الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: غوستاف لوبون
نموذج من كتاب الفلسفة السياسية
تأليف المؤرخ الفيلسوف غوستاف لوبون الفرنسي
والترجمة لعبد الباسط أفندي فتح الله البيروني
عقد المؤلف الباب الأول من كتابه هذا لبيان أغلاط قومه في الفلسفة السياسية
الاستعمارية، وجعل موضوع الفصل الأول منه بيان المبادئ والقواعد التي جروا
عليها في الاستعمار فقال:
مبادينا الاستعمارية
لا ريب في أن المنازعات الاقتصادية بين الغرب والشرق ستكون من شواغل
الفكر الجدية في القرن العشرين، وستستتبع من الخراب والدم المهراق أكثر مما
استتبعته حروب الأزمنة الخالية، وسيكون للمستعمرات في هذه الخصومات القائمة
بين مدنية ومدنية الشأن الكبير، وإذا لم يبق اليوم من يمتري فيما لنا من المصلحة في
الاحتفاظ بمستعمراتنا، فليس في وسعنا أن لا نبالي بما يتعلق بها من هذا القبيل.
إن إدارة المستعمرات التي أنشأتها الأمم الأوربية تقوم على قواعد جد جلية.
وإذ كانت هذه القواعد من بنات التجربة كان ينبغي أن تكون هي هي لدى الجميع،
بيد أنها تختلف اختلاف الأمة عن الأخرى.
قد يكون في هذا التعبير عن اختلافها شيء من المبالغة لأن طرق الاستعمار
التي تسلكها الدول الأوروبية يمكن ردها إلى اثنتين، نسلك الأولى منهما نحن
الإفرنسيين وحدنا، والأخرى يسلكها أعداؤنا من الأمم، وإنما تنشئ المستعمرة كل
أمة لتستفيد منها وتبقى لها، أما نحن فإننا نترفع عن أمثال هذه الأفكار السخيفة،
ولكن لا يبرح بالنا أن وظيفتنا هي إتحاف شعوب الأرض بمنافع المدنية، لذلك
نرى أن نحكم فيهم بأوضاعنا وأفكارنا، تلك الأوضاع والأفكار التي هم -
وياللأسف - مجمعون على إبائها، وإذا كنا موقنين بما لنا من الحق الصحيح فإنا
نصر على العمل بمذاهبنا، وسنظل كذلك حتى يقوم لنا من الفشل المتواتر دليل
قوي على أن مبادئنا الاستعمارية العظمى إن هي إلا أغلاط محزنة في كلتي جهتيها:
النظرية والعملية على حد سواء.
عقدت في كتابي (مدنيات الهند) فصلاً بينت فيه أصول الإدارة التي تعمل
بها إنكلترة في فتح مستعمراتها وتدبير شؤونها خصوصًا الهند، وكيف أن هذه
المستعمرة قد أخضعت بأموالها ورجاله نفسها، وبأي حكمة هي مسوسة، وكيف
يمكن أن تذهب هذه الإمبراطورية العظيمة ذات يوم من أيدي المتغلبين عليها إذا
هي حملت على مبدأ واحد من مبادئ الفلسفة السياسية الخاطئة، وإذا كنت مضطرًّا
إلى الاختصار فسأقصر البحث في هذا الفصل على الآراء الرائجة في فرنسة
لسياسة أدنى مستعمراتنا إلينا، وهي الجزائر ، وعلى النتائج التي يؤدي إليها العمل
بتلك الآراء.
إن الكتابات عن الجزائر لا تعد، غير أن كتابين منها كتبهما مؤلفان
مضطلعان بالأمر، فضمناهما الوسط من الآراء المقبولة، أحدهما ألفه العلامة
(لوروابوليو) من أساتذة مدرسة فرنسة، والآخر ألفه موسيو (فينيون) من قدماء
الأفاضل الإفرنسيين.
ليس من غرضي في هذا الفصل التحقيق بالتفصيل عن نتائج استعمارنا
الجزائري، ولكن أقصد إلى بيان قيمة الفلسفة السياسية التي كان - وسيكون - عليها
مدار العمل في إدارة البلاد زمنًا طويلاً فيما أرى، وسيكون انتقادي للمبادئ فقط لا
للرجال العاملين بها، لأن الذي يتصرف برجال الدولة هي الضرورات السياسية لا
النظريات العلمية، ولما كانت الضرورات عبارة عن بنات الآراء فإلى الآراء
ينبغي أن توجه المؤاخذة لا إلى المكرهين عن احتمالها، إذ ليس في استطاعة
الواحد منهم أن يتولى الحكم بدونها، وأما تغييرها ففي غاية من الصعوبة؛ لأن
الشعب الإفرنسي الذي هو بحسب الظاهر أدنى إلى الانقلاب من كل شعب قد يكون
في الحقيقة أكثر شعوب الكون تمسكًا بالقديم.
إن الجزائر تساوي فرنسة في مساحتها ولكنها قليلة السكان، يقطنها ستة
ملايين من المسلمين المخلصين لأوضاعنا على رواية التقارير الرسمية، ولكن
الحق الواقع أن هذا الإخلاص محتاج في تمكنه إلى جيش مؤلف من 60000
رجل أعني قدر الجيش الذي يستخدمه الإنجليز لاستبقاء طاعة 250 مليون
هندي، منهم 50 مليون مسلم [1] هم أكثر مهابةً وأصعب مراسًا من أهل
الجزائر إخوانهم في الدين.
ثم إن بين سكان الجزائر المسلمين ثمانمائة ألف من الأوربيين نصفهم
فرنسيس فقط، والنصف الآخر أسبان وطليان ومالطيون إلخ، هذه العناصر
الأوربية على اختلاف أصولها لا تتزاوج مع المسلمين وإنما تتزواج فيما بينها،
ولا تلبث أن يتكون منها شعب ذو أخلاق متميزة مصالحه ستكون بالطبع أدنى إلى
مصالح الجزائر منها إلى مصالح أم الوطن [2] تلك التي هي بمثابة صيرفي - كما
هو الظاهر حتى الآن - دأبه أن يمنح البلاد سككًا حديديةً، ومؤسسات عموميةً
وعطايا مختلفةً.
