الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة المجلد التاسع والعشرين من المنار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الأعظم الأجل، والثناء الأكبر الأكمل، لربنا ذي العظمة والجلال،
والكبرياء والكمال، مقدر الآجال للأفراد والأجيال، ومقلب القلوب ومحول الأحوال
على ممر السنين والأحوال ، والتسبيح الأرفع الأسمى، لاسم ربنا الأعلى (الذي
خلق فسوى، والذي قدر فهدى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى، عالم الغيب
والشهادة الكبير المتعال) .
خلق السموات والأرض وما بينهما بالحق، وأقام بين عباده ميزان الحكم
بالعدل، وحكمه في كل من التكوين والتشريع هو الفصل، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ
مِن وَالٍ} (الرعد: 11) .
والصلاة الإلهية النورانية، وتحية السلام الربانية الرحمانية، على خاتم دولة
النبيين، ولبنة الزاوية الذي أكمل الله به بناء الدين، وأتم نعمة هداية الوحي على
المؤمنين، محمد بن عبد الله العربي الأمي الملقب من قومه بالأمين، المرسل من ربه
رحمة للعالمين، وعلى آله الأطهار، وأصحابه المهاجرين والأنصار، ومن اقتفى
آثارهم من المقربين والأبرار، واجعلنا اللهم من هؤلاء المصطفين الأخيار، الذين
يذكرونك ذكرًا كثيرًا، ويسبحون بحمدك بالغدو والآصال.
أما بعد، فإن المنار يذكّر قرّاءه في فاتحة مجلده التاسع والعشرين، بمثل ما
عهدوا منه في غابر السنين، من العظات والمثلات العامة والخاصة بالمسلمين،
وما هم عرضة له من صلاح وفساد، وما يحتاجون إليه من إصلاح وإرشاد، وما
له من هذا شأن فيه، وذكرى في نواحيه، وما أريد أن أذكرهم به اليوم أجل مما
سبق من أمثاله خطرًا، وأوسع فجاجًا وسبلاً، وأدق علمًا وعملاً، على أنه عين ما
ذكرتهم به من قبل في جملته، وإنما هو أجل منه شأنًا وأبعد شأوًا في تفصيله مع
ضيق وقته.
كان سير الأمم والشعوب فيما سبق وئيدًا، كالأباعر يحملن جندلاً أو حديدًا،
ثم صار يسير بسرعة البخار، فيما يجر من المركبات في البر والجواري المنشآت
في البحار، ثم صار يطير في الهواء، ويسير سفنه في جو السماء، ثم إن الإنسان
العالم العامل، فسر لنا كيف سخر الله له ما في السموات وما في الأرض باستخدام
الكهرباء لمنافعه، وتصرفه بنورها وقوتها النافذين في الكائنات كلها لمصالحه،
وهذا ما أشرنا إليه آنفًَا في الصفحة الأولى من الصحيفة الأولى من المنار؛ منذ إحدى
وثلاثين سنة هجرية.
كان أكثر ما وصفنا به أعمال الإنسان المستيقظ يومئذ حقائق واقعة، وأقلها
تصورات متوقعة، وقد وقع ما كان متوقعًا، وتجاوز كل ما كان متصورًا، وعدا
كل ما كان مقدرًا، وأغربها المناطيد والطيارات، وتقريب المسافات، ونطق
الجمادات، وتراسل أهل الأمصار البعيدة بالصور والمخطوطات؛ كتناجيهم
بالأصوات، واستماعهم للخطباء والعازفين والمسمعات (المغنيات) ، فمن هو في
العالم القديم، قد صار بمرأى ومسمع ممن في العالم الجديد، بل ظهر من أسرار
الله في هذه الكهرباء ما صار به كل ما كان يستغرب من أخبار الوحي عن عالم
الغيب غير غريب، وكل ما كنا وصفنا من سعة سير الإنسان في أطوار الحضارة
بطيئًا غير سريع، بل كشف من عجائب سنن الله في الكهرباء ما لم يكن يخطر
على قلب بشر، وهو كل يوم في ازدياد، والناس من عجائب صنع الله في شأن،
يتنقلون بها من طور إلى طور، يتوقلون في نجد ويهبطون إلى غور، وقد عمت
مصنوعاتها الخافقين، فهي مبصرة بالعينين، مسموعة بالأذنين، ملموسة باليدين
موطوءة بالرجلين.
لكن كل هذه العلوم الزاخرة، والفنون الساحرة، والصناعات التي لو خفيت
أسبابها لعدت من السحر أو المعجزات، لم تزد المستمتعين بها إلا فسادًا في
الأخلاق وكفرًا بنعم الخلاق باستعمالها وسائل للحرب والنزال، وأسلحة للعدوان
والصيال، وآلات لتخريب ما لغيرهم من عمران، وتدمير ما لهم من بنيان، أو
يكون لهم ملكًا وأهله من العبدان، فماذا يجب على المسلمين أن ينتفعوا به من تلك
العلوم، وماذا يجب عليهم من اتقاء ضررها؟ .
طغى الغرب على الشرق بقواه العلمية والآلية يستغله ويستذله، ثم دفع دوله
التنازع على غنائمه والسيادة على أهله إلى طغيان بعضهم على بعض في حروب
صغيرة وكبيرة، حتى جاءت الطامة الكبرى وحرب المدنية العظمى، فخربوا
بيوتهم بأيديهم، وأحرقوا ثمرات كسبهم بنارهم، وأضاعوا فيها من رجالهم العاملين
زهاء عشرين ألف ألف نسمة بين قتيل ومشوه، من أقطع وأبتر وأجذم، دع عدد
المسلولين من مخابئ الخنادق والسراديب الشديدة الرطوبة على جوعهم، وفقدهم
الثياب الكافية لتدفئتهم، وأكثرهم كَلّ على أهله وحكومته، ولعل جملة خسائرهم في
أربع سنين تربي على ما ربحوه كلهم من الشرق في مائة سنة أو أكثر.
فإن كانوا كسبوا بهذه الحرب توسعًا في العلوم والفنون والصناعات، فقد
أعقبتهم فسادًا على فسادهم، وزادتهم رجسًا إلى رجسهم، فهم يستعدون في الباطن
لحرب أشر منها وأضر وأدهى وأمر، من حيث يسعون في الظاهر إلى عقد
المحالفات؛ لتحديد صنع الأسلحة وتقليل إنشاء الأساطيل والطيارات، وما كانت
عهودهم إلا دخلاً بينهم؛ أن تكون أمة هي أربى من أمة. فكل دولة من دولهم تمكر
بالأخرى وتكيد لها، بل هم يكيدون لشعوبهم ويمكرون بها، أعني أن كل حكومة
تمكر بشعبها نفسه وتخدعه؛ ليواتيها ويؤيد سياستها الحربية ويقرر لها نوابه المال
الذي تطلبه لها، وقد أحدثت الحرب الأخيرة في قلوب هذه الشعوب مقتًا للحرب
ورعبًا؛ مما عرفوا من أهوالها، ضاعف ما في الغرائز من كراهتها، فإذا جاءت
الحرب التالية كانت هي القاضية، ولن يستطيع أعداء البشر من وزراء دول
الاستعمار أن يتصرفوا في أموال شعوبهم وأنفسها بكيدهم تصرف سفهاء الوارثين،
وخونة القوامين على اليتامى والمجانين، ولا أن يسوقوا مئات الألوف بل
الملايين من شبان مستعمراتهم إلى جحيم الحرب، كما تساق الغنم إلى مجازر الذبح،
ولا أن يستحوذوا على ذهبها وفضتها وغلالها ومواشيها وجمالها وخيلها وبغالها
وحميرها فينتزعوها بالقوة القاهرة، كما فعلوا في الحرب السابقة، وإن صادفوا من
رجال حكوماتها المحلية من يسخرونهم لذلك كما سخروا الحكومة المصرية، فكيف
إذا لم يجدوا حكومةً وطنيةً قابلةً لمثل ذلك التسخير الذي لا يرضى به إلا الحمير؟
فلا ييأسن مسلم ولا شرقي من تحرير أمته من رق أوربة، فإن الفرصة ستسنح عن
قريب، والويل يومئذ للغافلين والمتخاذلين، بل الويل الأكبر للشعب الذي يفرق شمله
ملاحدة المجددين، فهم الخطر الأكبر على المسلمين وسائر الشرقيين.
ازدادت أوربة بعد الحرب علمًا وصناعة، وكذلك ازدادت جشعًا في
الاستعمار، وطمعًا في الدرهم والدينار، وضراوة في سفك الدماء ، وتفننًا في المكر
والدهاء، وصراحة في نقض العهود، وإخلاف الوعود، كما فعلوا في البلاد
العربية التي ضمنوا لها الاستقلال والحرية، ثم تجاوزوا بالعدوان عليها ما كانوا
قرروه سرًّا من اقتسام ذات الثروة الغزيرة منها: تجاوزوا العراق وسورية
الساحلية إلى الصحراء العربية، بل إلى البلاد المقدسة الحجازية، فاقتسموا سكة
الحديد الممتدة من سورية وفلسطين إلى المدينة المنورة؛ وهي وقف إسلامي على
الحرمين الشريفين ثم انتزع الإنكليز منطقة العقبة ومعان التابعة لمدينة الرسول
صلى الله عليه وسلم وأنشئوا يقيمون فيها الثكنات العسكرية والمعاقل الحربية،
وسيمدون فيها سكة حديدية تصل ما بين العقبة والبصرة، أو ما بين ساحل الحجاز
من البحر الأحمر وشط العرب، وحينئذ يكون أداء فريضة الحج تحت مظلة
سلطانهم، وذلة صلبانهم من كل بر وبحر، ويكون الحرم النبوي تحت رحمة
طياراتهم وجنودهم في كل وقت، كل هذا فعلوه بمساعدة الشريفين المكيين
الهاشميين والحسنيين الأميرين الملكين ملك الحجاز - بزعمه - في ذلك الوقت
الشريف علي، وأمير شرق الأردن البريطاني إلى يومنا هذا الشريف عبد الله، فإذا
سكت العرب على هذا العدوان جهلاً، فلماذا يسكت سائر المسلمين والحجاز قبلة
ومنسك للجميع؟ وماذا يخافون والله يقول: {فَلَا تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: 175) .
سارع الإنكليز وحلفاؤهم بعد الحرب إلى استعباد ما لم يكونوا قد استعبدوه من
الشرق، وجعله كله من غنائمهم المحللة لهم، وظنوا أنهم قد ملكوا القسطنطينية
العظمى وبحر مرمرة والبحر الأسود والقسمين الجنوبي والشرقي من البحر
المتوسط وبلاد العرب من مصر والبحر الأحمر إلى شط العرب وبلاد إيران، وأن
قد اتصلت مصر بالهند، وستتصل بمدينة الرأس، ولكن ماذا كان؟ استبسل لهم
الترك استبسال المستيئسين فطردوهم من الآستانة وما حولها، وتنمر لهم الفرس
تنمر المستهتر المستقتل، فأحبطوا أملهم في إيران وضربوا بقصاصة معاهدة
كرزون عرض الحائط، وأعلنوا الاستقلال المطلق، وإلغاء الامتيازات الأجنبية فتم
لهم ما يريدون، وقامت في وجوههم ثورة مصر العزلاء، فاضطرتهم إلى إلغاء
الحماية والاعتراف لمصر بالاستقلال والسيادة القومية. ولكنهم قدموا هذا الاعتراف
بتحفظات، لا تزال مثار النزاع والمفاوضات.
وقامت على إدارتهم الهندية في العراق الثورة المسلحة، فألجأتهم إلى تأليف
حكومة عراقية ملكية. لكنهم جعلوا فيصل بن حسين أخلص صنائعهم لهم ملكًا عليها،
يحقق لهم بالسلم والاقتصاد كل ما يريدون منها، وسوف يخيب بتوفيق الله أملهم
فيها.
وآذنهم بالحرب أمان الله خان أمير الأفغان، فاضطروا للاعتراف له
بالاستقلال المطلق التام، وكانت بلاده تحت حمايتهم المذلة، فأصبحت عزيزة
مستقلة، وكان ما كان من أمر ثورة الصين عداوة لهم ونبذًا لسيطرة امتيازاتهم
واستعمارهم، فحاولوا تأليب أوربة عليهم كما هو المعروف من شنشنتهم، فخذلتها
الدول في هذه المرة، وما كل مرة تسلم الجرة، فعادوا خاسرين وانقلبوا خاسئين.
وثبت الإمام يحيى في اليمن على سياسته السلبية معهم، فلم يستطيعوا إقناعه
بالاعتراف لهم بأدنى حق في بلاده، بل لا يزال يطالبهم بالمقاطعات التسع وبعدن
نفسها.
وانتزع ابن السعود الحرمين الشريفين من صنيعتهم الشريف حسين الذي ولوه
عليه، وكان يعترف لهم بأنه موظفهم فيه، ونقض ما كان من اتفاق سنة 1915 الذي
كان ضربًا من الحماية، واضطرهم إلى الاعتراف له بالاستقلال التام المطلق في
الحجاز ونجد وملحقاتها ولا يزال الخلاف بينهما قائمًا على السكة الحجازية ومنطقة
العقبة ومعان، يطالبونه بالاعتراف بدخول هذه في شرق الأردن أو بالسكوت لهم
عنها، وينذرونه تأليب عرب العراق والأردن عليه، وتهييج مسلمي الهند وإيران
ومصر عليه.
نعم.. يطمع الإنكليز بالاستيلاء على الحجاز بقوة المسلمين عامة والعرب
خاصة؛ لأنهم رأوا من تخاذل العرب الوطني والجنسي، مثلما رأوا من تخاذل
المسلمين الديني، فكان زعيمان من أشهر خصومهم في الهند أشد خدمة لهم في هذا
السبيل من أخلص صنائعهم في بلاد العرب (الملك فيصل والأمير عبد الله) ،
هذان يهددان ملك الحجاز ونجد، ويعتديان حدود الله بالتعدى على حدوده والتحرش
بقوته، وذانك قد اجتهدا في إيقاع الفشل في المؤتمر الإسلامي العام الذي أجمع على
الإنكار على الإنكليز مسألة العقبة ومعان، ومسألة اقتسام منافع السكة الحجازية
بينهم وبين أحلافهم الفرنسيس. وما فعلا ذلك حبًا في الإنكليز بل بغضًا في ابن
السعود؛ لأنه لم يتبع هواهما فيما يريدان أن تكون عليه حكومة الحجاز وهو هوى
باطل، وتنفيذه محال وطلبه غرور بل جنون.
هذه حالهم في الشرق، خابوا في كل عمل، وانكشف خداعهم لكل أحد، ولم
يبق لهم أمل جديد إلا في بلاد العرب، ولولا فيصل وعبد الله ولدا الشريف حسين،
لرجعوا منا بخفي حنين؛ إذ كان يستحيل على التقاليد الإنكليزية أن تستولي على
شيء من أرض الحجاز لنفسها، وقد سبق لنا أن استنجدنا العالم الإسلامي على
والدهما موجد هذا الخطر فأنجد. والآن نستصرخه ليتم ما بدا، وينقذ حرم الله
وحرم رسوله من الردى.
إن الدفاع عن الحجاز واجب على المسلمين أينما كانوا، كل بقدر طاقته، فإن
استيلاء الإنكليز على ثغر العقبة وحده أكبر خطر على المدينة المنورة، وإن هذه
البلاد قد حرمها الإسلام على غير المسلمين، فلا يجوز لإنكليزي ولا لغيره أن يملك
فيها ذراعًا ولا شبرًا، ولا أن يصدر فيها نهيًا أو أمرًا، فإذا لم يبال المسلمون كافة
بمبدأ دينهم، ونقض الأجانب لوصية نبيهم، ولا بجعل ركن الإسلام الاجتماعي
العام تحت رايتهم ووصايتهم، فأي دين يبقى لهؤلاء المسلمين؟ أيظنون أن الإنكليز
يحافظون على حرية الحج وكرامة الحرمين في ظل ملكهم حامي الكنيسة الإنجيلية،
وهم يرون بأعينهم ويسمعون بآذانهم ويقرءون في الكتب والصحف ما يفعل دعاة
النصرانية في ثالث الحرمين (القدس) ؛ من الطعن في الإسلام، والتواطؤ على
تنصير جميع مسلمي الأرض، وتخصيص الحرمين الشريفين وعرفات وسائر
العرب بالذكر؟ وقد ظهر لهم سر قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا ذلت العرب ذل
الإسلام) رواه أبو يعلى بسند صحيح.
أيها المسلمون:
أصغوا، أصيخوا، أنصتوا، استمعوا، وانظروا، وتأملوا في عاقبة دينكم،
وبيت ربكم، وحرم رسولكم، ليست المسألة مسألة حكومة ملكية أو جمهورية، ولا
مسألة أسرة سعودية أو هاشمية، ولا مسألة وطنية حجازية أو يمنية أو نجدية، ولا
عصبية مذاهب سنية أو زيدية أو إمامية، ولا قضية جنسية عربية أو فارسية أو
أفغانية أو هندية، ولا تعاليم سلفية وهابية أو خلفية تأويلية، بل المسألة العظمى
وهي الطامة الكبرى مسألة الديانة الإسلامية والملة الحنفية والوصية المحمدية، كل
ذلك على خطر الزوال، والذل والخزي والنكال؛ إذا ظل الأجانب محتلين بقواتهم
العسكرية للعقبة ومعان إن سكتنا عن القدس وشرق الأردن الآن، وهم يخترقون
منها قلب الصحراء العربية إلى العراق.
