الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: عبد الله المغيرة
وصف بلاد العرب الجنوبية
التي يسميها اليونان العربية السعيدة
يراد بالعربية السعيدة اليمن وما جاورها، وسميت بذلك لكثرة خيراتها
بالنسبة إلى البادية في الشمال، فكأنهم يريدون بها بلاد العرب العامرة، أو
الخضراء، ويحدها عندهم خليج العجم من الشرق - ويسمونه خليج العرب -
وبحر العرب من الجنوب، والبحر الأحمر من الغرب ومن الشمال البادية، وهي
بادية الشام والعراق ، والعربية الحجرية (بلاد بطرا) فيدخل في اسم العربية
السعيدة اليمن وحضرموت والشحر وعمان واليمامة ونجد.
وأما العرب فيريدون باليمن الجزء الجنوبي من جزيرة العرب ، وهو يقسم
عند العرب الأقدمين إلى 48 مخلاف، والمخلاف ينقسم إلى مدن وقرى، ويوجد
فيه الأودية والجبال والسدود، وقد فصل الهمداني كل مخلاف بقراه وأوديته وجباله في
كتابه (صفة جزيرة العرب) .
ما قاله اليونان عن تاريخ اليمن: لم يدون اليونانيون وسواهم من أمم
التاريخ كتابًا في تاريخ اليمن، أو تاريخ غيرها من بلاد العرب، ولكنهم ذكروه
عرضًا في أثناء كلامهم في الجغرافية العامة والرحلات وغيرها، وأكثر اليونان
ذكرًا لبلاد العرب سترابون ، وبلينيوس ، وبريليوس ، وبطليموس، ذكر كل
منهم مدنًا وأممًا وأحوالاً أخرى من أحوال بلاد اليمن، بعضها يوافق ما ذكره
العرب، والبعض الآخر يخالفه، وذكروا مدنًا وأقوامًا ولم يعرفها العرب، أي
أنها لم ترد في تاريخهم أو جغرافيتهم، وأهم هؤلاء الأقوام هم (المعينيون)
وذكروا الطرق التجارية، ووصفوا الأحوال الاجتماعية، فترى بين ما ذكره اليونان
من الأمم والمدن أممًا لم يذكرها العرب، أو ذكروها عرضًا بما لا يستحق الذكر،
والمعينيون لم يعرفهم العرب، وهم عند اليونان أمة عظيمة ذات تجارة واسعة
وشأن كبير، ومثلهم (القوريون) و (الجبائيون) .
ومن المدن التي نوهوا بها (مأرب) ولم يذكرها العرب إلا في عرض
الكلام عن سدها وانفجاره.
كانت اليمن في أصل نظامها تقسم إلى (محافد) وهو يشبه نظام الإقطاع
في الأجيال الوسطى لأوربة ، وكانت الأقيال [1] في اليمن يتعاطون التجارة،
ولتوسط بلاد اليمن، والهند ، والحبشة ، ومصر ، والشام، والعراق كانوا ينقلون
التجارة بين هذه البلدان بعد دخولها إلى جزيرة العرب بالقوافل بطرق خاصة.
***
الدولة المعينية
تنبه العلماء إلى هذه الدولة كما ذكره اليونان عنها، فقال استرابون في كلامه
عن بلاد اليمن (يشمل القسم الجنوبي من جزيرة العرب أربعة شعوب: المعينيون
وعاصمتهم (قرنا)[2] والسبأيون وعاصمتهم (مأرب) وذكر في مكان آخر أن
المعينيين يحملون التجارة إلى (بطرا) مدينة الأنباط ، وذكر بلينيوس أن المعينيين يقيمون في بلاد كثيرة الغابات والأغراس، وذكرهم أيضًا ديونيوس ،
وبطليموس، وأطروا سلطتهم وسعة تجارتهم، ولم يكن العلماء يعرفون (معين)
فذهب بعضهم إلى أن المراد بلفظ (معين) منى ، وهو بقرب مكة، وقال
آخرون غير ذلك حتى وفق المستشرق (هاليفي) إلى ارتياد بلاد الجوف الجنوبي
شرق صنعاء ، واكتشف أنقاض معين، وقال الهمداني في كتاب الإكليل (محافد
اليمن: مراقش ومعين، وهما بأسفل جوف الرحب) ولا يظهر أنها كانت دولة
حرب وفتح، بل كانت دولة تجارة مثل إخوانهم الفينيقيين على شواطئ سورية ،
ودولة الأنباط في بطرا، وأكثر دول اليمن على هذه القاعدة - أي: تجارية -
وكانت طرقها التجارية ممتدةً في أواسط جزيرة العرب بين تلك البحار، وانتشرت
سيادتهم ومستعمراتهم إلى أعالي الحجاز شمالاً بدليل ما وقفوا عليه من النقوش في
العلاء - قرب وادي القرى - وفي الصفاء وفي حوران وغيره.