والمسلمون الذين هم القسم الأعظم من أهل الجزائر يحتوي سوادهم على
سلالات من كل فاتح من فاتحي أفريقية، ويظهر أن جمهورهم ثلثاه من البربر
والثلث الآخر من العرب، وبين الفريقين فوارق ولكنها ضئيلةً، أهمها ما به
ينقسمون إلى بدو وحضر، وسترى فيما يأتي - خلافًا للرأي الشائع - دليلاً على أن
كلاًّ من العرب والبربر، منهم البدو ومنهم الحضر.
وأما كتاب (موسيو لوروابوليو) فيمكن تلخيصه بكلمة واحدة تعرب عن
الفكرة السائدة في فرنسة بشأن الجزائر وهي: فرْنَسَة المسلمين، أي إنحالهم عادات
الفرنسيس وأخلاقهم، والطريقة السياسية التي سلكت حتى الآن لفَرْنَسَة هؤلاء
المسلمين، أو الاستيلاء عليهم بالفتح المعنوي تشبه مناهج الأمريكان الأولى في
معاملة أولئك الحمر الجلود؛ إذ كانوا يغتصبون أرضهم التي فيها صيدهم، ثم
يتركونهم يموتون كما يشاءون جوعًا، هذه هي طريقتنا الإدارية في الاكتساح على
وجه التقريب، ولقد أجاد في وصفها مسيو فينبون إذ قال:
لما رأت الدولة أن الولاة يصادرون قسمًا من أرض القبائل عقب كل ثورة
حسبت أن العدالة تمكنها من منح أحاسن تلك الأراضي للمستعمرين بعد صد أربابها
الوطنيين عنها.
وكلما انتشر العنصر الأوربي كان الوطنيون يُطردون عن تراث آبائهم بحيث
أمسى الكثير من القبائل بعيدًا عن الناحية التي كانت وطنًا له.
وأما نتائج مثل هذه السياسة التي استمرت أكثر من ثلاثين سنةً فلا يمكن أن
تكون مبهمةً: وهي أن العربي الذي رأى نفسه في رجوع مستمر لم يبق له شيء
من الثقة بأن يجني ثمرة عمله، ولم يعد يفكر في إتقان حرثه ولا تحسين أرضه،
والذي حُرم أرض قبيله المزدرعة ومُنع حق الانتفاع بموارد الماء، لم يعد يستطيع
الصبر على المحْل وقلة القوت وموتان الماشية وانقراضها، وكل هذه الآلام
والمصائب ما كانت إلا لتذكي الضغن في قلب الوطني على المستعمر وتزيد في
انفراج مسافة الخلف بينهما.
وأما قرار مجلس الشيوخ الذي صدر سنة 1863 وأعلن حق تمليك
الأراضي للقبائل التي كانت متصرفةً فيها - فلم تكن فيه نهاية لطريقة دفع القبائل
وصدها عن أراضيها، ولكنه غير اسمها وهيئتها إذ صارت تسمى اليوم باسم
(الاستملاك لأجل المنافع العمومية [3] ) وتمتاز هذه الطريقة بخاصتين: إعطاء
الأرض إلى المستعمر بعد سلبها من الوطني، وتكوين مناطق أوربية محضة يزاح
عنها الوطني، وإن كان من المالكين، ويُقضى عليه بعد انتزاع ملكه بالفقر، نعم
إن مالك الأرض الأول يعوض عن أرضه ببدل نقدي تعينه المحاكم وهو يترواح
بين 50 -60 فرنكًا لكل هكتار أي أنه يبدل بثلاثين أو أربعين هكتارًا من الأرض
التي كانت تؤتيه كل موارد العيش الرغد مدة حياته مقدارًا من المال (1500 -
2000) فرنك لا يكاد يقوم بأوده عامًا واحدًا أو عامين.
وكان الاستعمار الرسمي أغرب أشكال التنفيذ لسلطة الحكومة القادرة على كل
شيء في الجزائر، أما لو تقرأ تاريخه في الكتاب الذي اقتبست منه الشاهد المتقدم إذن
لرأيت نتائج إقطاع تلك الأراضي مجانًا كل فئة من الساقطين الذين لا توازي
قابليتهم لحرث الأرض إلا كفاءتهم لتعليم اللسان السانسكريتي، ولرأيت نتائج إنشاء
تلك الضياع الرسمية التي صارت اليوم قاعًا صفصفًا.
هذه التجربة المهلكة وما استلزمته من النفقات الباهظة لم تكن كافيةً لهداية
عمالنا؛ لأن أحدهم قد طلب منذ بضع سنين خمسين مليونًا لينتزع بها من العرب
أملاكًا ينشئ فيها ضياعًا مكان الضياع التي أذلها وأشقاها الخراب، ولكن دار
الندوة - ولحسن الحظ - ردت اقتراحه هذا لأنه - ولا ريب - يدعو المسلمين إلى
الثورة ويحتفر هوةً جديدةً تتردى فيها ملايين أم الوطن [4] .
ألا وإن في عرض مثل هذا الاقتراح والبحث فيه - حتى أوشك أن يستجاب
له - لدليلاً على أن الرأي الاستعماري الإفرنسي لا يزال في الدرجة السفلى من
التثقيف.
ولا عجب إذا كلفتنا الجزائر المبالغ الجسام بفضل أمثال هذه التجارب لأن ما
أنفقناه عليها يقدر بأربعة مليارات عدا جبايتها نفسها، فهل ترانا أمَّنَّا البلاد على
الأقل بهذا المقدار من الأموال المبذولة؟ إذا صدقنا بذلك فلا ينبغي أن ننسى أن
علينا أن نقوم بنفقة جيش عظيم ليحفظ فيها السلام حفظًا ما.
منذ فتح الجزائر تَناوَبَ سياسَتَنا الاستعمارية مبدآن كان يرجح الواحد منهما
على الآخر تبعًا لحركة الرأي العام، أما إحداهما فهو انتزاع ملكية العرب ودفعهم إلى
الصحراء، وأما الآخر فجعلهم (فرنسيسًا) بحملهم على أوضاعنا.