سبحان الله! ما بالكم تسمعون الإنكليز يصرحون بأن استقلال المصريين في
مصرهم خطر على الهند البريطانية - وبريطانيا أقوى دول الأرض - ولا يكون
احتلالهم هم للعقبة ومعان وعمان واستيلاؤهم على سكة الحديد الحجازية مع
حلفائهم الفرنسيس خطرًا على الحجاز، وليس للحجاز دولة ذات قوة برية بحرية
جوية، يمكنها أن تدفع عنه هاتين الدولتين القاهرتين كلتيهما ولا واحدة منهما،
اللهم إلا قوة الإيمان في الشعوب الإسلامية التي يجب أن تكون مع الحجاز إلبا
واحدًا عليهم.
ألا يجب عليكم شرعًا أن تستعملوا قوتكم المعنوية، فتجمعوا على مطالبة
الدولة البريطانية بترك ما انتزعت من الحجاز للحجاز، وتطالبوا الدولتين وسائر
الدول بالاعتراف باستقلال الحجاز وسائر جزيرة العرب، وبكونها بلاد حرة حيادية
لا يعتدي عليها أحد؟ بلى والله لئن سكتم عن هذا، ليحكمن عليكم الأجانب بالموت
والفناء أو لتكونن أنتم والحشرات الدنيئة في نظرهم سواء.
انظروا وتأملوا: لماذا أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم في مرض موته بإخراج
اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وأن لا يبقى فيها دينان؟ على ما علمتم من
تسامح الإسلام وما جاء به من حرية الأديان؟ أليس قد أوصى بذلك؛ لأن حرم الله
وحرم رسوله في الحجاز؟ وهما مهبطُ الإسلام ومثابةُ أهله ومفزعُهم وملجؤهم عند
الشدة، ولا يتم ذلك إلا إذا كان الحجاز خاصًّا بهم هو وسياجه من جزيرة العرب.
إذا كان هذا المعنى قد خفي على بعض العلماء المتقدمين، فلا يصح أن يخفى
على عوام المعاصرين فضلا عن العلماء ولا سيما المحدثين الذي اطلعوا على قوله
صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جُحْرها)
رواه الشيخان من حديث أبي هريرة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام
غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء، وهو يأرز بين المسجدين كما
تأرز الحية في جُحْرها) رواه مسلم من حديث ابن عمر، وحديث (إن الدين ليأرز
إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جُحْرها، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية
من رأس الجبل) .. إلخ، رواه الترمذي عن عمرو بن عوف المزني، ومعنى أرز:
عاد وانكمش وانضم، والمراد الذي يدل على مجموع الروايات وحالة هذا العصر:
أن الإسلام عندما يضعف ويعود غريبًا ينكمش إلى الحجاز ويلجأ إليه، فيعتصم به
كما تعتصم الوعول في رؤوس الجبال، وهو الواقع الآن الذي أظهر لنا حكمة
وصيته صلى الله عليه وسلم بأن لا يبقى في جزيرة العرب غير الإسلام.
أيها المسلمون: إن الدولة البريطانية أطمع الدول ولكنها أعقلها، فإذا رأت
إجماع السواد الأعظم منكم على مطالبتها بما ذكرنا، وإذا بثثتم الدعوة في العالم
الإسلامي كله على وجوب عداوتها ومقاطعتها، فإنه يرجى أن تترك منطقة العقبة
ومعان للحجاز في المفاوضة السياسية التي ستكون بينها وبين حكومته عن قريب؛
لأن البت فيها قد أرجئ إلى هذه المفاوضة، وكذلك مسألة سكة الحديد الحجازية،
فإن لم تفعل وجب على كل مسلم أن يبث الدعاية التي أشرنا إليها آنفًا بمقتضى
النظام الذي يضعه الزعماء لها، وقد آن وقت الفصل بين الإسلام والإنكليز: فإما
صداقةٌ تامةٌ وهي خير لنا ولهم، وإما عداوةٌ عامةٌ ولن تكون شرًّا علينا منهم.
إن الدولة البريطانية تعلم أن لدى الإمام عبد العزيز بن السعود قوة حربية لم
تر مثلها جزيرة العرب بعد عصر الصحابة، وأن الجيش البريطاني لا يمكنه أن
ينازل هذه القوة في نجد ولا في الحجاز؛ لأسباب جغرافية وسياسية وتقليدية
واقتصادية معروفة، وأن الطيارات ما صارت قوة فاصلة في الحرب ولا سيما في
مثل هذه الأرض، فسالمته ودارته من جهة، ووضعت على حدوده في نجد
والحجاز عدويه الحاقدين عليه في العراق وشرق الأردن من جهة ثانية، وهو أقوى
منهما، ولكنه لا يرضى أن يتقارع العرب والمصلحة لغيرهما.
أفلم يئن للعرب أن يعرفوا كيف أسست أمبراطورية الهند وغيرها بمثل هذه
الحيل، أو لم يئن للمسلمين أن يتقوا الوقوع اليوم في شر مما وقع فيها من أضاعوا
بلادهم من قبل، وهو إضاعة دينهم مع بقية دنياهم.
أيها المسلمون: إن الإسلام لا يزال قوة عظيمة في الشرق كله؛ إذا وجد لها
زعماء جامعون بين العقل والعلم والحزم، فإنه يمكنهم أن يحفظوه ويرقوه ويحفظوا
له بقية بلاده، ويستعيدوا الكثير مما فقد منها، بل يمكنهم أن يحلوا بها عقدة مشكلة
المدنية الكبرى، ويعمموا نشره في بلاد الغرب كلها، أقول هذا عن علم وخبرة
اكتسبتها في بحث استمر زهاء ثلث قرن، ولما أجد لها الزعماء الصالحين لتنفيذها.
وكان شيخنا الأستاذ الإمام موقنًا بهذا وصرح به في الدرس العام بالجامع
الأزهر، وكان قبله حكيم الإسلام والشرق السيد جمال الدين موقنًا بهذا، ويحاول
أن يكون بسعيه - وكان قبلهما بطل أوربة نابليون بونابرت يحاول ذلك عن عقيدة
راسخة - وما أحبط سعي هؤلاء كلهم إلا الدولة البريطانية، وهي التي تحاول
إحباط عمل كل عامل يعمل للإسلام أيضا ما استطاعت. ولكن الزمان قد اختلف،
ومثل هذا العمل يعمله الإنكليز سرًّا لا جهرًا، وكل قوتهم فيه خفاؤه وإخفاؤه، فمتى
ظهر فشل إذا أحكم في مقاومته العمل.
أيها المسلمون: إن مدنية أوربة المادية، لا تجد لها منفذًا من الهلاك القريب
في التنازع بين عباد المال والشيوعيين، وفي الإسراف في الشهوات والمطامع إلا
بدين القرآن، فعلى المؤمنين الراسخين أن يعجلوا بإنقاذها به قبل أن تقضي هي
على ما بقي لهم من ملك وملك وثروة وقوة، وقد شرحنا لهم هذا المعنى في كتاب
الخلافة، وسيرون في باب أحوال العالم الإسلامي من الجزء التالي تتمة ما كنت
عزمت على بيانه من جوانبه في هذه الفاتحة. فمن لم يعلم فليبحث وليسأل إن كان
لديه من الإيمان ما يؤهله للعمل، وإلا فلا يغشن نفسه بدعوى الإيمان.
اللهم إنك قد أمرت بالتبليغ، وقد بلغت ما عندي، اللهم فاشهد وأنت خير
الشاهدين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
أسئلة عن أحاديث الصحيحين وما قيل من أغلاطها
ورواية أبي هريرة، والفرق بين أحاديث التشريع وغيرها
س 1-9 من صاحب الإمضاء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله هادي الأنام، والصلاة والسلام على البشير النذير خاتم الرسل الكرام
وعلى آله هداة الأمم ومنار الإسلام.
أما بعد: من أحمد محمد شهاب إلى حضرة من بعثه الله مجددًا لما اندرس من
معالم الدين، ناصر السنة، وقامع البدعة، حامي بيضة الإسلام، إمام الأئمة
الأعلام [*] صاحب الفضيلة السيد محمد رشيد رضا.
السلام عليكم ورحمة الله، اطلعت على كتاب سبل السلام شرح بلوغ المرام
الذي صححه وعلق عليه حضرة الأستاذ النابه الشيخ محمد عبد العزيز الخولي
المدرس بقسم التخصص في القضاء الشرعي، فَإذَا الكتاب طبع في مطبعتين
إحداهما المطبعة المنيرية لصاحبها حضرة الشيخ محمد منير أغا، والأخرى للشيخ
محمد علي صبيح، وقد جاء في نسخة المطبعة الأولى صحيفة 9 جزء 1 تعليق
لحضرة المصحح على شرح الحديث الشريف 12 عن أبي هريرة قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وقع الذباب في شراب فليغمسه ثم لينزعه؛ فإن في
أحد جناحي داء وفي الآخر شفاء) نقلاً عما كتبه حضرة الطبيب محمد توفيق
صدقي العالم المتدين في كتابه سنن الكائنات صحيفة 162 جزء10 ومما جاء فيه:
إن من عادة الذباب أن يجتمع على القاذورات والنجاسات، ثم ينتقل منها على طعام
الإنسان أو يسقط في شرابه أو يقف فوق عينيه، وبذلك تنتقل جراثيم الأمراض إلى
الإنسان وتنتشر بين أفراد هذا النوع، واستشهد على ذلك بما قرره أطباء الإنكليز
في حرب الترنسفال من انتقال العدوى في أفراد الجيش بواسطة الذباب، إلى أن
قال: إذا وقف الذباب على الأعين وجب طرده في الحال وإذا وقف على الطعام أو
سقط في الشراب فالأسلم تطهيرهما بالنار. أما ما رواه البخاري عن أبي هريرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذا الحديث مشكل وإن كان سنده صحيحًا، فكم في
الصحيحين من أحاديث اتضح لعلماء الحديث غلط الرواة فيها، كحديث (خلق الله
التربة يوم السبت) مثلاً وغيره مما ذكره المحققون، وكم فيهما من أحاديث لم يأخذ
بها الأئمة في مذاهبهم، فليس ورود هذا الحديث في البخاري دليلاً قاطعًا على أن
النبي صلى الله عليه وسلم قاله بلفظه؛ مع منافاته للعلم وعدم إمكان تأويله، مع أن
مضمونه يناقض حديث أبي هريرة وميمونة؛ وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم
سئل عن الفأرة تقع في السمن، فقال: (إن كان جامدًا فاطرحوها وما حولها وكلوا
الباقي، وإن كان ذائبًا فأريقوه أو لا تقربوه) فالذي يقول ذلك لا يبيح أكل الشيء
إذا وقع فيه الذباب؛ فإن ضرر كل من الذباب والفئران عظيم، على أن حديث
الذباب هذا رواه أبو هريرة، وفي حديثه وتحديثه مقال بين الصحابة أنفسهم!
خصوصًا فيما انفرد به كما يُعلم ذلك من سيرته، وهَبْ أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال ذلك حقيقة، فمن المعلوم أن المسلم لا يجب عليه الأخذ بكلام الأنبياء
صلوات الله وسلامه عليهم في المسائل الدنيوية المحضة التي ليست من التشريع،
بل الواجب عليه أن يمحصها ويعرضها على العلم والتجربة، فإن اتضح له صحتها
أخذ بها وإن علم أنها مما قاله الأنبياء (صلوات الله وسلامه عليهم) بحسب رأيهم،
وهو يجوز عليهم الخطأ في مثل ذلك! وقد حقق هذه المسألة القاضي عياض في كتابه
الشفاء، فليراجعه من شاء. ومما رواه فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:
(إنما أنا بشر فما حدثتكم عن الله فهو حق، وما قلت فيه من قِبَل نفسي فإنما أنا بشر
أخطئ وأصيب) انتهى.
والذي نريد أن نعرفه من فضيلتكم:
1-
ما هي أحاديث الصحيحين التي اتضح لعلماء الحديث غلط الرواة فيها؟
2-
ما في حديث وتحديث أبي هريرة رضي الله عنه من المقال؟ وما الذي
قيل في سيرته؟
3-
إذا كان لا يجب الأخذ بكلام الأنبياء (صلوات الله وسلامه عليهم) في
المسائل الدنيوية المحضة، أفلا يكون الأخذ بها سنة أو مندوبًا؟
4-
هل يوجد ضابط لا يتطرق إليه القيل والقال في التمييز بين ما قيل من
النبي صلى الله عليه وسلم في المسائل الدنيوية، وما قاله من قبل نفسه، وما قاله
على سبيل التشريع؟
5-
جواز خطأ الأنبياء (صلوات الله وسلامه عليهم) ، فما قالوه من أنفسهم
ودليله وحكمه؟ وهل ما وقع لنبينا صلى الله عليه وسلم من هذا القيل محصور وما
هو؟
6-
التوفيق بين حديثي الذباب والفأرة؟
7-
هل حديث الذباب مع ما يشتمل عليه من الأخبار، يقال من قبل الرأي أو
التشريع.
8-
كيف يكون القول الصادر عن الطبيب محمد توفيق صدقي كفرًا مع قول
المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر فما حدثتكم عن الله فهو حق، وما
قلت فيه من قبل نفسي) .. إلخ، وما درجة هذا الحديث ومن خرجه؟
9-
جاء في تعليق النسخة طبعة صبيح، طعن مر على ما كتبه الدكتور محمد
صدقي وأنه كفر، فهل يجوز هذا الطعن، وما حكم قائله؟
نرجو الإفادة عن كل ما تقدم بتوسع، حتى تكون الأمة على بينة منه، وإنا
منتظرون فيما تكتبون الشفاء، والمعهود في سماحتكم الوفاء، ودمتم محفوظين،
وبعناية المولى القدير ملحوظين، والسلام.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
28/11/1927
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
المخلص
…
...
…
...
…
...
…
...
…
أحمد محمد شهاب
…
...
…
...
…
رئيس نقطة الحبابية مركز منوف منوفية
(المنار)
نحيي السائل بخير من تحيته، من السلام ورحمة الله وبركاته ونعمته،
ونسأله تعالى أن يجعلنا أهلاً لحسن ظنه وإخلاص نيته، ونخبره بأن أسئلته المهمة
قد سبق لنا تحقيقها في المنار؛ لذلك نجيب عنها بالاختصار، فنقول:
(أجوبة المنار بالترتيب)
1-
أحاديث الصحيحين التي ظهر غلط الرواة فيها
لم أقف على إحصاء لأحاديث الصحيحين التي اتضح لعلماء الحديث أن
الرواة غلطوا فيها، وعلماء الحديث قلما يعنون بغلط المتون فيما يخص معانيها
وأحكامها الذي هو مراد السائل، وإنما كانت عنايتهم التامة بالأسانيد وسياق المتون
وعباراتها والاختلاف والاتفاق فيها والمرفوع والموقف منها، وما عساه أن يكون
مدرجًا
فيها من كلام بعض الرواة ليس من النص المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ،
وإنما يظهر معاني غلط المتون للعلماء الباحثين في شروحها وما فيها من أصول
الدين وفروعه وغير ذلك، ولو لم يكونوا من المحدّثين في الاصطلاح على أنهم
يرجعون في ذلك إلى أصول المحدثين؛ كقولهم: إن صحة السند لا تقتضي صحة
المتن في الواقع ونفس الأمر حتمًا، وعدم صحة السند لا تقتضي وضعه في الواقع
ونفس الأمر حتمًا، وقولهم: إن من علامات وضع الحديث - وإن صح سنده - أن
يكون مخالفًا لنص القرآن القطعي، وفي معناه كل قطعي شرعي كبعض أصول
العقائد أو الأعمال المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة، بحيث يتعذر الجمع
بينهما، ولهذا جزموا بغلط حديث أبي هريرة عند مسلم في خلق السموات والأرض
في سبعة أيام الذي أوله: (خلق الله التربة يوم السبت) ؛ لأنه مخالف لآيات
القرآن الصريحة في خلق السموات والأرض وما فيها في ستة أيام، بل حكموا
بغلط حديث شُريك بن أبي نمر في الإسراء والمعراج من أحاديث الصحيحين في السند
والمتن وهو الحديث الذي فيه أن الإسراء والمعراج كانا في رؤيا منامية، وذكروا له
عللاً أشار إليها مسلم مقرونة بسياقه على أن بعض العلماء والحفاظ انتصروا له فيه.
وإذا كانت مخالفة القطعي سببًا للحكم؛ إما بعدم صحة الحديث لعدم الثقة
برواته، وإما لغلطهم في سياق متنه. فمن الضروري أن تختلف الأفهام في ذلك
باختلاف مدارك أصحابها ومعارفهم، فالذين لا يعلمون أن الشمس لا تغيب عن
الأرض ولا تحتجب عن جميع سكانها من البشر ساعة ولا دقيقة، لا يرون شيئًا من
الإشكال في حديث أبي ذر في بيان أين تكون بعد غروبها؛ لأنهم يظنون أن
غروبها عنهم غروب عن جميع العالم.