***
الدولة السبأية
لم يعلم الوقت الذي تأسست فيه الدولة السبأية، ولكنه قد ثبت أنهم أنشأوا في
اليمن دولةً كبرى جاء ذكرها في أخبار آشور منقوشًا في آجرّة للملك (سرجون
الثاني) سنة 705 قبل الميلاد ذكر فيها أنه أخذ الجزية من (يثعمر) السبأي، فيدل
هذا القول على وجود السبأيين في بلاد العرب في القرن الثامن قبل الميلاد، ولكن
الراجح عند العلماء اليوم أن سرجيون لم يصل بفتوحه إلى اليمن، والظاهر أن
السبأيين كانوا يدفعون الجزية عن تجارتهم في شمال جزيرة العرب حتى يؤذن لهم
بالمرور إلى شواطئ البحر المتوسط ، وخصوصًا إلى غزة؛ لأنها فريضة
تجارية قديمة، وقد اتسع ملكهم، ولا يراد بسعة الملك أنهم دوخوا البلاد كما فعل
اليونان والرومان، أو كما فعل العرب بعد الإسلام؛ فإن سبأ ليست دولة فتح، بل
هي دولة قوافل وتجارة، ولا تجد للفتح ذكرًا في آثارها إلا قليلاً خلافًا للآشوريين
والمصريين معاصريها، فإنك لا تكاد تقرأ على آثارهم غير قولهم: فتحت ،
غلبت ، وحملت الغنيمة. وأما السبأيون فأكثر ما وصل إلينا من أخبارهم: بنيت،
ووقفت، ورممت. وإنما يراد بسعة ملكهم نشر نفوذهم وسعة تجارتهم، وذكرت
مملكة سبأ في التوراة أيام سليمان في القرن التاسع قبل الميلاد، ويتضح من ذلك
أنهم أقدم من مملكة سليمان أيضًا.
***
حضارة اليمن القديم
بعد ما تحقق أن دولة حمورابي عربية علم أن العرب من أسبق الأمم إلى
الحضارة والمدنية؛ لأنهم أنشأوا الدول وشادوا المدن، ونظموا الحكومات وسنوا
الشرائع، وبنوا المدارس والهياكل، ورقوا الهيئات الاجتماعية لترقية شأن المرأة منذ
أربعة آلاف سنة.
ونقتصر هنا على مدنية عرب اليمن، وقد رأيت أنهم كانوا أهل حضارة
ودولة لا تقل عن دول معاصريهم في آشور وفينيقية ومصر، وابتنوا المدن
وشادوا القصور والهياكل، وتبسطوا في العيش، لكن تمدنهم لم يكن حربيًّا
كتمدن الآشوريين والفرس والمصريين، بل كان تجاريًّا كتمدن الفينيقيين
فكانوا واسطة التجارة بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، فانقطعوا لأعمالهم
وتفرقوا لاستثمار أرضهم بغرس الشجر، وزرع الحبوب، وحفر المناجم،
واصطناع العطور والأطياب، وركوب القوافل في القفار، والسفن في البحار؛
لنقل السلع، وتوالت أجيال منهم كانوا هم وحدهم تجار العالم كإخوانهم الفينيقيين،
وقد تعاصروا حينًا، وتعاونوا على ذلك دهرًا طويلاً.
على أن التمدن لم يرد له ذكر في كتب العرب إلا قليلاًً، وإنما ذكره اليونان
عن التاريخ القديم، واكتشفه العلماء من آثار المدن، وما قرأوه على أطلالها من
أخبارها، وقلما كانوا يعتنون بتنظيم الجند لقلة الحرب والفتوح، وإنما كانوا
يجمعون الرجال في استخدامهم لبناء المدن أو القصور أو إنشاء السدود، وقد
ضرب اليمانيون نقودًا نقشوا عليها صور الملوك وأسماءهم، وأسماء المدن التي
ضربت فيها بالحرف المسند، وزينوها برموز سياسية أو اجتماعية، كصورة
البوم أو الصقر أو رأس الثور رمزًا للزراعة، أو صورة الهلال، وهو رمز
ديني عندهم، وكانوا يركبون المركبات تجرها الخيول أو الأفيال.
كانت الأمة في اليمن مؤلفةً من أربع طبقات: الجند المسلح لحفظ النظام،
والفلاحون لزراعة الأرض، والصناع والتجار، ولكل فئة حدود لا تتعداها، ولا
ينتقل أحد منها إلى سواها.