غير أن العرب لم يندفعوا بما أقاموا من الحجة البالغة، وهي أن الصحراء لم
يعد فيها معاش لأحد، وقبل أن يرضوا بالموت جوعًا جعل الملايين منهم يعارضون
بالمقاومة، فلا هم قبلوا التفرنج، ولا هم رضوا بالاندفاع لأنه لم يوجد حتى الآن
شعب تمكن من تغيير وضعه المعنوي من أجل انتحاله وضع أمة أخرى فكلتا
الطريقتين ممقوتتان، والانتقال من إحداها إلى الأخرى لا يرجى منه إصلاح لهما،
وبناءً على هذا فستظل سلسلة هذه التجارب المدمرة تزداد حلقةً بعد حلقة إلى أن
يأتي يوم يهتدي فيه حكامنا، فيعترفون أن أبسط حل لهذه المشكلة وأقله مؤنةً
وأوفره حكمةً، هو أن يتركوا للبلاد المفتتحة أوضاعها وعاداتها وشكل حياتها
وعقائدها، كما تفعل الأمم المستعمِرة كلها خصوصًا الإنكليز والفلمنك.
أما هذا الحل فقد يكون الآن ضربًا من المحال لأن الرأي العام ضد له بدليل ما
ترى من سلوك أهل الحل والعقد فينا، وما نجد من الأفكار المنبثة في الجرائد
والمؤلفات.
ولما كنا نحن أهل الغرب قد أطلقنا من قيود العقائد الدينية [5] فإنا نظن الأمر
كذلك في أرجاء العالم كافةً، وقليل من المؤلفين الأوربيين الذين أدركوا أن أمر الدين
في الشرق فوق كل الأمور، فإن الأوضاع المدنية والسياسية والحياة الاجتماعية
والقروية هي عند أتباع محمد ، كما هي لدى أتباع صاوا وبوذه مرجعها إلى الشريعة
الدينية، والأكل والشرب والنوم والحرث، كلها أفعال عبادة عند أهل الشرق.
ولقد أدرك الإنكليز ذلك حتى إنهم رغم تصلبهم في مذهبهم البروتستانتي
ليرممون في الهند معابد الوثنيين، ويجرون على كهنتها الوظائف الواسعة على حين
يضنون على رسل دينهم بأدنى مساعدة، وإنك مهما تحريت لا تعثر برجل واحد
تحت سماء إنكلترة يؤيد القول بأن دمار المستعمرة أولى من تعطيل مبدأ.
ولقد كان ينبغي أن يكون أساس سياستنا حماية الدين الإسلامي، والاستظهار
بذوات النفوذ من جمعياته الدينية، وتأييد سلطة الفقهاء عوضًا عن مناجزتها
وإضعافها، إن أول (مقيم) إفرنسي في تونس كان من نوادر الحكام المضطلعين
بشؤون الشرق فقد دل على مبلغه من الحصافة في السياسة؛ إذ طلب إلى باي تونس
إذ ذاك أن يصدر منشورًا دينيًّا يثبت للمؤمنين مشروعية الأحكام التي كان يريد
وضعها! لكن ما كان أسرع أولي الأمر منا إلى عزله.
احترام شعائر الدين عند العرب هو باحترام أوضاعهم؛ لأن الأوضاع إنما
هي متفرعة عن العقائد الدينية كما بينت آنفًا - بيد أن (موسيو لوروابوليو) يرد
هذه السياسة، وينعتها بسياسة (التعفف) ويقول: (إن الاحترام التام لسنن ما
يسمى بالقومية العربية وأخلاقها وعاداتها، يقضي بترك جيشنا ومستعمرينا
لأرض أفريقية) لماذا - يا ترى - قد ذهل المؤلف عن بيان السبب، وإنه ليعسر
عليه - فيما أظن - أن يجد لرأيه طلاءً من سبب معقول، إن السياسة التي أقرها هنا
هي عين السياسة التي يجري عليها الإنكليز مع المسلمين في الهند دون أن يكون لهم
(أي الإنكليز) أقل ميل إلى ترك ملكهم ذاك العظيم.
وأما الوسائل التي يشير بها (موسيو لوروابوليو) فهي موافقة لآرائنا في
المساواة العامة، ومؤداها (مزج العنصر الوطني بالعنصر الأوربي) وتعريف هذا
المزج (حالة لجماعة تجري فيها على شعبين مختلفين في الأصل أحكام اقتصادية
واجتماعية واحدة، وقوانين عامة واحدة مع خضوعهما من حيث الإنتاج لمؤثر
واحد) .
هذه الصورة تبدو باهرةً وهي مرسومة على الورق، وإنها لأمنية المساواة
التي يتمناها أهل النظر منا من أبناء سنة 93 والوقت الحاضر، ولكن يسخر منها
أدنى المستخدمين في حكومة الهند الملكية، ولا عجب فقد يمكن أن يكون الرجل
عالمًا مشهورًا، ولا يكون له إلمام بالهاوية التي تفصل الشرقي عن الغربي في
الأفكار والوجدان.
على أنا نجد المؤلف يتنبه لبعض العقبات في سياسته المزجية، ولكنه
يتسورها بسهولة، فهو يوقن من غير دليل (أن البدو لا يختلفون عن الأوربيين إلا
في أمر واحد) ألا وهو الدين! فما أعظم هذا الخطأ، وقد يكون الأقرب إلى
الحقيقة أن يقال: إن بين غلوي من عصر برينوس، وبين باريزي من أبناء اليوم
من الفرق العظيم مثل ما بين أوروبي متمدن، وبين بربري من أبناء الزمن الحاضر،
ويزعم (موسيو لوروابوليو) أنه لما كان البربر والأوربيون من أصل واحد بقي
العرب وحدهم موضوعًا (للفرْنَسَة) فهم الذين ينبغي أن (يُفرنَسوا) ويظهر له أن
الأمر سهل جدًّا، ينبغي - حسب إيضاحه - أن تغير مناهج القبيلة تغيرًا تامًّا، وكذلك
طريقة الملك وتعدد الزوجات، فإذا تم ذلك لم يبق إلا تفاريع نظفر بها بمرور الزمن.