ولكن حفاظ الحديث ورجال الجرح والتعديل، قد انتقدوا بعض أحاديث
الصحيحين، وجرحوا بعض رجالهما بحسب أفهامهم ودرجات معرفتهم، وجاء
آخرون فانتصروا للشيخين في أكثر ما انتقد عليهما، وأشهر هؤلاء المنتقدين
وأوسعهم تتبعًا وإحصاء الحافظ أبو الحسن الدارقطني صاحب السنن المشهورة،
وإذا أردت معرفة ذلك مع ما فيه وما يرد عليه، فراجع الفصلين الثامن والتاسع من
مقدمة الحافظ ابن حجر لشرح البخاري. فأما الأحاديث المنتقدة في البخاري فهي
110 أحاديث، منها ما انفرد به ومنها ما أخرجه مسلم أيضًا - وما انتقدوا من إفراد
مسلم أكثر من إفراد البخاري - وإذا قرأت ما قاله الحافظ فيها، رأيتها كلها في
صناعة الفن التي أشرنا إلى المهم منها عندهم. ولكنك إذا قرأت الشرح نفسه (فتح
الباري) رأيت له في أحاديث كثيرة إشكالات في معانيها أو تعارضها مع غيرها،
مع محاولة الجمع بين المختلفات وحل المشكلات بما يرضيك بعضه دون بعض،
فهذا النوع ينبغي جمعه وتحقيق الحق فيه بقدر الإمكان، كما حاول الطحاوي في
كتابه مشكل الآثار، وترى نموذجًا منه في كلامنا على أشراط الساعة ومشكلاتها في
الروايات الصحيحة وغيرها، على أن من أطال البحث فيه وفيما قبله يدهش لدقة
الشيخين ولا سيما البخاري في انتقاء أحاديث الصحيحين وتحريهما فيها.
وأما موضوع الفصل التاسع؛ وهو تضعيف كثير من رجال الجامع الصحيح
فقد سردها فيه الحافظ سردًا وأحصاها عدًا، وترى أن الطعن في أكثرهم مبني على
الاختلاف في أسباب الطعن والجرح، فيبني هذا جرحه على ما يخالف اصطلاح
الآخر، وترى أن المطعون فيهم قلما يخرج لهم حديث في الجامع الصحيح إلا في
المتابعات؛ للتقوية لا لأصل الاستدلال به، فإن جعله أصلاً كان له من الشواهد
والمتابعات ما يقويه، مثال ذلك حديث كثير بن شِنظير (بكسر الشين) البصري
عن عطاء: في الأمر بتغطية الأواني في الليل وربط الأسقية وإقفال الأبواب ومنع
الصغار من الخروج مساء خشية الجن أو الشياطين، كثير هذا قال فيها ابن معين
ليس بشيء، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال الساجي: صدوق فيه بعض الضعف
ولكن احتج به الجمهور، وقال البخاري عقب تخريج حديثه من كتاب بدء الخلق:
قال ابن جريج وحبيب عن عطاء (فإن للشياطين يعني أن ابن جريج وحبيبًا المعلم
رويا هذا الحيث أيضًا إلا أنهما قالا: (فإن للشياطين انتشارًا وخطفة) بدل قول
كثير بن شنظير (فإن للجن) إلخ، أقول: ويختلف في غير هذه الكلمة أيضًا، ولم
يذكر البخاري المتابعة إلا لعلمه بأن كثير هذا قد قيل فيه ما قيل، وهو لم يخرج له
غيره إلا حديثًا آخر في السلام على المصلي، له متابع عند مسلم.
فأنت ترى أن هذا من دقائق التحري في الروايات، وإنما اخترت التمثيل
بحديث كثير هذا على كثرة نظائره؛ للإشارة إلى شيء يتعلق بالمتن لم يكن مما
يلتفتون إليه ويبحثون فيه، وهو ما فيه من الخبر عن انتشار الجن والشياطين في
أول الليل والخوف على الأولاد منهم، في هذا من الإشكال أن أكثر أهل الأرض لا
يمنعون أولادهم من الخروج في هذا الوقت، وتمر الأعصار ولا يعرف أحد أن
الشياطين فعلت بأحد منهم شيئًا - هذا إشكال يخطر في بال كل متعلم في الأمصار
التي انتشرت فيها العلوم والفنون التي يسمونها العصرية، وكل متعلم على طريقتهم
في القرى والمزارع، فيقولون: إنه مخالف للواقع في تعليل منع الصغار من
الخروج في المساء أي في أول الليل، وقد يزيد على هذا بعض المشتغلين بالعلوم
الدينية؛ أن هذا خبر عن أمر يتعلق بعالم الغيب، فلا يقبل فيه انفراد راوٍ واحد فيه
من هذه الطرق الثلاث التي لا تخلو واحدة منها من علة، فكثير ضعفه بعضهم،
وكذلك حبيب المعلم قال فيه النسائي: إنه ليس بالقوي، وقال أحمد: ما احتج
بحديثه، وفي رواية عنه وعن ابن معين ثقة. وأما ابن جريج فهو على فضله وسعة
علمه وكثرة روايته مدلس، روى عن كثيرين لم يسمع منهم، وكان يدلس على
المجروحين كما قاله الحافظ الدارقطني، والذي عليه أئمة هذا الشأن أنه إذا قال
حدثني فهو ثقة وإلا فلا. قال يحيى بن سعيد: كان ابن جريح صدوقًا، فإذا قال
حدثني فهو سماع، وإذا قال أخبرني فهو قراءة، وإذا قال (قال) فهو شبه الريح
(لا قيمة له)، وقال الأثرم: قال أحمد: إذا قال ابن جريح: (قال) و (أخبرت)
جاء بمناكير، وإذا قال أخبرني وسمعت فحسبك به، واختلفوا في روايته عن عطاء،
قال علي بن المديني (من كبار شيوخ البخاري ورجال الجرح والتعديل) في كتابه
سألت يحيى بن سعيد عن حديث ابن جريج عن عطاء الخراساني، فقال: ضعيف.
قلت: إنه يقول أخبرني، قال: لا شيء كله ضعيف إنما هو كتاب دفعه إليه. أقول:
فعلى هذا لا ينفعنا في تصحيح هذا الحديث قوله أخبرني كما رواه البخاري عنه،
ولولا مسألة الشياطين لم يكن في متن الحديث إشكال؛ فإن الأوامر فيه كلها نافعة لا
تتعلق بحفظ الطعام والشراب مما يدخل فيها من الحشرات الضارة، وكذلك إغلاق
الباب عند النوم وإطفاء السراج، على أنه يمكن أن يراد بالشياطين فيه شياطين الإنس
الذين يؤذون الأطفال، وفي مصر خطفة منهم يأخذونهم فيستخدمونهم لأنفسهم أو
لغيرهم، ويكرهون البنات على البغاء عند استعداد سنهن لذلك أو قبله، فيزول إشكال
المتن فيه.
***
2-
الجواب عن حديث أبي هريرة وتحديثه
أقول: إن أبا هريرة رضي الله عنه كان من أحفظ الصحابة، وهو
صادق في تحديثه. ولكن إسلامه كان في سنة سبع من الهجرة، فصحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين ونيفًا، فأكثر أحاديثه لم يسمعها من النبي صلى الله
عليه وسلم وإنما سمعها من الصحابة والتابعين، فإن كان جميع الصحابة عدولاً في
الرواية كما يقول جمهور المحدثين، فالتابعون ليسوا كذلك، وقد ثبت أنه كان
يسمع من كعب الأحبار، وأكثر أحاديثه عنعنة. على أنه صرح بالسماع من النبي
صلى الله عليه وسلم في حديث (خلق الله التربة يوم السبت) .. إلخ، وقد جزموا بأن هذا الحديث غلط من أصله، وفي تفسير الحافظ ابن كثير أن أبا هريرة أخذه
عن كعب الأحبار.
وأما نهي عمر له عن التحديث؛ فلأن عمر رضي الله عنه كان يرى
التشديد في رواية الحديث وكتابته، وهذه مسألة كبيرة سبق للمنار سبْح طويل فيها.
وقد كتب بعض المبشرين بالنصرانية مقالاً طويلاً بالطعن في حديثه، وجاءوا
بشبهات على ذلك من بعض الكتب؛ وغرضهم من الطعن فيه الطعن في رواية السنة
وصحتها، وقد فندنا كلامهم في مقال مفصل نشرناه في الجزئين الأول والثاني من
مجلد المنار التاسع عشر فليراجعه السائل، فما نظن أنه يبقى مقالاً لقائل، وهو
يتضمن التفصيل في الرد على الدكتور محمد توفيق صدقي رحمه الله الذي
أجملناه في المجلد الثامن عشر.
***
3-
حكم كلام الرسل عليهم السلام في الأمور الدنيوية
إن ما يرد في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي
والآراء الدنيوية المحضة يسميه علماء الأصول إرشادًا، كما قالوا في حديث جابر
الذي تكلمنا عليه في الجواب عن السؤال الأول وهذا لفظه (خمّروا الآنية وأوكئوا
الأسقية وأجيفوا الأبواب، وأكفتوا صبيانكم عند المساء فإن للجن انتشارًا وخطفة،
وأطفئوا المصابيح عند الرقاد فإن الفويسقة (أي: الفأرة) ربما اجترت الفتيلة
فأحرقت أهل البيت) ومثله (كلوا الزيت وادّهنوا به فإنه طيب مبارك) رواه
الحاكم وابن ماجه من حديث أبي هريرة بسند صحيح، وفي الأمر به روايات
أخرى ضعيفة، ومثله (كلوا البلح بالتمر) .. إلخ رواه النسائي وابن ماجه والحاكم
من حديث عائشة بسند صحيح، وكذا رأيه صلى الله عليه وسلم في تلقيح النخل
وسيذكر والعمل بأمر الإرشاد لا يسمى واجبًا ولا مندوبًا؛ لأنه لا يقصد به القربة
فليس فيه معنى التعبد، قال القرطبي: جميع أوامر هذا الباب من باب الإرشاد
إلى المصلحة، ويحتمل أن تكون للندب ولا سيما في حق من يفعل ذلك بنية
امتثال الأمر ، اهـ. من الفتح وهو مأخوذ من قول بعض العلماء قبله: إن كل مباح
يفعل في الإسلام بنية القربة يصير عبادة يثاب عليها.
أقول: ولكنه لا يسمى سنة ولا مندوبًا بذاته؛ فإن القربة هنا هي النية.
***
4-
الضابط القطعي بين ما قاله الرسول رأيًا وإرشادًا وما قاله تشريعًا
ظاهر حديث رافع بن خديج في صحيح مسلم (إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء
من أمر دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر) وحديث
عائشة وأنس عن مسلم أيضًا من تعليله صلى الله عليه وسلم تلك المسألة: مسألة
تلقيح النخل بقوله صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بأمر دنياكم) ظاهره أن جميع
أمور الدنيا متروكة إلى الناس، يتصرفون فيها باجتهادهم لا يتعلق بها تشريع، ذلك
بأنه صلى الله عليه وسلم لما جاء المدينة ورآهم يؤبرون النخل ارتأى أنه ليس
له تأثير، وسمع بعضهم منه ما يدل على ذلك، فترك تأبير نخله فلم يثمر التمر
الجيد المعتاد بل خرج شيصًا رديئًا، فذكروا له ذلك فقاله كما سبق لنا بيانه، وذكر
لهم أنه قال: ظن أي لا عن وحي، وأنهم أعلم بدنياهم.
وليس هذا على إطلاقه؛ فإن من أمور الدنيا ما فعْلُه أو تركه ضار قطعًا
بشخص العامل أو بالناس، فيتعلق به تشريع التحريم، وما كان مظنة النفع
والضرر فيتعلق به تشريع الندب والكراهة، وكل ما يفعل بنية القربة ورجاء
الثواب من الله تعالى فهو عباده إذا كان مشروعًا، وبدعة إذا لم يكن مشروعًا، وكل
ما رتب على فعله ثواب أو عقاب فهو ما يتعلق به التشريع، والضابط العام أن
التشريع ما ثبت بنص يدل على طلب الشارع لفعل شيء على سبيل القطع وهو
الوجوب، أو غير القطع وهو الندب، أو طلبه لترك شيء بالنهي عنه أو الوعيد
عليه على سبيل القطع وهو المحرم، أو غير القطع وهو المكروه أو بالإباحة
الرافعة للحظر. فأفعال الرسل الدنيوية العادية تدل على أن ما يفعلونه مباح لا
حظر فيه على الناس، ولا وجوب ولا ندب إلا بدليل خاص يدل على ذلك.
فالتشريع لهم ولغيرهم عام إلا إذا قام الدليل على التفرقة بين الرسول وأمته؛
كالخصائص المختصة بنبينا صلى الله عليه وسلم دون الأمة وهي معروفة.
وقد بينت كتب أصول الفقه هذه المسألة في شرح الأحكام الخمسة. ولكنني لم
أر لأحد ضابطًا عامًا لا يمكن فيه القيل والقال، فهنالك الأصل الذي تشير إليه
أحاديث تأبير النخل، فلفظ (أمور دنياكم) عام تدخل فيه جميع أمور الزراعة
والصناعة، وكل ما يصل إليه البشر باختيارهم وبحثهم، ولا يحتاجون فيه إلى
وحي إلهي، وتدخل فيه أمور الطعام والشراب واللباس إلا ما استثنى نص القرآن
من تحريم الميتة والدم المسفوح؛ وما أهل به لغير الله وشرب الخمر، أو نص
الحديث كلبس الحرير (الخالص أو الغالب) للرجال، والأكل والشرب في أواني
الذهب والفضة؛ لما في ذلك من الإسراف والنهي عنه في القرآن، فهذه أمثال لما
استثني بعينه. وآيات حظر التحريم بغير وحي من الله تعالى وتسميته افتراء على
الله؛ كقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً
وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (يونس: 59)،وقوله: {قُلْ مَنْ
حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف: 32)
وغيرهما.
وفوق هذا أصل الإباحة بنص قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (البقرة: 29) ولكن لا يدخل في عموم الحديث والآيات إباحة ما فيه ضرر ولا
ما يتعلق به حقوق الناس، أو يقال: إنه من المستثنى بنصوص وقواعد أخرى؛
لأن التنازع في الحقوق والمصالح وإن كان مما يدخل في استطاعة البشر الاهتداء
إلى الأحكام الفاصلة فيه، يحتاج في قواعده إلى تشريع إلهي تخضع له النفوس
باطنًا بوازع الدين والعقيدة؛ كما تخضع له ظاهرًا بوازع السلطان والقوة.
وهنالك أمور مشتبهات لها جهات مختلفة؛ كإطلاق اللحية وقص الشارب أو
إعفائه وفرق الشعر وخضب الشيب. هذه أمور صح أمر النبي (صلى الله عليه
وسلم) بها، وهي من أمور العادات والزينة المباحة في الأصل، ولكن علل بعضها
بمخالفة أهل الملل الأخرى؛ ليكون المسلمون أمة مستقلة في جميع مشخصاتها
ممتازة عن غيرها، يقتدى بها ولا يقتدى بغيرها فهذه الأمور الدنيوية العادية، قد
نظر فيها إلى مصلحة اجتماعية للأمة. ولما لم تكن من الأمور التعبدية التي يقصد
الامتثال فيها لذاته، يصح أن يقال فيها: إنها تتبع علتها وجودًا وعدمًا، وقد ترك
المسلمون فرق الشعر خلافًا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله، وصار من
يفرق شعره يعد متشبهًا بغير المسلمين من الإفرنج وغيرهم، والنبي صلى الله عليه
وسلم كان يسدل شعره أولاً، فلما رأى أهل الكتاب بعد الهجرة يسدلون شعورهم
صار يفرقه مخالفة لهم، وقد اختلفت الحال اليوم، وقد سبق لنا بيان لها في مواضع
من التفسير والمنار، منها المطول والمختصر، وآخر المختصر ما ذكرناه في
تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا
يُحْيِيكُمْ} (الأنفال: 24) هو في الجزء العاشر من المنار م 28 الذي صدر في
شعبان بتاريخ 30 رجب الماضي، أعني الذي صدر قبل هذا الجزء.
***
5-
جواز خطأ الأنبياء في آرائهم ودليله وحكمه وحصره
قال الله تعالى لخاتم رسله: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} (الكهف:
110) الآية، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من أمر
دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر) رواه مسلم والنسائي
من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه، وقال أيضًا: (إنما أنا بشر مثلكم
وإن الظن يخطئ ويصيب، ولكن ما قلت لكم قال الله فلن أكذب على الله) رواه
الإمام أحمد وابن ماجه من حديث طلحة رضي الله عنه بسند صحيح، وقال أيضًا:
(إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض،
فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو يتركها) رواه
الجماعة من حديث أم سلمة رضي الله عنها، والجماعة هنا الإمامان مالك وأحمد
والشيخان البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة، وموضوع الحديث الخطأ
في الحكم؛ بسبب خلابة المخطئ من الخصمين وقوة حجته.