***
الصناعة
ليست جزيرة العرب بلادًا صناعيةً، وإنما صناعتهم تحضير بعض أصناف
التجارة، والبخور واللبان والطيوب وغيرها، وكان ذلك مشهورًا عنهم بين الأمم
القديمة لا يشاركهم فيه أحد.
قال هيرودتس: وبلاد العرب فيها وحدها الخور، والمر، والقرفة،
والدارصيني، واللاذن، والعرب يجنون كل هذه الأشياء، وبلاد العرب زكية
الرائحة حيث ما سرت.
***
الزراعة
من يَجُب بلاد العرب ير أن بلاد المعينيين والسبأيين قد تغيرت معالمها
فيستغرب ما يسمعه عن ثروة تلك الأمم وسعة سلطانها؛ إذ لا يرى فيها إلا قليلاً من
الناس، وكانت على عهد ذلك التمدن بساتين ورياضًا فيها الأغراس من الأشجار
والرياحين والحنطة والأزهار، وكانت الزراعة في رقي حسن مع مشقة
الري في بلاد لا أنهر فيها إلا ما يخزنونه بالسدود من أمطار الصيف فبلغ من
رغبتهم في العمران وعلو همتهم أنهم أنشأوا سدودًا كالجبال يحجزون بها المياه
في الأودية حتى ترتفع، ويسقون بها المرتفعات، ويصرفون الماء إليها من نوافذ
حسب الحاجة، كما يفعل بخزانات هذه الأيام، فالعرب أول من اصطنع الخزانات
وهي السدود، وأعظمها سد (مأرب) وسنذكره.
وذكر (استرابون) أن بلاد سبأ أخصب بلاد العرب، وعد من محصولاتها
المر، والبخور، والقرنفل، والبلسم، وسائر العطريات فضلاً عن النخيل والغاب.
ووصف الهمداني (وادي ظهر) باليمن، وقد شاهده فذكر أن فيه نهرًا عظيمًا
يسقي جنبات الوادي، وعليها من الأعناب نحو عشرين نوعًا، وفيه أصناف الفواكه
الأخرى.
***
المعادن
التعدين، أي: استخراج المعادن من بطن الأرض. اشتهرت بلاد العرب
بمعادنها وجواهرها عند القدماء، وإن ظهر ذلك غريبًا الآن لتقلب الأحوال وتحول
الأزمان، ولكن التاريخ أصدق شاهد على ما كان في جزيرة العرب من الثروة في
جوفها فضلاً عن سطحها، كان فيها كثير من مناجم الذهب والفضة، والحجارة
الكريمة، وكان ذلك من أهم أسباب طمع الفاتحين في ذلك العهد، وقد شبهها بعضهم
بكاليفورنيا هذا الزمان لكثرة مناجهما، وأقدم هذه المناجم في بلاد (مدين) ولها شهرة
واسعة في التاريخ القديم حتى ألف بعضهم كتبًا في معادنها وذهبها، وذكر الهمداني في
صفة جزيرة العرب، وياقوت في معجم البلدان، وغيرهما كثيرًا من مناجم الذهب
بعضها في اليمن، والبعض الآخر في اليمامة، ومنها معدن (نحب) في ديار بني
كلاب، ومعدن (بيشا) ومعدن (قضاعة) في اليمن، و (ذهب خولان) الوارد
ذكره في التوراة باسم حويلة في اليمامة، وكثير من المعادن خصص لها الهمداني
فصلاً سماه (معادن اليمامة) وهي معدن الحسن، وهو معدن ذهب عزير، ومعدن
(الحفير) بناحية (عماية) وهو معدن ذهب عزير أيضًا، ومعدن (الضبيب) عن
يسار (هضب القلب) ومعدن (الثنية) ثنية ابن عاصم الباهلي ، ومعدن (العوسجة)
ثم معدن (شمال الفضة والصفر) ومعدن (نياس) ومعدن (العقيق) ومعدن
(المحجة) ومعدن (العمق) بين (فيميه) ومعدن (الهجيرة) ومعدن (بني سليم)
ومعادن كثيرة أخرى.