هذه التساؤلات الصغيرة التي قد تسر الخلص من الاشتراكيين يراها المؤلف
من السهولة بحيث لم ير في بيان الوسيلة إليها فائدةً، غير أني أظهر أن كل من ألف
النظر في طبيعة العرب المعنوية يجد أن ما في إحداث هذه التغييرات من الصعوبة
لا يقل عما يوجد منها في جعلك واحدًا من أبناء أوسترالية أستاذًا في كلية فرنسية.
و (موسيو بوليو) ليس بذي شفقة على العرب الذين ينظر إليهم نظره إلى فئة من
الهمج، ويحسب أن مجتمعهم مكون على الصورة القديمة لكل شعب بدوي، فهو
يظهر أن كل العرب من قبيل الرعاة وأن البربر من أهل الحضر.
ومن يقرأ ما كتبه ابن خلدون في القرن الرابع عشر يعلم أن قسمة بربر الجزائر
إلى بدو وحضر ليست ببنت الأمس، وإنما التمييز بين البربر والعرب الذي جنح له
فريق من المؤلفين من حيث القابلية للتمدن فإنه كان مبنيًّا على ملاحظات جد سطحية
لا يستطاع اليوم تأييدها، ولما كان شكل الوجود متعلقًا بالبيئة كانت الحياة الاجتماعية
بنوعيها - بدويةً وحضريةً - تابعةً لطبيعة الأرض لا لطبيعة السلالة، ففي السهول
المرملة يكون كل من العرب والبربر من الرحل، كما أن كلاًّ منهم يكون مقيمًا في
الجهات الخصبة، وفي كل قطر يسكنه العرب، كالجزائر ومصر وسورية والجزيرة
تجد منهم البدوي والمتحضر، غير أني لا يظهر لي أي من العرب المتحضرة والبربر
المتحضرة يفوق الآخر من حيث الكمال العقلي، وإذا لم يكن بد من الميل إلى إحدى
الطائفتين، فالأولى أن يكون إلى العرب أصحاب تلك المعيشة القديمة الباذخة؛ لأن
البربر ما كانت لهم إلا مدنية طفلة ناقصة.
وأكثر ما يلح به (موسيو بوليو) من الإصلاح: منع تعدد الزوجات، ولكنه
يذهل دائمًا عن أن يبين لنا الوسيلة العملية لذلك، فهو يفيض في بيان فوائد وحدة
الزوج، ويظهر لمعاصريه أن البيت هو في الأصل ملك المرأة الفرد، وبدونها تفقد
العائلة روحها، ويفقد البيت أداة سعادته، ويقول: إن التعدد من أعظم الأسباب في
ركود المجتمع العربي.
بيد أني لا أريد أن أدخل جوف المسألة، ولا أن أعترض بأنه لما كان تعدد
الزوجات مذهبًا للشرقيين كافةً كان لا بد لهذه العادة من أسباب قوية، كما أني لا
أتكلف توجيه النظر إلى أن التعدد الشرعي عند المشارقة هو خير من التعدد النفاقي
عند الأوربيين، وما يتبعه من المواليد الحرام، فإن في كتابي (تاريخ الحضارة
العربية) شرحًا كافيًا لهذه المسائل وغيرها، والناظر فيه يجد أن دور (الحريم)
في عهد الدولة العربية أنتجن من [bas-bleus] والنساء العالمات قدر ما أنتجت
مدارس إناثنا من ذلك، ولقد اتضح اليوم أن تعدد الزوجات ما كان قط سببًا في
ركود المسلمين، وهل من حاجة بعد إلى التذكير بأن العرب وحدهم هم الذين
أظهروا لنا العلم اليوناني - اللاتيني، وأن مدارس أوربة الجامعة- ومنها جامعة
باريس - عاشت ستمائة عامًا بفضل ما ترجم من كتبهم، وبنهجها مناهجهم؟
ثم إن المدنية العربية كانت من أبهر المدنيات التي عرفها التاريخ، نعم إنها
قضت كما قضى كثير غيرها، ولكن من القناعة بالأدلة السطحية أن نعزو إلى
تعدد الزوجات ما هو نتيجة لغيره من العلل المهمة.
على أنه لم يتضح لنا السبب في كراهية الأستاذ الفاضل لتعدد الزوجات،
وهو ينبئنا أن التعدد محصور في البيوتات الموسرة، وأنه قد قل انتشاره فإذا صار
التعدد إلى غاية من الندرة وقلة التأثير فما باله يبغي إبطاله؟ وكيف يمكن إقامة
الدليل على أن هذه العادة (من أعظم الأسباب في الركود الذي يتصف به المجتمع
العربي [6] ) .
_________
(1)
المنار: لعل المؤلف اعتمد في هذه الأرقام على إحصاء قديم، أو أراد بهذا العدد أهل الولايات
التي يتولى إدارتها ولاة من الإنكليز دون البلاد المستقلة في إدارتها الداخلية، ومجموع سكان جميع
الهند تزيد على 300 مليون، والمسلمون منهم يبلغون زهاء 90 مليون على ما سمعت من بعض
أفاضلهم.
(2)
أم الوطن الفرنسي باريس.
(3)
الاستملاك في اصطلاح القانون العثماني: انتزاع الملك من صاحبه بعد تقدير ثمنه بمعرفة
لجنة مخصوصة، ويسمى في مصر (نزع الملكية) .
(4)
المنار: المراد ملايين دراهم (فرنكات) أبناء أم الوطن باريس.
(5)
المنار: المراد بقيود العقائد ما كانت الكنيسة تقيد به حرية العلم والإرادة والعمل من قيود
الحظر والتحريم التي تعوقها عن السير في سبيل الرقي، وهذه القيود لا وجود لها في الإسلام
ولكن الذين اتبعوا سنن من قبلهم من متفقهتنا اخترعوا لنا قيودًا مثلها، ونحن نعاني الصعاب في
كسرها أو الانطلاق منها مع الحذر من الغلو الذي جنى على الغربيين بترك بعضهم للعقائد نفسها، لا
القيود التي أضيفت إليها فقط.
