الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة المجلد التاسع والعشرين من المنار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الأعظم الأجل، والثناء الأكبر الأكمل، لربنا ذي العظمة والجلال،
والكبرياء والكمال، مقدر الآجال للأفراد والأجيال، ومقلب القلوب ومحول الأحوال
على ممر السنين والأحوال ، والتسبيح الأرفع الأسمى، لاسم ربنا الأعلى (الذي
خلق فسوى، والذي قدر فهدى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى، عالم الغيب
والشهادة الكبير المتعال) .
خلق السموات والأرض وما بينهما بالحق، وأقام بين عباده ميزان الحكم
بالعدل، وحكمه في كل من التكوين والتشريع هو الفصل، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ
مِن وَالٍ} (الرعد: 11) .
والصلاة الإلهية النورانية، وتحية السلام الربانية الرحمانية، على خاتم دولة
النبيين، ولبنة الزاوية الذي أكمل الله به بناء الدين، وأتم نعمة هداية الوحي على
المؤمنين، محمد بن عبد الله العربي الأمي الملقب من قومه بالأمين، المرسل من ربه
رحمة للعالمين، وعلى آله الأطهار، وأصحابه المهاجرين والأنصار، ومن اقتفى
آثارهم من المقربين والأبرار، واجعلنا اللهم من هؤلاء المصطفين الأخيار، الذين
يذكرونك ذكرًا كثيرًا، ويسبحون بحمدك بالغدو والآصال.
أما بعد، فإن المنار يذكّر قرّاءه في فاتحة مجلده التاسع والعشرين، بمثل ما
عهدوا منه في غابر السنين، من العظات والمثلات العامة والخاصة بالمسلمين،
وما هم عرضة له من صلاح وفساد، وما يحتاجون إليه من إصلاح وإرشاد، وما
له من هذا شأن فيه، وذكرى في نواحيه، وما أريد أن أذكرهم به اليوم أجل مما
سبق من أمثاله خطرًا، وأوسع فجاجًا وسبلاً، وأدق علمًا وعملاً، على أنه عين ما
ذكرتهم به من قبل في جملته، وإنما هو أجل منه شأنًا وأبعد شأوًا في تفصيله مع
ضيق وقته.
كان سير الأمم والشعوب فيما سبق وئيدًا، كالأباعر يحملن جندلاً أو حديدًا،
ثم صار يسير بسرعة البخار، فيما يجر من المركبات في البر والجواري المنشآت
في البحار، ثم صار يطير في الهواء، ويسير سفنه في جو السماء، ثم إن الإنسان
العالم العامل، فسر لنا كيف سخر الله له ما في السموات وما في الأرض باستخدام
الكهرباء لمنافعه، وتصرفه بنورها وقوتها النافذين في الكائنات كلها لمصالحه،
وهذا ما أشرنا إليه آنفًَا في الصفحة الأولى من الصحيفة الأولى من المنار؛ منذ إحدى
وثلاثين سنة هجرية.
كان أكثر ما وصفنا به أعمال الإنسان المستيقظ يومئذ حقائق واقعة، وأقلها
تصورات متوقعة، وقد وقع ما كان متوقعًا، وتجاوز كل ما كان متصورًا، وعدا
كل ما كان مقدرًا، وأغربها المناطيد والطيارات، وتقريب المسافات، ونطق
الجمادات، وتراسل أهل الأمصار البعيدة بالصور والمخطوطات؛ كتناجيهم
بالأصوات، واستماعهم للخطباء والعازفين والمسمعات (المغنيات) ، فمن هو في
العالم القديم، قد صار بمرأى ومسمع ممن في العالم الجديد، بل ظهر من أسرار
الله في هذه الكهرباء ما صار به كل ما كان يستغرب من أخبار الوحي عن عالم
الغيب غير غريب، وكل ما كنا وصفنا من سعة سير الإنسان في أطوار الحضارة
بطيئًا غير سريع، بل كشف من عجائب سنن الله في الكهرباء ما لم يكن يخطر
على قلب بشر، وهو كل يوم في ازدياد، والناس من عجائب صنع الله في شأن،
يتنقلون بها من طور إلى طور، يتوقلون في نجد ويهبطون إلى غور، وقد عمت
مصنوعاتها الخافقين، فهي مبصرة بالعينين، مسموعة بالأذنين، ملموسة باليدين
موطوءة بالرجلين.
لكن كل هذه العلوم الزاخرة، والفنون الساحرة، والصناعات التي لو خفيت
أسبابها لعدت من السحر أو المعجزات، لم تزد المستمتعين بها إلا فسادًا في
الأخلاق وكفرًا بنعم الخلاق باستعمالها وسائل للحرب والنزال، وأسلحة للعدوان
والصيال، وآلات لتخريب ما لغيرهم من عمران، وتدمير ما لهم من بنيان، أو
يكون لهم ملكًا وأهله من العبدان، فماذا يجب على المسلمين أن ينتفعوا به من تلك
العلوم، وماذا يجب عليهم من اتقاء ضررها؟ .
طغى الغرب على الشرق بقواه العلمية والآلية يستغله ويستذله، ثم دفع دوله
التنازع على غنائمه والسيادة على أهله إلى طغيان بعضهم على بعض في حروب
صغيرة وكبيرة، حتى جاءت الطامة الكبرى وحرب المدنية العظمى، فخربوا
بيوتهم بأيديهم، وأحرقوا ثمرات كسبهم بنارهم، وأضاعوا فيها من رجالهم العاملين
زهاء عشرين ألف ألف نسمة بين قتيل ومشوه، من أقطع وأبتر وأجذم، دع عدد
المسلولين من مخابئ الخنادق والسراديب الشديدة الرطوبة على جوعهم، وفقدهم
الثياب الكافية لتدفئتهم، وأكثرهم كَلّ على أهله وحكومته، ولعل جملة خسائرهم في
أربع سنين تربي على ما ربحوه كلهم من الشرق في مائة سنة أو أكثر.
فإن كانوا كسبوا بهذه الحرب توسعًا في العلوم والفنون والصناعات، فقد
أعقبتهم فسادًا على فسادهم، وزادتهم رجسًا إلى رجسهم، فهم يستعدون في الباطن
لحرب أشر منها وأضر وأدهى وأمر، من حيث يسعون في الظاهر إلى عقد
المحالفات؛ لتحديد صنع الأسلحة وتقليل إنشاء الأساطيل والطيارات، وما كانت
عهودهم إلا دخلاً بينهم؛ أن تكون أمة هي أربى من أمة. فكل دولة من دولهم تمكر
بالأخرى وتكيد لها، بل هم يكيدون لشعوبهم ويمكرون بها، أعني أن كل حكومة
تمكر بشعبها نفسه وتخدعه؛ ليواتيها ويؤيد سياستها الحربية ويقرر لها نوابه المال
الذي تطلبه لها، وقد أحدثت الحرب الأخيرة في قلوب هذه الشعوب مقتًا للحرب
ورعبًا؛ مما عرفوا من أهوالها، ضاعف ما في الغرائز من كراهتها، فإذا جاءت
الحرب التالية كانت هي القاضية، ولن يستطيع أعداء البشر من وزراء دول
الاستعمار أن يتصرفوا في أموال شعوبهم وأنفسها بكيدهم تصرف سفهاء الوارثين،
وخونة القوامين على اليتامى والمجانين، ولا أن يسوقوا مئات الألوف بل
الملايين من شبان مستعمراتهم إلى جحيم الحرب، كما تساق الغنم إلى مجازر الذبح،
ولا أن يستحوذوا على ذهبها وفضتها وغلالها ومواشيها وجمالها وخيلها وبغالها
وحميرها فينتزعوها بالقوة القاهرة، كما فعلوا في الحرب السابقة، وإن صادفوا من
رجال حكوماتها المحلية من يسخرونهم لذلك كما سخروا الحكومة المصرية، فكيف
إذا لم يجدوا حكومةً وطنيةً قابلةً لمثل ذلك التسخير الذي لا يرضى به إلا الحمير؟
فلا ييأسن مسلم ولا شرقي من تحرير أمته من رق أوربة، فإن الفرصة ستسنح عن
قريب، والويل يومئذ للغافلين والمتخاذلين، بل الويل الأكبر للشعب الذي يفرق شمله
ملاحدة المجددين، فهم الخطر الأكبر على المسلمين وسائر الشرقيين.
ازدادت أوربة بعد الحرب علمًا وصناعة، وكذلك ازدادت جشعًا في
الاستعمار، وطمعًا في الدرهم والدينار، وضراوة في سفك الدماء ، وتفننًا في المكر
والدهاء، وصراحة في نقض العهود، وإخلاف الوعود، كما فعلوا في البلاد
العربية التي ضمنوا لها الاستقلال والحرية، ثم تجاوزوا بالعدوان عليها ما كانوا
قرروه سرًّا من اقتسام ذات الثروة الغزيرة منها: تجاوزوا العراق وسورية
الساحلية إلى الصحراء العربية، بل إلى البلاد المقدسة الحجازية، فاقتسموا سكة
الحديد الممتدة من سورية وفلسطين إلى المدينة المنورة؛ وهي وقف إسلامي على
الحرمين الشريفين ثم انتزع الإنكليز منطقة العقبة ومعان التابعة لمدينة الرسول
صلى الله عليه وسلم وأنشئوا يقيمون فيها الثكنات العسكرية والمعاقل الحربية،
وسيمدون فيها سكة حديدية تصل ما بين العقبة والبصرة، أو ما بين ساحل الحجاز
من البحر الأحمر وشط العرب، وحينئذ يكون أداء فريضة الحج تحت مظلة
سلطانهم، وذلة صلبانهم من كل بر وبحر، ويكون الحرم النبوي تحت رحمة
طياراتهم وجنودهم في كل وقت، كل هذا فعلوه بمساعدة الشريفين المكيين
الهاشميين والحسنيين الأميرين الملكين ملك الحجاز - بزعمه - في ذلك الوقت
الشريف علي، وأمير شرق الأردن البريطاني إلى يومنا هذا الشريف عبد الله، فإذا
سكت العرب على هذا العدوان جهلاً، فلماذا يسكت سائر المسلمين والحجاز قبلة
ومنسك للجميع؟ وماذا يخافون والله يقول: {فَلَا تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: 175) .
سارع الإنكليز وحلفاؤهم بعد الحرب إلى استعباد ما لم يكونوا قد استعبدوه من
الشرق، وجعله كله من غنائمهم المحللة لهم، وظنوا أنهم قد ملكوا القسطنطينية
العظمى وبحر مرمرة والبحر الأسود والقسمين الجنوبي والشرقي من البحر
المتوسط وبلاد العرب من مصر والبحر الأحمر إلى شط العرب وبلاد إيران، وأن
قد اتصلت مصر بالهند، وستتصل بمدينة الرأس، ولكن ماذا كان؟ استبسل لهم
الترك استبسال المستيئسين فطردوهم من الآستانة وما حولها، وتنمر لهم الفرس
تنمر المستهتر المستقتل، فأحبطوا أملهم في إيران وضربوا بقصاصة معاهدة
كرزون عرض الحائط، وأعلنوا الاستقلال المطلق، وإلغاء الامتيازات الأجنبية فتم
لهم ما يريدون، وقامت في وجوههم ثورة مصر العزلاء، فاضطرتهم إلى إلغاء
الحماية والاعتراف لمصر بالاستقلال والسيادة القومية. ولكنهم قدموا هذا الاعتراف
بتحفظات، لا تزال مثار النزاع والمفاوضات.
وقامت على إدارتهم الهندية في العراق الثورة المسلحة، فألجأتهم إلى تأليف
حكومة عراقية ملكية. لكنهم جعلوا فيصل بن حسين أخلص صنائعهم لهم ملكًا عليها،
يحقق لهم بالسلم والاقتصاد كل ما يريدون منها، وسوف يخيب بتوفيق الله أملهم
فيها.
وآذنهم بالحرب أمان الله خان أمير الأفغان، فاضطروا للاعتراف له
بالاستقلال المطلق التام، وكانت بلاده تحت حمايتهم المذلة، فأصبحت عزيزة
مستقلة، وكان ما كان من أمر ثورة الصين عداوة لهم ونبذًا لسيطرة امتيازاتهم
واستعمارهم، فحاولوا تأليب أوربة عليهم كما هو المعروف من شنشنتهم، فخذلتها
الدول في هذه المرة، وما كل مرة تسلم الجرة، فعادوا خاسرين وانقلبوا خاسئين.
وثبت الإمام يحيى في اليمن على سياسته السلبية معهم، فلم يستطيعوا إقناعه
بالاعتراف لهم بأدنى حق في بلاده، بل لا يزال يطالبهم بالمقاطعات التسع وبعدن
نفسها.
وانتزع ابن السعود الحرمين الشريفين من صنيعتهم الشريف حسين الذي ولوه
عليه، وكان يعترف لهم بأنه موظفهم فيه، ونقض ما كان من اتفاق سنة 1915 الذي
كان ضربًا من الحماية، واضطرهم إلى الاعتراف له بالاستقلال التام المطلق في
الحجاز ونجد وملحقاتها ولا يزال الخلاف بينهما قائمًا على السكة الحجازية ومنطقة
العقبة ومعان، يطالبونه بالاعتراف بدخول هذه في شرق الأردن أو بالسكوت لهم
عنها، وينذرونه تأليب عرب العراق والأردن عليه، وتهييج مسلمي الهند وإيران
ومصر عليه.
نعم.. يطمع الإنكليز بالاستيلاء على الحجاز بقوة المسلمين عامة والعرب
خاصة؛ لأنهم رأوا من تخاذل العرب الوطني والجنسي، مثلما رأوا من تخاذل
المسلمين الديني، فكان زعيمان من أشهر خصومهم في الهند أشد خدمة لهم في هذا
السبيل من أخلص صنائعهم في بلاد العرب (الملك فيصل والأمير عبد الله) ،
هذان يهددان ملك الحجاز ونجد، ويعتديان حدود الله بالتعدى على حدوده والتحرش
بقوته، وذانك قد اجتهدا في إيقاع الفشل في المؤتمر الإسلامي العام الذي أجمع على
الإنكار على الإنكليز مسألة العقبة ومعان، ومسألة اقتسام منافع السكة الحجازية
بينهم وبين أحلافهم الفرنسيس. وما فعلا ذلك حبًا في الإنكليز بل بغضًا في ابن
السعود؛ لأنه لم يتبع هواهما فيما يريدان أن تكون عليه حكومة الحجاز وهو هوى
باطل، وتنفيذه محال وطلبه غرور بل جنون.
هذه حالهم في الشرق، خابوا في كل عمل، وانكشف خداعهم لكل أحد، ولم
يبق لهم أمل جديد إلا في بلاد العرب، ولولا فيصل وعبد الله ولدا الشريف حسين،
لرجعوا منا بخفي حنين؛ إذ كان يستحيل على التقاليد الإنكليزية أن تستولي على
شيء من أرض الحجاز لنفسها، وقد سبق لنا أن استنجدنا العالم الإسلامي على
والدهما موجد هذا الخطر فأنجد. والآن نستصرخه ليتم ما بدا، وينقذ حرم الله
وحرم رسوله من الردى.
إن الدفاع عن الحجاز واجب على المسلمين أينما كانوا، كل بقدر طاقته، فإن
استيلاء الإنكليز على ثغر العقبة وحده أكبر خطر على المدينة المنورة، وإن هذه
البلاد قد حرمها الإسلام على غير المسلمين، فلا يجوز لإنكليزي ولا لغيره أن يملك
فيها ذراعًا ولا شبرًا، ولا أن يصدر فيها نهيًا أو أمرًا، فإذا لم يبال المسلمون كافة
بمبدأ دينهم، ونقض الأجانب لوصية نبيهم، ولا بجعل ركن الإسلام الاجتماعي
العام تحت رايتهم ووصايتهم، فأي دين يبقى لهؤلاء المسلمين؟ أيظنون أن الإنكليز
يحافظون على حرية الحج وكرامة الحرمين في ظل ملكهم حامي الكنيسة الإنجيلية،
وهم يرون بأعينهم ويسمعون بآذانهم ويقرءون في الكتب والصحف ما يفعل دعاة
النصرانية في ثالث الحرمين (القدس) ؛ من الطعن في الإسلام، والتواطؤ على
تنصير جميع مسلمي الأرض، وتخصيص الحرمين الشريفين وعرفات وسائر
العرب بالذكر؟ وقد ظهر لهم سر قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا ذلت العرب ذل
الإسلام) رواه أبو يعلى بسند صحيح.
أيها المسلمون:
أصغوا، أصيخوا، أنصتوا، استمعوا، وانظروا، وتأملوا في عاقبة دينكم،
وبيت ربكم، وحرم رسولكم، ليست المسألة مسألة حكومة ملكية أو جمهورية، ولا
مسألة أسرة سعودية أو هاشمية، ولا مسألة وطنية حجازية أو يمنية أو نجدية، ولا
عصبية مذاهب سنية أو زيدية أو إمامية، ولا قضية جنسية عربية أو فارسية أو
أفغانية أو هندية، ولا تعاليم سلفية وهابية أو خلفية تأويلية، بل المسألة العظمى
وهي الطامة الكبرى مسألة الديانة الإسلامية والملة الحنفية والوصية المحمدية، كل
ذلك على خطر الزوال، والذل والخزي والنكال؛ إذا ظل الأجانب محتلين بقواتهم
العسكرية للعقبة ومعان إن سكتنا عن القدس وشرق الأردن الآن، وهم يخترقون
منها قلب الصحراء العربية إلى العراق.
سبحان الله! ما بالكم تسمعون الإنكليز يصرحون بأن استقلال المصريين في
مصرهم خطر على الهند البريطانية - وبريطانيا أقوى دول الأرض - ولا يكون
احتلالهم هم للعقبة ومعان وعمان واستيلاؤهم على سكة الحديد الحجازية مع
حلفائهم الفرنسيس خطرًا على الحجاز، وليس للحجاز دولة ذات قوة برية بحرية
جوية، يمكنها أن تدفع عنه هاتين الدولتين القاهرتين كلتيهما ولا واحدة منهما،
اللهم إلا قوة الإيمان في الشعوب الإسلامية التي يجب أن تكون مع الحجاز إلبا
واحدًا عليهم.
ألا يجب عليكم شرعًا أن تستعملوا قوتكم المعنوية، فتجمعوا على مطالبة
الدولة البريطانية بترك ما انتزعت من الحجاز للحجاز، وتطالبوا الدولتين وسائر
الدول بالاعتراف باستقلال الحجاز وسائر جزيرة العرب، وبكونها بلاد حرة حيادية
لا يعتدي عليها أحد؟ بلى والله لئن سكتم عن هذا، ليحكمن عليكم الأجانب بالموت
والفناء أو لتكونن أنتم والحشرات الدنيئة في نظرهم سواء.
انظروا وتأملوا: لماذا أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم في مرض موته بإخراج
اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وأن لا يبقى فيها دينان؟ على ما علمتم من
تسامح الإسلام وما جاء به من حرية الأديان؟ أليس قد أوصى بذلك؛ لأن حرم الله
وحرم رسوله في الحجاز؟ وهما مهبطُ الإسلام ومثابةُ أهله ومفزعُهم وملجؤهم عند
الشدة، ولا يتم ذلك إلا إذا كان الحجاز خاصًّا بهم هو وسياجه من جزيرة العرب.
إذا كان هذا المعنى قد خفي على بعض العلماء المتقدمين، فلا يصح أن يخفى
على عوام المعاصرين فضلا عن العلماء ولا سيما المحدثين الذي اطلعوا على قوله
صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جُحْرها)
رواه الشيخان من حديث أبي هريرة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام
غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء، وهو يأرز بين المسجدين كما
تأرز الحية في جُحْرها) رواه مسلم من حديث ابن عمر، وحديث (إن الدين ليأرز
إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جُحْرها، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية
من رأس الجبل) .. إلخ، رواه الترمذي عن عمرو بن عوف المزني، ومعنى أرز:
عاد وانكمش وانضم، والمراد الذي يدل على مجموع الروايات وحالة هذا العصر:
أن الإسلام عندما يضعف ويعود غريبًا ينكمش إلى الحجاز ويلجأ إليه، فيعتصم به
كما تعتصم الوعول في رؤوس الجبال، وهو الواقع الآن الذي أظهر لنا حكمة
وصيته صلى الله عليه وسلم بأن لا يبقى في جزيرة العرب غير الإسلام.
أيها المسلمون: إن الدولة البريطانية أطمع الدول ولكنها أعقلها، فإذا رأت
إجماع السواد الأعظم منكم على مطالبتها بما ذكرنا، وإذا بثثتم الدعوة في العالم
الإسلامي كله على وجوب عداوتها ومقاطعتها، فإنه يرجى أن تترك منطقة العقبة
ومعان للحجاز في المفاوضة السياسية التي ستكون بينها وبين حكومته عن قريب؛
لأن البت فيها قد أرجئ إلى هذه المفاوضة، وكذلك مسألة سكة الحديد الحجازية،
فإن لم تفعل وجب على كل مسلم أن يبث الدعاية التي أشرنا إليها آنفًا بمقتضى
النظام الذي يضعه الزعماء لها، وقد آن وقت الفصل بين الإسلام والإنكليز: فإما
صداقةٌ تامةٌ وهي خير لنا ولهم، وإما عداوةٌ عامةٌ ولن تكون شرًّا علينا منهم.
إن الدولة البريطانية تعلم أن لدى الإمام عبد العزيز بن السعود قوة حربية لم
تر مثلها جزيرة العرب بعد عصر الصحابة، وأن الجيش البريطاني لا يمكنه أن
ينازل هذه القوة في نجد ولا في الحجاز؛ لأسباب جغرافية وسياسية وتقليدية
واقتصادية معروفة، وأن الطيارات ما صارت قوة فاصلة في الحرب ولا سيما في
مثل هذه الأرض، فسالمته ودارته من جهة، ووضعت على حدوده في نجد
والحجاز عدويه الحاقدين عليه في العراق وشرق الأردن من جهة ثانية، وهو أقوى
منهما، ولكنه لا يرضى أن يتقارع العرب والمصلحة لغيرهما.
أفلم يئن للعرب أن يعرفوا كيف أسست أمبراطورية الهند وغيرها بمثل هذه
الحيل، أو لم يئن للمسلمين أن يتقوا الوقوع اليوم في شر مما وقع فيها من أضاعوا
بلادهم من قبل، وهو إضاعة دينهم مع بقية دنياهم.
أيها المسلمون: إن الإسلام لا يزال قوة عظيمة في الشرق كله؛ إذا وجد لها
زعماء جامعون بين العقل والعلم والحزم، فإنه يمكنهم أن يحفظوه ويرقوه ويحفظوا
له بقية بلاده، ويستعيدوا الكثير مما فقد منها، بل يمكنهم أن يحلوا بها عقدة مشكلة
المدنية الكبرى، ويعمموا نشره في بلاد الغرب كلها، أقول هذا عن علم وخبرة
اكتسبتها في بحث استمر زهاء ثلث قرن، ولما أجد لها الزعماء الصالحين لتنفيذها.
وكان شيخنا الأستاذ الإمام موقنًا بهذا وصرح به في الدرس العام بالجامع
الأزهر، وكان قبله حكيم الإسلام والشرق السيد جمال الدين موقنًا بهذا، ويحاول
أن يكون بسعيه - وكان قبلهما بطل أوربة نابليون بونابرت يحاول ذلك عن عقيدة
راسخة - وما أحبط سعي هؤلاء كلهم إلا الدولة البريطانية، وهي التي تحاول
إحباط عمل كل عامل يعمل للإسلام أيضا ما استطاعت. ولكن الزمان قد اختلف،
ومثل هذا العمل يعمله الإنكليز سرًّا لا جهرًا، وكل قوتهم فيه خفاؤه وإخفاؤه، فمتى
ظهر فشل إذا أحكم في مقاومته العمل.
أيها المسلمون: إن مدنية أوربة المادية، لا تجد لها منفذًا من الهلاك القريب
في التنازع بين عباد المال والشيوعيين، وفي الإسراف في الشهوات والمطامع إلا
بدين القرآن، فعلى المؤمنين الراسخين أن يعجلوا بإنقاذها به قبل أن تقضي هي
على ما بقي لهم من ملك وملك وثروة وقوة، وقد شرحنا لهم هذا المعنى في كتاب
الخلافة، وسيرون في باب أحوال العالم الإسلامي من الجزء التالي تتمة ما كنت
عزمت على بيانه من جوانبه في هذه الفاتحة. فمن لم يعلم فليبحث وليسأل إن كان
لديه من الإيمان ما يؤهله للعمل، وإلا فلا يغشن نفسه بدعوى الإيمان.
اللهم إنك قد أمرت بالتبليغ، وقد بلغت ما عندي، اللهم فاشهد وأنت خير
الشاهدين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
أسئلة عن أحاديث الصحيحين وما قيل من أغلاطها
ورواية أبي هريرة، والفرق بين أحاديث التشريع وغيرها
س 1-9 من صاحب الإمضاء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله هادي الأنام، والصلاة والسلام على البشير النذير خاتم الرسل الكرام
وعلى آله هداة الأمم ومنار الإسلام.
أما بعد: من أحمد محمد شهاب إلى حضرة من بعثه الله مجددًا لما اندرس من
معالم الدين، ناصر السنة، وقامع البدعة، حامي بيضة الإسلام، إمام الأئمة
الأعلام [*] صاحب الفضيلة السيد محمد رشيد رضا.
السلام عليكم ورحمة الله، اطلعت على كتاب سبل السلام شرح بلوغ المرام
الذي صححه وعلق عليه حضرة الأستاذ النابه الشيخ محمد عبد العزيز الخولي
المدرس بقسم التخصص في القضاء الشرعي، فَإذَا الكتاب طبع في مطبعتين
إحداهما المطبعة المنيرية لصاحبها حضرة الشيخ محمد منير أغا، والأخرى للشيخ
محمد علي صبيح، وقد جاء في نسخة المطبعة الأولى صحيفة 9 جزء 1 تعليق
لحضرة المصحح على شرح الحديث الشريف 12 عن أبي هريرة قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وقع الذباب في شراب فليغمسه ثم لينزعه؛ فإن في
أحد جناحي داء وفي الآخر شفاء) نقلاً عما كتبه حضرة الطبيب محمد توفيق
صدقي العالم المتدين في كتابه سنن الكائنات صحيفة 162 جزء10 ومما جاء فيه:
إن من عادة الذباب أن يجتمع على القاذورات والنجاسات، ثم ينتقل منها على طعام
الإنسان أو يسقط في شرابه أو يقف فوق عينيه، وبذلك تنتقل جراثيم الأمراض إلى
الإنسان وتنتشر بين أفراد هذا النوع، واستشهد على ذلك بما قرره أطباء الإنكليز
في حرب الترنسفال من انتقال العدوى في أفراد الجيش بواسطة الذباب، إلى أن
قال: إذا وقف الذباب على الأعين وجب طرده في الحال وإذا وقف على الطعام أو
سقط في الشراب فالأسلم تطهيرهما بالنار. أما ما رواه البخاري عن أبي هريرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذا الحديث مشكل وإن كان سنده صحيحًا، فكم في
الصحيحين من أحاديث اتضح لعلماء الحديث غلط الرواة فيها، كحديث (خلق الله
التربة يوم السبت) مثلاً وغيره مما ذكره المحققون، وكم فيهما من أحاديث لم يأخذ
بها الأئمة في مذاهبهم، فليس ورود هذا الحديث في البخاري دليلاً قاطعًا على أن
النبي صلى الله عليه وسلم قاله بلفظه؛ مع منافاته للعلم وعدم إمكان تأويله، مع أن
مضمونه يناقض حديث أبي هريرة وميمونة؛ وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم
سئل عن الفأرة تقع في السمن، فقال: (إن كان جامدًا فاطرحوها وما حولها وكلوا
الباقي، وإن كان ذائبًا فأريقوه أو لا تقربوه) فالذي يقول ذلك لا يبيح أكل الشيء
إذا وقع فيه الذباب؛ فإن ضرر كل من الذباب والفئران عظيم، على أن حديث
الذباب هذا رواه أبو هريرة، وفي حديثه وتحديثه مقال بين الصحابة أنفسهم!
خصوصًا فيما انفرد به كما يُعلم ذلك من سيرته، وهَبْ أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال ذلك حقيقة، فمن المعلوم أن المسلم لا يجب عليه الأخذ بكلام الأنبياء
صلوات الله وسلامه عليهم في المسائل الدنيوية المحضة التي ليست من التشريع،
بل الواجب عليه أن يمحصها ويعرضها على العلم والتجربة، فإن اتضح له صحتها
أخذ بها وإن علم أنها مما قاله الأنبياء (صلوات الله وسلامه عليهم) بحسب رأيهم،
وهو يجوز عليهم الخطأ في مثل ذلك! وقد حقق هذه المسألة القاضي عياض في كتابه
الشفاء، فليراجعه من شاء. ومما رواه فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:
(إنما أنا بشر فما حدثتكم عن الله فهو حق، وما قلت فيه من قِبَل نفسي فإنما أنا بشر
أخطئ وأصيب) انتهى.
والذي نريد أن نعرفه من فضيلتكم:
1-
ما هي أحاديث الصحيحين التي اتضح لعلماء الحديث غلط الرواة فيها؟
2-
ما في حديث وتحديث أبي هريرة رضي الله عنه من المقال؟ وما الذي
قيل في سيرته؟
3-
إذا كان لا يجب الأخذ بكلام الأنبياء (صلوات الله وسلامه عليهم) في
المسائل الدنيوية المحضة، أفلا يكون الأخذ بها سنة أو مندوبًا؟
4-
هل يوجد ضابط لا يتطرق إليه القيل والقال في التمييز بين ما قيل من
النبي صلى الله عليه وسلم في المسائل الدنيوية، وما قاله من قبل نفسه، وما قاله
على سبيل التشريع؟
5-
جواز خطأ الأنبياء (صلوات الله وسلامه عليهم) ، فما قالوه من أنفسهم
ودليله وحكمه؟ وهل ما وقع لنبينا صلى الله عليه وسلم من هذا القيل محصور وما
هو؟
6-
التوفيق بين حديثي الذباب والفأرة؟
7-
هل حديث الذباب مع ما يشتمل عليه من الأخبار، يقال من قبل الرأي أو
التشريع.
8-
كيف يكون القول الصادر عن الطبيب محمد توفيق صدقي كفرًا مع قول
المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر فما حدثتكم عن الله فهو حق، وما
قلت فيه من قبل نفسي) .. إلخ، وما درجة هذا الحديث ومن خرجه؟
9-
جاء في تعليق النسخة طبعة صبيح، طعن مر على ما كتبه الدكتور محمد
صدقي وأنه كفر، فهل يجوز هذا الطعن، وما حكم قائله؟
نرجو الإفادة عن كل ما تقدم بتوسع، حتى تكون الأمة على بينة منه، وإنا
منتظرون فيما تكتبون الشفاء، والمعهود في سماحتكم الوفاء، ودمتم محفوظين،
وبعناية المولى القدير ملحوظين، والسلام.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
28/11/1927
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
المخلص
…
...
…
...
…
...
…
...
…
أحمد محمد شهاب
…
...
…
...
…
رئيس نقطة الحبابية مركز منوف منوفية
(المنار)
نحيي السائل بخير من تحيته، من السلام ورحمة الله وبركاته ونعمته،
ونسأله تعالى أن يجعلنا أهلاً لحسن ظنه وإخلاص نيته، ونخبره بأن أسئلته المهمة
قد سبق لنا تحقيقها في المنار؛ لذلك نجيب عنها بالاختصار، فنقول:
(أجوبة المنار بالترتيب)
1-
أحاديث الصحيحين التي ظهر غلط الرواة فيها
لم أقف على إحصاء لأحاديث الصحيحين التي اتضح لعلماء الحديث أن
الرواة غلطوا فيها، وعلماء الحديث قلما يعنون بغلط المتون فيما يخص معانيها
وأحكامها الذي هو مراد السائل، وإنما كانت عنايتهم التامة بالأسانيد وسياق المتون
وعباراتها والاختلاف والاتفاق فيها والمرفوع والموقف منها، وما عساه أن يكون
مدرجًا
فيها من كلام بعض الرواة ليس من النص المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ،
وإنما يظهر معاني غلط المتون للعلماء الباحثين في شروحها وما فيها من أصول
الدين وفروعه وغير ذلك، ولو لم يكونوا من المحدّثين في الاصطلاح على أنهم
يرجعون في ذلك إلى أصول المحدثين؛ كقولهم: إن صحة السند لا تقتضي صحة
المتن في الواقع ونفس الأمر حتمًا، وعدم صحة السند لا تقتضي وضعه في الواقع
ونفس الأمر حتمًا، وقولهم: إن من علامات وضع الحديث - وإن صح سنده - أن
يكون مخالفًا لنص القرآن القطعي، وفي معناه كل قطعي شرعي كبعض أصول
العقائد أو الأعمال المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة، بحيث يتعذر الجمع
بينهما، ولهذا جزموا بغلط حديث أبي هريرة عند مسلم في خلق السموات والأرض
في سبعة أيام الذي أوله: (خلق الله التربة يوم السبت) ؛ لأنه مخالف لآيات
القرآن الصريحة في خلق السموات والأرض وما فيها في ستة أيام، بل حكموا
بغلط حديث شُريك بن أبي نمر في الإسراء والمعراج من أحاديث الصحيحين في السند
والمتن وهو الحديث الذي فيه أن الإسراء والمعراج كانا في رؤيا منامية، وذكروا له
عللاً أشار إليها مسلم مقرونة بسياقه على أن بعض العلماء والحفاظ انتصروا له فيه.
وإذا كانت مخالفة القطعي سببًا للحكم؛ إما بعدم صحة الحديث لعدم الثقة
برواته، وإما لغلطهم في سياق متنه. فمن الضروري أن تختلف الأفهام في ذلك
باختلاف مدارك أصحابها ومعارفهم، فالذين لا يعلمون أن الشمس لا تغيب عن
الأرض ولا تحتجب عن جميع سكانها من البشر ساعة ولا دقيقة، لا يرون شيئًا من
الإشكال في حديث أبي ذر في بيان أين تكون بعد غروبها؛ لأنهم يظنون أن
غروبها عنهم غروب عن جميع العالم.
ولكن حفاظ الحديث ورجال الجرح والتعديل، قد انتقدوا بعض أحاديث
الصحيحين، وجرحوا بعض رجالهما بحسب أفهامهم ودرجات معرفتهم، وجاء
آخرون فانتصروا للشيخين في أكثر ما انتقد عليهما، وأشهر هؤلاء المنتقدين
وأوسعهم تتبعًا وإحصاء الحافظ أبو الحسن الدارقطني صاحب السنن المشهورة،
وإذا أردت معرفة ذلك مع ما فيه وما يرد عليه، فراجع الفصلين الثامن والتاسع من
مقدمة الحافظ ابن حجر لشرح البخاري. فأما الأحاديث المنتقدة في البخاري فهي
110 أحاديث، منها ما انفرد به ومنها ما أخرجه مسلم أيضًا - وما انتقدوا من إفراد
مسلم أكثر من إفراد البخاري - وإذا قرأت ما قاله الحافظ فيها، رأيتها كلها في
صناعة الفن التي أشرنا إلى المهم منها عندهم. ولكنك إذا قرأت الشرح نفسه (فتح
الباري) رأيت له في أحاديث كثيرة إشكالات في معانيها أو تعارضها مع غيرها،
مع محاولة الجمع بين المختلفات وحل المشكلات بما يرضيك بعضه دون بعض،
فهذا النوع ينبغي جمعه وتحقيق الحق فيه بقدر الإمكان، كما حاول الطحاوي في
كتابه مشكل الآثار، وترى نموذجًا منه في كلامنا على أشراط الساعة ومشكلاتها في
الروايات الصحيحة وغيرها، على أن من أطال البحث فيه وفيما قبله يدهش لدقة
الشيخين ولا سيما البخاري في انتقاء أحاديث الصحيحين وتحريهما فيها.
وأما موضوع الفصل التاسع؛ وهو تضعيف كثير من رجال الجامع الصحيح
فقد سردها فيه الحافظ سردًا وأحصاها عدًا، وترى أن الطعن في أكثرهم مبني على
الاختلاف في أسباب الطعن والجرح، فيبني هذا جرحه على ما يخالف اصطلاح
الآخر، وترى أن المطعون فيهم قلما يخرج لهم حديث في الجامع الصحيح إلا في
المتابعات؛ للتقوية لا لأصل الاستدلال به، فإن جعله أصلاً كان له من الشواهد
والمتابعات ما يقويه، مثال ذلك حديث كثير بن شِنظير (بكسر الشين) البصري
عن عطاء: في الأمر بتغطية الأواني في الليل وربط الأسقية وإقفال الأبواب ومنع
الصغار من الخروج مساء خشية الجن أو الشياطين، كثير هذا قال فيها ابن معين
ليس بشيء، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال الساجي: صدوق فيه بعض الضعف
ولكن احتج به الجمهور، وقال البخاري عقب تخريج حديثه من كتاب بدء الخلق:
قال ابن جريج وحبيب عن عطاء (فإن للشياطين يعني أن ابن جريج وحبيبًا المعلم
رويا هذا الحيث أيضًا إلا أنهما قالا: (فإن للشياطين انتشارًا وخطفة) بدل قول
كثير بن شنظير (فإن للجن) إلخ، أقول: ويختلف في غير هذه الكلمة أيضًا، ولم
يذكر البخاري المتابعة إلا لعلمه بأن كثير هذا قد قيل فيه ما قيل، وهو لم يخرج له
غيره إلا حديثًا آخر في السلام على المصلي، له متابع عند مسلم.
فأنت ترى أن هذا من دقائق التحري في الروايات، وإنما اخترت التمثيل
بحديث كثير هذا على كثرة نظائره؛ للإشارة إلى شيء يتعلق بالمتن لم يكن مما
يلتفتون إليه ويبحثون فيه، وهو ما فيه من الخبر عن انتشار الجن والشياطين في
أول الليل والخوف على الأولاد منهم، في هذا من الإشكال أن أكثر أهل الأرض لا
يمنعون أولادهم من الخروج في هذا الوقت، وتمر الأعصار ولا يعرف أحد أن
الشياطين فعلت بأحد منهم شيئًا - هذا إشكال يخطر في بال كل متعلم في الأمصار
التي انتشرت فيها العلوم والفنون التي يسمونها العصرية، وكل متعلم على طريقتهم
في القرى والمزارع، فيقولون: إنه مخالف للواقع في تعليل منع الصغار من
الخروج في المساء أي في أول الليل، وقد يزيد على هذا بعض المشتغلين بالعلوم
الدينية؛ أن هذا خبر عن أمر يتعلق بعالم الغيب، فلا يقبل فيه انفراد راوٍ واحد فيه
من هذه الطرق الثلاث التي لا تخلو واحدة منها من علة، فكثير ضعفه بعضهم،
وكذلك حبيب المعلم قال فيه النسائي: إنه ليس بالقوي، وقال أحمد: ما احتج
بحديثه، وفي رواية عنه وعن ابن معين ثقة. وأما ابن جريج فهو على فضله وسعة
علمه وكثرة روايته مدلس، روى عن كثيرين لم يسمع منهم، وكان يدلس على
المجروحين كما قاله الحافظ الدارقطني، والذي عليه أئمة هذا الشأن أنه إذا قال
حدثني فهو ثقة وإلا فلا. قال يحيى بن سعيد: كان ابن جريح صدوقًا، فإذا قال
حدثني فهو سماع، وإذا قال أخبرني فهو قراءة، وإذا قال (قال) فهو شبه الريح
(لا قيمة له)، وقال الأثرم: قال أحمد: إذا قال ابن جريح: (قال) و (أخبرت)
جاء بمناكير، وإذا قال أخبرني وسمعت فحسبك به، واختلفوا في روايته عن عطاء،
قال علي بن المديني (من كبار شيوخ البخاري ورجال الجرح والتعديل) في كتابه
سألت يحيى بن سعيد عن حديث ابن جريج عن عطاء الخراساني، فقال: ضعيف.
قلت: إنه يقول أخبرني، قال: لا شيء كله ضعيف إنما هو كتاب دفعه إليه. أقول:
فعلى هذا لا ينفعنا في تصحيح هذا الحديث قوله أخبرني كما رواه البخاري عنه،
ولولا مسألة الشياطين لم يكن في متن الحديث إشكال؛ فإن الأوامر فيه كلها نافعة لا
تتعلق بحفظ الطعام والشراب مما يدخل فيها من الحشرات الضارة، وكذلك إغلاق
الباب عند النوم وإطفاء السراج، على أنه يمكن أن يراد بالشياطين فيه شياطين الإنس
الذين يؤذون الأطفال، وفي مصر خطفة منهم يأخذونهم فيستخدمونهم لأنفسهم أو
لغيرهم، ويكرهون البنات على البغاء عند استعداد سنهن لذلك أو قبله، فيزول إشكال
المتن فيه.
***
2-
الجواب عن حديث أبي هريرة وتحديثه
أقول: إن أبا هريرة رضي الله عنه كان من أحفظ الصحابة، وهو
صادق في تحديثه. ولكن إسلامه كان في سنة سبع من الهجرة، فصحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين ونيفًا، فأكثر أحاديثه لم يسمعها من النبي صلى الله
عليه وسلم وإنما سمعها من الصحابة والتابعين، فإن كان جميع الصحابة عدولاً في
الرواية كما يقول جمهور المحدثين، فالتابعون ليسوا كذلك، وقد ثبت أنه كان
يسمع من كعب الأحبار، وأكثر أحاديثه عنعنة. على أنه صرح بالسماع من النبي
صلى الله عليه وسلم في حديث (خلق الله التربة يوم السبت) .. إلخ، وقد جزموا بأن هذا الحديث غلط من أصله، وفي تفسير الحافظ ابن كثير أن أبا هريرة أخذه
عن كعب الأحبار.
وأما نهي عمر له عن التحديث؛ فلأن عمر رضي الله عنه كان يرى
التشديد في رواية الحديث وكتابته، وهذه مسألة كبيرة سبق للمنار سبْح طويل فيها.
وقد كتب بعض المبشرين بالنصرانية مقالاً طويلاً بالطعن في حديثه، وجاءوا
بشبهات على ذلك من بعض الكتب؛ وغرضهم من الطعن فيه الطعن في رواية السنة
وصحتها، وقد فندنا كلامهم في مقال مفصل نشرناه في الجزئين الأول والثاني من
مجلد المنار التاسع عشر فليراجعه السائل، فما نظن أنه يبقى مقالاً لقائل، وهو
يتضمن التفصيل في الرد على الدكتور محمد توفيق صدقي رحمه الله الذي
أجملناه في المجلد الثامن عشر.
***
3-
حكم كلام الرسل عليهم السلام في الأمور الدنيوية
إن ما يرد في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي
والآراء الدنيوية المحضة يسميه علماء الأصول إرشادًا، كما قالوا في حديث جابر
الذي تكلمنا عليه في الجواب عن السؤال الأول وهذا لفظه (خمّروا الآنية وأوكئوا
الأسقية وأجيفوا الأبواب، وأكفتوا صبيانكم عند المساء فإن للجن انتشارًا وخطفة،
وأطفئوا المصابيح عند الرقاد فإن الفويسقة (أي: الفأرة) ربما اجترت الفتيلة
فأحرقت أهل البيت) ومثله (كلوا الزيت وادّهنوا به فإنه طيب مبارك) رواه
الحاكم وابن ماجه من حديث أبي هريرة بسند صحيح، وفي الأمر به روايات
أخرى ضعيفة، ومثله (كلوا البلح بالتمر) .. إلخ رواه النسائي وابن ماجه والحاكم
من حديث عائشة بسند صحيح، وكذا رأيه صلى الله عليه وسلم في تلقيح النخل
وسيذكر والعمل بأمر الإرشاد لا يسمى واجبًا ولا مندوبًا؛ لأنه لا يقصد به القربة
فليس فيه معنى التعبد، قال القرطبي: جميع أوامر هذا الباب من باب الإرشاد
إلى المصلحة، ويحتمل أن تكون للندب ولا سيما في حق من يفعل ذلك بنية
امتثال الأمر ، اهـ. من الفتح وهو مأخوذ من قول بعض العلماء قبله: إن كل مباح
يفعل في الإسلام بنية القربة يصير عبادة يثاب عليها.
أقول: ولكنه لا يسمى سنة ولا مندوبًا بذاته؛ فإن القربة هنا هي النية.
***
4-
الضابط القطعي بين ما قاله الرسول رأيًا وإرشادًا وما قاله تشريعًا
ظاهر حديث رافع بن خديج في صحيح مسلم (إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء
من أمر دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر) وحديث
عائشة وأنس عن مسلم أيضًا من تعليله صلى الله عليه وسلم تلك المسألة: مسألة
تلقيح النخل بقوله صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بأمر دنياكم) ظاهره أن جميع
أمور الدنيا متروكة إلى الناس، يتصرفون فيها باجتهادهم لا يتعلق بها تشريع، ذلك
بأنه صلى الله عليه وسلم لما جاء المدينة ورآهم يؤبرون النخل ارتأى أنه ليس
له تأثير، وسمع بعضهم منه ما يدل على ذلك، فترك تأبير نخله فلم يثمر التمر
الجيد المعتاد بل خرج شيصًا رديئًا، فذكروا له ذلك فقاله كما سبق لنا بيانه، وذكر
لهم أنه قال: ظن أي لا عن وحي، وأنهم أعلم بدنياهم.
وليس هذا على إطلاقه؛ فإن من أمور الدنيا ما فعْلُه أو تركه ضار قطعًا
بشخص العامل أو بالناس، فيتعلق به تشريع التحريم، وما كان مظنة النفع
والضرر فيتعلق به تشريع الندب والكراهة، وكل ما يفعل بنية القربة ورجاء
الثواب من الله تعالى فهو عباده إذا كان مشروعًا، وبدعة إذا لم يكن مشروعًا، وكل
ما رتب على فعله ثواب أو عقاب فهو ما يتعلق به التشريع، والضابط العام أن
التشريع ما ثبت بنص يدل على طلب الشارع لفعل شيء على سبيل القطع وهو
الوجوب، أو غير القطع وهو الندب، أو طلبه لترك شيء بالنهي عنه أو الوعيد
عليه على سبيل القطع وهو المحرم، أو غير القطع وهو المكروه أو بالإباحة
الرافعة للحظر. فأفعال الرسل الدنيوية العادية تدل على أن ما يفعلونه مباح لا
حظر فيه على الناس، ولا وجوب ولا ندب إلا بدليل خاص يدل على ذلك.
فالتشريع لهم ولغيرهم عام إلا إذا قام الدليل على التفرقة بين الرسول وأمته؛
كالخصائص المختصة بنبينا صلى الله عليه وسلم دون الأمة وهي معروفة.
وقد بينت كتب أصول الفقه هذه المسألة في شرح الأحكام الخمسة. ولكنني لم
أر لأحد ضابطًا عامًا لا يمكن فيه القيل والقال، فهنالك الأصل الذي تشير إليه
أحاديث تأبير النخل، فلفظ (أمور دنياكم) عام تدخل فيه جميع أمور الزراعة
والصناعة، وكل ما يصل إليه البشر باختيارهم وبحثهم، ولا يحتاجون فيه إلى
وحي إلهي، وتدخل فيه أمور الطعام والشراب واللباس إلا ما استثنى نص القرآن
من تحريم الميتة والدم المسفوح؛ وما أهل به لغير الله وشرب الخمر، أو نص
الحديث كلبس الحرير (الخالص أو الغالب) للرجال، والأكل والشرب في أواني
الذهب والفضة؛ لما في ذلك من الإسراف والنهي عنه في القرآن، فهذه أمثال لما
استثني بعينه. وآيات حظر التحريم بغير وحي من الله تعالى وتسميته افتراء على
الله؛ كقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً
وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (يونس: 59)،وقوله: {قُلْ مَنْ
حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف: 32)
وغيرهما.
وفوق هذا أصل الإباحة بنص قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (البقرة: 29) ولكن لا يدخل في عموم الحديث والآيات إباحة ما فيه ضرر ولا
ما يتعلق به حقوق الناس، أو يقال: إنه من المستثنى بنصوص وقواعد أخرى؛
لأن التنازع في الحقوق والمصالح وإن كان مما يدخل في استطاعة البشر الاهتداء
إلى الأحكام الفاصلة فيه، يحتاج في قواعده إلى تشريع إلهي تخضع له النفوس
باطنًا بوازع الدين والعقيدة؛ كما تخضع له ظاهرًا بوازع السلطان والقوة.
وهنالك أمور مشتبهات لها جهات مختلفة؛ كإطلاق اللحية وقص الشارب أو
إعفائه وفرق الشعر وخضب الشيب. هذه أمور صح أمر النبي (صلى الله عليه
وسلم) بها، وهي من أمور العادات والزينة المباحة في الأصل، ولكن علل بعضها
بمخالفة أهل الملل الأخرى؛ ليكون المسلمون أمة مستقلة في جميع مشخصاتها
ممتازة عن غيرها، يقتدى بها ولا يقتدى بغيرها فهذه الأمور الدنيوية العادية، قد
نظر فيها إلى مصلحة اجتماعية للأمة. ولما لم تكن من الأمور التعبدية التي يقصد
الامتثال فيها لذاته، يصح أن يقال فيها: إنها تتبع علتها وجودًا وعدمًا، وقد ترك
المسلمون فرق الشعر خلافًا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله، وصار من
يفرق شعره يعد متشبهًا بغير المسلمين من الإفرنج وغيرهم، والنبي صلى الله عليه
وسلم كان يسدل شعره أولاً، فلما رأى أهل الكتاب بعد الهجرة يسدلون شعورهم
صار يفرقه مخالفة لهم، وقد اختلفت الحال اليوم، وقد سبق لنا بيان لها في مواضع
من التفسير والمنار، منها المطول والمختصر، وآخر المختصر ما ذكرناه في
تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا
يُحْيِيكُمْ} (الأنفال: 24) هو في الجزء العاشر من المنار م 28 الذي صدر في
شعبان بتاريخ 30 رجب الماضي، أعني الذي صدر قبل هذا الجزء.
***
5-
جواز خطأ الأنبياء في آرائهم ودليله وحكمه وحصره
قال الله تعالى لخاتم رسله: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} (الكهف:
110) الآية، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من أمر
دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر) رواه مسلم والنسائي
من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه، وقال أيضًا: (إنما أنا بشر مثلكم
وإن الظن يخطئ ويصيب، ولكن ما قلت لكم قال الله فلن أكذب على الله) رواه
الإمام أحمد وابن ماجه من حديث طلحة رضي الله عنه بسند صحيح، وقال أيضًا:
(إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض،
فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو يتركها) رواه
الجماعة من حديث أم سلمة رضي الله عنها، والجماعة هنا الإمامان مالك وأحمد
والشيخان البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة، وموضوع الحديث الخطأ
في الحكم؛ بسبب خلابة المخطئ من الخصمين وقوة حجته.
ومن أصول العقائد الإسلامية المأخوذة من هذه النصوص وأمثالها؛ أن الرسل
عليهم السلام بشر، يجوز عليهم كل ما يجوز على البشر من الأمور البشرية التي
لا تخل بمنصبهم من الصدق والأمانة في تبليغ الرسالة، والعصمة عن مخالفة ما
جاءوا به من أمر الدين.. إلخ، وقد اتفق المسلمون على جواز وقوع الخطأ من
الرسل عليهم السلام في الرأي والاجتهاد. ولكن الله تعالى لا يقرهم على خطأ يتعلق
بالتشريع كمصالح الأمة، بل يبينه لهم كما حصل في اجتهاد نبينا صلى الله عليه
وسلم في مسألة الأسرى ببدر مع المشاورة، إذ رجح رأي الصديق في أخذ الفداء
منهم، فأنزل الله تعالى:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} (الأنفال: 67) الآية، وفي اجتهاده صلى الله عليه وسلم في الإذن لبعض
المنافقين بالتخلف عن غزوة تبوك، فأنزل الله تعالى عليه {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ
لَهُمْ} (التوبة: 43) ، وفي اجتهاده صلوات الله وسلامه عليه قبل ذلك في
الإعراض عن عبد الله بن أم مكتوم الأعمى الفقير عندما جاءه؛ وهو يكلم كبراء
قريش راجيا هدايتهم؛ لئلا ينفروا منه لكبريائهم، فأنزل الله عليه {عَبَسَ وَتَوَلَّى *
أَن جَاءَهُ الأَعْمَى} (عبس: 1-2) إلى قوله: {كَلَاّ} (عبس: 11) ردعًا
عن مثل هذه السياسة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يرجع عن رأيه لرأي أي من
أصحابه كما فعل عند ما اختار النزول في مكان يوم بدر، فأشاروا عليه بما هو
خير منها، وأولى من ذلك رجوعه إلى رأي الأكثرين بعد المشاورة كما فعل يوم
أحد، ولكني لم أقف لأحد من العلماء على إحصاء لحصر هذه المسائل في موضع
واحد يُرجع إليه، وهذا أشهر ما ورد في هذا الباب، وهو الذي يتبادر إلى الذهن
وقت الكتابة من غير مراجعة كتاب.
***
6-
7 - الجمع بين حديثي الذباب والفأرة
وهل الأول رأي أو تشريع؟
الفقهاء يفرقون بين الحديثين؛ بأن الفأرة مما له دم سائل، فلا يعفى عن
تنجيسه لما ينجسه إذا كان ميتًا والذبابة ليست كذلك، فيعفى عن تنجيسها لما تقع
فيه أو يقال: إنها لا تنجسه. وأما الحكم الطبي فيهما فواحد فكلاهما ضار في
الطعام والشراب باتفاق الأطباء، فإن كان ضرر الذبابة الواحدة لا يبلغ ضرر الفأرة
الواحدة، فللكبر والصغر دخل في ذلك، ويجوز أن يكون مقدار ثقل الفأرة من
الذباب أضر منها، والمعول في مثل هذا على خبرة الأطباء.
وحديث الذباب المذكور غريب عن الرأي وعن التشريع جميعًا، أما التشريع
في مثل هذا فإن تعلق بالنفع والضرر فمن قواعد الشرع العامة أن كل ضار قطعًا
فهو محرم قطعًا، وكل ضار ظنًا فهو مكروه كراهة تحريمية أو تنزيهية على الأقل
إن كان الظن ضعيفًا، فغمس الذباب في المائع الذي يقع فيه لا يتفق مع قاعدة
تحريم الضار، ولا مع قاعدة اجتناب النجاسة. وأما الرأي فلا يمكن أن يصل إلى
التفرقة بين جناحي الذبابة في أن أحدهما سام ضار والآخر ترياق واق من ذلك السم
فإن صح الحديث بلفظه، ولم يكن فيه غلط من الرواة، ولم يكن معناه معروفًا
مسلمًا في ذلك الزمان، فالمعقول فيه أن يكون عن وحي من الله تعالى، وحينئذ
يمكن أن يعرف ببحث الأطباء المبني على القواعد الحديثة؛ كالتحليل الكيميائي
والفحص الميكروسكوبي، بأن يجمع كثير من أجنحة الذباب اليمنى واليسرى كل
على حدته، وينظر في أكبر منظار مكبر، ثم يحلل فينظر هل يختلف تركيبه ثم
تأثيره في بعض الأحياء كشأنهم في هذه النظائر، فإن ثبت بالتجربة القطعية أن
الجناحين سواء في الضرر كما هو الغالب في النظر، ثبتت معارضة الواقع
القطعي لمتنه وهو ظني؛ لأنه خبر واحد، فيحكم بعدم صحته إن لم يكن تأويله كما
هو الظاهر، ولا خلاف في ترجيح القطعي على الظني من منقول ومعقول
ومختلف، كما بينه شيخ الإسلام في كتاب النقل والعقل.
هذا، وإننا لم نر أحدًا من المسلمين، ولم نقرأ عن أحد منهم العمل بهذا
الحديث، فالظاهر أنهم عدوه مما لا دخل له في التشريع كغيره من الأحاديث
المتعلقة بالمعالجات الطبية والأدوية، وقد تكلم علماؤنا في معناه، وذكروا اعتراضًا
عليه لبعض الناس جهلوه به، وهو قوله كيف يجمع جناحاه بين الداء والشفاء؟
وردوا عليه بأن كثيرًا من المخلوقات تجتمع فيها المتضادات؛ كالحية فيها السم
ولحمها يجعل في الترياق منه، والنحلة يخرج من فمها العسل النافع ومن أسفلها
القذر الضار. ونقلوا عن بعض الأطباء أن في الذبابة سمًا، فإذا وقعت في طعام أو
شراب أو غيرهما تلقى بسمها على ما تخشى أن يضرها: أي كما تفعل كل
الحشرات السامة، وذكروا أن من المجربات شفاء لسعة الزنبور بدلكها بالذباب أو
بالزنبور نفسه. وفي الطب الحديث أن نَسَم الجِنَّةِ الخفية التي يسمونها الميكروبات
منها الضار والنافع، وإنهما يتدافعان ويتقاتلان في دم الإنسان حتى يغلب أحدهما
الآخر، فعلى هذا لا يمكن القطع بأن متن الحديث مخالف للواقع ونفس الأمر، وأن
كل ذباب يغمس في الطعام أو الشراب فهو ضار إلا بتجارب خاصة بهذا الأمر.
هذا، وإن إخراج البخاري لهذا الحديث في جامعه لا يعصمه من التماس علة
في رجاله تمس مناعة صحته، فإن مداره عنده على عبيد بن حنين مولى بني
زريق، انفرد به وليس له غيره، فهو ليس من أئمة الرواة المشهورين الذين تخضع
الرقاب لعدالتهم وعلمهم وضبطهم كمالك عن نافع عن ابن عمر مثلاً، ومن الغريب
أنه لم يذكر في تهذيب التهذيب أن له رواية عن أبي هريرة، فإن كان بينهما
واسطة يكون منقطعًا. ولكن لم يذكر الحافظ ذلك على تحريه لمثل هذه العلل. وفيه
أن أبا حاتم قال فيه: كان صالح الحديث، وهي من أدنى مراتب التوثيق، حتى قدم
الحافظ الذهبي وغيره عليها كلمة (لا بأس به) فإذا غلب على قلب مسلم أن رواية
ابن حنين هذا غير صحيحة وارتاب بغرابة موضوع حديث الذباب لا يكون قد ضيع
من دينه شيئًا، ولا يقتضي ارتيابه هذا أو جزمه بعدم صدق ابن حنين فيه الطعن في
البخاري؛ لأنه قبل روايته لأنه لم يعلم جارحًا يجرحه فيه إلا هذا الشذوذ الذي يجبره
حديث أبي سعيد عند النسائي وابن ماجه بمعناه وإن كان على غير شرط البخاري في
الصحيح. ولكن يرد على المرتاب تصحيح لابن حبان لحديث أبي سعيد، وقد يقول:
إذا وجدت علة في رواية البخاري تمنعني من القول بصحة الحديث مع كونه أشد
الحفاظ تحريًا فيما يخرجه في صحيحه مسندًا، فهل يمنعني منه تصحيح ابن حبان
المعروف بالتساهل في التصحيح؟ وكل من ظهر له علة في رواية حديث، فلم يصدق
رفعه لأجلها فهو معذور شرعًا، ولا يصح أن يقال في حقه: إنه مكذب لحديث كذا،
كما أن من اعتقد أن حديث كذا صحيح، وكذبه يصدق عليه أنه مكذب، ويترتب عليه
حكم التكذيب.
(تنبيه) إن ابن حنين رواي حديث الذباب من مسلمة الأعاجم، والظاهر
أنه من النصارى. وراوي حديث الشياطين المتقدم وهو ابن شنظير منهم أيضًا،
وكل منهما غير مشهور بالعلم والرواية، فالظاهر أن البخاري اكتفى بعدم الطعن
فيهما.
***
8-
9 - تكفير محمد توفيق صدقي لعدم تسليمه حديث الذباب
إن الذي كفّر الدكتور محمد توفيق صدقي رحمه الله تعالى؛ لاعتقاده أن
حديث الذباب مخالف للواقع لا يصح رفعه إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه
وسلم جاهلٌ كما عُلم من الجواب الذي قبل هذا، وقد يصدق عليه حديث (إذا قال
الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما) رواه البخاري من حديث أبي هريرة وابن
عمر مرفوعًا، وله روايات أخرى عند غيره أيضًا، وأنا وإن لم أعرفه ولا رأيت
تكفيره، أتمنى لو يكون مثل المرحوم الدكتور محمد توفيق صدقي فيما اختبرت من
قوة إيمانه وقدرته على إقامة البراهين العلمية على عقائد الإسلام كلها، وفي قدرته
على رد الشبهات عنها، وفي غيرته على الإسلام التي حملته على درس الكتب
الكثيرة؛ لأجل الدعوة إليه والدفاع عنه جدلاً باللسان وتأليفًا للكتب، وإنني أعلم علم
اختبار واسع دقيق لا علم غيب أن هذا الرجل كان من أقوى المسلمين دينًا في
اعتقاده وفي عبادته واجتنابه لما حرم الله تعالى. فإذا كان مثل هذا الرجل يعد كافرًا؛
لأنه لم يصدق رفع حديث كحديث الذباب ليس من أصول الإسلام ولا من فروعه،
وهو يجل الرسول صلى الله عليه وسلم عن قول مثله، فأين نجد المسلمين
الصادقين؟ !
هذا، وإنني أعلم بالاختبار أيضًا أن ذلك المسلم الغيور لم يطعن في صحة
هذا الحديث كتابة؛ إلا لعلمه بأن تصحيحه من المطاعن التي تنفر الناس عن
الإسلام، وتكون سببًا لردة بعض ضعفاء الإيمان وقليلي العلم الذين لا يجدون
مخرجًا من مثل هذا المطعن إلا بأن فيه علة في المتن تمنع صحته، وكان هو يعتقد
هذا. وما كلف الله مسلمًا أن يقرأ صحيح البخاري ويؤمن بكل ما فيه وإن لم يصح
عنده أو اعتقد أنه ينافي أصول الإسلام.