وقول العرب (معدن كذا) يراد به معدن الذهب إلا إذا عرفوه بالفضة، أو
الصفر، أو غيرهما، وفي بلاد العرب سوى مناجم الذهب مناجم الجواهر الأخرى
كمعدن الفضة في (الرضاض) الذي لا نظير له، وفي (نقم) معدنا فصوص
(البقران) ويبلغ المثلث منها مالاً كثيرًا، وهو أن يكون وجهه أحمر فوق عرق
أبيض فوق عرق أسود، والبقران ألوان ومعدنه بجبل (أنس) و (السعوانية)
من سعوان واد جنب صنعاء وفيه أيضًا فص أسود بعرق أبيض، ومعدن (بشهارة
وعبشان) من بلاد (حاشد) والبلور يوجد في مواضع فيها، وأشياء أخرى
يطول شرحها، وهذه الأشياء لا يوجد لها نظير في بلاد الهند، والهندي بعرق واحد
وليس بثلاثة. دع مغاوص اللؤلؤ بالبحرين.
***
الأسداد
الأسداد هي جدران ضخمة كانوا يقيمونها في عرض الأودية؛ لحجز السيول
ورفع المياه لري الأراضي، كما يفعل أهل التمدن الحديث في بناء الخزانات،
وإنما عمد العرب إلى بناء الأسداد لقلة المياه في بلادهم مع رغبتهم في إحياء
زراعتهم فكثرت هذه الأسداد: سد (مأرب) و (ربوان) و (شحران) و (لحج)
إلخ.
***
الحضارة
أهل اليمن حَضَرٌ من أقدم زمانهم، فهم أهل مدن وقصور ورياش، لبسوا
الحر، وافترشوا الحرير، واقتنوا آنية الذهب والفضة، واغترسوا الحدائق، قال
(أغاثر سيدس) : وللسبأيين في منازلهم ما يفوق التصديق من الآنية والماعون
على اختلاف أشكالها من الفضة والذهب، وعندهم الأسرة، والموائد من الفضة،
والرياش من أفخر الأنسجة وأغلاها، وقصورهم قائمة على الأساطين المحلاة
بالذهب، أو المنزلة بالفضة، يعلقون على أفاريز منازلهم وأبوابها صفائح الذهب
مرصعةً بالجواهر، ويبذلون في تزيين قصورهم أموالاً طائلةً لكثرة ما يدخلون في
زينتها من الذهب، والفضة، والعاج، والحجارة الكريمة.
ذكر الهمداني في وصف قصر (كوكبان) في القرن الرابع الهجري أنه كان
مؤزر الخارج بالفضة، وما فوقها حجارة بيضاء، وداخله ممرد بالعرعر، والجزع
وصنوف الجواهر.
***
تاريخ البلاد العربية الحديثة
قد لخصنا تاريخ البلاد العربية القديم على قدر ما يسمح به المقال، والآن
نبين حالتها الحاضرة، وسبب انحطاطها فنقول:
إن ملوك اليمن اعتنقوا قديمًا الديانة اليهودية ونشروها في بلادهم، فلما تنصر
إمبراطور الرومان البيزانطيين، ونشروا ديانتهم في سورية ومصر، وأرادوا أن
يوسعوا نفوذهم بواسطة ديانتهم النصرانية - أرسلوا إلى الحبشة قسوسًا نصرتها،
وأرادوا أن يمدوا نفوذهم إلى بلاد العرب فنزلوا في عدن ونصروا أهاليها، ثم
تخطوا إلى (نجران) و (حضرموت) ونصروهما، وبنوا في نجران مزارًا
أو حجًّا عرف (بكعبة نجران) فيه القسيسون، والرهبان، وآلت حكومة (حمير)
اليهودية في أوائل القرن السادس للميلاد إلى ملك منهم اسمه (ذرنواس) كان شديد
التعصب لليهودية فغزا أهالي نجران فحصرهم، ثم إنه ظفر بهم فخدَّ لهم الأخاديد،
وعرض عليهم اليهودية فامتنعوا، فأحرقهم بالنار، وأحرق الإنجيل، وهدم بيعتهم،
ثم انصرف إلى اليمن، فلما بلغت هذه الأخبار ملك الروم أرسل إلى ملك الحبشة،
وأمره أن يغزو أهالي اليمن وينتقم من اليهود فجهز لهم سبعين ألفًا فخرجوا إلى
اليمن، وبعد معارك يطول شرحها انتصر الأحباش النصارى على اليهود وأفنوهم،
وانفلت (سيف بن ذي يزن) وتوجه إلى كسرى ، وهو من الأسرة المالكة
فاستنجد كسرى، فأمده بالرجال في المراكب، وخرجوا في (ضفار) فلما سمع
الأحباش بقدوم سيف بالفرس قابلوهم، فوقعت معارك انهزمت فيها الأحباش،
فأفنوهم، وأفنوا كل من تنصر من أهل اليمن، ثم مات سيف بن ذي يزن، وخلفه
والٍ من قِبل كسرى أنوشروان.
