفه في ذوقه
ولم يتح له مثل عنقوده.
كتبت هذا، وأنا في خجل من كتابته حتى كاد يصدني عنه، وما كان أشد
تريثي في المضي فيه ولولا النية الصالحة في كتابته لما غلبت خجلي بقوة الإرادة
التي يغلب بها الرجل كل ما يتعارض فيه الشعور النفسي والمصلحة الراجحة،
وإنني لأشد خجلاً من تنفيذ شيء آخر يتعلق بترجمة هذا الرجل الكامل مما يقتضيه
تاريخ الإصلاح ورجاله، وهو نشر مقال من مكتوباته إلي، وسأراجع طائفةً منها،
ثم أرى هل يمنعني الخجل مما فيها من الإطراء عن نشرها أم لا.
وجملة القول في الفقيد أنه لا يختلف أحد ممن يعرفه في أنه أفضل أسوة في
الخير، وأكمل مثال في هذا العصر للفضيلة، فهو من شهداء الحق على الخلق،
وقد حدث بفقده فراغ لا يملأه ألوف الرجال، فنسأله تعالى أن يحشرنا وإياه مع الذين
أنعم عليهم من النبيين والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
_________
الكاتب: صالح مخلص رضا
تقريظ المطبوعات الجديدة [*]
(أصل العالم)
مباحث فلسفية في الجغرافية الطبيعية، صفحاته 35 بالقطع المتوسط، طبع
في مطبعة الفنون الجميلة سنة 1916 على نفقة إدارة مجلة الرشديات، على ورق
كورق الصحف السيارة.
اسم الكتاب يدل على موضوعه وعلو كعب مؤلفه الأستاذ الشيخ طنطاوي
جوهري في الأبحاث الفلسفية وينوه بمكانه، وسبب تأليفه أن الشيخ عبد العظيم فهمي
الضرير الطالب بالجامع الأحمدي سأل المؤلف أسئلةً كانت لديه مشكلة وذلك بعد أن
قرأ شيئًا من مؤلفات الأستاذ الجوهري فأجابه بما أدى إلى مباحث:
1-
كروية الأرض.
2-
ما وراء الطبيعة.
3-
تكوين العالم.
4-
مخاطبة لطالب العلم وفيها حال الإنسان الأولى.
5-
الحالة الثانية.
6-
الحالة الثالثة، وكلها في أصل الموجودات.
***
(الولاء في نقد ذكرى أبي العلاء)
صفحاته 71، طُبع في مطبعة المعاهد بمصر سنة 1335 طبعًا متقنًا على ورق
جيد.
وضعه الكاتب المحقق حسن أفندي حسين انتقادًا على كتاب (ذكرى أبي العلاء)
للدكتور طه حسين، وذكر في المقدمة الأسباب التي حدت به إلى وضع هذا الكتاب
فقال: إن منها (أن الكتاب - ذكرى أبي العلاء - خاص في موضوعه، وأن
الدكتور هو الذي عني بإخراجه ودعا الجمهور لمناقشته، وأعلن أنه على استعداد
للذود عن أثره) إلخ، وقد قسم النقد إلى قسمين: نقد من حيث الموضوع، ونقد
من حيث اللغة، ومع التزام النزاهة قال في الخاتمة: (قد استعرنا من تعبيرات الشيخ
طه أكرمها فخاطبناه باللسان الذي كان يخاطب به المنفلوطي ، وجعلنا هذه الجمل
بين هاتين العلامتين (-. و -.) لنحفظ له حقه في ذلك، وليعلم القارئ أنا آدب
من أن نستعين بالسباب، ولكن بضاعة الشيخ طه رُدت إليه) والكتاب ثمين غني
بمباحثه على قصره، جدير بمن اطلع على كتاب (ذكرى أبي العلاء) أن يطلع عليه
بل ومن لم يطلع على ذلك الكتاب أن يقرأه، ويطلب من ناشره حسين أفندي مصطفى
بشارع شواربي باشا رقم 3 بالقاهرة ، ومن المكاتب الشهيرة بمصر.
***
(تاريخ الأتراك العثمانيين)
الأول والثاني والثالث طبع بمطبعة الواعظ بمصر سنة 1335 وصفحات
الأول 70 والثاني 144 والثالث 80.