سبحان الله! أيقول ملايين المسلمين من الحنفية أن رفع اليدين عند الركوع
والقيام منه مكروه شرعًا، وقد رواه البخاري في صحيحه وغير صحيحه عن
عشرات من الصحابة بأسانيد كثيرة جدًّا، ولا إثم عليهم ولا حرج لأن إمامهم لم
يصح عنده؛ لأنه لم يطلع على أسانيد البخاري فيه، وكل من اطلع من علماء مذهبه
عليها يوقن بصحتها؛ ثم يكفر مسلم من خيار المسلمين علمًا وعملاً ودفاعًا عن
الإسلام ودعوة إليه؛ بدليل أو شبهة على صحة حديث رواه البخاري عن رجل يكاد
يكون مجهولاً، واسمه يدل على أنه لم يكن أصيلاً في الإسلام وهو عبد بن حنين،
وموضوع متنه ليس من عقائد الإسلام ولا من عباداته ولا من شرائعه ولا التزم
المسلمون العمل به، بل ما من مذهب من المذاهب المقلدة إلا وأهله يتركون العمل
ببعض ما صح عند البخاري وعند مسلم أيضًا من أحاديث التشريع المروية عن
كبار أئمة الرواة؛ لعلل اجتهادية أو لمحض التقليد، وقد أورد المحقق ابن القيم أكثر
من مائة شاهد على ذلك في كتابه إعلام الموقعين، وهذا المكفر للدكتور منهم،
فنسأله بالله تعالى أن يصدقنا: هل قرأ صحيح البخاري كله واعتقد كل ما فيه
والتزم العمل بكل ما صححه؟ ثم إن كان يدعي هذا فنحن مستعدون لدحض دعواه
مع هذا كله نقول بحق: إن صحيح البخاري أصح كتاب بعد كتاب الله. ولكنه
ليس معصومًا هو ورواته من الخطأ، وليس كل مرتاب في شيء من روايته كافرًا!
ما أسهل التكفير على مقلدة ظواهر أقوال المتأخرين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
_________
الكاتب: أحمد إبراهيم إبراهيم
تفسير القرآن الحكيم
رأي الأستاذ العلامة الفقيه - مدرس الشريعة الإسلامية
في كلية الحقوق بالجامعة المصرية - فيه وفي مجلة المنار
إلى الأستاذ المصلح الكبير السيد محمد رشيد رضا
تعلم أيها الصديق الحميم إعجابي بك وشغفي بما تخطه يمينك من مقالات
الإصلاح؛ لا لأنك صديقي (وعين الرضا عن كل عيب كليلة) بل لأنك تكتب
وتقول عن علم صحيح، وتفكير صائب، وقلب فاهم، ونفس تريد الخير للمسلمين
في كل ما يصدر عنها، فلا عجب إذا كنت أدعو كل من آنسُ فيه الاستعداد للخير
أن يقرأ المنار فينتفع منه على قدر استعداده، فقد تناولتَ فيه من وجوه الإصلاح
الإسلامية - بفضل الله ونعمته - ما لم يتيسر في جملته لغيرك، وقد زدته حسنا
على حسن بما ضمنته من جواهر الكلام، لشيخنا الأستاذ الإمام، عليه من الله الرحمة
والرضوان، فنظمت فيه من اللآلئ ما كان ينثره رضي الله عنه في دروس التفسير
التي يلقيها على الجماهير في الأزهر المعمور، وضممتَ إليها ما شاء الله أن يفتح به
عليه من نفيس الفرائد، ثم انفردت به بعد أن استأثرتْ بالشيخ رحمة ربه فكنته فيما
استقللت به، ولا غَرْو (فإن العصا من العصية) .
ثم جردتَ تفسير المنار وطبعته على حدة جزءًا جزءًا مبتدئًا بالجزء الثاني،
وأخيرًا طعبت الجزء الأول كذلك بعد أن أنشأته خلقًا جديدًا، وقد أسعدني الحظ
بتصفحه وقراءة أدق مباحثه بعد قراءة مقدمتيه - فاتحتكم والمقدمة المقتبسة من
دروس الأستاذ الإمام - فرأيت نور الهداية الربانية قد فاض عليه وغمره من أوله
إلى آخره، وقد استوقفني في فاتحتكم عدة مواضع كان يتوارد على خاطري في كل
موضع منها بحكم تداعي المعاني الشيء الكثير.
من ذلك ما جاء من جعل مقلدة المذاهب - أصولاً وفروعًا - مذاهبهم أصلاً،
والقرآن فرعًا لها فعكسوا القضية، حتى لقد غلا بعضهم غلوًّا فاحشًا نعوذ بالله منه إذ
يقول: إذا خالف النص من كتاب أو سنة قول أصحابنا فإن النص يحال على النسخ أو
التأويل. وأذكر أني تناولت مرة بعض التفاسير المطولة [1] لأراجع فيه تفسير آية من
آيات الأحكام، فكنت في أثناء قراءتي أجدني قد قرأت مثل هذا الكلام في بعض الكتب
الفقهية فما انتهيت إلى آخره، حتى وجدته يقول كذا في فتح القدير، فأطبقت الكتاب
وعقدت النية على أن لا أعود إلى قراءة شيء فيه بعد ذلك؛ لأني إنما تناولته لأقرأ في
كتاب تفسير لا في كتاب الفتاوى الهندية.
ومن ذلك ما أوردتموه من الملاحظات الجيدة على التفسير بالمأثور، وأنه لا
يؤخذ بكل ما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم من ذلك لما ثبت أن بعضهم روى
عن أهل الكتاب كأبي هريرة وابن عباس، فالحق هو ما قلتم أن كل ما لا يعلم إلا
بالنقل عن المعصوم من أخبار الغيب الماضي أو المستقبل وأمثاله لا يقبل فيّ إثباته
إلا الحديث الصحيح المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهذه قاعدة الإمام ابن
جرير التي يصرح بها كثيرًا، فبهذا الطريق نسلم مما لا يحصى كثرة من الأكاذيب
والخرافات المخجلة، وتطهر منها كتب تفسير كلام الله.
ومن ذلك ما حكيتموه عن الأستاذ الإمام من قوله: (إن بعض الناس يوجد
فيهم خاصية أنهم يقدرون على الكلام في أي موضوع أمام أي إنسان؛ سواء أكان
يدرك الكلام ويقبله أم لا، وهذه خاصية كانت موجودة عند السيد جمال الدين يلقي
الحكمة لمريدها وغير مريدها. وأنا كنت أحسده على هذا؛ لأنني تؤثر في حالة
المجالس والوقت، فلا تتوجه نفسي للكلام إلا إذا رأيت له محلاً وهكذا الكتابة،
فإنني أتصور أن أكتب في موضوع، وعندما أوجه قواي لجمع ما تحسن كتابته،
تتوارد على فكري معان كثيرة ووجوه للكلام جمة ثم يأتيني خاطر: لمن ألقي هذا
الكلام ومن ينتفع به؟ فأتوقف عن الكتابة وأرى تلك المعاني التي اجتمعت عندي قد
امتص بعضها بعضًا، حتى تلاشت ولا أكتب شيئًا) فأذكرني هذا ما صنعه أبو
حيان التوحيدي بكتبه إذ أحرقها ضنًا بها على الناس بعد أن بذل ما في وسعه في
تحريرها، وكتب في ذلك خطابه المؤثر لبعض أصدقائه، فهذه ثلاث مراتب مرتبة
من يلقى الحكمة على أيٍّ كان غير ناظرِ إلى من تُلقى عليه، فلعلها إن أخطأت مرة
أصابت مرة، وهذه هي مرتبة السيد رحمه الله، وهي مرتبة حب الخير المطلق
والإخلاص والغيرة على الإصلاح والطمع في هداية الناس أجمعين، فكان لا جرم
أن غبط الأستاذ الإمام السيد عليها قدس الله سرهما.
ومرتبة الحكيم الحذر الذي يتحين الفرص، فلا يلقي الحكمة إلا على من هو
مستعد لقبولها والانتفاع بها، وهذه هي مرتبة الأستاذ الإمام كما حدّث عن نفسه،
لكنه بعد ذلك ما كان يضن بدرره الغوالي كما شاهدنا ذلك منه في دروس التفسير
وفي غيرها، بل كان يصرح كثيرًا بمخالفة ما ألِفه العامة بمنتهى الشجاعة والإقدام
مؤيدًا ما يقوله بالبراهين الناصعة، والحجج الدامغة، والجمهور يستمع لما يقول.
ومرتبة الضنين على الناس بما يراه صالحًا لهم، فكأنهم وتروه فثأر لنفسه
منهم، وهذه مرتبة أبي حيان.
فصاحب المرتبة الأولى ينظر إلى الناس نظر الرحمة والشفقة، وصاحب
المرتبة الثانية ينظر إليهم بعين الحذر والحكمة مع محبته الخير لهم، وصاحب
المرتبة الثالثة ينظر إليهم نظر المقت والانتقام.
هذا بعض ما استوقف نظري مما مر به. لكن أشد ما استوقفني تلك الكلمة
الجامعة الحكيمة التي كأن روح القدس نطق بها على لسانك: (إذا صلحت النفس
البشرية أصلحت كل شيء تأخذ به) فوقفتني وقفة غارقة في بحار التأمل، تارةً
أستعيد ماضي الإسلام المجيد وما طرأ على المسلمين بعد عصر النور من ظلم
الفساد، وأخرى أنظر إلى حاضر المسلمين وما هم عليه من سوء الأحوال
الاجتماعية، وتفرقة الكلمة والانحراف عن كتاب الله تعالى، ثم أفكر في مستقبلهم
إذا استمروا على هذا الحال، فأرتد كئيبًا حزينًا يقتلني الأسى ويمزقني الغيظ.
وكان مما خطر ببالي في وسط تلك الدهشة؛ ما يظنه بعض المساكين من
متعلمي المسلمين ذلك التعليم الحديث الذي ظنوه كاملاً، وما هو إلا في أحط دركات
النقص، ظنوا - هداهم الله - أن السيادة والاستقلال يكفي لاستحقاقهما ذلك القدر من
العلم الذي حصلوه، وتلك الشهادات الدراسية العليا التي نالوها من أرقى المعاهد
العملية الأوربية بجدارة وتفوق؛ حتى على كثيرين من أبناء تلك الأمم التي نالوا تلك
الشهادات من معاهدها، حتى قال مسكين منهم معتزًا بما حمله من تلك الشهادات، وما
حصل عليه من قشور القشور التي ظنها علمًا قيمًا: ما بالنا لا نُعطى الاستقلال وقد
أعطيه العربُ الجهال رعاة الإبل، ونحن (أولاً) على درجة من العلم والمدنية
الغربية تجعلنا خير أهل لذلك. (وثانيًا) نحن من نسل أولئك الفراعنة ذوي الحضارة
القديمة التي بهرت أنظار الغربيين؟ وفات هذا الشيخ الطفل أن الاستقلال ليس منحة
تُعطى، بل هو نتيجة طبيعية لازمة لحالة الأمة الاجتماعية سنة الله في خلقه {وَلَن
تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: 43) .
فهؤلاء العرب الجهال رعاة الإبل الذين لم يتشرف واحد منهم بنيل شهادة
الدكتوراه ولا ما دونها، إنما نالوا الاستقلال بنفوسهم الصالحة تربية ووراثة، فلم
يمسسهم ولا أسلافهم ذلك الاستعباد، ولم يتطرق إلى أخلاقهم الرفيعة الفساد الوضيع،
وأما أعلى الشهادات وأرقى أنواع تلك العلوم فمحال أن تكون من مهيئات
الاستقلال والسيادة مع فساد النفوس وضِعتها، وانحطاط الأخلاق وانحلالها،
والانغماس في الشهوات البدنية والتفاني فيها، فليس للاستقلال والسيادة إلا طريق
واحد هو النفس الصالحة فهي حسبهما وكفى، وأما التبجح بالانتساب إلى الفراعنة
فهو عجيب ممن ينتمون إلى الإسلام، بل الأولى بهؤلاء المنتسبين أن ينسبوا
أنفسهم إلى الأمة التي استعبدتها الفراعنة، وساموها الخسف والهوان وسخروها
لخدمتهم لا غير، فهذا هو الواقع. والانصاف يقضي عليهم بأن ينتسبوا إلى
أصولهم الحقيقيين.
على أن العلم المادي في أقوى معداته ومجهزاته المهلكة المدمرة، لم يستطع
أن يقف بأصحابه أمام الأخلاق المتينة. ولدينا أقرب شاهد على ذلك من الحرب
العظمى التي انهزم بها ذلك العلم المادي بجبروته وعظمته أمام الأخلاق الثابتة
والنفوس المطمئنة الهادئة، وولت الأدبار القوى المادية أمام القوة المعنوية، وما
انتصر المسلمون في عصور الهداية والنور إلا بنفوسهم الصالحة، فانتصروا على
دولتي الفرس والروم وكل من حاربوهم من الأمم مع كثرتها الساحقة في العدد
والعدد قديم حضارتها. ولكن ما قيمة كل ذلك أمام النفوس الصالحة؟ ولما استقرت
قدم المسلمين في البلاد التي فتحوها ونشروا فيها نور الإيمان الصحيح بالله تعالى،
أحلوا فيها العدل محل الظلم، والأمن محل الخوف، والسكينة محل الاضطراب،
والوفاء محل الغدر، والحرية الصحيحة محل استعباد الإنسان لأخيه الإنسان،
فأصلحوا بنفوسهم الصالحة كل شيء اتصلوا به.
نعم.. (إذا صلحت النفس البشرية أصلحت كل شيء تأخذ به) هذه حقيقة لا
ريب فيها، ففي صلاح النفس عزها وفلاحها وإعدادها لإصلاح كل ما اتصل بها
ولا طريق لصلاح النفس صلاحًا حقيقيًا إلا الأخذ بما جاء به الكتاب العزيز
والاهتداء بهديه، ففي ذلك الخير كله، بذا جف القلم وقُضي الأمر.
إن خير تفسير لكتاب الله تعالى على ما نعلم من حيث هو كتاب هداية وإرشار
لهو تفسير المنار، أقول لك ذلك أيها العالم الموفق غير مُداجٍ ولا ممالئ، بل
أترجم لك عما تتحدث به إليّ نفسي غير أني أقترح عليك وأرجو أن يسمح لك وقتك
بما أقترح عليك أن تقتبس من هذا التفسير الممتع تفسيرًا مختصرًا، يحتوي زبدته
لينتفع به العامة، ومن لا يتسع وقته لقراءة التفسير المطول.
أسأل الله تعالى أن يكون معك ويمدك بروح منه، ويهبك القدرة على إتمام هذا
التفسير ومختصره، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
…
...
…
...
…
...
…
أخوك المخلص
…
...
…
...
…
... أحمد إبراهيم إبراهيم
…
...
…
أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق بالجامعة المصرية
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
من عهد الصليبيين
عثر أحد العمال في حي الميناء بطرابلس الشام على لوحة رخامية مكتوب
عليها بالفرنسية القديمة ما ترجمته:
(باسم الروح القدس نحن بومون بنعمة الله أمير أنطاكية وكونت طرابلس
صنعنا هذا البرج من أموال جالية طرابلس عام 1268 لميلاد السيد المسيح) .
وقد أرسلت هذه البلاطة إلى دائرة الآثار في المفوضية الفرنسية لإصلاحها
ووضعها في المتحف اللبناني.
_________
الكاتب: محمد عبد القادر الهلالي
مناظرة في مسألة القبور والمشاهد
الرد على رسالة العالم الشيعي
للأستاذ الشيخ محمد عبد القادر الهلالي
وهو عالم سلفي مستقل لا يتعصب لمذهب من المذاهب المقلدة
(7)
(المقام الثلاثون) قوله سيما أن أول من شيد قبر أمير المؤمنين (عفى الله
عنه) هو هارون الرشيد خليفة المسلمين في عصره، وتابَعه على ذلك سائر
الخلفاء حتى عبد الحميد خان التركي، فإنهم لم يزالوا يجددون عمارته.
أقول: لم يأت السيد مهدي بدليل يصح به ما نقله عن الرشيد، وأنا لا أدري
أول من بنى القبر المنسوب إلى أمير المؤمنين علي (كرم الله وجهه) . ولكني
أذكر أني قرأت في بعض كتب شيخ الإسلام - وهو من أثبت الناس في النقل - أن
أول من بنى المشاهد وسنها للناس هم الشيعة، وظني بهارون الرشيد أنه لا يفعل
ذلك، ولا يبلغ به الجهل إلى هنالك، فإن صح ذلك عنه قلنا كان ماذا؟ غير
معصوم فعل ذنبًا فهو إلى الله، وأقوال هارن الرشيد وأفعاله ليست شرعًا يحتج بها
إلا عند الشيعة الذين يعتقدون أنه من أظلم الناس إن لم يكفروه، بل المفهوم من
كلام بعضهم تكفيره، ولا عند أهل السنة الذين يعتقدون أنه خليفة المسلمين وأفعاله
كأفعال غيره من الأمة، ليست حجة ولو لم تخالف نص الرسول، فكيف إذا خالفته،
وليت شعري أي فائدة في الاحتجاج بأفعال الملوك، وقد حبس الرشيد الكاظم
رضي الله عنه حتى مات في حبسه، فلو قال لك قائل: هذا خليفة المسلمين يجوز
له تعزير من خرج عليه أو توقع خروجه بالنصوص الصحيحة، بل يجوز له قتل
من خرج عليه، لا نعلم في ذلك خلافًا بين أهل السنة، فهل كان في حبسه للكاظم
محسنًا أم مسيئًا؟ فما جوابك؟ وبالاحتجاج بفعل الملوك يتأول المتأولون قتل من
قتله بنو أمية وبنو العباس في دولتيهم من أهل البيت وغيرهم، مع أن أكثرهم قُتَلوا
بلا حق، وبلغ ببعضهم التأول إلى أن قال في قتل الحسين إنما قُتل بسيف جده يريد
بذلك أنه خرج على الإمام، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل من خرج،
وهذه زلة من الزلات صدرت ممن قالها. وسبب ذلك كله هو الغلو في الملوك،
وجعل كل ما صدر منهم شرعًا يدان به، وهذا مسلك وخيم لا يرضى به أهل العلم،
بل يجب أن تعرض أقوال الناس وأفعالهم كائنين من كانوا على ما جاء به
الرسول، فما وافقه فهو الحق وما خالفه فهو باطل، ولو فعله أو قاله خليفة أو إمام
كبير، فلا معصوم إلا النبي صلى الله عليه وسلم .
أما قوله: إن ما شيده المنتسبون إلى السنة من القباب أكثر مما شيده الشيعة،
فقد يكون صحيحًا، والظاهر أن المبتدعين من المنتسبين إلى السنة والشيعة في بناء
القباب والغلو في المقبورين فيها سواسية، وبدعة القباب ضلالة أتباعها شياطين
الجن وشياطين الإنس {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ
رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (الأنعام: 112) .
(المقام الحادي والثلاثون) أطال السيد مهدي في لوم صاحب المنار وتعنيفه
والنيل منه، وليته تجنب ذلك لا لأنه لا يجدي نفعًا في الحجاج، وإنما يوغر
الصدور ويكثر به اللجاج. ومن العجائب قوله: يحق للشيعة ولكل مسلم أن يعدوا
تشييد تلك القبور الشريفة من أعظم القربات؛ لأن الجهات القاضية برجحان زيارة
قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبور أهل بيته تستدعي اجتماع المؤمنين من سائر
الأقطار والكون فيها؛ للصلاة وسائر العبادات، وذلك موجب لإعداد محال واسعة
حول القبور تكون مجمعًا للزائرين، وهي تفتقر إلى بناءات فخمة واقية لنفس القبور
والفُرش التي حولها، والقناديل المسرجة ليلاً لقراءة القرآن والأدعية، وحافظة لمن
يزور القبور من الحر والبرد والمطر وعواصف الرياح.
أقول هذا الكلام فيه منكرات تقشعر منها الجلود، فيا أسفا لصدوره من أحد
العلماء المتبوعين في الدين، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وسأختصر الجواب عنه
اختصارًا، فقد طال الكلام جدًا. كيف يكون ما لعن النبي فاعله وأخبر باشتداد
غضب الله عليه مباحًا؛ فضلاً عن أن يكون قربة؛ فضلاً عن أن يكون من أعظم
القربات؟ وأما زيارة القبور فهي مشروعة ولا تشد لها الرحال؛ لقول النبي صلى
الله عليه وسلم (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام
والمسجد الأقصى) ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا قبري عيدًا وصلوا
عليّ حيث كنتم فإن صلاتكم تبلغني) ؛ ولنهي حسن بن حسن وعلي بن الحسين عن
إتيان قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم سندًا، ولقول الله تعالى {لَا تَغْلُوا فِي
دِينِكُمْ} (النساء: 171)، وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانتَهُوا} (الحشر: 7) وغير ذلك، ومن وصل قبر نبي أو صالح فليسلم، ويدعو
لصاحب القبر وينصرف كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل وكذا أصحابه، فلا
حاجة إلى قبة أو فرش ولا قنديل إلا من أراد أن يحادّ الرسول فيتخذ قبور الأنبياء
والصالحين مساجد وأعيادًا، ويتعرض للعنة الله واشتداد غضبه، ويتخذ القبور
أوثانًا، فإنما حسابه عند ربه وجزاؤه عليه {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لَا يَعْلَمُونَ} (يوسف: 21) .
متى شرع الله الحج لغير البيت العتيق؟ ومتى شرع الله الاجتماع لذكر في
غير المساجد المأذون فيها؟ ولِم يسافر إلى قبر نبي أو صالح؟ إن كان مراده
الاتعاظ والتذكرة فهي حاصلة برؤية قبور بلده كفارًا كانوا أو مسلمين، وإن كان
قصده الدعاء لصاحب القبر فليدع في مكانه والله سميع عليم، وتقدم حديث نهي
النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره صلى الله عليه وسلم عيدًا، ونهي
أهل البيت (عم) عن إتيانه للسلام والدعاء، فلا حاجة إلى القباب ولا منفعة فيها،
بل فيها مضرة وأي مضرة؛ لأنها نفق منها يتنزل إلى دركات الشرك، فالخير
والقربة والبر في هدمها وتسوية القبور، وتركها كما كانت على عهد النبي صلى
الله عليه وسلم والخلفاء، وما أحدث الناس بعدهم في الدين إلا شرًّا.
(المقام الثاني والثلاثون) قوله: فإن بيت النبي وبيوت أهل بيته من أعاظم
البيوت التي أمر الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه كما روى السيوطي ما دل عليه في
تفسير هذه الآية الكريمة، وإن تلك البيوت مما يجب احترامها وتعظيمها في حال
حياتهم فكذا قبورهم، وإن تعظيم بيوتهم في حال حياتهم إنما هو لوجودهم فيها فكذا
قبورهم؛ لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون.
أقول الاحتجاج بما رواه السيوطي محتاج إلى ذكر الإسناد وتصحيح الخبر،
والسيوطي في الدر المنثور ذكر الخبر المشار إليه، وحاصله أن النبي صلى الله
عليه وسلم فسر قول الله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ} (النور: 36) ببيوت
الأنبياء، فسأله أبو بكر عن بيت علي وفاطمة أهو منها؟ فقال: (نعم من
أفاضلها) وعزاه لابن مردويه بلا سند كعادته، ولم يلتزم أن لا يذكر فيه إلا
الصحيح، بل يذكر فيه ما ورد صحيحًا كان أم ضعيفًا، فالاحتجاج به والحال
هذه فيه ما فيه، سلمنا أنه صحيح فأي علاقة له في مسألة النزاع؛ لأن الله لم يقل
في قبور أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، ولا فسرها النبي صلى الله عليه وسلم ولا
غيره بذلك، وأكثر المفسرين على أنها المساجد، وفسرت ببيت النبي صلى الله
عليه وسلم وببيت عليّ في الخبر المتقدم، وعلى هذا التفسير يكون المراد بالرفع
الاحترام، وهو أن لا يدخلها أحد إلا بإذن كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَاّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} (الأحزاب: 53) فدلت الآية على تحريم
دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلا بإذنه وتحريم كل ما يؤذي النبي فيها
كالاستئناس للحديث، ويلحق بيوت النبي في ذلك بيت علي وفاطمة وبيوت سائر
بناته، بل وسائر بيوت المسلمين لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً
غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} (النور: 27) ولا يخفى أن
بيوت النبي وبيوت آله أعظم حرمة من بيوت عامة الناس، وأي دلالة في ذلك
على جواز البناء على القبور والصلاة عندها، وقد امتثل الصحابة ما أُمروا
به من تعظيم بيوت النبي ورفعها، ولم يبن أحد فيها قبة، ويقصدها للصلاة
والدعاء، وإنما يصلي فيها أهلها ومن أذنوا له في دخولها، أما تحري الصلاة
والدعاء فيها كالمساجد فلم يشرع لا في حياتهم ولا بعد مماتهم، ولو سلمنا أن تحري
الصلاة والدعاء مشروع في بيوت النبي وآله، ما دل ذلك على مشروعية الصلاة
والدعاء عند قبورهم، وقياس قبورهم على بيوتهم في مشروعية الصلاة والدعاء
عند قبورهم فاسد؛ لأنه مصادم للنصوص الناهية عن اتخاذ قبور الأنبياء
والصالحين مساجد؛ ولأنه قياس مع الفارق، فإن البيوت يستحب لأهلها أن يتخذوا
فيها مساجد كما تقدم في حديث عائشة، والقبور ليست كذلك والبيوت يستحب
لأهلها أن يجعلوا فيها نوافلهم أو شيئًا منها كما تقدم في حديث (لا تتخذوا قبري
عيدًا ولا بيوتكم قبورًا) ولا كذلك القبور؛ فإن الصلاة عندها محرمة وإن قصد
بها التبرك والتعظيم كانت أحرم، وأيضًا البيوت ينتفع بها غير أهلها ولا كذلك
القبور والبيوت يجلس فيها وتوطأ بإذن أهلها وتُبنى وتشيد بخلاف القبور، وكون
الأنبياء والشهداء أحياء في قبورهم لا يقتضي جواز إتيانهم للصلاة والدعاء، والنظر
إلى وجوههم وسؤالهم، وتلقي العلم منهم، والشكوى إليهم من أفعال الكفرة
والمنافقين والظلمة والتحاكم إليهم، وسؤالهم أخذ الحق من الظالم وتغيير المنكر
وغير ذلك مما هو مختص بالحياة الدنيوية، وقد ورد أن الناس يأتون الأنبياء واحدًا
بعد واحد يسألونهم الشفاعة في فصل القضاء يوم القيامة؛ لأنهم حينئذ يرونهم
ويسمعون كلامهم كما في الحياة الدنيا بخلاف الحياة البرزخية، فلا يجوز ولا يمكن
ذلك فيها؛ ولذلك لم يشرعه الله تعالى ولا فعله السلف الصالح ولا من تبعهم بإحسان،
وبقية كلام السيد مهدي يفهم جوابه مما سبق.
وليكن هذا آخر ما أكتب في الحكم بهذا القضية؛ راجيًا أن يكون مقبولاً عند
الله والمؤمنين، وأسأل الله أن يشرح صدور من كتبوا في هذه القضية جميعًا إلى
اتباع ما أنزل الله على رسوله بلا تغيير ولا تبديل، وأن يجمعنا وإياهم على الهدى
وينزع ما نزغه الشيطان في صدور المسلمين من الغل، حتى يكونوا كالبنيان
المرصوص وكالجسد الواحد، فيحب كل منهم لأخيه ما يحب لنفسه، ويغفر لنا ما
طغى به القلم {ربنا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا} (البقرة: 286) إلى آخر السورة، وآخر
دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
قال كاتبه محمد بن عبد القادر الهلالي عفا الله عنه: كتبته في مدة يسيرة
وأنا مشغول البال بالتأهب للسفر إلى الحج - يسره الله على أحسن حال - ومكتنف
بأشغال وافرة، وكل ذلك يمهد لي سبيل المعذرة عند من يقف عليه من الأفاضل،
فيغضي عما فيه من القصور والتقصير {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ
رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ
يُسْراً} (الطلاق: 7) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مقدمة كتاب يسر الإسلام وأصول التشريع العام
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله الذي أكمل لنا بالقرآن هذا الدين، وختم بمحمد صاحب الرسالة
العامة دولة النبيين، وجعله المثل البشري الأعلى للهداية الإلهية العليا، وأرسله
رحمة للعالمين، وبعثه بالحنيفية السمحة ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك،
وجعلها يسرًا لا عسر معه، وسعة لا حرج فيها، فبلغ عنه أصحابه ما أمرهم
بتبليغه من كتاب الله تعالى بالتلاوة والحفظ والكتابة، ومن سنته في بيانه للناس
بالقول والعمل، والحكم بين الناس بما أراه الله من الحق والعدل، {رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ} (المجادلة:
22) .
تلقى العرب الأميون كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في بيانه
بالقبول؛ إذ لم يكن لديهم فلسفة دينية يحكمونها في دين التوحيد والفضيلة، بعد أن
اجتث الله به شجرة الشرك الخبيثة، ولا كان لديهم تقاليد تشريعية يعقدون بها
شريعته العادلة النقية، فسهل فهم الشعوب والأمم له منهم، وتلقوه بالقبول عنهم،
فلم يلبث الألوف من مواليهم الأعاجم منذ العصر الأول والثاني أن حذقوا لغة هذا
الدين ففهموا كتابه المنزل، وشاركوا أساتذتهم العرب في نشر الدعوة وتدوين اللغة
والسنة، ثم فيما استلزم ذلك من فتح الأمصار، ونشر دين الله في الأقطار، فانتشر
الإسلام في الشرق والغرب بسرعة لم يعهد لها نظير في التاريخ، فبلغ ملكه في
جيل واحد ما لم يبلغ ملك الروم (الرومان) في ثمانية قرون، فكانوا أعظم دول
الفتح والاستعمار في الأرض، وأشدها مراعاة للرحمة والعدل.
ثم نجمت قرون البدع في المسلمين، ودخلت عليهم فلسفة الأمم وتقاليد الملل
من أقطارها، واحتاجوا إلى التوسع في التشريع المدني والقضائي والسياسي،
فوضعوا علم الفقه بداعية حاجة الحكام، وعلم الكلام لحراسة العقائد من البدع
ونظريات الفلسفة المختلفة، فاختلط بعقائد الإسلام وأحكامه العملية ما ليس منها،
وخرجت تعاليمه من فضاء السهولة والبساطة واليسر، إلى مضايق الحزونة
والتعقيد والعسر؛ إذ كان الأعرابي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يتعلم من
عباداته الشخصية في مجلس واحد ما يكون به مسلمًا، فصار يتعذر على المسلم
الناشئ بين المسلمين أن يتعلم مذهبه الديني الموروث في عدة سنين؛ لأن الأحكام
كثرت بأقيسة المذاهب وتفريعاتها، وعسر فهمها بضعف لغة المصنفين لكتبها،
فضاق ذرع الأمة بها، وانحصر الطالبون لتحصيلها في عدد قليل من أهل الأمصار،
يطلبها أكثرهم لأجل الدنيا لا لأجل الدين، فزال بذلك ما ذكرنا من مزايا الإسلام
القطعية التي كان بها على أكمله قبل أن يكتب شيء من المصنفات، ففي الخبر
المتفق على روايته مرفوعًا المجمع على معناه (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم
الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته) .
ثم انتقل المسلمون من طور إلى طور، وركبوا طبقًا عن طبق، بعضهم ينتقد
هذه الكتب الكثيرة، ويقول: إما أن يكون جلها ليس من الدين، وإما أن يكون
الدين نفسه غير حق، وبعضهم لا يزال يقول: إن ما هو مقرر فيها هو دين الله لا
مندوحة لمسلم عن اتباعه وإلا كان خارجًا من هذه الملة، حتى انتهت حال بعض
حملة العمائم، وسكنة الأثواب العباعب إلى أن يقول: إن من يهتدي بالكتاب والسنة
من دون كتب المذاهب الفقهية والكلامية فهو زنديق، وكان لهؤلاء الجامدين
الجاهلين مكانة عند الحكام وعند جمهور الأمة تخشى بها غائلة مخالفتهم، فزال ذلك
رويدًا رويدًا وهم لا يشعرون، حتى إذا لم يبق منها إلا القليل في بعض البلاد
(كمصر) بعد أن زال من بلاد أخرى، وزال بشؤمة الدين كله من دواوين
حكومتها ومحاكمها ومدارها (كبلاد الترك) ، طفق بعضهم يشعر بالخطر على
البقية الباقية من ظواهره ماثلة على شفا جرف، ولكنهم لا يدرون كيف يخرجون
من جحر الضب كما يخرج هو عند الخطر.
قد أنذر دعاة الإصلاح هؤلاء العلماء الرسميين هذا الخطر الذي هو عاقبة
ضرورية لجمودهم على تقاليدهم فتماروا بالنذر، وكان لنا في المنار جولات
تفصيلية في بيان ذلك أسبابًا ومسببات، وعللاً ومعلولات، ونتائج لمقدمات، مؤلفة
من اليقينيات أو المسلمات.
ولما كان أصل الداء، والمانع من قبول كل علاج له ودواء هو التقليد الأصم
الأعمى للكتب المؤلفة لا للأئمة، بدأنا تلك الحملات والجولات بتك المحاورات
التفصيلية التي نشرناها في المجلد الثالث وما بعده تحت عنوان: (محاورات
المصلح المقلد) ، وعرضناها للنقد فلم يرجع إلينا أحد في تفنيدها قولاً، ولم يكتب
لنا أحد في نقدها فصلاً، بل حازت القبول فطبعت وحدها مرة بعد أخرى.
ثم كان من أوسع ما كتبناه في هذه الموضوع تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101) إلخ،
والفصل الاستطرادي الذي جعلناه علاوة لتفسير الآيتين الكريمتين، فالقارئ لذلك
يرى فيه من الآيات المنزلة والأحاديث الصحيحة، ومن مدارك أساطين علماء
الملة وأئمتها من الأولين والآخرين، ما هو حجة على الجامدين من المقلدين،
وعلى الملاحدة والزنادقة المعطلين، وعلى المحرفين والمسرفين من المستقلين،
كما أنه برهان مبين لدعاة الإصلاح المعتدلين، ولا يزال هؤلاء هم الأقلين {ثُلَّةٌ
مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ} (الواقعة: 13- 14) و {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ
غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 249) .
كنا نعد فرق المسلمين الذين يتنازعون أمر الأمة في هذا العصر ثلاثًا:
(الأولى) : حماة تقليد الكتب المدونة في المذاهب المتبعة من سنة وشيعة
زيدية وشيعة إمامية وإباضية. وحجتهم أن علوم الشريعة المودعة في الكتاب
والسنة إجمالاً وتفصيلاً قد انحصرت فيها، فمن لم يأخذ بمذهب منها فليس على ملة
الإسلام، دع ما يرجح به كل منهم مذهبه على غيره.
(الثانية) : دعاة الحضارة العصرية، والنظم المدنية، والقوانين الوضعية،
الذين يقولون: إن هذه الشريعة الإسلامية المدونة لا تصلح لهذا الزمان، ولا
يمكن أن تصلح بها حكومة، ولا تستقيم بها مصالح أمة. فيجب تركها، واستبدال
قوانين الإفرنج بها، أو استقلال كل قوم أو شعب من المسلمين كغيرهم بتشريع
جديد يوافق مصالحهم، وإلا كانوا من الهالكين، ومن هؤلاء من يرى من مصلحة
قومه وبلاده المحافظة على مهمات شعائر الإسلام، وما لا ينافي المدنية من
خصائصه الاجتماعية والأدبية، ومنهم من لا يرى وجوب ذلك، وهم درجات أو
دركات في هذه المسائل، منهم المسلم المتأول، والزنديق المجاهر أو المستكتم.
(الثالثة) : دعاة الإصلاح الإسلامي المعتدلين الذين يثبتون أنه يمكن إحياء
الإسلام، وتجديد هدايته الصحيحة باتباع الكتاب والسنة الصحيحة وهدي السلف
الصالح، والاستعانة بعلوم أئمة المذاهب كلها بدون التزام شيء معين من كتب الفقه
والكلام المذهبية التي جمد عليها الفريق الأول، وأنه يمكن الجمع بينه وبين أشرف
أساليب الحضارة والنظام وهو ما ينشده الفريق الثاني، بل يرى هؤلاء أن ما
يدعون إليه - وهو أقدم هداية الدين وأحدث وسائل الحضارة والقوة - صديقان
يتفقان ولا يختلفان، وإن كلا منهما يزيد الآخر قوة وشرفًا، فدين العصر الأول
للإسلام ينفي خبث المدنية المادية الحاضرة، وينقي قلوب أهلها من الرجس،
وينقذهم من فوضى الحرية البلشفية، وأخطار الفلسفة المادية، ويزكي أنفسهم من
الظلم والفسوق والعصيان. كما أن علومها وفنونها الصحيحة تظهر من إعجاز
القرآن، ومن آيات الله في الأكوان ما يكمل به الإيمان، ويوجه قوى هذه العلوم
إلى العمران، وإصلاح نوع الإنسان.
ثم تولد من بين هذه الفرق أناس مذبذبون بين كل منها.
لا إلى هؤلاء إن نسبوهم
…
وجدوهم ولا إلى هؤلاء
يذمون التقليد ويدعون الاجتهاد، ويزعمون أنهم من دعاة الإصلاح وما هم إلا
دعاة فساد. ولكنهم متقنعون بما أوتوا، راضون بما أتوا {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا
فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لَاّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: 11-12) .
أولئك الذين يدعون الاستقلال في علم الكتاب والسنة، والاجتهاد المطلق في
أحكام الشريعة، وهم لم يعدوا لذلك عدته، ولا سلكوا لاحِبَ طريقته، لم يحفظوا
القدر الكافي من مفردات اللغة العربية، ولم يطبعوا على سليقة البلاغة المضرية،
ولم تستحكم لهم ملكة البيان بالتمرس والصناعة، ولا حذقوا قواعد الأصول، ولا
مرنوا على مدارك الفروع، ولا جمعوا بين حفظ النصوص وقوة استحضارها عند
عروض الحاجة إليها، وإنما قصارى أحدهم أن يقرأ تفسير آية أو شرح حديث
فيعجبه ما فهم منه، ويغتر بما عساه يخطر بباله أنه انفرد به، مما شأنه أن يقع
للعامي والخاصي، وأن يكون تارة صوابًا وتارة خطأ، ومن شاء منهم أن ينصف
نفسه بامتحانها في دعواها، فليكتب كتابًا أو رسالة طويلة في بعض المباحث
الاجتهادية التي يظن أنه انفرد بها، من غير أن يراجع فيها الكتب وينقل عن
العلماء، ثم لينشرها على أهل العلم، ولو كانوا ممن لا يدعون دعواه، ويعرضها
على نقدهم ثم لينظر قيمتها بعد نقدهم إياها، على أن الصواب في مسألة واحدة من
هذا القبيل أو مسائل معدودة لا يدل على ملكة الاجتهاد المطلق، فالاجتهاد يتجزأ.
من هؤلاء الأدعياء في العلم، المغرورين بالفهم، من هم أشد إحالة ليسر
الشريعة إلى العسر، وسعتها إلى الحرج من مقلدة كتب الفقهاء وغيرهم، ومن هم
أجرأ على شرع ما لم يأذن به الله، وعلى القول على الله ما لا يعلمون، هذا حلال
وهذا حرام، وهذا كفر وهذا إيمان، هذا بدعة وتلك سنة. وهم في كل ذلك مفترون
على الله، وشارعون لما لم يأذن به الله، وما أسهل ذلك على الغلاة في الدين ،
ولا سيما تحريم ما حرموا من زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، وما
جهلوا من العلوم والفنون والصناعات التي عليها مدار سيادة الأمة وتعايش الخلق.
ومنهم من يتعدى حدود اليسر إلى ما هو أدنى إلى الإباحة المطلقة، ويتأول
النصوص بما تتبرأ به مفردات اللغة وأساليبها، حتى يكون كزنادقة الباطنية أو أشد
تحريفًا وتبديلاً، ومن هؤلاء من لا يحتج إلا بما يفهمه هو من نصوص القرآن،
فيرد الأخبار النبوية كلها، ومنهم من يرد ما لا يعجبه منها، ويستدل على ذلك بأن
معناها غير صحيح (عنده) ، فلا يمكن إذًا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم
قاله.
وتجد على الطرف المقابل لهؤلاء ممن يدعون مذهب السلف، وينظمون
أنفسهم في سلك أهل الحديث؛ أناسًا يأخذون بظواهر كل ما رواه الرواة من الأخبار
والآثار الموقوفة والمرفوعة أو التي لم توصف بأنها موضوعة أو مصنوعة، وإن
كانت شاذة أو منكرة أو غريبة المتن، أو من الإسرائليات مثل كعب ووهب، أو
معارضة بالقطعيات التي لا يعرفونها من نصوص الشرع، أو مدركات الحس،
ويقينيات العقل، ويكفرون أو يفسقون من أنكرها أو خالفها.
فالجامدون على تقليد ظواهر كتب الفقه والكلام؛ كالجامدين على ظواهر كتب
الأخبار والآثار، كل منهما فتنة منفر للواقفين على علوم هذا العصر عن الإسلام؛
لأنه يتوقف عند كل منهما على ما ليس منه مما تقوم على بطلانه البراهين القطعية
أو المشاهدات الحية، أو سنن الله المطردة في الأكوان، أو النظام الذي يتوقف
عليه العمران، دع نظريات التشريع المجربة، ومسلمات التاريخ المؤيدة بعلم
طبقات الأرض وغير ذلك، تلك العلوم كلها تعد عندهم من علوم الكفار المحرمة فلا
يعتد بشيء منها، وهم عاجزون عن إقامة أي حجة أو دحض أي شبهة، ومن جهل
شيئًا عاداه، ولا سيما إذا عد جهله نقيصة له.
كذلك المتبعون لأهوائهم في دعوى الجمع بين الإسلام والرقي المدني، هم
منفرون للسواد الأعظم من هذه المدنية وعلومها وفنونها وصناعتها؛ لأنه يعزو إليها
ما يراه من جحد بعضهم للسنة النبوية بجملتها وتفصيلها ورد بعضهم السنن
القولية منها وإنكار بعضهم
…
لما لا يوافق رأيه وهواه منها، وتصدى بعضهم
لتأويلها وتأويل القرآن نفسه بما تتبرأ منه مفردات اللغة وأساليبها، وإجماع الأمة
الإسلامية وسيرة سلفها. ومن أحدث ما كتبه أدعياء القرآن إنكار مصري لحل
التسري، وما يتعلق به من الأحكام الثابتة فيه وفي السنة العملية والإجماع المتواتر.
وزعم هندي منهم أن الصلوات المفروضة فيه ثلاث لا خمس، وكل منهما يحرفه
كتحريف الباطنية أو أشد، دع القاديانية الذين يدعون نزول الوحي عليهم وأمثالهم.
طلاب الإصلاح الصحيح يريدون توحيد الأمة، وقد زادها كل فريق من
هؤلاء تفريقًا، طلاب الإصلاح الحق يبغون أن تكون كما وصفها الله تعالى أمة
وسطًا، وهؤلاء يجذبها كل منهم إلى طرف من محيط الدائرة إفراطًا وتفريطًا، هذا
يريد دينا بغير حكومة إسلامية ذات سيادة وعزة، ولا حضارة علمية فنية ولا قوة
آلية، وهذا يريد دنيا بغير دين ينهى عن الهوى، ولا سياج للفضيلة والهدى، وهذا
يتخبط بين الفريقين لا يدري ما يريد ولا ما يبدئ ويعيد، وكل أولئك في ضلال
بعيد فمن الناس من يقول:] ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق [
ومنهم من يقول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ *
أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ} (البقرة: 201-202) .
هؤلاء هم المصلحون المعتدلون طلاب المنهج الوسط، وقد أشرنا إليهم هنا
وبينا حالهم ومذهبهم فيما سبق، تارة في تفسير بعض الآيات، وتارة بالمحاوارات
والمناظرات، وتارة بإنشاء الفصول والمقالات، وتارة بالفتاوى في الأسئلة
والمشكلات.
وقد نشرنا من قبل بعض هذه المباحث في كتاب سميناه (الوحدة الإسلامية)
وفي كتاب آخر سميناه (الخلافة أو الإمامة العظمى) ، وننشر اليوم بعضها في هذا
الكتاب الذي سميناه (يسر الإسلام، وأصول التشريع العام) ، فعسى أن تكون هذه
الكتب مؤيدة ومعممة لدعوة المصلحين المجددين، الداعين إلى صراط الله المستقيم
صراط الذين أنعم الله عليهم من النبين والصديقين والشهداء والصالحين، وحجة
على الجامدين الميتين، وعلى الشذاذ المسرفين، المتبعين لسبل الشياطين، والله
ولي المؤمنين، والعاقبة للمتقين.
_________
الكاتب: سعد زغلول
كتاب آخر جوابي من سعد زغلول
إلى شيخه ومربيه الأستاذ الإمام
عقب نفيه إلى بيروت في إثر الحوادث العرابية
مولاي الأفضل، ووالدي الأكمل، أحسن الله مآبه.
أكتب إلى السيد الأستاذ بعد تقبيل يده الشريفة عن شكر مزيد لمكارمه التي لم
يمنع من تواترها على صنائعه تباعد الديار، ولا تنائي البلدان، معترفًا بالعجز عن
وفاء واجب الحمد، مع الاعتقاد بأن هذا لا يثنيه عن المكرمات يوليها، والمبرات
يسديها، فما يفعل الخير التماس الثناء، ولا يصدر البر ابتغاء الجزاء، إنما يحسن
محبة في الإحسان، ويبر شفقة بالإنسان.
تفضل - أدام الله فضله - على خريج حكمه، الناشيء في نعمه، بكتاب هو
المحكم آياته، المعجز دلالته، الشافي لما في الصدور، الكاشف لحقائق الأمور،
الهادي إلى سبيل الرشد وإلى صراط مستقيم فسر لمرآه، سرور العليل بالشفاء وافاه،
وتلاه متدبرًا دقيق معناه مكررًا رقيق مبناه، فازداد إيمانًا بفضل مولاه، ويقينًا
بحكمة من أوحاه، وشكر الله على صحة من أهداه، دامت نامية وارفة الظلال.
وتكرم - أبقى الله كرمه - ببيان بعض أسماء الكملة الكرام الذين دارسوه
فصولاً من المروءة وأبوابًا من النجدة، وما لهم من كمال الفضل، وما فيهم من تمام
العقل فرسمنا أسماءهم على صفحات القلوب، وحفظنا أمثلة فضائلهم في الصدور،
وتشوقنا لأن تتشرف أبصارنا برؤياهم، كما تحلت بصائرنا بمعرفة أعلامهم
ومزاياهم، وما يحتاج في إقناع النفوس بضعف تلك الحجة، وإن كانت تمكنت في
الأذهان إلى قوة البيان، فمعرفتهم بمقام فضله، ومقدار حكمته ونبله، كافية بذاتها في
الدلالة على نزاهة نفوسهم، وطهارة قلوبهم وغزارة فضلهم، وسمو عقولهم، ورجاحة
هممهم، وسجاحة شيمهم، وفي توجيه ما ثبت من الفساد في أخلاق غيرهم إلى أسباب
أخرى؛ نود أن يبينها الأستاذ الجليل في كتاب مخصوص إذا وجد من الوقت مساعدًا،
إنما نحتاج إلى قوة البيان في هذا الموضع؛ لنتبين كيف يكون تدارس المروءة بين
الأفاضل، وتداول النجدة بين الكرام الأماثل، فما رأيتنا [1] من قبل لدينا إلا فاضلاً
كريمًا يدرس الفضائل بين من لا يعرفون للفضل مقدارًا، ولا يفقهون للكرامة
اعتبارًا.
ولقد زادني ميلاً في السفر، وبغضًا في الحضر، ما جاء في وصف أولئك
الأماجد ذوي النفوس الزكية، والمحامد العلية، وما تلاه من بيان حقيقة غوازي
الأمم، ساقطي الهمم، سافلي القيم، جاهلي مقادير النعم، غير أني عدلت عن
داعية هذا الميل امتثالاً للأمر، وفي النفس حسرات لا يقاومها صبر، وبها إلى
السفر أشواق لا يتناولها حصر.
وأحسن - خلد الله إحسانه - على صنيع آدابه، اليتيم في أترابه، بحكم من
مثل التي تعودها غذاء للعقل، ونورًا للفكر، فتلقاها بقلب شاكر، وتقبلها بفؤاد حامد،
وحفظها في الوجدان، راجيًا من الله التوفيق إلى الأخذ بمعانيها، والهداية إلى اتباع ما
فيها، آملاً من مكارم مواليها، دوام تواليها.
أسفت بل خجلت مما بلغ المقام الشريف عن الشيخ عبد الكريم الفاضل [2]
ثابتًا صدقه بشهادة من سئلوا من الصادقين، ولولا التحقق من سعة بال الأستاذ
الكريم، ومن وثوقه بي فيما أرويه لكان الأسف مضاعفًا.
إني - كما تعلمون - كثير الاجتماع بهذا الشيخ، وما سمعت منه ما يقصد به
مس مقامكم الكريم، ولم يتكلم أمامي يوم أن بلغه خبر الاعتراف باليمين المعروف،
إلا بما معناه الأسف والإشفاق من عاقبة هذا الاعتراف، فلعل ما بلغ المسامع الشريفة
من هذا القبيل، والسامعون لشدة حرقتهم وبلوغ الأسف من فؤادهم مبلغه، انصرف
خاطرهم عن رعاية مقام القول فتوجه ذهنهم إلى مفهوم الكلام الحقيقي، وطبقوا المقام
على ما فهموه، ولهم العذر، فهم لم يتعودوا سماع كلام مثل هذا في جانب حضرتكم
ولو مرادًا به غير حقيقة معناه، ولم يألفوا تأويل العبارات وصرفها عن ظواهرها،
ولم يعرفوا عادة ذلك الشيخ في كيفية تأدية مراده، والعبارة في حد ذاتها يصعب
تأويلها إلى غير المتبادر للأفهام منها كل الصعوبة على من لم يكن أزهريًا متعودًا من
الشيخ سماع أفظع منها مفهومًا وأشنع تركيبًا.
وكيف يتأتى له إرادة الظاهر مع علمه بكون ذلك لا يصدر إلا عن لؤم طبيعة
وخراب ذمة وسفاهة عقل؟
أنسي ما أوليته من كرائم النعم، وجلائل الأمم؟ التي لا يزال متمتعًا بها متفيئًا
ظلالها، وإنك لمؤرق أسفًا المحترق حزنًا المشفق عليه يوم وجدت اسمه مكتوبًا في
تقارير اللئام، حتى شغلك همه عن همك، وسعيت وأنت مسجون في تنجيته من
التهمة بواسطة المحامين.
ما نسي كل هذا وما قدم العهد عليه حتى ينقض ولاءك، ويبتكر هجاءك،
ويمس مقامك، في بيت أواه، ومنزل طالما رتع في بحبوحة نعماه.
فهذه العبارة - إن صح النقل - لا يمكن أن يكون المراد بها شيئًا وراء إعلان
الأسف والإشفاق، أما كونه لم يرسل خطابًا فمولاي يرى أنه من الأدلة الصادقة على
كون ذلك الشيخ الفاضل صادقًا في ولائه، حريصًا على دوام تذكر أوليائه، إذ لم
يدعه إلى ذلك الإتمام رغبته في المحافظة على النعمة التي غرستم أصولها، وأنميتم
فروعها، ليكون على الدوام متذكرًا الحقيقية مبدئها، متصورًا صورة منشئها.
أما كتاب الشيخ محمد خليل فقد علمت ما في إرسال صورته من (حسن
التعليل) وكمال التلطف في التأديب، على ما جرى به عادتكم الشريفة، وقد
طالعت هذه الصورة، فرأيت أنها من أقوى الأدلة على شدة ميل صاحب الأصل
إلى الصدق ورغبته عن التمويه، حيث أوضح حاله صادرًا في الإيضاح عن الحق،
برهانًا على شدة إخلاصه بإثبات العبارة التي نفيتها بين يدي حضرتكم في الدائرة.
فإن إثباتها لا يصدر إلا عن تمام إخلاص لا يشوبه تمويه، ومن هنا يتبين
لحضرتكم سلامة نيته وحسن طويته.
أما عنوان الجواب، فما أداه إلى نسجه على ذلك الأسلوب إلا اعتماده على
معرفتكم بكونه من الصادقين المعظمين لجنابكم الكريم، وعلى كل حال فنحن لا
نستغني عن كريم عفوك، وجميل صفحك، فإن لم تعف عنا وتصفح كنا من
الخاسرين.
إن ظنكم فيما رأيتموه في جريدة البرهان هو الموافق للصواب، ويحق
لحضرتكم السرور بما نال ولدكم [3] فهو المتربي في نعمتكم، المغترف من بحار
حكمتكم، المحفوف بعنايتكم، المشمول بعين رعايتكم، البالغ ما بلغ ويبلغ من
مراتب الكمال بحسن توجهاتكم، وكريم تعطفاتكم، أدامكم الله لكل خير مبدأ.
رفعت تحيتكم إلى حضرات من ذكرتم أسماءهم، وأشرتم إليهم فتقبلوها
بالاحترام، وهم جميعًا يقبلون يديكم، ويسلمون عليكم، وأخص منهم بالذكر منبع
الصفا ومصدر الوفاء الذاكر لفضائلكم في كل حين، والدي حسين أفندي. وحضرة
ولدكم الصادق في متابعتكم الشيخ عامر إسماعيل الذي امتن غاية الامتنان بما
اختصصتموه به في كتابكم الشريف وحضرة الشيخ سليمان العبد والسيد أمين أفندي.
ونحن جميعًا نرفع أحسن التحيات وأزكاها لحضرات الكرام الذين تشرفنا
بمعرفة أسمائهم من الذين دارسوكم فصول الكرامات، ونقدم لهم واجبات الاحترام،
أدامهم الله مثالاً للفضل وعنوانًا للكمال، ونسلم على حضرات أخينا الفاضل إبراهيم
أفندي اللقاني وإبراهيم أفندي جاد ونجلكم الكريم وجميع من بمعيتكم حفظهم الله.
أحوالنا العمومية أنتم أعلم بها منا فلا حاجة إلى بيانها. نرجو تفصيل
أحوالكم وما تشتغلون به من قراءة وتأليف إذا حسن لديكم ذلك.
كتب سامي لم تشهر إلى الآن في المزاد، ولا زلت مراقبًا لإشهاره.
حضرة البيك صاحب الكتاب، توجه قبل ورود كتابكم إلى البلد، ولم يحضر
إلى الآن. وعند العلم بحضوره أتوجه إليه وأرفع لحضرته مزيد تشكراتكم، دامت
معاليكم. أفندم ، في 8 جا سنة 1300.
…
...
…
...
…
...
…
... صنيعكم - سعد زغلول
أرجو عدم انقطاع المراسلات ، وأتمنى أن لا أحرم كل أسبوع من كتاب
تطمينا للخاطر وترويحًا للفؤاد، ولمولاي في إجابة هذا الرجاء النظر العالي.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
سعد [3]
_________
(1)
الكلمة في الأصل هكذا (رايتنا) ، ولعل المراد فما رأيناك إلخ، الخطاب للأستاذ الذي بعث الفضيلة بالعلم والعمل في جماعة نكثوا عهده، وخانوا وده ووشوا به عند الشدة.
(2)
ذكر لي الأستاذ الإمام رحمه الله أيام غضب الشيخ عبد الكريم سلمان علي؛ أنه كان بلغه في أثر الفتنة العرابية أنه طعن فيه يتبرأ من كونه من حزبه، فكتب في ذلك كلمة في كتاب لآخر؛ أظنه سعدًا قال: وأما ذلك الشيخ الذي اكننته كني وأدنيته مني، وجعلته في مكان النحو من ابن جني فهو يصرح بسبي ولا يُكني.
(3)
يعني سعد نفسه، وأظن أن الخبر المشار إليه هو اشتغاله بالمحاماة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
اقتراح إبطال الأوقاف الأهلية
ومكان الدين من الدولة المصرية
في قسميها التشريعي والتنفيذي
اضطربت هذه البلاد اضطرابًا عظيمًا؛ لاقتراح أحد أعضاء مجلس النواب
وضع قانون تلغى به الأوقاف الأهلية، ويحرم إنشاء شيء منها في المستقبل؛ لما
فيها من المفاسد الاقتصادية وغيرها، فكان الناس في هذا الاقتراح فريقين: فريقًا
يود ذلك لأن في أيديهم أعيانًا من هذه الأوقاف، يريدون أن يتصرفوا فيها تصرف
المالكين، فتكون لهم دون من بعدهم، ويؤيد هذا الفريق زنادقة المسلمين دعاة
الإلحاد في هذه البلاد، وكل ما يحب من غير المسلمين إبطال حكومتها لكل ما بقي
من التشريع الإسلامي فيها، وفريقًا لهم منافع في بقاء هذه الأوقاف على حالها،
ويؤيدهم جمهور علماء الشرع، ومن يؤلمهم التعدي على التشريع الإسلامي أن
يكون مباحًا للبرلمان، فيتصرف فيه برأي أكثرية أعضائه، فيكون تشريعه فوق
الشرع المستند إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو اجتهاد أئمته،
وهذه الأكثرية قد تحصل بمن لا يدينون بالإسلام من ملاحدة وكتابيين، فإن من
هؤلاء الملاحدة من صرحوا - حتى في بعض جلسات النواب الرسمية - بردتهم عن
الإسلام وطعنهم في القرآن؛ لأنه يخالف مدنية أوربة في إباحة تعدد الزوجات
ولغير ذلك.
كتب كل من الفريقين مقالات كثيرة في الجرائد، يؤيد فيها رأيه بأدلة من
الشرع والقوانين والمصلحة العامة، ولا يعدم الفريق الأول شيئًا منها، فإن في هذه
الأوقاف من المفاسد ما لا يجيزه شرع الله بنص صريح، ولا باجتهاد صحيح على
ما فيه من المفاسد الاقتصادية، وكثر إلحاح أناس من الفريقين عليّ أن أكتب في
تحقيق الحق في المسألة؛ ما يعهدون أو يعتقدون من فصل الخطاب في أمثال هذه
المشكلات كمسألة الخلافة وغيرها، فكنت أقول لكل مقترح: إن لدى كل فريق
صوابًا وخطأ وحقًّا وباطلاً، وضارًّا ونافعًا، وإن الأوقاف الخيرية المسكوت عنها
الآن كذلك، فيها أوقاف باطلة مخالفة لأصول الشرع وفروعه، وفي التصرف فيها
مثل ما في التصرف في الأوقاف الأهلية من المفاسد والمضار، وتمحيص القول في
هذا الباب كله، وتحقيق الحق فيه من كل وجه لا يمكن إلا بتأليف كتاب ككتاب
(الخلافة أو الإمامة العظمى) ، ولو كان البرلمان المصري والحكومة يأخذان بما يقوم
عليه الدليل الأقوم، وتظهر فيه المصلحة العامة، لتركت جل أعمالي وتفرغت لذلك.
ولكن لا سبيل إلى هذا ولا سبيل إلى إقناع أهل الشأن به.
على أنه قد وضح من مجموع ما كتب الكاتبون أن للوقف أصلاً في الشرع
الإسلامي ثابت بالنص والعمل المتواتر من العصر الأول إلى اليوم، فلا يمكن
إبطاله باجتهاد مجتهد متقدم ولا متأخر، وإن سوء التصرف فيه وكون بعضه مخالفًا
لمقاصد الشرع، أو ما يعبر عنه بروحه وهو مناط التشريع، وبعضه مخالفًا
للنصوص أيضًا بحيلة شرعية أو بآراء فقهية؛ فهو واقع لا مراء فيه، فقلما يوجد
وقف أهلي أريد به القربة ومرضاة الله تعالى التي هي الأصل فيه، وما عساه يحلي
به مما صورته الخير، فمنه ما هو شر ومنه ما يحول بسوء التصرف إلى شر
وفساد، ومن ذلك ما يوقف على تشييد القبور وتجصيصها أو تزيينها، ووضع
المصابيح عليها وحمل الأطعمة إليها في الأعياد والمواسم المبتدعة أو المبتدع فيها
وغير ذلك، قلما يوجد في شيء من ذلك شيء مشروع يرضاه الله تعالى، فالوقف
عليها باطل كالوقف على بعض الوارثين لحرمان الآخرين.
ولكن سوء التصرف والاستعمال ليس مقتضى للشرع في ذلك، ولا لازمًا من
لوازمه، حتى يقال: إنه يجب إبطاله بإبطال مقتضيه وملزومه، فإن المبطلين
والأشرار يسيئون التصرف بجميع النعم الفطرية والكسبية: يسيئون التصرف
بمداركهم العقلية وبحواسهم وقواهم كلها، ويسيئون التصرف بأموالهم وبمعاملة
أزواجهم وأولادهم، وبالقوانين والعلوم والفنون والصناعات، فالواجب على أنصار
الحق وأهل الخير من أولي الأمر والحكم أن يمنعوا سوء التصرف بالشرائع والقوانين
وبالقوى والمشاعر وبالنعم؛ ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، كما يجب على العلماء أن
يبينوه للناس.
***
الدين في الدولة المصرية
فأول ما أنكره ويوافقني على إنكاره كل مسلم يعرف دينه ويغار عليه؛ أن هذا
البرلمان المصري لا يجوز أن يعطى من حق التشريع ما ينسخ شيئًا من شرع الله
الثابت بنص الكتاب أو السنة الصحيحة؛ التي جرى عليها عمل سلف الأمة أو
بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، وأعني ليس للقانون الأساسي أن يعطى هذا الحق؛
وهو يعترف بأن دين الحكومة الرسمي هو الإسلام.
وأما ما دون ذلك من مسائل الفقه الاجتهادية: فلأولي الأمر أن يتركوا منها ما
ضعف دليله، أو ضر فعله، أو كان منافيًا لمصلحة الأمة العامة، فإن مخالفة مثل
هذا من اجتهاد الفقهاء لا ينافي الإسلام.
وقد آن لهذه الحكومة الدستورية أن تفرق بين نصوص الإسلام القطعية من
الكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح؛ وبين اجتهادات أئمة الفقه الظنية، فتعلم أن
الأول لا بد من الاعتراف به لمن يدين الإسلام، وأن الثاني تحكم فيه الأدلة ومنها
مراعاة مصلحة الأمة، وإلا كان نص القانون الأساسي في كون دين الدولة هو
الإسلام لغوًا، كما كان في قانون الجمهورية التركية.