وفي هذه المدة ظهرت الديانة الإسلامية، وأسلم الوالي الفارسي وأهل اليمن
إلا قليلاً منهم بقي على اليهودية إلى الآن، فلما تولى عمر بن الخطاب - رضي الله
عنه - الخلافة، وابتدأ يجهز لغزو الروم والفرس أمر عماله في البلاد العربية أن
يسوقوا كل من يقدر على حمل السلاح، وكل من يحسن الخطابة والكتابة فصاروا
يسوقون الإمدادات متتابعةً إلى عهد دولة بني أمية.
من أجل ذلك وما تقدمه من حروب الأحباش والفرس خلت البلاد العربية من اليد
العاملة، وأهملت الزراعة وبناء الأسداد، فهذا هو سبب الانحطاط.
فبلاد العرب الآن تراجع إليها شيء من القوة حسب التناسل، وعدد أهل
الجزيرة الآن لا يقل عن 14 مليونًا، ولإهمال العلم والتعليم في الجزيرة،
وتنافس الأمراء فيما بينهم أُهمل أمر الزراعة والصناعة.
ويوجد الآن في الجزيرة خمس حكومات مستقلة في الحجاز ونجد واليمن
وعسير ومسقط، وبين أمراء هذه البلاد شيء من التنافس، فلو قيض الله لقادة
أفكار العرب أن يسعوا في التوفيق بينهم على شرط أن يكون كل مستقلاًّ في محله،
ويوحدوا سياستهم وجنديتهم، كما هو حاصل في الولايات المتحدة أو في ألمانية،
وينشروا المعارف في بلادهم، ويعنوا بالزراعة مع إعادة السدود كما كانت سابقًا
ويبحثوا عن المناجم، ويعنوا بزراعة القهوة التي لا يوجد مثلها في البلاد الأخرى
فإنها تجلب الربح العظيم للبلاد، كالقطن بالنسبة لمصر، وفي بلاد اليمن يزرع
أنواع الحبوب والنخيل والفواكه.
والحاصل أن البلاد العربية يمكن أن تسترجع قوتها عن قريب إذا قيض الله
لها حكومةً صالحةً، ولا يقوم بهذا إلا السوريون، فإن سورية عند العرب هي العين
التي يبصرون بها، وسورية من الأراضي المقدسة، والعرب يحترمون أهالي
سورية ويُجلونهم، ولو عني السوريون بخدمة الجزيرة فنظموا هيئةً لإرشاد الأمة
العربية بالنصح للتوفيق بين الأمراء، وإزالة سوء التفاهم والحسد (لأن وقتنا
هذا وقت عمل، وليس وقت مفاخرة وحسد) لوجدوا آذانًا صاغيةًً من أهالي
البلاد؛ لأن العرب صاروا يشعرون بما هو محيط بهم، ولو اجتهد السوريون لمد
السكة الحديدية من المدينة إلى صنعاء لارتباط البلاد والأمن، وتسهيل التجارة
والانتقال لتم المقصود.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
عبد الله المغيرة
_________
(1)
الأقيال: لقب ملوك اليمن، واحدها: قيل، بوزن بيت.
(2)
لعل أصلها: قرن بالتحريك.
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقرير لجنة مشيخة الأزهر الشريف [*]
المؤلفة لفحص مشروع تعميم التعليم الأَوَّلِي
(7)
توجد تحت مراقبة الأزهر الشريف وبعض المعاهد الأخرى كتاتيب،
أساس التعليم فيها حفظ القرآن، وتسمى تلك الكتاتيب التحضيريات لأنها تؤهل
البنين للانتظام في تلك المعاهد الدينية، ويبلغ متوسط تلامذة تلك الكتاتيب 2500،
وقد صرفت مشيخة الأزهر في العام الماضي مكافأةً سنويةً لألف تلميذ من الكتاتيب
التابعة للأزهر، وبلغ مجموع تلامذة التحضيريات التابعة لمشيخة معهد الإسكندرية
1101 في بعض السنين، وفي استيلاء المشروع على تلك النسبة من مجموع أبناء
الأمة استيلاء على تلك التحضيريات التابعة للمعاهد أو محو لها وصد للذين
يريدون تعليم أبنائهم القرآن الكريم من العلماء وغيرهم.