(6)
المنار: ليتأمل هذا البحث الذين يقلدون منا أصحاب الأهواء السياسية فينا، فهذا العالم
الفيلسوف يقرر ما يعتقد عن بحث وعلم، وأولئك السياسيون يبثون فينا ما يحبون أن يحملونا عليه
لأجلهم، لا لأجلنا.
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقرير لجنة مشيخة الأزهر الشريف
المؤلفة لفحص مشروع تعميم التعليم الأَوَّلِي [*]
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة صاحب الفضيلة مولانا الأستاذ الكبير شيخ الجامع الأزهر
يا صاحب الفضيلة بما لك من الحق الشرعي والرياسة الكبرى الدينية في
الديار المصرية، أصدرت أمرك إلينا بتعيين لجنة منا لفحص مشروع تعميم التعليم
الأولي مع تقريره الذي أصدرته لجنة وزارة المعارف العمومية المؤلفة بالأمر
الوزاري في 30 مايو سنة 1917، والذي فرغت من وضعه في 25 نوفمبر سنة
1918 طالبةً أن ينفذ العمل به من أول أبريل سنة 1920 ريثما تأخذ الحكومة العدة
لتنفيذه.
وها نحن أولاً نتشرف برفع تقريرنا هذا إلى فضيلتكم شاملاً لما عنَّ لنا في
الموضوع، والله الهادي إلى سواء السبيل:
(1)
اللجنة ترحب بمشروع تعميم التعليم الأولي من حيث هو تعميم لتعليم
طبقات الأمة بأسرها، وتعتبره بدء خير جديد للأمة المصرية في سائر شؤونها
ومصالحها الدينية والدنيوية، قال الله - تعالى -: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ
وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9) .
(2)
خلاصة المشروع من الوجهة التي تهمنا هو أن يعمل كل مجلس
مديرية في المديريات، وكل سلطة معادلة له في المحافظات على إيجاد مدارس
أولية في كل مدينة وقرية تضم كل سنة عددًا من البنين والبنات الذين تتراوح
أعمارهم بين السادسة والحادية عشرة بنسبة واحد في المائتين من مجموع السكان
وذلك بأن تأخذ 4% من البنين و 2.5% من البنات حتى تكون نتيجة هذه
المدارس بعد عشرين سنة تعليم 80% من مجموع البنين و50 في المائة من
مجموع البنات بالقطر المصري، وذلك يعادل 10 في المائة من مجموع السكان
يتلقون في تلك المدارس دراسةً مناسبةً وفق منهج خاص تضعه وزارة المعارف
العمومية أو تقره، ويشمل على الأقل تعليم الديانة، والقراءة والكتابة، والحساب،
وغير ذلك من المواد التي يعينها وزير المعارف العمومية (فقرة 45 و47
ومادة 1 و2) [1] .
***
تأثير المشروع من الوجهة الدينية
إن تعليم القرآن للأطفال، والعمل على حفظهم له في هذه السن (من سن
ست سنوات إلى إحدى عشرة سنة) أمر جرت عليه الشعوب الإسلامية منذ التاريخ
الإسلامي لا سيما الشعوب العربية، وخاصةً منها القطر المصري حتى قال ابن
خلدون في الفصل 32 الذي كتبه في هذه الموضوع (اعلم أن تعليم الولدان للقرآن
صار شعارًا من شعار الدين أخذ به أهل الملة، ودرجوا عليه في جميع أمصارهم
لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن، وبعض
متون الحديث، وصار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعد من
الملكات) ومعلوم أن الولدان هم أبناء هذه السن التي يقضي المشروع بالاستيلاء
عليهم فيها، ويكون القضاء على حفظ القرآن فيها، ولا ندري كيف غاب ذلك عن
لجنة الوزارة، وهي بنفسها تقول في تقريرها المرفق بالمشروع (فقرة 59) عن
المستر (لكي) في كتابه (الديمقراطية والحرية) ج2 ص62 (والقاعدة الوحيدة
التي يعول عليها أن يجعل الشارعون نصب أعينهم رغبات الأمة وميولها كيفما
تنوعت أشكالها، وأن يسعوا إلى تحقيقها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً) [2] .
(3)
بل رمى أحد الأعضاء بهذا العنوان، كما جاء في التقرير (فقرة
83) [3] إلى أبعد من ذلك حيث لفت أنظار اللجنة قائلاً: إن الإعفاء من الخدمة
العسكرية لحفظ القرآن القاضي به قانون القرعة الصادر في سنة 1902 عقبة في
سبيل التعليم الأولي، ونحن مع دهشتنا من هذا الحكم لبعد المسافة ما بين سن
القرعة، وسن المشروع نعجب من موافقة اللجنة بإجماع عليه حتى قالت بالفقرة
87 (أن نجاح هذا المشروع أو أي مشروع آخر يرمي إلى ترقية التعليم الأولي
يتوقف على إزالة هذا العائق الذي يصرف الناس عن الاهتمام بالتعليم
الأولي) [4] .
(4)
من حيث إن المشروع يقضي باستيلاء وزارة المعارف تدريجيًّا مع
الهيئات الإدارية التي تشاركها على 80 في المائة على الأقل من أبناء المسلمين من
سن ست سنوات إلى إحدى عشرة سنة - فهو يقضي على المعاهد الدينية من أساسها؛
لأن ينبوع المعاهد هو تلك المكاتب الأهلية التي تقوم بتعليم القرآن الكريم وحفظه؛
ولا يمكن لقانون الأزهر والمعاهد الدينية أن يتخلى عن شرط حفظ القرآن؛ لأنه
شرط ضروري لمن ينتسب للمعاهد الدينية، ويتلقى علوم الدين التي تستمد كلها من
القرآن. كما يقضي ذلك المشروع أيضًا على جميع الوظائف الشرعية التي يشترط
في مبدئها حفظ القرآن الكريم، وما جاء في (الفقرة 90)[5] من تقرير لجنة
الوزارة (أن من يرغب من النشء في الانتظام في تلك المعاهد الدينية فلديهم متسع
من الوقت بعد إتمام مقرر المدارس الأولية - أي بعد السنة الحادية عشرة إن فرض
نجاحه فيها - للوصول إلى غرضهم هذا بالتعلم في مدارس إعدادية يشرف عليها
رجال الدين) غير كاف في الإجابة، ولا مذلل لتلك العقبة التي يضعها المشروع
في سبيل المعاهد الدينية لوجوه:
(أ) المدارس الإعدادية التي تحيل عليها لجنة الوزارة هي شيء لا في عالم
الوجود ولا في عالم المشروعات، فضلاً عن كون تعميمها في جميع المدن والقرى
حتى تقوم بحاجة البلاد من تخريج القدر الكافي لطلاب المعاهد الدينية، ومن وجود
الحفاظ بها - أمر لا يكاد يكون ممكنًا، ولا يبلغ درجة انتشار المكاتب الأهلية الحالية
التي تقوم بذلك الآن.