ومن أصول العقائد الإسلامية المأخوذة من هذه النصوص وأمثالها؛ أن الرسل
عليهم السلام بشر، يجوز عليهم كل ما يجوز على البشر من الأمور البشرية التي
لا تخل بمنصبهم من الصدق والأمانة في تبليغ الرسالة، والعصمة عن مخالفة ما
جاءوا به من أمر الدين.. إلخ، وقد اتفق المسلمون على جواز وقوع الخطأ من
الرسل عليهم السلام في الرأي والاجتهاد. ولكن الله تعالى لا يقرهم على خطأ يتعلق
بالتشريع كمصالح الأمة، بل يبينه لهم كما حصل في اجتهاد نبينا صلى الله عليه
وسلم في مسألة الأسرى ببدر مع المشاورة، إذ رجح رأي الصديق في أخذ الفداء
منهم، فأنزل الله تعالى:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} (الأنفال: 67) الآية، وفي اجتهاده صلى الله عليه وسلم في الإذن لبعض
المنافقين بالتخلف عن غزوة تبوك، فأنزل الله تعالى عليه {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ
لَهُمْ} (التوبة: 43) ، وفي اجتهاده صلوات الله وسلامه عليه قبل ذلك في
الإعراض عن عبد الله بن أم مكتوم الأعمى الفقير عندما جاءه؛ وهو يكلم كبراء
قريش راجيا هدايتهم؛ لئلا ينفروا منه لكبريائهم، فأنزل الله عليه {عَبَسَ وَتَوَلَّى *
أَن جَاءَهُ الأَعْمَى} (عبس: 1-2) إلى قوله: {كَلَاّ} (عبس: 11) ردعًا
عن مثل هذه السياسة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يرجع عن رأيه لرأي أي من
أصحابه كما فعل عند ما اختار النزول في مكان يوم بدر، فأشاروا عليه بما هو
خير منها، وأولى من ذلك رجوعه إلى رأي الأكثرين بعد المشاورة كما فعل يوم
أحد، ولكني لم أقف لأحد من العلماء على إحصاء لحصر هذه المسائل في موضع
واحد يُرجع إليه، وهذا أشهر ما ورد في هذا الباب، وهو الذي يتبادر إلى الذهن
وقت الكتابة من غير مراجعة كتاب.
***
6-
7 - الجمع بين حديثي الذباب والفأرة
وهل الأول رأي أو تشريع؟
الفقهاء يفرقون بين الحديثين؛ بأن الفأرة مما له دم سائل، فلا يعفى عن
تنجيسه لما ينجسه إذا كان ميتًا والذبابة ليست كذلك، فيعفى عن تنجيسها لما تقع
فيه أو يقال: إنها لا تنجسه. وأما الحكم الطبي فيهما فواحد فكلاهما ضار في
الطعام والشراب باتفاق الأطباء، فإن كان ضرر الذبابة الواحدة لا يبلغ ضرر الفأرة
الواحدة، فللكبر والصغر دخل في ذلك، ويجوز أن يكون مقدار ثقل الفأرة من
الذباب أضر منها، والمعول في مثل هذا على خبرة الأطباء.
وحديث الذباب المذكور غريب عن الرأي وعن التشريع جميعًا، أما التشريع
في مثل هذا فإن تعلق بالنفع والضرر فمن قواعد الشرع العامة أن كل ضار قطعًا
فهو محرم قطعًا، وكل ضار ظنًا فهو مكروه كراهة تحريمية أو تنزيهية على الأقل
إن كان الظن ضعيفًا، فغمس الذباب في المائع الذي يقع فيه لا يتفق مع قاعدة
تحريم الضار، ولا مع قاعدة اجتناب النجاسة. وأما الرأي فلا يمكن أن يصل إلى
التفرقة بين جناحي الذبابة في أن أحدهما سام ضار والآخر ترياق واق من ذلك السم
فإن صح الحديث بلفظه، ولم يكن فيه غلط من الرواة، ولم يكن معناه معروفًا
مسلمًا في ذلك الزمان، فالمعقول فيه أن يكون عن وحي من الله تعالى، وحينئذ
يمكن أن يعرف ببحث الأطباء المبني على القواعد الحديثة؛ كالتحليل الكيميائي
والفحص الميكروسكوبي، بأن يجمع كثير من أجنحة الذباب اليمنى واليسرى كل
على حدته، وينظر في أكبر منظار مكبر، ثم يحلل فينظر هل يختلف تركيبه ثم
تأثيره في بعض الأحياء كشأنهم في هذه النظائر، فإن ثبت بالتجربة القطعية أن
الجناحين سواء في الضرر كما هو الغالب في النظر، ثبتت معارضة الواقع
القطعي لمتنه وهو ظني؛ لأنه خبر واحد، فيحكم بعدم صحته إن لم يكن تأويله كما
هو الظاهر، ولا خلاف في ترجيح القطعي على الظني من منقول ومعقول
ومختلف، كما بينه شيخ الإسلام في كتاب النقل والعقل.
هذا، وإننا لم نر أحدًا من المسلمين، ولم نقرأ عن أحد منهم العمل بهذا
الحديث، فالظاهر أنهم عدوه مما لا دخل له في التشريع كغيره من الأحاديث
المتعلقة بالمعالجات الطبية والأدوية، وقد تكلم علماؤنا في معناه، وذكروا اعتراضًا
عليه لبعض الناس جهلوه به، وهو قوله كيف يجمع جناحاه بين الداء والشفاء؟
وردوا عليه بأن كثيرًا من المخلوقات تجتمع فيها المتضادات؛ كالحية فيها السم
ولحمها يجعل في الترياق منه، والنحلة يخرج من فمها العسل النافع ومن أسفلها
القذر الضار. ونقلوا عن بعض الأطباء أن في الذبابة سمًا، فإذا وقعت في طعام أو
شراب أو غيرهما تلقى بسمها على ما تخشى أن يضرها: أي كما تفعل كل
الحشرات السامة، وذكروا أن من المجربات شفاء لسعة الزنبور بدلكها بالذباب أو
بالزنبور نفسه. وفي الطب الحديث أن نَسَم الجِنَّةِ الخفية التي يسمونها الميكروبات
منها الضار والنافع، وإنهما يتدافعان ويتقاتلان في دم الإنسان حتى يغلب أحدهما
الآخر، فعلى هذا لا يمكن القطع بأن متن الحديث مخالف للواقع ونفس الأمر، وأن
كل ذباب يغمس في الطعام أو الشراب فهو ضار إلا بتجارب خاصة بهذا الأمر.
هذا، وإن إخراج البخاري لهذا الحديث في جامعه لا يعصمه من التماس علة
في رجاله تمس مناعة صحته، فإن مداره عنده على عبيد بن حنين مولى بني
زريق، انفرد به وليس له غيره، فهو ليس من أئمة الرواة المشهورين الذين تخضع
الرقاب لعدالتهم وعلمهم وضبطهم كمالك عن نافع عن ابن عمر مثلاً، ومن الغريب
أنه لم يذكر في تهذيب التهذيب أن له رواية عن أبي هريرة، فإن كان بينهما
واسطة يكون منقطعًا. ولكن لم يذكر الحافظ ذلك على تحريه لمثل هذه العلل. وفيه
أن أبا حاتم قال فيه: كان صالح الحديث، وهي من أدنى مراتب التوثيق، حتى قدم
الحافظ الذهبي وغيره عليها كلمة (لا بأس به) فإذا غلب على قلب مسلم أن رواية
ابن حنين هذا غير صحيحة وارتاب بغرابة موضوع حديث الذباب لا يكون قد ضيع
من دينه شيئًا، ولا يقتضي ارتيابه هذا أو جزمه بعدم صدق ابن حنين فيه الطعن في
البخاري؛ لأنه قبل روايته لأنه لم يعلم جارحًا يجرحه فيه إلا هذا الشذوذ الذي يجبره
حديث أبي سعيد عند النسائي وابن ماجه بمعناه وإن كان على غير شرط البخاري في
الصحيح. ولكن يرد على المرتاب تصحيح لابن حبان لحديث أبي سعيد، وقد يقول:
إذا وجدت علة في رواية البخاري تمنعني من القول بصحة الحديث مع كونه أشد
الحفاظ تحريًا فيما يخرجه في صحيحه مسندًا، فهل يمنعني منه تصحيح ابن حبان
المعروف بالتساهل في التصحيح؟ وكل من ظهر له علة في رواية حديث، فلم يصدق
رفعه لأجلها فهو معذور شرعًا، ولا يصح أن يقال في حقه: إنه مكذب لحديث كذا،
كما أن من اعتقد أن حديث كذا صحيح، وكذبه يصدق عليه أنه مكذب، ويترتب عليه
حكم التكذيب.
(تنبيه) إن ابن حنين رواي حديث الذباب من مسلمة الأعاجم، والظاهر
أنه من النصارى. وراوي حديث الشياطين المتقدم وهو ابن شنظير منهم أيضًا،
وكل منهما غير مشهور بالعلم والرواية، فالظاهر أن البخاري اكتفى بعدم الطعن
فيهما.
***
8-
9 - تكفير محمد توفيق صدقي لعدم تسليمه حديث الذباب
إن الذي كفّر الدكتور محمد توفيق صدقي رحمه الله تعالى؛ لاعتقاده أن
حديث الذباب مخالف للواقع لا يصح رفعه إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه
وسلم جاهلٌ كما عُلم من الجواب الذي قبل هذا، وقد يصدق عليه حديث (إذا قال
الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما) رواه البخاري من حديث أبي هريرة وابن
عمر مرفوعًا، وله روايات أخرى عند غيره أيضًا، وأنا وإن لم أعرفه ولا رأيت
تكفيره، أتمنى لو يكون مثل المرحوم الدكتور محمد توفيق صدقي فيما اختبرت من
قوة إيمانه وقدرته على إقامة البراهين العلمية على عقائد الإسلام كلها، وفي قدرته
على رد الشبهات عنها، وفي غيرته على الإسلام التي حملته على درس الكتب
الكثيرة؛ لأجل الدعوة إليه والدفاع عنه جدلاً باللسان وتأليفًا للكتب، وإنني أعلم علم
اختبار واسع دقيق لا علم غيب أن هذا الرجل كان من أقوى المسلمين دينًا في
اعتقاده وفي عبادته واجتنابه لما حرم الله تعالى. فإذا كان مثل هذا الرجل يعد كافرًا؛
لأنه لم يصدق رفع حديث كحديث الذباب ليس من أصول الإسلام ولا من فروعه،
وهو يجل الرسول صلى الله عليه وسلم عن قول مثله، فأين نجد المسلمين
الصادقين؟ !
هذا، وإنني أعلم بالاختبار أيضًا أن ذلك المسلم الغيور لم يطعن في صحة
هذا الحديث كتابة؛ إلا لعلمه بأن تصحيحه من المطاعن التي تنفر الناس عن
الإسلام، وتكون سببًا لردة بعض ضعفاء الإيمان وقليلي العلم الذين لا يجدون
مخرجًا من مثل هذا المطعن إلا بأن فيه علة في المتن تمنع صحته، وكان هو يعتقد
هذا. وما كلف الله مسلمًا أن يقرأ صحيح البخاري ويؤمن بكل ما فيه وإن لم يصح
عنده أو اعتقد أنه ينافي أصول الإسلام.
سبحان الله! أيقول ملايين المسلمين من الحنفية أن رفع اليدين عند الركوع
والقيام منه مكروه شرعًا، وقد رواه البخاري في صحيحه وغير صحيحه عن
عشرات من الصحابة بأسانيد كثيرة جدًّا، ولا إثم عليهم ولا حرج لأن إمامهم لم
يصح عنده؛ لأنه لم يطلع على أسانيد البخاري فيه، وكل من اطلع من علماء مذهبه
عليها يوقن بصحتها؛ ثم يكفر مسلم من خيار المسلمين علمًا وعملاً ودفاعًا عن
الإسلام ودعوة إليه؛ بدليل أو شبهة على صحة حديث رواه البخاري عن رجل يكاد
يكون مجهولاً، واسمه يدل على أنه لم يكن أصيلاً في الإسلام وهو عبد بن حنين،
وموضوع متنه ليس من عقائد الإسلام ولا من عباداته ولا من شرائعه ولا التزم
المسلمون العمل به، بل ما من مذهب من المذاهب المقلدة إلا وأهله يتركون العمل
ببعض ما صح عند البخاري وعند مسلم أيضًا من أحاديث التشريع المروية عن
كبار أئمة الرواة؛ لعلل اجتهادية أو لمحض التقليد، وقد أورد المحقق ابن القيم أكثر
من مائة شاهد على ذلك في كتابه إعلام الموقعين، وهذا المكفر للدكتور منهم،
فنسأله بالله تعالى أن يصدقنا: هل قرأ صحيح البخاري كله واعتقد كل ما فيه
والتزم العمل بكل ما صححه؟ ثم إن كان يدعي هذا فنحن مستعدون لدحض دعواه
مع هذا كله نقول بحق: إن صحيح البخاري أصح كتاب بعد كتاب الله. ولكنه
ليس معصومًا هو ورواته من الخطأ، وليس كل مرتاب في شيء من روايته كافرًا!
ما أسهل التكفير على مقلدة ظواهر أقوال المتأخرين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
_________
الكاتب: أحمد إبراهيم إبراهيم
تفسير القرآن الحكيم
رأي الأستاذ العلامة الفقيه - مدرس الشريعة الإسلامية
في كلية الحقوق بالجامعة المصرية - فيه وفي مجلة المنار
إلى الأستاذ المصلح الكبير السيد محمد رشيد رضا
تعلم أيها الصديق الحميم إعجابي بك وشغفي بما تخطه يمينك من مقالات
الإصلاح؛ لا لأنك صديقي (وعين الرضا عن كل عيب كليلة) بل لأنك تكتب
وتقول عن علم صحيح، وتفكير صائب، وقلب فاهم، ونفس تريد الخير للمسلمين
في كل ما يصدر عنها، فلا عجب إذا كنت أدعو كل من آنسُ فيه الاستعداد للخير
أن يقرأ المنار فينتفع منه على قدر استعداده، فقد تناولتَ فيه من وجوه الإصلاح
الإسلامية - بفضل الله ونعمته - ما لم يتيسر في جملته لغيرك، وقد زدته حسنا
على حسن بما ضمنته من جواهر الكلام، لشيخنا الأستاذ الإمام، عليه من الله الرحمة
والرضوان، فنظمت فيه من اللآلئ ما كان ينثره رضي الله عنه في دروس التفسير
التي يلقيها على الجماهير في الأزهر المعمور، وضممتَ إليها ما شاء الله أن يفتح به
عليه من نفيس الفرائد، ثم انفردت به بعد أن استأثرتْ بالشيخ رحمة ربه فكنته فيما
استقللت به، ولا غَرْو (فإن العصا من العصية) .
ثم جردتَ تفسير المنار وطبعته على حدة جزءًا جزءًا مبتدئًا بالجزء الثاني،
وأخيرًا طعبت الجزء الأول كذلك بعد أن أنشأته خلقًا جديدًا، وقد أسعدني الحظ
بتصفحه وقراءة أدق مباحثه بعد قراءة مقدمتيه - فاتحتكم والمقدمة المقتبسة من
دروس الأستاذ الإمام - فرأيت نور الهداية الربانية قد فاض عليه وغمره من أوله
إلى آخره، وقد استوقفني في فاتحتكم عدة مواضع كان يتوارد على خاطري في كل
موضع منها بحكم تداعي المعاني الشيء الكثير.
من ذلك ما جاء من جعل مقلدة المذاهب - أصولاً وفروعًا - مذاهبهم أصلاً،
والقرآن فرعًا لها فعكسوا القضية، حتى لقد غلا بعضهم غلوًّا فاحشًا نعوذ بالله منه إذ
يقول: إذا خالف النص من كتاب أو سنة قول أصحابنا فإن النص يحال على النسخ أو
التأويل. وأذكر أني تناولت مرة بعض التفاسير المطولة [1] لأراجع فيه تفسير آية من
آيات الأحكام، فكنت في أثناء قراءتي أجدني قد قرأت مثل هذا الكلام في بعض الكتب
الفقهية فما انتهيت إلى آخره، حتى وجدته يقول كذا في فتح القدير، فأطبقت الكتاب
وعقدت النية على أن لا أعود إلى قراءة شيء فيه بعد ذلك؛ لأني إنما تناولته لأقرأ في
كتاب تفسير لا في كتاب الفتاوى الهندية.
ومن ذلك ما أوردتموه من الملاحظات الجيدة على التفسير بالمأثور، وأنه لا
يؤخذ بكل ما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم من ذلك لما ثبت أن بعضهم روى
عن أهل الكتاب كأبي هريرة وابن عباس، فالحق هو ما قلتم أن كل ما لا يعلم إلا
بالنقل عن المعصوم من أخبار الغيب الماضي أو المستقبل وأمثاله لا يقبل فيّ إثباته
إلا الحديث الصحيح المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهذه قاعدة الإمام ابن
جرير التي يصرح بها كثيرًا، فبهذا الطريق نسلم مما لا يحصى كثرة من الأكاذيب
والخرافات المخجلة، وتطهر منها كتب تفسير كلام الله.