(8)
إن جميع الفوائد الخُلُقية والعقلية والتهذيبية والسياسية والاجتماعية إلخ
إلخ التي أفاضت لجنة الوزارة في بيانها وترتيبها على تعليم الطفل - هي بنفسها
مترتبة بدرجة مضاعفة جدًّا إذا كان أساس التعليم في تلك المدارس الأولية هو
حفظ القرآن الكريم، أو على الأقل حفظ نصفه، وتعتقد اللجنة بحق أنه إذا بذلت
الحكومة مجهودًا في هذا المشروع جاعلةً نصب عينها حفظ القرآن الكريم،
والعناية بتعليم الديانة الإسلامية لأبناء المسلمين - تكون قد أنبتت الجيل المستقبل
نباتًا حسنًا، ورفعت الأمة المصرية إلى مكانها اللائق بها بين الشعوب
الإسلامية، وأهدت إليها - من حيث إنها شعب إسلامي - روحًا عاليةً في حياتها
الأدبية والاجتماعية بما تغرسه في نفوس الأبناء من المثل الأعلى للتهذيب الإسلامي.
ولأجل أن تكون اللجنة غير مظنون بها أنها مدفوعة في هذا القول بمحض الميل
الديني من غير نظر إلى الإصلاح - تستلفت اللجنة نظر الحكومة إلى أن الأحداث
المجرمين الذين تتزايد نسبتهم كل سنة حسب الإحصاء الرسمي لا يكاد يوجد بينهم
حدث ممن تعلموا في مدارس القرآن واستظهروا جانبًا منه، فكيف إذا انضم إلى ذلك
متممات الوسائل الإصلاحية التي يقتضيها المشروع.
ولا يفوت للجنة أن تنوه بأنه يوجد عدد غير قليل من رجال البلاد المعدودين
لم يتعلموا إلا التعليم الأولي في تلك المكاتب المعهودة، وقد أفادهم حفظ القرآن في
فاتحة حياتهم تهذيبًا في الأخلاق، وتنويرًا في العقل، وتثقيفًا في الحكم.
(انظر آخر الفقرة 15 من تقرير لجنة الوزارة)[1] حتى صارت الحكومة
والبلاد تعتمد عليهم في كثير من شئونها الأدبية والاجتماعية خصوصًا في فض
الخصومات، وحل المشكلات، وهذا أكبر ما ينتظره رجال الإصلاح من نتيجة ذلك
المشروع، فكيف إذا عني بتعميم تلك المكاتب في أنحاء القطر، وزيد في تنظيمها
وإصلاحها مع المحافظة على جعل أساس التعليم فيها هو حفظ القرآن الكريم، كما
هو الآن؟ .
(9)
إن بذل الحكومة المصرية عنايتها في تعميم تعليم الشعب وتربيته
على مبادئه الإسلامية بما في ذلك حفظ القرآن الكريم الذي اعتاده من ثلاثة عشر
قرنًا - يدرأ عن الشعب أخطارًا اجتماعيةً وأضرارًا جمةً، أقلها تلك الفوضى الأخلاقية
التي ينزع إليها النشء، واتساع مسافة الخلف بينهم وبين آبائهم المحافظين على
مبادئهم الدينية، وبذلك يقع الانشقاق في الأسرات، ويترتب عليه الأضرار
الاجتماعية التي لاحظتها لجنة الوزارة (في الفقرة 17)[2] وليس هناك خلف
أشق للعصا وأضر على الهيئة الاجتماعية من نشء يخرج على أمته، وينسلخ من
دينه بما يسمى الآن التعليم الحر، أو حرية العقيدة، ومما يثمره التعليم الأولي على
أساس تلك المبادئ الإسلامية القضاء على حركة الجرائم والجنايات التي ضجت
التقارير الرسمية من فشوها وزيادتها كل عام، أو تخفيض نسبتها تخفيضًا كبيرًا
على الأقل، وتلك فائدة كبرى طالما بذلت الحكومة مجهودات جمةً للحصول عليها،
وها نحن أولاء نرى الناس الذين يحفظون شيئًا من القرآن يتناهون ويتواعظون
في أسواقهم، ومعاملاتهم الاجتماعية والأدبية بقولهم: هذا حرام، وهذا حلال،
وقال الله، وقال الرسول. فإذا بطل هذا ببطلان حفظ القرآن من الكافة ضاعت
الأمانة وفسد الأمن، وفاض الغش والنفاق بين الأفراد بعضهم مع بعض، وبين
الأفراد وحكومتهم، ووقعت الحكومة في سائر فروعها الإدارية والاقتصادية
والسياسية في مشكلات من الأمور لا تتناهى، فكل ما يقال عن فوائد تعميم تعليم
الشعب لا يكون صحيحًا وافيًا بالغرض إلا بشرط كون التعليم على المبادئ
الإسلامية. بذلك قضت طبيعة الشعب المصري الذي له ثلاثة عشر قرنًا في الإسلام،
وعلى دلت التجربة في تربيته.