(ب) إذا فرض أن التلميذ الذي يريد الانتظام في سلك المعاهد الدينية لم
يساعده الحظ، ورسب في بعض امتحاناته السنوية بتلك المدارس الأولية، ثم التحق
بالمدارس الإعدادية المذكورة؛ ليتمكن من الالتحاق بالمعاهد الدينية - فكم يكون قد بلغ
من السن عند الخروج منها؟ وهل يسمح له الحظ دائمًا من التمكن من تتميم
الدراستين بالمدارس الأولية والمدارس الإعدادية قبل فوات السن المحدودة للدخول
في المعاهد الدينية، أو يحال بينه وبينها؟ ثم إذا صح أنه تمكن من الدخول في
المعاهد في آخر سنة يسوغ القانون الدخول فيها للطالب، والمعاهد الدينية أقل مدة
التعليم فيها خمس عشرة سنة، فلا ينتهي الطالب من دور التعليم إلا وهو في طريق
الكهولة، وهذا ما لا يرضاه رجال الإصلاح.
(ج) باعتبار أن آخر سنة للتلميذ في هذه المدارس الأولية هي السنة الحادية
عشرة من عمره إذا فرض نجاحه فيها، وأنه يحتاج إلى مدة أخرى يقضيها في حفظ
القرآن ليتمكن من الانتظام في المعاهد الدينية - يكون المشروع قد حاف حيفًا ظاهرًا
على قانون المعاهد في تضييق دائرة من ينتسبون إليها بعد أن كانت من سن عشر
سنوات إلى سبع عشرة سنة (مادة 61) من قانون الأزهر، وحال بين الآباء وبين
إعدادهم أبناءهم للتعلم في باكورة شبابهم بالمعاهد الدينية، وقد دل البيان الرسمي
بدفاتر الانتساب بالقسم الأولي من المعاهد الدينية على أن الذين ينتسبون بالسنة
الأولى يوجد بينهم عدد كبير من أبناء الإحدى عشرة سنة والاثنتي عشرة سنة.
(د) إن وجود الحرية التامة التي يتمتع بها الآباء الآن في تعليم أبنائهم
القرآن الكريم في هذه السن (من ستة إلى إحدى عشرة) هو الوسيلة الوحيدة في
التمهيد للانتظام بالمعاهد الدينية، وبعبارة أخرى: لحياة المعاهد الدينية، والوسيلة في
صيانة حفظ القرآن بين الأمة؛ لأن الحفظ بعد هذه السن يكاد يكون مستحيلاً،
والمثل الشهير في ذلك عند الشعب (الحفظ في الصغر كالنقش في الحجر) .
(هـ) إن وجود حملة القرآن الكريم مستظهرين له أمر ضروري اقتضته
الشريعة الغراء على سبيل فرض الكفاية في كل أمة لا سيما في مصر (التي تعتبر -
لمركزها الديني ووجود الأزهر فيها - كعبة لسائر الشعوب الإسلامية) ليقوموا
بفريضة كيفية الأداء والتجويد للقرآن، وإتقان رواياته وأحكامه، ومعرفة رسمه،
وليحفظوه على الأمة، وينقلوه بطريق التواتر من جيل إلى جيل.
فضلاً عن أن من خصائص أولئك الحفاظ أيضًا ما جرت به العادة في منتديات
المسلمين ومجتمعاتهم العامة والخاصة من تلاوة آيات الكتاب الحكيم عند اقتضاء
الظروف والعادات القومية؛ ليعظوا النفوس ويذكروا الأمة بكتابها المقدس
الكريم، وما فيه من هدى وإرشاد وحث على مكارم الأخلاق، ولا يتأتى للأمة
المصرية القيام بالفريضة المذكورة، والمحافظة على تلك العادة القومية الإسلامية ما
لم تبق الوسيلة التي تُمكِّن الأبناء من حفظ القرآن في أول تعليمهم وعهد مرونتهم.
(6)
توجد بالقطر المصري أوقاف جمة مرصودة على تعليم القرآن الكريم
للأطفال بطريق الحفظ له غيبًا (وتفتيش الوادي مشهور) وتقضي أوامر الشريعة
الغراء باحترام شروط الواقفين، حتى قال العلماء:(شرط الواقف كنص الشارع)
فلا بد من تنفيذ هذه الأوقاف على الوجه المنصوص بها، ولا يجوز بحال أن يصرف
ريع تلك الأوقاف في غير هذا النوع من التسليم، والمشروع باستيلائه على 80 في
المائة من البنين يقضي بتعطيل تلك الأوقاف وصرفها في غير ما رصدت له، وبعبارة
أخرى: يقضي بتعطيل أوامر الشريعة الغراء في تنفيذ هذه الأوقاف في سبيلها، بل
يصرف الناس عن مثل هذا العمل البار (الوقف على التعليم) الذي قام بنهضة كبرى
في سبيل التعليم الأولي بمصر، وقد اعترفت لجنة الوزارة في (الفقرة 25)[6] أن
أقوى البواعث على تعليم الشعب المصري إلى وقتنا هي البواعث الدينية، وإذًا يحسن
بالمشروع المذكور أن يكون أساسه الذي يعتضد به هي تلك البواعث؛ ليكون أنجح له
في سبيله لا أن يقاومها ويقضي عليها.