ومن ذلك ما حكيتموه عن الأستاذ الإمام من قوله: (إن بعض الناس يوجد
فيهم خاصية أنهم يقدرون على الكلام في أي موضوع أمام أي إنسان؛ سواء أكان
يدرك الكلام ويقبله أم لا، وهذه خاصية كانت موجودة عند السيد جمال الدين يلقي
الحكمة لمريدها وغير مريدها. وأنا كنت أحسده على هذا؛ لأنني تؤثر في حالة
المجالس والوقت، فلا تتوجه نفسي للكلام إلا إذا رأيت له محلاً وهكذا الكتابة،
فإنني أتصور أن أكتب في موضوع، وعندما أوجه قواي لجمع ما تحسن كتابته،
تتوارد على فكري معان كثيرة ووجوه للكلام جمة ثم يأتيني خاطر: لمن ألقي هذا
الكلام ومن ينتفع به؟ فأتوقف عن الكتابة وأرى تلك المعاني التي اجتمعت عندي قد
امتص بعضها بعضًا، حتى تلاشت ولا أكتب شيئًا) فأذكرني هذا ما صنعه أبو
حيان التوحيدي بكتبه إذ أحرقها ضنًا بها على الناس بعد أن بذل ما في وسعه في
تحريرها، وكتب في ذلك خطابه المؤثر لبعض أصدقائه، فهذه ثلاث مراتب مرتبة
من يلقى الحكمة على أيٍّ كان غير ناظرِ إلى من تُلقى عليه، فلعلها إن أخطأت مرة
أصابت مرة، وهذه هي مرتبة السيد رحمه الله، وهي مرتبة حب الخير المطلق
والإخلاص والغيرة على الإصلاح والطمع في هداية الناس أجمعين، فكان لا جرم
أن غبط الأستاذ الإمام السيد عليها قدس الله سرهما.
ومرتبة الحكيم الحذر الذي يتحين الفرص، فلا يلقي الحكمة إلا على من هو
مستعد لقبولها والانتفاع بها، وهذه هي مرتبة الأستاذ الإمام كما حدّث عن نفسه،
لكنه بعد ذلك ما كان يضن بدرره الغوالي كما شاهدنا ذلك منه في دروس التفسير
وفي غيرها، بل كان يصرح كثيرًا بمخالفة ما ألِفه العامة بمنتهى الشجاعة والإقدام
مؤيدًا ما يقوله بالبراهين الناصعة، والحجج الدامغة، والجمهور يستمع لما يقول.
ومرتبة الضنين على الناس بما يراه صالحًا لهم، فكأنهم وتروه فثأر لنفسه
منهم، وهذه مرتبة أبي حيان.
فصاحب المرتبة الأولى ينظر إلى الناس نظر الرحمة والشفقة، وصاحب
المرتبة الثانية ينظر إليهم بعين الحذر والحكمة مع محبته الخير لهم، وصاحب
المرتبة الثالثة ينظر إليهم نظر المقت والانتقام.
هذا بعض ما استوقف نظري مما مر به. لكن أشد ما استوقفني تلك الكلمة
الجامعة الحكيمة التي كأن روح القدس نطق بها على لسانك: (إذا صلحت النفس
البشرية أصلحت كل شيء تأخذ به) فوقفتني وقفة غارقة في بحار التأمل، تارةً
أستعيد ماضي الإسلام المجيد وما طرأ على المسلمين بعد عصر النور من ظلم
الفساد، وأخرى أنظر إلى حاضر المسلمين وما هم عليه من سوء الأحوال
الاجتماعية، وتفرقة الكلمة والانحراف عن كتاب الله تعالى، ثم أفكر في مستقبلهم
إذا استمروا على هذا الحال، فأرتد كئيبًا حزينًا يقتلني الأسى ويمزقني الغيظ.
وكان مما خطر ببالي في وسط تلك الدهشة؛ ما يظنه بعض المساكين من
متعلمي المسلمين ذلك التعليم الحديث الذي ظنوه كاملاً، وما هو إلا في أحط دركات
النقص، ظنوا - هداهم الله - أن السيادة والاستقلال يكفي لاستحقاقهما ذلك القدر من
العلم الذي حصلوه، وتلك الشهادات الدراسية العليا التي نالوها من أرقى المعاهد
العملية الأوربية بجدارة وتفوق؛ حتى على كثيرين من أبناء تلك الأمم التي نالوا تلك
الشهادات من معاهدها، حتى قال مسكين منهم معتزًا بما حمله من تلك الشهادات، وما
حصل عليه من قشور القشور التي ظنها علمًا قيمًا: ما بالنا لا نُعطى الاستقلال وقد
أعطيه العربُ الجهال رعاة الإبل، ونحن (أولاً) على درجة من العلم والمدنية
الغربية تجعلنا خير أهل لذلك. (وثانيًا) نحن من نسل أولئك الفراعنة ذوي الحضارة
القديمة التي بهرت أنظار الغربيين؟ وفات هذا الشيخ الطفل أن الاستقلال ليس منحة
تُعطى، بل هو نتيجة طبيعية لازمة لحالة الأمة الاجتماعية سنة الله في خلقه {وَلَن
تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: 43) .
فهؤلاء العرب الجهال رعاة الإبل الذين لم يتشرف واحد منهم بنيل شهادة
الدكتوراه ولا ما دونها، إنما نالوا الاستقلال بنفوسهم الصالحة تربية ووراثة، فلم
يمسسهم ولا أسلافهم ذلك الاستعباد، ولم يتطرق إلى أخلاقهم الرفيعة الفساد الوضيع،
وأما أعلى الشهادات وأرقى أنواع تلك العلوم فمحال أن تكون من مهيئات
الاستقلال والسيادة مع فساد النفوس وضِعتها، وانحطاط الأخلاق وانحلالها،
والانغماس في الشهوات البدنية والتفاني فيها، فليس للاستقلال والسيادة إلا طريق
واحد هو النفس الصالحة فهي حسبهما وكفى، وأما التبجح بالانتساب إلى الفراعنة
فهو عجيب ممن ينتمون إلى الإسلام، بل الأولى بهؤلاء المنتسبين أن ينسبوا
أنفسهم إلى الأمة التي استعبدتها الفراعنة، وساموها الخسف والهوان وسخروها
لخدمتهم لا غير، فهذا هو الواقع. والانصاف يقضي عليهم بأن ينتسبوا إلى
أصولهم الحقيقيين.
على أن العلم المادي في أقوى معداته ومجهزاته المهلكة المدمرة، لم يستطع
أن يقف بأصحابه أمام الأخلاق المتينة. ولدينا أقرب شاهد على ذلك من الحرب
العظمى التي انهزم بها ذلك العلم المادي بجبروته وعظمته أمام الأخلاق الثابتة
والنفوس المطمئنة الهادئة، وولت الأدبار القوى المادية أمام القوة المعنوية، وما
انتصر المسلمون في عصور الهداية والنور إلا بنفوسهم الصالحة، فانتصروا على
دولتي الفرس والروم وكل من حاربوهم من الأمم مع كثرتها الساحقة في العدد
والعدد قديم حضارتها. ولكن ما قيمة كل ذلك أمام النفوس الصالحة؟ ولما استقرت
قدم المسلمين في البلاد التي فتحوها ونشروا فيها نور الإيمان الصحيح بالله تعالى،
أحلوا فيها العدل محل الظلم، والأمن محل الخوف، والسكينة محل الاضطراب،
والوفاء محل الغدر، والحرية الصحيحة محل استعباد الإنسان لأخيه الإنسان،
فأصلحوا بنفوسهم الصالحة كل شيء اتصلوا به.
نعم.. (إذا صلحت النفس البشرية أصلحت كل شيء تأخذ به) هذه حقيقة لا
ريب فيها، ففي صلاح النفس عزها وفلاحها وإعدادها لإصلاح كل ما اتصل بها
ولا طريق لصلاح النفس صلاحًا حقيقيًا إلا الأخذ بما جاء به الكتاب العزيز
والاهتداء بهديه، ففي ذلك الخير كله، بذا جف القلم وقُضي الأمر.
إن خير تفسير لكتاب الله تعالى على ما نعلم من حيث هو كتاب هداية وإرشار
لهو تفسير المنار، أقول لك ذلك أيها العالم الموفق غير مُداجٍ ولا ممالئ، بل
أترجم لك عما تتحدث به إليّ نفسي غير أني أقترح عليك وأرجو أن يسمح لك وقتك
بما أقترح عليك أن تقتبس من هذا التفسير الممتع تفسيرًا مختصرًا، يحتوي زبدته
لينتفع به العامة، ومن لا يتسع وقته لقراءة التفسير المطول.
أسأل الله تعالى أن يكون معك ويمدك بروح منه، ويهبك القدرة على إتمام هذا
التفسير ومختصره، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
…
...
…
...
…
...
…
أخوك المخلص
…
...
…
...
…
... أحمد إبراهيم إبراهيم
…
...
…
أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق بالجامعة المصرية
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
من عهد الصليبيين
عثر أحد العمال في حي الميناء بطرابلس الشام على لوحة رخامية مكتوب
عليها بالفرنسية القديمة ما ترجمته:
(باسم الروح القدس نحن بومون بنعمة الله أمير أنطاكية وكونت طرابلس
صنعنا هذا البرج من أموال جالية طرابلس عام 1268 لميلاد السيد المسيح) .
وقد أرسلت هذه البلاطة إلى دائرة الآثار في المفوضية الفرنسية لإصلاحها
ووضعها في المتحف اللبناني.
_________
الكاتب: محمد عبد القادر الهلالي
مناظرة في مسألة القبور والمشاهد
الرد على رسالة العالم الشيعي
للأستاذ الشيخ محمد عبد القادر الهلالي
وهو عالم سلفي مستقل لا يتعصب لمذهب من المذاهب المقلدة
(7)
(المقام الثلاثون) قوله سيما أن أول من شيد قبر أمير المؤمنين (عفى الله
عنه) هو هارون الرشيد خليفة المسلمين في عصره، وتابَعه على ذلك سائر
الخلفاء حتى عبد الحميد خان التركي، فإنهم لم يزالوا يجددون عمارته.
أقول: لم يأت السيد مهدي بدليل يصح به ما نقله عن الرشيد، وأنا لا أدري
أول من بنى القبر المنسوب إلى أمير المؤمنين علي (كرم الله وجهه) . ولكني
أذكر أني قرأت في بعض كتب شيخ الإسلام - وهو من أثبت الناس في النقل - أن
أول من بنى المشاهد وسنها للناس هم الشيعة، وظني بهارون الرشيد أنه لا يفعل
ذلك، ولا يبلغ به الجهل إلى هنالك، فإن صح ذلك عنه قلنا كان ماذا؟ غير
معصوم فعل ذنبًا فهو إلى الله، وأقوال هارن الرشيد وأفعاله ليست شرعًا يحتج بها
إلا عند الشيعة الذين يعتقدون أنه من أظلم الناس إن لم يكفروه، بل المفهوم من
كلام بعضهم تكفيره، ولا عند أهل السنة الذين يعتقدون أنه خليفة المسلمين وأفعاله
كأفعال غيره من الأمة، ليست حجة ولو لم تخالف نص الرسول، فكيف إذا خالفته،
وليت شعري أي فائدة في الاحتجاج بأفعال الملوك، وقد حبس الرشيد الكاظم
رضي الله عنه حتى مات في حبسه، فلو قال لك قائل: هذا خليفة المسلمين يجوز
له تعزير من خرج عليه أو توقع خروجه بالنصوص الصحيحة، بل يجوز له قتل
من خرج عليه، لا نعلم في ذلك خلافًا بين أهل السنة، فهل كان في حبسه للكاظم
محسنًا أم مسيئًا؟ فما جوابك؟ وبالاحتجاج بفعل الملوك يتأول المتأولون قتل من
قتله بنو أمية وبنو العباس في دولتيهم من أهل البيت وغيرهم، مع أن أكثرهم قُتَلوا
بلا حق، وبلغ ببعضهم التأول إلى أن قال في قتل الحسين إنما قُتل بسيف جده يريد
بذلك أنه خرج على الإمام، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل من خرج،
وهذه زلة من الزلات صدرت ممن قالها. وسبب ذلك كله هو الغلو في الملوك،
وجعل كل ما صدر منهم شرعًا يدان به، وهذا مسلك وخيم لا يرضى به أهل العلم،
بل يجب أن تعرض أقوال الناس وأفعالهم كائنين من كانوا على ما جاء به
الرسول، فما وافقه فهو الحق وما خالفه فهو باطل، ولو فعله أو قاله خليفة أو إمام
كبير، فلا معصوم إلا النبي صلى الله عليه وسلم .
أما قوله: إن ما شيده المنتسبون إلى السنة من القباب أكثر مما شيده الشيعة،
فقد يكون صحيحًا، والظاهر أن المبتدعين من المنتسبين إلى السنة والشيعة في بناء
القباب والغلو في المقبورين فيها سواسية، وبدعة القباب ضلالة أتباعها شياطين
الجن وشياطين الإنس {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ
رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (الأنعام: 112) .
(المقام الحادي والثلاثون) أطال السيد مهدي في لوم صاحب المنار وتعنيفه
والنيل منه، وليته تجنب ذلك لا لأنه لا يجدي نفعًا في الحجاج، وإنما يوغر
الصدور ويكثر به اللجاج. ومن العجائب قوله: يحق للشيعة ولكل مسلم أن يعدوا
تشييد تلك القبور الشريفة من أعظم القربات؛ لأن الجهات القاضية برجحان زيارة
قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبور أهل بيته تستدعي اجتماع المؤمنين من سائر
الأقطار والكون فيها؛ للصلاة وسائر العبادات، وذلك موجب لإعداد محال واسعة
حول القبور تكون مجمعًا للزائرين، وهي تفتقر إلى بناءات فخمة واقية لنفس القبور
والفُرش التي حولها، والقناديل المسرجة ليلاً لقراءة القرآن والأدعية، وحافظة لمن
يزور القبور من الحر والبرد والمطر وعواصف الرياح.
أقول هذا الكلام فيه منكرات تقشعر منها الجلود، فيا أسفا لصدوره من أحد
العلماء المتبوعين في الدين، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وسأختصر الجواب عنه
اختصارًا، فقد طال الكلام جدًا. كيف يكون ما لعن النبي فاعله وأخبر باشتداد
غضب الله عليه مباحًا؛ فضلاً عن أن يكون قربة؛ فضلاً عن أن يكون من أعظم
القربات؟ وأما زيارة القبور فهي مشروعة ولا تشد لها الرحال؛ لقول النبي صلى
الله عليه وسلم (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام
والمسجد الأقصى) ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا قبري عيدًا وصلوا
عليّ حيث كنتم فإن صلاتكم تبلغني) ؛ ولنهي حسن بن حسن وعلي بن الحسين عن
إتيان قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم سندًا، ولقول الله تعالى {لَا تَغْلُوا فِي
دِينِكُمْ} (النساء: 171)، وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانتَهُوا} (الحشر: 7) وغير ذلك، ومن وصل قبر نبي أو صالح فليسلم، ويدعو
لصاحب القبر وينصرف كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل وكذا أصحابه، فلا
حاجة إلى قبة أو فرش ولا قنديل إلا من أراد أن يحادّ الرسول فيتخذ قبور الأنبياء
والصالحين مساجد وأعيادًا، ويتعرض للعنة الله واشتداد غضبه، ويتخذ القبور
أوثانًا، فإنما حسابه عند ربه وجزاؤه عليه {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لَا يَعْلَمُونَ} (يوسف: 21) .
متى شرع الله الحج لغير البيت العتيق؟ ومتى شرع الله الاجتماع لذكر في
غير المساجد المأذون فيها؟ ولِم يسافر إلى قبر نبي أو صالح؟ إن كان مراده
الاتعاظ والتذكرة فهي حاصلة برؤية قبور بلده كفارًا كانوا أو مسلمين، وإن كان
قصده الدعاء لصاحب القبر فليدع في مكانه والله سميع عليم، وتقدم حديث نهي
النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره صلى الله عليه وسلم عيدًا، ونهي
أهل البيت (عم) عن إتيانه للسلام والدعاء، فلا حاجة إلى القباب ولا منفعة فيها،
بل فيها مضرة وأي مضرة؛ لأنها نفق منها يتنزل إلى دركات الشرك، فالخير
والقربة والبر في هدمها وتسوية القبور، وتركها كما كانت على عهد النبي صلى
الله عليه وسلم والخلفاء، وما أحدث الناس بعدهم في الدين إلا شرًّا.
(المقام الثاني والثلاثون) قوله: فإن بيت النبي وبيوت أهل بيته من أعاظم
البيوت التي أمر الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه كما روى السيوطي ما دل عليه في
تفسير هذه الآية الكريمة، وإن تلك البيوت مما يجب احترامها وتعظيمها في حال
حياتهم فكذا قبورهم، وإن تعظيم بيوتهم في حال حياتهم إنما هو لوجودهم فيها فكذا
قبورهم؛ لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون.