وقد ظهر بهذه المسألة مسألة ما اقترحته الحكومة من إصدار قوانين ببعض
أحكام الزوجية من: نكاح وطلاق ونفقة وفسخ عقد وتطليق حاكم؛ أن بعض علماء
مصر لا يرضيه من الحكومة إلا أن تتقيد بتقليد ما قرر اعتماده في كتب الفقه
المشهورة في الأزهر على مذاهب الفقهاء الأربعة المشهورة، بل يوجب عليها بعض
الحنفية منهم التقيد بمذهبهم وحده، وإن كان بعض المذاهب الأخرى أقوى منه دليلا ً،
وأقوم مصلحة وأيسر في التعامل، وأن بعضهم يقول بوجوب النظر في أدلة الأحكام
واتباع الأقوى والأصلح منها، فعلى الحكومة أن تؤلف مجلسًا شرعيًّا من الفريقين
يكون من أعضائه شيخ الأزهر، والمفتي الأكبر، ورئيسا المحكمة الشرعية الكبرى
والعليا، وبعض المشتغلين بالتفسير والحديث وآثار السلف وتطرح على هذا المجلس
ما تحتاج إلى معرفة حكم الشرع فيه، وتعتمد ما تقوم الحجة على أنه الحق الموافق لما
ثبت بنصوص الكتاب والسنة القطعية من يسر الشرع، وتقرر في نظام هذا المجلس
أنها مقيدة من الإسلام بالمُجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة الذي أجمعوا على
تكفير جاحده، ولا تقيد بغير ذلك من المسائل الخلافية بل تتبع فيها الأصح والأصلح.
اقترح بعض النواب في مجلسهم إلغاء منصب المفتي الرسمي؛ لأجل الاقتصاد
المالي، وليس راتب المفتي وكاتبه ونفقة مكتبه بالشيء الذي يعد كثيرًا
على الحكومة المصرية الغنية المسرفة؛ التي يمكن إدارة جميع أعمال وزاراتها
ومصالحها بنصف ما تنفقه عليها أو أقل من نصفه، وإنما الذي صار يثقل على
كثير من النواب أن يكون لهذه الحكومة مظهر للشرع الإسلامي مثل مظهر المفتي
الأكبر، ما أشد جهل هؤلاء المسلمين الجغرافيين بطبائع المال ونظام الاجتماع،
كنا ألفنا لجنة في حزب الاتحاد السوري؛ لتضع مشروع قانون أساسي لسورية،
واخترنا لرياستها إسكندر بك عمون المحامي الشهير؛ لأنه أعلم الأعضاء بالحقوق
والقوانين، فقال: أنا لا أقبل رياسة لجنة كهذه وفيها السيد رشيد؛ وهو أعلمنا
بالشريعة الإسلامية التي يجب علينا الاستمداد منها في هذا القانون؛ لأن أكثر أهالي
البلاد من المسلمين.
إننا نرى كثيرًا من المسلمين، ينشرون في بعض الصحف مقالات، يقيمون
بها الحجة على الحكومة المصرية بمخالفة نصوص الدين الإسلامي القطعية في
أحكام وأعمال بعض وزاراتها ومصالحها ولا سيما وزارتي المعارف والحقانية،
وهو الدين الرسمي لها بنص القانون الأساسي، ومن أفظع هذه المخالفة بل الجناية
على الأمة فيها إباحة الطعن في الإسلام في الجامعة المصرية، وإفساد عقائد النابتة
ووجدانها وآدابها النفسية بالإلحاد والإباحة، فيجب على الحكومة أن تتنصل من هذه
المطاعن بما ذكرنا؛ ليعلم رجالها وجمهور الأمة بما هو دين لا مندوحة عن الإيمان
به واحترامه، وما هو محل نزاع واجتهاد لا يكلفه إلا من ثبت عنده.
إني أوافق الذين يعتقدون من رجال الحكومة وغيرهم أنه ليس من الميسور لها
أن تدير نظام حكومة مدنية في هذا العصر، مع التزام مذهب الحنفية أو الشافعية
مثلاً، ولا سيما المذهب التقليدي الذي يوجبه المقلدون من أهل الأزهر وغيرهم من
كتبهم، وأقول مع هذا: إن الله لم يوجب على فرد ولا حكومة التزام تقليد كتب
مذهب من المذاهب، بل أبطل ذلك في محكم كتابه، ومن يدعي وجوب هذا التقليد
لتحقيق الأخذ بالإسلام، فهو أجنى على الإسلام ممن يرده وينكره، فقد كان الإسلام
على أكمله في الزمن الذي لم يكن فيه من هذه الكتب شيء، على أن في هذه الكتب
شيئًا كثيرًا تحتاج إليه الأمة، ولكن يكفي في ثبوت الإسلام ما أجمع عليه أهل
الصدر الأول من الدين؛ ومنه نصوص الكتاب والسنة القطعية الرواية والدلالة،
وما عداه فهو محل للاجتهاد، ومن أصول الإسلام فيه مراعاة مصلحة الأمة العامة
في جميع المعاملات السياسية والقضائية والإدارية، وإنه لا يكلف أحد أن يدين الله
باتباع أحد من الفقهاء فيه إلا ما صدر به حكم حاكم شرعي، فيجب اتباعه إقامة
للنظام العام.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
المسألة السورية بمصر
كتبنا في جزء سابق كلمة وجيزة؛ فيما وقع من الخلاف بين أعضاء اللجنة
التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني وبين رئيسها السابق الذي اقتضى أن تقرر
اللجنة إلغاء الرياسة الشخصية الدائمة لها، وذكرنا أن بعض الفضلاء يسعون
للصلح بين الأعضاء، والرئيس السابق الذي ألف لجنة جديدة تعترف له برياسته
الملغاة، ليس فيها أحد من أعضاء اللجنة القانونية إلا واحد مستخدم عنده براتب
شهري، ونذكر الآن بالإيجاز أن الساعين بالصلح قد فشلوا، وظهر لهم ولغيرهم أن
سبب الخلاف الذي شجر؛ هو ما ثبت من أن الرئيس السابق يسعى مع أخويه
لاستغلال القضية السورية وثورتها لدى فرنسة، بزعمه أنه يمكنه بنفوذ اللجنة
إخضاع البلاد كلها لفرنسة بالشروط التي يتفق هو معها عليها سرًّا، وينفذها باسم
اللجنة جهرًا، وقد صرحت الجرائد الفرنسية حتى الطان منها: بأن أولاد لطف الله
معترفون بالانتداب ويسعون للاتفاق مع فرنسا خلافًا لرشيد رضا وأسعد داغر من
الأعضاء المتطرفين الذين يسعون للاستقلال العربي، وأن لطف الله وجد قوة جديدة
ترجح على هؤلاءالمتطرفين بمشايعة الدكتور عبد الرحمن شاهبندر له، واشتغاله
معه في خدمته السياسة الفرنسية.
كانت حجة طلاب الصلح علينا؛ أن اتفاق ميشيل وشاهبندر يحدث مضار
كثيرة في القضية السورية، يزيد شرها على قبولنا لرياسة ميشيل للجنة مع حفظ
الأكثرية فيها، واشتراط جعل الرياسة صورية بسلب الرئيس حق تمثيل اللجنة في
الخارج والكلام باسمها إلخ، ما قالوا: إنه قد قبله، وقبل أن يوضع في النظام
الداخلي.
وقد حدث بعد العلم بتعذر الاتفاق أن الهيئات السورية في داخل البلاد
وخارجها وفي مقدمتها سلطان باشا الأطرش والأمير عادل أرسلان وسائر جماعة
المرابطين في الصحراء، كلها أيدت إلغاء اللجنة للرياسة الذي اقتضى خروج
رئيسها السابق من جماعتها، وأصبح تأليفه للجنة أخرى عبثًا وسدى، ثم إن
الحزب الوطني في الأرجنتين قد ألغى تمثيل الدكتور شهبندر له في اللجنة كما فعل
الحزب الوطني في شيلي، والجمعية السورية الوطنية في الولايات المتحدة بإلغاء
تمثيل توفيق أفندي اليازجي، فلم يبق للجنة الجديدة وجود يصح أن يستند إلى
مؤتمر جنيف، ولا حزب يمكن أن تتوكأ عليه، ولا عصبية في الوطن ولا في
المهاجر يمكن أن يتقرب رئيسها إلى فرنسة بها، والمال وحده لا يفعل ذلك، وقد
راينا منتهى ما عمل، فإذا هو ضعف وعجز وخذلان.
رأينا وعلمنا أن بعض الجرائد السورية الساقطة، تنشر لهم بالأجور الكبيرة
مقالات في إطراء أنفسهم بما يهوون من ألقاب الرياسة والزعامة ! والطعن في
خصومهم بألفاظ البذاء والسفاهة حتى لقب الكلاب. وتنزهت الجرائد المصرية
المحترمة عن نشر شيء من ذلك لهم، وعهد التضليل لا يطول في هذه المسالة،
فسيعلم من لم يعلم من الشعب السوري من يخدمه ويخدم وطنه، ومن يستغلهما
ويتجر بهما.
ولكن الذي بدا لنا من حيث لم نحتسب، أن يخيب الأمير ميشيل وشقيقه آمالنا
في آدابهما الشخصية برضاهما من مستخدميهما أن يكتبوا تلك المقالات الحمقاء
المشتملة على التبجح الدنيء؛ بذكر موائد سراي لطف الله وإهانة ضويفهم الآكلين
عليها وضيوف القوم أمثالهم أو أكبر؛ ومن أحقر ذلك وأمسه بكرامتهم زعمهم أن
فلانًا وفلانًا بايعا جورج لطف الله بإمارة لبنان عقب غداء ثقيل.
ألا يفهم هؤلاء أن هذه مسألة لا تذكر إلا مداعبة ومزاحًا أو سخرية واستهزاء؛
لأن الإمارة في مثل سورية ولبنان لا تكون بمبايعة أحد من أهلهما ولا سيما في
خارجهما وهما تحت سلطة أجنبية، فلا يكون الحديث فيها من الجد في شيء.
إننا عاشرنا ميشيل وجورج بضع سنين، لم نر فيها منهما إلا الأدب العالي
في القول والعمل؛ ولذلك كنا مغتبطين بمعاشرتها، وقد قال لي الأمير ميشيل عقب
قرار 19 أكتوبر: إن اختلافنا في السياسة لا يمنع الصداقة الشخصية بيننا، فإن
مثل هذا معهود بين الأصدقاء في أوربة وغيرها، وقلت له أخيرًا عندما اجتمعنا
باقتراحه؛ لبحث في مسألة الصلح إنه لا يليق بآدابكم الشخصية استئجار السفهاء
البذاء، والطعن واستئجار الجرائد لنشرها ثم توزيعها من مكتب لجنتكم، ولا تظنوا
أن معرته لا تلحقكم فقد قال الشاعر:
ومن يربط الكلب العقور ببابه
…
فكل أذاة الناس من رابط الكلب
فأطرق ولم يعتذر، وقد ذكرت له أنني أحتقر الشتامين وجرائدهم فلا أقرأها؛
ولذلك أرد لمكتبه السياسي بشارع عابدين جميع الجرائد التي يرسلها بغلافها وطابع
البريد عليها كما هو، ولولا أنه كان مما نشروه في منشوراتهم وجرائدهم المأجورة
للكذب؛ أننا قبلنا أن يكون من قواعد الصلح إعادة رياسة الجنة كما كانت، وسكتوا
عن القيود التي جعلنا الرياسة معها سدى لما نشرت هذه الكلمة هنا، وقد كان أخسر
الناس بما حصل عاشق الرياسة وعاشق الزعامة؛ إذ خسراهما وخسرا ما كان من
حسن ظن الأمة بهما (والعاقبة للمتقين) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
نظرية النصارى في خطيئة آدم
الطعن في حديث البخاري
س 10و 11 لصاحب الإمضاء
حضرة صاحب الفضيلة والإجلال؛ شيخ الإسلام ومفتي الأنام مولانا الأستاذ
الإمام السيد رشيد رضا نفع الله المسلمين به.
السلام عليكم ورحمة الله (أما بعد) : فإن اعتقادي ومذهبي واعتقاد الكثيرين
من الذين اطلعوا وقرءوا مؤلفات فضيلتكم في الكتب والصحف: أن فضيلتكم أكبر
عالم بحقيقة روح الإسلام ومقاصده السامية، وأعلم المدافعين عنه الذابين عن
بيضته، فنسأل المولى جل ثناؤه أن ينسأ في عمركم، ويمتعكم بالصحة والهناء.
رحمةً منه تعالى بالمسلمين إنه سميع مجيب. اللهم آمين.
أحيط علم سيادتكم أنه ضمني وبعض المبشرين مجلس، فتباحثنا في الدين
ونتج من هذا البحث؛ أن أسأل سيادتكم هذين السؤالين، وأرجو أن تتفضلوا
وتتكرموا بالجواب عنهما في المنار الأغر المحبوب.
أولاً - يقول المبشر: إن خطيئة آدم صلى الله عليه وسلم بأكله من الشجرة
التي نهي عن الأكل منها، صارت عالقة بذريته جميعهم لم يخل منها أحد؛ مهما
عمل صالحًا وتاب من ذنوبه؛ لذلك جاء المسيح وصلب، وبصلبه كفر عن خطيئة
من آمن به (أي المسيح) من ذرية آدم، ومن لم يؤمن بالمسيح أنه مات فداء عنه،
لم يزل خاطئًا بالوراثة من آدم، مهما عبد الله أو تاب من ذنوبه؛ لأنه بدون سفك
دم (كذا) لم تكفر خطيئته، وأن المسلمين لحد الآن يضحون عن أنفسهم، وأن
النبي صلى الله عليه وسلم ضحى عن نفسه، وقال ما معناه: اللهم اغفر لي ذنوبي،
واجعل هذه الضحية فداء عني.
فما هو اعتقاد المسلم في ذلك، وهل حقيقة خطيئة سيدنا آدم عالقة بذريته لا
يمكن أن تغفر أبدًا أم لا علاقة بين خطيئة آدم صلى الله عليه وسلم وذريته؟ أرجو
الجواب.
ثانيًا - تقول العلماء: إن أصح كتب الحديث صحيح البخاري رضي الله
عنه، ويليه صحيح مسلم رضي الله عنه إلخ، فهل إذا أنكر أحد من المسلمين حديثًا
في صحيح البخاري يعد طاعنًا في الدين الإسلامي؟ مع العلم أن الأحاديث دونت في
الكتب بعد زمن المصطفى صلى الله عليه وسلم بمدة مديدة، وأن البخاري رفض
أكثر من ستمائة ألف حديث، بل قال أحد نقاد الأحاديث: إن في صحيح البخاري
نفسه أحاديث موضوعة مثل (تعاد الصلاة من قدر الدرهم) يعنى من الدم، ذكر
في (كتاب اللؤلؤ المرصوع فيما لا أصل له أو بأصله موضوع) .
أرجو الجواب أثابكم الله تعالى
…
...
…
...
…
...
…
... المخلص المتعاني في حبكم
…
...
…
...
…
...
…
عبد العزيز نصحي عبد المجيد
…
...
…
... أمين مخزن الجمية الزراعية الملكية بأشمون
…
(جواب المنار)
أقول ما ذكر السائل من المبالغة في الثناء والتفضيل، فليس مما يثبت في
نفسه بما ذكره من دليل، وأما دعاؤه فأسأله تعالى أن ينفعني به ويجزيه عني خيرًا
وأما السؤالان: فأجيب عنهما بالاختصار؛ لما سبق لنا في موضوعهما من تفصيل.
***
عقيدة النصارى في خطيئة آدم وفداء المسيح
اعلم أولاً أن هؤلاء الدعاة للنصرانية الملقبين بالمبشرين جيش من جيوش
الدول الغربية؛ لفتح البلاد الشرقية ولاسيما الإسلامية كما قال لورد سالسبوري
الوزير الإنكليزي الشهير: (إن مدارس المبشرين أول خطوات الاستعمار، فأول
ما يحدثونه في البلاد التي ينشرونها فيها تفريق الكلمة، وإيقاع الشقاق بين الشعب
الواحد حتى ينقسم على نفسه، ويكون بعضه لبعض عدوًا) . هذا، وإن الله تعالى
قد أكمل دينه الذي أرسل به جميع رسله بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، حتى
لو كان موسى وعيسى وغيرهما من الرسل أحياء، لما وسعهم إلا اتباعه صلى الله
عليه وسلم، فلا يجوز لمسلم أن يقرأ شيئًا من كتب هؤلاء المبشرين، ولا أن
يضيع وقته بمجادلتهم؛ لأنهم بجملتهم جند مستأجر؛ للإفساد في الأرض كما علمنا
بالاختبار، وإن شذ بعض الأفراد.
ثم اعلم أن عقيدة كون المسيح جاء ليفتدي البشر من خطيئة آدم؛ هي عقيدة
وثنية قديمة كما هو مفصل في كتاب (العقائد الوثنية في الديانة النصرانية) ،
ومثلها عقيدة التثليث، وأن مستقلي الفكر من علماء النصارى في أوربة وغيرها،
لا يعتقدون هذا ولا ذاك، ولا ما يتعلق بهما من البدع كالعشاء الرباني، وتحويل
الخبز إلى لحم المسيح والخمر إلى دمه حقيقة بمجرد القداس الذي يتلوه الكاهن أو
بدونه؛ لأن كل ذلك مخالف لبداهة العقل ومدارك الحس جميعًا، ومخل بعظمة الله
وتنزيهه عن الظلم والحلول في أجساد خلقه، فبعض أحرارهم فند هذه العقائد
الخرافية بكتب كثيرة، وبعضهم يسكت للجمهور عليها؛ لئلا تكون معرفة العوام
ببطلانها سببًا لمروقهم من الدين، واستباحتهم لجميع الرذائل والمعاصي المفسدة
للعمران.
أذكر أنه كان لهؤلاء المبشرين مدرسة في باب الخلق، فبينما كنت مارًّا من
أمامها منذ 29 سنة، قال لي رجل منهم: تفضل واسمع كلام الله، فدخلت، فإذا
بخطيب يقرر لهم عقيدة الصلب والفداء، فلما أتم كلامه قمت بجانبه، وقلت له:
اسمح لي أن أعيد عليك ما فهمته منك؛ لتعلم هل كان فهمي صحيحًا كما أردت أم
لا؟ فأذن، فقلت:
ملخص كلامك: أن الله تعالى وقع في مشكل عظيم بعد خلقه لآدم وعصيان
آدم له؛ وهو أنه لما كان سبحانه رحيمًا كامل الرحمة، وعادلاً كامل العدل، رأى
أنه إذا عاقب آدم لا يكون رحيمًا، وإذا عفا عنه لا يكون عادلاً، فظل يتفكر في
استنباط وسيلة للجمع بين العدل والرحمة، حتى اهتدى إليها بعد ألوف من السنين
وذلك في السنة التي ولد فيها المسيح، وهذه الوسيلة هي أن يعذب المسيح المعصوم
من كل ذنب بعذاب الصلب، وقبول اللعن، ودخول الجحيم - المسجلين في الكتاب
على كل من يصلب - لأجل إنقاذ آدم وذريته من عذاب تلك الخطيئة التي لحقت
بهم كلهم على دعواكم، وبذلك جمع بين العدل الرحمة.
ولكنني رأيت أن الظاهر المتبادر من هذه الحكاية؛ أن الرب سبحانه وتعالى
قد فقد كلاً من العدل والرحمة بتعذيبه للبريء وعفوه عن المذنب بل عن الملايين
من المذنبين، فضلاً عما يلحقهم من خطيئة آدم على زعمكم.
ثم إنه مع هذا لم يتم للرب تعالى عما تقولون ما أراد من الرحمة ببني آدم؛
لأنكم تقولون: إنه لا ينال نعمة النجاة من العذاب بهذا الفداء إلا من صدق، هذه
الحكاية غير المعقولة وغير اللائقة بجلال الرب وعظمته وتنزهه عن كل نقص،
ومن المعلوم عندنا بالضرورة أن أكثر بني آدم لم يصدقوها، فإذًا لا بد أن يعذبهم
الله بذنب آدم، حتى من كان منهم لم يعص الله تعالى قط، فهل تدعوننا لأن ننسب
كل هذا الجهل والحيرة والفشل إلى الله تعالى الكامل المنزه عن كل نقص؟
فصاح المسلمون الحاضرون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وقال القس
المبشر: جوابي أننا غير مأمورين هنا بأن نجادل أحدًا، ولكن لنا مكتبا مفتوحًا؛
لأجل الجدال، فإذا زرتنا فيه نجيبك عن كل ما ذكرته، قلت: إننى على علم
برهاني فيما أقول وأعتقد، فلست بمحتاج إلى جوابكم عن شيء. ولكن كيف
تلقنون الناس ما يفسد عليهم إيمانهم بتنزيه الله وتعظيمه، وتتركونهم في ضلالهم
يعمهون إن صدقوكم؟
وإذا أراد السائل الفاضل أن يعرف فساد هذه العقيدة بالأدلة التفصيلية، فليقرأ
تفسير قوله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ
وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} (النساء: 157) .. إلخ من أواخر سورة النساء في
الجزء السادس من تفسيرنا، أو رسالة (عقيدة الصلب والفداء) المستخرجة من هذا
التفسير وهي مطبوعة على حدتها مع رسالة (نظريتي في قصة الصلب) للمرحوم
الطبيب محمد توفيق صدقي، ففيهما يجد القارئ ما لا يجده في الأسفار الكبار
المؤلفة في الرد على النصارى مؤيدة بالحجج من كتبهم وكتب أحرار علماء أوربا.
وأما سفك الدم في الأضاحي وأمثالها، فلم يشرع في الإسلام لمثل هذه
الخرافات الوثنية، وإنما شرع شكرًا لنعم الله تعالى علينا بهذه الأنعام بالتمتع بها مع
حمده وشكره وإطعام المحتاجين منها، وقد قال عز وجل فيها: {لَن يَنَالَ اللَّهَ
لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} (الحج: 37) ، فاقرأ الآية وما قبلها،
تجده صريحًا في ذلك، وقد فصلناه من قبل.
وأما ما ذكره المبشر من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند التضحية كذا
فهو كذب؛ يريد به إثبات الفداء في الإسلام بالمعنى الوثني الذي يقولون به.
***
أحاديث البخاري وحكم من أنكر شيئًا منها
لا شك في أن أحاديث الجامع الصحيح للبخاري في جملتها أصح في صناعة
الحديث، وتحري الصحيح من كل ما جمع في الدفاتر من كتب الحديث، ويليه في
ذلك صحيح مسلم، ومما لا شك فيه أيضًا أنه يوجد في غيرهما من دواوين السنة
أحاديث أصح من بعض ما فيهما، وما روي من رفض البخاري وغيره لمئات
الألوف من الأحاديث التي كانت تروى يؤيد ذلك، فإنما نفوا ما نفوا لينتقوا الصحاح
الثابتة. ودعوى وجود أحاديث موضوعة في أحاديث البخاري المسندة بالمعنى الذي
عرفوا به الموضوع في علم الرواية ممنوعة، لا يسهل على أحد إثباتها. ولكنه لا
يخلو من أحاديث قليلة في متونها نظر، قد يصدق عليه بعض ما عدوه من علامة
الوضع؛ كحديث سحر بعضهم النبي صلى الله عليه وسلم الذي أنكره بعض العلماء
كالإمام الجصاص من المفسرين المتقدمين، والأستاذ الإمام من المتأخرين؛ لأنه
معارض بقوله تعالى: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَاّ رَجُلاً مَّسْحُوراً * انظُرْ كَيْفَ
ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} (الفرقان: 8-9) وقد أجاب
الجمهور عن ذلك بما كانوا يرونه مقبولاً، لا يمس مقام الرسول صلى الله عليه
وسلم وعصمته. ويغنيكم عن التفصيل في هذا المقام ما فصلنا فيه في باب الفتاوى
من الجزء الماضي. هذا، وإن في البخاري أحاديث في أمور العادات، والغرائز
ليست من أصول الدين ولا فروعه، كما بيناه في تلك الفتوى.
فإذا تأملتم هذا وذاك، علمتم أنه ليست من أصول الإيمان ولا من أركان
الإسلام؛ أن يؤمن المسلم بكل حديث رواه البخاري مهما يكن موضوعه، بل لم
يشترط أحد في صحة الإسلام ولا في معرفته التفصيلية الاطلاع على صحيح
البخاري والإقرار بكل ما فيه، وعلمتم أيضًا أن المسلم لا يمكن أن ينكر حديثًا من
هذه الأحاديث بعد العلم به إلا بدليل يقوم عنده على عدم صحته متنًا أو سندًا،
فالعلماء الذين أنكروا صحة بعض تلك الأحاديث، لم ينكروها إلا بأدلة قامت عندهم
قد يكون بعضها صوابًا وبعضها خطأ، ولا يعد أحدهم طاعنًا في دين الإسلام.
وأما حديث (تعاد الصلاة من قدر الدرهم) يعني من الدم، فالذي في اللؤلؤ
المرصوع - نقلاً عن النووي - أن البخاري ذكره في تاريخه لا أنه رواه في
صحيحه، وما يدريك أنه ذكره في ترجمة أحد الوضاعين، واستشهد به على أنه
يروي الموضوعات.
وأما قول السائل: إن البخاري رفض أكثر من ستمائة ألف حديث فهو خطأ،
أخذه من قوله رحمه الله تعالى: (صنفت الجامع الصحيح من ستمائة ألف حديث
في ست عشرة سنة، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى) ولم تكن بقية هذه
الستمائة موضوعات عنده، بل كان منها الصحيح والحسن والضعيف، ولم يكن
يثبت في الجامع الصحيح كل ما صح عنده، بل كان من عنايته في أحاديثه فيه
اشتراط العلم باجتماع كل راو بمن روى عنه؛ لأجل الثقة بسماعه منه، ولم يكن
كل ما ذكره فيه على هذا الشرط بل الأحاديث المسندة بالأسانيد المتصلة، وكان
الذي يحفظه أكثر من ذلك، قال بعضهم: كان يحفظ ألف ألف حديث، وأحاديث
الجامع الصحيح المسندة أي غير المعلقات والمتابعات 7397 آلاف مع المكرر،
وإذا أضيفا إليها بلغت 9083 بالمكرر على ما اعتمده الحافظ ابن حجر في عدها.
***
حديث شد الرحال ومخالفة المسلمين له
(س12، 13) من صاحب الإمضاء في بلد الدية (السودان) .
سيدي الأستاذ المصلح فخر الإسلام والمسلمين، صاحب مجلة المنار السيد
محمد رشيد رضا: السلام عليكم ورحمة الله؛ إيفاء لما التزمتم به بالنصح لعامة
المسلمين، نرجوكم إفادتنا بالآتي:
1 -
الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه قوله صلى الله عليه وسلم:
(لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد
الأقصى) ما معناه؟
2-
أرى الناس يسافرون لزيارة أضرحة الصالحين، وكذا أناس يسافرون
لحفلات تقام في بعض عواصم المدن، وأناسًا يسافرون للخارج لحضور حفلات
تقام هناك، هل يصح منهم قصر الصلاة؟ أفتونا مأجورين، وابسطوا لنا القول
جزاكم الله خير الجزاء.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
كاتبه
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... علي إسماعيل
…
...
…
...
…
...
…
... ناظر محطة الدية سودان
(ج) الحديث رواه الجماعة كلهم من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري
وعبد الله بن عمر، ومعناه أن السفر إلى هذه المساجد الثلاثة مشروع وأنه غير
مشروع إلى غيرها، أما سبب ما أثبته من كونه مشروعًا إليها؛ فلما رود في
أحاديث أخرى من فضلها ومضاعفة ثواب الصلاة فيها وكذا غيرها من العبادات.
وأما كونه غير مشروع إلى غيرها؛ فإن العبادات لا تشرع إلا بنص وقد جاء
النص هنا بالمنع، وأما سببه وحكمته؛ فلأن غير الثلاثة من المساجد متساوية في
الفضل الديني، فالسفر إلى بعضها عبث، والذين يسافرون إلى أضرحة الصالحين
سواء أكانت في المساجد أم لا؛ لإقامة الاحتفالات هنالك لهم، وبأسمائهم يعتقدون أن
أضرحتهم والصلاة لديها أو في المساجد التي بنيت عليها له مزية فضل وثواب،
وهذا كذب وافتراء على الله، وشرع لم يأذن به الله والحق خلافه، بل يعتقدون أنهم
ينفعون من يزورها ويدعوهم لديها، ويدفعون عنه المضار، وفي ذلك من الشرك
والخرافات ما فيه، وقد بينا هذا بالتفصيل والدلائل في أجزاء كثيرة من المنار فلا
نعيده.
وأما استباحة رخص السفر من تيمم وقصر للصلاة، فمن اشترط في السفر
المبيح لها أن لا يكون لسفر معصية كالشافعية، لا يبيحها للمسافرين إلى الموالد
المعهودة والزيارات غير المشروعة، والمختار عندنا أن ذلك ليس بشرط.
نعم.. إن من سافر إلى مسجد آخر لسبب فني أو تاريخي أو علمي لا يدخل
عمله في عموم المنع؛ لأنه من المباحات لا من القربات والعبادات، فالعبادة هي
التي يشترط فيها ما ذكر، وكذا من يسافر إلى المساجد التي اتخذت مدارس كالأزهر
وجامع الزيتونة لأجل طلب العلم، فإن طلب العلم في كل المساجد مشروع، والله
أعلم.
***
حقوق الوالدين وحد عقوقهما
(س15) من صاحب الإمضاء في دنقلة السودان.
سيدي الفاضل الشيخ رشيد رضا، نفع الله به العباد:
السلام عليكم يا سيد ورحمة، وبعد: نرجو إفتاءنا بما هو آت:
إن حقوق الآباء على الأبناء غامضة بحسب نظر الكثيرين، وكثير من الآباء
يتطلب الدخول في كل شخصيات ابنه بدعوى هذا الحق المبهم، كما أن جل الأبناء
يريدون الحرية المطلقة في المعاملات والمجاملات، فوافونا في مجلتكم المنار بما
جبلتم عليه، وأرشدونا لكتاب يشفي العليل مع استقصاء الحد للعقوق وحكمة ذلك،
وهل للأب أن يأمر ابنه بمقاطعة أحد من المسلمين؛ بدعوى عدائه له؟ والله
يحفظكم.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... المخلص
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... أحمد النجار
…
...
…
...
…
...
…
... المدرس بالجامع بدنقلة
(ج) هذا موضوع كبير، لا يمكن بسطه إلا في سِفْر كبير، ويمكن لمن
اطلع على الآيات الواردة فيه في سورتي الإسراء ولقمان، وكان فقيه النفس أن
يستغني بها في معرفة حقوق الوالدين، فكيف إذا أضاف إليها الأحاديث الصحيحة
فيها وفي كون العقوق من أكبر الكبائر، وأمثل كتاب بَيَّن الموضوع بيانًا وسطًا
مفيدًا، هو كتاب (الزواجر عن اقتراف الكبائر) للفقيه ابن حجر، فليراجعه
السائل في كتاب النفقات من الجزء الثاني منه.
بدأ الكلام في الكبيرة 302 وهي عقوق الوالدين بالآيات الكريمة الواردة في
الأمر بالإحسان بالوالدين، مقترنًا بالأمر بعبادة الله وعدم الشرك به، وأمره تعالى
بالشكر له وللوالدين مقترنين، ثم بالأحاديث في برهما، وجعل عقوقهما من أكبر
الكبائر، ثم بآثار السلف وأقوال بعض العلماء والأدباء في ذلك، ثم تكلم في حد
العقوق الذي هو كبيرة، قال: وهو أن يحصل منه لهما أو لأحدهما إيذاء ليس
بالهين عرفًا، ويحتمل أن العبرة بالمتأذي (أي لا بالعرف) . لكن لو كان في غاية
الحمق أوسفاهة العقل، فأمر أو نهى ولده بما لا تعد مخالفته فيه في العرف عقوقًا،
لا يفسق ولده بمخالفته فيه لعذره. وعليه لو كان متزوجًا بمن يحبها، فأمره
بطلاقها ولو لعدم عفتها فلم يمتثل أمره، فلا إثم عليه) .. إلخ، ثم نقل فتوى من
شيخ الإسلام السراج البلقيني في الموضوع، وعسر تحديده أي لاختلاف العرف
والآراء والشعور والمصالح فيه - وذكر له بيانًا تفصيليًّا لدرجات العقوق ناقشه فيه.
ولعل كل هذا وأمثاله مما ذكره المتقدمون، لا يغني السائل عما فصلناه في
هذه المسألة في تفسير قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَاناً} (النساء: 36) من سورة النساء؛ لأنهم لا يشرحون ما عليه أصناف
الناس المخاطبين بالأحكام في طباعهم وآدابهم، واختلاف معارفهم وشعورهم
ومصالحهم، وقد أشار السائل إلى ذلك في سؤاله، فأكثر الوالدين ولا سيما الآباء
يظنون أنهم بصفة الوالدية أو الأبوة يجب أن يكونوا أعلم وأعقل وأكيس من أولادهم
، وإن تعلم أولادهم من علوم الدين والدنيا ما لم يقفوا على شيء منه، وكانوا أذكى
وأكيس منهم في كل شيء، بل يظنون أنه يجب على الولد أن يطيع والده في كل
شيء، وإن خالف الشرع والعقل والمصلحة العامة والخاصة والوجدان لأنه والد،
كما أن بعض الأولاد في هذا الزمان من لا يقيمون لبر الوالدين وزنًا، ولا يراعون
لكرامتهما وشعورهما حرمة، مع أن الله تعالى أوصى حتى بالوالدين المشركين
الداعيَين إلى الشرك مع عدم طاعتهما، فقال: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي
مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} (لقمان: 15) فمن
اضطر إلى مخالفة أحد والديه بحق، فينبغي له أن يتلطف ويراعي الذوق والأدب
ولا يصادمه بالعنف، ومنه يعلم ما ينبغي له إذا أمره بمعاداة من لا يجوز معاداته
شرعًا أو بغير ذلك من المحرمات، ومن المعلوم من الدين بالضرورة قوله صلى
الله عليه وسلم: (لا طاعة لأحد في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف) رواه
البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن علي مرفوعًا، وليراجع السائل عبارتنا في
التفسير من ص 84 من الجزء الخامس إلى ص 90.
***
حكم الثياب الحازقة التي تصف العورة
(س 14) من صاحب الإمضاء في بيروت.
حضرة صاحب الفضل والفضيلة: سيدنا ومولانا العالم العلامة الإمام مفتي
الأنام ومرجع العلماء الأعلام شيخ الإسلام، الأستاذ الجليل السيد محمد أفندي رشيد
رضا صاحب مجلة المنار الغراء، حفظه الله تعالى.
السلام عليك ورحمة الله وبركاته، وبعد: فما قولكم دام نفعكم في البنطلون
الإفرنجي؛ إذا كان يظهر منه جرم العورة كالقبل والدبر وغيرهما، بحيث يكون
ضيقًا كثيرًا، فهل ظهور ذلك الجرم حرام؛ لأنه مثار للشهوة أم مكروه أم جائز؟
أفتونا مأجورين.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... السائل
…
...
…
...
…
...
…
... عبد الحفيظ إبراهيم اللاذقي
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... ببيروت
(ج) لبس الثياب الحازقة الضاغطة مكروه طبًا؛ لضرره بالبدن، وشرعًا
لضررها، ومضايقتها للمصلي، حتى إن بعضها يتعذر السجود على لابسه، فإذا
أدى لبسها إلى ترك الصلاة حرم قطعًا ولو لبعض الصلوات، وقد ثبت بالتجارب
أن أكثر من يلبسونها لا يصلون أو إلا قليلاً كالمنافقين، حتى إن منهم من يعتذرون
عن الصلاة؛ بأنها تحدث في السراويل (البنطلون) تجعدًا يشوه منظره، سمعنا
هذا بآذاننا من كثيرين؛ فإذا كانت مع هذا تصف السوأتين إحداهما أو كلتيهما، كان
التغليظ في لبسها أشد، وقد نهى سيدنا عمر رضي الله عنه عن لبس ضرب من
قباطي مصر الضيقة؛ وعلل ذلك بقوله: فإن لا تشف فإنها تصف، أي فإن لم تكن
رقيقة تشف عما وراءها من البدن فيرى فإنها بضيقها تحكي العورة وتصف شكلها
وحجمها. ولكن المفتونين اليوم بهذه الطرز (أو المودات) من الثياب، يقصدون
هذه العيوب الشرعية والطبية قصدًا لأنهم أسرى الشهوات وعبيد العادات، ولهم من
دعاة الإلحاد والإباحة من يرغبهم فيها، ويفضلها لهم على غيرهما بأنها من الجديد
اللائق، بمجددي الفسق والفجور وليست من العتيق البالي المذموم لأنه قديم.
***
كلمة: الله ورسوله أعلم
س 15 من عدن
بسم الله الرحمن الرحيم
لحضرة الأستاذ الكبير العلامة الشهير، السيد محمد رشيد رضا صاحب
مجلة المنار الغراء، بعد إنهاء كامل التحية عليكم ورحمة الله وبركاته، فإن أخاكم
وصديقكم الشيخ أبا بكر بن عبد الله باعشن بارحيم العدني، قد كلفني حين مروري
عليهم بعدن بسؤال أرفعه لحضرتكم بعد وصولي مصر، ثم إنه ألح علي ثانيًا - وأنا
هنا أيضًا - بذلك، فالرجاء من منصبكم العالي إتحافه وإيانا بالكلام على ما ذكر
مفصلاً مقرونًا بالدليل، وإن نشرتموه في مجلتك فهو أولى؛ ليعم النفع به للمسلمين،
وهذا نص السؤال: ما تقول السادة الفضلاء وبالخصوص منهم السيد رشيد رضا
رضي الله عنه وأرضاه؛ في قول القائل: الله ورسوله أعلم، هل يجوز إسناد العلم
شرعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في مثل هذه الصيغة، واستعمال
ذلك مطلقًا أو هو خاص به ما دام حيًا؟ فإن قلتم بالثاني، فما معنى عرض أعمالنا
عليه صلى الله عليه وسلم في كل أسبوع، أفتونا بالدليل لا زلتم كشافين المشكلات،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
صاحب الإمضاء
…
...
…
...
…
...
…
... محمد بن سعيد غباش
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... السلفي العماني
(ج) كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه يسأل أصحابه عن شيء لا
يعلمونه أو لا يعلمون مراده من السؤال، يقولون في جوابه الله ورسوله أعلم كما
سألهم يوم النحر في منى: (أي يوم هذا) ، فظنوا أن سؤاله تمهيد لتسميته بغير
اسمه الذي كان في الجاهلية بأمر من الله تعالى، فقالوا: الله ورسوله أعلم، ولم
يكونوا يقولون هذا لكل سؤال عن أي أمر، وإنما كان المسئول يجيب بما يعلم أو
يقول: لا أدري أو الله أعلم، ومن المعلوم من الدين بالضرورة أنه لا يعلم أحد كل
شيء إلا الله خالق كل شيء، فمن قال في جواب كل سؤال: الله أعلم، سواء أجاب
بما عنده أم لا، كما يختم كثير من العلماء فتاواهم بقولهم الله أعلم، فقد صدق
وأصاب، ومن قال مثل هذا في النبي صلى الله عليه وسلم كان قائلاً ما لا علم له به،
ولا يجوز لأحد أن يقول بغير علم، ومتى علم السائل والمسئول عنهم سبب قول
الصحابة لتلك الكلمة في مواضعها التي بيناها، ظهر لهم أن اتباعهم فيها اليوم في غير
محله، فتركوه إن شاء الله تعالى.
وأما حديث عرض الأعمال على النبي صلى الله عليه وسلم الذي تسمعونه من
بعض خطباء الجمعة (حياتي خير لكم) .. إلخ، فهو مرسل رواه ابن سعد عن
بكر بن عبد الله وغير صحيح، فلا يحتج به ولا سيما في مسائل تتعلق بعالم الغيب
وهو من المسائل الاعتقادية، ولو صح اتصاله وسنده لما كان حجة على إسناد كل
شيء إلى علم النبي صلى الله عليه وسلم ، كإسناده إلى علم الله تعالى.
_________
الكاتب: طبيعي
بحث في الطبيعة
النشأة الأولى [*]
إذا أراد الإنسان أن ينظر في نفسه وما حوله؛ ليتأمل في الوجود ونشأته،
وما في الطبيعة من مخلوفات، يرى نفسه قد خلق من نطفة، وأصله أبونا آدم عليه
السلام، وقد خلق من تراب، يرى في السماء والأرض وما بينهما مخلوقات كثيرة
الأنواع سائرة في حياتها بنظام متحد، والبعض منها له مواعيد منتظمة، وكل نوع
من هذه المخلوقات كالإنسان والحيوان والنبات والجماد إلخ خلقت بشكل منتظم،
وصنع دقيق؛ يزعم بعض الطبيعيين أن هذه الطبيعة وُجدت من تلقاء نفسها أو من
لا شيء، ونسائلهم: هل نظامها وجد معها أيضًا في كل نوع من المخلوقات؟ وإذا
حدث ما يخل بنظام شيء منها، كيف يعاد نظام سيرها؟ لو صح زعمهم لما أمكن
سير الطبيعة في نظامها سنين طويلة، ولرأينا منها اعوجاجًا واختلافًا كثيرًا من
حين لآخر؛ إذ أمد من حاد منها عن نظام سيرها لا يهتدي لطريقه، ولضل عنه
واضطرب في سيره.
بل الحقيقة أن المخلوقات التي نشاهدها في الطبيعة على اختلاف أنواعها،
خلقت بدقة ونظام، وهي تحيا حياة منتظمة مما يدل على أن نظامها هذا سائر بقوة
كبيرة جدًا تديره بعناية تامة ولا تفتر عنه لحظة واحدة، وهذا القدرة العظيمة لا
تراها العيون، ولا تدركها العقول.
وإذا رجع الإنسان إلى تاريخ أصله، يجد بالكتب السماوية قصة آدم من وقت
نشأته، ومنها يعرف أن الذي أنشاه وصوره في أحسن صورة إله عظيم الشأن، هو
صاحب هذه القوة العظيمة، وهو الخالق لهذا الكون الكبير وما فيه من مخلوقات.
عاش آدم في الأرض، وعلّم بنيه بما علم، وعرفهم ربهم لعبادته وتكاثر
النسل جيلاً بعد جيل، حتى صارت الذرية قبائل وشعوبًا في أنحاء الأرض،
وبعضًا منهم أغواهم الشيطان وأضلهم، فبغوا وطغوا وازدادوا في الأرض فسادًا،
ولقد اتخذ بعض المضلين منهم آلهة من دون الله، وهم لا يملكون لأنفسهم ضرًّا ولا
نفعًا، فأنذرهم ربهم وحذرهم بأن أرسل لهم رسلاً مبشرين ومنذرين، يرشدونهم
للطريق القويم، ويأمرونهم بالإيمان بالله الذي خلقهم وخلق هذه الكائنات، واتباع
أوامره، ومن عهد آدم للآن أرسل الله تعالى الرسل للناس في أوقات مختلفة،
وأنذرهم بالإيمان بالله الذي خلقهم ولطاعته، فبعضهم كفروا بالله وأنكروه ولم يؤمنوا
لهم استكبارًا وعنادًا، ولقد كان في الناس أمم شديدة البأس، ظلموا أنفسهم بما كفروا،
فأخذهم الله بظلمهم {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (الكهف: 49) ، وصاروا عبرةً
لأمم من بعدهم.
بعد الذي ذكر ما على الإنسان إلا أن يؤمن بما أنزل الله تعالى من كتب على
رسله الكرام من عهد آدم للآن، وعليه أن يعلم بما أمره أخيرًا بكتابه المنزل على
رسوله آخر الأنبياء {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) ، وبذلك يعتبر نفسه مؤمنًا بالله وكتبه ورسله جميعًا.
إن من يؤمن ببعض ما أنزل الله، ويترك البعض كالذين لا يؤمنون بالقرآن
لأي سبب كان، يدل على أنه مكابر، وقد ظلم نفسه أو لم يعقل شيئًا في نظام
الوجود، وليس له عذر بل عليه أن يبحث ويسأل أولي الألباب إذا كان لم يفهم ما
جاء بالكتب السماوية، ولا ريب أنه تظهر له الحقيقة، أما إذا عاش جاهلاً في
طريق حليته دون أن يفكر فيها، فقد جازف بنفسه في طريق الضلال دون أن
يشعر، وربما تمادى في جهله وتبعه بعض الجهلاء؛ لعقيدة حسنت في نظرهم،
وهو في الحقيقة كسراب اغترت به أنظارهم، وتمشت معها أفكارهم، وصاروا
حزبًا من الأحزاب له مبدأ العقيدة وبرنامج الطريق.
ومن هنا، اختلف الناس في عقائدهم في الأزمان الغابرة، فإذا بحثنا في مبدأ
كل عقيدة على ما جاء بالكتب السماوية، وجدنا أنها أجمعت على أن الله سبحانه
وتعالى إله واحد لا شريك له في ملكه، ولنترك ما قيل فيها للذين يعقلون، ولنجعل
بحثنا في الطبيعة ونظام الحياة فيها، فالناس جعلهم الله تعالى قبائل وشعوبًا وولى
عليهم ملوكًا وحكامًا، وزين للناس حب البنين ليكونوا لهم ورثة من بعدهم، ولا
يكتفي الإنسان من الذرية بواحد أو اثنين، بل يلتمس المزيد، وكذلك الملوك
يلتمسون من البنين والحفدة أكثر من واحد حفظًا لملكهم، حتى إذا خلا ملكهم من
الوراث الأول شغله الثاني وهكذا؛ لكيلا يأخذه ملك غريب، أو يغتصبه قوي رقيب.
علمنا أن الله تعالى إله واحد ولا شريك له في ملكه، وأنه يحيي ويميت؛
لأنه على كل شيء قدير، وهو باق لا يموت أبدًا، وكل مخلوق في هذه الحياة
سيفنى بانحلال عناصر حياته أو بموته، والأرض وما عليها من ميراث ونعيم
يرثها رب السموات والأرض، ثم بإذنه تعالى تحيا الناس في الآخرة حياة أبدية،
وفي مبدئها يحاسبهم ربهم على حياتهم الأولى، ويفعل ما يشاء بهم حسبما بشرهم
وأنذرهم في كتبه السماوية، ومما ذُكر يُعلم أن الله سبحانه وتعالى حقيقة غني عن
كل شيء، وقادر على كل شيء، وملك ومالك لملكه يفعل به ما يشاء {كُلَّ يَوْمٍ
هُوَ فِي شَأْنٍ} (الرحمن: 29) ، ولا وارث له إلا هو؛ لأنه باق لا يفنى.
ومن العقائد القديمة التي سار الناس عليها بالوراثة للآن؛ اعتقاد النصارى
بأن لله تعالى ولدًا - وحاشا لله أن يكون له ولد لأنه غني عن ذلك - ونسائلهم في
عقيدتهم هذه: لأي شيء يتخذ لنفسه ولدًا واحدًا؟ ولماذا لم يتخذ أكثر من ذلك وهو
قادر على كل شيء؟ وكيف يسمح بصلب ولده والتمثيل به؛ فداء للعالم مع أنه
سبحانه وتعالى فدى إسماعيل بكبش، ولم يرض بتضحيته في سبيل طاعته؟ وهل
يعز العالم على ولده فيتركه لأعدائه يمثلون به تمثيلا؟ إن ذلك لا يعقل أبدًا؛ إذ لا
يوجد مخلوق يرضى بتسليم ولده لأعدائه لا سيما إذا كان وحيدًا والله أعز وأرحم
وأعدل، وحيث إن الله تعالى قادر على كل شيء، فهو قادر على أن يغفر لمن
يشاء من خلقه خطاياهم بدون حدوث فداء لأحد من العالمين، ولقد خلق في
السموات ملائكة يسبحون بحمده ويستغفرون لمن في الأرض كما ذكر في القرآن
الشريف.
ثم إن حقيقة مسألة الصلب؛ هي أن الذي صلب كان أكبر أعداء المسيح،
فأراد الله تعالى رفع المسيح إلى السماء، وألقى شبهه في الخلقة على الذي صلب،
فبحث الأعداء عن المسيح للتنكيل به، فوقع الذي هو شبهه في أيديهم، وعرفهم
باسمه الحقيقي. ولكنهم لم يصدقوه فأخذوه وصلبوه ودفنوه بعد موته، فإذا قالت
اليهود والنصارى: إن ما نجادلهم فيه مذكور في الكتب السماوية التي تؤمن بها،
لقلنا لهم: إن ربنا أرسل كتبه بالحق لا يقول إلا الحق للذين يعقلون، وعليهم أن
يبحثوا عن حقيقة ما أسند إلى الله تعالى بغير الحق، وأن لا يتبعون إلا ما يجدونه
أمامه حقًا؛ إذ ربما حصل شيء لم يكن في الحسبان، وخال على قوم كانوا في
غفلة منه فضلوا الطريق القويم، وضل من تبعهم من الذرية بغير علم.
ويدهشني أن يعرف بعض الناس الحقيقة ولا يرضى بها؛ إما حياء من
عشيرته أو اقتناعًا بميراث أبيه من الدين وإن كان على غير هدى، وبذلك يضحي
بنفسه في سبيل آبائه وأجداده، والله تعالى أحق منهم بذلك؛ إذ خلقه ورباه ووالاه
جنينا في بطن أمه قبل أن يراه والده ثم طفلاً ورجلاً وكهلاً، وهو الذي أحياه مدى
عمره ثم يميته ثم يحييه تارة أخرى كما ذكر آنفًا. أفبعد ذلك يقول: أتبع أبي إلا إذا
كان على غير هدى من ربه؟ وكل إنسان مسئول عن نفسه لا ينفعه أحد إلا إيمانه
وعمله.
وفي الختام نسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يرضاه، ويحسن لنا العاقبة ولجميع
المسلمين إنه سميع مجيب.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... طبيعي
_________
(*) لصاحب الإمضاء الرمزي، نشرناها لسهولتها وسذاجتها بحيث يفهمها كل عامي.
الكاتب: محمد رشيد رضا
دعوة المنار السنوية إلى انتقاده
فاتنا التصريح في فاتحة الجزء الأول وفي خاتمته بهذه الدعوة؛ لأننا
اضطررنا إلى إطالة الفاتحة، حتى احتجنا إلى الحذف منها، وإلى إعادة جمعها
بحرف صغير بعد جمعها بحرف كبير.
فنقول الآن: إننا نرغب إلى قراء المنار، بل نطالبهم بأن يكتبوا إلينا ببيان ما
يرونه من الخطأ في مباحثه ولا سيما مسائل الدين ومصالح الأمة العامة؛ بشرط أن
يقتصروا في بيانهم على موضع الخطأ ووجه الصواب فيه بالدليل من غير مقدمات
ولا استطرادات، ونعدهم بأننا ننشر لهم ذلك ونقفي عليه: إما بقبوله والرجوع إليه
إذا ظهر لنا أنه الحق، وإما ببيان ما عندنا من الرد عليه ولو من بعض الوجوه دون
بعض.
وبهذه المناسبة، نصرح بأنه جاءنا في العام الماضي كتاب من أحد أعضاء
الجمعية المؤسسة في برلين - ألمانيا - يؤنبنا فيه على ما كتبناه من استنكار أمرها
في دعوتها إلى الخلافة وجمع أموال الزكاة من جميع أقطار العالم الإسلامي، وما
هذا الذي كتبه برد ولا بيان لحقيقة حال الجمعية وإنما هو انتقام من المنتقد بسبه
وشتمه، فكيف يتصور عاقل أن يُشتَم إنسان ثم يحمله على نشر شتمه في صحيفته؟
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
أعداء الإسلام المحاربون له في هذا العهد
للإسلام أعداء كثيرون من أهله ومن غير أهله، كلهم يحاربونه ويسعون
لإطفاء نوره، وخضد شوكته، وتمكين أعدائه من مقاتله. منهم من يسعى لهذا
عالمًا به متعمدًا له، ومنهم الجاهل غير المتعمد، والجاهل الذي يظن أن ينصره
ويدافع عنه.
ويمكننا أن نحصر هنا هؤلاء المحاربين للإسلام في تسعة جيوش: ثلاثة من
الأجانب، وخمسة من المسلمين - وأعني المسلمين الجغرافيين أو الرسميين - أي
الذين يعدون في الإحصاء العام لأهل كل قطر من المسلمين.
فأما الأجانب منهم فهم: المستعمرون والمبشرون (دعاة النصرانية)
والمعلمون منهم لأولانا في مدارسهم ومدارسنا.
وأما المسلمون الجغرافيون فقسمان: منهم قدماء طال عليه العهد وهم مقلدة
الكتب الجامدون ومشايخ الطرق المبتدعون ، وقسمان منهم حدثوا بعد ذلك وهم:
المتفرنجون والملحدون ، والقسم الثامن دعاة التجديد والثقافة الناسخة لما قبلها، وهو
آخر جيش تألف لمحاربة الأديان كافة والإسلام خاصة ، والقسم التاسع المتفرنجات
من النساء وهو الآن في طور التكوين، على أن هذه الأقسام يتداخل بعضها في
بعض.
من المفروض على المنار أن يكافح جميع أعداء الإسلام المهاجمين له في
عقائده وتشريعه وآدابه وملكه ولغته، وهو منذ أنشئ قائم بأعباء هذه الفريضة
على قلة النصير والظهير، وقد بدأنا في السنين الأولى بجهاد أعداء دينهم وأنفسهم
من المسلمين، فدعوناهم إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلناهم بالتي
هي أحسن، ثم خضنا معامع مهاجمي الأجانب ولا سيما دعاة النصرانية
(المبشرين) ، فكان من أبواب المنار المفتوحة في كل جزء باب (شبهات
النصارى وحجج الإسلام) ، كما كان من أبوابه فيها باب (البدع والخرافات
والتقاليد والعادات) ، وفي أثناء ذلك كنا نلم المرة بعد المرة بمضار التفرنج
الصورية والمعنوية والاجتماعية، ثم ظهرت مفاسد الملاحدة من المتفرنجين؛
بمجاهرتهم بمهاجمة الدين في المحاورات والخطب تلقى في المحافل، والمقالات
تنشر في الجرائد، فنهد إليهم المنار متتبعا عوارهم مقلمًا أظفارهم، مبينًا مفاسدهم
ومضارهم.
وماذا عسى أن يبلي قلم واحد في صحيفة واحدة؛ يناضل هؤلاء المهاجمين
الكثيرين؟ جهد المقل، وأداء فرض كفاية أو فروض كفايات، تأثم الأمة الإسلامية
كلها بتركها، وما كان عمل المنار بدافع هذا الإثم عن جميع شعوبها في جميع
أقطار الأرض التي ظهرت فيها تلك الإغواءات النصرانية والإلحادية والبدعية،
وإنما كان يغني عنهم ويدفع لو كان منتشرًا كانتشارها، يصل إلى كل من تصل إليه
منهم بنفسه أو بترجمة ما ينشره، على أن هذه المفاسد تظهر في كل بلد أو قطر؛
بشكل قد يحتاج في رده وبيان بطلانه إلى عبارات وحجج غير التي يحصل بها
المراد في قطر آخر.
نعم.. إن بعض الجرائد الهندية كانت أكثر الجرائد الإسلامية عناية بالترجمة
عن المنار، وإن بعض أصدقائه قد نهض بمساعدته في تفنيد شبهات المبشرين،
وإبطال دعوتهم، وتخسير دعايتهم، وفي الرد على ملاحدة المسلمين أيضًا - ألا
وهو الطبيب محمد توفيق صدقي تغمده الله تعالى برحمته، وكل ما نشر لغيره من
أصدقاء المنار في مجلداته الثمانية والعشرين، لا يوازي بعض ما نشر له في مجلد
واحد، إنما الذي يفوقه قدرًا وتأثيرًا؛ ما نشرناه لشيخنا الأستاذ الإمام أجزل الله
ثوابه، ولا سيما مقالات الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية.
ولم يكن هذا التقصير من قلة حملة الأقلام من طلاب الإصلاح الإسلامي الذي
يدعو إليه المنار، فإنه أنشئ ليكون صحيفتهم، وقد كثروا بدعوته - ولله الحمد -
ولكن أكثرهم يرى خطأ أن اضطلاع منشئه يغنيه عن مظاهرتهم له، وبعضهم
غافل عن وجوب هذا التعاون.
هذا ما كان من قبل حرب المدنية الكبرى، ثم كان من عقابيل هذه الحرب أن
اشتدت وطأة جميع أعداء الإسلام، كل يحاول الإجهاز عليه من جهته، وينصر
بعض الأجانب منهم بعضًا عليه، فكان من عدوان المستعمرين الظافرين ما كان،
وشرحناه مرارًا آخرها ما أجملناه في فاتحة هذا المجلد إجمالاً أشد تأثيرًا من
التفصيل، وكان من جرأة المبشرين عقد المؤتمر في تلو المؤتمر جوار المسجد
الأقصى؛ لجمع كلمة الشعوب النصرانية، وتنظيم عمل الدعاة للإجهاز على الدين
الإسلامي، ونشر عبادة المسيح في جزيرة العرب عامةً والحرمين الشريفين خاصةً.
وأما مكافحو الإسلام من المتفرنجين والزنادقة الملحدين، فقد ابتدعوا دعاية
شرًا من دعاية المبشرين، وهي دعوة جمهور الأمة إلى التعطيل والإلحاد، وعلى
ما يترتب عليهما من الزندقة وإباحة الأعراض والأموال، وانتهاك حرمات الفضائل
والآداب، وحل جميع الروابط التي تتكون بها الأمة من مقومات ومشخصات، لا
يراعي في شيء من اقتراف هذه المفاسد والمخازي إلا اتقاء عقاب الحكومة على
مخالفة قوانينها وإنما يراعي هذا من يخاف هذا العقاب لترجيحه اطلاع الحكومة على
جرمه وإثباته عليه وأكثر المجرمين يرجحون إمكان إخفاء جرائمهم أو تعذر إثباتها
في المحاكم - فهم يحاولون هدم الدين الإسلامي من جميع جهاته: الاعتقاد والتشريع
والآداب والفضائل، وكذا هدم سائر مقومات الأمة الإسلامية ولا سيما العربية من:
اللغة والزي؛ حتى لا يكون للأمة شيء من ماضيها تحافظ عليه بل حتى لا تكون
أمة؛ فإن الأمم بماضيها وتاريخها ومقوماتها الصورية والمعنوية بل منهم من يدعوها
جهرًا إلى ترك جنسيتها ووطنيتها والالتحاق بدولة أجنبية قوية كالإنكليز، دع من
يعملون لذلك سرًّا.
وحجتهم على هذا الإفساد كله؛ أن كل ما كانت به الأمة أمة في الماضي، قد
صار قديمًا باليًا ضارًّا، يجب أن يستبدل به غيره من الجديد، يقتبس من النظريات
والآداب والتقاليد والأزياء الأوربية، فهم يدعون إلى كل جديد، وينفرون من كل
قديم. متكلين في رواج دعايتهم على النابتة الجديدة من الشبان والشابات الذين
يتعلقون عادة بكل جديد؛ لطرافته ولذته؛ ولعدم رسوخ عقائدهم وآدابهم واستكمال
عقولهم، ثم على العوام الذين يتلذذون بكسر قيود الصيانة وإباحة الشهوات،
وناهيك بمسلمي بلادنا الذين ليس لهم حكومة تغار على عقائدهم وآدابهم وتربي
أولادهم عليها، وهم على فقدهم للحكومة الإسلامية الموصوفة بما ذكر لا الإسلامية
الرسمية، فاقدون لطبقة أهل الحل والعقد من السروات الذين يحافظون على مقومات
أممهم واستقلالها ورفعة قدرها من جهة، ويقومون لها في كل طور وحال بما
يقتضيه من علم وعمل من جهة أخرى، فأمْر الناس فوضى ليس لديهم قواعد ثابتة
يلوذون بها عند اشتداد عصف هذه الرياح المتناوحة التي تهب عليهم؛ بما ينشر في
الصحف الضارة والمصنفات المفسدة، وقلما توجد في البلاد جريدة أو مجلة تتجنب
ما يضر الجمهور نشره في عقائدهم وآدابهم، وتتحرى ما تعتقد أنه النافع، دع
اختلاف آراء كتّاب هذه الصحف وأفهامهم وشعورهم في الضار والنافع الذي سببه
اختلاف التربية والتعليم والمعاشرة. ولكن يوجد جرائد يومية وأسبوعية ومجلات
تتوخى وتتحرى وتتعمد الدعاية إلى هذا الهدم والتجديد، على تفاوت بينها في
التصريح أو التعريض والتلويح، وأشهرها جريدة السياسة التي يكفلها الحزب الحر
الدستوري؛ المؤلف من أصحاب الدولة والمعالي والسعادة الوزارء والكبراء وكبار
رجال الحكومة.
ومثلها في ذلك بل أشد مجلة الهلال المشاركة لها في أشهر محرريها، التي
تدعي أنها لسان حال الشبان العصريين، ففي كل جزء من أجزائها عدة مقالات
لدعاة تجديد الإلحاد والزندقة والإباحة المطلقة، وقلما تنشر لغيرهم شيئًا يخالفه،
وحسبك أن سلامة أفندي موسى هو الركن الثابت المتين في تحريرها، وهي لا
تكتفي بما تنشر له من المقالات في ذلك، بل تطبع له في كل عام كتاب في تأييد
هذه الدعاية الهادمة للأمة المصرية؛ ولكل أمة شرقية تغتر بفلسفته المادية الإفسادية،
وترسله هدية إلى قرائها ترغيبًا لهم في قراءته. وقد زاد هذا الرجل على إخوانه
بأنه يدعو إلى خلع ثوبي الجنسية والوطنية، والانضمام إلى دولة أجنبية. ثم إنها
تنشر مجلات أسبوعية مصورة، تجرئ قراءها على نبذ كل عفة وصيانة وفضيلة
سمعنا عنها، وقرأنا في الأخبار من تفنيد لها، وإنه ليعز علينا أن يتنكب زميلنا
أميل أفندي زيدان منهج والده الفاضل في مراعاة العقائد والفضائل الدينية وسائر
مقومات الأمة، ولو في مجلة الهلال وحدها، إذا كان يصعب عليه ترك المال
العظيم الذي يجنيه من مجلاته الأخرى التي تزين للناس اتباع أهوائهم وشهواتهم،
وإننا كنا منذ سنتين ننوي بيان هذا بعد مجاهرته به حتى جاء أوانه.