هذا الكتاب مجموعة محاضرات حسين أفندي لبيب أستاذ التاريخ بمدرسة
القضاء الشرعي بمصر نقله عن الإنكليزية، ونكتفي في تقريظه بإيراد مقدمته،
وهي باختصار:
(وبعد، فهذه أبحاث مستفيضة في تاريخ الأتراك العثمانيين استخرجناها من
أمهات تواريخ الأوربيين، وعمدة مؤلفات المستشرقين مما لم يتيسر نشره قبل الآن
بين جمهور المتعلمين، وقد عجلنا بطبعها هذه الطبعة المؤقتة استنجازًا لفائدة
الطلاب والمدرسين، حتى إذا وضعت الحرب أوزارها أعدنا طبعها على أسلوب
جميل وورق نبيل بحرف صقيل، ثم زدناها بالتعليقات والشروح فائدةً،
وأضفنا إليها ما يكون قد توفر لدينا من الفصول الشيقة والموضوعات الممتعة،
وحليناها بالصور، وزدناها من الخرط.
ويرى المطلع على هذه الفصول أننا عنينا بنقل وصف حضارة العثمانيين،
ولم نقصر البحث على تراجم السلاطين، وذكرنا من أحوال عامتهم في السلم بقدر
ما عنينا بشرح أعمال خاصتهم في السياسة والحرب، بحيث يجمع هذا الكتاب بين
دفتيه صورةً كاملةً لنشأة الأمة العثمانية ونموها، وتدرجها في سبيل الارتقاء، ثم
سقوطها.
وقد جعلنا عملنا هذا في ثلاثة أجزاء قصرنا الأول والثاني منها على التاريخ
السياسي والاجتماعي إلى القرن التاسع عشر الميلادي، وجعلنا الجزء الثالث وقفًا
على تاريخ اللغة التركية وأدبائها وشعرائها، ووصف الحكومة العثمانية في سائر
أدوارها، ومدينة القسطنطينية والسراي السلطانية في غابر عزها، وسالف مجدها،
ثم أردفنا ذلك بوصف ما طرأ على العثمانيين في الأعصار الحديثة من الانقلابات
الدستورية، والتطورات الأدبية والسياسية مما أدى بهم إلى أليم حوادث الأيام الحالية.
هذا وإننا قصدنا أن لا نستقل برأي، ولم نختر الميل إلى جانب بل كنا
وسطاء صدق، وسفراء حق بين مؤلفي الكتب الأوربية وقراء اللغة الشريفة
العربية) .
***
(الآباء والبنون)
قصة تمثيلية ذات أربعة فصول صفحاتها 115 بالقطع الكبير طبعتها شركة
الفنون في نيويورك سنة 1917.
هذه الرواية جديرة بالاحتذاء إن لم نقل بالاقتداء؛ لأنها مثلت حالةً من حالاتنا
وعادةً راسخةً فينا، وهي من وضع مخائيل أفندي نعيمة المؤلف البارع، أوضح فيها
كيف يتطرق إلى البيوت الفساد من حيث يراد الإصلاح، وقد أودع في كثير من
فصولها الكلم والجمل العامية - لتكون تمثيلاً حقيقيًّا، وتصويرًا شمسيًّا للأخلاق
والعادات، وإنني أحب أن أسر إلى المؤلف بكلمة، وهي أن تكرار نشر الروايات
والقصص باللغة الفصحى، أو الفصيحة القريبة من لغة العامة - إذ إن معظم كلم
العامة فصيح خصوصًا في بلادنا السورية - بين العموم يقوّم من لغة العامة،
ويقربها من الفصيح، ويسهل فهم ما يلقى إليها من المواضيع المتنوعة، فإنا كثيرًا
ما نسمع الأطفال في مصر والشام يتغنون بما يسمعونه في المراسح فاهمين ما
يقولون، ولأن نرفع العامية إلى مستوى الفصحى خير من أن ننزل بالفصحى إلى
حضيض العامية، وأرجو منه أن يعيد الكرة على ذنب الساق على الساق للنابغة
أحمد فارس الشدياق.
***
(تاريخ الفلسفة)
في المنطق وما بعد الطبيعة طبع الطبعة الأولى بالمطبعة المصرية سنة
1918 على ورق جيد صفحاته 228 بقطع المنار وحرف بنط 20.