أقول الاحتجاج بما رواه السيوطي محتاج إلى ذكر الإسناد وتصحيح الخبر،
والسيوطي في الدر المنثور ذكر الخبر المشار إليه، وحاصله أن النبي صلى الله
عليه وسلم فسر قول الله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ} (النور: 36) ببيوت
الأنبياء، فسأله أبو بكر عن بيت علي وفاطمة أهو منها؟ فقال: (نعم من
أفاضلها) وعزاه لابن مردويه بلا سند كعادته، ولم يلتزم أن لا يذكر فيه إلا
الصحيح، بل يذكر فيه ما ورد صحيحًا كان أم ضعيفًا، فالاحتجاج به والحال
هذه فيه ما فيه، سلمنا أنه صحيح فأي علاقة له في مسألة النزاع؛ لأن الله لم يقل
في قبور أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، ولا فسرها النبي صلى الله عليه وسلم ولا
غيره بذلك، وأكثر المفسرين على أنها المساجد، وفسرت ببيت النبي صلى الله
عليه وسلم وببيت عليّ في الخبر المتقدم، وعلى هذا التفسير يكون المراد بالرفع
الاحترام، وهو أن لا يدخلها أحد إلا بإذن كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَاّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} (الأحزاب: 53) فدلت الآية على تحريم
دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلا بإذنه وتحريم كل ما يؤذي النبي فيها
كالاستئناس للحديث، ويلحق بيوت النبي في ذلك بيت علي وفاطمة وبيوت سائر
بناته، بل وسائر بيوت المسلمين لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً
غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} (النور: 27) ولا يخفى أن
بيوت النبي وبيوت آله أعظم حرمة من بيوت عامة الناس، وأي دلالة في ذلك
على جواز البناء على القبور والصلاة عندها، وقد امتثل الصحابة ما أُمروا
به من تعظيم بيوت النبي ورفعها، ولم يبن أحد فيها قبة، ويقصدها للصلاة
والدعاء، وإنما يصلي فيها أهلها ومن أذنوا له في دخولها، أما تحري الصلاة
والدعاء فيها كالمساجد فلم يشرع لا في حياتهم ولا بعد مماتهم، ولو سلمنا أن تحري
الصلاة والدعاء مشروع في بيوت النبي وآله، ما دل ذلك على مشروعية الصلاة
والدعاء عند قبورهم، وقياس قبورهم على بيوتهم في مشروعية الصلاة والدعاء
عند قبورهم فاسد؛ لأنه مصادم للنصوص الناهية عن اتخاذ قبور الأنبياء
والصالحين مساجد؛ ولأنه قياس مع الفارق، فإن البيوت يستحب لأهلها أن يتخذوا
فيها مساجد كما تقدم في حديث عائشة، والقبور ليست كذلك والبيوت يستحب
لأهلها أن يجعلوا فيها نوافلهم أو شيئًا منها كما تقدم في حديث (لا تتخذوا قبري
عيدًا ولا بيوتكم قبورًا) ولا كذلك القبور؛ فإن الصلاة عندها محرمة وإن قصد
بها التبرك والتعظيم كانت أحرم، وأيضًا البيوت ينتفع بها غير أهلها ولا كذلك
القبور والبيوت يجلس فيها وتوطأ بإذن أهلها وتُبنى وتشيد بخلاف القبور، وكون
الأنبياء والشهداء أحياء في قبورهم لا يقتضي جواز إتيانهم للصلاة والدعاء، والنظر
إلى وجوههم وسؤالهم، وتلقي العلم منهم، والشكوى إليهم من أفعال الكفرة
والمنافقين والظلمة والتحاكم إليهم، وسؤالهم أخذ الحق من الظالم وتغيير المنكر
وغير ذلك مما هو مختص بالحياة الدنيوية، وقد ورد أن الناس يأتون الأنبياء واحدًا
بعد واحد يسألونهم الشفاعة في فصل القضاء يوم القيامة؛ لأنهم حينئذ يرونهم
ويسمعون كلامهم كما في الحياة الدنيا بخلاف الحياة البرزخية، فلا يجوز ولا يمكن
ذلك فيها؛ ولذلك لم يشرعه الله تعالى ولا فعله السلف الصالح ولا من تبعهم بإحسان،
وبقية كلام السيد مهدي يفهم جوابه مما سبق.
وليكن هذا آخر ما أكتب في الحكم بهذا القضية؛ راجيًا أن يكون مقبولاً عند
الله والمؤمنين، وأسأل الله أن يشرح صدور من كتبوا في هذه القضية جميعًا إلى
اتباع ما أنزل الله على رسوله بلا تغيير ولا تبديل، وأن يجمعنا وإياهم على الهدى
وينزع ما نزغه الشيطان في صدور المسلمين من الغل، حتى يكونوا كالبنيان
المرصوص وكالجسد الواحد، فيحب كل منهم لأخيه ما يحب لنفسه، ويغفر لنا ما
طغى به القلم {ربنا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا} (البقرة: 286) إلى آخر السورة، وآخر
دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
قال كاتبه محمد بن عبد القادر الهلالي عفا الله عنه: كتبته في مدة يسيرة
وأنا مشغول البال بالتأهب للسفر إلى الحج - يسره الله على أحسن حال - ومكتنف
بأشغال وافرة، وكل ذلك يمهد لي سبيل المعذرة عند من يقف عليه من الأفاضل،
فيغضي عما فيه من القصور والتقصير {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ
رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ
يُسْراً} (الطلاق: 7) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مقدمة كتاب يسر الإسلام وأصول التشريع العام
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله الذي أكمل لنا بالقرآن هذا الدين، وختم بمحمد صاحب الرسالة
العامة دولة النبيين، وجعله المثل البشري الأعلى للهداية الإلهية العليا، وأرسله
رحمة للعالمين، وبعثه بالحنيفية السمحة ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك،
وجعلها يسرًا لا عسر معه، وسعة لا حرج فيها، فبلغ عنه أصحابه ما أمرهم
بتبليغه من كتاب الله تعالى بالتلاوة والحفظ والكتابة، ومن سنته في بيانه للناس
بالقول والعمل، والحكم بين الناس بما أراه الله من الحق والعدل، {رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ} (المجادلة:
22) .
تلقى العرب الأميون كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في بيانه
بالقبول؛ إذ لم يكن لديهم فلسفة دينية يحكمونها في دين التوحيد والفضيلة، بعد أن
اجتث الله به شجرة الشرك الخبيثة، ولا كان لديهم تقاليد تشريعية يعقدون بها
شريعته العادلة النقية، فسهل فهم الشعوب والأمم له منهم، وتلقوه بالقبول عنهم،
فلم يلبث الألوف من مواليهم الأعاجم منذ العصر الأول والثاني أن حذقوا لغة هذا
الدين ففهموا كتابه المنزل، وشاركوا أساتذتهم العرب في نشر الدعوة وتدوين اللغة
والسنة، ثم فيما استلزم ذلك من فتح الأمصار، ونشر دين الله في الأقطار، فانتشر
الإسلام في الشرق والغرب بسرعة لم يعهد لها نظير في التاريخ، فبلغ ملكه في
جيل واحد ما لم يبلغ ملك الروم (الرومان) في ثمانية قرون، فكانوا أعظم دول
الفتح والاستعمار في الأرض، وأشدها مراعاة للرحمة والعدل.
ثم نجمت قرون البدع في المسلمين، ودخلت عليهم فلسفة الأمم وتقاليد الملل
من أقطارها، واحتاجوا إلى التوسع في التشريع المدني والقضائي والسياسي،
فوضعوا علم الفقه بداعية حاجة الحكام، وعلم الكلام لحراسة العقائد من البدع
ونظريات الفلسفة المختلفة، فاختلط بعقائد الإسلام وأحكامه العملية ما ليس منها،
وخرجت تعاليمه من فضاء السهولة والبساطة واليسر، إلى مضايق الحزونة
والتعقيد والعسر؛ إذ كان الأعرابي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يتعلم من
عباداته الشخصية في مجلس واحد ما يكون به مسلمًا، فصار يتعذر على المسلم
الناشئ بين المسلمين أن يتعلم مذهبه الديني الموروث في عدة سنين؛ لأن الأحكام
كثرت بأقيسة المذاهب وتفريعاتها، وعسر فهمها بضعف لغة المصنفين لكتبها،
فضاق ذرع الأمة بها، وانحصر الطالبون لتحصيلها في عدد قليل من أهل الأمصار،
يطلبها أكثرهم لأجل الدنيا لا لأجل الدين، فزال بذلك ما ذكرنا من مزايا الإسلام
القطعية التي كان بها على أكمله قبل أن يكتب شيء من المصنفات، ففي الخبر
المتفق على روايته مرفوعًا المجمع على معناه (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم
الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته) .
ثم انتقل المسلمون من طور إلى طور، وركبوا طبقًا عن طبق، بعضهم ينتقد
هذه الكتب الكثيرة، ويقول: إما أن يكون جلها ليس من الدين، وإما أن يكون
الدين نفسه غير حق، وبعضهم لا يزال يقول: إن ما هو مقرر فيها هو دين الله لا
مندوحة لمسلم عن اتباعه وإلا كان خارجًا من هذه الملة، حتى انتهت حال بعض
حملة العمائم، وسكنة الأثواب العباعب إلى أن يقول: إن من يهتدي بالكتاب والسنة
من دون كتب المذاهب الفقهية والكلامية فهو زنديق، وكان لهؤلاء الجامدين
الجاهلين مكانة عند الحكام وعند جمهور الأمة تخشى بها غائلة مخالفتهم، فزال ذلك
رويدًا رويدًا وهم لا يشعرون، حتى إذا لم يبق منها إلا القليل في بعض البلاد
(كمصر) بعد أن زال من بلاد أخرى، وزال بشؤمة الدين كله من دواوين
حكومتها ومحاكمها ومدارها (كبلاد الترك) ، طفق بعضهم يشعر بالخطر على
البقية الباقية من ظواهره ماثلة على شفا جرف، ولكنهم لا يدرون كيف يخرجون
من جحر الضب كما يخرج هو عند الخطر.
قد أنذر دعاة الإصلاح هؤلاء العلماء الرسميين هذا الخطر الذي هو عاقبة
ضرورية لجمودهم على تقاليدهم فتماروا بالنذر، وكان لنا في المنار جولات
تفصيلية في بيان ذلك أسبابًا ومسببات، وعللاً ومعلولات، ونتائج لمقدمات، مؤلفة
من اليقينيات أو المسلمات.
ولما كان أصل الداء، والمانع من قبول كل علاج له ودواء هو التقليد الأصم
الأعمى للكتب المؤلفة لا للأئمة، بدأنا تلك الحملات والجولات بتك المحاورات
التفصيلية التي نشرناها في المجلد الثالث وما بعده تحت عنوان: (محاورات
المصلح المقلد) ، وعرضناها للنقد فلم يرجع إلينا أحد في تفنيدها قولاً، ولم يكتب
لنا أحد في نقدها فصلاً، بل حازت القبول فطبعت وحدها مرة بعد أخرى.
ثم كان من أوسع ما كتبناه في هذه الموضوع تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101) إلخ،
والفصل الاستطرادي الذي جعلناه علاوة لتفسير الآيتين الكريمتين، فالقارئ لذلك
يرى فيه من الآيات المنزلة والأحاديث الصحيحة، ومن مدارك أساطين علماء
الملة وأئمتها من الأولين والآخرين، ما هو حجة على الجامدين من المقلدين،
وعلى الملاحدة والزنادقة المعطلين، وعلى المحرفين والمسرفين من المستقلين،
كما أنه برهان مبين لدعاة الإصلاح المعتدلين، ولا يزال هؤلاء هم الأقلين {ثُلَّةٌ
مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ} (الواقعة: 13- 14) و {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ
غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 249) .
كنا نعد فرق المسلمين الذين يتنازعون أمر الأمة في هذا العصر ثلاثًا:
(الأولى) : حماة تقليد الكتب المدونة في المذاهب المتبعة من سنة وشيعة
زيدية وشيعة إمامية وإباضية. وحجتهم أن علوم الشريعة المودعة في الكتاب
والسنة إجمالاً وتفصيلاً قد انحصرت فيها، فمن لم يأخذ بمذهب منها فليس على ملة
الإسلام، دع ما يرجح به كل منهم مذهبه على غيره.
(الثانية) : دعاة الحضارة العصرية، والنظم المدنية، والقوانين الوضعية،
الذين يقولون: إن هذه الشريعة الإسلامية المدونة لا تصلح لهذا الزمان، ولا
يمكن أن تصلح بها حكومة، ولا تستقيم بها مصالح أمة. فيجب تركها، واستبدال
قوانين الإفرنج بها، أو استقلال كل قوم أو شعب من المسلمين كغيرهم بتشريع
جديد يوافق مصالحهم، وإلا كانوا من الهالكين، ومن هؤلاء من يرى من مصلحة
قومه وبلاده المحافظة على مهمات شعائر الإسلام، وما لا ينافي المدنية من
خصائصه الاجتماعية والأدبية، ومنهم من لا يرى وجوب ذلك، وهم درجات أو
دركات في هذه المسائل، منهم المسلم المتأول، والزنديق المجاهر أو المستكتم.
(الثالثة) : دعاة الإصلاح الإسلامي المعتدلين الذين يثبتون أنه يمكن إحياء
الإسلام، وتجديد هدايته الصحيحة باتباع الكتاب والسنة الصحيحة وهدي السلف
الصالح، والاستعانة بعلوم أئمة المذاهب كلها بدون التزام شيء معين من كتب الفقه
والكلام المذهبية التي جمد عليها الفريق الأول، وأنه يمكن الجمع بينه وبين أشرف
أساليب الحضارة والنظام وهو ما ينشده الفريق الثاني، بل يرى هؤلاء أن ما
يدعون إليه - وهو أقدم هداية الدين وأحدث وسائل الحضارة والقوة - صديقان
يتفقان ولا يختلفان، وإن كلا منهما يزيد الآخر قوة وشرفًا، فدين العصر الأول
للإسلام ينفي خبث المدنية المادية الحاضرة، وينقي قلوب أهلها من الرجس،
وينقذهم من فوضى الحرية البلشفية، وأخطار الفلسفة المادية، ويزكي أنفسهم من
الظلم والفسوق والعصيان. كما أن علومها وفنونها الصحيحة تظهر من إعجاز
القرآن، ومن آيات الله في الأكوان ما يكمل به الإيمان، ويوجه قوى هذه العلوم
إلى العمران، وإصلاح نوع الإنسان.
ثم تولد من بين هذه الفرق أناس مذبذبون بين كل منها.
لا إلى هؤلاء إن نسبوهم
…
وجدوهم ولا إلى هؤلاء
يذمون التقليد ويدعون الاجتهاد، ويزعمون أنهم من دعاة الإصلاح وما هم إلا
دعاة فساد. ولكنهم متقنعون بما أوتوا، راضون بما أتوا {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا
فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لَاّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: 11-12) .
أولئك الذين يدعون الاستقلال في علم الكتاب والسنة، والاجتهاد المطلق في
أحكام الشريعة، وهم لم يعدوا لذلك عدته، ولا سلكوا لاحِبَ طريقته، لم يحفظوا
القدر الكافي من مفردات اللغة العربية، ولم يطبعوا على سليقة البلاغة المضرية،
ولم تستحكم لهم ملكة البيان بالتمرس والصناعة، ولا حذقوا قواعد الأصول، ولا
مرنوا على مدارك الفروع، ولا جمعوا بين حفظ النصوص وقوة استحضارها عند
عروض الحاجة إليها، وإنما قصارى أحدهم أن يقرأ تفسير آية أو شرح حديث
فيعجبه ما فهم منه، ويغتر بما عساه يخطر بباله أنه انفرد به، مما شأنه أن يقع
للعامي والخاصي، وأن يكون تارة صوابًا وتارة خطأ، ومن شاء منهم أن ينصف
نفسه بامتحانها في دعواها، فليكتب كتابًا أو رسالة طويلة في بعض المباحث
الاجتهادية التي يظن أنه انفرد بها، من غير أن يراجع فيها الكتب وينقل عن
العلماء، ثم لينشرها على أهل العلم، ولو كانوا ممن لا يدعون دعواه، ويعرضها
على نقدهم ثم لينظر قيمتها بعد نقدهم إياها، على أن الصواب في مسألة واحدة من
هذا القبيل أو مسائل معدودة لا يدل على ملكة الاجتهاد المطلق، فالاجتهاد يتجزأ.
من هؤلاء الأدعياء في العلم، المغرورين بالفهم، من هم أشد إحالة ليسر
الشريعة إلى العسر، وسعتها إلى الحرج من مقلدة كتب الفقهاء وغيرهم، ومن هم
أجرأ على شرع ما لم يأذن به الله، وعلى القول على الله ما لا يعلمون، هذا حلال
وهذا حرام، وهذا كفر وهذا إيمان، هذا بدعة وتلك سنة. وهم في كل ذلك مفترون
على الله، وشارعون لما لم يأذن به الله، وما أسهل ذلك على الغلاة في الدين ،
ولا سيما تحريم ما حرموا من زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، وما
جهلوا من العلوم والفنون والصناعات التي عليها مدار سيادة الأمة وتعايش الخلق.
ومنهم من يتعدى حدود اليسر إلى ما هو أدنى إلى الإباحة المطلقة، ويتأول
النصوص بما تتبرأ به مفردات اللغة وأساليبها، حتى يكون كزنادقة الباطنية أو أشد
تحريفًا وتبديلاً، ومن هؤلاء من لا يحتج إلا بما يفهمه هو من نصوص القرآن،
فيرد الأخبار النبوية كلها، ومنهم من يرد ما لا يعجبه منها، ويستدل على ذلك بأن
معناها غير صحيح (عنده) ، فلا يمكن إذًا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم
قاله.