ثم ظهرت منذ سنتين مجلة أخرى أشد جرأة على هدم الدين؛ والجهد بالطعن
فيه بسخافات من النظريات الفلسفية العصرية، وقد سبق لي تقريظ لها قبل غلوها في
المجاهرة، وأشرت إلى ما أنكره عليها، ثم ظهر من غرور صاحبها في دعوى
العلم والفلسفة ومن معرفة الدين أيضًا ما يقضي العاقل منه العجب. وما له بذلك من
علم ولا فلسفة، هي رأي ومذهب له يقدر أن يثبته ويدافع عنه وكذلك أمثاله، وإنما
يترجمون من بعض الكتب والصحف الإفرنجية بعض آراء أهلها ونظرياتهم،
ويأخذونها قضايا مسلمة بغير علم ولا بصيرة، وحسبنا دليلاً على هذا ما يردون
عليه من أمور الدين، ومنها ما هو افتراء يتبرأ منه الدين.
وقد اقتفت أثر هذه الصحف فيما ذكر مجلة حديثة أنشئت في حلب، فأنكر
عليها بعض الناس هنالك ما نشرته من حكاية طعن في الإسلام؛ لأن أكثرهم لا يزال
غافلاً عما تعنيه بالجديد والحديث والاستغناء به عن القديم، وأن المراد ترك الإسلام
من أساسه.
لا نريد في هذا المقال الرد على هؤلاء، وإنما نريد إعلام قراء المنار بحالهم
وبرواج إفسادهم في البلاد؛ بسبب الجهل بحقيقة الدين وعدم التربية عليه، مع عدم
التربية الاجتماعية والسياسية أيضًا، وأن نعلمهم مع هذا بأن بعض قراء المنار
ومحبيه، يقترح عليه أن نزيد فيه بعض الفصول العلمية والأدبية والمباحث الفنية
العصرية؛ لترغيب القراء من كل الطبقات في قراءته.
أعود إلى أول سياق المقال فأقول: إنه لولا جمود مقلدة الفقهاء الذين احتكروا
التعليم الديني في بلاد الإسلام منذ قرون، ولولا بدع أهل الطرق الصوفية
وخرافاتهم؛ وهم الذين كان سلفهم يعنون بالتربية الدينية؛ ليكون الدين وجدانًا عند
صاحبه لا يقبل البحث والجدل، فانقلب بعدهم إلى إفساد لا يقبل الإصلاح بحيلة من
الحيل؛ لولا هؤلاء وأولئك لما كان لهؤلاء المفسدين ولا للمبشرين أدنى تأثير في
إغواء المسلمين.
لئن كانت مقلدة المذاهب المعروفة هي بقية الآخذين بظواهر الإسلام، فما هذا
بمبرئ لهم من تهمة الجناية عليه والتنفير عنه في هذا العصر؛ باحتكارهم لأنفسهم
الحكم في كل شيء باسم الدين، وإيجابهم على الناس اتباعهم فيه، لتعودهم هذه
الرياسة منذ قرون؛ وهي رياسة ما أنزل الله بها من سلطان، وكان ضررها في
الزمن الماضي قليلاً فأصبح عظيمًا؛ إذ كان من أسباب ارتداد من لا يحصى عن
الدين، إلى أن تجرأت حكومة إسلامية عظيمة الشأن والتاريخ على الارتداد عنه،
ومحاولة محو أصوله وفروعه وآدابه، وكل ماله صلة به من أمتها، كما محته من
حكومتها؛ وهي حكومة مصطفى كمال التركية.
العلوم والفنون والصناعات العصرية لا يمكن لحكومة أن تحفظ استقلالها
بدونها، ولا يمكن لأمة أن ترتقي في زراعتها وتجارتها بدونها، ومنها ما هو
قطعي لا يمكن الشك في ثبوته، ولكن هؤلاء الفقهاء الجامدين يتحكمون في الحكم
على من يعتقد هذه القطعيات بالكفر، وهم الذين كانوا يعارضون الدولة العثمانية
وغيرها بالانتفاع بهذه العلوم والفنون؛ بدعواهم أنها معارضة للدين مخالفة للقرآن
حتى إنهم كانوا يحرمون علم الجغرافيا، مع أنه ليس في موضوعه ولا مسائله ما له
علاقة بالمباحث الدينية إلا أن يكون إثبات كروية الأرض ودورانها، وكان فيهم من
يقول: بتحريمه ويعارض الدولة في تعليمه إلى عهد غير بعيد، كما يُعلم مما روي
لنا عن العلامة الشيخ سليم بوحاجب التونسي؛ إذ سأله أحد الوزراء في الآستانة
عن حكمها، فقال: الوجوب، فكبر ذلك على عالم كان عنده وسأله عن الدليل،
فقال: أرأيت إذا كانت الدولة في حرب مع العدو، وأمر الخليفة وزيرَ الحربية أن
يضع بعض الضباط رسمًا لمواقع هذه الحرب وطرق الجيوش فيها، مما يتوقف
عليه درء خطر العدو ويرجى سبقه إلى المواضع الحصينة، (مثلاً) ، فهل تجب
طاعته في ذلك أم لا؟ قال: تجب، قال وهل يكن هذا لمن لا يعرف علم الجغرافيا؟
اهـ، بالمعنى، ويراجع نصه في ترجمته رحمه الله من المنار.
إن أمثال هؤلاء المتفقهة المحتكرين لعلم الدين والمنتصبين للدفاع عنه بغير
علم، يزيدون فيها ما ليس منه تقليدًا لبعض المؤلفين الميتين الذين درسوا في كتب
التفسير والحديث، وشر زياداتهم خرافات زنادقة اليهود والفرس في الخلق
والتكوين وصفة السموات والأرض والكواكب والرعد والبرق وجبل قاف وقرن
الثور والحوت وما أشبه ذلك، ثم قاموا يكفرون من يخالفهم في ذلك، فجعلوا هذه
الخرافات الإسرائيلية من أركان الإيمان الذي يخرج منكره من الملة، على أن الذين
ابتلوا بذكرها في كتبهم من المتقدمين؛ لغرامهم بكل ما روي لم يرفعوها إلى هذا
الأفق من أصول الدين ولا من فروعه، فكيف يقل إسلام هؤلاء من أعطاهم الله
تعالى علمًا يقينيًا بأن تلك خرافات باطلة؟
إن الأرض صارت معروفة للناس طولاً وعرضًا، مشاهدة بالعينين من أولها
إلى آخرها، وقد طاف حولها كثير من الناس مرارًا، يخرج أحدهم من مكانه
متوجهًا إلى الشرق مثلاً، فلا يزال يستقبل شرقًا ويستدبر غربًا حتى يعود إلى
مكانه من الجانب الآخر، ثم إن مراكز المخاطبات التلغرافية عمت شرقها وغربها
فكل قطر يعلم ما يتجدد من الأحداث المهمة من غيره كل يوم. أفبعد هذا يقول لهم
هؤلاء الجهال: يجب أن تدينوا الله بأن الأرض سطح مبسوط غير كروي ثابت
على رأس ثور.. إلخ.
إن مسألة شكل الأرض ليست من عقائد الدين ولا من أحكامه ولا من آدابه،
ولم يوجب الله تعالى على عباده أن يعتقدوا أنها كالرغيف أو لوح الخشب ولا أنها
كرة، ولا يسأل أحد يوم القيامة عن إيمانه بشكل الأرض، فإذًا لا يضره في دينه
أن يجهل شكلها، ولا يضره أن يعرفه بطريق من طرق المعرفة ولكن ينفع في
الدنيا، وإنما يزعم هؤلاء الجاهلون المفتاتون على الناس في دينهم؛ الملحقون به
ما ليس منه أن قوله تعالى: {وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} (الغاشية: 20)
ظاهر في أنها سطح لا كرة. قال الجلال في الأول وعليه علماء الشرع، وفي
الثاني أن عليه علماء الهيئة (لكنه قال) : وإن لم ينقض ركنًا من أركان الشرع.
والصواب أن كثيرًا من كبار علماء الشرع قالوا: إنها كرة، وأن قوله:(سطحت)
لا ينافي كرويتها؛ لأن للكرة سطحًا كغيرها من الأجسام، وأنه يوجد في القرآن
ما هو أظهر في الدلالة على الكروية منه على غيرها؛ كقوله تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ
عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} (الزمر: 5) ، وإنما التكوير في اللغة اللف
على الجسم المستدير كما بسطناه في مواضع أخرى. ومع هذا كله يوجد من هؤلاء
المفتاتين ومن مقلدتهم من يعدون الاعتقاد بكروية الأرض كفرًا بالله ومروقًا من دينه،
وهم يجهلون أن هذا المسألة أصبحت في هذا العصر من المسائل القطعية، فإن
الأدلة على كرويتها لا يمكن نقضها ألبتة، فإنكاره باسم الدين جناية على الدين.
نعم.. إنه يوجد كثير من أدعياء العلم الديني من يفتنون العوام بتكفير القائلين
بكروية الأرض، سواء كانوا من الفئة التي أوشكت أن تبيد من الأزهريين أو من
أمثالهم من مقذوفات سائر المدارس الدينية في الشرق والغرب، بل منهم من لا
يزال يقول: إن الأرض قائمة على قرن ثور، وإن الزلازل تحدث بهز رأس الثور
أو نقله إياها من قرن إلى قرن، ولكن أكثر المتعلمين في الأزهر على الطريقة
النظامية، صاروا يعرفون الحقيقة في ذلك.
وقد بلغني أن عالمًا من أجلّ علماء نجد وأوسعهم اطلاعًا على الكتب المختلفة،
قال بتكفير من يقول بكروية الأرض. وقد راعني هذا؛ لأن الذي نص عليه
الشيخ محمد عبد الوهاب إمام النهضة النجدية وغيره من علمائهم؛ أنهم لا يكفرون
أحدًا إلا بمخالفة الإجماع في المسائل الدينية القطعية، وهذه ليست مسألة دينية ولا
إجماع عليها. ولأن أكبر أئمة الحنابلة التي استمد الشيخ وخلفاؤه من كتبهم تجديده
للدين في نجد شيخا الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وقد ذكر الثاني في بعض كتبه أن
الأرض كروية، فهل يكفره هذا العالم إن صح الخبر عنه؟
هذه مسالة جناية المقلدين الجامدين على الدين، قد فتحنا بابها وتغلغلنا في
زوايا بيوتها منذ السنة الأولى للمنار سنة 1315، وإنما ذكرناه هنا لإثبات اشتراك
هؤلاء مع الملاحدة في هدم الإسلام من حيث لا يشعرون كما تقدم في صدر المقال
فهم يفتنون جميع المتعلمين على الطريقة العصرية الاستقلالية عن الإسلام من
جانب، ويقطعون الطريق على حكماء الدين الراسخين؛ أن ينشروا حقيقته التي لا
يمكن المراء فيها من جانب ثان، وأن يدحضوا شبهات الماديين والمبشرين عليه
من الطريق العلمية التي لا يمكن إقناعهم أو إلزامهم الحجة بدونها من جانب ثالث،
فماذا يفعل المنار ومن على منهج المنار، في مكافحة أولئك الكفار الفجار، والحال
ما ذكرنا؟
إنني أرى كثيرًا من أفضل رجالنا علمًا ودينًا وعقلاً يائسين من الإصلاح هنا
ولست موافقًا لهم على اليأس التام، وإذا كان هذا رأيي في أعضل أدواء مفاسد هذه
الأمة، فما دونه من مفاسد المبشرين عندي أهون، إنني أقول بإمكان تلافي الشر
إذا نهض القادرون عليه نهضة سريعة بنظام محكم، وذلك أن القوة التي تغلب كل
قوة في هذا العصر هي قوة الرأي العام للأمة، والرأي العام في مصر لا يزال
متدينًا، سواء في ذلك مسلموه وقبطه وغيرهم من النصارى واليهود ، والنصارى
منهم من جميع الفرق أشد اعتصامًا برابطتهم الدينية الاجتماعية من المسلمين؛ كما
بيناه من قبل في مقالاتنا (المسلمون والقبط) ، وقد طال هذا المقال فزاد على ما
قدرت له؛ لذلك أرجئ بيان ما ذكرت من الرجاء في انتصار التدين على الإلحاد،
والإصلاح على الإفساد، في مقال أفرده له في جزآت فقد آن لنا التصريح وعدم
تهيب سفهاء الكتاب المضلين، والوزراء والرؤساء المفسدين والله ولي المتقين.
_________
الكاتب: الزنكلوني
كلمة الأستاذ الزنكلوني
في تفسير القرآن الحكيم ومجلة المنار
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ العظيم السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة
المنار الإسلامية حفظه الله، وأدام النفع به آمين.
السلام على سيدي الصديق ورحمة الله، أما بعد: فقد طلع على العالم
الإسلامي في هذا الأيام الجزء الأول من تفسير القرآن الحكيم، الذي دبجه يراعك،
وأحكمه تفكيرك ورسوخك في علوم الدين، فقد أودعت فيه من آيات العلم والحكمة
ما يشهد لك بالنبوغ والتفوق على رغم من حسادك، ولقد كان من دلائل نصر الله
لك على الدوام أن تزداد ثقة الناس بك واقتناعهم بعظيم فضلك، كما برز لك أثر
جليل - وآثارك الجليلة لا تنقطع - وأن تشتد حاجتهم إليك وإلى قولك الفصل كلما
ظهرت فتنة عمياء، تكاد لشدتها تقضي على الكثير من الحق، وتنتقص من أطراف
النور الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وسار عليه الراشدون من أصحابه
رضوان الله عليهم أجمعين؛ لأنك من وقت إلى آخر تطلع على الناس في منارك بما
يزيل الجهل ويمحو آثار الظلمة، ولقد عرفك الناس من عهد بعيد، وعرفك المنصفون
منذ بدء حياتك العلمية على خير ما يعرف العلماء الأفذاذ. ولقد كان إعجاب رجال
العلم الديني بك شديدًا في جميع بلاد الإسلام؛ منذ ظهرت مجلة المنار الإسلامية التي
أنشأتها من ثلاثين عامًا، ولا تزال تنشئها بفضل الله إلى اليوم حافلة بالأبحاث العلمية
القيمة التي لا توجد في أمهات الكتب، ولا يخلو عدد من أعدادها من مشكلة دينة
يكشفها منارك، وقد خفي أمرها وتعذر حلها على كثير من الرجال المبرزين.
أما المتقدمون فعذرهم أن أحداث الناس الاجتماعية التي لها صلة بالدين، لم
يكن قد اتسع نطاقها، ولم تصل في كثرة وجوهها المختلفة إلى ما وصلت إليه اليوم
وقد كانت أمارات الحوادث الدقيقة التي يحملها كتاب الوجود العام غير واضحة
للعقول، وليس في إمكان العقل مهما قوي أن يقضي قضاءه الصحيح في حادثة لم
يكشف لها الوجود وجه الدليل، والعقل الإنساني في فطرته السليمة اليوم أقوى منه
بالأمس؛ لأن مواد التغذية العقلية الآن بين يديه أدسم وأوفر، وليس التفاضل بين
المتقدم من القرون والمتأخر منها راجعًا إلى جوهر العقول، واستكمال عناصرها
الذاتية، فالعقل هو العقل، والقرآن هو القرآن، وشواهد هذا العصر أتم منها في
كل عصر سابق، وإنما مرجع التفاضل؛ ضعف الإرادة وتأثرها بالأوساط السيئة
التي لم تكن لها قوة في عصر النبوة ولا في القرون التي تليها. أما العقل من حيث
ذاته وجوهره فلا دخل له في هذا التفاضل، فالمسألة هنا وهناك مسألة هداية
وتوفيق.
وأما المتأخرون، فعذرهم إن صح أن يكون ذلك عذرًا أنهم أضاعوا كل شيء
وباعدوا بينهم وبين منهل التشريع الإلهي، وما مثلهم في حياتهم العلمية الدينية إلا
كمثل من استعمل الماء الآسن في حياته للشرب، ينحدر من مستنقع إلى مستنقع،
وقد انقطع تمام الانقطاع عن مهبط السيل ومجاري الأنهار، لا يحمل غير جراثيم
الضعف وعوامل الفناء - كذلك رجال الدين في عصورهم المتأخرة، قد انقطعوا
عن الكتاب والسنة وعن فهمهما على الوجه الصحيح، وهما بلا شك مصدر الحياة
والقوة، عليهما مدار السعادة التامة - لهذا لا بدع إذا وهبك الله من الذكاء والفهم في
الدين ما لا عهد للناس به، ومكنك من استعراض الحوادث والحكم عليها بما لاح
لك من الأمارات والدلائل، وليس ذلك بدعًا في دين الله ولا من الدعاوى العريضة
كما يظن الجاهلون؛ لأن الإنسانية الكاملة التي لا تسابق ولا تجارى هي إنسانية
الأنبياء وحدهم لا يشاركهم فيها مشارك؛ لأنها موهبة من الله تعالى خاصة بهم لا
دخل للكسب فيها و {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام: 124) .
أما من عداهم من الورثة فلكل نصيبه بقدر اجتهاده، فكتاب الله الذي خاطب
به العالم على السواء، لم يتغير ولم يتبدل وكذلك سنة رسوله، وفضل اليوم على
الأمس ما دام الإنسان مرموقًا بالهداية والتوفيق، إن العقل أقوى والدلائل أوضح،
وإن كان الفضل دائما للمتقدم.
وليست المسألة أكثر من متشابهات في الدين، يجليها الله على يد من يمنحهم
فضله، ولا تقوم الساعة إلا والحلال كله بيِّن والحرام كله بيِّن، حيث يرد العقل
بالدليل كل مشتبه في الماضي إلى فصيلته الحقيقية. وإذا لم يحقق الله بك وبأمثالك
هذه السنة فيمن يحققها؟ {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (الحديد: 21) .
وقد كان من مزيد توفيق الله لك؛ أن خصصت جزءًا عظيمًا من منارك لتفسير
كتاب الله تعالى على طريقة لم تسبق إليها من كبار رجال التاريخ [1] في عصور
الإسلام، فقد وجهت كل عنايتك إلى بيان أغراض الكتاب والكشف عن مراميه،
وأجهدت نفسك في لفت العقل إلى روح التشريع الإلهي وإظهار سره في الوجود،
ولم يفتك المهم من الأبحاث الإصلاحية التي ألهت جمهور المفسرين عن غرض
الكتاب الأسمى، وصرفتهم عن الغاية التي من أجلها نزل الكتاب الكريم؛ وهي
الهداية والسعادة.
نعم.. لا ننكر نحن ولا أنت أن واضع طريقتك ومحكم أساسها هو أستاذنا
الإمام؛ الذي جدد الله به عهد الإسلام على رأس القرن الرابع عشر الهجري
(الشيخ محمد عبده) رحمه الله ورضي عنه. ولكن إحكام البناء إلى التمام على
الوجه الذي وضع عليه هذا الأساس المتين لشاهد صدق على النبوغ والتفوق. ومن
الإنصاف أن نجاهر بأن الروح التي جارت في عملها التكميلي روح ذلك المؤسس
الحكيم؛ لهي الروح الكبيرة التي تستحق مزيد الإكبار والإجلال، والتي لها مع
استعدادها الفطري القوي بالمؤسس العظيم مزيد صلة وارتباط؛ لأنك في أبحاثك
القيمة تأتي كل يوم بالجديد المثمر، ولا زلت ترقب عن كثب في تفسيرك وأبحاثك
الدينية آثار سنن الله في الوجود، وهي نعمة كبرى لن تستطيع شكرها مهما حاولته،
وسر هذه النعمة فيما أعتقد أنك آمنت، كما آمن الموفقون من قبلك بأن خير ما
يفسر به كتاب الله فعل الله وسننه في عالم الشهادة، وكثيرًا ما أسمع من أهل العلم
وعنهم أن سبب انحطاط المسلمين؛ هو عدم العمل بالدين، وهو كلام حق في ذاته
إن لم يريدوا الدين بحسب تقدير عقولهم. إلا أن وراء هذا القول حلقة مفقودة يجب
إظهارها للعالم والتصريح بها على الدوام، حيث السعادة موقوفة عليها في نظر
العقل والدين معًا: هي أن سبب التأخر الحقيقي عدم فهم الكتاب والسنة على الوجه
الصحيح؛ لأن فهمهما كذلك يولد الإيمان بهما إيمانًا قويًا، والإيمان بهما كذلك لا
محالة يولد السعادة والقوة والعمل الصالح، رغم الصوارف التي ازدحم بها الوجود،
فالوجود ملوث بمثل هذه الصوارف منذ بدء الخلقة، والصراع قديم بين الخير
والشر وبين النور والظلمة.
ولقد أخذتني الدهشة يا صديقي حينما اطلعت على الجزء الأول من التفسير
الذي أخرجته في هذه الأيام مستقلاًّ عن مجلة المنار، لأنا كلما تصفحنا منارك وراجعنا
ما ظهر من التفسير، نظن أن ليس في الإمكان أبدع مما كان، وإذا بالجزء الأول
يطالعنا بخير ما أخرج للناس في هذا الباب.
وفي الحق أن هذا السفر آية الآيات ومعجزة المعجزات في التفسير إلى اليوم
وليس من المبالغة في القول أن أصارحك بأن هذا السفر الجليل منحة إلهية كبرى،
قدر الله بها أن يكمل فضلك، ويعظم أمرك، وما يدرينا ما يجود به الغيب عليك في
المستقبل القريب والبعيد.
لهذا أحمد الله لك، وأرجو أن يديمك سعيدًا آمنًا في سربك، صحيحًا في بدنك؛
لتكمل التفسير على النحو الذي سرت عليه إلى اليوم، كما أرجو أن يوفقك الله
قريبًا لإنجاز تفسير متوسط ينتفع به العامة والخاصة، فالخير كل الخير في هدي
الكتاب.
ولقد حقق الله لي يا صديقي ما كنت أرجوه من قبل، فقد تمنيت من عهد بعيد
أن أكتب عنك كلمة الحق التي امتلأت بها نفسي؛ ليسجلها التاريخ لي ولك فيما
يسجل، وأنا أحوج إليها منك؛ فلك من الآثار الخالدة في خدمة العلم والدين ما لا
سبيل إلى إنكاره. أما أنا فأقل ما أنتفع به من وراء هذه الكلمة الصادقة أن يقول
المنصفون: إنها كلمة حق بريئة من الحقد والحسد، فرحم الله قائلها.
وقد كانت هذه الأمنية اللذيذة تتردد وتقوى في نفسي كلما انتشر فضلك،
وازدادت عناية الله بك، إلا أن الحياء الشديد قد حال دوني ودون أمنيتي، فقد خشيت
أن تقصر العبارة عن آداء ما تحمله نفسي لك من الإكبار، فيمقتني منصفوك وعارفو
فضلك، أو يقول حسادك وهم كثيرون: إن الأمر لا يعدو مدح صديق لصديق؛ أما
وقد ظهر الجزء الأول من تفسيرك وفيه من الإبداع ما لا عهد لنا به، ومن الزيادات
ما لم يشافهنا به الأستاذ الإمام في درسه، فها أناذا أتقدم إليك بكلمتي هذه شاكرًا داعيًا
لأبلغ النفس أمنيتها غير مبال بالتقصير، ولا بما يتحدث به الجاهلون والحاسدون،
وتفضل يا صديقي بقبول خالص تحياتي والسلام.
…
...
…
...
…
...
…
علي سرور الزنكلوني
…
...
…
... مدرس التفسير والحديث بالقسم العالي للأزهر
(المنار)
الأستاذ الشيخ على سرور الزنكلوني من أشهر علماء الأزهر المستقلي الفكر
العارفين بحال العصر، وحاجة المسلمين إلى الإصلاح الديني والمدني، وإخوانه
المشاركون له في هذه المزية قليلون، ولو كانوا كثيرين لما كان الأزهر محتاجًا إلى
الإصلاح، وحاجته إلى الإصلاح صارت مسألة اجتماعية بين جمهور أهله حتى
الجامدين منهم وبين سائر طبقات الناس، لا خفية كما كانت في أول عهد الأستاذ
الإمام ، وقد كان الجامدون يضطهدون هؤلاء العلماء المستقلين ولا سيما دعاة
الاعتصام بالكتاب والسنة. ولكن الزمان يظهر فضلهم وشدة حاجة الأزهر إليهم
وسيكونون هم المحبين للعلم فيه إذا أذن الله أن يعود إليه مجده كما يحب كل مسلم
ثم إن الأستاذ الزنكلوني ممتاز فيهم بالصراحة والفصاحة قولاً وكتابة وخطابة
ومناظرة، يمده في ذلك ما أوتي من عزة النفس والشجاعة الأدبية، فهو يقول ما
يعتقد ولا يبالي بمخالفه فيه مهما تكن منزلته، ومهما يكن سبب خلافه له، وهذا ما
أشار إليه بقوله في آخر كلمته: إنه لا يبالي بما يتحدث به الجاهلون والحاسدون.
لست أقول هذا لأثيبه حمدًا بحمد، وأقارضه ثناء بثناء، فكل منا بعيد الطبع
والخلق عن هذه التجارة أو المداينة، وإنما قلته لأبين لبعض قراء المنار في
الأقطار النائية الذين لا يعرفون من مزايا الرجل ما تعرفه مصر، ومن لا يحصى من
زائريها في هذا العصر، أن قيمة كلمته عندي ليست في إطرائي الذي لا أستحقه بل
في صدورها عن عقيدة وإخلاص، مع تواضع حمله على الاعتذار، فقد أرسل إليَّ
معها رقعة قال فيها: (هذه كلمتي أبعث بها إليك؛ عنوان فرح وشكر لله على ظهور
الجزء الأول من التفسير، أكتبها وأنا متحقق بأنها غير وافيه بالغرض. ولكن شفيعها
إخلاص صاحبها) فهو كأفراد أجواد العرب الذين كان أحدهم يبذل النوال العظيم
وربما كان كل ما في يده؛ ثم يعتذر مع هذا لمن يبذله له.
ما هذه أول منة لصديقي التليد الشيخ علي سرورعلى المنار، بل كان في أيام
المجاورة يدعو إلى المنار في أيام مسامحات الأزهر، ويطوف على البلاد في
مديرية الشرقية وغيرها فيحصل قيمة الاشتراك من المشتركين، ثم يوصلها إلينا
ولا يأخذ على ذلك عمولة ولا جزاءً - وكان هذا قبل شروعه في حضور دروس
الاستاذ الإمام - فهو عملٌ دعته إليه فطرته الزكية وميله العقلي إلى الإصلاح، فالله
تعالى يشكر له ذلك ويثيبه عليه والله شاكر عليم.
_________
(1)
المنار: المراد برجال التاريخ من دونت تراجمهم في كتبه العامة أو الخاصة ببعض دون بعض؛ ككتب الجرح والتعديل وكتب الطبقات.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الوقف وأصح ما ورد فيه وأشهر أحكامه [*]
روى الجماعة - أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة من حديث
عبد الله بن عمر: أن عمر أصاب أرضًا من أرض خيبر، فقال يا رسول الله:
أصبت أرضًا بخيبر، لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ فقال
صلى الله عليه وسلم: (إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها) فتصدق بها عمر
على أن لا تباع ولا توهب ولا تورث، ولفظ الشيخين أنه لا يباع أصلها - زاد
مسلم ولا يبتاع - ولا يورث ولا يوهب: في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي
سبيل الله وابن السبيل والضيف؛ لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف
أو يطعم صديقًا غير متمول، وفي لفظ غير متأثل مالاً، وفي بعض روايات
الصحيح أن تلك الأرض يقال لها ثمغ وأنها نخل.
وذكر الحافظ في الفتح الروايات في وصية عمر، أن تكون بنته حفصة أم
المؤمنين هي التي تتولى أمر هذا الوقف بعده، ثم يكون بعدها إلى الأكابر من آل
عمر، وذكر من رواية عمر بن أبي شبة أنه اطلع على نسخة صدقة عمر قال:
أخذتها من كتابه الذي كان عند آل عمر فنسختها حرفًا حرفًا؛ هذا ما كتب عبد الله
عمر أمير المؤمين في ثمغ؛ أنه إلى حفصة ما عاشت تنفق ثمره حيث أراها الله،
فإن توفيت فإلى ذوي الرأي من أهلها.
(قال الحافظ) : فذكر الشرط كله نحو الذي نقده في الحديث المرفوع، ثم
قال: والمائة وسق الذي أطعمني النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنها مع ثمغ على
سننه الذي أمرت به، وإن شاء والي ثمغ أن يشتري من ثمره رقيقًا يعملون فيه فعل،
وكتب معيقيب وشهد عبد الله بن الأرقم.
(وكذا أخرج أبو داود في روايته نحو هذا، وذكرا جميعًا كتابًا آخر نحو هذا
الكتاب وفيه من الزيادة: وصرمة بن الأكوع والعبد الذي فيه صدقة كذلك. وهذا
يقتضي أن عمر إنما كتب كتاب وقفه في خلافته؛ لأن معيقيبًا كان كاتبه في زمن
خلافته، وقد وصفه فيه بأنه أمير المؤمنين فيحتمل أن يكون وقفه في زمن النبي
صلى الله عليه وسلم باللفظ، وتولى هو النظر عليه إلى أن حضرته الوصية فكتب
حينئذ الكتاب. ويحتمل أن يكون أخر وقفيته، ولم يقع منه قبل ذلك إلا استشارته
في كيفيته، وقد روى الطحاوي وابن عبد البر من طريق مالك عن ابن شهاب قال:
قال عمر: لولا أني ذكرت صدقتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لرددتها.
فهذا يشرع بالاحتمال الثاني، وأنه لم تجز الوقف إلا عند وصيته، واستدل الطحاوي
بقول عمر هذا لأبي حنيفة وزفر في أن إيقاف الأرض لا يمنع من الرجوع فيها،
وأن الذي منع من الرجوع؛ كونه ذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فكره أن يفارقه
على أمر ثم يخالفه إلى غيره. ولا حجة فيما ذكره من وجهين:
(أحدهما) أنه منقطع؛ لأن ابن شهاب لم يدرك عمر.
(ثانيهما) أنه يحتمل ما قدمته، ويحتمل أن يكون عمر كان يرى صحة
الوقف ولزومه، إلا إن شرط الواقف الرجوع فله أن يرجع. وقد روى الطحاوي
عن علي مثل ذلك، فلا حجة فيه لمن قال: بأن الوقف غير لازم مع إمكان هذا
الاحتمال، وإن ثبت هذا الاحتمال كان حجة لمن قال بصحة تعليق الوقف وهوعند
المالكية، وبه قال ابن سريج وقال: تعود منافعه بعد المدة المعينة إليه ثم إلى ورثته
فلو كان التعليق مآلاً صح اتفاقًا، كما لو قال: وقفته على زيد سنة ثم على الفقراء.
(قال الحافظ) : وحديث عمر هذا أصل في مشروعية الوقف: قال أحمد:
حدثنا حماد - هو ابن خالد - حدثنا عبد الله هو العمري - عن نافع عن ابن عمر
قال: أول صدقة - أي موقوفة - كانت في الإسلام صدقة عمر، وروى عمر بن
شبة عن عمرو بن سعد بن معاذ قال: سألنا عن أول حبس في الإسلام، فقال
المهاجرون: صدقة عمر، وقال الأنصار: صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي إسناده الواقدي [1] وفي مغازي الواقدي أن أول صدقة موقوفة كانت في الإسلام
أراضي مخيريق - بالمعجمة مصغر - التي أوصى بها إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فوقفها النبي صلى الله عليه وسلم، قال الترمذي: لا نعلم بين الصحابة
المتقدمين من أهل العلم خلافًا في جواز وقف الأرضين. وجاء عن شريح أنه أنكر
الحبس ومنهم من تأوله، وقال أبو حنيفة: لا يلزم، وخالفه جميع أصحابه إلا زفر
ابن الهذيل، فحكى الطحاوي عن عيسى بن أبان قال: كان أبو يوسف يجيز بيع
الوقف، فبلغه حديث عمر هذا فقال: من سمع هذا من ابن عون؟ فحدثه به ابن
عُلية فقال: هذا لا يسع أحدًا خلافه، ولو بلغ أبا حنيفة لقال به، فرجع عن بيع
الوقف حتى صار كأنه لا خلاف فيه بين أحد. ا. هـ، ومع حكاية الطحاوي هذا
فقد انتصر كعادته، فقال قوله في قصة عمر حبس الأصل وسبل الثمرة لا يستلزم
التأبيد، بل يحتمل أن يكون أراد مدة اختياره لذلك، ولا يخفى ضعف هذا التأويل
ولا يفهم من قوله وقفت وحبست إلا التأبيد، حتى يصرح بالشرط عند من ذهب إليه
وكأنه لم يقف على الرواية التي فيها حبيس ما دامت السموات والأرض.
(قال القرطبي: رد الوقف مخالف للإجماع فلا يلتفت إليه، وأحسن ما
يعتذر به عمن رده ما قال أبو يوسف؛ فإنه أعلم بأبي حنيفة من غيرهم وأشار
الشافعي: إلى أن الوقف من خصائص أهل الإسلام؛ أي وقف الأراضي والعقار،
قال: ولا نعرف أن ذلك وقع في الجاهلية، وحقيقة الوقف شرعًا ورود صيغة
تقطع تصرف الواقف في رقبة الموقوف الذي يدوم الانتفاع به، وتثبت صرف
منفعته في جهة خير.
وفي حديث الباب من الفوائد؛ جواز ذكر الولد أباه باسمه المجرد من غير
كنية ولا لقب، وفيه جواز إسناد الوصية والنظر على الوقف للمرأة، وتقديمها على
من هو من أقرانها من الرجال. وفيه إسناد النظر إلى من لم يسم إذا وصف بصفة
معينة تميزه، وأن الواقف يلي النظر على وقفه إذا لم يسنده لغيره، قال الشافعي:
لم يزل العدد الكثير من الصحابة فمن بعدهم يلون أوقافهم، نقل ذلك الألوف عن
الألوف لا يختلفون فيه، وفيه استشارة أهل العلم والدين والفضل في طرق الخير،
سواء كانت دينية أو دنيوية، وأن المشير يشير بأحسن ما يظهر له في جميع
الأمور، وفيه فضيلة ظاهرة لعمر لرغبته في امتثال قوله تعالى: {لَن تَنَالُوا البِرَّ
حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران: 92) ، وفيه فضل الصدقة الجارية،
وصحة شروط الواقف واتباعه فيها [2] وأنه لا يشترط تعيين المصرف لفظًا، وفيه
أن الوقف لا يكون إلا فيما له أصل يدوم الانتفاع به، فلا يصح وقف ما لا يدوم
الانتفاع به كالطعام.
(وفيه أنه لا يكفي في الوقف لفظ الصدقة؛ سواء قال تصدقت بكذا أو جعلته
صدقة حتى لا يضيف إليها شيئًا آخر؛ لتردد الصدقة بين أن تكون تمليك الرقبة أو
وقف المنفعة، فإذا أضاف إليهما ما يميز أحد المحتملين صح بخلاف ما لو قال:
وقفت أو حبست، فإنه صريح في ذلك على الراجح، وقيل الصريح الوقف خاصة
وفيه نظر؛ لثبوت التحبيس في قصة عمر هذه، نعم.. لو قال: تصدقت بكذا على
كذا، وذكر جهة عامة صح. وتمسك من أجاز الاكتفاء بقوله: تصدقت بكذا بما
وقع في حديث الباب من قوله، فتصدق بها عمر ولا حجة في ذلك لما قدمته من أنه
أضاف إليها لا تباع ولا توهب، ويحتمل أيضًا أن يكون قوله فتصدق بها عمر؛
راجعًا إلى الثمرة على حذف مضاف أي فتصدق بثمرتها، فليس فيه متعلق لمن
أثبت الوقف بلفظ الصدقة مجردًا، وبهذا الاحتمال الثاني جزم القرطبي. وفيه
جواز الوقف على الأغنياء؛ لأن ذوي القربى والضيف لم يقيد بالحاجة وهو الأصح
عند الشافعية.
وفيه أن للواقف أن يشترط لنفسه جزءًا من ريع الموقوف؛ لأن عمر
شرط لمن ولي وقفه أن يأكل منه بالمعروف، ولم يستثن إن كان هو الناظر أو
غيره، فدل على صحة الشرط، وإذا جاز في المبهم الذي تعينه العادة كان فيما
يعينه هو أجوز، ويستنبط منه صحة الوقف على النفس، وهو قول ابن أبي ليلى
وأبي يوسف وأحمد في الأرجح عنه، وقال به من المالكية ابن شعبان وجمهورهم
على المنع إلا إذا استثنى لنفسه شيئًا يسيرًا بحيث لا يتهم أنه قصد حرمان ورثته،
ومن الشافعية ابن سريج وطائفة وصنف فيه محمد بن عبد الله الأنصاري شيخ
البخاري جزءًا ضخمًا، واستدل له بقصة عمر هذه وبقصة راكب البدنة [3] بحديث
أنس في أنه صلى الله عليه وسلم أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها، ووجه
الاستدلال به أنه أخرجها عن ملكه بالعتق، وردها إليه بالشرط، وسيأتي البحث
فيه في النكاح، وبقصة عثمان الآتية بعد أبواب. واحتج المانعون بقوله في حديث
الباب: (سبل الثمرة) وتسبيل تملكيها للغير، والإنسان لا يتمكن من تمليك نفسه
لنفسه، وتُعُقِّبَ بأن امتناع ذلك غير مستحيل، ومنعه تمليكه لنفسه إنما هو لعدم
الفائدة، والفائدة في الوقف حاصلة؛ لأن استحقاقه إياه ملكًا غير استحقاقه إياه وقفًا؛
ولا سيما إذا ذكر له مالاً آخر، فإنه حكم آخر يستفاد من ذلك الوقف، واحتجوا
أيضًا بأن الذي يدل عليه حديث الباب أن عمر اشترط لناظر وقفه أن يأكل منه
بقدر عمالته؛ ولذلك منعه أن يتخذ لنفسه منه مالاً، فلو كان يؤخذ منه صحة الوقف
على النفس لم يمنعه من الاتخاذ، وكأنه اشترط لنفسه أمرًا لو سكت عنه لكان
يستحقه لقيامه. وهذا على أرجح قولي العلماء: إن الواقف إذا لم يشترط للناظر
قدر عمله جاز له أن يأخذ بقدر عمله ، ولو اشترط الواقف لنفسه النظر
اشترط أجره، ففي صحة هذا الشرط عند الشافعية خلاف؛ كالهاشمي إذا
عمل في الزكاة، هل يأخذ سهم العاملين؟ والراجح الجواز ويؤيده حديث عثمان
الآتي بعد.
واستدل به على جواز الوقف على الوارث في مرض الموت، فإن زاد
عن الثلث رد، وإن خرج منه لزمه، وهو إحدى الروايتين عن أحمد؛ لأن عمر
جعل النظر بعده لحفصة وهي ممن يرثه، وجعل لمن ولي وقفه أن يأكل منه،
وتُعُقِّبَ بأن وقف عمر صدر منه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، والذي
أوصى به إنما هو شرط النظر.
واستدل به على أن الواقف إذا شرط للناظر شيئًا أخذه، وإن لم يشترط له
لم يجز إلا إن دخل في صفة أهل الوقف؛ كالفقراء والمساكين، فإن كان على
معينين ورضوا بذلك جاز.
واستدل به على أن تعليق الوقف لا يصح؛ لأن قوله: حبس الأصل
يناقض تأقيته، وعن مالك وابن سريج يصح، واستدل بقوله لا تباع على أن
الوقف لا يناقل به [4] وعن أبي يوسف: إن شرط الواقف أنه إذا تعطلت منافعه بيع
وصرف ثمنه في غيره، ويوقف فيما سمي في الأول، وكذا إن شرط البيع إذا رأى
الحظ في نقله إلى موضع آخر، واستدل به على وقف المشاع؛ لأن المائة سهم
التي كانت لعمر بخيبر لم تكن منقسمة. وفيه أنه لا سراية في الأرض الموقوفة
بخلاف العتق، ولم ينقل أن الوقف سرى من حصة عمر إلى غيرها من باقي
الأرض، وحكى بعض المتأخرين عن بعض الشافعية أنه حكم فيه بالسراية وهو
شاذ منكر، واستدل به على أن خيبر فتحت عنوة، وسيأتي البحث فيه في كتاب
المغازي إن شاء الله تعالى اهـ، كلام الحافظ وفي بعض كلامه بحث.
وروى أحمد والشيخان وغيرهم من حديث أنس واللفظ للبخاري قال: لما
نزلت {لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران: 92) ، جاء أبو
طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، يقول الله تعالى:
{لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران: 92) وإن أحب أموالي
بيرحاء؛ قال: وكانت حديقة كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدخلها،
ويستظل فيها ويشرب من مائها، فهي إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم،
أرجو بره وذخره، فضعها أي رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله: (بخ
يا أبا طلحة، ذلك مال رابح، قبلناه منك ورددناه عليك، فاجعله في الأقربين)
فتصدق به أبو طلحة على ذوي رحمه، قال: وكان منهم أُبي وحسان. قال:
وباع حسان حصته من معاوية. فقيل له تبيع صدقة أبي طلحة، فقال: لا أبيع
صاعًا من تمر بصاع من دراهم؟ قال: وكانت تلك الحديقة في موضع قصر بني
جديلة الذي بناه معاوية اهـ.
قال الحافظ في الفتح عند قوله: وباع حسان حصته.. إلخ: هذا يدل على أن
أبا طلحة ملكهم الحديقة المذكورة، ولم يقفها عليهم؛ إذ لو وقفها لما ساغ لحسان أن
يبيعها، فيعكر على من استدل بشيء من قصة أبي طلحة في مسائل الوقف إلا فيما لا
تخالف فيه الصدقة الوقف ويحتمل أن يقال شرط أبو طلحة عليهم؛ لما وقفها عليهم أن
من احتاج إلى بيع حصته منهم جاز له بيعها، وقد قال بجواز هذا الشرط بعض
العلماء كعلي وغيره والله أعلم اهـ.
وليعلم أن حسان بن ثابت وأبي بن كعب لم يكونا من ورثة أبي طلحة، بل
كان حسان يجتمع معه في الأب الثالث وأبي يجتمع معه في الأب السادس؛ كما
بينه البخاري نفسه في سياق نسبه في أول (باب إذا وقف أو أصى لأقاربه ومن
الأقارب) وذكر الحافظ في شرح هذه الترجمة من الفتح ما نصه:
قال الماوردي: تجوز الوصية لكل من جاز الوقف عليه من صغير وكبير
وعاقل ومجنون وموجود ومعدوم؛ إذا لم يكن وارثًا ولا قاتلاً والوقف منع بيع
الرقبة والتصدق بالمنفعة على وجه مخصوص. وقد اختلف العلماء في الأقارب
فقال أبوحنيفة: القرابة كل ذي رحم محرم من قبل الأب أو الأم، ولكن يبدأ بقرابة
الأب قبل الأم: وقال أبو يوسف ومحمد: من جمعهم أب منذ الهجرة من قبل أب أو
أم من غير تفصيل، زاد زفر وتقدم من قرب منهم وهي رواية عن أبي حنيفة أيضًا.
وأقل من يدفع إليه ثلاثة، وعند محمد اثنان، وعند أبي يوسف واحد، ولا
يصرف للأغنياء عندهم إلا أن يشرط ذلك، وقالت الشافعية: القريب من اجتمع في
النسب، سواء قرب أم بعد، مسلمًا كان أو كافرًا، غنيًا كان أو فقيرًا، ذكرًا كان أو
أنثى، وارثًا أو غير وارث، محرمًا أو غير محرم. واختلفوا في الأصول والفروع
على وجهين، وقالوا: إن وجد جمع محصورون أكثر من ثلاثة استوعبوا، وقيل:
يقتصر على ثلاثة. وإن كانوا غير محصورين، فنقل الطحاوي الاتفاق على
البطلان وفيه نظر لأن عند الشافعية وجهًا بالجواز، ويصرف لثلاثة منهم ولا يجب
التسوية، وقال أحمد: في القرابة كالشافعي إلا أنه أخرج الكافر. وفي رواية عنه
القرابة كل من جمعه والموصي الأب الرابع إلى ما هو أسفل منه، وقال مالك:
يختص بالوصية سواء كان يرثه أو لا، ويبدأ بفقرائهم حتى يغنوا ثم يعطى الأغنياء،
وحديث الباب يدل لما قاله الشافعي سوى اشتراط ثلاثة، فظاهره الاكتفاء باثنين
اهـ.
***
شروط الواقف
المشهور على الألسنة أن شرط الواقف كنص الشارع، يجب العمل به،
وهذا باطل على إطلاقه كما تقدم في تعليقنا على عبارة الحافظ ابن حجر بحديث
عائشة المتفق عليه في الولاء، وأقوال الحنابلة في هذه المسألة أقوى مما خالفها،
فننقل هذا الفصل عن كتاب الفروع منها قال:
ويرجع إلى شرطه في تقديم وتسوية وجمع وضد ذلك، واعتبار وصف
وعدمه وعدم إيجاره أو قدر المدة، واختار شيخنا لزوم العمل بشرط مستحب خاصة
وذكره ظاهر المذهب؛ لأنه لا ينفعه ويعذر غيره، فبذل المال فيه سفه ولا يجوز،
وأيده الحارثي بنصه الآتي في شرط أجرة للناظر، وقال شيخنا: ومن قدر له
الواقف شيئًا فله أكثر إن استحقه بموجب الشرع، وقال: الشرط المكروه باطل اتفاقًا،
وقيل: لا يتعين طائفة وقف عليها مسجد أو مقبرة كالصلاة فيه، وفي الانتصار:
يحتمل أن عين من يصلي فيه من أهل الحديث أو يدرس العلم اختص إن سلم؛
فلأنه لا يقع التزاحم بإشاعته، ولو وقع فهو أفضل؛ لأن الجماعة يراد له، وقيل
يمنع تسوية بين فقهاء كمسابقة. قال شيخنا: قول الفقهاء (نصوصه كنصوص
الشارع) يعني في الفهم والدلالة لا في وجوب العمل مع أن التحقيق أن لفظه ولفظ
الموصي والحالف والناذر، وكل عاقد يحمل على عادته في خطابه ولغته التي يتكلم
بها، وافقت لغة العرب أو لغة الشارع أو لا، قال: ولا خلاف أن من وقف على
صلاة أو صيام أو قراءة أو جهاد غير شرعي ونحوه لم يصح، والخلاف في المباح
كما لو وقف على الأغنياء لا يخرج مثله هنا؛ لأنه يفعل لأنه مباح، ولا يجوز
اعتقاد غير المشروع مشروعًا وقربة وطاعة واتخاذه دينًا، والشروط إنما يلزم
الوفاء بها إذا لم يفضِ ذلك إلى الإخلال بالمقصود الشرعي، ولا يجوز المحافظة
على بعضها مع فوات المقصود بها، قال: ومن شرط في القربات أن يقدم فيها
الصنف المفضول، فقد شرط خلاف شرط الله كشرطه في الإمامة تقديم غير الأعلم،
فكيف إذا شرط أن يختص بالصنف المفضول.
والناظر منفذ لما شرطه الواقف، ليس له أن يبتدئ شروطًا، وإن شرط أن
لا ينزل فاسق وشرير ومتجوه ونحوه عمل به؛ وإلا يوجه أن لا يعتبر في فقهاء
ونحوهم، وفي إمام ومؤذن الخلاف، وظاهر كلامهم وكلام شيخنا في موضع،
وقال أيضًا: لا يجوز أن ينزل فاسق في جهة دينية كمدرسة وغيرها مطلقًا؛ لأنه
يجب الإنكار عليه وعقوبته، فكيف ينزل وإن نزل مستحق تنزيلاً شرعيًّا، لم يجز
صرفه بلا موجب شرعي وإن حكم حاكم بمحضر الوقف فيه شروط، ثم ظهر
كتاب وقف غير ثابت وجب ثبوته والعمل به إن أمكن، وإن شرط للناظر إخراج
من شاء منهم وإدخال من شاء من غيرهم بطل؛ لمنافاته مقتضاه لا قوله: يعطي
من شاء منهم ويمنع من شاء؛ لتعليقه استحقاقه بصفة ذكره الشيخ [5] وقال الحارثي:
الفرق لا يتجه، وقال شيخنا كل متصرف بولاية إذا قيل ما شاء يفعل، فإنما هو
لمصلحة شرعية حتى لو صرح الواقف بفعل ما يهواه وما يراه مطلقًا، فشرط باطل
لمخالفته الشرع، وغايته أن يكون شرطًا مباحًا، وهو باطل على الصحيح المشهور،
حتى لو تساوى فعلان عمل بالقرعة، وإذا قيل هنا بالتخيير فله وجه، قال وعلى
الناظر بيان المصلحة، فيعمل بما ظهر، ومع الاشتباه إن كان عالمًا عادلاً يسوغ له
اجتهاده، قال: ولا أعلم خلافًا أن من قسَّم شيئًا يلزمه أن يتحرى العدل، ويتبع ما
هو أرضى لله ورسوله استفاد القسمة بولاية كإمام وحاكم أو بعقد كالناظر والوصي
ويتعين مصرفه نقله الجماعة، وقيل: إن سبَّل ماء للشرب جاز الوضوء به،
فيشرب ماء للوضوء يتوجه عليه وأولى اهـ المراد منه.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) نكتب هذا الفصل وما يتصل به؛ إجابة لطلب الكثيرين بمناسبة اقتراح بعض أعضاء البرلمان
المصري إلغاء الوقف الأهلي.
(1)
يعني وهو ضعيف الحديث.
(2)
أي إذا لم يكن مخالفًا لنص شرعي، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه (ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؛ ما كان من شرط ليس في كتاب الله؛ فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق) .
(3)
الرجل الذين أذن له النبي صلى الله عليه وسلم بركب البدنة التي كان يسوقها هديًا إلى الحرم، متأثمًا من ركوبها.
(4)
أي لا يبادل به.
(5)
يعني الموفق ابن قدامة صاحب المغني والمقنع.
الكاتب: محمد نصيف
إبطال الوقف الأهلي
فتوى للإمام مصلح نجد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى
في إبطال الوقف على الذرية.
نقلها صديقنا الأستاذ الشيخ محمد نصيف من كتاب روضة الأفكار والأفهام
لمرتاد حال الإمام، وتعداد غزوات ذوي الإسلام (وهو تاريخ نجد في زمان الإمام
محمد بن عبد الوهاب وأمراء نجد آل سعود) المطبوع في بومباي الهند بالمطبعة
المصطفوية عام 1337، الجزء الأول صفحة 160 وهو كثير الأغلاط والتحريف.
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه كلمات جواب عن الشبهة التي احتج بها من أجاز وقف الجَنَف والإثم،
ونحن نذكر قبل ذلك صورة المسألة، ثم نتكلم على الأدلة؛ وذلك أن السلف اختلفوا
في الوقف الذي يراد به وجه الله على غير من يرثه مثل: الوقف على الأيتام
وصوام رمضان أو المساكين أو أبناء السبيل. فقال شريح القاضي وأهل الكوفة:
لا يصح ذلك الوقف، حكاه عنهم الإمام أحمد، وقال جمهور أهل العلم: هذا وقف
صحيح؛ واحتجوا بحجج صحيحة صريحة ترد قول أهل الكوفة، فهذه الحجج التي
ذكرها أهل العلم، يحتجون بها على علماء أهل الكوفة مثل (صدقة جارية)[1]
ومثل وقف عمر وأوقاف أهل المقدرة من أصحابه على جهات البر التي أمر الله بها
ورسوله ليس فيها تغيير لحدود الله.
وأما مسألتنا: فهي إذا أراد الإنسان أن يقسم ماله على هواه، وفر من قسمة
الله، وتمرد عن دين الله؛ مثل أن يريد أن امرأته لا ترث من هذا النخل ولا تأكل
منه إلا حياة عينها، أو يريد أن يزيد بعض أولاده على بعض فرارًا من وصية الله
بالعدل، أو يريد أن يحرم نسل البنات، أو يريد أن يحرم على ورثته بيع هذا
العقار لئلا يفتقروا بعده، ويفتي له بعض المفتين أن هذه البدعة الملعونة صدقة بر
تُقَرِّب إلى الله [2] ويوقف على هذا الوجه قاصدًا وجه الله، فهذه مسألتنا. فتأمل هذا
بشراشر قلبك، ثم تأمل ما نذكره من أوله، فنقول:
من أعظم المنكرات وأكبر الكبائر تغيير شرع الله ودينه والتحيل على ذلك
بالتقرب إليه وذلك مثل أوقافنا هذه، إذا أراد أن يحرم من أعطاه الله من امرأته أو
امرأة ابن أو نسل بنات أو غير ذلك، أو يعطي من حرمه الله أو يزيد عما فرض
الله أو ينقص من ذلك، ويريد التقرب إلى الله بذلك مع كونه مبعدًا عن الله، فالأدلة
على بطلان هذا الوقف وعوده طلقًا، وقسمه على قسم الله ورسوله أكثر من أن
تحصر، ولكن من أوضحها دليل واحد؛ وهو أن يقال لمدعي الصحة: إذا كنت
تدعي أن هذا مما يحب الله وسوله وفعله أفضل من تركه، وهو داخل فيما حض
عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقة الجارية وغير ذلك، فمعلوم أن الإنسان
مجبول على حبه لولده وإيثاره على غيره حتى أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم، قال الله تعالى:{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} (التغابن: 15) ، فإذا
شرع الله لهم أن يوقفوا أموالهم على أولادهم ويزيدوا من شاءوا، أو يحرموا النساء
والعصبة ونسل البنات، فلأي شيء لم يفعل ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم؟ ولأي شيء لم يفعله التابعون؟ ولأي شيء لم يفعله الأئمة الأربعة وغيرهم؟
أرغبوا عن الأعمال الصالحة، ولم يحبوا أولادهم، وآثروا البعيد عليهم وعلى
العمل الصالح، ورغب في ذلك أهل القرن الثاني عشر [3] أم تراهم خفي عليهم
حكم هذه المسألة، ولم يعلموها حتى ظهر هؤلاء فعلموها؟ سبحان الله ما أعظم
شأنه وأعز سلطانه.
فإن ادعى أحد أن الصحابة فعلوا هذا الوقف، فهذا عين الكذب والبهتان؛
والدليل على هذا أن هذا الذي تتبع الكتب وحرض على الأدلة، لم يجد إلا ما ذكره
ونحن نتكلم على ما ذكره.
فأما حديث أبي هريرة الذي فيه (صدقة جارية) فهذا حق، وأهل العلم
استدلوا به على من أنكر الوقف على اليتيم وابن السبيل والمساجد، ونحن أنكرنا
على من غيَّر حدود الله وتقرب إليه بما لم يشرعه، ولو فهم الصحابة وأهل العلم
هذا الوقف من هذا الحديث لبادروا إليه.
وأما حديث عمر أنه تصدق بالأرض على الفقراء والرقاب والضيف وذوي
القربى وأبناء السبيل، فهذا بعينه من أبين الأدلة على مسألتنا، وذلك أن من احتج
على الوقف على الأولاد ليس له حجة إلا هذا الحديث؛ لأن عمر قال: لا جناح على
من وليه أن يأكل بالمعروف، وأن حفصة وليته ثم وليه عبد الله بن عمر،
فاحتجوا بأكل حفصة وأخيها دون بقية الورثة.
وهذه الحجة من أبطل الحجج، وقد بينه الشيخ الموفق رحمه الله والشارح [4] وذكر
أن أكل الولي ليس بزيادة على غيره، وإنما ذلك أجرة عمله كما كان في زماننا هذا،
يقول صاحب الضحية لوليها الجلد والأكارع، ففي هذا دليل من جهتين:
(الأول) : أن من وقف من الصحابة مثل عمر وغيره، لم يوقفوا على
ورثتهم، ولو كان خيرًا لبادروا إليه، وهذا المصحح لم يصحح بقوله: (ثم أدناك
أدناك) ، فإذا كان وقف عمر على أولاده أفضل من الفقراء وأبناء السبيل، فما باله
لم يوقف عليهم؛ أتظنه اختار المفضول وترك الفاضل؟ أم تظنه أنه هو ورسول
الله صلى الله عليه وسلم الذي أمره لم يفهما حكم الله.
(الثاني) : أن من احتج على صحة الوقف على الأولاد وتفضيل البعض،
لم يحتج إلا بقوله: (تليه حفصة ثم ذوو الرأي وأنه يأكل بالمعروف) وقد بينا
معنى ذلك وأنه لم يبر أحدًا، وإنما جعل ذلك للولي عن تعبه في ذلك. فإذا كان
المستدل لم يجد عن الصحة إلا هذا، تبين لك أن قولهم تصدق أبو بكر بداره على
ولده وتصدق فلان وفلان، وأن الزبير خص بعض بناته ليس معناه كما فهموا،
وإنما معناه أنهم تصدقوا بما ذكر صدقة عامة على المحتاجين، فكان أولاده إذا قدموا
البلد نزلوا تلك الدار؛ لأنهم من أبناء السبيل كما يوقف الإنسان مسقاة ويتوضأ منها
وينتفع بها هو وأولاده مع الناس، وكما يوقف مسجدًا ويصلي فيه، وعبارة
البخاري في صحيحه: وتصدق أنس بدار فكان إذا قدم نزلها، وتصدق الزبير
بدوره واشترط للمردودة من بناته أن تسكن. فتأمل عبارة البخاري يتبين لك أن ما
ذكره عن الصحابة مثل: من وقف نخلاً على المفطرين من الفقراء في هذا المسجد،
ويقول إن افتقر أحد من ذريتي فليفطر معهم، فأين هذا من وقف الجَنف والإثم
على أن هذه العبارة من كلام الحميدي، والحميدي في زمن القاضي أبي يعلى.
وأجمع أهل العلم على أن مراسيل المتأخرين لا يجوز الاحتجاج بها، فمن
احتج بهذا فقد خالف الإجماع، هذا لو فرضنا أنه يدل على ذلك، فكيف وقد بينا
معناه؟ ! ولله الحمد.
إذا تبين لك أن من أجاز الوقف على الأولاد والتفضيل، لم يجد إلا حديث
عمر وقوله ليس على من وليه جناح.. إلخ، وأن الموفق وغيره ردوا على من
احتج به [5] تبين لك أن حديث عمر من أبين الأدلة على بطلان الوقف الجنف
والإثم.
وأما قوله: لم يكن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة
إلا وقف، فهل هذا يدل على صحة وقف الجَنف والإثم، وما مثله إلا كمن رأى
رجلاً يصلي في أوقات النهي، فأنكر عليه فقال: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا
صَلَّى} (العلق: 9-10)، ويقول: إن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) يصلون أو يذكرون فضل الصلاة؛ وكذلك مسألتنا إذا قلنا {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي
أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} (النساء: 11)، {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} (النساء: 12) ، وغير ذلك أو قلنا: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا
وصية لوارث) ، أو قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم غلَّظ القول فيمن
تصدق بماله كله، أو قلنا:(اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)[6] وادعوا علينا أن
الصحابة وقفوا هل أنكرنا الوقف كأهل الكوفة حتى يحتج علينا بذلك؟
وأما قول أحمد: من رد الوقف فكأنما رد السنة، فهذا حق ومراده وقف
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما ذكره أحمد في كلامه. وأما وقف
الإثم والجنف، فمن رده فقد عمل بالسنة ورد البدعة واتبع القرآن.
وأما قوله: إن في صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكل
بالمعروف، وأن زيدًا وعمر سكنا داريهما التي وُقفتا؛ فيا سبحان الله من أنكر هذا
وهذا كمن وقف مسجدًا وصلى فيه هو وذريته، أو وقف مسقاة واستقى منها وذريته،
وقول الخرقي: والظاهر أنه عن شرط فكذلك، وهذا شرط صحيح وعلم صحيح؛
كمن وقف داره على المسجد أو أبناء السبيل واستثنى سكانها مدة حياته، وكل هذا
يردون به على أهل الكوفة، فإن هذا ليس من وقف الجنف والإثم.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : (ابدأ بنفسك ثم بمن تعول)، وقوله:
(صدقتك على رحمك صدقة وصلة) وقوله: (ثم أدناك أدناك) وأشباه ذلك، فكل
هذا صحيح لا إشكال فيه، لكن لا يدل على تغيير حدود الله، فإذا قال: {يُوصِيكُمُ
اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} (النساء: 11) ، وقف الإنسان على
أولاده ثم أخرج نسل الإناث محتجًا بقوله: (ثم أدناك أدناك) أو صلة الرحم،
فمثله كمثل رجل أراد أن يتزوج خالة أو عمة فقيرة فتزوجها يريد الصلة، واحتج
بتلك الأحاديث، فإن قال: إن الله حرم نكاح الخالات والعمات، قلنا: وحرم تعدي
حدود الله التي حدَّ في سورة النساء، قال: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ
يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} (النساء: 14) فإذا قال الوقف ليس من هذا، قلنا: هذا
مثل قوله: (من تزوج خالة إذا تزوجها لفقرها ليس من هذا) فإذا كان عندكم بين
المسألتين فرق فبينوه.
وأما قول عمر: إن حدث بي حادث إن ثمغي صدقة هذا يستدلون به على
تعليق الوقف بالشرط، وبعض العلماء يعطله فاستدلوا به على صحته، وأما القول:
إن عمر وقفه على الورثة فيا سبحان الله كيف يكابرون المنصوص ووقف عمر
وشرطه ومصارفه في ثمغ وغيرها معروفة مشهورة، وأما قول عمر: إلا سهمي
الذي بخيبر أردت أن أتصدق بها فهذا دليل على أهل الكوفة كما قدمناه، فإن هذا
دليل على صحة هذا الوقف المعلول الذي بطلانه أظهر من بطلان أصحابه
بكثير [7] .