وضعه بالإنكليزية صديقنا محمد بك بدر العضو بالمجمع العلمي بأدنبرج،
ومحرر دائرة المعارف الإسلامية بلندن، الحائز شهادة الشرف من الدرجة الأولى
في الفلسفة العامة والفلسفة الإسلامية وتاريخ المذاهب الفلسفية، وتاريخ العرب
في الأندلس ، والتاريخ السياسي للإسلام، وتاريخ الآداب الإسلامية من جامعة بن
بألمانية، وكاتم أسرار لجنة الوفد المصري، ونقله إلى العربية حسن أفندي حسين
وصدره بمقدمة له. ثمنه خمسون قرشًا، ويطلب من مكتبة المنار بمصر.
***
(ديوان عبد الله بن الدمينة)
طبع في مطبعة المنار سنة 1337 طبعًا جيدًا صفحاته 59 بقطع المنار
وحروفه، مطرز الحواشي، بشرح كثير من الكلم اللغوية، مصححًا على النسخة
الشنقيطية.
أبرز هذا الديوان من ثنايا الكتب المدفونة، وأطلعه من أصداف الجواهر
المكنونة كل من صديقنا السيد محمد الهاشمي البغدادي، وولدنا محيي الدين رضا
فخدما بذلك الأدب والتاريخ؛ لأن من حاجة المتأدب أن يطلع على شعر عبد الله بن
الدمينة الذي نظمه في زهو اللغة العربية، وإبان المدنية الإسلامية لا سيما وأن
شعره يكاد يكون في موضوع واحد هو الغزل أو النسيب، ومن بغية وعاة تاريخ
آداب اللغة العربية أن يقرءوا هذا الديوان ليتجلى لهم تطور اللغة، وليروا عيث
الوراقين وعبث القصاصين ببنات قرائح الأدباء الأولين، فإن من يطلع على
قصة (مجنون ليلى) وعلى هذا الديوان يرى أن كثيرًا من غرر أبياته قد نسب
إلى ذلك المجنون، فمن ذلك قوله في القصيدة الأولى (أنين المحب) :
أحقًّا عباد الله أن لستُ صادرًا
…
ولا واردًا إلا علي رقيب
وقوله منها:
وهل ريبة في أن تحن نجيبة
…
إلى إلفها أو أن يحن نجيب
وقوله منها:
وإني لا أستحييك حتى كأنما
…
علي بظهر الغيب منك رقيب
إلى غير ذلك مما يطول إيراده، فهل تواردت هذه المعاني على خاطرَيْ ابن
الدمينة والمجنون العامري؟ أم لا مجنون بخصوصه بل مجانين الحب كثير في
كل عصر وقبيل، ومنهم ابن الدمينة؟ ومما ينسب إلى ليلى في قصة المجنون قول
أميمة في هذا الديوان أثناء عتاب وحوار قولها:
وأنت الذي أخلفتني وعدتني
…
وأشمتَّ بي من كان فيك يلوم
وأبرزتني للناس ثم تركتني
…
لهم غرضًا أُرمى وأنت سليم
فلو أن قولاً يكلم الجسد! قد بدا
…
بجسمي من قول الوشاة كلوم
والديوان يطلب من مكتبة المنار ، وثمنه 5 قروش والبريد قرش.
***
(المواكب)
نظرات شاعر ومصور في الأيام والليالي، طبع في مطبعة (مرآة الغرب)
في نيويورك سنة 1919 طبعًا جيدًا على ورق في غاية الجودة صفحاته 48.
الكتاب من مؤلفات جبران خليل جبران الشاعر الخيالي المطبوع، والمصور
البارع الشهير، وهو قصيدة أبياتها 81 بيتًا من البسيط يقابل كل قطعة في الوضع
ستة أبيات من قصيدة من مجزوء الرمل، لكل أربعة أبيات منها قافية، وللبيتان
اللذان يليان الأربعة قافية أخرى، وفصل بينهما بصورة متقنة ترمز إلى الموضوع
في ثنتي عشرة من هذه المواكب التي هي سبعة عشرة محاورةً، قد ختم القصيدة
الثانية بعشرين بيتًا جعلها خاتمةً لها، لكل بيتان منها قافية.