وترى اللجنة أن إيجاب حفظ القرآن الكريم في تلك المدارس، وجعله أساسًا فيها
(نظرًا لشدة تعلق الشعب المصري بمبادئه الدينية) هو أقرب وسيلة لترغيب الأمة
في تلك المدارس التي ستعاني الحكومة في الترغيب فيها الصعوبات الجمة.
(يتلى)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) نشرنا هذا التقرير إنجازًا لما وعدنا به في الجزء الماضي، وقد قال لنا أحد أعضاء لجنة المشروع: تذكروا أن المشروع وضع في غير هذا الوقت، وإننا نسلم بأكثر الانتقاد الذي ورد عليه.. إلخ.
(1)
نص الفقرة 45 (الغرض العاجل من القانون) يرمي مشروع القانون الذي وضعناه إلى أن ينشأ في كل مدينة وقرية في مدة لا تتجاوز عشرين سنة مدارس أولية حسنة البناء جيدة المعلمين، يبلغ مجموع تلاميذها 80 في المائة من أبناء الأمة، ومجموع تلميذاتها 50 في المائة من بناتها ممن تتراوح أعمارهم وأعمارهن بين السادسة والحادية عشرة، وإنا نرى أن هاتين النسبتين هما الحد الحقيقي الذي يجب التعويل عليه في إعداد ما يلزم من الأمكنة إذا راعينا أن عددًا من الأطفال سينصرف عن التعليم، وأن آخرين سيلحقون بالمدارس الابتدائية وغيرها، وراعينا العادة التي لا تزال مسيطرةً على قسم كبير من الأمة، وهي قلة الرغبة في تعليم البنات وتحرير المرأة من قيود الجهل وأغلال الأمية. والفقرة 47 (نسبة تلاميذ المدارس الأولية بالبلاد الغربية) وإذا قدرنا نسبة التلاميذ المصريين الذين يجب تعليمهم بالمدارس الأولية ممن تتراوح أعمارهم بين السادسة والحادية عشرة بثمانين في المائة من مجموعهم، ونسبة التلميذات اللاتي من هذه الأعمار بخمسين في المائة من مجموعهن - فإن مجموع ذلك يعادل 10 في المائة من مجموع سكان القطر، أي أن بلوغ هذه الغاية يرفع درجة التعليم في مصر إلى درجة إيطالية وأسبانية وبلغارية وفنلندة وبلاد اليونان. ونص المادة الأولى (تعريفات) العبارة الآتية يقصد بها في هذا القانون ما يلي:
(أ) المدرسة الأولية معهد تلقى فيه دراسة مناسبة لأبناء المصريين بين السادسة والحادية عشرة من عمرهم، ويكون التعليم فيها باللغة العربية فقط وفق منهج خاص تعينه وزارة المعارف العمومية أو تُقِرُّه يشمل على الأقل تعليم الديانة والقراءة والكتابة والحساب، وغير ذلك من المواد التي تعينها وزارة المعارف العمومية.
(ب)(السلطات المعادلة لمجالس المديريات) : هي السلطات التي يخولها هذا القانون - أو أي قانوني يليه - أن تتولى في المحافظات ما تتولاه مجالس المديريات من شؤون التعليم الأولي في المديريات.
(ج)(المدارس الأولية الأهلية) : هي المدارس الأولية التي لا تديرها مصالح الحكومة ولا مجالس المديريات، أو السلطات المعادلة لها.
(د)(المدارس الأولية الأهلية المعترف بها) : هي المدارس الأولية الأهلية التي ترى وزارة المعارف العمومية أنها قد أدركت الغرض المقصود من هذا القانون من حيث أمكِنَتِها ومُعداتها، والقائمين بالتعليم فيها وإدارتها العمومية.
(هـ)(السلطة البلدية) : كل مجلس بلدي أو مختلط أو محلي أو قروي، أو أي سلطة منتخبة من هذا القبيل تخول حق إدارة الشئون المحلية بإحدى المدن أو القرى.
(و)(السنة) : هي السنة المالية المتفق عليها في الحكومة المصرية.
ونص المادة الثانية (إنشاء المدارس الأولية) : يجب على كل مجلس مديرية (في المديريات) وكل سلطة أو سلطات تعادله (في المحافظات) أن يوجد كل سنة من المدارس الأولية المناسبة ما يكفي لنصف في المائة (أي لواحد في كل مائتين) على الأقل من مجموع السكان الذين في دائرته، باعتبار كل مدينة أو قرية وحدة قائمة بذاتها، لها ما يخصها من المدارس بنسبة عدد سكانها، وينتفي هذا الوجوب فيما يختص بأي مدينة أو قرية متى أصبح بها من المدارس الأولية المناسبة ما يكفي لعشرة في المائة من عدد سكانها، ومع ذلك يجوز لمجالس المديريات والسلطات المعادلة لها أن تستمر في إيجاد معاهد جديدة للتعليم بعد بلوغ هذا الحد في الجهات التي تتطلب أحوالها ذلك، وجميع المدارس الأولية التي تديرها مجالس المديريات أو السلطات المعادلة لها في وقت صدور هذا القانون، وكذلك المدارس الأهلية التي يعترف بها فيما بعد - يمكن اعتبارها وافيةً بما تتطلبه هذه المادة من إنشاء المدارس وافتتاحها إذا أقرتها وزارة المعارف العمومية، ولكن لا يجوز اعتبارها كذلك إلا عن السنين الأخيرة من السنين المقررة لإنفاذ هذا القانون، وتقرر وزارة المعارف العمومية عدد ما تسعه كل مدرسة أولية من التلاميذ ولا يتحتم على مجالس المديريات أو السلطات المعادلة لها أن تنشئ مدرسةً في جهة ما، أو توسع في بنائها إلا إذا كان عدد التلاميذ الذين يراد إيجاد محال لهم على النسبة الموضحة في الفقرة الأولى من هذه المادة قد بلغ 150 تلميذًا في المدن التي يزيد عدد سكانها على 8000 نفس، أو 75 تلميذًا في البلدان التي يتراوح عدد سكانها بين 4000 و8000 نفس، أو 40 تلميذًا في البلدان والقرى التي يقل عدد سكانها عن 4000 نفس، وكذلك لا يتحتم على مجالس المديريات أو السلطات المعادلة لها أن تنشئ مدرسةً أوليةً في جهة ما، أو توسع في بنائها ما دام بمدارسها الأولية الجامعة للشروط المطلوبة من المحال ما يزيد كثيرًا على مبلغ إقبال الأهالي في تلك الجهة على التعليم، ويكون البت في ذلك لوزارة المعارف العمومية.