وأما وقف حفصة الحلي على آل الخطاب فيا سبحان الله هل وقفت على
ورثتها أو حرمت أحدًا أعطاه الله أو أعطت أحدًا حرمه الله أو استثنت غلبة مدة حياتها
فإذا وقف محمد بن سعود نخلاً على الضعيف من آل مقري أو مثل ذلك هل أنكرنا هذا
وهذا وقف حفصة، فأين هذا مما نحن فيه.
وأما قولهم: إن عمر وقف على ورثته فإن كان المراد ولاية الوقف فهو
صحيح وليس مما نحن فيه، فإن كان مراد القائل أنه ظن أنه وقف يدل على صحة
ما نحن فيه فهذا كذب ظاهر ترده النقول الصحيحة في صفة وقف عمر، وأما كون
حفصة وقفت على أخ لها يهودي فهو لا يرثها ولا ننكر ذلك، وأما كلام الحميدي
فتقدم الكلام عنه.
وسر المسألة أنك تفهم أن أهل الكوفة يبطلون الوقف على المساجد وعلى
الفقراء والقربات الذين لا يرثونهم فرد عليهم أهل العلم بتلك الأدلة الصحيحة،
ومسألتنا هي إبطال هذا الوقف الذي يغير حدود الله وأشياء [8] حكم الجاهلية، كل
هذا ظاهر لا خفاء فيه، ولكن إذا كان الذي كتبه يفهم معناه، وأراد به التلبيس على
الجهل كما فعل غيره فالتلبيس يضمحل وإن كان هذا قدر فهمه وأنه ما فهم هذا الذي
تعرفه العوام في الخلفاء والخليفة على الله؟
وأما ختمه الكلام بقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} (الحشر: 7) فيا لها من كلمة ما أجمعها، ووالله إن مسألتنا هذه من إنكارها وقد أتانا
رسول الله صلى الله عليه وسلم بلزوم حدود الله والعدل بين الأولاد ونهانا عن تغيير
حدود الله، والتحيل على محارم الله، وإذا قدرنا أن مراد صاحب هذا الوجه وجه
الله لأجل من أفتاه بذلك فقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البدع في دين
الله ولو صحت نية فاعلها فقال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)
وفي لفظ: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)[9] هذا نص الذي قال الله فيه:
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} (الحشر: 7) وقال:
{وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (النور: 54) وقال: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31) فمن قَبِلَ ما آتاه الرسول وانتهى عما نهى
وأطاعه ليهتدي واتبعه ليكون محبوبًا عند الله فليوقف كما أوقف رسول الله صلى الله
عليه وسلم وكما وقف عمر رضي الله عنه وكما وقفت حفصة وغيرهم من الصحابة
وأهل العلم، وأما هذا الوقف المحدث المعلول المغير لحدود الله، فهذا الذي قال الله
فيه بعد ما حدَّ المواريث والحقوق للأولاد والزوجات وغيرهم {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن
يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الفَوْزُ
العَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ
مُّهِينٌ} (النساء: 13- 14) ، وقد علمت ما قال الرسول فيمن أعتق ستة العبيد
وما ردوا أبطل من ذلك فهو شبيه من أوقف ماله كله خالصًا لوجه الله على مسجد أو
صُوام أو غير ذلك فكيف بما هو أعظم وأطم من هذه الأوقاف؟
وأما قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الخَيْرَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الحج: 77) فوالله الذي لا إله إلا هو إن فعل الخير اتباع ما
شرع الله وتبطيل من غيَّر حدود الله، والإنكار على من ابتدع في دين الله، هذا هو
فعل الخير المعلق به الفلاح خصوصًا مع قوله صلى الله عليه وسلم: (وإياكم
ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة) وقوله لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا
محارم الله بأدنى الحيل وقوله: (لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها
فباعوها وأكلوا ثمنها) فليتأمل اللبيب الخالي عن التعصب والهوى الذي يعرف أن
وراءه جنة ونارًا، الذي يعلم أن الله يطلع على خفيات الضمير هذه النصوص ويفهمها
فهمًا جيدًا ثم ينزلها على مسألة وقف الجنف والإثم، ثم يتبين له الحق إن شاء الله
وصلى الله على محمد وآله وسلم.
_________
(1)
أي قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم والسنن الثلاث: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) .
(2)
أوقف يوقف لغة قليلة، ووقف أكثر وأفصح.
(3)
عصر الشيخ رحمه الله.
(4)
الشيخ الموفق هو ابن قدامة صاحب المغني في الفقه الذي هو أجل كتب الإسلام في الفقه وصاحب المقنع، وأما الشارح فهو ابن أخيه شارح المقنع والكتابان يطبعان الآن بمطبعة المنار بأمر الإمام عبد العزيز ملك الحجاز ونجد.
(5)
وقد تقدم فيما نقلنا عن الحافظ ابن حجر من شرح الحديث حكاية هذا الرأي وأنه تعقبه بمثل ما نقله الشيخ هنا عن الشيخ الموفق وغيره.
(6)
رواه الشيخان من حديث النعمان بن بشير مرفوعا.
(7)
كذا في الأصل وفيه بياض بعد كلمة أصحاب، ويجب أن يكون المعنى المراد أن قول عمر - على صحة وقفه- لا الوقف المعلول الذي بطلانه إلخ.
(8)
كذا في الأصل.
(9)
الأول رواه أحمد والشيخان وغيرهما، والثاني رواه أحمد ومسلم، وكلاهما عن عائشة رضي الله عنها.
الكاتب: محمد رشيد رضا
من عنيزة إلى قاهرة مصر
في رجب سنة 1346
بسم الله الرحمن الرحيم
أبعث جزيل التحيات، ووافر السلام والتشكرات، لحضرة الشيخ الفاضل
السيد محمد رشيد رضا المحترم حرسه الله تعالى من جميع الشرور، ووفقه وسدده
في كل أحواله آمين، أما بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فالداعي لذلك ما
اقتضاه الحب ودفعه الود المبني على ما لكم من المآثر الطيبة التي تستحقون بها
الشكر من جميع المسلمين التي من أعظمها تصديكم في مناركم الأغر لنصر الإسلام
والمسلمين، ودفع باطل الجاهلين والمعاندين، رفع الله قدركم وأعلى مقامكم،
وزادكم من العلم والإيمان ما تستوجبون خير الدنيا والآخرة، وأنعم عليكم بنعمه
الظاهرة والباطنية، ثم إننا نقترح على جنابكم أن تجعلوا في مناركم المنير بحثًا
واسعًا لأمر نراه أهم البحوث التي عليها تعولون وأنفعها لشدة الحاجة بل دعاء
الضرورة إليه ألا وهو ما وقع فيه كثير من فضلاء المصريين وراج عليهم من
أصول الملاحدة والزنادقة من أهل وحدة الوجود والفلاسفة بسبب روجان كثير من
الكتب المتضمنة لهذه الأمور ممن يحسنون بهم الظن ككتب ابن سينا وابن رشد
وابن عربي ورسائل إخوان الصفا بل وبعض الكتب التي تنسب للغزالي وما أشبهها
من الكتب المشتملة على الكفر برب العالمين والكفر برسله وكتبه واليوم الآخر،
وإنكار ما عُلِمَ بالضرورة من دين الإسلام، فبعض هذه الأصول انتشرت في كثير
من الصحف المصرية بل رأيت تفسيرًا طبع أخيرًا منسوبًا للطنطاوي قد ذكر في
مواضع كثيرة في تفسير سورة البقرة شيئًا من ذلك ككلامه على استخلاف آدم وعلى
قصة البقرة والطيور ونحوها بكلام ذكر فيه من أصول وحدة الوجود وأصول
الفلسفة المبنية على أن الشرائع إنما هي تخييلات وضرب أمثال لا حقيقة لها، وأنه
يمكن لآحاد الخلق ما يحصل للأنبياء ما يجزم المؤمن البصير أنه مناقض لدين
الإسلام وتكذيب لله ورسوله، وذهاب إلى معانٍ يُعلم بالضرورة أن الله ما أرادها
وأن الله بريء منها ورسوله، ثم مع ذلك يحث الناس والمسلمين على تعلمها وفهمها،
ويلومهم على إهمالها وينسب ما حصل للمسلمين من الوهن والضعف بسبب
إهمال علمها وعملها.
وَيْح من قال ذلك، لقد علم كل من عرف الحقائق أن هذه العلوم هي التي
أوهنت قوى المسلمين وسلطت عليهم الأعداء وأضعفتهم لزنادقة الفرنج وملاحدة
الفلاسفة، وكذلك يبحث كثير منهم في الملائكة والجن والشياطين ويتأولون ما في
الكتاب والسنة من ذلك بتأويلات تشبه تأويلات القرامطة الذين يتأولون العقائد
والشرائع فيزعمون أن الملائكة هي القوى الخيرية التي في الإنسان فعبَّر عنها
الشرع بالملائكة كما أن الشياطين هي القوى الشريرة التي في الإنسان فعبَّر عنها
الشرع بذلك، ولا يخفى أن هذا تكذيب لله ولرسله أجمعين، ويتأولون قصة آدم
وإبراهيم بتأويل حاصله أن ما ذكر الله في كتابه عن آدم وإبراهيم ونحوهما لا حقيقة
له، وإنما قصد به ضرب الأمثال، وقد ذكر لي بعض أصحابي أن مناركم فيه
شيء من ذلك وإلى الآن ما تيسر لي مطالعته ولكن الظن بكم أنكم ما تبحثون عن
مثل هذه الأمور إلا على وجه الرد لها والإبطال كما هي عادتكم في رد ما هو دونها
بكثير، وهذه الأمور يكفي في ردها في حق المسلم المصدق للقرآن والرسول مجرد
تصورها، فإنه إذا تصورها كما هي يجزم ببطلانها ومناقضتها للشرع، وأنه لا
يجتمع التصديق بالقرآن وتصديقها أبدًا، وإن كان غير مصدق للقرآن ولا للرسول
صار الكلام معه كالكلام مع سائر الكفار في أصل الرسالة وحقيقة القرآن.
وقد ثبت عندنا أن زنادقة الفلاسفة والملحدين يتأولون جميع الدين الإسلامي:
التوحيد والرسالة والمعاد والأمر والنهي بتأويل يرجع إلى أن القرآن والسنة كلها
تخييلات وتمويهات لا حقيقة لها بالكلية ويلبسون على الناس بذلك ويتسترون
بالإسلام، وهم أبعد الناس عنه كما ثبت أيضًا عندنا أنه يوجد ممن كان يؤمن بالله
ورسوله واليوم الآخر ويعظم الرسول وينقاد لشرعه وينكر على هؤلاء الفلاسفة
ويكفرهم في أقوالهم أنه يدخل عليه شيء من هذه التأويلات من غير قصد ولا
شعور لعدم علمه بما تؤول إليه ولرسوخ كثير من أصول الفلسفة في قلبه، ولتقليد
من يعظمه وخضوعًا أيضًا، ومراعاة لزنادقة علماء الفرنج الذين يتهكمون بمن لم
يوافقهم على كثير من أصولهم ويخافون من نسبتهم للبلادة وإنكار ما علم محسوسًا
بزعمهم فبسبب هذه الأشياء وغيرها دخل عليهم ما دخل، فالأمل قد تعلق بأمثالكم
لتحقيق هذه الأمور وإبطالها فإنها فشت وانتشرت وعمت المصيبة بها الفضلاء
فضلاً عمن دونهم، ولكن لن تخلو الأرض من قائم لله بحجة يهتدي به الضالون،
وتقوم به الحجة على المعاندين، وقد ذكرت لحضرتكم هذه الأشياء على وجه التنبيه
والإشارة؛ لأن مثلكم يتنبه بأدنى تنبيه، ولعلكم تجعلونه أهم المهمات عندكم؛ لأن
فيه الخطر العظيم على المسلمين، وإذا لم ير الناس لكم فيه كلامًا كثيرًا وتحقيقًا تامًا
فمن الذي يعلق به الأمل من علماء الأمصار؟ والرجاء بالله أن يوفقنا وإياكم لما
يحبه ويرضاه ويجعلنا وإياكم من الهادين المهتدين إنه جواد كريم، وصلى الله على
محمد وسلم.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محبكم الداعي
…
...
…
...
…
...
…
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
(المنار)
إننا لا نألو جهدًا في الرد على كل ما نطلع عليه من البدع المخالفة لكتاب الله
والصحيح من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي الدعوة إليهما على الوجه
الذي كان عليه جمهور السلف الصالح، وفي الرد على خصومهما كما يرى في
مقالة أعداء الإسلام من هذا الجزء، والذي نعلمه أن بدعة وحدة الوجود وفلسفة
اليونان في الإلهيات والرسالة التي فتن الناس بها الباطنية وغيرهم في عصرهم قد
نسخت وزالت في هذا العصر فلم يبق لهم دعاة، وإن كان لها اتباع قليلون وتفسير
الشيخ طنطاوي جوهري لم نطلع عليه وإنما رأينا جزءًا واحدًا منه عند أحد
أصدقائنا فتصفحت قليلاً منه في بضع دقائق فرأيت أن همه منه حث المسلمين على
علوم الكون وشرح الكثير من مسائلها بمناسبة الآيات التي ترشد الناس إلى آياته
تعالى في خلقه ونعمه على عباده كما جرى عليه في كتب أخرى له، وما نعرفه
إلا مسلمًا يغار على الإسلام ويحب أن يجمع المسلمون بين الاهتداء به والانتفاع
بعلوم الكون التي تتوقف عليها قوة الدول وثروة الأمم في هذا العصر، ونحن قد
سقناه بالدعوة إلى هذا، وبيناه بالدلائل في مواضع كثيرة من تفسيرنا من المنار وإن
كنا أشرنا إلى الانتقاد على خطة الأستاذ المذكور في تفسيره فيما بيناه من أساليب
المفسرين في فاتحة الجزء الأول من تفسيره ومراجعة ما كتبه من الآيات التي
ذكرتموها.
ويجب عليكم أن تفرقوا بين علوم الكون التي ندعو إليها وبين الفلسفة قديمها
وحديثها، فالفلسفة آراء ونظريات فكرية، وعلوم الكون عبارة عن العلم بما أودع
الله تعالى في خلقه من المنافع كمنافع الماء وبخاره والهواء وما تركبا منه ومنافع
الكهرباء التي منها التلغراف والتليفون وغيرهما بجميع الصناعات العجيبة والآلات
الحربية من برية وبحرية وهوائية وجميع العقاقير الطبية مأخوذة من هذه العلوم
فهي حقائق قطعية ثابتة بالحس، فمن يزعم أنها تخالف ما بعث به الله رسله فقد
طعن في دين الله وصد العلماء بها عنه؛ لأنهم لا يستطيعون أن يكذبوا حواسهم.
وأما كفر من يكفرون في هذا العصر فأكثره من تأثير فلسفة الإفرنج المخالفة
لفلسفة اليونانيين ومن جرى على طريقتهم كالعرب، وإن خالفهم في بعض
النظريات كابن سينا وابن رشد وغيرهما، والرد على هؤلاء بما يرجى أن ينفعهم
أو يقي كثيرًا من الناظرين في فلسفة العصر من إضلالهم يتوقف أحيانًا على تأويل
بعض الآيات والأحاديث تأويلاً ينطبق على مدلولات اللغة في مفرداتها وأساليبها
ويتفق مع العلم والعقل.
وليعلم أخونا صاحب هذه الرسالة أن الملاحدة والمعطلين في مصر وأمثالها قد
يصرَّحون بكفرهم ولا يخشون عقابًا ولا إهانة فهم لا يحتاجون إلى التستر بالإسلام
كزنادقة الباطنية المتقدمين، وقصارى ما يلقونه من النقد إذا صرَّحوا بكفرهم في
الكتب أو الجرائد أن يرد عليهم بعض المسلمين بالكتابة والناس أحرار فيها، فإذا
ادعى بعضهم مع نشر الكفر أنه مؤمن وجد من ينصره ويقول: إن ما كتبه لا ينافي
الإيمان ولا يصادم الإسلام، ولم يصرح أحد من المصريين في هذا العهد بالطعن
في الإسلام وتكذيب القرآن بمثل ما صرَّح به الدكتور طه حسين المشتغل بالجامعة
المصرية تدريسًا وتأليفًا ولم يلق أحد من التكفير والتجهيل والطعن على ذلك مثل ما
لقي من الكُتَّاب والمؤلفين من علماء الدين وعلماء الدنيا حتى اقترح بعض أعضاء
مجلس النواب عزله من الجامعة فلم تعزله الحكومة؛ لأن أنصاره فيها كانوا أقوى
من خصومه وكان منهم عدلي باشا رئيس الوزارة وثروت باشا وزير الخارجية
الذي طرز الدكتور طرة كتاب الطعن باسمه، وعلي باشا الشمسي وزير المعارف
وأحمد لطفي السيد مدير الجامعة.
وقد بيَّنا في فاتحة تفسيرنا وفي مواضع أخرى منه مسألة التأويل فذكرنا أننا
نلم بتأويل بعض الآيات لأجل الدفاع عن القرآن، ورد بعض الشبهات التي يوردها
الفلاسفة أو غيرهم عليها حتى لا يكون لهم حجة مقبولة عليها مع تصريحنا بأن
اعتقادنا الذي ندعو إليه ونرجو أن نموت كما نحيا عليه هو اتباع مذهب السلف في
كل ما يتعلق بعالم الغيب من الإيمان بالله وصفاته وملائكته وجنته وناره.
والتأويل قد يكون المنقذ الوحيد لبعض الناس من الكفر وتكذيب القرآن؛ إذ
من المعلوم أن الموقن بصدق القرآن لا يخرج من الملة بفهم بعض آياته فهمًا مخالفًا
لفهم غيره إذا لم يكن في فهمه هذا جحد لشيء مجمع عليه معلوم من الدين
بالضرورة، ونرجو أن يقرأ أخونا صاحب هذه الرسالة الجزء الأول من تفسير
المنار المشتمل على هذا البحث ويكتب إلينا بما يراه فيه، فإنني كنت منذ سنين
كثيرة أتمنى لو يطلع بعض علماء نجد على المنار ويفتح بيني وبينهم البحث
والمناظرة العلمية الدينية فيما يرونه منتقدًا لينجلي وجه الصواب فيها، وقد كنت
كتبت إلى إمامهم بذلك، وإنني سأرسل إليه عشر نسخ من كل جزء ليوزعها على
أشهرهم، وفعلت ذلك عدة سنين ولكن لم يأتني منه جواب، ثم ترجَّح عندي أن تلك
النسخ كانت تختزل من البريد البريطاني في سني الحرب وما بعدها.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
خرافات عباد القبور في الصومال
جاءنا من الموحد السني صاحب الإمضاء الرمزي في (مركة - بنادر)
بالصومال الرسالة الآتية:
ظهرت بهذا القطر الصومالي الإسلامي البحت فئة تشبه الأَرَضَة التي تأكل
خشب السفينة، تلك الفئة الضالة المضلة التي تجردت من كل عاطفة بعد أن خلت
من كل مزية وفضيلة، تلك الفئة التي تظهر في كل زمان ومكان يفتنون المسلمين
بزيارة المشاهد والقبور والذبح والنذور ويزينون لهم الخرافات بزخرف أقوالهم
وبظاهر كبر عمائمهم وطول ذقونهم حتى ليخيل للناظر لأول مرة أنهم من أفاضل
العلماء أو من الرجال والوجهاء على حين لو اطلعت على ما في قلوبهم أو تيسر لك
الوقوف على أسرارهم وما يفعلونه في الخفاء لوليت منهم فرارًا ولملئت منهم رعبًا.
فياللأسف وايم الله لقد فشت بهذا القطر الإسلامي البحت المنكرات والخرافات
بزيارات المشاهد والقبور والذبح لها والطواف بها كطواف الكعبة المشرفة
وخصوصًا عند مشهد عويس (أويس القرني) بمقدشوه إذ تجتمع بهذه الزيارة الألوف
المؤلفة وعند الطواف كل طائفة تأمر الأخرى بآية الاستغفار هكذا {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ
إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَاراً} (نوح: 10-11) ثم يتوجهون
نحو البلاد يطوفون طولاً وعرضًا صائحين بأعلى أصواتهم بآية الاستغفار على ما
تقدم إلى أن تصل كل قبيلة حارتها فينتهي الاحتفال، وبعد غروب الشمس يتوجه نساء
البلاد نحو المشهد للزيارة ومعهن طبول وعيدان خشب مثقوب يصفقن بها بأيديهن
حاملات للبخور ويمكثن هناك قدر ساعتين يغنين ويمدحن سيدتنا فاطمة الزهراء،
وعند القيام يتبركن بصاحب المشهد بأخذ شىء قليل من تراب المحل يأكلن منه لأجل
الحبل أو للجاه والقبول عند الرجال وغير ذلك.
وكذلك تأسست من مدة قريبة زيارات جديدة للسيد أحمد الرفاعي بمقدشوه
وغيرها وهي من أكبر المنكرات، وليلة زيارة السيد المذكور ترخص الدولة جميع
اللعوبات والملاهي، كاليوم يعمل بها الطبول والمزامير والرقص والطنبرة السودانية
ولعب الزار ورقص في الخدم وغيرها من أصناف لعب الأرض حول المسجد الذي
تقام فيه بدع الطريقة الرفاعية مدة أربع ليال، وشيخ الطريقة ومريدوه وأنصاره
الناشرون للخرافات داخل المسجد يتلون مناقب السيد أحمد الرفاعي، والغوغاء
والطبول والمزامير حولهم ولا ينكرون عليهم شيئًا سوى أنهم يهنئ بعضهم بعضًا
بأن هذه السنة للزيارة تحسنت جدًّا، يكثر أصناف الرقص والملاهي أمام المسجد
والغرض من قولهم: تحسنت الزيارة لديهم، نعم تحسنت جدًّا بحصول الدراهم
والمال من عامة الجهال، عباد القبور والخيال، حتى إن أحد السادة ادعى أنه رأى
سيدتنا الزهراء فبنى لها مشهدًا يُزَار كل سنة وتجتمع عنده ناس كثيرون لتلاوة
المولد النبوي الشريف، وإن المنكبين على هذه الزيارة النساء فقط؛ لأن منهم
يحصل المقصود.
وكذلك زيارة الشيخ صوفي المشهور بعلمه وورعه المدفون بمقدشوه له زيارة
عظيمة تجتمع إليها الخلائق من جميع أنحاء القطر، ويكون بها رخصة لجميع
الملاهي والرقص مثل ما تقدم ذكره، ولكن قبة الشيخ المذكور خارج المدينة بعيدة
من محل الراقصات والطبول والمزامير، وعشية ليلة الزيارة تروح إلى القبة جميع
الطرائق بزفات كمثل زفة الرفاعي والقادري وزفة الصالحية والأحمدية، ويذكرون
هناك أذكارًا مبدلة وأسماء محرَّفة إلى غروب الشمس فإذا غربت توجهت زفات
الطرائق نحو المدينة إلى بيت أولاد الشيخ المذكور وهناك يتلون الفاتحة وينتهي
عملهم، وتلك الليلة تروح نساء المدينة ويمكثن هناك طول الليل إلى قرب الفجر
وتذبح البقر وبعض الغنم ويستمر الطبخ هناك طول الليل، والبعض إلى ثاني يوم
إلى وقت الرجوع يدخلن لتقبيل التابوت وأخذ قليل من تراب القبر.
ومن هذا النوع زيارة الشيخ عثمان بمركة يطوفون بقبته مثل زيارة عويس
(أويس) القرني المتقدم ذكره، وتلك الزيارة لها فسحة لجميع اللعوبات أصحاب
الطبول والمزامير وغيرها وتجتمع خلائق من أنحاء القطر الصومالي رجالاً ونساء
وأغلبية هذه الخلائق تجتمع لأجل الفحشاء والمنكرات، وثاني ليلة تكون زيارة
النساء الناشئات على الخرافات وسيء العادات فيغتسلن من ماء بركة المسجد
عاريات؛ لأن الشيخ المدفون كان يغتسل عند هذه البركة في أيام حياته، ومن
اعتقاداتهم أن من اغتسل من تلك البركة فقد محا الله ما تقدم من ذنوبه، ويقضي الله
مراده ولا يصيبه داء طول السنة ولا يخلو من اختلاط بعض الشبان معهن، وثالث
ليلة تجتمع جميع الطرائق، وكل طريقة تأخذ راية من الرايات التي على المسجد
ويدخلون في البلاد بزفات وحامل الراية أمامهم وعند مرورهم بالأزقة يقرب حامل
الراية حول شبابيك البيوت قصد التبرك بمسح الراية على وجوه النساء ويربطن
بالراية بعض نقود لحامل الراية الولي المذكور إلى أن يصل الجميع إلى دار القائم
بخدمة الولي المذكور فتنتهي الزيارة هكذا.
ومثله زيارة رجل عالم من علماء مركة وشيخ الطريقة الأحمدية تجتمع لها
جميع البوادي البرية وأهل بلدان أخرى رجالاً ونساء ويختلط الحابل بالنابل فهي
أعظم زيارة من نوعها لجمع المال من الجهال العامة ويجري بها حسب ما تقدم من
الكلام، وأحيانًا يقف أحد أولاد الميت ويخطب في القوم بأن من فاته هذه الزيارة
كمن فاته الحج بمكة والوقوف بعرفات.
وكذلك زيارة أحد علماء مقدشوه ورئيس القضاة سابقًا توفي إلى رحمة الله من
مدة قريبة فبنت الدولة على قبره أحسن قبة وأنشأت له زيارة بكل سنة مثل هذه
الأمور المتقدمة من عباد القبور الخرافيين، وإنها لخطة طيبة لجمع المال من عامة
الجهال بدون تعب، ومن هذا القبيل كل من مات له والد أو ولد أو أخ بنى على
قبره وبعد حلول سنة رتب الزيارة على القبر ونادى في البلاد بحضور زيارة الشيخ
فلان اليوم فتجتمع خلائق كثيرة: فبعض لأجل الأكل، وبعض للزيارة والتبرك من
الشيخ المدفون، وبعد تلاوة المولد النبوي الشريف يقف عند الباب أحد أقرباء
الميت يسأل الناس الخارجين من القبة واحد بعد آخر إيش جبت للشيخ حق الزيارة
فيتلجلج الزائر فيدفع الذي يتيسر له بجيبه خوف أن يبطش به الشيخ المدفون في
الليل عند المنام.
فإذا نصح لهم ناصح كفَّروه وأخرجوه من الدين بسبب أنه أهان معبودهم
المشهور أو المقبور فلقبوه بعدئذ بالوهابي أو الإرشادي وعندهم أصحاب هذه
الألقاب أهل بدعة وزندقة وخارجون عن المذاهب الأربعة:
فهل يجوز لهم أن يتجروا بالأموات؟ وهل يجوز أكل تراب المشهد؟ أو
تقبيل التابوت أو يحلفوا بهم؟ وهل يجوز الطواف على الصفة المتقدمة؟ وما حكم
هذه الأمة وهذه حالتها وهذه الزيارات المذكورة وخلافها أغلبها بدعية وشركية؟
ربنا اهدنا إلى الصراط المستقيم.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
غيور
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار
أحيي فضيلتكم، وبعد فإن دفاعكم عن الدين الإسلامي يشجعني على سؤالي هذا،
وأن أرفع طرفي إلى السماء وأبسط أكف الضراعة إلى الله تعالى راجيًَا رد هذا
الجواب وإفادتي وأهل هذا القطر بنشره في مجلة المنار، نفعنا الله بكم وبالمسلمين
آمين.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
الإمضاء الحقيقي
(المنار)
إن خرافات أهل الطرائق المنسوبة إلى الصوفية قد أفسدت عوام المسلمين في
المشرق والمغرب، وإن فتنتها في إفريقية أعظم مما في غيرها، ويظهر أن
إفسادها لدين أهل الصومال أشد من إفسادها لغيرهم؛ لعدم وجود العلماء العارفين
بالكتاب والسنة ومذاهب الأئمة، وإن هذا الفساد عندكم لم يُبق للتوحيد الإسلامي بقية
تعصم أصحابها من دعاء غير الله ورجاء النفع وخوف الضرر من الموتى بدون
الأسباب العادية التي يتساوى فيها البشر.
فما سألتم عنه من المتاجرة بالأموات وأكل تراب المشهد والقبر وتقبيل
التوابيت لو لم يكن ناشئًا عن عقيدة وثنية وخرافية شركية لكانت من المعاصي
العادية، ولكن كل هذه أعمال وثنية صرفة وأصحابها ممن وصفهم الله في كتابه
بأنهم {اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا} (الأنعام: 70) وبقوله:
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} (البقرة: 165)
وبقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3) الآية، وبقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ
اللَّهُ} (الشورى: 21) نعم، إن كل هذه الجموع التي وصفتم أعمالها عند هذه
المشاهد والمقابر يتقربون إلى الله تعالى بما يعملون، وكل ما يتقرب به إلى الله فهو
عبادة.
وأجمع المسلمون على أن الله تعالى لا يُعْبَدُ إلا بما شرعه من الدين وبيَّنه عنه
خاتم رسله صلى الله عليه وسلم، فإن عُبِدَ بما لم يشرعه كانت العباده معصية كما
قال الفقهاء في صلاة الرغائب وصلاة شعبان قال النووي في المنهاج: (وصلاة
رجب وشعبان بدعتان قبيحتان مذمومتان) فكيف القول ببدع القبور الوثنية وهي
عبادة لغير الله، نسأله تعالى أن ينصر إمام السنة عبد العزيز بن سعود ملك الحجاز
ونجد وقومه ليجعل الحرمين الشريفين مثابة لإعادة دين التوحيد بالعمل كما كان،
فإن نشره بالعلم وحده صار متعذرًا؛ لعموم الجهل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مختارات من الجرائد
فصل الدين عن السياسية [1]
من جملة بنود بروغرام الوزارة البلجيكية الجديدة مساعدة المبشرين للدين
المسيحي على تنصير أهل الكونغو الوطنيين.
وهذا البروغرام قد قُرئ في المجلس النيابي وجرى قبوله مع أن أكبر حزب
في بلجيكا هو حزب الاشتراكيين إذا قيس بكل من سائر الأحزاب السياسية في هذه
البلاد، ومعلوم أن حزب الاشتراكيين غير متدين لكنه لم يعترض.
ونحن لا يسوءنا أصلاً أن يتنصر أهالي الكونغو ويتخلصوا من الفتيشية ولا
نخشى أن النزر من المسلمين العرب الذين في تلك البلاد يتحولون عن الإسلام،
كما أننا نعتقد أن مرمى الحكومة البلجيكية في مشروع الدعاية المسيحية هو
الفتيشيون الذين هم الأكثرية في الكونغو، لذلك فكلامنا ليس من باب الاعتراض
على مشروع التنصير الذي قرَّرت الحكومة البلجيكية معاضدته، ولكن مقصودنا من
هذا الخبر شيء آخر، وهو أن الحكومات المتشبعة بروح المدنية لا تعادي الدين
كما يقول بعض الملحدين، بل هي تعاونه وتتزلف بنشره إلى شعوبها.
وعلى كل الأحوال فدولة بلجيكا دولة مدنية تامة الإرادة.
وعلى كل الأحوال أمة بلجيكا أمة متمدينة راقية لا تنحط عن أمة أخرى
أوربية في سلم الاجتماع ولا في درجات الثقافة.
وهي مع ذلك تجعل من أركان بروغرامها نشر الدين المسيحي في مستعمرة
الكونغو التي هي من أعظم مستعمرات أوربة في أفريقية وأغناها.
إذن المدنية تجتمع مع الدين
إذن الحكومة تتصل بالكنيسة.
إذن اللادينية ليست شرطًا من شروط الحضارة الأوربية.
إذن بلجيكا أمة مسيحية، لا تزال مسيحية وحكومتها تتقرب إليها بإعلان نشر
الدين المسيحي.
إذن هذه الدعاية الدينية لن تضير رقي بلجيكا شيئًا.
إذن الحكومات الشرقية التي تزعم أنها إنما تقطع صلتها بالدين الإسلامي
اقتداء بحكومات أوربة التي بزعمها قطعت صلتها بالدين المسيحي إنما هي حكومات
تضلل أفكار السُّذَّج من رعيتها وتموه عليهم وتقصد حربًا وتوري بغيرها.
إذن هذه الحكومة كاذبة فيما تزعم، وإذن ناشرو دعايتها في مصر والبلاد
العربية كاذبون أيضًا.
إذن على الأمة المصرية وعلى الأمة العربية جمعاء أن يتنبهوا للحقائق.
بروكسل 16 ديسمبر (ش)
(المنار)
من الجلي الواضح أن الكاتب يعني أن الحكومة التركية كانت تقصد حرب
الدين الإسلامي وتدعي أنها إنما تتبع مدنية أوربة الراقية، وقد برح الخفاء وظهر
غرضها لكل أحد.
***
الإسلام في أميركا
قسيس مسيحي يسلم
نشرت إحدى المجلات الأمريكية بحثًا ممتعًا لراهب جزويتي تناول فيه مسألة
سرعة انتشار الدين الإسلامي في الولايات المتحدة الأمريكية، ومما جاء فيه:
لقد أخذ الإسلام ينتشر بسرعة مدهشة في جميع أنحاء الديار الأمريكية،
ويبذل ناشروه جهدًا عظيمًا في هذا السبيل حتى عم القرى والمدن الأمريكية، وكلما
حل بجهة اتخذ له مقامًا فيها بشكل محفل أو لجنة أو جمعية يرأسها أناس من
المسلمين.
وفي أميركا خمسة مراكز إسلامية عالية: أهمها مركز نيويورك وأعضاؤه
135 شخصًا ثم مركز ديترويت ثم مركز أنديانانوس وأعضاؤه 36 شخصًا. وإمام
المسجد مسلم من إفريقيا، وفي سنت لويس 75 مسلمًا، ويرجع الفضل في ذلك كله
إلى قسيس مسيحي أسلم، وقام بمهمة التبليغ بالإسلام بين عامة الشعب وقد كلل
جهاده بالنجاح.
وهناك أيضًا سبعين عضوًا من عِلْيَة الأميركيين يقومون بوظيفة تبليغ الدين
الإسلامي ونشره في الأرجاء الأميركية، ولقد صار مركز المسلمين الأميركيين في
بلدة (ووتوكارو) وفيها مسجد شامخ.
وقد كثرت المساجد في أميركا، والصلاة تقام فيها في كل أوقاتها بانتظام
مستمر، وقد أثرت وأثمرت تعاليم الدين الإسلامي في قلوب الكثير من أبناء أميركا.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
الجامعة العربية
***
النصب الصهيوني
جامع عمر وهيكل سليمان
في العام الماضي نشرت جريدة الحرية التي تصدر في ديترويت من الولايات
المتحدة الأمريكية ما يأتي:
هل الصهيونية يهودية محضة أم هي أحدث الزحافات التي أخترعتها لندن
لتدويخ العالم أجمع؛ ولإنهاء أجل التمدن الحالي بالمعامع الكبرى الآتي وقوعها في
الشرق الأدنى، وستشعلها شرارة الصهيونية حول القبر المقدس وجامع عمر
ورجمة حجارة يحجها اليهود ويبكون مجد الهيكل الزائل منذ زوال الدولة اليهودية
على أيام الرومانيين أو بعد المسيح بنحو ستين سنة.
***
شيء عن الصهيونية وحكاية الهيكل
تذيع أخبار البروبغندا اليهودية أن الصهيونيين ساعون في الاستعداد لإقامة
هيكل سليمان مكانه القديم وعلى أنقاض أقدس جامع لدى العالم الإسلامي بعد مكة
والمدينة، وقد توسعت البروبغندا المذكورة فقالت: إن اليهود قد أتموا معدات
الهيكل لكنهم لم يجمعوها بعد، ولكنها معدة من حجارة ورخام وحديد وهلم جرَّا
وموزعة على مراكز الجمعيات اليهودية في أقطار أوربا وأميركا، وقد اصطنعوها
على طريقة منظمة كما تصنع أجزاء سيارة فورد في معامل عديدة، ثم متى حان
تركيبها معًا تجمع في المكان المعد لتأليفها وتركيبها وبقليل من الوقت تخرج من
المعمل معدة للاستعمال، وهكذا قضية الهيكل السليماني في أخبار الجرائد
الأميركية، وقد شفعه مذيعوه بالإشارة إلى ما دون ذلك من أهوال الحروب؛ لأن
العالم الإسلامي بأجمعه يقاوم بالقوة اعتداء كهذا على مقام ديني له أمجد أثر في
تاريخ التمدن الإسلامي بعد المقامات النبوية في مكة والمدينة ويعترف مخترعو
هذه الدعوة اليهودية أن مجرد ترويجها خطر على سلام فلسطين فكيف بهم إذا
حاولوا تنفيذها.
ويقولون - وليسوا بمكترثين لوخامة العاقبة -: إن أكبر المعامع في تاريخ
العالم ستجيء في فلسطين، ولكنهم يعتقدون أن مسيحهم المنتظر سيظهر على
الأرض وينصر الدولة اليهودية الجديدة ويُرجع إليها عز داود ومجد سليمان ويكون
الهيكل الجديد قصر الملك اليهودي ومقام النبي أو المخلص مسيّا الآتي، وتشف
البروبغندا التي يذيعونها بهذا الصدد عن كون الجامعات اليهودية قد أعدت مسيّا مع
معدات الهيكل وأخذت تمهد للهجوم بخيلها ورَجْلها ومالها وآمالها على جامع عمر
فتهدمه وعلى كنيسة القيامة فتكمل ما فعلته بها الزلازل، ثم بعد أن تكتسح المحمدية
والمسيحية من أرض الفلسطينيين تعيد إلى العالم اليهودي دولته وتجمع أشتاته من
أطراف الدنيا، وإذا لم تستطع الصهيونية تحقيق كل هاتيك الأوهام والأحلام تعود
قانعة بما تستطيعه من جمع أموال التبرعات اليهودية في الولايات المتحدة وسائر
بلدان العالم.
(المنار)
لا شك عندنا أن كلا من اليهود والإنكليز يكيد للآخر ليستعمله في الوصول
إلى غرضه المنافي لغرض الآخر، ولا شك عندنا في أن الفتنة المنتظرة هي من
أعظم فتن الأرض أو أعظمها على الإطلاق، وهي محاولة إعادة ملك اليهود المعبر
عنها في الأحاديث بفتنة المسيح الدجال.
_________
(1)
نقلا عن جريدة الأخبار الصادرة في 28 جمادى الثانية سنة 1346.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الملك فيصل بمصر
مر الملك فيصل بمصر في الخريف الماضي عائدًا من أوربة إلى العراق
واتفق لنا التلاقي مع جلالته بسعي الأخ إحسان بك الجابري الذي كان رئيس الأمناء
له في دمشق إذ كنت فيها؛ لاعتقاده أن تلاقينا قد يفضي إلى ما يفيد الأمة العربية ما
كنا سعينا له هنالك، ولم يتم أو أكثر منه، ذلك بأنه ذكر لي بعد زيارته له أنه
جرى ذكري في الحديث معه في اختلاف السوريين المشتغلين هنا بسياسة المسألة
السورية، وأن جلالته أثنى عليَّ بهذه المناسبة ونوَّه بما كان من احترامه إياي
وتقديمي والثناء عليَّ، وأنه لم يجر بيننا من التغاير ما يسوغ في نظره ما كان بعد
ذلك من طعني فيه، وذكر أنه مع ذلك لم يقل فيَّ كلمة سوء وما زال يقول كل خير.
وسألني إحسان بك هل لدي مانع يصدني عن لقائه بعد هذا العلم بشعوره
الشريف، وكلامه اللطيف، قلت: إن إخواني من هيئة إدارة جمعية الرابطة
الشرقية قد كتبوا إليَّ بأنهم قرروا أن يستقبل جلالته وفد منهم ودعوني إلى ذلك فلم
أذهب؛ لأنني لم أر من الذوق أن أقابله بادئ ذي بدء بعد أن كان ما كان من كلامي
في سياسته وسياسة والده وإخوته، ولو فعلت لكان ذلك مدعاة للقيل والقال، وسوء
التأويل.
قال: وما تقول إذا أبدى جلالته رغبة في هذا التلاقي؟ قلت: أقابل هذه
الرغبة بمثلها بل بخير منها؛ لأنني أسأت إليه ولم يسئ إليَّ، فهل يصح أن
يرضى هو وأظل أنا ساخطًا؟ إذًا أكون حكمت على نفسي باللؤم، وحكمت له
بأعلى مكارم الأخلاق، مهما أكن موقنًا بأنني كنت مصيبًا في انتقادي عليهم وخادمًا
لأمتي وملتي فيه وأنه كان واجبًا عليَّ.
ثم جاءني إحسان بك وأخبرني بأنه كلَّم جلالة فيصل في الموضوع فأظهر
حسن الرغبة في التلاقي، وقال: إنه لم يبق وقت فراغ للقاء الخاص إلا الليلة
المستقبلة، وكان ذلك مساء يوم الثلاثاء، وأن جلالته سيتعشى مع المندوب السامي
البريطاني ويعود إلى الفندق في منتصف الساعة الحادية عشرة ويكون مستعدًا
لمقابلتك، فإن لم يكن لديك مانع أخبرته، قلت: لا مانع وقد عاد جلالته في الموعد
وكان كل منا قد سبقه بدقائق قليلة فخلونا به في حجرة صغيرة من الحجرات التى
خصت به ومكثنا معه إلى نهاية الساعة الأولى بعد نصف الليل، وكنت أنا الذي
استأذنت بالانصراف خلافًا للمعتاد في لقاء الملوك معتذرًا عنه بأنه يريد السفر ظهر
غد فلا بد من ترك فرصة له للنوم، ولم يحضر مجلسنا أحد غير إحسان بك إلا
الأمير أمين أرسلان الذي كان حضر بمعيته من الإسكندرية.
بدأت الكلام معه بعد السلام والمصافحة بذكر وساطة إحسان بك الجابري وأنه
ذكرنا بعهدنا في التلاقي بدمشق، وذكرت له ما قلته له وقال هو مثل ما نقله لي
عنه إحسان أيضًا من استغرابه لطعني فيه مع ما كان بيننا من المودة وعدم صدور
شيء منه يكدرها، وكون اختلافي مع والده لا ينال منه شيء؛ لأنهما لم يكونا
متفقين في موضوعه، بل كان والده ساخطًا عليه وبقى خمس سنين لا يكتب له.
لا أستحسن أن أنقل من حديثه في هذا الخلاف إلا قوله: إنه بذل جهده لدى
والده في أمور منها ما كنا بدأنا بالسعي له في دمشق من الصلح بينه وبين ابن سعود
قال: إنه كان يعتقد أنه مهما يتساهل والده فيه يكن خيرًا له ولهم وللقضية ولا سيما
مسألة الحدود بين الحجاز ونجد وبين سبب ذلك بما علمت منه أنه كان يريد به
حصر ابن السعود مع قومه في دائرة نجد الفقيرة؛ لاعتقاده أنه لا يمكنهم الحياة فيها
فتذكرت أنني لما اتفقت معه على السعي لإقناع كل من والده وابن السعود بالصلح
والاتفاق وكتب كل منا كتابًا لابن السعود بذلك وكتب هو وحده لولده جاء في جواب
ابن السعود لي مع التصريح بالرغبة في الاتفاق بطاقة صغير بأنه هو يرغب في
ذلك ظاهرًا وباطنًا بخلاف شرفاء مكة الذين تنقض أفعالُهم أقوالَهم، وأما هو فلم
يستطع أن يحول والده عن رأيه فيه، ولكنه على كل حال والده يجب عليه تقبيل
يده والمحافظة على كرامته والأدب معه فيما وافق رأيه وفيما خالفه كما قال،
ووافقته على قوله هذا.
ولما ذكر جلالته أن موقفي معه كان غير موقفي مع والده وافقته أيضًا مع
الإشارة بلطف إلى أن سياسة أهل بيتهم في أساسها واحدة، وصرحت بأنني لم
أكتب شيئًا في ذلك كله إلا وأنا أعتقد أنه حق وواجب عليَّ لمصلحة ملتي وأمتي قال:
وأنا ووالدي نعتقد مثل ذلك، ولكن كل أحد يخطئ في اجتهاده ويصيب أفلست
أنت كذلك؟ قلت: بلى، وحاش لله أن أدعي العصمة، ولكني أرجع عن خطئي إذا
ظهر لي، وإنني قد صرحت في أول مقالة كتبتها في انتقاد سياستهم ونشرت في
جريدة الأهرام قبل المنار بأنه هو ووالده من قبله وأخوه الأمير عبد الله من قبلهما قد
عاملوني بمنتهى الاحترام والتكريم والآداب العالية، وإنني لم أنتقد أحدًا وأنا في
خجل من نفسي مما سبق من حسن لقائه وتكريمه غير أهل هذا البيت، ولكن
مصلحة الأمة فوق المجاملات الشخصية.
ثم ذكرت له أنني من عهد قريب ذكرت في المنار ما كان في دمشق من لطف
احتياله عليَّ لقبول شيء لائق من التكريم المادي منه؛ إذ ألح عليَّ بأن أستأجر دارًا
لأن طول الإقامة في الفندق غير لائقة بي وقال: عليك الدار وعلينا الفرش والأثاث
وأنني لما استأجرت الدار لم أخبر جلالته بها، وكتبت إلى نسيبي في طرابلس
فأحضر لي جميع الأثاث منها (قلت له) : إنني ذكرت هذا في ردي على الذين
زعموا أنني أخدم الآن ملك الحجاز ونجد لما بذل لي من المال وأنني فعلت ذلك
معكم من قبل، ليعلموا أنني لم أخدم أحدًا ولا أخدم أحدًا، إنما أخدم أمتي في كل
وقت بما أعتقد أنه الصواب والمصلحة وإنكم تعلمون ذلك كملك الحجاز ونجد،
ويعلمه كل من اطلع على كلامي.
ثم انتقلنا من بحث العتاب إلى البحث الأهم وهو بحث الأمة العربية ومستقبلها
وما يجب على ولاة أمورها وأهل الرأي والعمل فيها وهو الذي كنت أحاول
استخلاصه من لقائه لأعلم ما عسى أن يكون بقي من تأثير تلك الأيمان المغلظة
والعهود الموثقة التي أخذتها عليه جمعيته العربية، بل لأعلم ما يقول في المسألتين
العربية والإسلامية اللتين بينت له في دمشق القول الفصل فيهما، وقد صار ركنًا
في تنفيذ ما وافقني عليه يومئذ من ذلك ولا سيما الاتفاق مع عبد العزيز آل سعود
الذي بدأنا به في دمشق وقد علمت من فحوى الحديث أنه لا مجال لعمل شيء في
المسألتين على أنه ذكر في حديثه رأيه في ابن السعود وملكه، وليس من الأصول
أن أذكر ما سمعته ولا استنبطته من كلامه، ولكنني أجيز نشر كلمة صالحة من
كلامه في خصمه باعترافه الملك عبد العزيز بن سعود ومعاهدته الأخيرة مع
الإنكليز قال ملخصه: إن عبد العزبز زعيم كبير ذو مزايا نادرة تفتخر به الأمة
العربية فإنه عمل بكفايته الشخصية عملاً عظيمًا في زمن قصير، إنه وفق في هذه
المعاهدة توفيقًا عظيمًا، ثم لما ذكر رأيه في قومه وسياسته لهم وتعذر دوامها مع
فقرهم وصعوبة مراسهم، ذكر مسألة إغارة فيصل الدويش على العراق وقال: إنه
يعتقد أن هذا الاعتداء بدون إذنه ولا رضاه وأنه لا يبعد أن يسر بتمكن العراق من
كبح جماحه إن حصل، ثم جاءت الأنباء بما يؤيد هذا بعد وصوله إلى العراق بمدة
طويلة، لكن لم تلبث المصادر الشبيهة بالرسمية في الحجاز أن بينت أن حكومة
العراق هي المتحرشة بالنجديين وحكومتهم ببنائها سلسلة حصون على الحصون
خلافًا للمعاهدة بين الحكومتين المانعة من ذلك.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقريظ المطبوعات الحديثة
(إعجاز القرآن)
الطبعة الثالثة، وهي الملكية بمطبعة المقتطف، صفحاته 450 تقريبًا.
سبق لنا أن قرظنا هذا السِّفْر الجليل بمقدمة الطبعة الثانية، ونشرها الأستاذ
المؤلف في صدر الكتاب وجعلها عرضًا له على الأنظار، ولما نفدت نسخ هذه
الطبعة رأى صاحب الجلالة الملكية الجالس على عرش مصر أن يعاد طبعه ويعم
نشره فأصدر أمره الكريم بطبع ألوف كثيرة من نسخه على نفقة الخاصة الملكية
وأمر -وفقه الله- أن يباع الكتاب للجمهور بخمسة قروش مصرية وهي تكاد تكون
نصف النفقة المطبعية، وقد أخرجه مؤلفه الفاضل في هذه المرة بثوب قشيب وحلة
جميلة ازدانت بصورة جلالة مولانا الملك فؤاد الأول مع صور شمسية لأوراق من
القرآن الكريم المعروف (بمصحف الملك) الذي لم يطبع بعد كذلك تحلى جيد هذا
الكتاب بتقريظ من أسمى التقاريظ وأبلغها يكفي أن يعرف أن كاتبه الرئيس الجليل
المرحوم سعد زغلول باشا وأضيف إلى ذلك حكمة للمؤلف كتبها لهذه الطبعة الثالثة
من خيرة ما خطه يراعه البليغ، والناس تتهافت على شرائه فهو في غنًى عن
ترغيبهم فيه.
***
(تاريخ اليمن)
المسمى (فرحة الهموم والحزن في حوادث وتاريخ اليمن) تأليف الأستاذ
العلامة الشيخ عبد الواسع اليماني تناول فيه مؤلفه طرفًا هامًّا من تاريخ اليمن
وجغرافيتها، وقد انتصر على ذكر الحوادث التى اختارها بعد المائة الثانية عشرة
للهجرة، وقد طبع على ورق من القطع المتوسط والعادي وثمن الأول اثنى عشر
قرشًا والثاني عشرة قروش مصرية ويباع في مكتبة المنار.
***
(الوجيز في الأدب وتاريخه)
تأليف الأستاذ عبد السميع أفندي البطل أستاذ الأدب بمدرسة رقي المعارف
يشمل مقرر الكفاءة والبكالوريا مطبوع على ورق صقيل جيد من القطع المتوسط
وثمن النسخة عشرة قروشٍ يباع في مكتبة المنار وغيرها.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الرد على الزعيم محمد علي الهندي
في موضوع ملك الحجاز وحكومته وقومه والخلافة
(1)
وردت على مؤتمر الصحافة بمصر برقية من مكة المكرمة تنبئ بأنه
(اكتشف في مكة مؤامرة خطيرة ضد حكومة الحجاز أدت إلى القبض على شخص
يدعى الشيخ عبد الله من العسير بتهمة التجسس، وقد ضبطت في حيازته أوراق
من بينها خطابات إلى الإمام يحيى وولي عهده من (شوكت علي) الهندي يحثهما
فيه على النهوض لغزو ابن السعود كما ضبطت خطابات أخرى في حيازة حسن
عطاس وعبد العزيز اليمني تثبت اتصالهما بهذا الزعيم الهندي) .
وقد اتفق أن ألم بمصر في أثناء ورود هذه البرقية الزعيم محمد علي الهندي
شقيق شوكت علي الشهيرين في طريق سفره إلى أوربة فاطلع على هذه البرقية فرد
عليها (بتصريحات) ألقاها إلى جريدة الأخبار الغراء فنشرتها في اليوم 23 من ذي
الحجة الحرام، فألفينا فيها من المواربة وإخفاء الحقيقة التي نعرفها منه ومن أخيه
أيام عقد المؤتمر الإسلامي العام بمكة المكرمة ومن بعض ما خطب به في الهند
ونشره في جرائدها ما دَعَّنَا إلى الرد عليه دعًّا (على إردام الحُمَّى [*] علينا منذ
شهر ونصف ونهي الأطباء إيانا عن الكتابة والقراءة) فكتبنا مقالاً لم يتيسر نشره
في الأخبار حيث نشرت تلك التصريحات بل فُقِدَ فاضطررنا إلى كتابة هذا المقال
الثاني، وكان بعض الكتاب من إخواننا المسلمين نشروا في جرائد أخرى ما
استهجنوا به طعن الزعيم محمد علي في جلالة ملك الحجاز وبث دعايته بمصر في
عداوته له في الوقت التي تظهر الأمة كلها شكر جلالته والثناء عليه لما قام به من
خدمة حجاج بيت الله الحرام بتأمين البلاد المقدسة وتسهيل المواصلات فيها وغير
ذلك، وتحث الحكومة على موالاته وشد أواخي الاتفاق مع حكومته لمصلحة
القطرين؛ ولما يقتضيه دين الحكومتين والأمتين، وإنني أقسم الكلام إلى ثلاثة
فصول:
(1)
في دفاع الزعيم عن أخيه ونفسه.
(2)
في حكومة الحجاز وما وعد به ابن السعود فيها.
(3)
في قوم ابن السعود وقوته والخلافة، وتصدي الزعيمين لإقامتها أو
الاتجار بها.
***
(1)
دفاع الزعيم عن أخيه ونفسه
احتج على تبرئة أخيه مما جاء في برقية مكة بأمور:
(أحدها) قوله: (وهل مبادئنا وآراؤنا وأفكارنا في حاجة إلى مؤامرات أو
تدبيرات خفية أو أعمال غير مشروعة) ؟
(ثانيها) قوله: (إننا لم نكن ضد ابن السعود شخصه، ولكن لأنه جعل
نفسه ملكًا على الحجاز، ونكون ضد الإمام يحيى إذا حدثته نفسه بأن يكون ملكًا
على الحجاز؛ لأننا نعتقد أن الملوكية هي أول بدعة في الإسلام بخلاف الخلافة
التي لا تعرف الملوكية بحال) وسماها في آخر تصريحاته وثنًا قال: إنه يجب
هدمه والتخلص منه، ذكر أنهم يحاربون مبدأ الملوكية، ويعتقدون أنهم ينتصرون
بالحق ومقارعة الحجة بالحجة، ويعتقدون: (أن غير ذلك من الوسائل التي يلجأ
إليه ذوو الغايات من التدبيرات والمؤامرات أو استخدام وسائل الضعف (كذا)
والقتل والاغتيال من أضر الوسائل المؤدية إلى الفشل) إلى أن قال: (ولا نعمل
كما يعمل غيرنا؛ إذ يجمع النقود من المسلمين باليمين لينفقها بالشمال في سبيل
تقوية دعائم ملكه، ولو علم أنها لا تنفق إلا على الملذات والشهوات لضن بها
وصرفها فيما هو خير من ذلك) اهـ (رمتني بدائها وانسلت) .
ونقول في تفنيد هذا الدفاع: (أولاً) إن مما لا يمكن إنكاره ولا المكابرة فيه
أن عداوته وعداوة أخيه لابن السعود عداوة سياسية، والسياسة هي التي تكون دائمًا
ذات مبادئ ظاهرة ودسائس باطنة، فهما ينازعان الرجل في ملكه ويسعون لإسقاطه،
ولا يظن عاقل أن الغرور قد بلغ منهما أن يعتقد أنهما يقلبان ملكًا عن كرسي ملكه
بالحجج، وقد تألب العالم الإسلامي كله (تقريبًا) على الملك حسين وكان هو
وأخوه من أشد الناقمين عليه، وكان كاتب هذا الرد أشد منهما في ذلك وله في ذلك
المقالات السياسية والفتاوى الشرعية، والحجج الدينية الناهضة التي نشرت في
المنار وفي غيره من الجرائد اليومية السياسية، ومنها مقالات (السيد العلوي) التي
نشرت في جريدة الأخبار، ولم يستطع العالم الإسلامي بسخطه ولا بإنكاره وحججه
أن يثل عرش الملك حسين ثم ولده علي من الحجاز، وإنما ثله سيف ابن السعود
فقط فالمبادئ الظاهرة لا تنافي السعي في الدسائس الباطنة، والأعمال الخفية غير
المشروعة.
(ثانيًا) إنه لا معنى لنفي العدواة الشخصية لملك ممن يعترف أنه يسعى
لإسقاط ملكه؛ لأن عداوة الملك الشخصية لا تكون شرًّا من هذا؛ إذ لا يعقل أن
يعادى الملك لطوله أو قصره أو لونه أو سمنه أو هزاله أو دمامة صورته أو غير
ذلك من صفاته الشخصية.
ولو كانت عداوة الزعيمين لجلالة عبد العزيز آل سعود لأجل تسميته ملكًا
على الحجاز عداوة لصفة حكمه لا لشخصه، وكان سببها ما زعمه الزعيم محمد
علي من كون الملكية أول البدع في الإسلام - وكانا لشدة تمسكهما بالسنة يعاديان
كل صاحب بدعة- لعاديا جلالة ملك مصر وجلالة ملك الأفغان أيضًا، ولواليا الإمام
يحيى؛ لأنه لم يلقب بلقب الملك، ومراده ومراد قومه بلقب الإمامة عين ما يريده
الزعيمان من لقب الخلافة، وإذًا يصح ما يقال من أنهما يغريانه بالزحف على
الحجاز وإنقاذه من الملك عبد العزيز؛ لتعميم إمامته وتقرير خلافته، فإن كان
يصدهما عن هذا ما ينتحلان من مذهب السنة وعلمهما أنه هو وقومه على مذهب
الزيدية وأصول المعتزلة فيما يسمونه العدل والتوحيد بالمعنى الذين ينكره عليهم
أهل السنة، فلم لا يعاديانه لأجل بدعتي التشييع والاعتزال، وهما المدعيان القيام
بإقامة السنة وهدم الابتداع.
على أن الزعيمين يطعنان في شخص عبد العزيز آل سعود بما لا علاقة له
بملكه ولا بشكل حكمه، وما أظن الأخ محمد علي نسي يوم وجدته في الصباح
جالسًا في الحرم الشريف مع جماعة وأنا منصرف من طوافي فسلمت عليهم
وجلست إليهم فألفيته يغتاب ابن السعود حتى في شكل لحيته، وما يقال من كثرة
زواجه، فأنكرت عليه ذلك أمام بيت الله تعالى حيث تتضاعف السيئات كما
تتضاعف الحسنات، وما اعتذر به من إخلاصه وحسن نيته وما رددت عليه
بالمعروف واللطف من كون الإخلاص وحسن النية لا يحيلان المعصية طاعة ولا
يبدلان السيئة حسنة، وكونهما سريرة بين العبد وربه لا نعلمهما فتقوم بهما علينا
الحجة.
حينئذ استدل على إخلاصه وإخلاص أخيه باضطهاد حكومتهما البريطانية لهما
واعتقالها إياهما ورفع شعبهما لهما إلى مقام الزعامة، فقلت له: أنا لا أطعن في
إخلاصكما فيما قاومتما به حكومتكما ولا في غيره، لا لما احتججت به عليه بل لأنه
سريرة خفية لا يعلمها إلا الله تعالى، وأما هذه الحجة فهي داحضة عند من يعرف
التاريخ الماضي وأحداث العصر الحاضر، فإننا نعرف في بلادنا أناسًا اعتقلتهم
السلطة الأجنبية بجهل وغباوة منها فصارت العامة تعظمهم وتجلهم وتعدهم من
المجاهدين في سبيل الأمة والوطن، ومنهم من نعرفه معرفة الخبر الطويل بأنه
مادّيّ محض يتجر بالوطن والأمة، ويحتقر الدين والملة، ثم يدعي الزعامة بمثل
هذه الشبهة.
(ثالثًا) إن كانا لا يسعيان إلى غرضهما من تحويل حكومة الحجاز الملكية
إلى الجمهورية كما قالا في الحجاز، أو الخلافة كما قال هو في مصر إلا من
الطرق المشروعة كما ادعى فما بالهما قد بثا الدعوة في الهند إلى ترك إقامة فريضة
الحج ما دام ابن السعود ملكًا في الحجاز، فهل شرع الله لهما أن يهدما الركن
الاجتماعي الديني العام من أركان الإسلام (وهو ركن الحج) لأجل نكاية ابن سعود
وإخضاعه لسياستهما الوهمية؟ ماذا يجيبان الله تعالى يوم القيامة إذا سألهما عمن
أضلا من عوام الهنود فتركوا أداء فريضة الحج مع الاستطاعة حتى ماتوا ثم جاءوا
في ذلك اليوم يقولون: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ} (الأعراف: 38) .
(رابعًا) أغرب ما جاء في تصريحات الزعيم الهندي قوله: (ولا نعمل كما
يعمل غيرنا؛ إذ يجمع النقود من المسلمين باليمين لينفقها بالشمال) إلخ، ما تقدم،
فأول العبارة صريح في أن الذي يجمع النقود هو الملك ابن السعود، وأن غرضه
منها تقوية دعائم ملكه، وهو غرض شريف وآخرها صريح في كونه لا يعلم أين
تنفق، ولوعلم لضن بها وأنفقها فيما هو خير من ذلك (وهذه شهادة صالحة)
(والفضل ما شهدت به الأعداء) ولكن العبارة تنافي ما قبلها فهي تدل على أن الذي
يجمع النقود المشار إليها غيره، ولعل المراد أنه يجمعها له وباسمه ولكنه لا يوصلها
إليه، ولم يبلغنا أن فردًا من الأفراد ولا جماعة من الجماعات تجمع نقودًا من الهند
ولا من غيرها لملك الحجاز أو باسمه، وإن وجد من يعمل ذلك وصح ما قاله
الزعيم فيهم فإن ذلك لا يعيب جلالة الملك الصالح المصلح الذي علم مئات الألوف
من الحجاج بالمشاهدة وعلم الملايين من الناس بالنقل المتواتر أنه ينفق المال فيما لم
يسبقه إليه أحد من ملوك المسلمين ولا خلفائهم من تسهيل أداء فريضة الحج ومنع
الأذى عن مؤديها، ومنه ما رأوه في الموسم الأخير من تبليط المسعى بين الصفا
والمروة ومنع الرواحل والدواب منه وإراحة الحاج من ذلك الغبار الذي كان يملأ
الأفواه والأنوف حتى يصل إلى الصدور، ومنها المظلات العامة في الحرم الشريف
وفي منى وفي طريق عرفات لوقايتهم من ضربة الشمس التي كان يموت بها في
كل عام عدد كثير، دع الأمن العام الشامل من أول يوم والإسعافات الطبية
والسيارات التى كانت تغدو وتروح بين مكة وعرفات لافتقاد من يعجز عن المشي
أو يصاب بأذًى في الطريق فتحمله إلى مواضع الإسعاف.