ثم إن القصيدة تنطق بلسان واعظ محنك قد خبر الأيام وعجم عود الزمان
وحلب الدهر أشطره، وكلف بصرف الدهر فقام يعظ بما ينفثه من الحِكم مبينًا
أسرار الحياة، والقصيدة الثانية هي رد ناشئ في ريعان الشباب ألف المعيشة
الخلوية في غاب الحياة (الطبيعة) حيث السذاجة والهدوء، مصطحبًا الناي داعيًا
إلى هجر ضوضاء المجتمع، والخلود إلى عيشته الراضية الهادئة البعيدة من مفاسد
المدنية، وأضاليل السياسة، وخرافات المذاهب وبدعها، وهاك أنموذجًا منها، قال
الشيخ الفيلسوف - المحاورة، أو القطعة الرابعة عشرة صفحة 40 في الروح:
وغاية الروح على الروح قد خفيت
…
فلا المظاهر تبديها ولا الصور
فذا يقول هي الأرواح إن بلغت
…
حب الكمال تلاشت وانقضى الخبر
كأنما هي أثمار إذ نضجت
…
ومرت الريح يومًا عافها الشجر
وذا يقول هي الأجسام إن هجعت
…
لم يبق في الروح تهويم ولا سمر
كأنما هي ظل في الغدير إذا
…
تعكر الماء ولت وامّحى الأثر
ضل الجميع فلا الذرات في جسد
…
تثوي ولا هي في الأرواح مختصر
فما طوت شمال أذيال عاقلة
…
إلا ومر بها الشرقي فتنتشر
وقد وضع نسيب عريضة الكاتب المتقن مقدمةً لهذا المؤلف كانت كالمفتاح
لمقالة الشاعر جبران خليل جبران، وما كل من قدم مقدمةً كالنسيب، وما كل كتاب
كالمواكب، فإذا قلت: إن جبران خليل جبران هو معري هذا الزمان، فأرجو أن لا
أكون مجازفًا.
***
(الساق على الساق في ما هو الفارياق)
أو أيام وشهور وأعوام في مجد العرب والأعجام، صفحاتة 422 بالقطع
الوسط خلا الخاتمة وجدول بيان المترادف المتجانس، وإهداء الكتاب، طبع ثانية
في مطبعة رمسيس بمصر على ورق أبيض جيد وورق عادي سنة 1919.
هذا الكتاب من أشهر مؤلفات النابغة العلامة اللغوي أحمد فارس ، وقد صدره
بهذين البيتين:
تأليف زيد وهند في زمانك ذا
…
أشهى إلى الناس من تأليف سفرين
ودرس ثورين قد شُدا إلى قرن
…
أقنى وأنفع من تدريس حبرين
وكان قد طبع في باريس سنة 1270 هـ، وجعل الفهرس في أوله، ثم
صورة إهداء الكتاب، ثم التنبيه من المؤلف قال فيه بعد الحمدله: (وبعد، فإن
جميع ما أودعته في هذا الكتاب فإنما هو مبني على أمرين، أحدهما (إيراد غرائب
اللغة ونوادرها) إلخ، (والأمر الثاني ذكر محاسن النساء ومذامهن إلخ) وفي
هذا يقول في الفاتحة:
غيري من الوصاف في ذا صنفوا
…
لكنهم لم يحسنوا التصنيفا
إذ كان ما قالوه مبتذلاً ولم
…
يتقص منهم واصف موصوفا
لكن كتابي - أو أنا- بخلاف ذا
…
نكفي الجفي الحسد والتعريفا
لا عيب فينا غير أنك ترى
…
صنوًا لنا في فننا وحريفا
ثم مقدمة مفيدة لناشر الكتاب رافائيل كحلا [1] ثم فاتحة الكتاب فالكتاب الأول
إلى الرابع، ثم بيان ما في الكتاب من الألفاظ المترادفة والمتجانسة وهو جدول
مفيد للكاتب والحاسب والطبيب والاجتماعي والمؤلف والمترجم، أو هو زبدة ما
يعني اللغوي، والأديب من هذا الكتاب ، ثم (ذنب الكتاب) ينتظم فيه أغلاط
مدرسي اللغات العربية في باريس، وكنت أود أن أثبت هنا مقدمة ناشره الأول
وإعذارًا لمؤلفه وناشره، وطابعه وقارئه ولكن منع من ذلك ضيق المقام، أو المكان.