(10)
إن من القواعد الهامة التي تترتب على جعل حفظ القرآن الكريم
أساسيًّا في التعليم الأولي تمرين النشء على النطق الصحيح، وضبط الألفاظ
العربية تمرينًا فعليًّا، فهو من جهة أخرى خدمة كبرى للغة العربية، ولا سيما أنها
لغة البلاد الرسمية.
(11)
نص قانون الأزهر والمعاهد الدينية (بالمادة 139) على أن
المجلس الأعلى للأزهر والمعاهد الدينية هو المختص بوضع لائحة نظام إدارة
المكاتب التحضيرية التابعة للمعاهد الدينية (والكتاتيب) والمشروع يقضي
صريحًا بأخذ هذا الحق جملةً من سلطة المعاهد الدينية، ورفع يدها عن تلك
المكاتب الدينية بمحوها، أو صبغها بصبغة أخرى.
(12)
وتختم اللجنة قولها بإبداء النتيجة التي تراها في الموضوع، وهو أن
يجعل من مواد التعليم الأساسية في هذه المدارس حفظ القرآن الكريم، وترى اللجنة
لضمان حراسة هذا الشعار الإسلامي في تلك المدارس الأولية وجوب اشتراك رياسة
المعاهد الدينية في وضع منهج الدراسة لها، ومراقبة سير التعليم فيها، ولا
غضاضة في ذلك على الوزارة، فقد جاء في تقرير لجنتها أن حكومة بلجيكة - بعد
طرق شتى - رأت أن الأوفق جعل التعليم الديني في مدارسها إجباريًّا تحت مراقبة
الكنيسة، ومعلوم أن تعليم الديانة في القطر المصري يبتدئ للبنين في حفظ القرآن
الكريم.
وتنوه اللجنة هنا بمنهج التعليم الذي أقره المجلس العالي للمعاهد الدينية بجلسة
25 مارس سنة 1905 للتحضيرات التابعة لمعهد الإسكندرية، ومقدار أثره الجليل
في مدة وجيزة، وإقبال الشعب عليه حتى طلب أصحاب المدارس الأهلية في تلك
المدينة الاندماج في نظام تلك التحضيرات، ودخلوا طوعًا تحت مراقبة مشيخة
المعهد، وأتت تلك التحضيرات بالنتيجة الهامة، ولم تكن فائدتها قاصرةً على مجرد
التأهيل للالتحاق بالمعهد، بل نفعت الذين اقتصروا عليها واشتغلوا بأشغال
عمومية، وذلك لما تُعلِّمه تلك التحضيرات مع حفظ القرآن الكريم من المواد الهامة
النافعة في الحياة العملية كالخط والحساب والجغرافيا واللغة العربية، وقواعد
الصحة، وعلم الأشياء، وقد نصحت مشيخة المعهد كثيرًا في تقاريرها الرسمية أن
يحذو أصحاب المكاتب والمدارس الأهلية في أنحاء القطر المصري على هذا
المنهج الذي دلت التجربة على نجاحه، فضلاً عن ملاءمته لطبيعة الشعب المصري،
وميول الآباء. ونادت المشيخة المذكورة أولي الشأن الذين يعنون بمصلحة التربية
والتعليم أن يأخذوا بيد هذا النوع من التعليم، ويقضوا على الأمية والجهل حتى
ينهضوا بالبلاد إلى ما تستحقه من الرقي والكمال.
وتبدي اللجنة بمناسبة هذا الموضوع ملاحظتها على وزارة الأوقاف في تلك
المبالغ الهائلة التي تدفعها سنويًّا إلى وزارة المعارف العمومية لتدير لها كتاتيبها،
ومعلوم أن تلك المبالغ إنما هي من ريع الأوقاف المرصودة على حفظ القرآن الكريم
ولكن وزارة المعارف لم تُعِر ذلك التفاتًا لما أن اختصاصها هو إحياء المعارف
العمومية، وليس لها اختصاص بالشئون الدينية اختصاص المكلف بالشيء المسئول
عنه بدليل أن أكثر ما صنعته في منهج الدراسة الذي وضعته لتلك المكاتب سنة
1916 فيما يختص بمادة القرآن قولها عند مقرر كل سنة (يحفظ من القرآن ما
يمكن) (الاستمرار على حفظ ما يمكن من القرآن) بينما هي تبسط القول في
التشديد والعناية بالمواد الأخرى.