ولعل الزعيم لم يجرؤ على التصريح بمن عرَّض به أو بهم في مسألة النقود؛
لئلا يسألوه عن مئات الألوف من الجنيهات التي أخذتها جمعيته من بلاد الهند،
وقيل: إن كذا وكذا منها قد ذهب بإفلاس أمين الصندوق، والباقي علمه عند علام
الغيوب ثم يضربوا له ولهم المثل المشهور (رمتني بدائها وانسلت) .
هذا، وإنه قد ورد النبأ الرسمي من حكومة الحجاز على الوكالة العربية في
مصر بأن خبر المؤامرة على الحكومة الذي بلغته نقابة الصحافة المصرية لم يثبت
وإنما ثبت وجود الخطابات من (شوكت علي) مع الجاسوس عبد الله العسيري،
ويؤخذ من فحوى هذه الخطابات أنها اتخذت ذريعة لابتزاز الأموال.
لو شئت لأحصيت كل دعاوى الزعيم الكبير محمد علي في تصريحه وفندتها
وجنيت على قراء مقالي بتكليفهم قراءتها، وهي لا تعنيهم ولا يعنيهم أمر صاحبها،
وإن كان زعيمًا لبعض الهنود على أنه فَقَدَ جُلَّ زعامته، والباقي منها على شفا جرف
هار، لهذا أكتفي بالمسألتين اللتين تعنيان جماهير المسلمين ومحبي التاريخ الصحيح
من غيرهم، وهما وعد ابن سعود للعالم الإسلامي بعقد مؤتمر يستنير برأيه في أمور
الحجاز، وكتابته لملوك المسلمين ورؤساء حكوماتهم وأشهر جماعاتهم وبعض
علمائهم بذلك، ومسألة رجال قوم ابن السعود وشعبه ومسألة الخلافة وخطل الزعيمين
فيها فأقول:
***
(2)
حكومة الحجاز وما وعد ابن السعود فيها
قد صرَّح الإمام عبد العزيز آل سعود بقصده وغرضه من الزحف على
الحجاز تصريحات أذاعت بعضها الصحف المصرية وغيرها، أولها ما فاه به في
نجد قبل خروجه منها إلى الحجاز، وخلاصتها أنه يريد تطهيره من إلحاد الظلم
والاستبداد ويؤمنه ويقيم فيه الشرع والعدل مسترشدًا بآراء أهل العلم والرأي في
العالم الإسلامي، وبعد أن التقى في مكة المكرمة بفضيلة الأستاذ المراغي مندوب
جلالة ملك مصر وبسعادة سفير إيران في مصر (اللذين ألما بالحجاز على إثر ما
أذاعه الشريف علي وهو محصور في جدة من هدم الوهابيين لقبة الحجرة النبوية
وهدمهم للمساجد والمشاهد) وما كان من تحاوره مع هذين المندوبين الذكيين اقتنع
بأن ينجز وعده المجمل المشار إليه بصفة تفصيلية رسمية هي أن يدعو أشهر
رؤساء الحكومات الإسلامية المستقلة، وشبه المستقلة وأشهر الجماعات الإسلامية
في الهند وسورية إلى إرسال مندوبين من قبلهن لعقد المؤتمر الإسلامي الموعود به
ثم يدعو بعض أفراد العلماء في البلاد التي ليست فيها حكومات إسلامية ولا جمعيات
مشهورة لذلك.
كتب بذلك إلى أصحاب الجلالة ملك مصر، وإمام اليمن وشاه إيران، وملك
الأفغان، ورئيس جمهورية الترك، وسمو باي تونس، وإلى جماعة علماء الحديث،
وجمعية العلماء، وجمعية الخلافة بالهند، والمجلس الإسلامي الأعلى في القدس
الشريف، وإلى الأستاذ المحدث الشيخ بدر الدين الحسني وإخوانه العلماء في الشام،
كتب لهؤلاء كتابًا بنص واحد نشر في أشهر الجرائد، وكان تاريخه 8 ربيع
الآخر سنة 1344 وأهم ما جاء فيه قوله بعد قصده من جهاده: (إنني والذي نفسي
بيده لم أُرِدْ التسلط على الحجاز ولا تملكه، وإنما الحجاز وديعة في يدي إلى الوقت
الذي يختار الحجازيون واليًا منهم يكون خاضعًا للعالم الإسلامي وتحت إشراف الأمم
الإسلامية والشعوب التي أبدت غِيرة تذكر كالهنود) .
(إن الخطة التي عاهدنا عليها العالم الإسلامي التي لا نزال نحارب من
أجلها مجملة فيما يلي:
1-
إن الحجاز للحجازيين من جهة الحكم، وللعالم الإسلامي من جهة الحقوق
التي لهم في هذه البلاد.
2-
سنجري الاستفتاء التام لاختيار حاكم للحجاز تحت إشراف مندوبي العالم
الإسلامي، وسنسلم الوديعة لهذا الحاكم على الأسس الآتية، وذكر خمسة أسس:
(أولها) : كون الحكم بالشريعة المطهرة ومرجع الناس إليها.
(ثانيها) : حكومة الحجاز يجب أن تكون مستقلة في داخليتها، ولكن لا
يصح أن تعلن الحرب على أحد، إلخ.
(ثالثها) : لا تعقد حكومة الحجاز اتفاقات سياسية مع أي دولة كانت.
(رابعها) : لا تعقد اتفاقات اقتصادية مع دولة غير إسلامية.
(خامسها) : تحديد الحدود الحجازية ووضع النظم للحكومة (موكول
للمندوبين المختارين من الأمم الإسلامية وسيحدد عددهم باعتبار المركز الذي تشغله
كل دولة في العالم الإسلامي والعربي، وسيضم لهؤلاء ثلاثة مندوبين من جمعية
الخلافة وجمعية أهل الحديث وجمعية العلماء في الهند، ثم قال: إن هذا ما نواه
وطلب من كل مخاطَب الإسراع بإرسال مندوبيه وإخباره عن الوقت الذي يناسب
عقد المؤتمر فيه، هذا ملخص المهم من الكتاب ومن شاء أن يطلع على نصه كله
فعليه بالمجلد 26 من المنار ص 54.
فالقارئ يرى أن ابن السعود إنما وعد بأن يمنح الحجاز استقلالاً إداريًّا في
داخليته ويقيم فيه واليًا منتخبًا، وقيد فيه هذا الوالي في التصرف الاقتصادي ولم
يجعل له حقًّا في الأمور السياسية ولا العسكرية بل احتفظ بهما لنفسه بالطبع، ولكن
رؤساء الحكومات الإسلامية التي أراد أن تكون مشرفة على اختيار الوالي الإداري
للحجاز وتحد حدوده وتضع للبلاد النظم الداخلية كلها في حدود الشريعة لم يجب
دعوته العاجلة منهم أحد فسقط ما أعطاهم من الحق في ذلك.
فهذه هي الوثيقة الرسمية التي يدندن حولها الزعيمان شوكت علي ومحمد علي
وكذا سفير إيران بمصر كما نشر عنه في الجرائد من قبل قد بلغ الغرور من
الزعيمين الهنديين مبلغًا لا تتطاول إلى مثله أعناق الملوك أولي الجيوش الجرارة
فتوسعا في تفسير هذا الوعد وأباحا لأنفسهما الإسراف في الطعن والزراية على
الملك المصلح العادل التقي الذي عرضت عليه البيعة بالخلافة العظمى فلم يقبلها
تواضعًا وتنصلاً من أعبائها، وما يترتب عليها من الفتن فوصفه الزعيم محمد علي
في تصريحه الأخير بمصر ببعض ما نبذه في خطبه بالهند من ألقاب الكذب
وإخلاف الوعد والحنث بالأيمان.
قال في تصريحه: (لقد رأينا سوء الإدارة الملكية طول مدة حكم الشريف
حسين فقرَّرْنَا تطهير بيت الله الحرام، وكعبة الإسلام، بل وجزيرة العرب من
رجس الاستبداد الملكي بحيث لا نسمح ولا نرضى بوجود ملك أو سلطان هناك،
وقد كان ابن سعود من رأينا وأقرنا على هذه الفكرة ووافقنا على مبدئنا وأعطانا
عهدًا صريحًا ووثيقة كتابية بذلك لا تحتمل التأويل، وكنا نودّ وهو يقول بأنه من
أشد الناس محافظة على سنة الرسول أن يتذكر أنه عليه الصلاة والسلام هو
(الصادق الوعد الأمين وأن يتذكر بأن من أخلاق الإسلام أن المؤمن إذا قال صدق،
وإذا وعد لا يخلف، وإذ حلف لا يحنث) إلخ، فما قيمة هذين الرجلين، وما قيمة
جمعيتهما التي فشلت فيما أنشئت لأجله حتى يدعيان هذا التصرف في جزيرة
العرب.
إن ابن سعود لم يخص محمد علي وشوكت علي بوعد غير ما وعد به العالم
الإسلامي عامة، ومن ذكرنا من رؤساء حكوماته وأشهر جماعاته وهو ما يفهم من
كلام محمد علي هنا بأن لا يكون في جزيرة العرب ملك ولا سلطان، وإنما وعدهم
كما وعد العالم الإسلامي كله بتطهير الحجاز من الظلم والاستبداد وقد وفى بوعده
هذا خير الوفاء، وأما وعده المتعلق بشكل الحكومة الداخلية في الحجاز الذي ذكرنا
نصه الرسمي فلا يصح أن يقال: إنه أخلفه إخلافًا يستحق عليه أمثال هذه المطاعن
وإنما حال دون إنجازه أمران ليسا من سعيه ولا من عمله:
(أحدهما) : ما أشرنا إليه من عدم إجابة رؤساء الحكومات الإسلامية إياه
إلى إرسال مندوبين من قبلهم للتمهيد لذلك الإنجاز بعقد المؤتمر الإسلامي وغيره،
فاضطر إلى عقده بدون تدبير أحد منهم لتقصيرهم لا لتقصيره، وسنذكر ما كان من
أمر من أرسلوا وفودهم إلى المؤتمر وأهمه تهنئتهم لابن السعود بنصبه ملكًا على
الحجاز.
(ثانيهما) : رأي أهل الحجاز أنفسهم، فهم لم يرضوا أن يكون عليهم
مسيطرون من دول أجنبية عنهم المستقل منها مخالف لهم في المذهب كاليمن وإيران
أو في الجنس كالترك والأفغان، وناهيكم بحال الترك بعد انسلاخ دولتهم من دين
الإسلام، وغير المستقل في أموره تحت سيطرة دول الاستعمار الأوربية ولا سيما
الخارجية، وإذا لم يرضوا بسيطرة ولا تدخل من الدول الإسلامية في شؤونهم فعدم
رضاهم بتدخل الشعوب الإسلامية المستذلة لدول الاستعمار كالهند والجاويين
والمغاربة أحق وأولى، وهم - أي أهل الحجاز - معترف لهم من الدول العظمى
بالاستقلال المطلق لذلك بادروا بعد استيلاء الإمام عبد العزيز بن السعود على جميع
الحجاز وتسليم الشريف علي له رسميًّا على مبايعته بشروط تتضمن: التفصي من
كل سيطرة ونص البيعة يدل على ما بيناه من رأيهم آنفًا فلم يسعه إلا قبول بيعتهم،
وإلا كان مستبدًّا فيهم بتحكيم غيرهم في أمورهم، وإنما غرضه الأول إزالة
الاستبداد من الحجاز، فلو أجاب أولئك الملوك والرؤساء دعوته التي سبق
بيانها ورفض ذلك أهل الحجاز لما ساغ له إجبارهم على قبول تلك السيطرة فكيف
وهم لم يجيبوا الدعوة؟ فهل يقال مع هذا: إن ابن السعود وعد بأن يجعل الحجاز
تحت مراقبة العالم الإسلامي ثم أخلف الوعد مختارًا، وكذب متعمدًا؟ كلا إنما تعذر
ذلك عليه من الجانبين جانب الحجاز وجانب الدول والجماعات الإسلامية، وكان
ذلك هو الخير ولله الحمد.
وهذا نص بيعة علماء الحجاز وشرفائهم وممثلي جماعاتهم لابن السعود بعد
البسملة والحمدلة والتصلية (نبايعك يا عظمة السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن
الفيصل آل السعود على أن تكون ملكًا على الحجاز على كتاب الله وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم وما عليه الصحابة رضي الله عنهم والسلف الصالح والأئمة
الأربعة رحمهم الله تعالى، وأن يكون الحجاز للحجازيين، وأن أهله هم الذين
يقومون بإدارة شؤونه، وأن تكون مكة المكرمة عاصمة الحجاز، والحجاز جميعه
تحت رعاية الله ثم رعايتكم) .
كتب هذا النص أهل الحل والعقد في العاصمة ثم بايعوه به وتلاهم أمثلهم من
سائر الأمصار وتلاهم مشايخ الأعراب ورؤساؤهم، وأنت ترى أنهم بايعوه على ما
كان يبايع به الخلفاء الراشدون، واشترطوا عليه إقامة مذهب أهل السنة ومنهم أئمة
الفقه الأربعة، وأن يكون الحجاز لأهله لما ذكرناه من ملاحظتهم آنفًا.
وإنما سموه ملكًا؛ لأن هذا اللقب له شأن عند الدول الأجنبية التي اعترفت
باستقلالهم المطلق، وهو لقب لا يقتضي الاستبداد والظلم، ولا هو ممقوت عند الله
ولا عند رسوله والمؤمنين فقد كان نبي الله داود، ونبيه سليمان عليهما السلام ملكين،
وقد امتن الله عليهما بذلك بل امتن على قومهما بني إسرائيل بقوله: {اذْكُرُوا
نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً} (المائدة: 20) الآية، وبهذه
احتججت على محمد علي بمكة المكرمة.
ولقب الخليفة لم يكن بأمر من الله تعالى، ولم يطلقه الصحابة إلا على أبي
بكر وحده لأنه خلف الرسول صلى الله عليه وسلم ولقبوا سائر الراشدين بأمير
المؤمنين، ثم صار المؤرخون يطلقونه على الراشدين من بعدهم وعلى خلفاء
الأمويين والعباسيين.
ومن استقرأ أقوال ابن السعود في شكل حكمه، سواء منها ما نشره في
بلاغاته وخطبه الرسمية وغير الرسمية، وما دار بينه وبين الجماعات أو الأفراد
من أهل الحجاز وغيرهم يراها صريحة في التبرؤ من عظمة الملك وحب العلو في
الأرض، أو تفضيل نفسه على أحد من الخلق، بل هو يتنصل كثيرًا من لقب ملك
وقول: أنا رجل بدوي أو من عامة الناس، ويرى أعماله وأحكامه وشمائله مصدقة
بذلك فهو أبعد من الطبقات الوسطى في الثروة والترف والتنعم في مأكله ومشربه،
والتطرس والتطرز في ملبسه، والإفناق والتورُّن في سائر أحوال معيشته، اللهم
إلا الطيب فإنه يتطيب دائمًا ويفضل عطر الورد على غيره، ويحب النساء
ويكرمهن متأسيًا بالرسول صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله في قوله: (حُبِّبَ
إليَّ من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة) رواه الإمام أحمد
والنسائي من حديث أنس، وهو كثير الصلاة، ولا سيما في الليل.
وجملة القول أنه ليس في عبد العزيز بن السعود شيء مما يشكو منه محمد
علي الهندي وبعده من غطرسة الملك وكبريائه - من قول ولا عمل ولا خلق ولا
تحكم ولا تحجب ولا تكبر- بل هو يتحرى سيرة الخلفاء الراشدين بقدر طاقته،
فهل يعذر هو وأخوه وجمعيتهما على عداوته لأجل لقب يزعمون أنه منبع الضلال
والشرور، وإن تحلى به بعض الصالحين والأنبياء المرسلين؟
كلا إن الرجلين ليسا من البلادة والجهل بحيث يعتقدان أن للألقاب هذا الشأن
والتأثير بل يغالطان ويسفسطان كما هو شأن أمثالهما من أهل النزعات السياسة،
وإنما كانا يسعيان لأمر لهما فيه هوًى شخصي، وهو جعل الحجاز جمهورية يدير
أمرها مجلس إسلامي مؤلف من جميع الشعوب الإسلامية لكل شعب فيه من
الأعضاء بنسبة عدده، فإذا كل لكل مليونيين فما دونهما من كل شعب مندوب أو
عضو في هذا المجلس كما نقل لي عنهما، وليكن مثلا يكون لنجد عضو واحد
وللحجاز عضو واحد، ولمصر سبعة أعضاء؛ لأن أهلها 14 مليونا؛ وأما الهند
فيكون لمسلميها 35 عضوًا؛ لأنهم يبلغون 70 مليونا؛ وعلى هذا يكون لهم الرأي
الغالب في أنفسهم، فكيف إذا أمكنهم استمالة بعض الأعضاء من الشعوب الأخرى
والاتفاق معهم؟
وقد بينا في هذا المقال ضعف هذا الرأي وأفن العقل الذي يتخيله، وما لأهل
الحجاز من العذر في عدم قبوله، وإن ابن السعود لم يَعِدْ بهذا وإنما أشار في خطابه
لرؤساء الحكومات الإسلامية بأن المندوبين في المجلس الإسلامي الذي يحدد الحدود
الحجازية ويضع النظم المالية والإدارية للحجاز (سيحدد عددهم باعتبار المركز
الذي تشغله كل دولة في العالم الإسلامي والعربي) إلخ، ما تقدم آنفًا، ومنه أنه لم
يعط الهند إلا ثلاثة أعضاء لجمعية الخلافة واحد منهم.
وقلنا فيه أيضًا: إن رؤساء هذه الدول لم يقبلوا الدعوة لإنجاز هذا الوعد
ونزيد عليه أنه لما عقد ملك الحجاز المؤتمر الإسلامي العام حضر مندوبون من قبل
إمام اليمن ورئيس جمهورية الترك وملك الأفغان دون غيرهم، وقد جاءت هذه
الهنود مهنئة لجلالة الملك عبد العزيز وراغبة في شد أواخي المودة والصداقة معه،
ولم يتعرض أحد منهم للاعتراض على ملكيته.
وإنني لما اقترحت في المؤتمر الاحتجاج على إلحاق منطقة عقبة ومعان
بحكومة شرق الأردن التي جعلتها الدولة البريطاني تحت سيطرتها، وهي منطقة
حجازية وتقرير طلب إعادتها إلى الحجاز كان مندوبا الحكومة المصرية قد حضرا
المؤتمر متأخرين فانسلا من الجلسة بحجة أنهما غير مفوضين بالتدخل في أمور
الحجاز السياسية تبعهما مندوب اليمن ومندوب الأفغان لهذه الحجة، ومعلوم أن هذه
المسألة تتعلق بحدود الحجاز التي وعد ابن السعود بجعلها من خصائص مندوبي
الدول الإسلامية.
ثم إن جلالة ملك الحجاز قد أرسل إلى المؤتمر بيانًا بخطته في حكومة الحجاز
ليبدي رأيه فيه فقرأه الرئيس وطلب من الأعضاء إبداء رأيهم فيه فقلت: إنني لا
أرى حاجة للمناقشة فيه، فهذه الخطة صارت معلومة لنا إلخ، فلم ألق معارضة
تذكر في هذا الرأي، بل كان مقبولاً من المؤتمر وتقرر عدم المناقشة فيه.
هذا وإن تفصيل هذه المسائل سيجده محبو الاطلاع عليه في رحلتي الحجازية
الأخيرة إذا يسر الله طبعها، وخلاصة القول: أن الزعيمين الهنديين كانا شاذين في
مكة المكرمة وكان شذوذهما وتهورهما مدعاة الاستغراب من مندوبي جميع الشعوب
وتعجب العقلاء كيف صار هذان الرجلان زعيمين سياسيين في الهند ولا عجب فإن
التهور في الجرأة والشذوذ في القول والعمل أعظم مجلبة للعوام.
ولم نسمع من الزعيمين المكرمين في مكة كلمة في طلب إحياء الخلافة
الإسلامية في الحجاز ولا في غيره، وإنما هذه نبأة جديدة صاح بها محمد علي في
مصر، ويرى القراء في آخر هذا المقال ما يهمهم من أمرها مختصرًا مفيدًا.
***
(3)
رجال ابن السعود وشعبه
لخص الزعيم المذكور ما بسطه من أسباب عداوتهم لابن السعود بقول:
(ومما تقدم تبين أننا نخالف ابن السعود لسببين: (الأول) تمسكه بالملك وعدم وفائه
بالعهد الذي تعهده لنا (الثاني) أن تمسكه بالملك يجعله في حاجة إلى من يعتز به
في ملكه، فهو يعتز برجاله ورجاله جهلاء، ونشهد أنهم مخلصون للدين إخلاصًا
أعمى، وعيبهم جهلهم، أما ابن السعود، فنشهد أنه لم يكن جاهلاً، ويعرف أن
الحق معنا، وأن الدعوة إلى الخير لا تكون إلا بالتي هي أحسن، ولكنه لم يستطع
مقاومة جهل رجاله، وإلا خرجوا من يده ولم يبق له من يستعين به على الاحتفاظ
بالملك غيرهم، فلهذا تراه يغمض العين على القذى) اهـ.
يعني الزعيم برجال ابن السعود شعبه من أهل نجد، وغير نجد من البلاد
التي تدين لسلطانه، وهم الذين اشتهروا بلقب الوهابية، ويعني بجهلهم عدم
وقوفهم على أمر السياسة وآداب الحضارة والعمران، وشدتهم في الدعوة والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، هو يشهد لهم بالإخلاص للدين وسمى إخلاصهم
أعمى؛ لأنهم لا يراعون فيه أساليب الدعاية وآداب الحضارة وعلومها العصرية فيها
ويشهد لسلطانهم ابن السعود بأنه ليس بجاهل مثلهم، ولكنه مضطر إلى الإغضاء
عن جهلهم وعدم التصدي لمقاومة هذه الجهل؛ لئلا يخرجوا عليه فلا يبقى له قوة
يحافظ بها على ملكه، وجناب الزعيم السياسي اللائم المليم يصرح بأن محافظة ابن
السعود على رجاله هؤلاء وإغماض عينه على قذى جهلهم هو السبب الثاني
لعداوتهم له ومقاومتهم إياه، وقد تلطف هنا فسمى ذلك مخالفة ونتيجة هذه المقدمات
أن عداوتهم أو مخالفتهم له لا تزول إلا إذا ترك ملك الحجاز أولا وقاوم قومه حتى
يلجئهم إلى الخروج عليه ترك طاعته وإسقاط حكمه ثانيًا.
فأي عادل أو عاقل بريء من الهوى يوافق جناب الزعيم ويخطئ ابن السعود؛
لأنه لا يوافقه ويوافق أخاه شوكت علي في الأمرين كليهما، والسعي معهما لإقامة
جمهورية في مكة تكون تحت سيطرة جميع الشعوب الإسلامية على فرض أن هذا
صواب في نفسه، وما هو إلا خطأ لا يحتمل الصواب؟ بل أي عاقل يتوقف في
الحكم بالهوس والجنون على رجلين يطالبان ملكًا من الملوك بخلع نفسه من الملك
والانسلاخ من إمامة شعب قوي يطيعه طاعة دينية مكنته من تأسيس سلطنة عظيمة
أقام فيها العدل ونشر الإصلاح والتعليم والتحضير للبدو وحفظ الأمن في بدوها
وحضرها حفظًا لا يوجد له نظير في مملكة من الممالك حتى الأوربية والأمريكانية،
ويتوقع لها جميع العارفين بحالها في الشرق والغرب مستقبلاً عظيمًا إذا أطال الله في
عمره حتى يتمكن من تنفيذ مقاصده، ويعللان طلبهما بأنهما على حق فيما يقترحان
عليه ترك ملكه وقومه لأجله واتباعهما فيه؟ وأي عاقل يصدق هذا الزعيم اللائم المليم
أن ابن السعود يعتقد أنهما على حق فيما ذكر ويوافقه على أن جريمته الموبقة هي
الحرص على ملكه الباطل والمحافظة على شبعه الجاهل: وإيثارهما على خيال محمد
علي العالم الفاضل؛ لأن متخرج في مدرسة إكسفورد البريطانية؛ ولأن له جمعية
سياسية خيالية جعلته هو وأخاه زعيمين لها؟ صدق الله العظيم في قوله: {وَلَا
تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (ص: 26) وقوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ
هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ
مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (الجاثية: 23) .
أما والله لولا اتباع الهوى والغرور بالزعامة لما صدر مثل هذه الكلام عن مثل
(مولاي محمد علي الزعيم الكبير) فالرجل لوذعي الذكاء متخرج من أعلى
المدارس الإنكليزية ولكنه عصبي المزاج حديده إذا غضب وغلب عليه الهوى لا
يدري ما يقول، في طلاقة لسان، وجرأة جنان، وزهو بالزعامة، وتعود على
تصفيق عوام الهنود له في كل ما يقول، ومنه كما نقل إلينا أنه قال في جماعة منهم
(إنه لا تأتي سنة 1927 أو 1928 (الشك مني) إلا وقد خرج الإنكليز من الهند)
فصفقوا له تصفيقا.
لو كان الرجل مخلصًا للإسلام والمسلمين في مساعيه السياسية لعد وجود
الشعب النجدي على الحال التي يعرفها ونعرفها من أعظم نعم الله على هذه الملة في
هذا العصر، وأعظم أسباب الرجاء في تجديد مجد الإسلام، وإقامة شرعه الذي
هدمته حكومات الحضارة الإسلامية الناقصة في كل مكان، كان شرهم في ذلك
الترك الذين لم يشتهر محمد علي وشوكت علي في الهند وغيرها إلا بتصديهما
لتعزيز خلافتهم الوهمية الباطلة، وإن كان لهما عذر سياسي في هذا لأن الدولة
العثمانية كانت سياجًا للمسلمين في الجملة كما كان يقول الأستاذ الإمام.
الشعب النجدي أو الوهابيون هم أصح الشعوب الإسلامية عقيدة وأقواها إيمانًا
فإن آية الإيمان الكبرى هي بذل المال والنفس في سبيل الله وهم كذلك، ويظهر أثر
إيمانهم في أعمالهم فكلهم يؤدون جميع الفرائض من صلاة وزكاة وصيام وحج
وجهاد وأمر بالمعروف ونهي عن منكر، حتى إنه ليقل فيهم من تفوته صلاة
الجماعة حيث تقام بغير عذر شرعي، وهم أصدق الناس حديثًا وأشهم أمانة قد تمر
السنين، ولا يتهم أحد منهم بخيانة أو عدوان على غيره، وأما شدتهم في الدعوة
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهي موجهة في الغالب إلى البدو وهي لائقة
بهم لخشونتهم.
وكلهم طائعون لإمامهم وسلطانهم في المنشط والمكره فإذا دعاهم إلى النفير
العالم أو الخاص نفروا خفافًا وثقالاً لا يكلفونه مالاً ولا وسلاحًا إلا من حاجة فهم على
سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم بقدر علمهم
ومعرفتهم، وهم من جراء ذلك يقبلون كل علم وعمل يوافق الشرع ويردون كل ما
خالفه، فإذا تيسر تعليمهم كل ما ترتقي به الأمم في الحضارة من طريق الشرع
قبلوه (ومنه أساليب الدعوة والإرشاد في الأمصار) وإمامهم ابن السعود يعلم هذا
وينوي تنفيذه، وكل ذلك يتوقف على كثرة المال ومساعدة الزمن، والزعيم اللائم
المليم يعلم كل هذا، ولكنه يريد أن يكون ابن السعود تابعًا لهواه؛ لأنه كان ناصرا
له بجمعيته على الشريف حسين.
***
(4)
مسألة الخلافة
إذا أطلق المسلمون كلمة الخلافة فإنما يعنون بها الحكم الإسلامي الصحيح
الذي كان الخلفاء الراشدون أكمل مثال له، وحكم الخلفاء الراشدين قد اشتهر في
العالم الإنساني لا الإسلامي وحده بأنه أكمل حكم أقام العدل المطلق بلا أدنى محاباة
لأحد من البشر لأجل دينه أو نسبه أو قوته أو غناه أو فقره أو قرابته أو عداوته أو
صداقته كما أمر الله تعالى في كتابه العزيز بالنصر الصريح، وأنه أكمل مثال لما
يسمونه في هذا العصر (بالديمقراطية) أي حكم الشعب، وقد شهد بذلك العارفون
المنصفون من غير المسلمين، وإن تخبط في فهمها ومعرفة قيمتها علي أفندي عبد
الرازق وأمثاله من الهادمين لمجد الإسلام الذين يلقبون أنفسهم بالمجددين.
كل مسلم صادق الإيمان بما جاء به خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم
يتمنى لو يعود للمسلمين حكم الخلافة هذا، وكل من وقف حق الوقوف على حكم
عبد العزيز بن السعود في بلاده ثم في الحجاز، وإن لم يتم له فيه ما تم له في نجد
يعلم - وإن منعه الهوى أن يشهد بما يعلم- أنه هو النواة الوحيدة لإعادة حكم
الراشدين ومجد الإسلام الذي أسسوه إذا أتيحت له الأسباب والمساعدة من المسلمين،
ومحمد علي وشوكت علي من أعلم الناس بهذا الأمر ولكنهما يدعيان أنهما
سيقيمان حكم الخلافة بإقناع جميع الشعوب الإسلامية به، وإن من المقدمات لإقامتها
هدم قوة ابن السعود التي هي القوة الإسلامية الوحيدة القائمة على أساس الدين.
لا أستثني من هذا العموم حكومة الإمام يحيى في اليمن فإن قومه الزيدية الذين
هم دعامة حكمه وأصل عصبيته لا يقاتلون إلا في مقابلة جُعْل مالي يتقاضونه منه،
وقد كان كثير منهم يقاتلون جيشه تحت لواء عدوه السيد الإدريسي؛ لأنه يعطيهم
من الدراهم ما لا يعطيهم الإمام يحيى، وأما غير الزيدية وهم الشافعية الذين يؤلفون
السواد الأعظم في اليمن فهم لا يقاتلون معه لإمامته بل كثيرًا ما يقاتلونه، وسبب
خضوع أولي القوة والعصبية منهم له وجود رهائن من أبناء سادتهم وزعمائهم عنده
يهدد من عصاه بالفتك بهم، ولعله لا يوجد في بلاد نجد وملحقاتها رجل واحد لا
يطيع الإمام عبد العزيز بوازع العقيدة الدينية.
أفيعقل مع هذا أحد من البشر أن الوسيلة الوحيدة لإحياء حكم الخلافة هدم
سلطان هذا الإمام بحجة أن أهل الحجاز سموه ملكًا وإن اشترطوا عليه مع هذا
اللقب أن يكون على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلخ، ما تقدم في
نص بيعته.
وأما سائر الشعوب الإسلامية فأمر حكوماتها من حيث القرب أو البعد من حكم
الخلافة معلوم: الترك نبذوا الخلافة والشرع الإسلامي برمته من حكومتهم،
وشرعت جمهوريتهم التي يقدس نوع حكمها (أي الجمهورية) محمد علي وشوكت
علي في تغيير دين الشعب نفسه، فبدأت بإباحة الردة عن الإسلام وكثير من
المحرمات التي يعد الإسلام استحلالها كفرًا، ثم ألغوا من قانونهم المادة القائلة: إن
دين الدولة هو الإسلام فتركوا مخادعة الشعب باسمه بعد ما خضع صاغرًا لترك
شرعه، ولبس البرنيطة كارهًا؛ لأنها شعار غير أهله، والآن نسمع نبأة جديدة
عنهم في تغيير الصلاة بجعلها كصلاة البروتستانت وغيرهم من النصارى بأن
يجلس المصلون على كراسي يسمعون المعازف وآلات الطرب في المساجد إلخ [1]
وملك الأفغان قد شرع في الاقتداء بهم في التفرنج والاستعانة برجالهم على إدارة
جيشه وملكه وبالإفرنج أيضًا، ومصر التي هي أجدر بلاد الحضارة الإسلامية
بالحكم الإسلامي وإعادة الخلافة قد اقتبست القوانين الإفرنجية للأمور المدنية
والعقوبات وأحلتها محل الشريعة ثم وضعت أساس حكومتها على قوانين أوربة
النيابية، ولما قام كبار علماء الأزهر ومَنْ وافقهم من سائر طبقات الشعب منذ سنتين
بالدعوة إلى عقد مؤتمر للبحث في شئون الخلافة وإقامة خليفة للمسلمين كانت
الحكومة المصرية ومعظم نوابها المنوط بهم أمر التشريع ضدًّا على جمعية الخلافة،
وكانت أكثر الجرائد التي تسمى إسلامية تهزأ بهم وتسخر منهم وتصد عنهم، ثم قامت
قيامتها وقيامة مجلس النواب على وزارة الأوقاف؛ لأنها أجابت دعوة الأستاذ الأكبر
شيخ الجامع الأزهر إلى صرف مبلغ حقير من الأوقاف الخيرية باسم المعاهد الدينية
صرفه على السعي لعقد مؤتمر الخلافة، ثم عقد المؤتمر، ولم ينته إلا بالخيبة
والفشل، وأما حكومة إيران فهي أبعد حكومات الشعوب الإسلامية عن إحياء حكومة
الخلافة التي يدّعي الزعيمان الدعوة إليها؛ لأنها حكومة شعب شيعي يدين الله تعالى
ببطلان خلافة أبي بكر وعمر وعثمان
…
ويعتقد أن الحكم الإسلامي الحق لن يقوم في
الأرض إلا بظهور الإمام المهدي المنتظر الذي هو محمد بن الحسن العسكري الذي
دخل السرداب في (سُر من رأى) التي تسمى الآن (سامرا) منذ أحد عشر قرنًا،
وينتظرون خروجه منه كل يوم.
هذا حال الشعوب الإسلامية المستقلة، على ما في استقلال مصر من قيود
وسيطرة احتلال أجنبي، ومن المعلوم أن سائر المسلمين خاضعون لدول أوربة.
فاسمع بعد تذكر هذا ما صرح به الزعيم محمد علي الهندي لجريدة الأخبار
عن خطة جمعيته في إعادة الخلافة:
قال: (واعتقادنا الراسخ أننا سنعمل إن شاء الله إلى اليوم الذي تجتمع فيه
كلمة الأمم الإسلامية ملوكية كانت أو غير ملوكية فتنفرد كل أمة بشئونها الداخلية
حسبما يتفق مع عوائدها وطباعها وما يتفق مع مصالحها وإدارة شئونها.
(وأما الشئون الخارجية فيجب على المسلمين جميعًا أن يكون (أمرهم
شورى بينهم) وبذلك ترى المسلمين جميعًا في المستوى اللائق بهم) يعني وإن هذا
لا يتم إلا بإعادة حكم الخلافة أي الرجوع إلى أحكام كتاب الله كما قال: والمراد إذًا
أن تكون السياسة الخارجية لجميع الأمم الإسلامية وحكوماتها على اختلاف أنواعها
تحت إدارة الخليفة الأعظم القائمة على أساس الشورى في مجلس مؤلف من جميع
تلك الأمم ليتفق سابق كلامه مع لاحقه.
على أنه ذكر بعد هذا أن أهل الهند ساخطون على ابن السعود لتدمير رجاله
الجاهلين لآثار النبي صلى الله عليه وسلم والعِترة والصحابة رضي الله عنهم، ثم
قال: (وكل مهمتنا أننا نواجه تيار هذا السخط والغضب إلى تحقيق غايتنا السامية
التي نعتقد بحق أنها لخير الإسلام والمسلمين، فما علينا إلا إحياء الهمم وتوجيه
القلوب وتحويل الأنظار إلى وجوب إعادة عهد أبي بكر وعمر) اهـ بنصه.
أما قوله: إن رجال ابن السعود ذمروا آثار النبي صلى الله عليه وسلم وآثار
عِترته وأصحابه فهو كذب وبهتان دليله أن هؤلاء ليس لهم آثار مبنية تدمر وإنما
دمر القوم بعض مشاهد القبور المشيدة المزينة على خلاف ما ثبت في الأحاديث
الصحيحة من النهي عن ذلك ولعن فاعليه، والأمر بهدمه وتسويته بالتراب كما بيناه
مرارًا.
وقوله: إن مسلمي الهند ساخطون على ابن السعود باطل على إطلاقه فخيار
مسلمي الهند من علماء الحديث وأنصار السنة ومن العقلاء والسياسيين راضون
عن ابن السعود ومؤيدون له، وإنما الساخط عليه الشيعة وخرافيو أهل الطرق
المبتدعة.
وهب أن قوله صحيح فهل يتجرأ عاقل على القول بأن سخط الهنود على ابن
السعود هو الوسيلة الوحيدة لإعادة حكم أبي بكر وعمر؟
فخلاصة ما قاله الزعيم محمد علي أنه يعتقد أن سعيه وسعي جمعيته سينتهي
بإقناع جميع الأمم والدول الإسلامية بأن تكون كل دولة من دولها مستقلة في إدارتها
الداخلية، وأن تكون سياستها العامة وعلاقاتها الخارجية مع الدول تابعة لخليفة واحد
يكون في الحجاز، وأن الوسيلة الموصلة إلى هذا الإقناع هي سخط بعض عوام
الهنود أو كلهم على ابن السعود؟ وهل يروج هذا الهوس إلا عند عوام الهنود؟
فالمعقول الذي لا يُعْقَل غيره أن تكون خطة محمد علي جمع أموال عظيمة من
الهند تقبضها جمعية الخلافة؛ لتزيل بها حكم ابن السعود من الحجاز وتضع بدله
حكم خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ثم يكون مآل هذه الأموال كمآل الأموال
التي جمعت من قبل لإحياء خلافة الترك.
وقد وجدت جمعية في ألمانية لمثل هذه الغاية أحسن نظامًا من جمعية الخلافة
الهندية، وهي تدعو الناس إلى دفع زكاة أموالهم إلى فروعها لأجل هذه الغاية.
ومن المسلمين من يرون في الخلافة آراء أخرى بعيدة عن الشرع والعقل.
ونحن قد سبقنا إلى وضع أصول النظام لإعادة الخلافة في كتابنا الذي أفردناه
لهذه المسألة (كتاب الخلافة أو الإمامة العظمى) .
والحق المعقول أن العالم الإسلامي غير مستعد الآن إلى تمحيص هذه المسألة
وتنفيذ الواجب، وأن خير الوسائل لها ما اقترحناه كتابة على المؤتمر الذي أقيم
بمصر فلم يعرضه السكرتير العام عليه، وقد نشرناه في المنار، وفي بعض
الصحف المصرية {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (النحل: 9) اهـ الرد.
(المنار)
كتبنا هذا المقال في ثلاثة فصول أرسلناها إلى جريدة الأخبار الغراء التي
نشرت تصريحات الزعيم محمد علي الهندي فنشرتها وكنا نرسل المسودة قبل أن
نقرأها لالتياث صحتها، وبعد إتمام نشرها فيها أودعناها في المنار بعد شيء من
التنقيح والتصحيح؛ لأننا قرأناها بعد ذلك مجتمعة وكان كل فصل ينشر قبل كتابة
ما بعده.
_________
(*) إردام الحمى عبارة عن دوامها وطول مكثها.
(1)
المنار: هذا الخبر يؤيد ما بلغنا منذ بضع سنين عن مصطفى كمال أنه يمهد السبيل لتنصير الترك لتبقى كأوربة من كل وجه ولكنه ينبغي من إنكلترة أن تكافئه على ذلك بمخالفته وعد الترك شعبًا أوربيًّا.
الكاتب: محمد رشيد رضا
مسألة اجتماع صاحب المنار بالملك فيصل
وسعاية العتل الزنيم ومفاسده فيها
كتب إلينا من أكبر أمصار الحجاز أن رجلاً من مستخدمي الحكومة الحجازية
كان بمصر وعاد إليها قبل موسم الحج الأخير فأذاع في جدة والمدينة المنورة ثم
في مكة أن صاحب المنار لما قابل ملك العراق بمصر أعطاه عهدًا وميثاقًا بأنه لم
يعد يدافع عن هؤلاء الوحوش النجديين، إلخ، وكان يقول في الاستدلال على
صحة هذا الزعم: إنه قد نُشر في بعض الجرائد ورآه صاحب المنار ولم يكذبه ولو
لم يكن صحيحًا لكذَّبه، أما صاحب هذه الفرية الحقيرة الدنيئة فقد عرفناه، وإن لم
يَذكر اسمه أحد ممن كتب إلينا بالخبر: عرفناه مما سبق له من أمثال هذه السعاية: هو
هو ذلك الذي أذاع تلك الإذاعات الباطلة في ضد ما وجهت سعيي له في حادثة
المحمل المصري، هو هو ذلك الذي كان يطعن عليَّ في كل مجلس بمصر حتى
أمام
المرحوم سعد باشا والذي اجتهد في السعي للإيقاع بيني وبين سمو الأمير سعود
عندما كان هنا، هو هو الذي أوعز إلى صنيعته بمصر في الطعن عليَّ في الجرائد
مرارًا أو بذل لها المال أجرة نشرها، هو هو الذي أذاع تلك الأكاذيب في مسألة
طبع كتاب المغني من كتب جلالة الإمام، ولقنها لبعض مراسلي بعض الجرائد
السورية، وأنا لا أعلم سببًا لعداوته لي إلا أن يكون الحسد لما رآه من عناية الملك
وشدة ثقته بي وخوفه أن أذكر لجلالته ما أعلم من مخازيه، ولكن هذا خلقه لا خلقي،
وإذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه
…
وصدّق ما يعتاد من أوهامه
وقد زاد في حقده عليَّ أخيرًا أنه دخل مكانًا بالقاهرة فيه كثير من الوجهاء فقاموا
له ولم أقم؛ لأنه مجاهر بعداوته لي وأحمد الله أنني لا أعرف المداهنة ولم أعتد
النفاق.
وقد كان استغرابي لفريته الأخيرة أعظم من كل ما سبقها من أمثالها؛ لأن
ثنائي على الإمام وقومه ودفاعي عنهم لا ينقطع ما دامت مناقب الإمام وأعماله
الإصلاحية متجددة، وما دام يوجد في الناس من يطعن في قومه بالباطل إما اتباعًا
للهوى وإما للجهل، ووالله إنني لا أبغي بهذا الزلفى عنده بل عند الله وحده.
إن هذا العتل الزنيم والحسود الباغي كاذب في قوله الأخير ككذبه في أمثاله،
وإنه كاذب في استدلاله عليه بأنني رأيت الخبر منشورًا في الجرائد ولم أكذبه،
فإنني لم أر ذلك ولم يبلغني أن أحدًا نشر في جريدة، بل الأرجح أنه هو الذي
افتحره على أنني لو رأيته في بعض هذه الجرائد الهُمزة اللُّمزة التي تلقب بالساقطة
لما باليت به، ولما رددت عليه فإننا مأمورون بالإعراض عن الجاهلين، فكيف إذا
كانوا كأصحاب هذه الجرائد الساقطة من الأدنياء المأجورين.
ولكنني علمت أن جريدة لبنانية منها مأجورة لخصمنا في مسألة السياسة
السورية قد كتب إليها أُجراء هذا الخصم بأن صاحب المنار قابل الملك فيصل
واعتذر له عن طعنه فيه من قبل، وتذلل له ليعفو عنه أو ما هذا معناه، ولذلك
صرحتُ فيما نشرت قبلاً من حديثي مع الملك فيصل بأنني قلت له في وجهه: إن
كل ما كتبته فيهم صدر عن عقيدة وقصدت به خدمة أمتي وملتي، فأجابني بأن
والده كان يعتقد أيضًا أن كل ما فعله وخالفناه نحن فيه إنما كان من اعتقاد منه بأنه
عين المصلحة وخدمة الأمة، وبأنه إذا لم يكن والده معصومًا من الخطأ في عمله أو
اعتقاده فلا يمكنني أنا ادعاء العصمة لنفسي في ذلك، وذكرت أنني قلت له: نعم لا
أدعي العصمة من الخطأ، ولكنني إذا ظهر لي خطئي أرجع عنه، ولا يخفى أن
مفهوم هذا الكلام أو فحواه أن والده لا يرجع عن خطئه وإن ظهر له، وأنه لو ظهر
لي أنني كنت مخطئًا فيما كتبته فيهم لرجعت عنه حيث نشرته، وهذا تكذيب
صريح لمن كتبوا إلى تلك الجريدة بأنني اعتذرت له، ولكني أكرم نفسي عن ذكر
تلك الجريدة، وذكر من كتب لها وعن الرد عليهم بأن العفو إنما يطلب ممن يملك
العقوبة، والملك فيصل لا يملك ذلك.
ومن العجب عندي أن صديقًا من أخلص أصدقائي كتب إليَّ بمناسبة السعاية
الأخيرة أن الذي زين لي لقاء الملك فيصل كان خادعًا، وأنه ما كان ينتظر من مثلي
أن أنخدع له وإن قيل: (إن الكريم إذا خادعته انخدعا) وتمنى أن لا أعود إلى
مثل هذا، وقد أجبته بأنني أعتقد أنه غير مخادع وأن نيته صالحة، وأنها تتعلق
بخدمة الأمة العربية والإسلام من الناحية التى ذكرتها في المنار، وأنني قبلت
وساطته لأجلها، على أن لي مقاصد أخرى من ذلك ذكرت بعضها دون بعض،
ويمكنني أن ألخصها كلها هنا ليعلم ذلك الصديق وغيره أنني لم أكن منقادًا لصديقي
إحسان بك الجابري للثقة بحسن قصده فقط وهي:
1-
أنه كان مما افتراه عليَّ سفيه الملاحدة هنا أنني كنت أخدم سياسة فيصل
في دمشق للانتفاع بماله، وأنني أخدم ابن السعود الآن لمثل ذلك فكانت فرصة لقاء
فيصل التى سنحت من غير قصد ولا توقع ممكنة لي من تذكيره في وجهه بما كان
من حرصه على إسداء منفعة مادية إليَّ لا ينافي قبولها الإباء وعزة النفس،
واختياره منها أن يفرش لي الدار الواسعة التى استأجرتها، وما كان من سبقي إلى
استحضار الفرش والأثاث لها من طرابلس حتى لا يبقى له مجال لإرسال ما لا بد
لي من رده، ولم يكن يعلم بهذا أحد في الشام غير إحسان بك الجابري رئيس أمنائه؛
لأنه عرض ذلك عليَّ أمامه وعلى مسمعٍ منه، وقد تم لي هذا المقصد وأذعته في
المنار.
2-
إن فيصلاً أظهر وهو في أوربة في الزيارتين الأخيرتين لها ميلاً لمساعدة
السوريين على قضيتهم، ولكن لدى فرنسة وكان بعض السوريين يرجون منه نوعًا
آخر من المساعدة على فرنسة، والأذكياء منهم يعتقدون أنه لا يسعى إلا لنفسه أو
إخوته، وأنه إنما يبغي بإظهار مساعدتهم أن يثقوا به فيقنع فرنسة بجعل أخيه ملكًا
على سورية، وبذلك يأخذ ثأره ويجعل سلطان بيت الحسين الهاشمي ممتدًا من خليج
فارس إلى البحر الأحمر على طول مملكة ابن السعود معتزًا بالدولتين الكبريين
إنكلترة وفرنسة مؤقتًا إلى أن تؤول البلاد كلها إلى إنكلترة كما يتوقعون، فأحببت أن
أسمع من لسانه ما لعلي أعلم به مراده، وقد كان.
3-
رغبتي الخاصة في الوقوف على رأيه في ابن السعود وقومه ومستقبل
ملكه كما ذكرت ذلك من قبل، وقد كان.
4و5 - ما كان موضوع الحديث بينى وبين إحسان بك الجابري، وهو
استنباء جلالته عما كان موضوع بحثنا في الشام من أمر الجامعة العربية والجامعة
الإسلامية، وما كان من توسلنا إلى الأولى بمكاتبة والده وابن السعود، إذ كتب هو
إلى والده كتابًا أطلعني عليه بوجوب الاتفاق مع ابن السعود وكتب كل منا لابن
السعود كتابًا أطلع الآخر عليه، وأرسل هو الكتب الثلاثة إلى صاحبيها، إلخ ما سبق
ذكره في المنار.
وأما الجامعة الإسلامية فكان موضوعها إزالة الشقاق والتفرق الذي حدث
بسبب المذاهب وجمع كلمتهم على مصالحهم المشتركة في دنياهم ودينهم، كان
فيصل قد سألني في دمشق هل هذا من الممكن؟ قلت: نعم، قال: وما الوسيلة إليه
؟ فذكرت له ما أراه وما كنت مهدته له في مقالات المصلح والمقلد وبينت له أن
الخلاف والشقاق لا يزال على أشده بين أهل السنة والشيعة وأن من الممكن الاتفاق
بينهما إذا سعى له أهل النفوذ والتأثير سعيه بالإخلاص، فأردت أن أعرف ما
اختبره في العراق من حال الفريقين، وهو ما سألته عنه وعما قبله بالتصريح،
وعلمت رأيه فيهما ولا يجوز في عرف الصحافة نشره بالتفصيل بدون إذنه، وهو
بالإجمال يدل على الآفة المؤسفة ضعف الدين في الفريقين لا التعصب له باسم
المذاهب، وإنما يتعصب كلٌّ لمنافعه المادية، وأما رأيه في الأمرين الثاني والثالث
فإنما استدرجته إلى الحديث فيهما استدراجًا واستنبطت رأيه فيهما استنباطًا.
أفرأيت أيها الصديق أن من له مثل هذه المقاصد المفيدة يكون مخدوعًا بحسن
الظن وسلامة النية في ذلك الاجتماع؟
_________
الكاتب: شكيب أرسلان
كتاب الأمير شكيب أرسلان
إلى صديقه صاحب المنار
في الجواب عما كتبه في تعزيته عن شقيقه المرحوم الأمير نسيب
نشر كلاً من الكتابين كثير من الجرائد العربية المشهورة في مصر وسورية
وفلسطين ولبنان وعَدُّوهُمَا من الآثار الأدبية في عبارتهما، كما أنهما من آيات
الإخلاص في الأخوة الروحية بين صاحبيهما، وقد كان من سهو الإدارة تأخير نشر
كتاب الأمير إلى الآن، وهذا نصه:
إلى حضرة الأستاذ الأكبر والسراج الأزهر، القدوة الحجة، مذكي المنار
الهادي إلى أقوم محجة، السيد محمد رشيد رضا، أمتع الله الإسلام بطول حياته
آمين.
إذا كنتُ قد فقدت أخي الكبير، فما زال لي منك أخ أكبر، وإذا كان قد انهد
ركني المتين، فلم يبرح لي منك ركن أركن، وعماد أمتن، وليس بمهيض الجناح،
من أنت جناحه، ولا بأعزل في الميدان، من رضي السيد من آل الرضا سلاحه،
ولقد كان ما تفضلتَ به من التعزية على صفحات الصحف السيارة، خير جابر
لخاطري الكسير، ومرقئ لمدمعي الغزير، ولم يكن بأول برهان على خلقك
العظيم، وقلبك الكبير، وعلى أنك تعطف على القليل، فإذا به بإكسير نظرك كثير،
وكأنك علمت بما فتَّ هذا الخطب من عضدي وكوى من كبدي، فبدرت إليَّ بما
يكف سَوْرَة الخطب، ويكفكف صوبة الدمع، ويشفي حرقة الصدر ويهيب بي إلى
ما أُمرنا به من الصبر.
فأسأل واجب الوجود، أن يمتع الإسلام كله بطول بقائك، وأن يهدي القاصي
والداني بأشعة ضيائك، وأن يبقيك للأمة العربية السندَ الأقوى، والجناب الأمنع،
والبرهان الأسنع، والحجة القاطعة التي لا تُدْفَع، وأن يجعل البرَكة في حياة أنجالك،
وأن يُقر عينك بذريتك وكلالتك وآلك، ولعمري إنه بسلامتكم يحسن العزاء،
وبوجودك تهون الأرزاء، وبطلعة محياك عِوض عن كل ما ساء، وما ضر أن
يكابر مكابر، أو يعاند معاند، فالحق شديد المِحال، والنور لا يختفي بحال، وما
يُتعب هؤلاء أنفسهم إلا بالمُحال.
وفي تعب من يحسد الشمس نورها
…
ويجهد أن يأتي لها بضريب
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... أخوك
…
...
…
...
…
...
…
...
…
شكيب أرسلان
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
أصل دعوة التجديد الإسلامي في نجد وقاعدتها
لا يزال كثير من الناس يجهلون تفصيل حقيقة هذه الدعوة التي يسمونها
الوهابية؛ لجهلهم بتاريخها أو بحقيقة الإسلام التى كان عليها السلف الصالح، وقد
ورد على الشيخ العلامة عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب صاحب الدعوة
كتاب من العلامة الشيخ عبد الله الصنعاني يسأله فيه عما يدينون به وما يعتقدونه
من الحق، فأجابه بالكتاب الآتي، فاستشكل الصنعاني مسألة المذهب في الجواب،
فرد عليه الشيخ عبد الله بما أزال استشكاله فرأينا أن ننشر الجوابين في المنار؛
لأنهما فصل الخطاب في الموضوع، وهذا نص الجواب الأول.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأنام، وعلى آله وصحبه
البررة الكرام، إلى عبد الله بن عبد الله الصنعاني وفقه الله وهداه، وجنَّبه الإشراك
والبدعة وحماه، وعليكم السلام ورحمة الله بركاته.
(أما بعد) فوصل الخط، وتضمن السؤال عما نحن عليه من الدين.
(فنقول) وبالله التوفيق الذي ندين الله به عبادة الله وحده لا شريك له والكفر
بعبادة غيره، ومتابعة الرسول النبي الأمي حبيب الله وصفيه من خلقه محمد صلى
الله عليه وسلم فأما عبادة الله وحده فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلَاّ
لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ
اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36) فمن أنواع العبادة الدعاء، وهو
الطلب بياء النداء؛ لأنه ينادى به القريب والبعيد، وقد يستعمل في الاستغاثة أو
بإحدى أخواتها من حروف النداء، فإن العبادة اسم جنس فأمر الله سبحانه وتعالى
عباده أن يدعوه ولا يدعوا معه غيره، وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر: 60) وقال
في النهي: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: 18) و (أحدًا)
كلمة تصدق على كل ما دُعِيَ به غير الله تعالى، وقد روى الترمذي عن أنس أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدعاء مخ العبادة) وعن النعمان بن بشير قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الدعاء هو العبادة) ثم قال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر: 60) رواه أحمد وأبو داود والترمذي، قال
العلقمي في شرح الجامع الصغير حديث (الدعاء مخ العبادة) قال شيخنا قال في
النهاية: مخ الشىء خالصه، وإنما كان مخها لأمرين:(أحدهما) أنه امتثال لأمر
الله تعالى حيث قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر: 60) فهو مخ العبادة
وخالصها.
و (الثاني) أنه إذا رأى نجاح الأمور من الله قطع علقته عمن سواه ودعاه
لحاجته وحده؛ ولأن الغرض من العبادة هو الثواب عليها، وهو المطلوب بالدعاء،
وقوله: (الدعاء هو العبادة) قال شيخنا: قال الطيبي: أتى بالخبر المعرف
باللام ليدل على الحصر، وإن العبادة ليست غير الدعاء. انتهى كلام العلقمي [1] .
إذا تقرَّر هذا فنحن نعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع
لأمته أن يدعوا أحدًا من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم بل نعلم أنه
نهى عن هذه الأمور كلها، وأن ذلك من الشرك الأكبر الذي حرَّمه الله تعالى
ورسوله، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَاّ يَسْتَجِيبُ لَهُ
إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا
بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (الأحقاف: 5-6) وقال تعالى: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ
فَتَكُونَ مِنَ المُعَذَّبِينَ} (الشعراء: 213) وقال تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا
لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} (يونس: 106) الآيات، وهذا من معنى (لا إله إلا الله)
فإن (لا) هذه هي نافية للجنس فتنفي جميع الآلهة و (لا) حرف استثناء يفيد
حصر جميع العبادة على الله عز وجل، والإله اسم صفة لكل معبود بحق أو باطل
ثم غلب على المعبود بحق، وهو الله تعالى الذي يخلق ويرزق ويدبر الأمور، وهو
الذي يستحق الإلهية وحده، والتأله التعبد، قال الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَاّ
إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (البقرة: 163) ثم ذكر الدليل فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (البقرة: 164) إلى قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ
اللَّهِ أَندَاداً} (البقرة: 165) الآية.
وأما متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فواجب على أمته متابعته في
الاعتقادات والأقوال والأفعال قال الله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31) الآية، وقال صلى الله عليه وسلم: (من أحدث
في أمرنا ما ليس منه فهو رد) رواه البخاري ومسلم وفي رواية لمسلم: (من
عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) فتوزن الأقوال والأفعال بأقواله وأفعاله فما
وافق منها قُبِلَ، وما خالف رُدَّ على فاعله كائنًا مَن كان، فإن شهادة أن محمدًا
رسول الله تتضمن تصديقه فيما أخبر به وطاعته ومتابعته في كل ما أمر به وقد
روى البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كل
أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا يا رسول الله ومَن يأبى؟ قال: من أطاعني
دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى) فتأمل رحمك الله ما كان عليه رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأصحابه بعده والتابعون لهم بإحسان وما عليه الأئمة المقتدى بهم من
أهل الحديث والفقهاء كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل رحمهم الله تعالى
لكي تتبع آثارهم، وأما مذهبنا فمذهب الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة، ولا
ننكر على أهل المذاهب الأربعة إذا لم يخالف نص الكتاب والسنة ولا إجماع الأمة
ولا قول جمهورها.
والمقصود بيان ما نحن عليه من الدين وأنه عبادة الله وحده لا شريك له فيها
نخلع جميع الشرك، ومتابعة الرسول وبها نخلع جميع البدع إلا بدعة لها أصل في
الشرع [2] كجمع المصحف في كتاب واحد، وجمع عمر رضي الله عنه الصحابة
على التراويح جماعة، وجمع ابن مسعود أصحابه على القصص كل خميس ونحو
ذلك، فهذا حسن، والله أعلم، وصلى الله علي محمد وآله وصحبه وسلم.
أجاب الصنعاني الشيخ عبد الله (رحمهما الله) على كتابه بالموافقة على كل
ما فيه إلا قوله: إن مذهبهم مذهب الإمام أحمد فإنه يقتضي تقليده والتقليد محظور،
وإنما المشروع اتباعه في الأخذ من الكتاب والسنة، فأجابه الشيخ عبد الله بهذا
الكتاب وهو الثاني قال:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله الذي نزَّل الكتاب على النبي المختار، وبينه صلى الله عليه وسلم
وحمله عنه أصحابه الأخيار، ثم التابعون لهم من الأبرار.
إلى عبد الله بن عبد الله الصنعاني سلمه الله من الشرك والبدع، ووفقه للإنكار
على من أشرك وابتدع، والصلاة والسلام على محمد الذي قامت به على الخلق
الحجة، وبيَّن وأوضح لهم المحجة، وعلى آله وصحبه القدوة بعده.
(أما بعد) فقد وصل كتابكم وسر الخاطر، وأقر الناظر، حيث أخبرتم أنكم
على ما نحن عليه من الدين وهو عبادة الله وحده لا شريك له ومتابعة الرسول الأمي
سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، وما أوردتم على ذلك من الآيات الواضحات،
والأحاديث الباهرات، وإن الرد عند الاختلاف إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله
عليه وسلم، ثم إلى أقوال الصحابة ثم التابعين لهم بإحسان فذلك ما نحن عليه،
وهو ظاهر عندنا من كل قول له حقيقة، وحقيقة العلم وثمرته العمل {قُلْ إِن كُنتُمْ
تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} (آل عمران: 31) الآية {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصف: 2) .
وكل يدعي وصلاً لليلى
…
وليلى لا تقر لهم بذاكا
فنحن أقمنا الفرائض والشرائع والحدود والتعزيرات، ونصبنا القضاة، وأمرنا
بالمعروف، ونهينا عن المنكرات، ونصبنا علم الجهاد على أهل الشرك والعناد فلله
الحمد والمنة.
وأما استفصالكم عن قولنا: مذهبنا مذهب الإمام أحمد، وقولكم: إن تريدوا
أن نسلك في أخذ المسائل من الكتاب والسنة مثل مسلكه فنعم ما قلتم، وإن تريدوا
بقولكم ذلك التقليد له فيما قاله من غير نظر إلى الحجة من الكتاب والسنة كما سلك
بعض أتباع الأئمة الأربعة من جعل آرائهم وأقوالهم أصولاً لمسائل الدين واطَّرَحُوا
الاحتجاج بالكتاب والسنة وسدوا بابهما إلى آخره. انتهى كلامكم ملخصًا.
فالجواب وبالله التوفيق من أوجه (الوجه الأول) : إن في رسالتنا التى عندكم
ما يرد هذا التوهم، وهو قولنا فيها:{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} (آل عمران: 31) الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا
هذا ما ليس منه فهو رد) رواه البخاري ومسلم، فتوزن الأقول والأفعال بأقواله
وأفعاله فما وافق منها قُبِلَ وما خالف رُدَّ على قائله كائنًا مَن كان إلى آخره، فتضمن
هذا الكلام أنه لا يُقدم رأي أحد على كتاب الله وسنة رسوله، والعجب كيف نَبَا
فهمكم عنها.
(الوجه الثاني) قد صرَّح العلماء أن النصوص الصريحة الصحيحة التى لا
مُعَارض لها ولا ناسخ، وكذا مسائل الإجماع لا مذاهب فيها، وإنما المذاهب فيما
فهمه العلماء من النصوص أو علمه أحد دون أحد أو في مسائل الاجتهاد ونحو ذلك.