(2)
نص هذه الفقرة 59 (الصعوبات الدينية) لا تكاد توجد مملكة من الممالك إلا كان نمو التعليم الأولي فيها مصحوبًا بعقبات ناشئة من صعوبة التوفيق بين الآراء المتضاربة فيها بشأن التعليم الديني، ولقد كانت هذه المسألة دائمًا منبع جدال طويل وربما جاز القول بأنه لم توفق مملكة من الممالك إلى حلها حلاًّ مرضيًا من جميع الوجوه، ثم عبارة المستر (لكي) المذكور أعلاه.
(3)
نص الفقرة 83 (تأثير قانون القرعة) لفت أحد الأعضاء المسلمين نظر اللجنة إلى العراقيل التي يضعها قانون القرعة الصادر في سنة 1902 في سبيل وضع نظام وافٍ للتعليم الأولي؛ لأن الفقرة السادسة والعشرين منه تعفي من الخدمة العسكرية حفظة القرآن الكريم إذا لم تكن لهم مهنة أخرى، ولما كان المصريون ينفرون أشد النفور من الخدمة العسكرية كان معظم الأهلين شديدي الرغبة في العمل على إعفاء أبنائهم منها، وكانت الوسيلة الوحيدة لذلك عند الفقراء منهم أن يعدوا أبناءهم ليكونوا حفظةً، وأن يبعثوهم إلى الكتاتيب الأهلية لقضاء جميع أوقاتهم في حفظ القرآن بدلاً من إرسالهم إلى المكاتب المنتظمة حيث يتعلمون تعلمًا وافيًا مع تلقي المقدار الكافي من التعليم الديني، وأما ما يشترطه هذا القانون من عدم الاشتغال بمهنة أخرى فلا فائدة منه؛ لأن المقترعين لا يلتفت إليهم بعد إعفائهم، ولا تعرف الحكومة شيئًا مما يزاولونه من الأعمال، وقد قيل لنا: إن الأحداث الذين يذهبون إلى هذه المكاتب لا لشيء سوى حفظ القرآن، وتضييع أوقاتهم بها إلى السادسة عشرة أو السابعة عشرة يربو عددهم كثيرًا على من يُنتظر أن يشتغلوا بشيء من الأعمال الدينية، أو يلحقوا بأحد معاهدها، على أن الأزهر الشريف ومدرسة القضاء الشرعي لا يشترطان على راغبي اللحاق بهما أن يحفظوا من القرآن أكثر من نصفه، وقد بلغنا أن حكومة تركية - وهي حكومة إسلامية - لا تعفي أحدًا من الخدمة العسكرية لحفظ القرآن.
(4)
عنوان الفقرة 87 (إزالة هذا العائق) وتتمتها (الوافي بالغرض) وذلك يتم بأحد أمرين: إما بالسير على النهج المرسوم في مشروع القانون الذي ارتضاه صاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية في سنة 1905، وإما باتباع طريقة أخرى تقرها هيئة رجال الدين الإسلامي، ونود لو وضعت الآن قاعدة عامة تقضي بعدم إعفاء أحد بعد مضي زمن طويل من الآن (أي بعد سنة 1930 مثلاً) من الخدمة العسكرية لسبب من الأسباب (سواء أكان دينيًّا أم صناعيًّا أم تعليميًّا أم غير ذلك) إلا إذا كان طالب الإعفاء قد أتم المقرر الدراسي للمدارس الأولية أو الابتدائية؛ فإن ذلك يساعد على نشر التعليم الأولي مساعدةً عظيمةً) .
(5)
ونص الفقرة 90 (المدارس الإعدادية) أما من يرغب من النشء في الانتظام في سلك المعاهد الدينية، أو في أن يكونوا من حملة القرآن الكريم فلديهم متسع من الوقت بعد إتمام مقرر المدارس الأولية للوصول إلى غرضهم هذا بالتعلم في مدارس إعدادية يشرف عليها رجال الدين. ونرى أن تمنح الحكومة ما يكون جامعًا لشروط الجدارة من هذه المدارس إعانةً ماليةً.
(6)
عنوان الفقرة 25 (الحكومة وتعليم الأطفال) ونصها: من الأقوال المأثورة عن نابليون: (إن التعليم يجب أن يكون أول أغراض الحكومة) ولقد أصبح معظم الحكومات المتمدينة في الوقت الحاضر يعتبر تعليم الأطفال من أعظم واجباته، وقد وصل تعليم طبقات الشعب في البلاد الأوربية إلى ما هو عليه الآن بفضل أربع حركات كبيرة، وهي:
(أولاً) : غيرة الطوائف الدينية على نشر مذاهبها وتوطيد أركانها بتعليم الأحداث.
(ثانيًا) : قيام مذهب الإنسانيين (Humanitarianism) الذي يرمي إلى وقاية الأحداث من العمال.
(ثالثًا) : قيام الديمقراطية لأنها خولت جمًّا غفيرًا من الشعب حق الاشتراك في أعمال الحكومة فاستدعى ذلك تعليم الأطفال؛ لأن منهم ينبغ ويُصبح من كبار أعضاء مجالس النواب.
(رابعًا) : الحركة الصناعية فإنها أقنعت الأمم بأن انتشار التعليم بين جميع الطبقات، ولو اقتصر على ما سيتناوله التعليم الأولي - يزيد في مقدرة العمال، وقد كان أقوى البواعث على تعليم الشعب بمصر إلى وقتنا هذا على النمط الحالي بواعث دينية، ولكن تقدم البلاد من الوجهات الصناعية والسياسية والأدبية والاجتماعية سيوجد بواعث قوية جديدة، يزيد عظم شأنها على مر الأيام، ولا يمكن غض الطرف عنها، ولا التسويف فيما توحي به من الجد والعمل.