وتجد على الطرف المقابل لهؤلاء ممن يدعون مذهب السلف، وينظمون
أنفسهم في سلك أهل الحديث؛ أناسًا يأخذون بظواهر كل ما رواه الرواة من الأخبار
والآثار الموقوفة والمرفوعة أو التي لم توصف بأنها موضوعة أو مصنوعة، وإن
كانت شاذة أو منكرة أو غريبة المتن، أو من الإسرائليات مثل كعب ووهب، أو
معارضة بالقطعيات التي لا يعرفونها من نصوص الشرع، أو مدركات الحس،
ويقينيات العقل، ويكفرون أو يفسقون من أنكرها أو خالفها.
فالجامدون على تقليد ظواهر كتب الفقه والكلام؛ كالجامدين على ظواهر كتب
الأخبار والآثار، كل منهما فتنة منفر للواقفين على علوم هذا العصر عن الإسلام؛
لأنه يتوقف عند كل منهما على ما ليس منه مما تقوم على بطلانه البراهين القطعية
أو المشاهدات الحية، أو سنن الله المطردة في الأكوان، أو النظام الذي يتوقف
عليه العمران، دع نظريات التشريع المجربة، ومسلمات التاريخ المؤيدة بعلم
طبقات الأرض وغير ذلك، تلك العلوم كلها تعد عندهم من علوم الكفار المحرمة فلا
يعتد بشيء منها، وهم عاجزون عن إقامة أي حجة أو دحض أي شبهة، ومن جهل
شيئًا عاداه، ولا سيما إذا عد جهله نقيصة له.
كذلك المتبعون لأهوائهم في دعوى الجمع بين الإسلام والرقي المدني، هم
منفرون للسواد الأعظم من هذه المدنية وعلومها وفنونها وصناعتها؛ لأنه يعزو إليها
ما يراه من جحد بعضهم للسنة النبوية بجملتها وتفصيلها ورد بعضهم السنن
القولية منها وإنكار بعضهم
…
لما لا يوافق رأيه وهواه منها، وتصدى بعضهم
لتأويلها وتأويل القرآن نفسه بما تتبرأ منه مفردات اللغة وأساليبها، وإجماع الأمة
الإسلامية وسيرة سلفها. ومن أحدث ما كتبه أدعياء القرآن إنكار مصري لحل
التسري، وما يتعلق به من الأحكام الثابتة فيه وفي السنة العملية والإجماع المتواتر.
وزعم هندي منهم أن الصلوات المفروضة فيه ثلاث لا خمس، وكل منهما يحرفه
كتحريف الباطنية أو أشد، دع القاديانية الذين يدعون نزول الوحي عليهم وأمثالهم.
طلاب الإصلاح الصحيح يريدون توحيد الأمة، وقد زادها كل فريق من
هؤلاء تفريقًا، طلاب الإصلاح الحق يبغون أن تكون كما وصفها الله تعالى أمة
وسطًا، وهؤلاء يجذبها كل منهم إلى طرف من محيط الدائرة إفراطًا وتفريطًا، هذا
يريد دينا بغير حكومة إسلامية ذات سيادة وعزة، ولا حضارة علمية فنية ولا قوة
آلية، وهذا يريد دنيا بغير دين ينهى عن الهوى، ولا سياج للفضيلة والهدى، وهذا
يتخبط بين الفريقين لا يدري ما يريد ولا ما يبدئ ويعيد، وكل أولئك في ضلال
بعيد فمن الناس من يقول:] ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق [
ومنهم من يقول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ *
أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ} (البقرة: 201-202) .
هؤلاء هم المصلحون المعتدلون طلاب المنهج الوسط، وقد أشرنا إليهم هنا
وبينا حالهم ومذهبهم فيما سبق، تارة في تفسير بعض الآيات، وتارة بالمحاوارات
والمناظرات، وتارة بإنشاء الفصول والمقالات، وتارة بالفتاوى في الأسئلة
والمشكلات.
وقد نشرنا من قبل بعض هذه المباحث في كتاب سميناه (الوحدة الإسلامية)
وفي كتاب آخر سميناه (الخلافة أو الإمامة العظمى) ، وننشر اليوم بعضها في هذا
الكتاب الذي سميناه (يسر الإسلام، وأصول التشريع العام) ، فعسى أن تكون هذه
الكتب مؤيدة ومعممة لدعوة المصلحين المجددين، الداعين إلى صراط الله المستقيم
صراط الذين أنعم الله عليهم من النبين والصديقين والشهداء والصالحين، وحجة
على الجامدين الميتين، وعلى الشذاذ المسرفين، المتبعين لسبل الشياطين، والله
ولي المؤمنين، والعاقبة للمتقين.
_________
الكاتب: سعد زغلول
كتاب آخر جوابي من سعد زغلول
إلى شيخه ومربيه الأستاذ الإمام
عقب نفيه إلى بيروت في إثر الحوادث العرابية
مولاي الأفضل، ووالدي الأكمل، أحسن الله مآبه.
أكتب إلى السيد الأستاذ بعد تقبيل يده الشريفة عن شكر مزيد لمكارمه التي لم
يمنع من تواترها على صنائعه تباعد الديار، ولا تنائي البلدان، معترفًا بالعجز عن
وفاء واجب الحمد، مع الاعتقاد بأن هذا لا يثنيه عن المكرمات يوليها، والمبرات
يسديها، فما يفعل الخير التماس الثناء، ولا يصدر البر ابتغاء الجزاء، إنما يحسن
محبة في الإحسان، ويبر شفقة بالإنسان.
تفضل - أدام الله فضله - على خريج حكمه، الناشيء في نعمه، بكتاب هو
المحكم آياته، المعجز دلالته، الشافي لما في الصدور، الكاشف لحقائق الأمور،
الهادي إلى سبيل الرشد وإلى صراط مستقيم فسر لمرآه، سرور العليل بالشفاء وافاه،
وتلاه متدبرًا دقيق معناه مكررًا رقيق مبناه، فازداد إيمانًا بفضل مولاه، ويقينًا
بحكمة من أوحاه، وشكر الله على صحة من أهداه، دامت نامية وارفة الظلال.
وتكرم - أبقى الله كرمه - ببيان بعض أسماء الكملة الكرام الذين دارسوه
فصولاً من المروءة وأبوابًا من النجدة، وما لهم من كمال الفضل، وما فيهم من تمام
العقل فرسمنا أسماءهم على صفحات القلوب، وحفظنا أمثلة فضائلهم في الصدور،
وتشوقنا لأن تتشرف أبصارنا برؤياهم، كما تحلت بصائرنا بمعرفة أعلامهم
ومزاياهم، وما يحتاج في إقناع النفوس بضعف تلك الحجة، وإن كانت تمكنت في
الأذهان إلى قوة البيان، فمعرفتهم بمقام فضله، ومقدار حكمته ونبله، كافية بذاتها في
الدلالة على نزاهة نفوسهم، وطهارة قلوبهم وغزارة فضلهم، وسمو عقولهم، ورجاحة
هممهم، وسجاحة شيمهم، وفي توجيه ما ثبت من الفساد في أخلاق غيرهم إلى أسباب
أخرى؛ نود أن يبينها الأستاذ الجليل في كتاب مخصوص إذا وجد من الوقت مساعدًا،
إنما نحتاج إلى قوة البيان في هذا الموضع؛ لنتبين كيف يكون تدارس المروءة بين
الأفاضل، وتداول النجدة بين الكرام الأماثل، فما رأيتنا [1] من قبل لدينا إلا فاضلاً
كريمًا يدرس الفضائل بين من لا يعرفون للفضل مقدارًا، ولا يفقهون للكرامة
اعتبارًا.
ولقد زادني ميلاً في السفر، وبغضًا في الحضر، ما جاء في وصف أولئك
الأماجد ذوي النفوس الزكية، والمحامد العلية، وما تلاه من بيان حقيقة غوازي
الأمم، ساقطي الهمم، سافلي القيم، جاهلي مقادير النعم، غير أني عدلت عن
داعية هذا الميل امتثالاً للأمر، وفي النفس حسرات لا يقاومها صبر، وبها إلى
السفر أشواق لا يتناولها حصر.
وأحسن - خلد الله إحسانه - على صنيع آدابه، اليتيم في أترابه، بحكم من
مثل التي تعودها غذاء للعقل، ونورًا للفكر، فتلقاها بقلب شاكر، وتقبلها بفؤاد حامد،
وحفظها في الوجدان، راجيًا من الله التوفيق إلى الأخذ بمعانيها، والهداية إلى اتباع ما
فيها، آملاً من مكارم مواليها، دوام تواليها.
أسفت بل خجلت مما بلغ المقام الشريف عن الشيخ عبد الكريم الفاضل [2]
ثابتًا صدقه بشهادة من سئلوا من الصادقين، ولولا التحقق من سعة بال الأستاذ
الكريم، ومن وثوقه بي فيما أرويه لكان الأسف مضاعفًا.
إني - كما تعلمون - كثير الاجتماع بهذا الشيخ، وما سمعت منه ما يقصد به
مس مقامكم الكريم، ولم يتكلم أمامي يوم أن بلغه خبر الاعتراف باليمين المعروف،
إلا بما معناه الأسف والإشفاق من عاقبة هذا الاعتراف، فلعل ما بلغ المسامع الشريفة
من هذا القبيل، والسامعون لشدة حرقتهم وبلوغ الأسف من فؤادهم مبلغه، انصرف
خاطرهم عن رعاية مقام القول فتوجه ذهنهم إلى مفهوم الكلام الحقيقي، وطبقوا المقام
على ما فهموه، ولهم العذر، فهم لم يتعودوا سماع كلام مثل هذا في جانب حضرتكم
ولو مرادًا به غير حقيقة معناه، ولم يألفوا تأويل العبارات وصرفها عن ظواهرها،
ولم يعرفوا عادة ذلك الشيخ في كيفية تأدية مراده، والعبارة في حد ذاتها يصعب
تأويلها إلى غير المتبادر للأفهام منها كل الصعوبة على من لم يكن أزهريًا متعودًا من
الشيخ سماع أفظع منها مفهومًا وأشنع تركيبًا.
وكيف يتأتى له إرادة الظاهر مع علمه بكون ذلك لا يصدر إلا عن لؤم طبيعة
وخراب ذمة وسفاهة عقل؟
أنسي ما أوليته من كرائم النعم، وجلائل الأمم؟ التي لا يزال متمتعًا بها متفيئًا
ظلالها، وإنك لمؤرق أسفًا المحترق حزنًا المشفق عليه يوم وجدت اسمه مكتوبًا في
تقارير اللئام، حتى شغلك همه عن همك، وسعيت وأنت مسجون في تنجيته من
التهمة بواسطة المحامين.
ما نسي كل هذا وما قدم العهد عليه حتى ينقض ولاءك، ويبتكر هجاءك،
ويمس مقامك، في بيت أواه، ومنزل طالما رتع في بحبوحة نعماه.
فهذه العبارة - إن صح النقل - لا يمكن أن يكون المراد بها شيئًا وراء إعلان
الأسف والإشفاق، أما كونه لم يرسل خطابًا فمولاي يرى أنه من الأدلة الصادقة على
كون ذلك الشيخ الفاضل صادقًا في ولائه، حريصًا على دوام تذكر أوليائه، إذ لم
يدعه إلى ذلك الإتمام رغبته في المحافظة على النعمة التي غرستم أصولها، وأنميتم
فروعها، ليكون على الدوام متذكرًا الحقيقية مبدئها، متصورًا صورة منشئها.
أما كتاب الشيخ محمد خليل فقد علمت ما في إرسال صورته من (حسن
التعليل) وكمال التلطف في التأديب، على ما جرى به عادتكم الشريفة، وقد
طالعت هذه الصورة، فرأيت أنها من أقوى الأدلة على شدة ميل صاحب الأصل
إلى الصدق ورغبته عن التمويه، حيث أوضح حاله صادرًا في الإيضاح عن الحق،
برهانًا على شدة إخلاصه بإثبات العبارة التي نفيتها بين يدي حضرتكم في الدائرة.
فإن إثباتها لا يصدر إلا عن تمام إخلاص لا يشوبه تمويه، ومن هنا يتبين
لحضرتكم سلامة نيته وحسن طويته.
أما عنوان الجواب، فما أداه إلى نسجه على ذلك الأسلوب إلا اعتماده على
معرفتكم بكونه من الصادقين المعظمين لجنابكم الكريم، وعلى كل حال فنحن لا
نستغني عن كريم عفوك، وجميل صفحك، فإن لم تعف عنا وتصفح كنا من
الخاسرين.
إن ظنكم فيما رأيتموه في جريدة البرهان هو الموافق للصواب، ويحق
لحضرتكم السرور بما نال ولدكم [3] فهو المتربي في نعمتكم، المغترف من بحار
حكمتكم، المحفوف بعنايتكم، المشمول بعين رعايتكم، البالغ ما بلغ ويبلغ من
مراتب الكمال بحسن توجهاتكم، وكريم تعطفاتكم، أدامكم الله لكل خير مبدأ.
رفعت تحيتكم إلى حضرات من ذكرتم أسماءهم، وأشرتم إليهم فتقبلوها
بالاحترام، وهم جميعًا يقبلون يديكم، ويسلمون عليكم، وأخص منهم بالذكر منبع
الصفا ومصدر الوفاء الذاكر لفضائلكم في كل حين، والدي حسين أفندي. وحضرة
ولدكم الصادق في متابعتكم الشيخ عامر إسماعيل الذي امتن غاية الامتنان بما
اختصصتموه به في كتابكم الشريف وحضرة الشيخ سليمان العبد والسيد أمين أفندي.
ونحن جميعًا نرفع أحسن التحيات وأزكاها لحضرات الكرام الذين تشرفنا
بمعرفة أسمائهم من الذين دارسوكم فصول الكرامات، ونقدم لهم واجبات الاحترام،
أدامهم الله مثالاً للفضل وعنوانًا للكمال، ونسلم على حضرات أخينا الفاضل إبراهيم
أفندي اللقاني وإبراهيم أفندي جاد ونجلكم الكريم وجميع من بمعيتكم حفظهم الله.
أحوالنا العمومية أنتم أعلم بها منا فلا حاجة إلى بيانها. نرجو تفصيل
أحوالكم وما تشتغلون به من قراءة وتأليف إذا حسن لديكم ذلك.
كتب سامي لم تشهر إلى الآن في المزاد، ولا زلت مراقبًا لإشهاره.
حضرة البيك صاحب الكتاب، توجه قبل ورود كتابكم إلى البلد، ولم يحضر
إلى الآن. وعند العلم بحضوره أتوجه إليه وأرفع لحضرته مزيد تشكراتكم، دامت
معاليكم. أفندم ، في 8 جا سنة 1300.
…
...
…
...
…
...
…
... صنيعكم - سعد زغلول
أرجو عدم انقطاع المراسلات ، وأتمنى أن لا أحرم كل أسبوع من كتاب
تطمينا للخاطر وترويحًا للفؤاد، ولمولاي في إجابة هذا الرجاء النظر العالي.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
سعد [3]
_________
(1)
الكلمة في الأصل هكذا (رايتنا) ، ولعل المراد فما رأيناك إلخ، الخطاب للأستاذ الذي بعث الفضيلة بالعلم والعمل في جماعة نكثوا عهده، وخانوا وده ووشوا به عند الشدة.
(2)
ذكر لي الأستاذ الإمام رحمه الله أيام غضب الشيخ عبد الكريم سلمان علي؛ أنه كان بلغه في أثر الفتنة العرابية أنه طعن فيه يتبرأ من كونه من حزبه، فكتب في ذلك كلمة في كتاب لآخر؛ أظنه سعدًا قال: وأما ذلك الشيخ الذي اكننته كني وأدنيته مني، وجعلته في مكان النحو من ابن جني فهو يصرح بسبي ولا يُكني.
(3)
يعني سعد نفسه، وأظن أن الخبر المشار إليه هو اشتغاله بالمحاماة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
اقتراح إبطال الأوقاف الأهلية
ومكان الدين من الدولة المصرية
في قسميها التشريعي والتنفيذي
اضطربت هذه البلاد اضطرابًا عظيمًا؛ لاقتراح أحد أعضاء مجلس النواب
وضع قانون تلغى به الأوقاف الأهلية، ويحرم إنشاء شيء منها في المستقبل؛ لما
فيها من المفاسد الاقتصادية وغيرها، فكان الناس في هذا الاقتراح فريقين: فريقًا
يود ذلك لأن في أيديهم أعيانًا من هذه الأوقاف، يريدون أن يتصرفوا فيها تصرف
المالكين، فتكون لهم دون من بعدهم، ويؤيد هذا الفريق زنادقة المسلمين دعاة
الإلحاد في هذه البلاد، وكل ما يحب من غير المسلمين إبطال حكومتها لكل ما بقي
من التشريع الإسلامي فيها، وفريقًا لهم منافع في بقاء هذه الأوقاف على حالها،
ويؤيدهم جمهور علماء الشرع، ومن يؤلمهم التعدي على التشريع الإسلامي أن
يكون مباحًا للبرلمان، فيتصرف فيه برأي أكثرية أعضائه، فيكون تشريعه فوق
الشرع المستند إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو اجتهاد أئمته،
وهذه الأكثرية قد تحصل بمن لا يدينون بالإسلام من ملاحدة وكتابيين، فإن من
هؤلاء الملاحدة من صرحوا - حتى في بعض جلسات النواب الرسمية - بردتهم عن
الإسلام وطعنهم في القرآن؛ لأنه يخالف مدنية أوربة في إباحة تعدد الزوجات
ولغير ذلك.