(نفذت الطبعة الأولى، ولكن بعد نيف وستين سنة من طبعه، واشتد الطلب
عليه، ولكن عز المطلب فأقدم على طبعه يوسف أفندي توما البستاني ، وجعل أوله
فاتحة المؤلف، وحذف مقدمة ناشره، وما عدا ذلك وُضع بعد (الذنب) وإذا
كانت الطبعة الأولى لم تخل من أغلاط مطبعية مع أنها طبعت تحت إشراف
المصنف، وقد جعل لأكثرها جدول خطأ وصواب، وبقي البعض منها مثل ما في
الصفحة الثانية، والسطر الثالث في الذنب من غلطة في آية كريمة وهي خطأ وقل
ينسفها) وصوابها (فقل ينسفها) وتابعته الطبعة الثانية عليها، وهي في الصفحة
الأولى والسطرالـ 16 منها وكذلك كلمة (مبتهج) في ص 3 س 18 متبهج،
وصوابها (مبتهج) .
وترى في الطبعة الثانية شيئًا من هذا مثل ما في ص5 س 8 أجازك
والصواب أجارك وص 4 س 6 (الوفا) وصوابها (الفوفا) وص 29 س23
(الياء) وصوابها (الباء) وص 263 س 16 (يعتمرون) وصوابها (يعمرن) مما
لا يكاد يخلو منه كتاب.
ويحق لقراء العربية شكر ناشر هذا الكتاب بعد طيه فإنه من أمتع الكتب
العربية وأفيدها وأفكهها وأثبتها لكثير من عادات الشرقيين والأوربيين في مساكنهم
ومجالسهم ومدارسهم ومعابدهم وصلواتهم وخلواتهم وجلواتهم وهو أحسنهم، وقد
أنحى على الأكليروس باللائمة وخصوصًا الماروني منه، وسلقهم بلسان من حديد،
وانتقم لأخيه المعلم أسعد الشدياق ، ثم صار منتقدًا مطلقًا قصصيًّا مؤرخًا، ولم يدع
سيداته النساء من لذعات قلمه، والحاصل أن المؤلف لم يكن يجهل أن زمنه كان مما
يصعب فيه نشر الكتاب ولذلك قال في فاتحته:
وحياة رأسك إن رأسي عالم
…
أني به لن أستفيد رغيفا
لكن بقرني حكة هاجت على
…
أني أحاول مرة تأليفا
فصلته لكن على عقلي فما
…
مقياس عقلك كان لي معروفا
ما راج من قولي فخذوه وما تجد
…
من زائف فاتركه لي ملفوفا
لا ترفسن ما سَرّ منه لأجل ما
…
قد ساء بل لا توله تأفيفا
حاشاك أن تقضي علي تهافتا
…
من قبل أن تتحقق التوقيفا
فتقول قد كفر المصنف فاحشدوا
…
يا قوم صاحبكم أتى تجديفا
فتهيج أرباب الكنائس هيجةً
…
شؤمى فيخترطوا عليه سيوفًا
ولكن الزمن قد تحول وتغيرت الأفكار، وكثر من يرغب بهذا المؤلف
النفيس حتى من أرباب الكنائس، وقام من الطائفة المارونية من طبعه وعني بنشره،
وثمن النسخة منه 60 قرشًا من الورق العادي، و80 قرشًا من الورق الجيد،
وأجرة البريد خمسة قروش، ويطلب من مكتبة العرب، ومكتبة المنار بمصر.
***
(تقرير لجنة التعليم الأولى)
ومشروع القانون المختص بتسهيل وسائل التعليم، طبع بالمطبعة الأميرية
بالقاهرة سنة 1919 صفحاته 129 بالقطع المتوسط فيه 130 فقرة، ثم مواد
القانون ثنتان وعشرون مادةً مصدر بتقرير وزارة المعارف بتشكيل اللجنة.
وضعت هذا التقرير لجنة مؤلفة من أصحاب السعادة: إسماعيل حسنين باشا
رئيس، والأعضاء: علي جمال الدين باشا مدير الشرقية، ومحمد علام باشا مدير
أسيوط، والمستر باترسن مدير عموم الحسابات المصرية بوزارة المالية، والدكتور
بتس مدير قلم البلديات، والمجالس المحلية بوزارة الداخلية، والمستر مكلين كبير
مهندسي قسم البلديات والمجالس المحلية بوزارة الداخلية، والمستر بروان مراقب
القسم الإداري بوازارة المعارف، ومحمد علي المغربي بك مراقب التعليم الأولي
بوزارة المعارف، ومحمد عاطف بركات بك ناظر مدرسة القضاء الشرعي،
والمستر رِب مساعد مراقب التعليم الأولي بوزارة المعارف، وحسين كامل بك
مدير قسم الإدارة بوزارة الداخلية، والشيخ محمد شريف سليم ناظر مدرسة المعلمين
الناصرية.