وإذا كان هذا تساهل منهج الدراسة في القرآن فكيف يكون تساهل المعلمين
فيه؟ وهل يمكن بعد ذلك القول بأنه يوجد في تلك المكاتب من يحفظ جزءًا واحدًا من
القرآن فضلاً عن حفظ جميعه الذي وُقفت عليه تلك الألوف؟
هذا ما عنَّ لنا، والله يوفق الأمة إلى ما فيه الخير والصلاح، وتفضلوا يا
صاحب الفضيلة بقبول فائق احترامنا.
…
...
…
...
…
...
…
... توقيع أعضاء اللجنة
محمد أحمد الطوخي ، محمود أبو دقيقة ، محمد علي خلف الحسيني ، يوسف أحمد
نصر الدجوي ، محمد عبد السلام القباني
(تم)
_________
(*) تابع لما نشر في ص 362 من الجزء السابع.
(1)
نص الفقرة 15 (رأي اللورد كرومر في الخطر السياسي) وقد أعرب اللورد كرومر بأجلى بيان عن الخطر السياسي الذي ينجم عن ترك غمار الشعب بلا تعليم ، فقال في كتابه (مصر الحديثة) الجزء الثاني صفحة 534 ما يأتي:(من المهم جدًّا من جميع الوجوه أن تبذل الحكومة جهدًا متواصلاً لوضع التعليم في مصر على أساس مكين ، فإنه من الخرق بل من الخطر أن توجد هوة سحيقة بين تعليم الطبقات العليا ، وتعليم الطبقات الدنيا في بلاد شرقية تسير حكومتها بإرشاد أمة من أمم الغرب الديمقراطية ، ولا نقصد بذلك حط منزلة التعليم العالي، أو الوقوف في طريقه، ولكنا نقول: إذا كان لا بد من إرخاء العنان له من غير أن تمس الحكومة بأذى فلا مناص من إزالة غشاوة الجهل من غمار الشعب حتى يتمشى خطوةً خطوةً مع ارتقاء مدارك الذين سيقبضون على أزِمَّة أموره، وليس من الحكمة أو العدالة في شيء أن يترك الشعب أعزل من تربية عقلية تحمله من وساوس أدعياء السياسة المتطفلين على موائدها الذين هم مع نقص تعلمهم لا يفترون عن إلقاء الهواجس، والخزعبلات في آذانه التي لا ترد قول القائل، وليس ثمة في أوائل هذا القرن العشرين علاج عام ناجع يقي غائلة الأدعياء إلا تعليم من يقعون فريسةً لحبائلهم من أميي الأمة تعليمًا يمكنهم على الأقل من إدراك ما يصدر من أولئك الدجالين من البهتان الذي كثيرًا ما يسترونه بطلاء بلاغتهم وسفسطتهم السياسية) ولنا في تاريخ روسية الحديث مثال، وعبرة لما نجم عن هذه الحال من الأخطار التي أنزلت بتلك البلاد فواجع تئن الآن منها أنينًا. نعم إن التعليم البسيط قد لا يمكن الفلاح القروي من الوقوف على كنه المسائل السياسية العويصة، والإحاطة بها، ولكنه قد يكفي، كما قال اللورد
برايس (Lord Bryes)(يصف ما ارتآه من تأثيره في الولايات المتحدة بأمريكة) لتثقيف قوة الحاكم عنده حتى يستطيع تمييز الرجل العظيم من الدجال) من كتاب (الجمهوريةالأمريكية)
(commonwealth American the) الجزء الثاني صفحة 252.
(2)
نص الفقرة 17 (الانشقاق في الأسر) ومن النتائج الوخيمة التي نشأت من عدم تكافؤ أفراد الأمة في التعليم الانقسام الذي يشاهد في الأسر المصرية، فإن الأميين من الآباء الموسرين كثيرًا ما يرسلون أبناءهم إلى المدارس الابتدائية والثانوية فتكون العاقبة أن الأبناء لا يمضي عليهم زمن طويل بها حتى تنزع نفوسهم إلى ازدراء أهليهم الجهلة، وحتى يبطروا في عيشتهم المنزلية البعيدة عن النظام، ويطرحوا عن عواتقهم ما لآبائهم من السلطان والنفوذ، ويدب فيهم روح السخط والاستياء والعقوق، ولا مراء في أن ضعف النفوذ الأبوي على شبان البلاد بهذه المثابة يعود على الأمة بالأضرار الاجتماعية الجمة، ولكن ما الحيلة، والواجب يقضي بأن يبذل الآباء كل وسع في تعليم أبنائهم أرقى تعليم يستطيعونه؟ فلم يبق إذن من الوسائل التي تكفل درء هذا الشر إلا أن يعمم التعليم حتى لا يصل الفرق بين الأبناء والآباء إلى الحد الذي وصفناه.