(الوجه الثالث) قد ذكر العلماء أن لفظة المذهب لها معنيان: معنى في اللغة،
ومعنى في الاصطلاح، فالمذهب في اللغةَ مفْعَل ويصح للمصدر والمكان والزمان
بمعنى الذهاب وهو المرور أو محله أو زمانه، واصطلاحًا ما ترجَّح عند المجتهد
في أيما مسألة من المسائل بعد الاجتهاد، فصار له معتقدًا ومذهبًا، وعند بعضهم ما
قاله مجتهد بدليل ومات قائلاً به، وعند بعضهم أنه المشهور في مذهبه كنقض
الوضوء بأكل لحم الجزور ومس الذكر ونحوه عند أحمد، ولا يكاد يطلق إلا على
ما فيه خلاف، وقال بعضهم: هو في عرف الفقهاء ما ذهب إليه إمام من الأئمة من
الاجتهادية [3] ، ويطلق عند المتأخرين من أئمة المذاهب على ما به الفتوى وهو ما
قوي دليله، وقيل: ما كثر قائله، فقد تَلَخَّصَ من كلامهم أن المذهب في الاصطلاح:
ما اجتهد فيه إمام بدليل أو قول جمهور أو ما ترجَّح عنده ونحو ذلك، وإن
المذهب لا يكون إلا في مسائل الخلاف التى ليس فيها نص صريح ولا إجماع،
فأين هذا من توهمكم أن قولنا لكم: مذهبنا مذهب الإمام أحمد أنا نقلده فيما رأى
وقاله، وإن خالف الكتاب والسنة والإجماع. فنعوذ بالله من ذلك والله المستعان.
(الرابع) قال ابن القيم في إعلام الموقعين لما ذكر المفتين بمدينة السلام،
وكان بها إمام أهل السنة على الإطلاق أحمد بن حنبل الذي ملأ الأرض علمًا وحديثًا
وسنة إلى أن قال: وكانت فتاواه مبنية على خمسة أصول:
(أحدهما) النصوص فإذا وجد النص أفتى بموجبه، ولم يلتفت إلى ما خالفه
كائنًا من كان، ثم ذكر أحاديث تمسك بها الإمام أحمد ولم يلتفت إلى ما خالفها إلى
أن قال:
(الأصل الثاني) من أصول فتاوى الإمام أحمد ما أفتى به الصحابة فإنه إذا
وجد لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يَعْدُهَا إلى غيرها، ولم يقل:
إن ذلك إجماع بل من ورعه في العبارة يقول: لا أعلم شيئًا يدفعه، ونحو هذا إلى
أن قال:
(الأصل الثالث) من أصوله إذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان
أقربها للكتاب والسنة، ولم يخرج عن أقوالهم، فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال
حكى الخلاف فيها، ولم يجزم بقول إلى أن قال:
(الأصل الرابع) الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب
شىء يدفعه فهو الذي يرجحه على القياس، وليس المراد بالضعيف عنده الباطل ولا
المنكر ولا ما في روايته متهم بل الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح، فإذا لم
يجد في الباب أثر يدفعه، ولا قول صاحب ولا إجماع على خلافه كان العمل به
عنده أولى من القياس وليس من الأئمة إلا وهو موافقه على هذا الأصل من حيث
الجملة، فإذا لم يكن عند الإمام أحمد نص ولا قول للصحابة أو أحد منهم ولا أثر
مرسل أو ضعيف عدل إلى.
(الأصل الخامس) وهو القياس فاستعمله للضرورة، وقال الشافعي: إنما
يُصَار إليه عند الضرورة، وقال الإمام أحمد في رواية أبي الحارث: ما تصنع
بالرأي والقياس وفي الحديث ما يغنيك عنه، وقد يتوقف في الفتوى لتعارض الأدلة
عنده أو لاختلاف الصحابة فيها، وقال أبو داود: سمعت أحمد سئل عن كثير مما
فيه الاختلاف في العلم فيقول: لا أدري. انتهى كلام ابن القيم ملخصًا. فهذا ما
أشرنا من قولنا: مذهبنا مذهب الإمام أحمد.
وأما ما ذكرتم من ذم من قلَّد الإمام أحمد وغيره وأطلقتم الذم فليس الأمر على
إطلاقكم، فإن تريدوا بذم التقليد تقليد من أعرض عما أنزل الله وعن سنة نبيه
صلى الله عليه وسلم أو من قلد بعد ظهور الحجة له أو مَن قلد مَن ليس أهلاً أن يؤخذ
بقوله أو من قلد واحدًا من الناس فيما قاله دون غيره، فنعم المسلك سلكتم، وإن
تريدوا بذلك الإطلاق منع الناس لا ينقل بعضهم عن بعض ولا يفتي أحد لأحد إلا
مجتهد فقد قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) ،
قال علي بن عقيل صاحب الفنون ورءوس المسائل: يجب سؤال أهل الفقه بهذه
الآية، وقد أمر الله بطاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر وهم العلماء أو العلماء
والأمراء، وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم من لا يعلم إلى سؤال من يعلم فقال في
حديث صاحب الشجة (
…
ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال)
وأيضًا فأنَّى تُدْرَك هذه في هذه الأزمنة التى قلَّ العلم في أهلها، وقلَّ فيها
المجتهدون وقد صرَّح العلماء أن تقليد الإنسان لنفسه جائز، وربما كان واجبًا.
وكذا في أول الجزء الثاني من (إعلام الموقعين) ذكر القول في التقليد،
وانقسامه إلى ما يحرم القول فيه والإفتاء به، وإلى ما يجب المصير إليه وإلى ما
يسوغ من غير إيجاب (فأما النوع الأول) فهو ثلاثة أنواع:
(أحدها) الإعراض عما أنزل الله وعدم الالتفات إليه اكتفاء بتقليد الآباء.
(الثاني) تقليد من لا يعلم المقلد أنه أهل أن يؤخذ بقوله.
(الثالث) التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل على خلاف قول المقلد، وقد ذَمَّ
الله هذه الأنواع الثلاثة من التقليد في غير موضع من كتابه - ثم ذكر آيات في ذم
التقليد - إلى أن قال: وهذا القدر من التقليد هو مما اتفق السلف والأئمة الأربعة على
ذمه وتحريمه.
وأما تقليد من بذل جهده في اتباع ما أنزل الله وخفي عليه بعضه، وقلد فيه
من هو أعلم منه، فهذا محمود غير مذموم ومأجور غير مأزور كما سيأتي بيانه عند
ذكر التقليد الواجب والسائغ إن شاء الله تعالى.
وقال أيضًا في أول الجزء الأول (من إعلام الموقعين) قلت: وهذه المسألة
فيها ثلاثة أقوال لأصحاب أحمد.
(أحدها) أنه لا يجوز الفتوى بالتقليد؛ لأنه ليس بعلم، والفتوى بغير علم حرام
هذا قول أكثر الأصحاب.
(والثاني) أن ذلك يجوز فيما يتعلق بنفسه فيجوز له أن يقلد غيره من العلماء
إذا كانت الفتوى لنفسه ولا يجوز أن يقلد العالم فيما يفتي به غيره، فهذا قول ابن بطة
وغيره من أصحابنا.
(والقول الثالث) إنه يجوز ذلك عند الحاجة وعدم المجتهد وهو أصح
الأقوال، وعليه العمل، قال القاضي: ذكر أبو حفص في تأليفه، قال سمعت أبا
علي الحسن بن عبد الله النجاد يقول: سمعت أبا الحسن بن بشار يقول: ما أعيب
على رجل يحفظ لأحمد خمس مسائل استند إلى بعض سواري المسجد يفتي الناس
بها. انتهى كلام ابن القيم ملخصًا.
وقال في الإقناع وشرحه في شروط القاضي: وأن يكون مجتهدًا إجماعًا ذكره
ابن حزم، وإنهم أجمعوا أنه لا يحل لحاكم ولا مفت تقليد رجل لا يحكم ولا يفتي إلا
بقوله لأنه فاقد للاجتهاد، ولو كان اجتهاده في مذهب إمامه إذا لم يوجد غيره
لضرورة، كما قال في الإفصاح: إن الإجماع انعقد على تقليد كل من المذاهب
الأربعة، وإن الحق لا يخرج عنهم [4] ثم ذكر أن الصحيح في هذه المسألة أن قول
من قال: إنه لا يجوز إلا تولية مجتهد فإنه ما عنى به ما كانت الحال عليه قبل
استقرار ما أقرت عليه هذه المذاهب، وقال الإمام موفق الدين أبو محمد عبد الله بن
أحمد المقدسي في خطبة المغني: النسبة إلى إمام في الفروع كالأئمة الأربعة ليست
بمذمومة، فإن اختلافهم رحمة واتفاقهم حجة قاطعة [5] واختار في الإفصاح
والرعاية أو مقلدًا، قال في الإنصاف: وعليه العمل من مدة طويلة، وإلا تقطعت
أحكام الناس، وكذا المفتي، قال ابن بشار: ما عيب من يحفظ لأحمد خمس مسائل
يفتي بها، ونقل عبد الله (يفتي غير مجتهد) ذكره القاضي وحمله أبو العباس ابن
تيمية على الحاجة. انتهى كلام صاحب الإقناع وشرحه.
وقال في الإنصاف: قال الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية في شروط القاضي:
ويجب تولية الأمثل فالأمثل، وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره، فيولى للعدم
أعدل المقلدين، وأعرفهما بالتقليد، قال في الفروع: وهو كما قال انتهى كلام
الإنصاف ملخصًا.
وأما ما ذكرتم: عن الأئمة وقول أبي حنيفة: إذا قلتُ قولاً وفي كتاب الله
وسنة رسول الله ما يخالف قولي فاعملوا به واتركوا قولي، وقول الشافعي: إذا
صح الحديث على خلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط واعملوا بالحديث، وكذا ما
ذكرتم عن الأئمة رضي الله عنهم أنهم صرَّحوا بعرض أقوالهم على الكتاب والسنة
فما خالف منها رُدَّ، وقد تقدم في أصول أحمد أنه إذا صح الحديث لم يقدم عليه قول
أحد، فهذا قد تقرر عندنا ولله الحمد والمنة.
وأما قولكم: إن مرادنا بقولنا لا ننكر على أتباع الأئمة الأربعة ولو أشركوا
وابتدعوا فنعوذ بالله من ذلك، بل ننكر الباطل، ونقبل الحق ممن جاء به، فإن كل
أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم.
(وأما قولكم) : والمختار أن العمل بالحديث بحسب ما بدا لصاحب الفهم
المستقيم فننظر في صحة الحديث، وإذا صح نظرنا في معناه ثانيًا فإذا تبين فهو
الحجة. انتهى كلامكم، فهل أنتم مجتهدون أم تأخذون من أقوال المفسرين وشُرَّاح
الحديث وأتباع الأئمة الأربعة، فإن كان الثاني فأخبرونا عن أكثر من تأخذون عنه
وترضون قوله من علماء أهل السنة وفقنا الله وإياكم إلى ما يرضيه، وجنبنا
وإياكم العمل بمعاصيه، وسامحنا وإياكم عند الوقوف بين يديه، وجعل أعمالنا
مقبولة لديه، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
_________
(1)
لكن هذا الحصر إضافي غير حقيقي، فإن العبادات كثيرة وقال المحققون: إن هذا الحديث كحديث (الحج عرفة) وإن تعريف العبادة في الحديثين بمعنى الفرد الكامل كقول العرب: النجم وإرادة الثريا، والمعنى أن أكمل أفراد العبادة الذي يظهر به إخلاص العبودية هو الدعاء، وفي الحديث الآخر أن أكمل أركان الحج الوقوف بعرفة.
(2)
المنار: الاستثناء من البدعة اللغوية وهي التي تنقسم إلى حسنة كالذي ذكره وإلى سيئة هي ما لا أصل له في الشرع، وأما البدعة الشرعية كإحداث عبادة غير ثابتة في الكتاب أو السنة أو التغيير في العبادات المشروعة كزيادة بعض الأذكار أو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الأذان أو بالنقص منها فلا تكون إلا سيئة؛ لقوله صلوات الله وسلامه عليه:(وكل بدعة ضلالة) .
(3)
كذا في الأصل المخطوط ولا بد أن يكون قد سقط من الناسخ كلمة المسائل أو الأمور.
(4)
المنار: ادعى هذه الدعوى بعض علماء القرون الوسطى المتبعين لهذه المذاهب وخطأهم فيها آخرون منهم ومن غيرهم واحتجوا عليهم بأن الإجماع اتفاق مجتهدي العصر كلهم، وهم غير
مجتهدين، ولا وجه لإيجاب التقليد مع وجود المجتهدين وبأن المحققين كالإمام أحمد لا يحتجون بإجماع غير الصحابة بل صرح بعضهم بعدم إمكانه، وبعضهم بعدم إمكان العلم به، ومنهم الإمام أحمد، ثم إن الأصوليين قالوا: إن الإجماع لا بد له من مستند من الكتاب والسنة، ولا يمكن وجود مستند منهما بحصر الحق في أقوال أشخاص معينين إلخ، والحق أن مزية فقه الأربعة أنه مُدَوَّن وشامل لأكثر ما يحتاج إليه الناس ففيها غناء من غيرها في الغالب، وإلا فهذا سلطان العلماء العز بن عبد السلام الشافعي الأصل الذي شهد له علماء عصره بالاجتهاد المطلق قد فضَّل كتاب المحلى لابن حزم وكتاب المغني للشيخ الموفق الحنبلي على جميع كتب الفقه فهو إذًا يعتد بمذهب ابن حزم الظاهري ولا يفضل عليه أحد المذاهب الأربعة.
(5)
الشيخ الموفق قال هذا في أئمة السلف بجملتهم لا في الأربعة ، وحدهم منهم، وعبارته صريحة في ذلك خلافًا لما فهمه صاحب الإقناع وشرحه.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الجزء الثالث من المنار
ومرض منشئه
ألمَّ بنا مرض كان خفيف الوطأة لكنه صار طويل المدة، واقتضى أشد الحمية،
ونهي الأطباء إيانًا عن القراءة والكتابة والتصحيح، وأمرهم لنا بالاستراحة العقلية
والجسدية مدة المرض والنقاهة، فاقتضى ذلك تأخير هذا الجزء من المنار وجعل
تاريخه سلخ ذي الحجة - وكان موعده سلخ ذي القعدة - وأن نجعل جله من
المقتبسات والمختارات التى هي أولى بالمنار من غيره من الصحف لما فيها من بيان
مزايا الإسلام، ونسأله تعالى أن يُتم لنا الشفاء ويسبغ علينا العافية.
_________
الكاتب: شكيب أرسلان
مختارات من الصحف
الديموقراطية الحقيقية في الإسلام
لسعادة الكاتب الجليل الأمير شكيب أرسلان
لما تأخر الإسلام سلبه الناس محاسنه الحقيقية بل سلبوه محاسن ثبتت له ولم
تثبت لغيره، وهكذا شأن الضعيف في كل وقت، وهو أن يُسْلَب كل شيء حتى
الحقيقة وحتى التاريخ.
اطلعت في (الأخبار) في عددها المؤرخ في 29 جمادى الأولى على مقالة
عنوانها ملاحظات وتحقيقات توخى فيها محرِّرها الشيخ محمد السيد الطويل من
القسم العالي بالأزهر إثبات روح الديموقراطية والحكم النيابي والنظام الشورى
للشريعة الإسلامية والرد على من زعم أن الحكم النيابي إنما جاء من الغرب،
وإننا إذا نظرنا إلى الوراء لا نجد شيئًا من روح الديموقراطية عندنا في الشرق.
ولقد أتى صاحب الرد بآيات بينات على ديموقراطية الإسلام ووجوب الشورى
في أحكامها مما لا حاجة معه إلى التكرار لكن أحببت بهذه العجالة أن أزيد
الموضوع بيانًا فأقول لمن ظن أن الديموقراطية هي من وضع الأوربيين:
إن الأمة الفرنسية كانت من القديم تنقسم في طبقاتها الاجتماعية إلى ثلاثة
أقسام: الأشراف والكهنة وسواد الأمة، ولكن لم تكن حقوق هذه الطبقات واحدة،
وكان الأشراف يستبدون بالعامة كما يشاءون وكذلك الإكليروس أي الكهنة كانت لهم
امتيازات عظيمة، والشعب إنما كان آلة يستخدمها في مصالحه الملك وكل من
الأمراء أصحاب الإقطاعات، وما زال الأمر كذلك إلى زمان لويس الثالث عشر إذ
حصلت أزمة اقتصادية احتاجت المملكة بها إلى عقد مجمع من الطبقات الثلاث
للمذاكرة في تسديد الأمور؟
فاجتمعوا في سنة 1912 أو 1913 لا أتذكر الآن جيدًا تاريخ ذلك المجمع
العام، وفي أثناء المذاكرات تلفظ أحد نواب الشعب بجملة معناها أن الأمة الفرنسية
عائلة واحدة، فما كادت تخرج تلك الكلمة من فيه حتى قامت قيامة الأشراف.
التفت إليه أحدهم قائلا: (ويحك أتجرؤ أن تقول: إن الأمة الفرنسوية عائلة
واحدة، وبذلك تجعلنا أقارب لكم، ما أنتم إلا خدم عندنا) ثم إنهم عندما أرادوا
إعطاء الآراء لم يقبل الأشراف أن يكون لنواب الشعب حق التصويت على قاعدة
المساواة في الأصوات أي أن صوت النائب الشعبي يكون مساويًا لصوت النائب
النبيل.
وبقي هذا الحق منكرًا على الشعب إلى زمن لويس السادس عشر أي زمن
الثورة الفرنسوية عندما نالوه بالقوة.
فليذكر لنا التاريخ من أوله لآخره نادرة واحدة للإسلام مثل هذه النادرة، ومتى
تجرأ مسلم خليفة كان أو ملكًا أو أميرًا من الأمراء أو شريفًا من آل البيت على أن
ينكر على أقل مسلم كونه أخًا له.
وليقس القارئ هذه النكبة بنكبة الملك الغساني جبلة الذي كان نصرانيًّا وأسلم
في زمن عمر وجاء يطوف البيت الحرام فداس أعرابي على ثوبه فالتفت نحوه
ولطمه، فذهب الأعرابي إلى الخليفة عمر وشكا إليه لطم جبلة إياه فأمر الخليفة
بإحضار هذا أمامه، وقال للأعرابي: إن شئت الطمه كما لطمك.
فقال جبلة لعمر: (أيستوي عندكم الملك والسوقة؟) فقال له: (نعم)
فذهب جبلة بعد ذلك إلى الشام ومنها التحق بالقسطنطينية ورجع إلى النصرانية.
وليتأمل القارئ كيف كان عمر يقيم الحد على أولاده حتى الموت، وليتأمل
كيف أن الشريعة لم تجعل لأحد على أحد مزية ولا امتيازًا، وكيف أن الرسول
صلى الله عليه وسلم كان يقول: لو سرقت فاطمة بنت محمد لأمرت بقطع يدها [1] .
وليقايس بين ذلك وبين قوانين الأوربيين الأساسية التى فيها أن الملك مقدس
وغير مسؤول، وإذا قيل: إن الرق قد وجد في الإسلام، فالجواب أنه لم يوجد
فضيلة حث عليها الإسلام بصريح القرآن ومتواتر السنة أكثر من تحرير الرقيق،
على أن النصرانية لم تنكر الرق كما ظهر من كلام بولس الرسول.
وإن كانوا في أوربا قد اتفقوا مؤخرًا على إلغاء الرق فلا يجوز أن ننسى أن
الشعب الروسي إلى زمان الإمبراطور بولس كان رقيقًا لأمرائه، وأن النبيل كان إذا
باع قرية يملكها يبيعها مع الأهالي الذين فيها لا يملكون لأنفسهم أمرًا بل حكمهم كان
حكم الحيوانات التي في القرية، هذا كان شأن الأمة الروسية منذ 150سنة لا زيادة،
ولا يجوز أن ننسى أن الفرنسيس بعد أن تمكنوا من طرد المسلمين من جنوبي
فرنسا استعبدوا البقية التى بقيت من المسلمين، واغتصبوا أملاكهم، واستعملوهم
خولاً وخدمًا مدة طويلة حتى اندمجوا في غمار الأمة الفرنسية، وتُنوسيت أصولهم،
ولا يجوز أن ننسى أن الحرب قامت في أمريكا من سنة 1863 إلى 1866 من
أجل تحرير العبيد، وأن الأميركيين سكان جنوبي الولايات المتحدة حاربوا سكان
شماليها مدة سنوات عديدة من أجل إصرارهم على استعباد السود، وكذلك إلى هذه
الساعة، وقد رأيت ذلك بعيني في سياحتي إلى أميركا في الشتاء الماضي، لا يقدر
السود أن يجالسوا البيض ولا في مكان.
وفي الولايات الجنوبية للسود قُطُر مخصوصة يركبون فيها بالسكة الحديدية
ومقاعد انتظار في المحطات خاصة بهم بحيث لا يختلطون مع البيض، بل أولادهم
لا تقدر أن تتعلم مع أولاد البيض في مدارس واحدة وكنائسهم أيضًا لا يدخل إليها
البيض.
وفي أفريقيا الرسالات التبشيرية منذ قرنين أو ثلاثة تعمل لتنصير السود وقد
تمكنت إلى هذا اليوم من تنصير ثمانية ملايين في غربي أفريقيا وجنوبيها وأواسطها.
وقد نصت كتب أعمال الرسالات الدينية المذكورة على أنه في مدة الثلاثة
القرون التي استمر بها التبشير الديني لم يعهد أن مبشرًا اقترن بامرأة سوداء إلا
اثنين أو ثلاثة؛ ذلك لأن الأبيض يأنف من التنزل إلى خلط دمه بدم الأسود، أقول
الأبيض والأسود كلاهما خلقه الله تعالى، وكلاهما بشر ويمشي بحسب قول نبيه:
(إنما بعثت إلى الأحمر والأسود) ويتذكر كتابه الذي فيه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا
خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) فإذا كان المبشر الأوربي الذي يعظ طول النهار في أباطيل
الدنيا، وفي العدل والمساواة هو نفسه لا يتنزل إلى خلط نسبه بنسب أولئك الذين
يعظهم ويرَّغِبهم في قبول دينه، فكيف تكون حالة التاجر الأوربي أو الحاكم أو
الجندي الذي ليست مهنته التبشير؟
لا جرم أن مبدأ المساواة هو أبعد المبادئ عن عقلية الأوربيين، وإن كانوا
قرَّروها في الأعصر الأخيرة، فإنما قرروها فيما بين شعوبهم، ولم يكونوا ليعترفوا
بها للشعوب الأخرى، وإنني لأتعجب ممن يقول: إن آثار الرقي التى شوهدت في
الشرق في الخمسين سنة الأخيرة إنما هي ثمرة إدخال القانون الروماني في إدارة
الشرق.
فأنا أقول لمثل هذا: أين كان القانون الروماني في أوربا، وفي فرنسا بخاصة
عندما كان لا يجرؤ أحد نواب الشعب في هذه المملكة أن يقول: إن الأمة الفرنسية
عائلة واحدة حتى تقوم قيامة الأشراف ويعتدوا تلك الكلمة كفرًا؟ هل كانت فرنسة
غير مملكة رومانية لاتينية روح رومة وثقافتها وقوانينها منبثة في جميع شعاب
إدارتها؟
إن الكاتب الفيلسوف الإنكليزي المستر ولسن عندما جاء منذ أشهر إلى باريس
واحتفل أدباء الفرنسيس بتكريمه في السوربون وخطبوا الخطب الشائقة وجاوبهم
بخطبة عن الديموقراطية الحقيقة نشرتها الجرائد كان من جملة قوله فيها: (إن
الديموقراطية الحقيقة لم تثبت إلا للإسلام والنصرانية) .
وأنا أقول: إن شهادته بها للإسلام هي أغلى جدًّا من شهادته بها للنصرانية
التى هي مذهبه ومذهب أمته ومذهب الأمة التى كانت مختلفة في تكريمه.
فالإسلام يشهد له كثير من فلاسفة الأوربيين بالديموقراطية الصحيحة مع
قصور معلوماتهم عنه وينكرها عليه أناس من أبنائه، لا بل وينسبون إلى غيره
محاسنه ويجردونه من المزايا التى فُطِرَ عليها.
وهكذا أولعنا بتشويه محاسن أنفسنا وبجحد فضائل قومنا وبنحل غيرنا ما هو
في الحقيقة لنا، وصرنا - لمجرد أن نُنعت بالرقي - نقلب حسنات أجدادنا سيئات،
ونقلب سيئات الأوربيين حسنات، أو نتعامى عنها أو نتلمس لها عذرًا، هكذا.
يقضى على المرء في أيام محنته
…
حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن
برلين 4 ديسمبر 1927
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... شكيب أرسلان
_________
(1)
المنار ذكر الكاتب الشاهد من الحديث بالمعنى، ونحن نذكر سببه ونصه المرفوع وتخريجه فنقول: روى الجماعة البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة أن امرأة مخزومية سرقت فأهم قريشًا أمرُها وعظم عليهم أن يقام الحد على شريفة منهم فقالوا: من يكلمهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فخطب فقال: (إنما أهلك الذين كانوا من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) .
الكاتب: شكيب أرسلان
أزمة كتاب الصلاة في إنجلترا [*]
لصاحب السعادة أمير البيان الأمير الجليل شكيب أرسلان
إن الموضوع الذي سنخوض فيه لا نقصده لذاته بل لمتعلقه ولا نتعرض إليه
من قليل أو كثير من جهة أساسه بل تَعَرُّضنا له إنما هو من جهة مغزاه، وما يئول
إليه فقد راق لبعض الناس في الشرق حتى لبعض حكوماته والهيئات الرسمية فيه
أن يوهموا عامة الشرقيين أن الدين في أوربة منفصل انفصالاً تامًّا عن السياسة،
وأن أوربة لم تبلغ هذا المبلغ من الرقي إلا بفصل السياسة عن الدين، وأن
الحكومات الأوربية لا تُدْخِل المسائل الدينية في شئونها، بل تَعُدُّها خارجةً عن
اختصاصها.
وقد يبالغون لهم في هذه الترهات حتى يخيلوا لهؤلاء الشرقيين المساكين أن
الدول الأوربية تنظر إلى الدين كأنه غير موجود في الدنيا، وأن هذا قد كان السر
في نجاحها، وكثير من الشرقيين المساكين يصدقون هذه الأقاويل؛ لعدم اطلاعهم
على الحقائق وليس هؤلاء المصدقون بطبقة العوام؛ لأن العوام جهلهم بسيط،
والجهل البسيط أقرب إلى العلم، وأبعد عن الخطر، ولكن أولئك المصدقين بهذه
الأضاليل هم من الفئة التى تدعي أنها راقية، وأنها متعلمة وأنها عصرية
المشرب [1] الحقيقة أن هذه الفئة عندنا في الشرق مؤلفة من أنصاف متعلمين هم
من أشد الناس خطرًا على المجتمع، ومن الملائمين للاستعمار الأوربي في
الشرق؛ لأن العلم الناقص أضر بالمجتمع من الجهل التام فإن الجهل التام يقبل
أصحابه النصح والإرشاد، وأما العلم الناقص فإن أصحابه هم على حد من لا يدري
ولا يدري أنه لا يدري وفي ذلك البلاء الأعظم.
ولندخل الآن في الموضوع فنقول: منذ أشهر تخوض الجرائد الأوربية في
قضية الخلاف الذي نشب في إنكلترا بين الأساقفة والحكومة من أجل كتاب الصلاة
حتى إنه لا يكاد يمر يوم إلا نجد فيه بحثًا عن هذه المسألة.
ولما كان الناس عندنا في الشرق لا يعلمون لد نبات هذا الخلاف ولا سبابه
(كذا) وكانوا يقرءون عنه ولا يفهمون الدواعي التى دعت إلى اختصام الحكومة
الإنكليزية والإكليروس الأنكليكاني في كتاب الصلاة الذي يعتمد عليه الشعب
الإنكليزي رأينا أن نشرح لهم هذه المسألة مُعَوِّلِينَ في ذلك على مقالة نشرها الأستاذ
توماغرينفود أحد أساتذة جامعة لوندرة ورأيناها منشورة في مجلة جنيف في عددها
الأخير، قال: وجد على باب كنيسة ليفربول الكاتدرائية عبارة من قلم لونج بوتون
من رؤساء الكنيسة البروتستنتية يقول فيها: إن البروتستنتية في خطر.
ولم يخطئ القسيس المذكور في هذا الحكم إذا نظرنا أنه من أجل مسألة دينية
قامت في إنجلترا أساقفة على أساقفة ووزراء على وزراء ومحافظون على محافظين،
وعملة على عملة وقد كان معظم ذلك يومي 13و15 ديسمبر سنة 1927؛ إذ
مجلس اللوردة ومجلس العموم تحولا إلى شكل مجمع من المجامع الدينية كالتي
كان يعقدها آباء الكنيسة في القرون الأولى وأخذ الاعضاء يتشاحنون في سر
استحالة الخبز والخمر إلى جسد السيد المسيح وفي تناول القُرْبَان المُقَدَّس وفي
الأسرار الإلهية وفي الطقوس الكنسية بينما الجدال قائم أيضًا في المطبوعات وفي
الرعويات وفي العائلات على أشده من أجل كتاب الصلاة الجديد حتى إن أزمة
الفحم وحركة العمال وقضية استعدادات أمريكا البحرية ومشكلات عصبة الأمم
أصبحت نسيًا منسيًّا في جانب مسألة كتاب الصلاة، فبمجرد ما تلفظ الإنسان
بكلمة (book prayer) تقوم القيامة فأناس معه وأناس ضده فلا تجد إلا
متعصبًا لهذه الجهة أو للأخرى، فلماذا البرلمان يتدخل في مسألة دينية كهذه؟
الجواب هو ما سترى.
من المعلوم أن الكنيسة الإنكليكانية هي كنيسة الدولة في إنكلترا، وفي
الأصل كان الانشقاق ناشئًا عن فضائح زوجية بدت من هنري الثامن الذي كان أول
من انشق عن رومة وحمل البرلمان الإنكليزي سنة 1534 على قرار معناه أن ملك
إنكلترا هو الرئيس الأعلى لكنيسة إنكلترا، ثم جاء بعد هنري الثامن خلفه إدوارد
السادس وأضاف إلى علم سلفه هذا طقسًا كَنَسِيًّا جديدًا أنشأه له (كرافير) سنة
1549 ودستورًا للإيمان يشتمل على 42 مادة صدر سنة 1552 وهو دستور
مشرب بروح عقيدة كلفين، ثم إن هذه العقيدة قد هُذِّبَتْ ونُقِّحَتْ في أيام الملكة
إليزابث ولخصت في 39 مادة سنة 1526 وصارت دستورًا للإيمان الإنكليكاني
فمنها نفي رياسة البابا ونفي ذبيحة القداس ، ونفي عقيدة استحالة الخبر والخمر إلى
جسد المسيح، وإنكار القول بالمطهر، وإنكار عبادة القديسين والصور، وإنكار سر
الاعتراف والغفرانات وغير ذلك، وأما الطقس الجديد الذي يشتمل على العقيدة،
وعلى المبادئ التى هي عمدة المذهب الإنكليكاني فقد انحصر في كتاب اسمه كتاب
الصلاة العامة، فهذا الكتاب محرَّر فيه نص الصلوات وترتيبها ونص العظات
والتراتيل والمراسم الدينية وإدارة الأمور المقدسة ونظام الرتب الكهنوتية وهلم جرَّا،
فكتاب الصلاة هو للإنكليز عبارة عن كتاب قداس وكتاب سواعية وكتاب مزامير
وكتاب طقوس وكتاب رتب كهنوتية وحبرية وهو يتماز بأمور كثيرة عن كتب
الكنيسة الرومانية التى انشقت الكنيسة الإنكليزية عنها، فهو أولا محرَّر بالإنكليزية،
وفيه تلخيص للكتب الدينية الضرورية للقداس الإلهي وبموجبه تنزلت الساعات
القانونية السبع إلى خدمتين كل يوم إحداهما في الصباح والأخرى في المساء، وهو
يلغي الأوراد وطلب الشفاعات والاستغاثات بالقديسين وبمريم العذراء ويحذف
الأماثيل المأخوذة من حياة القديسين والآباء ويختصر الفرض الكنسي والكلمات
المكررة فيه، ويطوي الاحتفال بكثير من أعياد القديسين، وعلاوة على ذلك يحدث
تغيرًا في قانون القداس ويحوله إلى معنى آخر يخرجه من معنى الذبيحة وعن
استحالة الخبز والخمر إلى جسد المسيح، وكذلك يلغي التذكارات المتنوعة فيما
يتعلق بالموتى والصلوات على أرواحهم مما يؤول إلى الاعتقاد بالمطهر، ويبطل
على الخصوص كل ما له تعلق بسر القربان المقدس.
وفي أيام الملكة ماري التى رجعت إلى الكثلكة ألغي كتاب الصلاة هذا مدة
وجودها لكن لم يطل الأمر حتى أعيد في أيام الملكة إليزابيث سنة 1559 ثم إنه في
أيام جيمس الأول سنة 1604 وفي أيام كارلوس الثاني سنة 1662 وأخيرًا في سنة
1859 أدخلت على الكتاب المذكور تعديلات غير أساسية، فكتاب الصلاة الحاضر
هو الكتاب الذي صدر سنة 1662 على أنه إذا كان هذا الكتاب لم يتغير منذ ثلاثة
قرون، فلا يمكن أن يقال: إن حياة الكنيسة الإنكليزية الداخلية لم يقع فيها تغيير
طيلة هذه القرون، بل هذه منقسمة إلى ثلاث كنائس: الكنيسة الدنيا وهي التي
أصحابها يمليون إلى العقيدة الكلفينية والبرسبيتيرية والكنيسة الواسعة وهي التى
أصحابها يميلون إلى الحرية والأفكار العصرية، والكنيسة العليا وهي التي أبناؤها
يميلون شيئًا إلى الكثلكة.
ففي أواسط القرن التاسع عشر هب نفر من اللاهوتيين المنسوبين إلى الكنيسة
العليا وأرادوا الرجوع إلى الكثلكة، لكن بدون خضوع للبابا ولا اعتقاد بعصمته
ومع التمسك بالرتب الكنسية الإنكليكانية فحصلت لهم مقاومة شديدة وقفتهم عند
حدهم إلا أن هذه الحركة قد تقدمت اليوم ونمت واشتدت الرغبة في استعمال
الطقوس الرومانية وفي الاعتقاد بحضور المسيح في الخبز والخمر، وتسمى هذه
الفئة بالأنجلوكاتوليك، ولقد تجاوزوا في الحقيقة حدود كتاب الصلاة الذي عليه
المُعَوَّل من سنة 1662 وأخذوا بإقامة شعائر مخالفة لروح الكتاب المذكور ولنصه،
مثال ذلك أنهم اتخذوا الملابس الحبرية في كنائسهم كما في الكنائس الرومانية
واستعملوا البخور ورجعوا إلى ممارسة الاعتراف واستعملوا ما يقال له: بيت
الجسد مع مكان خاص لحفظ الخبز والخمر ليتمكن المؤمنون من عبادتهم في أي
وقت أرادوا فلذلك تبقى أبواب كنائسهم مفتوحة دائمًا، وفي بعض الأبرشيات نجد
بعض الأساقفة يقدمون بكل صراحة على مخالفة قواعد المذهب الإنكليكاني وطقوسه
وفي أبرشيات أخرى يغضون النظر عنها فهذه الاختلافات جعلت الصلاة العامة
المشتركة في غاية الصعوبة وأحدثت شقاقًا خطيرًا في وسط الكنيسة الإنكليكانية
يدعو إلى النظر في مسألة توحيد الطقس، ففكر الأساقفة في وجوب النظر إلى
نزعة فرقة الأنكلوكاتوليك، وفي سنة 1956 تألفت لجنة للتدقيق في كتاب الصلاة
والنظر في تعديله فاستمرت هذه اللجنة تعمل نحو عشرين سنة، وفي شهر يناير
سنة 1927 أخرجت مشروع التعديل الذي تقدم في 29 سنة 1927 إلى المجلسين
الروحانيين في كنتربري ويورك فهذان المجلسان لم يكن لهما إلا إبداء الرأي على
المشروع بمجمله فقد صدقاه بالأكثرية العظيمة، وخالف فيه بعض الإنجيليين
وبعض أناس من الأنكلوكاتوليك لأسباب تخالف الأسباب التي خالف من أجلها
الإنجيليون، ولكن كان لا بد من تصديق الجمعية الوطنية الكنسية المسماة
(Assembly church) التى تأسست بموجب قانون سنة 1919 لأجل
مهمة النظر في القوانين العائدة إلى كنيسة إنكلترا قبل تصديقها في البرلمان، وهذه
الجمعية مؤلفة من مندوبين غير أكليريكيين تابعين للأبرشيات ومن مندوبين
أكليريكيين ومن الأساقفة، ففي اجتماع عقدته هذه الجمعية سنة 1927 للمذاكرة في
مشروع تعديل كتاب الصلاة قررت بأكثرية عظيمة المشروع الجديد؛ إذ وافق 34 من
الأساقفة، وخالف أربعة فقط، ووافق 253 من المندوبين الأكليريكيين وخالف 37 لا
غير، وكذلك المندبون غير الأكليريكيين، أو العالمانيون فقد وافق منهم 230 وخالف
92 أما المطارين الأربعة المخالفون فكانوا مطارين فورسستر وإكزيتر ونورفيش،
وبير منغام، ولم يبق إلا طرح المشروع في البرلمان.
فقبل أن نتكلم على ما جرى في البرلمان بشأن كتاب الصلاة نرى من الواجب
أن نبين ماهية التعديلات الجديدة، فكتاب الصلاة الجديد يبقى على ما كان عليه
كتاب الصلاة المحرَّر سنة 1663 بوجه عام، ولم يقع تغيير في النصوص التى
ارتضى بها الشعب حتى اليوم، وإنما أضيف إلى النصوص سنة 1662 نصوص
أخرى يكون بموجبها الخيار لأبناء الأبرشيات في الترك والأخذ بحسب ميلهم، فهذه
الطريقة أرادوا بها اتقاء الانقسام فكانت نتيجتها زيادة الانقسام؛ لأنها مخالفة لروح
عهد الوحدة الذي صدر سنة 1659 ففي هذا العهد مادة خاصة بالخدمات الدينية
تصرح بأن الشعائر التى هي تحت الاستعمال في سالسبري وهيرفورد وبانجور
وبروك ولينكولن قد ألغيت كلها وتوحدت بصورة واحدة عامة لكل المملكة فليس إذن
في جميع الاختصاصات التى يعترف بها البرلمان للكنيسة الأنكليكانية ما يخول هذه
حق الإذن بإقامة شعائر مختلفة عن الأولى، ثم إن ملك إنكلترا عندما يتوج من
رئيس أساقفة كنتربري يجب أن يقسم اليمين بأنه يحفظ كنيسة إنكلترا بتمامية
طقوسها وبعقيدتها وشعائرها ونظامها كما هي مبينة في قوانين المملكة الأساسية،
وعلى هذا يكون متعذرًا أخذ موافقة الملك على كتاب الصلاة الجديد بدون تغيير
العهود السابقة.
فمن التغييرات التى أدخلت على كتاب الصلاة نذكر أنه أضيف إلى جدول
القديسين الذين تعترف بهم الكنيسة الأنكليكانية قديسون آخرون لم يكونوا معروفين
لديها وهم مثل ماريو ليكارب القديس يوحنا فم الذهب والقديس كوتبرت والقديس
لاوون الكبير والقديس أفسلمس والقديسة كاترينة دوسبين والقديسة مونيك والقديس
باسيلوس والقديس أيزينوس والقديس برناردوس والقديس فرنسيس داسيس
والقديس أغناطيوس فهؤلاء صاروا بحسب كتاب الصلاة الجديد من قديسي الكنيسة
الأنكليكانية.
وكذلك قرَّروا الاحتفال بعيد تذكار الموتى 2 نوفمبر بما فيه من جمع الصدقات
التي من شأنها إيجاب الاعتقاد بالمطهر، فهناك عبارة نصها: (أيها الرب الخالق
المنقذ لجميع المؤمنين امنح المؤمنين من موتانا جميع النعم التي لا توصف من آلام
المسيح حتى في يوم رجوعه يتمكنون أن يتقدموا إليه كأبناء حقيقيين) والحال أن
المادة الثانية والعشرين من المواد التسع والثلاثين من دستور الإيمان الأنكليكاني
تنكر عقيدة المطهر وتجعلها اختراعًا منافيًا لكلمة الرب، وكذلك كتاب الصلاة القديم
يلغي الصلوات التى من شأنها الاعتراف ولو من طرف خفي بعقيدة المطهر، ولا
يلزم من ذلك أن نقول: إن المطهر مذكور في كتاب الصلاة الجديد ليس ثَمَّ أدنى
صراحة به في الجديد كما في القديم، كما أن الصلاة لأجل أرواح الموتى باقية
مبهمة أيضًا في الأول والثاني، ومثل ذلك صلاة الموتى التى يقترحها الكتاب الجديد
فهي متروكة تحت خيار المؤمنين، فيمكننا أن نقول مع مطران نورفيش إن التغيير
الذي جاء به الكتاب الجديد بشأن الصلاة للأموات عبارة عن تغيير في الشعائر
العامة لا في العقيدة نفسها كما أن رئيس أساقفة كنتربري عندما كان في مجلس
اللوردة يدافع عن الصلوات الجديدة للموتى وعن عيد 2 نوفمبر قرر بدون أن يكون
مخطئًا أن تذكار الموتى لم يكن في وقت من الأوقات مخالفًا لعقيدة الكنيسة
الإنكليزية، وأن الحرب العامة جاءت بما يؤيد ضرورة توسيع الشعائر المتعلقة
بالموتى.
ومن جملة ما زيد في كتاب الصلاة الجديد الأدعية الخاصة لأجل الملك
والأسرة الملوكية وللسلطنة البريطانية ولجمعية الأمم وكذك الإذن باستعمال القميص
الخاص والبطرشين والغفارة في أثناء مناولة القربان، نعم إن كتاب الصلاة لم
يسمح حتى الآن بلبس حلة الكهنوت التى كان يطالب بها الأنكلوكاتوليك بحجة أنها
أليق لباس بعقيدة جسد الرب.
وكذلك من جملة التغييرات إعطاء الخيار في أمر المعمودية والتثبيت والزواج
ففي مراسم الزواج بحسب الكتاب الجديد لا يسأل الكاهن المرأة كما في الكتاب القديم
عما إذا كانت تريد أن تطيع وأن تخدم وأن تحب وأن توقر الذي سيكون بعلها،
ولكن يسألها عما إذا كانت تريد أن تحبه وتوقره وتقومه وتحفظه، والسؤال نفسه
يلقى أيضًا على الزوج أي يلحظ الإنسان في ذلك إشارة دينية على المساواة
الاجتماعية بين الذكور والإناث.
وأهم التعديلات في الواقع هو ما تعلق بشعيرة الأفخارستية أي سر القربان
المقدس، وهي المتروكة لاختيار المؤمن، فهذا التخيير هو الذي أثار الثائرة الشديدة
وأوجب رد كتاب الصلاة بحجة أن فيه تسامحًا عظيمًا مع الأنكلوكاتوليك، ونظن أن
الخلاف هو في الشكل أكثر مما هو في الأساس، فالكتاب الجديد مثل القديم فيه
صيغة تقول: إن المسيح مات لأجل فدائنا، وإن هذا الفداء كان واحدًا تامًّا كافيًا كما
في المادة الواحدة والثلاثين من دستور الإيمان الأنكليكاني، فهذه الصيغة لا تنفي
تمام النفي الحاجة إلى القداس الذي هو تكرار غير دموي لقضية موت السيد المسيح
على الصليب؟ ومن المعلوم أن المذهب الأنكليكاني لا يجوز القداس مع تناول
القربان الفردي أي أن يتناوله الكاهن وحده كما عند اللاتين، فالكاهن الإنكليزي لا
يقدر أن يتناول القربان إلا إذ كان محاطًا بعدد كافٍ من المؤمنين الذين يريدون
الاشتراك فيما يسمى بالعشاء السري؛ فلأجل هذا جعلوا في شعيرة القربان
الاختيارية عبارة يلقيها الكاهن على المؤمنين في أثناء المراسم المتعلقة بالقربان
المقدس فيما إذا كان الكاهن وجد أن المؤمنين الحاضرين على المائدة الإلهية لا
يبلغون العدد الكافي لتناول القربان معًا.
ومما يجب أن لا ننساه أن المادة الثامنة والعشرين من دستور الإيمان
الأنكليكاني تنكر بتاتًا عقيدة استحالة الخبز والخمر إلى جسد المسيح مما هو حجر
الزاوية في القداس الروماني كما قرَّره مجمع ترنتا، فليس بصحيح أن الكتاب
الجديد يتسامح في هذه القضية من حيث الأساس، ولكن مما لا ينكر أن صورة
الشعائر من جهة التخيير قد تؤدي إلى نتائج تخالف الأصل، وتحمل على الانتقاد،
ففي الكتاب القديم نص صيغة يفهم منها أن تناول القربان قد شرعه المسيح تذكارًا
لموته وآلامه، والحال أن الكتاب الجديد يحذف هذه الصيغة، ويجعل محلها كلامًا
يدل على أن الخبز والخمر هما مقدمان لله كقربان احترام وشكر حتى يمنحنا
باستحقاقات آلامه غفران خطايانا.
ثم إن الكتاب الجديد يحذف تمامًا العبارة التى في الكتاب القديم تنكر حضور
المسيح بجسده ودمه في الخبر والخمر ويَعُدّ ذلك عبارة وثنية، ويصرح بأن الخبز
والخمر لا يتغيران بعد كلمة التقديس، وأن الجسد الحقيقي للرب هو في السماء؛
ولا يعقل أن يكون في أماكن متعددة في وقت واحد، ويوجد ابتهال للروح القدس
لأجل أن يبارك ويقدس الخبز والخمر حتى يكونا فينا جسد المسيح ودمه، فهذا
الابتهال الذي يشبه من بعض الوجوه الصلاة اليونانية يؤدي إلى الاعتقاد بأن كلمات
التقديس لا تكفي لتحويل الخبز والخمر إلى جسد المسيح وأنه يجب لذلك تدخل
الروح القدس، وحينئذ يلزمنا أحد أمرين لا مناص من أحدهما: إما أن يكون هذا
الابتهال ضروريًّا لأجل حصول النتيجة؛ وعليه يكون الأنكليكان قد حرموا تقديس
الخبز والخمر من البداية؛ لأن كتاب الصلاة المعروف بكتاب 1662 لا يحتوي هذا
الابتهال، أو أن يكون الابتهال لا يفيد معنى جديدًا، وعليه يكون وضعه هنا موجبًا
للخلاف بدون ضرورة، وزد على ذلك أن صيغة الابتهال تحتوي مشكلاً جديدًا في
العقيدة وهو أن الروح القدس يُبْتَهَل إليه حتى يجعل الخبز والخمر فينا جسد المسيح
ودمه، فيمكن أن يرد على ذلك بأنه إذا كان الخبز والخمر يصيران فينا جسد
المسيح ودمه، فلماذا لا يصيران هما جسد المسيح ودمه في ذاتيهما؟ فمن هنا لا
يبقى لنا إلا أن نعتقد باستحالة الخبز والخمر إلى جسد المسيح بصورة حقيقية،
ولكن هناك فرق؛ لأنه بحسب الكتاب الجديد عند ما يتناول المؤمن الخبز والخمر
لا يحولها الروح القدس إلى جسد المسيح ودمه إلا في المؤمن، وبعبارة أخرى
الحضور الحقيقي للمسيح في الخبز والخمر لا يتم إلا في الشخص المتناول للقربان،
وبعملية مقارنة من الروح القدس، هذا كما لا يخفي يشابه العقيدة الكلفينية وقد
سلم بها كرانمر وجرى إدخالها في الابتهال المار الذكر خيفة أن يَجُرَّ ذلك إلى عقيدة
حضور المسيح الحقيقي في الخبز والخمر، ففي المادة الثامنة والعشرين من دستور
الإيمان الأنكليكاني هذه العقيدة ممنوعة وهناك يقول: إن تقديس العشاء السري لم
يكن من المسيح شعيرة مقصودًا بها الحفظ أو النقل أو الرفع أو العبادة، فالحفظ
مقصود به إيداع الجسد محلاًّ خاصًّا، والنقل يراد به الزباح (والطوفان) والرفع
يعني القداس، والعبادة يراد بها الاعتقاد بسر القربان المقدس ما هو معروف بالتعبد
عند الأنكلوكاتوليك، وبهذه المناسبة يجب أن نظهر الفرق الكلي بين الأنكلوكاتوليك
والأنكليكان المحافظين الذين يقال لهم: إنجيليون فإن هؤلاء يرفضون التعبد
المذكور بجميع لوازمه، ولا يقولون: إن روح القدس يحول طبيعة الخبز والخمر،
بل إن الخبز والخمر ينزلان المسيح تنزيلا روحيًّا في قلوبهم لا غير، أما
الأنكلوكاتوليك فمنذ خطبة بوزي على الأفخارستية سنة 1843 قد صارت عقيدة
حضور المسيح الحقيقي في الخبز والخمر من أركان إيمانهم، وهم يحتفلون بعيد
جسد الرب الذي لم يجرؤ كتاب الصلاة الجديد أن يجعله في روزنامته، وفي
كنائسهم يوجد دائمًا بيت للجسد يتعبد له المؤمنون في كل ساعة، وعلى هذا يجب
تعديل المادة الثامنة والعشرين من قانون الإيمان التى مر ذكرها.
والنتيجة نفسها تكون للاقتراح الجديد المتعلق بحفظ الخبز والخمر لمناولتهما
للمرضى فبحسب كتاب الصلاة القديم وبحسب المادة الثامنة والعشرين من قانون
الإيمان ما يبقى من الخبز والخمر المقدسين بعد إجراء الشعيرة الأفخارستية ينقسم
بين المؤمنين الذين اشتركوا في تناول القربان، وإن وجد مريض يطلب تناول
القربان وجب على الكاهن أن يكرر الشعيرة الأفخارستية بشرط أن يوجد عدد كاف
من متناولي القربان يتناولون مع المريض، فإن لم يوجد هذا العدد الكافي فالكاهن
يكتفي بإيصاء المريض بأن يندم على خطاياه ويقنعه بأن مجرد طلبه تناول القربان
بعد كما لو تناول بالفعل، ولا يجوز أن يتناول الكاهن والمريض القربان بدون ذلك
العدد الكافي من المؤمنين إلا في ظروف مستثناة، وذلك بأن يكون المريض مصابًا
بمرض تخشى منه العدوى، فلا يجوز أن يقربه الناس وفي هذه الحالة يجب على
المريض تقديم طلب خاص للكاهن، فهذه الصعوبات الواقفة في وجه الاستمتاع بسر
الأفخارستية لم تزل موضع اعتراضات الأنكلوكاتوليك، وكانوا كلما اتسعت حركت
أكسفورد تزداد العرائض المقدمة إلى رئيس أساقفة كنتربري بطلب إصلاح شعيرة
الأفخارستية للمرضى بل نقول: إن الأنكلوكاتوليك ذهبوا إلى أبعد من هذا وهو أنهم
جعلوا في كنائسهم كلها بيتًا للجسد، وأنهم يناولون المرضى القربان المقدس عند
طلبهم إياه برغم ما يحصل لكهنتهم من توبيخ أساقفة الكنيسة.
فالذين حرَّروا كتاب الصلاة الجديد إنما أرادوا إعطاء هذه المخالفات شكلاً
قانونيًّا فأذنوا بحفظ الخبز والخمر المقدسين لكن لأجل إعطائها للمرضى فقط، ولا
يجوز أن يكون المقصد من ذلك الحفظ شيئًا آخر، ولا أن يجعل لذلك احتفال خاص،
ولا أن يوضع الخبز والخمر فيما يقال له: بيت الجسد كالذي عند الكاتوليك بل
في صوان مما يقال له أومبري وهو شيء لا يوضع على مذبح بل يكون في أحد
حيطان الهيكل.
وبالاختصار جميع المسائل المتعلقة بحفظ الجسد تكون عائدة إلى الأنظمة التى
ينشرها مجمع الأحبار، ويكون التنفيذ عائدًا إلى مطران الأبرشية، فجعل مسألة
حفظ الجسد من الأمور القانونية، وكذلك التخيير في الاعتقاد بسر الأفخارستية
أوجب سخط الإنجيليين الشديد الذين يذهبون إلى أن حفظ الخبز والخمر له قيمة
رمزية لا غير، وأن الاعتقاد بحضور المسيح الحقيقي في الخبز والخمر مخالف
للعقيدة الإنكليكية، ثم إن الإنجيليين يقولون: إن كتاب الصلاة القديم فيه كل ما يلزم
لأجل استمتاع المرضى بتناول القربان، وقد يمكن أجراء بعض التوسيع في نظام
التناول.
أما مسألة وضع القربان في صوان يكون مندمجًا في الحائط بدلاً من أن يكون
مرفوعًا على مذبح، فلا يمنع الأنكلوكاتوليك من التعبد للجسد، وفي هذا لا نرى
الإنجيليين مخطئين؛ لأن التساهلات التى أجريب للأنجلوكاتوليك لا تمنعهم من أن
يعترضوا على الأساقفة في الضغط على ضمائرهم بما يتعلق بهذه العقيدة، ويتذكر
الناس الرسالة التى نشرتها التيمس في 28 إبريل الماضي من قلم ماكي وروس
وفيها رفض التجديدات التى وضعت لهم في كتاب الصلاة الجديد والتى كان يغض
النظر عنها مطران لندن منذ سنوات عديدة، وقد كانت هذه الخطة التى يسير عليها
بعض رجال الإكليروس الأنجلوكاتوليكي حائزة عضد رجال آخرين مثل اللورد
هاليفاكس والسير هنري سليسر اللذين كتبا إلى التيمس في 20يونيو الماضي قائلين:
إن المؤيدين لهذه الخطة هم عدد كبير من المؤمنين، إذن الأكليروس الأنكليكاني
هو على بينة من أنه برغم التنبيهات والتحديدات الأسقفية يوجه فئة من قبيل ماكي
وروس واللورد هاليفاكس وآخرين من الأنكلوكاتوليك لا يحجمون عن مخالفة أوامر
الكنيسة، ولم يمض زمن طويل على الحادثة التى وقعت بين القس بولوك وبستر
وبين الدكتور بارنس مطران بيرمغنام في كنيسة القديس بولس، وكيف أن القس
المذكور قطع على المطران المشار إليه كلامه عندما كان يريد أن يمتحن قضية
حضور المسيح الحقيقي في الخبز والخمر (المطران بارنس أسقف بيرمنغام هو من
ألد خصوم الأنكلوكاتوليك، وممن يعلنون في خطبهم استحالة سر الاستحالة المسمى
بالأفخارستية أي حضور المسيح الحقيقي في الخبز والخمر، وقد استشهد مرة في
إحدى خطبه في وسط الكنيسة بأقوال محمد صلى الله عليه وسلم كذلك في شهر
يناير الماضي قام أحد الناس في كنيسة وستمنستر، واحتج احتجاجًا شديدًا في أثناء
قداس الصباح وجرى في الوقت نفسه في كنيسة غوبتر في داروين عربدة شديدة
على الأنكلوكاتوليك اضطر فيها البوليس إلى دخول الكنيسة وإخراج الشعب منها.
والشكوى واقعة على الأنكلوكاتوليك من أنهم يريدون إلغاء الإصلاح
الأنكليكاني بعضه إن لم يكن كله، فالدكتور داغيل ستول مثلا وهو من مقدمي
الأنكلوكاتوليك يعلن إرادة الرجوع إلى القداس الروماني وإلى عبادة القربان المقدس
وإلى استعمال القميص التى يلبسها القسيس عند مناولة القربان وسائر الألبسة
الكهنوتية التى يصطلح عليها رجال الكنيسة الرومانية، نعم إنهم برغم هذا كله لا
يريدون الخضوع للبابا ولا يقولون بعصمته ولا يزالون بعيدين عن رومة نظير
الآخرين، ولقد ظهر من المنشور البابوى الأخير بشأن اتحاد الكنائس أن البابا أيضًا
لا يوافق عليه إلا على شرط الخضوع التام للسلطة الرومانية.
وقصارى ما في الأمر أن الأنكلوكاتوليك بدون أن يرجعوا إلى البابا يقدمون
على بدع غير مؤتلفة مع العقيدة الأنكليكانية وهذا ما يعترف به الإنجيليون
والإنكليكانيون المعتدلون، ولقد صرح الدكتور هدلم مطران إكلوسستر الذي هو من
المعتدلين بأن الأنكلوكاتوليك أصبحوا يتجاوزون مبادئ الكنيسة الإنكليكانية، وأنه
يخشى عليهم من ثورة الشعب الإنجليزي الذي بلغ صبره عليهم أمده الأقصى،
وهذا هو السبب الحقيقي في رفض مجلس العموم تصديق كتاب الصلاة الجديد.
وإن امتيازات الكنيسة الإنكليكانية في إنجلترا يقابلها فرض الخضوع للتاج
الملي الإنكليزي، فكل تجديد أو تعديل في رسوم الصلوات غير ممكن إلا بموافقة
الملك الذي هو رئيس الكنيسة الإنكلكيانية، وذلك بعد تصديق البرلمان، وقد رأينا
أن مجلس اللوردة بعد المناقشة بياض يومين كاملين صدَّق على كتاب الصلاة الجديد
بأكثرية 241 ضد 88 (13 ديسمبر) وبرغم مهاجمات اللورد هاليفاكس من جهة
الأنكلوكاتوليك ومهاجمات اللورد كوشندون من جهة الإنجيليين قرَّر اللوردة بالأغلبية
الثقة في هيئة الأساقفة الذين كان يرأسهم رئيس أساقفة كنتربري، ولم يعهد أن حفلة
في مجلس اللوردة بلغت من الزحام ما بلغته تلك الحفلة فلم يتخلف أحد بل إن
المرضى من اللوردة حملوا إلى تلك الجلسة حتى لا يحرموا الاشتراك في تلك
المناقشة.
وكان المنتظر بعد أن جرى تصديق المشروع في الجمعية الكنسية وفي مجلس
اللوردة أن يقع تصديقه في مجلس العموم إلا أن الأمر جرى بالعكس، فالمستر
بريدجمان ناظر البحرية قدم المشروع الجديد بشيء من التثاقل والفتور والمستر
بلدوين رئيس النظار أعلن أنه يحيل هذه القضية إلى رئيس أساقفة كنتربري ويترك
المجلس حرًّا في التصويت، فالحكومة لم تتظاهر بعضد المشروع ولا رفضه لكن
ناظر الداخلية السير جونسون هيكس وهو من المتشددين في البروتستانتية نهض
وطلب رفض الكتاب الجديد قولاً واحدًا وبيَّن خطر المسامحات الواقعة في العقيدة،
وقال: إن الأساقفة الإنكليكانيين خرجوا عن صلاحيتهم بالتساهل مع الأنكلوكاتوليك
الذين يريدون وضع شعائر جديدة مخالفة لشعائر كنيسة إنجلترا فكان لكلام ناظر
الداخلية تأثير شديد لم يقدر اللورد هوك سيسل على منعه، وبعد مناقشة استمرت
ثماني ساعات (15 ديسمبر) رد مشروع الكتاب الجديد بأكثرية 240 ضد 207.
فرفض مجلس العموم للمشروع أعاد المسألة كما بدأت، وكان في نية رئيس
أساقفة كنتربري الاستقالة من منصبه الأعلى بمجرد تصديق الكتاب إلا أنه اضطر
بعد رفضه إلى متابعة جهاده وتقرر إعادة الكتاب تحت النظر والتدقيق بواسطة
مجمع الأساقفة، ثم رده إلى البرلمان مرة ثانية، والمظنون أنه تدخل عليه شروط
مشددة فيما يتعلق بقداس الخبز والخمر وفي كيفية حفظهما في الكنائس، ولكن ليس
من المؤكد أن هذه التعديلات تكون كافيةً لإرضاء المعارضين.
فالكنيسة الأنكليكانية تجتاز أزمة شديدة وهي واقعة بإزاء أحد أمرين: إما أن
تتخلص من وصاية البرلمان وتنفصل عن الحكومة انفصالاً تامًّا، وعند ذلك يكون
لها الحرية في سن القوانين الكنسية التي يراها الأساقفة مناسبة أو أن تبقى خاضعة
لقرارات البرلمان، وتجري الجزاء القانوني الصارم على المشاقين حتى يتسنى
تطهير الكنيسة الأنكليكانية من عناصر المخالفة وعند ذلك يخرج الأنكلوكاتوليك
على الكنيسة علنًا، وفي مثل هذه الحالة يزداد ضعف الكنيسة الأنكليكانية برغم
صفتها الرسمية وتزداد الشيع والنحل البالغة اليوم مائة وستين في بلاد الإنجليز،
فالكنيسة الأنكليكانية لا تكون قد فقدت في الآخر مميزاتها القومية فقط، بل تكون
زعزعت أركان القانون الأساسي الإنجليزي بصورة لا يعرف منها جيدًا مقدار
التأثير الذي سيحدث بذلك لإنجلترا وسلطنتها اهـ (ما نشر في مجلة جنيف) .
وقرأنا رسالة من جريدة الديبا بتاريخ 30 يناير الماضي تشرح قصة رفض
البرلمان لكتاب الصلاة الجديد، وقد ورد فيها أن مجمع الأساقفة استاء استياءً شديدًا
من ذلك الرفض وتَفَوَّهَ بما يشبه الاعتراض على مجلس العموم، ولكن خطة
الأساقفة هذه ستزيد الأمر إشكالاً، ولقد ظهر أن الأساقفة استخفوا بالرأي العام
الإنجليزي ولم يتوقعوا من أبناء الكنيسة الإنكليكانية مثل هذه الشدة في تمسكهم
بتقاليدهم.
ومما زاد هيجان الخواطر نشر تقريرعن المحادثات التي جرت من سنة
1921 الى سنة 1925 تحت رئاسة الكاردينال مرسييه لأجل النظر في توحيد
الكنيسة الإنكليزية مع الكنيسة الرومانية.
فالإنكليكانيون دهشوا عندما اطلعوا على كون رئيس أساقفة كنتربري هوالذي
جرت تلك المحادثات برأيه، وأنه أنفذ لها ثلاثة ممثلين حضروا منها الجلستين
الأوليين. فالإنجليز ناقمون على أساقفتهم هذا المسلك الجريء والمظنون أن
المناقشات عند ما يعود كتاب الصلاة الى مجلس العموم ستكون أشد من ذي قبل
وربما يرد الكتاب ثانية ويفضي الأمر الى انفصال الكنيسة عن الحكومة وهذا مما لا
يرضاه أكثر الإنكليكانيين.