كتب كل من الفريقين مقالات كثيرة في الجرائد، يؤيد فيها رأيه بأدلة من
الشرع والقوانين والمصلحة العامة، ولا يعدم الفريق الأول شيئًا منها، فإن في هذه
الأوقاف من المفاسد ما لا يجيزه شرع الله بنص صريح، ولا باجتهاد صحيح على
ما فيه من المفاسد الاقتصادية، وكثر إلحاح أناس من الفريقين عليّ أن أكتب في
تحقيق الحق في المسألة؛ ما يعهدون أو يعتقدون من فصل الخطاب في أمثال هذه
المشكلات كمسألة الخلافة وغيرها، فكنت أقول لكل مقترح: إن لدى كل فريق
صوابًا وخطأ وحقًّا وباطلاً، وضارًّا ونافعًا، وإن الأوقاف الخيرية المسكوت عنها
الآن كذلك، فيها أوقاف باطلة مخالفة لأصول الشرع وفروعه، وفي التصرف فيها
مثل ما في التصرف في الأوقاف الأهلية من المفاسد والمضار، وتمحيص القول في
هذا الباب كله، وتحقيق الحق فيه من كل وجه لا يمكن إلا بتأليف كتاب ككتاب
(الخلافة أو الإمامة العظمى) ، ولو كان البرلمان المصري والحكومة يأخذان بما يقوم
عليه الدليل الأقوم، وتظهر فيه المصلحة العامة، لتركت جل أعمالي وتفرغت لذلك.
ولكن لا سبيل إلى هذا ولا سبيل إلى إقناع أهل الشأن به.
على أنه قد وضح من مجموع ما كتب الكاتبون أن للوقف أصلاً في الشرع
الإسلامي ثابت بالنص والعمل المتواتر من العصر الأول إلى اليوم، فلا يمكن
إبطاله باجتهاد مجتهد متقدم ولا متأخر، وإن سوء التصرف فيه وكون بعضه مخالفًا
لمقاصد الشرع، أو ما يعبر عنه بروحه وهو مناط التشريع، وبعضه مخالفًا
للنصوص أيضًا بحيلة شرعية أو بآراء فقهية؛ فهو واقع لا مراء فيه، فقلما يوجد
وقف أهلي أريد به القربة ومرضاة الله تعالى التي هي الأصل فيه، وما عساه يحلي
به مما صورته الخير، فمنه ما هو شر ومنه ما يحول بسوء التصرف إلى شر
وفساد، ومن ذلك ما يوقف على تشييد القبور وتجصيصها أو تزيينها، ووضع
المصابيح عليها وحمل الأطعمة إليها في الأعياد والمواسم المبتدعة أو المبتدع فيها
وغير ذلك، قلما يوجد في شيء من ذلك شيء مشروع يرضاه الله تعالى، فالوقف
عليها باطل كالوقف على بعض الوارثين لحرمان الآخرين.
ولكن سوء التصرف والاستعمال ليس مقتضى للشرع في ذلك، ولا لازمًا من
لوازمه، حتى يقال: إنه يجب إبطاله بإبطال مقتضيه وملزومه، فإن المبطلين
والأشرار يسيئون التصرف بجميع النعم الفطرية والكسبية: يسيئون التصرف
بمداركهم العقلية وبحواسهم وقواهم كلها، ويسيئون التصرف بأموالهم وبمعاملة
أزواجهم وأولادهم، وبالقوانين والعلوم والفنون والصناعات، فالواجب على أنصار
الحق وأهل الخير من أولي الأمر والحكم أن يمنعوا سوء التصرف بالشرائع والقوانين
وبالقوى والمشاعر وبالنعم؛ ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، كما يجب على العلماء أن
يبينوه للناس.
***
الدين في الدولة المصرية
فأول ما أنكره ويوافقني على إنكاره كل مسلم يعرف دينه ويغار عليه؛ أن هذا
البرلمان المصري لا يجوز أن يعطى من حق التشريع ما ينسخ شيئًا من شرع الله
الثابت بنص الكتاب أو السنة الصحيحة؛ التي جرى عليها عمل سلف الأمة أو
بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، وأعني ليس للقانون الأساسي أن يعطى هذا الحق؛
وهو يعترف بأن دين الحكومة الرسمي هو الإسلام.
وأما ما دون ذلك من مسائل الفقه الاجتهادية: فلأولي الأمر أن يتركوا منها ما
ضعف دليله، أو ضر فعله، أو كان منافيًا لمصلحة الأمة العامة، فإن مخالفة مثل
هذا من اجتهاد الفقهاء لا ينافي الإسلام.
وقد آن لهذه الحكومة الدستورية أن تفرق بين نصوص الإسلام القطعية من
الكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح؛ وبين اجتهادات أئمة الفقه الظنية، فتعلم أن
الأول لا بد من الاعتراف به لمن يدين الإسلام، وأن الثاني تحكم فيه الأدلة ومنها
مراعاة مصلحة الأمة، وإلا كان نص القانون الأساسي في كون دين الدولة هو
الإسلام لغوًا، كما كان في قانون الجمهورية التركية.
وقد ظهر بهذه المسألة مسألة ما اقترحته الحكومة من إصدار قوانين ببعض
أحكام الزوجية من: نكاح وطلاق ونفقة وفسخ عقد وتطليق حاكم؛ أن بعض علماء
مصر لا يرضيه من الحكومة إلا أن تتقيد بتقليد ما قرر اعتماده في كتب الفقه
المشهورة في الأزهر على مذاهب الفقهاء الأربعة المشهورة، بل يوجب عليها بعض
الحنفية منهم التقيد بمذهبهم وحده، وإن كان بعض المذاهب الأخرى أقوى منه دليلا ً،
وأقوم مصلحة وأيسر في التعامل، وأن بعضهم يقول بوجوب النظر في أدلة الأحكام
واتباع الأقوى والأصلح منها، فعلى الحكومة أن تؤلف مجلسًا شرعيًّا من الفريقين
يكون من أعضائه شيخ الأزهر، والمفتي الأكبر، ورئيسا المحكمة الشرعية الكبرى
والعليا، وبعض المشتغلين بالتفسير والحديث وآثار السلف وتطرح على هذا المجلس
ما تحتاج إلى معرفة حكم الشرع فيه، وتعتمد ما تقوم الحجة على أنه الحق الموافق لما
ثبت بنصوص الكتاب والسنة القطعية من يسر الشرع، وتقرر في نظام هذا المجلس
أنها مقيدة من الإسلام بالمُجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة الذي أجمعوا على
تكفير جاحده، ولا تقيد بغير ذلك من المسائل الخلافية بل تتبع فيها الأصح والأصلح.
اقترح بعض النواب في مجلسهم إلغاء منصب المفتي الرسمي؛ لأجل الاقتصاد
المالي، وليس راتب المفتي وكاتبه ونفقة مكتبه بالشيء الذي يعد كثيرًا
على الحكومة المصرية الغنية المسرفة؛ التي يمكن إدارة جميع أعمال وزاراتها
ومصالحها بنصف ما تنفقه عليها أو أقل من نصفه، وإنما الذي صار يثقل على
كثير من النواب أن يكون لهذه الحكومة مظهر للشرع الإسلامي مثل مظهر المفتي
الأكبر، ما أشد جهل هؤلاء المسلمين الجغرافيين بطبائع المال ونظام الاجتماع،
كنا ألفنا لجنة في حزب الاتحاد السوري؛ لتضع مشروع قانون أساسي لسورية،
واخترنا لرياستها إسكندر بك عمون المحامي الشهير؛ لأنه أعلم الأعضاء بالحقوق
والقوانين، فقال: أنا لا أقبل رياسة لجنة كهذه وفيها السيد رشيد؛ وهو أعلمنا
بالشريعة الإسلامية التي يجب علينا الاستمداد منها في هذا القانون؛ لأن أكثر أهالي
البلاد من المسلمين.
إننا نرى كثيرًا من المسلمين، ينشرون في بعض الصحف مقالات، يقيمون
بها الحجة على الحكومة المصرية بمخالفة نصوص الدين الإسلامي القطعية في
أحكام وأعمال بعض وزاراتها ومصالحها ولا سيما وزارتي المعارف والحقانية،
وهو الدين الرسمي لها بنص القانون الأساسي، ومن أفظع هذه المخالفة بل الجناية
على الأمة فيها إباحة الطعن في الإسلام في الجامعة المصرية، وإفساد عقائد النابتة
ووجدانها وآدابها النفسية بالإلحاد والإباحة، فيجب على الحكومة أن تتنصل من هذه
المطاعن بما ذكرنا؛ ليعلم رجالها وجمهور الأمة بما هو دين لا مندوحة عن الإيمان
به واحترامه، وما هو محل نزاع واجتهاد لا يكلفه إلا من ثبت عنده.
إني أوافق الذين يعتقدون من رجال الحكومة وغيرهم أنه ليس من الميسور لها
أن تدير نظام حكومة مدنية في هذا العصر، مع التزام مذهب الحنفية أو الشافعية
مثلاً، ولا سيما المذهب التقليدي الذي يوجبه المقلدون من أهل الأزهر وغيرهم من
كتبهم، وأقول مع هذا: إن الله لم يوجب على فرد ولا حكومة التزام تقليد كتب
مذهب من المذاهب، بل أبطل ذلك في محكم كتابه، ومن يدعي وجوب هذا التقليد
لتحقيق الأخذ بالإسلام، فهو أجنى على الإسلام ممن يرده وينكره، فقد كان الإسلام
على أكمله في الزمن الذي لم يكن فيه من هذه الكتب شيء، على أن في هذه الكتب
شيئًا كثيرًا تحتاج إليه الأمة، ولكن يكفي في ثبوت الإسلام ما أجمع عليه أهل
الصدر الأول من الدين؛ ومنه نصوص الكتاب والسنة القطعية الرواية والدلالة،
وما عداه فهو محل للاجتهاد، ومن أصول الإسلام فيه مراعاة مصلحة الأمة العامة
في جميع المعاملات السياسية والقضائية والإدارية، وإنه لا يكلف أحد أن يدين الله
باتباع أحد من الفقهاء فيه إلا ما صدر به حكم حاكم شرعي، فيجب اتباعه إقامة
للنظام العام.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
المسألة السورية بمصر
كتبنا في جزء سابق كلمة وجيزة؛ فيما وقع من الخلاف بين أعضاء اللجنة
التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني وبين رئيسها السابق الذي اقتضى أن تقرر
اللجنة إلغاء الرياسة الشخصية الدائمة لها، وذكرنا أن بعض الفضلاء يسعون
للصلح بين الأعضاء، والرئيس السابق الذي ألف لجنة جديدة تعترف له برياسته
الملغاة، ليس فيها أحد من أعضاء اللجنة القانونية إلا واحد مستخدم عنده براتب
شهري، ونذكر الآن بالإيجاز أن الساعين بالصلح قد فشلوا، وظهر لهم ولغيرهم أن
سبب الخلاف الذي شجر؛ هو ما ثبت من أن الرئيس السابق يسعى مع أخويه
لاستغلال القضية السورية وثورتها لدى فرنسة، بزعمه أنه يمكنه بنفوذ اللجنة
إخضاع البلاد كلها لفرنسة بالشروط التي يتفق هو معها عليها سرًّا، وينفذها باسم
اللجنة جهرًا، وقد صرحت الجرائد الفرنسية حتى الطان منها: بأن أولاد لطف الله
معترفون بالانتداب ويسعون للاتفاق مع فرنسا خلافًا لرشيد رضا وأسعد داغر من
الأعضاء المتطرفين الذين يسعون للاستقلال العربي، وأن لطف الله وجد قوة جديدة
ترجح على هؤلاءالمتطرفين بمشايعة الدكتور عبد الرحمن شاهبندر له، واشتغاله
معه في خدمته السياسة الفرنسية.
كانت حجة طلاب الصلح علينا؛ أن اتفاق ميشيل وشاهبندر يحدث مضار
كثيرة في القضية السورية، يزيد شرها على قبولنا لرياسة ميشيل للجنة مع حفظ
الأكثرية فيها، واشتراط جعل الرياسة صورية بسلب الرئيس حق تمثيل اللجنة في
الخارج والكلام باسمها إلخ، ما قالوا: إنه قد قبله، وقبل أن يوضع في النظام
الداخلي.
وقد حدث بعد العلم بتعذر الاتفاق أن الهيئات السورية في داخل البلاد
وخارجها وفي مقدمتها سلطان باشا الأطرش والأمير عادل أرسلان وسائر جماعة
المرابطين في الصحراء، كلها أيدت إلغاء اللجنة للرياسة الذي اقتضى خروج
رئيسها السابق من جماعتها، وأصبح تأليفه للجنة أخرى عبثًا وسدى، ثم إن
الحزب الوطني في الأرجنتين قد ألغى تمثيل الدكتور شهبندر له في اللجنة كما فعل
الحزب الوطني في شيلي، والجمعية السورية الوطنية في الولايات المتحدة بإلغاء
تمثيل توفيق أفندي اليازجي، فلم يبق للجنة الجديدة وجود يصح أن يستند إلى
مؤتمر جنيف، ولا حزب يمكن أن تتوكأ عليه، ولا عصبية في الوطن ولا في
المهاجر يمكن أن يتقرب رئيسها إلى فرنسة بها، والمال وحده لا يفعل ذلك، وقد
راينا منتهى ما عمل، فإذا هو ضعف وعجز وخذلان.
رأينا وعلمنا أن بعض الجرائد السورية الساقطة، تنشر لهم بالأجور الكبيرة
مقالات في إطراء أنفسهم بما يهوون من ألقاب الرياسة والزعامة ! والطعن في
خصومهم بألفاظ البذاء والسفاهة حتى لقب الكلاب. وتنزهت الجرائد المصرية
المحترمة عن نشر شيء من ذلك لهم، وعهد التضليل لا يطول في هذه المسالة،
فسيعلم من لم يعلم من الشعب السوري من يخدمه ويخدم وطنه، ومن يستغلهما
ويتجر بهما.
ولكن الذي بدا لنا من حيث لم نحتسب، أن يخيب الأمير ميشيل وشقيقه آمالنا
في آدابهما الشخصية برضاهما من مستخدميهما أن يكتبوا تلك المقالات الحمقاء
المشتملة على التبجح الدنيء؛ بذكر موائد سراي لطف الله وإهانة ضويفهم الآكلين
عليها وضيوف القوم أمثالهم أو أكبر؛ ومن أحقر ذلك وأمسه بكرامتهم زعمهم أن
فلانًا وفلانًا بايعا جورج لطف الله بإمارة لبنان عقب غداء ثقيل.
ألا يفهم هؤلاء أن هذه مسألة لا تذكر إلا مداعبة ومزاحًا أو سخرية واستهزاء؛
لأن الإمارة في مثل سورية ولبنان لا تكون بمبايعة أحد من أهلهما ولا سيما في
خارجهما وهما تحت سلطة أجنبية، فلا يكون الحديث فيها من الجد في شيء.
إننا عاشرنا ميشيل وجورج بضع سنين، لم نر فيها منهما إلا الأدب العالي
في القول والعمل؛ ولذلك كنا مغتبطين بمعاشرتها، وقد قال لي الأمير ميشيل عقب
قرار 19 أكتوبر: إن اختلافنا في السياسة لا يمنع الصداقة الشخصية بيننا، فإن
مثل هذا معهود بين الأصدقاء في أوربة وغيرها، وقلت له أخيرًا عندما اجتمعنا
باقتراحه؛ لبحث في مسألة الصلح إنه لا يليق بآدابكم الشخصية استئجار السفهاء
البذاء، والطعن واستئجار الجرائد لنشرها ثم توزيعها من مكتب لجنتكم، ولا تظنوا
أن معرته لا تلحقكم فقد قال الشاعر:
ومن يربط الكلب العقور ببابه
…
فكل أذاة الناس من رابط الكلب
فأطرق ولم يعتذر، وقد ذكرت له أنني أحتقر الشتامين وجرائدهم فلا أقرأها؛
ولذلك أرد لمكتبه السياسي بشارع عابدين جميع الجرائد التي يرسلها بغلافها وطابع
البريد عليها كما هو، ولولا أنه كان مما نشروه في منشوراتهم وجرائدهم المأجورة
للكذب؛ أننا قبلنا أن يكون من قواعد الصلح إعادة رياسة الجنة كما كانت، وسكتوا
عن القيود التي جعلنا الرياسة معها سدى لما نشرت هذه الكلمة هنا، وقد كان أخسر
الناس بما حصل عاشق الرياسة وعاشق الزعامة؛ إذ خسراهما وخسرا ما كان من
حسن ظن الأمة بهما (والعاقبة للمتقين) .
_________