أصدرت وزارة المعارف هذا التقرير، وقد تناولته أقلام الكتاب، وأوسعته
انتقادًا وأوسع ما كتب فيه أو عليه ما كتبه عبد الله أمين أفندي ناظرمدرسة
المعلمين الأولية بمديرية الجيزة، وتقرير لجنة مشيخة الأزهر، ونحن نثبت هذا
الأخير في الأجزاء الآتية من المنار مشيرين إلى بعض الفقرات، أو المواد
المستشهد بها في الهامش.
***
(ديوان المصري)
الجزء الثالث صفحاته 104 طبع بمطبعة المعارف بمصر سنة 1336 طبعًا
نظيفًا على ورق جيد.
هذا الديوان من نظم الشاعر الشهير المبرز صاحب (البكرية) وشاعر الأسرة
السلطانية عبد الحليم المصري ، وقد جعل ديوانه هذا هديةً إلى سلطان مصر،
ووضع رسمه عليه، وكتب في صدره (من لم يقرأ الأول والثاني فليستغن بهذا
عنهما، ومن قرأهما فقد سار مع الشاعر من مهده إلى شبابه) . وصدره بهذه
المقدمة:
(هذا ثالث أجزاء ديواني - وأول شعري - سيقرأه أحد رجلين، رجل يقول:
أحسن، فقل له: إن عاش سيزيد، ورجل يقول: أساء، فقل له: إن عاش
سيحسن، والسلام) .
وثمن الديوان 20 قرشًا صحيحًا، ويطلب من مكتبة المنار بمصر.
***
(فتاة الشرق)
صدر الجزء الأول من السنة الرابعة عشرة من هذه المجلة المعروفة
بمواضيعها المفيدة فنحث على مطالعتها.
***
(من وراء خطوط النار إلى أبناء سوريا الأحرار)
رسالة بقلم متطوعي الجيش الفرنسي الشرقي يدعون فيها السوريين في المهجر
وفي كل أرض إلى المساعدة والتعاون على استقلال سورية، طبعت في مطبعة
الاعتماد بمصر سنة 1918.
***
(فن التأليف الحديث)
صفحاته 79 بالقطع الصغير طبع بمطبعة المحيط بمصر سنة 1918 على ورق
كورق الصحف السيارة.
هذا الكتاب أشبه بفهرس أو مقدمة للفن منه بمؤلف حاكى فيه واضعه (ن
فريد المصري) الأوربيين، ولا يخلو من فوائد جمة لمطالعه خصوصًا إذا كان من
المبتدئين، أو من مقلدة الجامدين على أساطير الأولين، وثمنه خمسة قروش.
***
(مجموعة أدب وطرب)
أو قصيدة (يا ليل الصب) لأبي الحسن الحصري، ومعارضاتها، صفحاتها
16 بالقطع الصغير، وقد طبعت بمطبعة المنار سنة 1338.
عني بجمع هذه القصائد ولدنا محيي الدين رضا، وصدرها بترجمة من قلم
جبران أفندي خليل جبران، ولم يذكر في هذه المجموعة كل معارضات هذه
القصيدة بل اختصر على ما وصل إليه من معارضات أدباء مصر وسورية ، وهم
شوقي بك ، وصبري باشا ، وولي الدين بك يكن ، والأمير نسيب أرسلان ،
ونخلة أفندي السلوى، فحوت هذه المجموعة الصغيرة من أطيب الشعر وأرقه،
وألطفه، وزانتها البلاغة، وجلتها الفصاحة؛ لذلك صادفت إعجاب الجمهور،
ونالت استحسان الصحف والمجلات، وكبار الأدباء، وهي تباع في مكتبة المنار،
وثمنها عشرة مليمات.
_________
(*) كتب تقاريظ هذا الجزء شقيقنا السيد صالح مخلص رضا.
(1)
قد حذفت هذه المقدمة من الطبعة الثانية ليوسف توما البستاني وليته أثبتها لما فيها من الفائدة.