ثم جاء في جريدة (جورنال دوجنيف) بتاريخ 28 مارس أن رئيس أساقفة
كنتربري أصدر بيانًا صريحًا عن التعديلات المراد إدخالها على كتاب الصلاة، وأن
الأساقفة رجعوا عن كثير مما كانوا أرادوا حمل الناس عليه، وبالإجمال تقرَّر
إعطاء الحرية للعمل بالكتاب القديم أي كتاب سنة 1662.
نعم إن الصلاة لأجل الملك جعلت من الشعائر المفروضة بدون تساهل، وهذا
مما يزيد الوحدة بين الحكومة والكنيسة، وأما حفظ الخبز والخمر فقد كان قرار
الأساقفة فيه حازمًا وذلك بأنه لا يجوز حفظهما إلا لمناولة المرضى لا غير، ولا
يجوز استعمالهما على وجه آخر، وكذلك محل وضعها منصوص عليه بصورة لا
تدع محلا لعبادتهما) اهـ.
نعود إلى القول بأن هذا النقل الذي نقلناه لا نقصد به المسألة المختلف عليها
بين الإنجليز من حيث هي والتي لا تعنينا من هذه الجهة، وإننا لنوقر حرمة عقائد
الناس ولا نقابلها إلا بالاعتبار التام كيفما كانت، فتعرضنا لهذا الموضوع لم يكن
لذاته.
وإنما مقصدنا إقناع الشرقيين الذين يلعب بعض المفسدين بعقولهم بأن أرقى
أمة في أوربة، بل أرقى أمة اليوم في العالم وهي الأمة الإنجليزية لا تقدر أن
تصلي إلا تحت تصديق مجلسي الأعيان والنواب، وتحت أمر الملك، وأن هذه
المباحثات والمناقشات الاعتقادية الصرفة قد جرت في مجالس دنيوية سياسية هي
أكبر المجالس من نوعها في الدنيا.
فالذين يسفسطون بكلمة فصل الدين عن السياسة وبدعوى نبذ دول أوربة
للقضايا الدينية تمامًّا يكفيهم هذا المثال {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الرعد: 33) .
…
...
…
...
…
...
…
لوزان 8 أبريل1928
…
...
…
...
…
...
…
... شكيب أرسلان
_________
(*) المنار: انتهت الأزمة في الشهر (ذي الحجة - يونيو) برفض البرلمان البريطاني للتعديل
المقترح في كتاب الصلاة - مرعاة للتطور الاجتماعي والديني والسياسي في الأمم النصرانية وتقريبًا
للبروتستنتية من الكاثوليكية أمها - وقرَّر إبقاءه كما كان بالرغم من أنوف طلاب التجديد.
(1)
المنار: وأنها مجددة وإن كل قديم قبيح وكل جديد حسن.
الكاتب: شرومف بييرون
مضار المشروبات الروحية في البلدان الحارة
بقلم الأستاذ الدكتور شرومف بييرون
يظهر أن العادة التي جرى عليها كثيرون من الأوربيين المتوطنين في البلدان
الحارة من شرب المشروبات الروحية آخذة في التناقص لحسن الحظ، وقد نشأت
هذه العادة السيئة التى سأبين مضارها هنا من مبدأ باطل، ولكنه شائع وهو أن
المشروبات الروحية خير ذريعة لمكافحة تأثيرات الحرارة المضعفة للدم والمنهكة
للجسم من جهة؛ ولتوقي أمراض البلدان الحارة من جهة أخرى.
ولقد كان أطباء جيوش المستعمرات أول من انبرى لبيان ما للمشروبات
الروحية من المضار الوبيلة في البلدان الحارة بقوة ما اكتسبوه من الخبرة ثم جاهدوا
حتى وصلوا شيئًا فشيئًا في معظم البلدان إلى إبطال عادة إعطاء الجنود في
المستعمرات جراية يومية من تلك المشروبات كالكونياك والوسكي والروم.
وهنا نقتبس بعض أقوال الخبيرين في هذا الشأن قال هنت وكني في سنة
1882: (لقد اتفق جميع الثقات على أنه كلما قلل الأشخاص الذين يقطنون في
الأقاليم الحارة من شرب المشروبات الروحية سهل عليهم احتمال جوها. وكتب
السير ل. روجرس - وهو أعظم الأطباء الذين يُعَوَّل على رأيهم في الهند في سنة
1915 يقول: كان معظم الأطباء من عشرين سنة يعدون شرب المشروبات الروحية
ضروريًّا للذين يقطنون في البلدان الحارة، وأما اليوم فلا يوجد طبيب ذو مقام يجسر
على إعلان هذا الرأي) .
ومن المعلوم أن حبوط المشروع الأول لقنال بناما يرجع إلى كثرة عدد الذين
كانوا يموتون من العمال سواء من الإصابة بحمى الملاريا أو من المشروبات
الروحية فلما أبيد البعوض وحرم تعاطي المشروبات الروحية في منطقة العمل
تحريمًا قاطعًا تيسر نجاح المشروع الثاني، وفي ذلك الحين كتب الدكتور غورغاس
كبير أطباء منطقة القنال يقول: كان الأوربيون في الماضي يصابون بالأمراض
ويموتون في جهاتنا هذه؛ وأما اليوم فإنهم يعيشون فيها ويشتغلون كما يعيشون
ويشتغلون في جهات العالم الأخرى.
ولنذكر الآن أهم الأمراض التى يصاب بها الأوربيون العائشون في البلدان
الحارة ويرجع سببها إلى المشروبات الروحية.
أولاً: يؤخذ من جميع الإحصاءات الطبية في المستعمرات أن إصابات الرعن
التى حدثت في جيوش الميدان لم تكد تصب [1] إلا الجنود الذين شربوا مشروبات
روحية، ولو بمقادير يسيرة بدعوى أنهم يريدون الحصول على القوة، وقد كتب
السر فكتور هورسلي في هذا الصدد يقول: (إن المرء لترتعد فرائصه حين يذكر
أن ألوفًا من النفوس أزهقت وحل بها الفناء بسبب فكرة باطلة، وهي أنه يجب أن
يتناول الجنود المشروبات الروحية قبل الزحف في البلدان الحارة) .
ثانيًا: من الحقائق المُسَلَّم بها أن حوادث النزيف المخي تحدث بنوع خاص
على أثر تعاطي جرعات ولو صغيرة من المشروبات الروحية؛ وذلك لأن هذه
المشروبات تحدث تمددًا في الشرايين وتصعد الدم إلى الرأس.
ثالثًا: لوحظ دائمًا أن إصابات الأوربيين القاطنين في الأقاليم الحارة بأمراض
الكبد والكلى كثيرة، وكانوا إلى بضع سنوات مضت ينسبون ذلك إلى تأثير الجو،
أما اليوم فقد اقتنعوا بأن الأوربيين الذين يعيشون في أشد الأجواء حرارة ولا
يذوقون المشروبات الروحية لا تظهر فيهم أمراض الكبد والكلى التى كانوا قبلاً
ينسبونها إلى الحرارة، وهي ليست ناشئة على ما يظهر إلا من تأثير المشروبات
الروحية، بل إنهم أثبتوا علاوة على ذلك أن بعض أمراض الكبد الطفيلية
كالخراجات الديسنطارية مثلا تشاهد خصوصًا عند الأشخاص الذين يشربون
المشروبات الروحية، وقد كتب روجرس يقول: (إن 70 في المئة على الأقل من
المصابين بخراجات الكبد في الهند هم من شريبي المشروبات الروحية والجانب
الأكبر من هؤلاء المرضى أوروبيون، أما الوطنيون فإن هذا المرض يكاد يكون
غير معروف عند نسائهم اللائي لا يشربن المشروبات الروحية؛ ولهذا السبب عينه
ترى الإصابات بخراجات الكبد تزداد مع ازدياد تعاطي المشروبات الروحية ومع
ذلك فإنك تجد الأوربيين والوطنيين يصابون على السواء بالديسنطاريا) .
رابعًا: إن المشروبات الروحية ولو تُعُوطِيَتْ بانتظام بمقادير صغيرة تضعف
في الجسم قوة المقاومة لجميع الأمراض المعدية وخصوصًا في البلدان الحارة؛
سواء كانت هذه الأمراض هي ذات الرئة أو حمى التفوئيد أو الديسنطاريا أو
الملاريا أو السل الرئوي أو الزهري أو الكوليرا أو غير ذلك، وفي كل هذه
الأمراض نجد أن الذي يمتنع امتناعًا تامًّا عن شرب المشروبات الروحية هو الذي
يقاوم العدوى أكثر من غيره، ويشفى في أسرع وقت وتقل عنده المضاعفات
والتعرض للموت، وهذه حقيقة أيدتها تمام التأييد جميع الإحصاءات العسكرية
والمدنية.
وموجز القول أن الرأي الذي انعقد عليه إجماع الثقات الطيبين الذين أقاموا في
البلدان الحارة هو أن الأوربي الذي يروم أن يتحمل جو تلك البلدان يتعين عليه أن
يمتنع عن شرب كل نوع من أنواع المشروبات الروحية أو أن لا يشرب منها إلا
مقادير يسيرة جدًّا في أحوال استثنائية.
فلننظر الآن في مبلغ تأثير المشروبات الروحية في الشرقيين عامة وفي
المصريين خاصة: إن جميع الأطباء الذين مارسوا صناعتهم في البلدان الحارة
يدهشهم ما يرونه في العربي المسلم وفي المسلم عامة أيًّا كان الجنس الذي ينتمي
إليه من قوة المقاومة لأكثر الأمراض التي تصيبه ففي مصر تجد عند الفلاح قوة
مقاومة مدهشة إذا قيست بمثلها عند الأوربيين لجميع الأمراض المعدية ولا سيما
للسل الرئوي والسرطان ولما ينشئه الزهري من المضاعفات العصبية والقلبية
وللحميات المختلفة التى تحدث في البلدان الحارة وللالتهابات التى تحصل بسبب
النفاس والعلميات الجراحية إلى غير ذلك.
وقد لبث معظم المؤلفين طويلاً يحاولون تفسير قوة المقاومة هذه فعزَوْهَا إلى
خصائص قالوا: إنها اختصت بها بعض الأجناس أو إلى فعل الجو أو غير ذلك من
الأسباب، ولكن علماء هذا العصر الذين درسوا تحول الأمراض في الشرق بوجه
عام في البلدان التى أكثرية سكانها من المسلمين مجمعون رأيًا على أن سببها
الرئيسي هو نهي الدين الإسلامي للمسلمين عن شرب المشروبات الروحية، وإذا
وجد في البلدان المسيحية من يخامره شك في خطر النتائج التى تنشأ من تعاطي
المشروبات الروحية فما عليه إلا أن يذهب بنفسه إلى البلدان الإسلامية ليقتنع بذلك؛
لأنه حالما يبدأ المسلم الشرقي بشرب المشروبات الروحية تأخذ قوة مقاومته
للأمراض تنقص تدريجيًّا، فلذلك يسهل فهم الضربة التى جاءت مع الحضارة التي
يسمونها (الحضارة الأوربية) .
ولا نزاع في أن الشرق أقل احتمالاً لنتائج المشروبات الروحية من الأوربي،
فإن تاثير هذه المشروبات في البلدان الحارة أبلغ ضررًا منه في البلدان الباردة
للأسباب التى قدمناها، والرياضة البدنية تضعف ولو إلى حد ما تأثير شرب
المشروبات الروحية، وهذا يفسر استطاعة العمال في الأعمال اليدوية والذين
يلعبون الألعاب الرياضية تعاطي المشروبات الروحية وفي أحوال كثيرة لمدة طويلة
من غير أن يظهر عليهم آثار مضارها، وهذا الرياضة قليلة في الشرق ولا سيما
في المدن بسبب أحوال المعيشة والحر، ويجب أن لا يغيب عن البال أيضا أن
الأوربيين يشربون المشروبات الروحية من قرون، والراجح أن ذلك أنشأ فيهم على
مر الأجيال نوعًا من العادة أو من المناعة النسبية بإزائها، وهذه الظاهرة قد توضح
علة ما يرى في بعض بلدان أوربا كنورمنديا وبافاريا واسكتلندا وغيرها من أن
سكانها يمكنهم احتمال جرعات كبيرة من المشروبات الروحية، ومع ذلك فإن سن
قوانين ضد المشروبات الروحية في أسوج وهي بلاد باردة وجبلية، وكان سكانها
المولعون بالألعاب الرياضية يشربون مقادير كبيرة من هذه المشربات قد أدى إلى
تحسن الصحة العمومية فيها تحسنًا كبيرًا مما دل على أن المناعة من مضار
المشروبات الروحية ضعيفة جدًّا، على أن هذه المناعة إذا صح أنها توجد غير
موجودة عند المسلمين الذين لم يكن أسلافهم يتناولون الأشربة الروحية.
ومن أعظم قوى الإسلام نهي الشريعة الإسلامية عن تعاطي المشروبات
الروحية، وفي كل بلد دخله الإسلام كإفريقية الوسطى والهند مثلاً أنقذ الشعوب التى
اعتنقته من شر آفة الخمر التى جلبتها أوربا وحفظها من التدهور التام، ولهذا
السبب نرى فرنسا في إدارة مستعمراتها تشجع ما أمكن على نشر الدين الإسلامي
في الأراضي الواقعة تحت سيطرتها.
ففي الوقت الذي نرى فيه أوربا وأمريكا تكافحان المشروبات الروحية
وتعانيان في ذلك ما تعانيان حتى فرضت الولايات المتحدة الأميركية على رعاياها
شريعة مدنية تضارع في شدتها شريعة النبي محمد الدينية يحسن بأهل البلدان
الإسلامية أن يدركوا جيدًا ما لشريعة نبيهم هذه من عظم الأهمية من الوجهات
الاجتماعية والأدبية والصحية غير أن كثيرين من المسلمين قد تعلموا شرب
المشروبات الروحية لسوء الحظ فبات متعينًا على أولي الحل والعقد في هذه البلدان
ولا سيما مصر أن يتخذوا التدابير الضرورية لمنع استفحال هذا الشر، فإن
مستقبلها يتوقف على ذلك.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
المقطم
(المنار)
ليعتبر هؤلاء الفاسقون المتفرنجون من أغنياء المسلمين ومقلدوهم من سائر
الطبقات بكلام هذا الطبيب الحكيم من كبار علماء الإنكليز ونصحه لهم بترك شرب
الخمور اتباعًا لهداية دينهم الذي يحرمها عليهم إلا لمضارها الكثيرة التى بين بعضها
هذا الطبيب الناصح، ولا سيما في البلاد الحارة كمصر، وأما استصراخه لأولي
الحل والعقد باتخاذ التدابير لمنع استفحال هذا الشر فنخشى أن يكون صرخة في واد؛
لأن الكثيرين منهم سكيرون وقدوة سيئة لغيرهم، وقلما يوجد في الآخرين المسلم
الناصح الذي يهتم بأمر أمته في مثل هذه الأمور مهما تكن في نفسها مهمة.
ومن المصائب أن هؤلاء الفجرة صاروا يفتخرون بشرب الخمر وتعويد
نسائهم وأولادهم عليها؛ لأنها عندهم من آيات المدنية العصرية، كما أشار إليه
الطبيب ويحتقرون من لا يشرب بأنه رجعي على الطرز القديم البالي، وقد سبقهم
الترك إلى هذا الصغار في التقليد الفردي فآل بهم إلى ما نرى من الكفر والضلال:
زار رجل من طرابلس منذ خمس وثلاثين سنة رجلاً من كبارهم في الآستانة معروفًا
بالوقار والدين فرأى في حديقة داره ولده يتحاسى مع بعض بنات الأرمن كؤوس
الجعة (البيرا) فذكر له هذا المنكر وسأله كيف يرضى به؟ فأجابه بأن (هذه
مقتضيات تمدن) !
_________
(1)
المنار في الأصل: (لم تصب تقريبًا) والمراد به (لم تكد تصب) فهو النص المفيد للمعنى المراد دون ما ذكره.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الصحافي النمسوي يحيى بك
كيف صار مسلمًا حنيفيًّا بعد ما كان مسيحيًَّا كاثوليكيًّا
كان يحمل لقب سيد ومزارع في بلاد التيرول وكان له بمقتضى هذا اللقب أن
يقابل جلالة إمبراطور النمسا في أي ساعة من ساعات الليل أو النهار، وكان يحمل
نيشان القديس غريغريوس المهدى إليه من قداسة بابا روما، وكان يمتلك في بلاد
التيرول [1] قصرًا فخمًا يحتوي على ثمان وثمانين قاعة وكان اسم هذا القصر
(فرودشتاين) وكان صدره يتلألأ بالأوسمة التى أنعم عليه بها؛ إما لحسن بلائه في
سبيل بلاده بصفته ضابطًا في المدفعية النمسوية، أو للخدمات الجليلة التى أسداها
إلى الكنيسة الكاثوليكية؛ إذ كان في مقدمة العاملين على إعلاء شأنها في بلاد النمسا،
وقد سافر غير مرة إلى المدينة الخالدة (روما) لتسوية بعض المسائل الحزبية
بين الفاتيكان وفريق من الكرادلة الذين في النمسا، فكان ينجح كل مرة في مهمته،
ويثوب إلى وطنه، وقد أضاف مجدًا جديدًا إلى اسمه.
هكذا كان (يحيى بك) نزيل القاهرة اليوم.
أما الآن فإن (يحيى بك) مسلم متزوج من مسلمة وأولاده مسلمون وهو شديد
التمسك بالتعاليم الإسلامية والفروض الدينية، يصوم رمضان ويؤدي يوميًّا
الصلوات الخمس ولا يذوق المشروبات الروحية، وقد أنسنا بالتعارف به من مدة
في المفوضية الألمانية فاجتمعنا به منذ أيام وطلبنا إليه أن يقص علينا كيف اتخذ
الإسلام دينًا له بعد ما كان كاثوليكيًّا شديد الإيمان بمذهبه عظيم الإخلاص لدينه.
***
حكاية القرآن
فقصَّ علينا أنه لما كان في الخامسة عشرة من عمره كان جالسًا يومًا في
إحدى قاعات قصره؛ فإذا بالسماء ترعد وتبرق وإذا بها تمطر الأرض مطرًا غزيرًا
فعدل عن نزهته ودخل مكتبته وأخذ يقلب كتبها فعثر بينها على نسخة ألمانية للقرآن
الكريم منقول عن اللغة العربية فتناولها واستلقى على كرسي كبير وشرع في
تصفحها وقراءة بعض آياتها فتبين له بعد فترة قصيرة أن القرآن يحتوي على
موضوعات كثيرة متعلق بعضها ببعض ولكنها متفرقة في السور غير متصل
بعضها ببعض مع أنه لو تم هذا الاتصال يومئذ لتفهم القارئ معناها ومغزاها على
الوجه الأكمل فنهض في الحال ولبس قبعته وحمل مظلته وخرج إلى السوق فاشترى
نسختين أخريين من الكتاب الكريم وبضعة عشر دفترًا، وعاد إلى قصره على
جناح السرعة، وبدأ يَقُصُّ من القرآن الموضوعات المتعلق بعضها ببعض، ويصل
كل موضوع بالآخر فاستغرق عمله هذا شهرين كاملين؛ لأنه لم يكن يعمل فيه إلا
في أوقات فراغه، ولكنه ما كاد يفرغ منه حتى طرح القرآن جانبًا خوفًا من أن
يؤثر في نفسه تأثيرًا لا يتفق وشدة إيمانه وتعلقه بأهداب دينه.
***
مسألة الاعتراف بالإسلام
وانقضت على تلك الأيام خمسة أعوام، وانتظم صاحب قصر (فرودشتاين)
بجامعة فينا ليواصل علومه العالية فاجتمع فيها بطلبة مسلمين من بلاد البوسنة،
وكانوا قد قدموا العاصمة النمسوية ليتلقوا علومهم العالية فتوثقت بينه وبينهم عرى
الصداقة والألفة.
ولم يكن الدين الإسلامي من الديانات المعترف بها رسميًّا في بلاد النمسا يؤمئذ
فشق على أولئك الطلبة أن يظلوا مشتتين ممتهنين لا تجمعهم رابطة دينية اجتماعية
قوية تبعث السلطات الحكومية على الاعتراف رسميًّا بالديانة الإسلامية فألفوا جالية
إسلامية، وعهدوا برياستها إلى الشيخ حافظ عبد الله كريجوفتش وكان هذا الشيخ
إمامًا للجنود البوسنيين المسلمين المعسكرين في فينا، ولكنه خشي أن تثير رياسته
للجالية غضب الحكومة النمسوية، فأبلغ الطلبة بعد يومين أنه مستقيل من المنصب
الذي أسندوه إليه فحزنوا وأخذوا يبحثون على رجل يحلونه محله، فقال لهم صاحب
القصر (فرودشتاين) أي (يحيى بك) إنه مستعد لمساعدتهم وتأييد مطلبهم فأسندوا
إليه رياستهم مع أنه مسيحيٌّ كاثوليكيٌّ، وما كاد الخبر يذاع حتى دعاه وزير
المعارف إلى مقابلته، وسأله عن مسلكه فأجابه بأنه من العار أن يكون بين أبناء
النمسا رعايا مسلمون ولا تعترف النمسا بدينهم رسميًّا، فقال الوزير: (إننا لا
نستطيع الاعتراف بالإسلام رسميًّا لمبدأ تعدد الزوجات فقال: إن الإسلام لا يحتم
تعدد الزوجات كفرض واجب على كل مسلم متزوج ولكنه يترك له الحرية في
اختيار أكثر من زوجة بشروط معينة وما دام القانون النمسوي لا يسمح بالتزوج
بأكثر من واحدة فالنمسويون المسلمون سيضطرون إلى احترام هذا القانون حتمًا
وخصوصًا أن احترامهم له لن ينقض شيئًا من مبادئ دينهم، فقال له الوزير: إذا كان
الأمر كذلك فإني أرجو منك أن تُعِدَّ لَيَ مشروع قانون بالاعتراف بالدين الإسلامي
رسميًّا كي أتقدم به إلى البرلمان) فأعد له المشروع وحمله إليه فنقَّحه قليلاً وعرضه
على البرلمان فأجازه كما هو، ومنذ ذلك الحين سنة 1908 صار الدين الإسلامي
من الأديان المعترف بها رسميًّا في الإمبراطورية النمسوية، وعلى أثر إحراز هذا
الفوز الباهر تنحى (يحيى بك) عن رياسة الجالية الإسلامية، وعكف على
الاهتمام بشئون الكنيسة الكاثوليكية.
***
اعتناقه الإسلام
وغادر صاحب القصر (فرودشتاين) جامعة فينا بعد ما أتم علومه فيها، وقام
برحلة كبيرة في أفريقية الشمالية ثم عاد إلى النمسا ودخل مدرسة الضباط للمدفعية،
وتعرف في تلك الأثناء بالدوق برجالس الذي كان يطالب يؤمئذ بعرش البرتغال
فدعاه الدوق إلى مرافقته إلى أسبانيا ليعاونه في حركته التي كان يريد التوصل بها
لقلب الحكومة القائمة في البرتغال، ولكنه لم يوفق في مساعيه لقلة ماله فودعه
يحيى بك وعاد إلى النمسا، ولما بلغها استأنف سفره منها إلى ألبانيا تنزيهًا للخاطر،
وهناك بدأ يدرس ديانات العالم، ويقابل بينها ثم استأنف هذا الدرس عند عودته
إلى قصره وبعد المراجعة والتمحيص خرج من درسه الواسع باعتقاد راسخ وهو أن
الدين الصحيح هو الدين الإسلامي، ولكن نشوب الحرب العظمى أكرهه على
الانقطاع عن مواصلة بحثه واستقصائه إذ دعي إلى امتشاق الحسام ومرافقة فرقته
إلى ساحة القتال فجرح أربع مرات وأنعم عليه بأكثر من اثني عشر نشانًا ومدالية،
ثم أرسل إلى تركيا أستاذًا للمدفعية في بعض فرقها العسكرية فأنعم عليه بالبكوية،
وظل في الديار التركية حتى انتهاء الحرب العالمية فعاد إلى بلاده وكلف بالذهاب
إلى روسيا لمفاوضة حكومتها الجديدة في شأن الأسرى النمسويين، والظاهر أن
الثوار الروس اشتبهوا في أمره، وأرادوا أن يدبروا له مكيدة يتخلصون بها منه،
فاتصل به خبر هذه المكيدة بواسطة فتاة تهواه كانت شقيقتها متزوجة أحد أعضاء
(التشيكا) البلشفيا ففر إلى ميناء (ريغا) بعد أهوال تشيب لها الرجال، ولما وصل
إلى ذلك الميناء اعتنق الإسلام رسميًّا واتخذ اسم يحيى اسمًا له، ثم لم يلبث أن
تزوج من سيدة شركسية تقيم معه الآن في مصر وكان يحيى بك أراد أن يقطع كل
صلة بالغرب فتجنس بالجنسية الأفغانية.
ويقيم يحيى بك الآن في القاهرة كما تقدم، وهو يراسل منها طائفة كبيرة من
الصحف النمسوية والهولندية وغيرها، وهو يتكلم على ما عرف الفرنسية والألمانية
والتركية والروسية والبولندية، وقد بدأ يُلِم باللغة العربية، وقد اضطر إلى بيع
قصره وأملاكه في بلاد (اليرول) على أثر احتلال الإيطاليين لها ولكنه باعها
(بالكورون) الورق وما هي إلا عشية وضحاها حتى أصبح هذا النوع من العملة لا
قيمة له.
وهنا ابتسم يحيى بك وكان قد فرغ من سرد حكايته، وقال لنا: (لقد خسرت
كل شيء إلا حرية فكري) اهـ من مجلة كل شيء، بتصحيح لبعض الألفاظ.
_________
(1)
كانت تابعة يومئذ للنمسا ثم آلت في الحرب العظمى إلى إيطاليا.
الكاتب: محمد رشيد رضا
أنباء العالم الإسلامي
خطب جلالة الملك عبد العزيز بن السعود
في الأمصار الحجازية بعد عودته من سياحته في نجد
زار جلالة الملك ابن السعود في هذا العام بلاده النجدية وأقام في عاصمتها
عدة أشهر، ثم عاد منها على طريق القصيم وحائل إلى المدينة المنورة فاستقبلته
فيها وفود البلاد، فألقى عليها خطبة سياسية إضافية في محطة الغبرية (بالمدينة
المنورة) قال فيها:
***
خطبته في المدينة المنورة
(إننا نبذل النفس والنفيس في سبيل راحة هذه البلاد وحمايتها من عبث
العابثين ولنا الفخر العظيم في ذلك، وإن خطتي التي سرت ولا أزال أسير عليها
هي إقامة الشريعة السمحة، كما أنني أرى من واجبي ترقية جزيرة العرب والأخذ
بالأسباب التى تجعلها في مصاف البلاد الناهضة مع الاعتصام بحبل الدين الحنيف.
إنني خادم في هذه البلاد العربية لنصرة هذا الدين وخادم للرعية، إن الملك لله
وحده، وما نحن إلا خدمٌ لرعايانا، فإذا لم ننصف ضعيفهم، ونأخذ على يد ظالمهم
وننصح لهم ونسهر على مصالحهم كنا قد خنا الأمانة المودعة إلينا، إننا لا تهمنا
الأسماء ولا الألقاب [1] وإنما يهمنا القيام بحق واجب كلمة التوحيد والنظر في
الأمور التى توفر الراحة والاطمئنان لرعايانا، إن من حقكم علينا النصح لكم في
السر والعلانية، ومن حقنا عليكم النصح لنا، فإذا رأيتم خطأ من موظف أو تجاوزًا
من إنسان عليكم رفع ذلك إلينا لننظر فيه، فإذا لم تفعلوا ذلك فقد خنتم أنفسكم
ووطنكم وولايتكم، وأسأل الله أن ينصر دينه ويعلي كلمته إنه على ما يشاء قدير.
***
خطبته في جدة
ثم انتقل من المدينة إلى جدة وألقى فيها على الوفود والأهالي المستقبلة له هذه
الخطبة: حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله لما أعطى من فضله وكرمه ثم قال: إن
العرب في هذه المدن تأخروا كثيرًا وليس لهم من المجد شيء، فوسائل القوة كلها
بيد غيرهم، وإذا لم ترجع العرب للأصل الذي نشأ عليه أولهم فما هم ببالغين شيئًا
إلا أن يشاء الله، إن القوة التي يمكن أن نستند عليها هي الاستمساك بما كان عليه
سلفنا من اتباع كتاب الله وسنة رسوله وليس اتباع الكتاب الكريم بقراءته والتغني
به، ولا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم بإعلان صحبته باللسان، والأفعال
تخالف ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا الأساس أساس الاتباع
الصحيح هو الذي يمكن أن يجعل لنا وحدة قوية يمكننا أن نعتز بها ونرفع من شأننا،
وبغير ذلك لا مزية لنا ولا احترام، انظروا للعرب في كثير من الأمصار فإن
لديهم من الأموال أكثر مما لديكم، وعندهم من وسائل المدنية أكثر مما عندكم،
ولكن كثرة الأموال ووفرة الوسائل المدنية لم تفك رقابهم من الأسر والذل، ولم
ينفعهم ما جمعوا ولا ما صنعوا، إن المدنية الصحيحة والحياة ما نراه في البلاد
المتمسكة بدينها، وذلك ما يسرني أن أراه في نجد والحجاز، فكلما ازداد هذان
البلدان تمسكًا بدينهم وحافظوا على الأصل الذي جاء في كتاب الله وسنة رسوله كان
له من العز والسؤدد بمقدار ما يظهر من قوة تمسكهم ومحافظتهم، فإن تمسكتم بهذا
الأصل تمسكًا صحيحًا ولا أستثني فإن الله ينصركم ويؤيدكم، إن الدين هو مركز
المغناطيس الذي يجذب قلوب الناس إليكم فتقوى بذلك قلوبكم، ويعظم مركزكم في
الوجود، فدينكم وشرفكم العربي هو المغناطيس الحقيقي فتمسكوا بهما تنجحوا
وتروا الحرية الصحيحة.
ليست الحرية أن يُتْرَك الإنسان لهواه في الوقت الذي يكون فيه عنقه تحت
الرق والأسر، ولكن الحرية الصحيحة هي حرية الإسلام الذين جعل الأمير
والوضيع أمام العدل والحق سواء، وإنه لمما يُثْلِج الصدر أن ترى الأمير
والضعيف يسيران معًا ليقفا أمام الشرع ليقضي بينهما، وإني أسأل الله أن يوفقكم
للخير ويجعلكم ممن ينصرون دينه ويعلون كلمته.
***
خطابه بمكة المكرمة
ولما عاد إلى مكة المكرمة ألقى فيها على مستقبليه خطابًا بمعنى ما تقدم صرَّح
فيه جلالته خلال الحديث بأن الغاية الى يتوخاها والمطمح الأسمى الذي يدعو إليه
ويعمل في سبيله هو إعلاء كلمة التوحيد أولاً ورفع شأن العرب ومجدهم ثانيًا، ثم
تطرَّق إلى الحرية والمدنية فأفاض جلالته في هذه الموضوع مبينًا أن الحرية التي
جاء بها الإسلام هي أوسع من تلك الحرية المهيضة الجناح التى يدعيها الغير، وأن
المدنية الإسلامية التى سطع نورها في العالم وكانت أساسًا لنهضات الأمم والشعوب،
لم تكن مدنية مزيفة تقتصر على الماديات، وعلى الزينات فحسب، وإنما كانت
مدنية علم وعمل، وحث المسلمين على التمسك بالشريعة السمحة كعادته في كل
خطبة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الجهر بالإلحاد ودعايته باسم التجديد
حكومة الترك اللادينية
قد وقع ما توقعنا وصرَّحنا به مرارًا من عزم ملاحدة الترك الاتحاديين
فالكماليين على نزع ثوب الإسلام الذي كانوا يلبسونه زورًا ورياء للشعب التركي
الذي يدين الله به وجدانًا وتقليدًا، وأنهم كانوا يعملون لهذا متريثين، ويسيرون إليه
متمكثين، مراعاة لسنة التدريج، وحذرًا من خيبة الطفور، ولكن التركي إذا ظفر
بَطَرَ، وظن أنه العزيز المقتدر، فلذا كان ظفرهم الأخير باليونان مجرئًا للكماليين
على الإيجاف والإيضاع في هذه السبيل فأبطلوا التعليم الديني ومدارسه والشريعة
الإسلامية ومحاكمها، واستبدلوا بها ما يجافي طباعهم وتقاليدهم وأخلاقهم من شرائع
بعض الشعوب الأوربية وقوانينها، وأعلنوا إباحة الردة عن الإسلام وجواز التدين
بكل دين، والبراءة من كل دين، وتزوج المسلمة بالكافر، ورقصها مع الفاسق
والفاجر، وأكرهوا شعبهم على لبس البرانيط - كل هذا كان مع وجود مادة في
قانون الجمهورية الأساسي صُرِّحَ فيها بأن دين الدولة هو الإسلام.
ولأجل هذه المادة التي كذَّبتها الأقوال الرسمية والأفعال الرسمية والأحكام
الرسمية والقوانين الرسمية، وتصريحات الجرائد الرسمية وغير الرسمية باحتقارهم
للدين وبراءتهم منه لأجل هذه المادة كان بعض المسلمين الأغبياء الغافلين يظن
بإغواء الملاحدة المارقين، أن الدولة التركية لا تزال دولة إسلامية، وأن كل تلك
الأقوال والأفعال والأحكام الكفرية المعادية للإسلام لا تنافي الإسلام؛ لأنها من
التجديد المدني والتقدم إلى الأمام، وترك القديم البالي الذي أخلقته الأيام وأبلته
الأعوام.
هكذا كان يقول ملاحدة بلادنا المصرية في تأييد الكماليين والترغيب في
كفرهم، وهكذا كانوا يكتبون، ولهذا كانوا يدعون، ولمثله عندهم فليعمل العاملون،
ولكن الحكومة التركية الكمالية لم تعد تطيق الصبر على بقاء كلمة الإسلام في
قانونها، فقررت إزالتها ومحوها، بل قررت إزالة اسم الله تعالى من اليمين
الرسمية المقررة في القانون؛ لأنها لم تكن وضعت اسم الإسلام في القانون خوفًا من
قيام الشعب عليها، فلما ظفرت بإخماد كل ثورة عليها والتنكيل بأهلها تجرأت على
البراءة من الاسم كالمسمى.
وإنه ليسر عقلاء المسلمين الصادقين هذا الجهر لسببين:
(أحدهما) : أن كراهة المسلم الصادق للنفاق أشد من كراهته للكفر الصريح،
ولا سيما النفاق بالقول الذي يصرح العمل بتكذيبه.
(ثانيهما) : أن تلبس الحكومة التركية بظاهر الإسلام أو تحليلها باسمه
زورًا وبهتانًا يخدع العالم الإسلامي الجاهل بها، ويظل على ما تعود معتمدًا في
إعزاز الإسلام عليها، فيظل غافلاً عن قوة الإسلام نفسه وعن قوته هو بالإسلام،
وإني لمعتقد أن ما كان شائعًا من قيام السلطان العثماني التركي بمنصب الخلافة كان
أقوى الأسباب في ضعف المسلمين، وتمكن الأجانب من استعبادهم، والاستئثار
بخيرات بلادهم.
فإذا كان في هذا الكفر البواح من حكومة الترك ومجلس الأمة لها ضرر
بغيرهم من المسلمين فهو سوء القدوة بالترك التابع لما كان من المبالغة في تعظيمهم
بالباطل، وتعلق الآمال بهم بالوهم، لا فوات ما كانوا عليه من إقامة أركان الإسلام
وإحياء كتابه وسنته والدفاع عنه، فإنهم لم يكونوا كذلك ولا سيما الجيل الأخير منهم.
ولما وثق الأوربيون بارتداد الحكومة الكمالية بهيئتيها التشريعية والتنفيذية عن
الإسلام وبعدواتهم له وبدعايتهم للشعوب الإسلامية، ولا سيما الأعجمية إلى اتباع
خطواتهم في ذلك فرحوا، وصرَّح بعضهم بأن الإسلام قد فقد كل قوة وعصبية،
وطمع دعاة النصرانية منهم بتحويل سائر المسلمين عن الإسلام وأرصدوا لذلك
الأموال الكثيرة على تصريحهم بأن العقبة الكؤود في طريقهم هي عصبية جزيرة
العرب ولا سيما الوهابية منهم. وطلب بعض جمعياتهم إرسال مائة مبشر إلى
جزيرة العرب خاصة. ومما زاد في طمعهم في تقصير جميع المسلمين دعاية
الإلحاد في مصر.
***
الإلحاد والزندقة بمصر
ها نحن أولاء نرى ملاحدة بلادنا هذه تُنَوِّه بكفر الترك الكماليين وتثني على
كل خطوة من خطواتهم فيه، وتنافح عنه في جرائدها، وتدعو إلى مثله كلما
سنحت فرصة، ولجريدة السياسة مراسل خاص في الآستانة مصري الأصل اسمه
(عمر رضا) يمدها في كل أسبوع بمقالة ينوِّه فيها بأعمالهم، ويجلي كفرهم
وضلالهم بحلي الخلابة وحللها، وهو الذي كان يراسل جريدة الأخبار الإسلامية من
قبل بقوة دينهم ومتانة إسلامهم، ولكل وقت وكل حال سياسة ودين عند هؤلاء.
ولكن كان من حسن حظنا أن كان أول ماقتٍ لهذه الدعاية الإلحادية وصادّ
عنها هو جلالة ملك البلاد، ولم يكن الزعيم المؤثر سعد زغلول باشا براض عنها،
ولا بمساير لها، بل كان ضدًّا على دعاتها في الجملة، حتى إنه اشتد في أثناء
المناقشة بمجلس النواب في كتاب طه حسين الذي كذَّب فيه القرآن، وكاد يرفس
وزارة عدلي باشا رفسة يسقطها بها إسقاطًا يجعل زعماء الحزب الدستوري في سفل
سافلين، ولكنهم أجلوا البحث في المسألة حتى تمكنوا من إسلاس قياده وإسكاته عن
تأييد المطالبين بعقاب طه حسين في المجلس، حرصًا على ما يسمونه بالسياسة
الائتلافية ولولاه لنجحوا في دعايتهم إلى لبس البرنيطة.
***
التفرنج ومبادئ
الإلحاد في الأفغان
كان المشهور في العالم الإسلامي أن أشد الشعوب الإسلامية عصبية إسلامية
مسلمو نجد ومسلمو أفغانستان، وقد ذكرنا هذا من قبل، ولكن رُزِئَتْ الحكومة
الأفغانية في هذا الزمن الأخير ببعض ملاحدة الترك فأفسدوا عقائد بعض رجالها
الأفغانيين وزيَّنوا لملكها شر أنواع التفرنج وأضرها وهو تفرنج النساء بالتبرج
والزينة وهتك حجاب الحياء والصيانة المقتضي للإسراف في النفقات؛ لأجل
الانغماس في الشهوات واللذات.
واتباع سنن الترك في لبس البرنيطة وانتحال القوانين الأوربية وغير ذلك من
المفاسد التي جنت على الدولتين العثمانية والمصرية، وقد شرعت الدولة الأفغانية
الجديدة تقلد الترك ولا ندري إلى أي شوط تصل في ذلك وإنا لمنتظرون.
كنا كتبنا ما تقدم كله منذ أشهر، ولم يتسع له الجزء الثاني وتأخر إصدار هذا
الجزء لما تقدم من السبب، وفي أثناء هذه المدة أتم ملك الأفغان رحلته الأوربية
الآسيوية، وكان من أخبارها أن زوجته الملكة ثريا كانت في أوربة وفي أنقرة
سافرة متبرجة بزينتها مسرفة فيها حتى إننا رأينا في بعض صورها الشمسية صورة
نصفية برزت فيها عارية من كل ثوب ليس عليها إلا الجواهر التي تتلألأ على
صدرها - ومنها أنها كانت ترقص مع الرجال وخص بالذكر مصطفى كمال باشا -
ومنها أن كبار العلماء في إيران لما علموا بأخبارها هذه أرسلوا إلى بعلها الملك
برقية صرَّحوا له فيها بأنهم لا يقبلون أن يروا في بلادهم الإسلامية ملكة مسلمة
تنتهك حرمة الإسلام بسفورها وتبرجها المحرم شرعًا، فاضطرت عند وصولهما
إلى إيران أن تحتجب احتجابًا تامًّا كنساء إيران، وكانت تبرز في مصر
كالمصريات غير المسرفات في التبرج.
ومن أخبار هذه الرحلة أن الملكة ثريا قد ابتاعت من الحلي والحلل وهي في
باريز ما قيمته مئات الألوف من الجنيهات، وهذا يدل على أن التفرنج الأفغاني قد
بدأ مسرفًا على طريقة إسماعيل باشا الخديو في مصر، كأن ملك الأفغان ورجاله لم
يطلعوا على تاريخ ذلك الإسراف ولا علموا بما كان من نتائجه.
بيد أن ملك الأفغان قد فَضَلَ إسماعيل بعنايته بأمر القوة العسكرية العصرية
التي لا يمكن لدولة حفظ استقلالها بدونها وجعل الشعب كله عسكريًّا مستعدًّا في كل
وقت لبذل النفس في سبيل الدفاع عن بلاده وغير عاجز عن الهجوم على غيره إن
اضطر إلى ذلك. ولكن الاستعداد النظامي والآلي لذلك لا يكفي إلا إذا أمدته القوة
الروحية والوحدة القومية.
والشعب الأفغاني الآن عرضة لفساد العقائد والأخلاق بالتفرنج الجديد وما يتبع
ذلك طبعًا من التفرق أو (انقسامه على نفسه) كما يقال في التعبير العصري.
وسنبين في جزء آخر أسباب ما نخافه على هذا الشعب الإسلامي الباسل من
فساد العقيدة والأخلاق والتفرق، وكون ذلك أضر فيه منه في الشعب التركي وأشد
خطرًا على حكومته، وما حاولنا من نصح من لقينا من رجال الحكومة الأفغانية
بمصر ومكة المكرمة ثم ما كتبناه إلى جلالة الملك أمان الله خان في مصر.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الحكومة السورية الجديدة
أجمهورية تكون أم ملكية
وفق موسيو بونسو المندوب السامي الفرنسي الأخير لسورية ولبنان لِمَا لم
يوفق له مَنْ قبله من المندوبين، فألف فيها حكومة مؤقتة عهد إليها بتأليف جميعة
تأسيسية منتخبة تضع قانونًا أساسيًّا لحكومة البلاد على قاعدة الاستقلال والسلطان
القومي، ثم ينتخب بمقتضى هذا القانون مجلس نيابي للبلاد يكون من وظائفه عقد
اتفاق مع الدولة الفرنسية تحدد به علاقتها بسورية موضوعًا وزمنًا، وقد وعد هذا
المندوب بالسماح لمنتخبي أعضاء الجمعية التأسيسية بالحرية التامة التي لا يشوبها
شيء من تدخل السلطة المحتلة في انتخابهم.
عهد بتأليف الحكومة المؤقتة إلى الشيخ تاج الدين الحسيني نجل الأستاذ
المحدث الشيخ بدر الدين الحسيني الشهير فألفها من بعض الوطنيين وبعض
الحكوميين ووقف هو فيها موقف الوسط بين الفريقين، فلما وقع الانتخاب انتخب
هو من قبل كل منهما، فكانت هي البراعة الثانية التي أتقنها ونجح فيها، وأما
البراعة الأولى فهي أنه ما زال يسعى لرياسة الحكومة سعيها منذ سنين حتى أمكنه
استمالة السلطة الفرنسية من ناحية وقوة المعارضة الوطنية من ناحية، ولكن الثقة
به عند الأولى أقوى، وهو يستعين بمكانته عند كل منهما على الأخرى.
إنني قد سررت بوجود سيد شريف وشيخ معمم يملك هذه البراعة، وأتمنى
من صميم قلبي لو يوفق لحفظ مركزه بالإخلاص لقومه وحسن الصلة بينهم وبين
الدولة التي امتحنوا بها - وأحب له الثبات على الزي العلمي العربي في وقت ينفر
فيه الجمهور العصري من زيّ رجال العلم الإسلامي حتى صار بعضهم أميل إلى
البرنيطة منه إلى العمامة ولا سيما المتفرنجين الذين يعدونها كقلانس رجال الكهنوت
الديني عند النصارى وغيرهم الذين حبسوا أنفسهم على خدمة دينهم وإرشاد أهله
إلى الاعتصام به ودعوة غيرهم إليه ودفاعهم عنه، وحملة العمائم عند المسلمين
ليسوا كذلك، وإن سروري بوجود الشيخ تاج الدين على رأس الحكومة السورية
متحليًا بعمامته البيضاء (ولم يبق له من هذا الزي القومي غيرها) لا يشوبه رجاء
في خدمة للدين الإسلامي يقوم بها، وإنما أنا خصم لدعاية التفرنج التي يُقَبِّح أهلُها
- قبَّحَهم الله - كل ما هو من مشخصات أقوامهم وأوطانهم ومن مقوماتها أيضًا
ويدعون إلى استبدال غيره به بشبهة التجديد الذي معناه احتقار تاريخهم وأمتهم
وتفضيل غيرها عليها، فأنا أُلاحظ في هذا قول صديقنا الأمير شكيب أرسلان في
المقابلة بين قومنا العرب وبين الإفرنج:
يملك إذا ما بات فيهم متوّجا
…
فيا طالما قد كان فينا معمما
هذا وإن مسيو بونسو وعد بعدم تدخله في انتخاب الجمعية التأسيسية كما قلنا،
ولكن الوزراء الحكوميين وسياستهم الفرنسية تدخلوا وبذلوا جهدهم في ترجيح كفة
رجالهم على الوطنيين، ويقال أيضًا: إن بعض الموظفين الإفرنسيين في الأقضية
قد تدخلوا أيضًا، ومع هذا كان النجاح الأكبر في الانتخاب لجماعة الوطنيين
المشهورين بمعارضتهم لكل ما فعلته السلطة العسكرية في البلاد من المنكرات
وللانتداب الفرنسي نفسه.
بعد أن تم انتخاب الجمعية التأسيسية وانتخب صديقنا هاشم بك الأتاسي رئيسًا
لها، وبدأ الأعضاء يجتمعون كثر خوض الناس والصحف فيما تقره من شكل
حكومة البلاد هل هو الجمهورية أم الملكية، وصار كل من يرجح رأيًا يدلي بحججه
على ترجيحه، وترجح الصحف أن الرأي الغالب في البلاد تفضيل الملكية على
الجمهورية، وإن الجمعية التأسيسية ستقرر هذا الرأي بالأكثرية، وإن لم يسمع أحد
من أعضائها كلمة في هذا الموضوع، ونقلت إلينا أن المرشحين لمنصب الملك هم
الشريف علي حيدر بك، والشريف علي بن الحسين، وأخوه الشريف زيد،
والأمير فيصل آل سعود نجل ملك الحجاز ونجد. ومن الناس من يذكر السيد تاج
الدين الحسيني رئيس الحكومة السورية، وأحمد نامي بك سلفه، وأن رجاء هذين
في رياسة الجمهورية أقوى، فأما الشريف علي حيدر فله رجال في سورية
يرشحونه، وقد سبق نجله الشريف عبد المجيد بك (الداماد) إلى هذا السعي منذ
سنين إذا اتخذ مدينة بيروت مقامًا له، وأما نجلا الملك حسين أخوا الملك فيصل
فيسعى لهما أو لأحدهما أخوهما الملك، ويروى أن مجيء رئيس ديوانه وبعض
كبار الوزراء والرؤساء للدولة العراقية إلى سورية في هذا العهد يراد به السعي
لذلك بصفة غير رسمية، ولذلك كذبوا ما عزي إليهم.
وحجة من بقي في سورية من أنصار هذا البيت أنه أرجى لتحقيق وحدة بلاد
الحضارة العربية العراق وسورية والأردن، وكذا فلسطين ولو بعد حين في دائرة
الأمبراطورية المرنة - بتوحيد التعليم وتوحيد اللغة التى يستمد منها العلم العصري
والفنون وتوحيد المعاملات الاقتصادية وغير ذلك، فإن وجود الشريف علي أو
الشريف زيد ملكًا في سورية بين حكومتي أخويه: فيصل وعبد الله يمهد السبيل
لذلك وهو مرجو عندهم.
وأما خصومهم فلا يسلمون لهم هذا، ويرون أن انفراد إنكلترة بالسلطان من
مصر إلى خليج فارس أعظم خطرًا على الأمة العربية وعلى الملة الإسلامية، على
ما ظهر من سوء نيتها في مسألة الصهيونية والتعدي على أرض الحجاز، ويعدون
من غوائله أيضًا ما يخشى من وقوع الشقاق بين سورية وجارتيها الحجاز ونجد
كما هو واقع على حدود العراق وشرق الأردن.
وعندي أن أقوى الموانع من اختيار أحد أفراد هذا البيت أنه قد ثبت بالتجربة
أنهم مفتونون بحب الملك والإمارة وأنهم يبذلون في هذه السبيل استقلال البلاد
ومنافعها ورقبتها أيضًا للأجنبي الذي يكفل لهم لقب ملك أو أمير، فهذا الشريف عبد
الله أظهر قد جاء منطقة شرق الأردن، التي كانت تابعة لحكومة سورية باتفاق
فرنسة وإنكلترة وليس فيها احتلال أجنبي؛ لأن الجنرال غورو لم يعتد عليها بعد
احتلاله لدمشق وإسقاطه لحكومة فيصل فولاه أهلها والنازحون إليها من رجال
حكومة سورية العسكريين والمدنيين أمرها، فلم يلبث أن جلب لها الاحتلال
البريطاني وجعلها تابعة لفلسطين في الانتداب عليها، ثم ترك للحكومة البريطانية
ما كان بيده من أمر سكة الحديد الحجازية بكتابة رسمية، ثم عقد معها محالفة فيها
من مخازي الذل والاستعباد ما ضج منه بدو أهلها والحضر، ولو لم يكن منه إلا أن
الأمر والنهي والتصرف المطلق فيها لجلالة ملك الإنكليز حتى إن له أن يحشد فيها
من الجنود البريطانية ما شاء، وأنه ليس للأمير المُوَلَّى من قبله أن يحشد جنديًّا
واحدًا بدون إذن بريطاني، لكفى خزيًا وذلاًّ ومهانة واستعبادًا وخطرًا على الحجاز.
وقد أرسلت البلاد وفودًا إلى الأمير يحتجون على المعاهدة ويطلبون منه رفضها
فحبس بعضهم وأهان بعضًا وهدَّد آخرين، وكان من جوابه لبعضهم أنه لو لم يكن
في المعاهدة من الفائدة إلا تصريحها بأن للبلاد أميرًا لكفى، قال: ولا يخفى ما في
هذا اللقب من الإشارة إلى الاستقلال! فليتعز إذًا عن استعبادهم بهذه الإشارة.
وأما الشريف علي فقد كان الذين رغبوا إليَّ السعي للصلح بينه وبين ابن
السعود يقولون: إنه خير من أبيه وإخوته، وإنه إذا صالحه على شيء وفَّى له....
ثم علمنا من الثقات أنه عرض على الدولة الإنكليزية أن يعترف لها بالحماية
الرسمية والانتداب على الحجاز [1] في مقابلة مساعدته على صرف ابن السعود
عنه.. . فأجابته بأنه لا يسعها في مسألة الحجاز إلا الحياد التام؛ لأنه المركز
الديني الذي يسوء العالم الإسلامي كله تدخل أي دولة غير مسلمة فيه.
لم يمكنه جعل الحجاز كله تحت السيادة البريطانية ليتمتع بلقب (ملك) في
ظل هذا السلطان ولكن أمكنه أن يبيع الدولة البريطانية أهم بقعة حربية بحرية
اقتصادية من بلاد الحجاز، وهي البقعة الممتدة من خليج العقبة المنيع على شاطئ
البحر الأحمر إلى معان ذات الموقع البري العظيم وأهم محطات سكة الحديد
الحجازية قلب البلاد، ولكن كيف باعه وبأي ثمن باعه؟
كنا نجهل كيف سمح الشريف علي بن الحسين بسلخ هذه المنطقة العظيمة
الشأن من أرض الحجاز وجعلها تابعة لشرق الأردن الواقع تحت السلطان البريطاني
حتى كشفه لنا الريحاني في كتابه (تاريخ نجد) فإنه قال بعد ذكر ما خسره الملك
علي من نقل الإنكليز لوالده من العقبة إلى قبرص، وهو ما كان يمده به من المال
ما نصه:
(وهناك خسارة أكبر للحجاز كانت تتعلق بسفر الحسين، وكان الأمير عبد
الله يسعى لها، فهو الذي أقنع أخاه وحكومة أخيه بأن يسلموا بضم العقبة ومعان
إلى شرق الأردن، وقد ضرب الأمير يومئذ على الوتر الحساس؛ إذ قال في إحدى
مذكراته لجلالة أخيه ما معناه: سلموا بضم العقبة ومعان وأنا أضمن لكم من
الإنكليز ما يأتي: أي ثلاثمائة ألف ليرة تعويض الضم ومئتا ألف ليرة ثمن الأملاك
غير المنقولة، وقرض قيمته خمسمائة ألف جنية يعقد حالاً، ثم إبعاد ابن السعود
عن الحجاز حتى تربة والخرمة، وجعل الخط الحجازي رهن إشارتكم في كل
وقت.
(أية حكومة في موقف تلك الحكومة الهاشمية لا تقبل بيع قطعة من أملاكها
بهذا الثمن؟ وأي ملك في مركز الملك علي لا تغره تلك الأرقام؟ ولكنها أرقام في
كتاب الأحلام) اهـ الريحاني.
ونحن نقول: إن كل حكومة أمينة غير خائنة لا تبيع شيئًا من بلاد أمتها لدولة
أجنبية مهما يكن الثمن الذي يبذل عظيمًا، على أن الثمن الذي خدع به الأخ أخاه
حقير بالنسبة إلى خليج العقبة وحده الذي يقول العارفون: إن زقاق البوسفور دونه
مناعة، ثم نقول: إن كل ملك غير خائن ينزه نفسه رذيلة بيع وطنه لدولة أجنبية
بثمن بخس، وكل ثمن تباع به الأوطان فهو بخس.
فكيف إذا كان هذا الملك مسلمًا وشريعة الإسلام لا تبيح للملوك والسلاطين بيع
بلاد الإسلام لغير المسلمين وتجعل لهم السلطان عليها.
فكيف إذا كانت هذا البلاد من أرض الحجاز المقدسة التى أوصى رسول الله
صلى الله عليه وسلم في مرض موته بأن لا يبقى فيها ولا في سياجها من جزيرة
العرب دينان، وأخبر بأن الإسلام سيأرز أي ينكمش وينضوي إلى الحجاز إلخ،
هل يعقل - والحال هذه - أن يَنْقُض رجل مسلم وصية رسول الله صلى الله عليه
وسلم ويعرض مهد دينه لخطر استيلاء الأجنبي عليه طمعًا في المال، أو في لقب
لا قيمة له في مثل هذا الحال؟ وإذا عقل وقوع هذا من رجل دنيء الأصل خسيس
المنبت يريد أن يعلو بين الناس بالمال واللقب، ولو بخسران الدين والشرف، فهل
يتصور من شريف صحيح النسب، عالي الأدب والحسب؟
نعم قد وقع بالفعل ما هو بعيد عن المعقول والمنقول والدين والشرف. وإن
الافتتان بزهو الملك وتنفجه وشهواته لا يكفيان في الإسفاف والتسفل إلى هذا الدرك
الأسفل إلا إذا صحبه جهل فاضح وخذلان من الله تعالى، نعم قد خدع الشريف
الأمير عبد الله ابن الشريف الملك الحسين أخاه الشريف الملك عليًّا بأن يبيع
للإنكليز أعظم مواقع الحجاز وحصونه البرية والبحرية بثمن ذكره له، فأجابه إلى
ذلك من غير عقد ولا قبض ثمن، فكانت هبة مجانية للإنكليز، وقد أعلن الشريف
عبد الله هذا الظفر بانقطاع هذه المنطقة من الحجاز وإلحاقها بشرق الأردن في
عاصمة إمارته وأمر بإطلاق مائة مدفع ومدفع إيذانًا وسرورًا بهذا الفتح المبين؟
فهل يأمن السوريون إذا ولوا عليهم من هذه حالهم أن يبيعوا ما يمكن بيعه من
سورية لمن يشتريه من الأجانب وليست سورية بأعظم عندهم من الحجاز الذي هو
مهد دينهم وموطن إمارتهم وفخرهم؟ وأولاد حسين بن علي كلهم صنائع الإنكليز،
وأولاهم بذلك الشريف زيد الذي يربونه في بلادهم.
وأما الأمير فيصل السعودي فهو الذي يشهد العقل والمصلحة لمرشحيه بجودة
الرأي والإخلاص للبلاد؛ إذ هو الذي يرجى أن تكون بولايته عليها مستقلة غير
مهددة بعبث النفوذ الأجنبي باستقلالها، ولغير ذلك من الفوائد الإيجابية والسلبية الى
نشير إليها بعد أن نصرح بأننا لا نريد بهذا الدعاية والترغيب، ولماذا؟ لأمرين:
(أحدهما) : أننا نشك في قبول فرنسة أن يكون هو الملك لسورية ووراءه
أعظم قوة عربية تشد أزره وهي قوة والده في مملكتي الحجاز ونجد، فإن رضيت
فرنسة بذلك كان برهانًا على إخلاصها لسورية وصدقها الباطن والظاهر في جعلها
حرة مستقلة بل برهانًا على انتهاج خطة جديدة في صداقة الأمة العربية والإسلام
ونحن نستبعد هذا منها على اعتقادنا بل يقيننا بأنه أفضل سياسة تُحْيِي نفوذ
فرنسة السياسي والاقتصادي والأدبي في الشرق؛ لأننا دعوناها إلى هذه الصداقة
مرارًا فلم تجب.
(ثانيهما) : أننا نشك في قبول الأمير فيصل ووالده الإمام عبد العزيز لذلك
إلا باحتفاظ في قانون البلاد الأساسي فإن حكومة سورية النيابية لا بد أن تصدر من
القوانين والأحكام باسم ملكها ما هو مخالف للمجمع عليه من الشرع الإسلامي كما هو
المنتظر من مجلس تشريعي مثل المؤتمر السوري العام الذي وضع القانون الأساسي
الأول لها عقب إعلان استقلالها وتولية فيصل عليها فإنني قد اجتهدت في إقناعه -
وأنا رئيسه- بأن يقيد حرية القوانين بما لا يخالف الآداب العامة للأمة؛ لأجل منع
المجاهرة بالفواحش فرفض هذا بأكثرية الآراء التى كان من أصحابها بعض
المتدينين، وقد صرَّح بعض الأعضاء في تعليل رد هذا القيد بأن تقريره يبيح
للشرطة أن يمنعوا من يجلس مع امرأة في ملهى أو مقهى (محل شرب القهوة) في
الطريق يعاقرها الخمر.
لهذا رأينا ملاحدة السوريين واللادينيين منهم أول من أنكر فكرة ترشيحه،
ومنهم من صرَّح بأن تعصبه الديني يحمله على أن يراعي الشريعة الإسلامية في
سياسته، وأول من كتب في ذلك من السوريين الذين في مصر الآن أحد أعضاء
حزب الدكتور شهبندر والأمير ميشيل لطف الله: كتب مقالة في المقطم نال فيها من
إخلاص أشهر الوطنيين من رجال الجمعية التأسيسية لذلك وعرَّض بخيانتهم
وتصديهم لبيع وطنهم؛ لأنه فهم أنهم من القائلين بترشيح الأمير فيصل السعودي
لعرش سورية، وذكرهم بأن من أهل البلاد من لا يرضيهم هذا الترشيح ويجب
الاعتداد برأيهم قبل إبرام أمر كهذا، وهم النصارى في البلاد واللاجئون إلى مصر
من الوطنيين، ويعني الكاتب حزبه المشار إليه.
ونحن نقول: إن الملاحدة اللادينيين يكرهون من وجود ملك مسلم متدين في
سورية ما لا يكره النصارى، فالملك المسلم المتدين بالفعل قد يكون خيرًا للنصارى
واليهود من المسلم المنافق لأن ظاهره وباطنه سواء؛ ولأنه لا يستحل إيذاءهم
ويراعي حريتهم في دينهم بإخلاص وجداني، وأما المنافقون في الدين لا يلبسون
لباس الإسلام إلا بقدر ما يعطيهم من الحقوق والمنافع الدنيوية، فهؤلاء لا يرجون
الحظوة والانتفاع عند الملك المتدين الصادق.
هؤلاء يفضلون حرمان وطنهم من الاستقلال واستذلال الأجانب له على
استقلاله تحت راية ملك أو أمير مسلم صادق لا يعرف الدهان والنفاق، وقد قال من
عبر عن عقيدتهم من إخوانهم المصريين: إننا لولا تغلب الشعور الديني على
السواد الأعظم من أهل بلادنا لاسترحنا من هذا النزاع والكفاح مع الإنكليز برضانا
بسيادتهم علينا، وكنا نكون حينئذ من أسعد الناس وأَهْنَئِهِمْ معيشة.
بعد هذا أقول: إن كل ذكي منصف عارف بتربية الأمير فيصل السعودي
يعلم أنه لا يُخْشَى منه أن يخون البلاد أو يفرط بحق من حقوقها أو يكون آلة بيد
الأجنبي ليضمن له منصبه فيها - فدينه يمنعه وتربيته تمنعه، وشرف أبيه ومنبته
يمنعه من مثل هذه الخيانة، فهو لم يترب على الإسراف فى حب الاستعلاء والتحكم،
ولا في الشهوات ليفضلها على مصلحة البلاد، على أنه مع هذا يعلم أنه إذا
اضطره مقاومة الأجانب إلى ترك هذا الملك المقيد باتباع أهوائهم فإنه يعيش في
مملكة أبيه عيشة أفضل وآثر عنده من هذه العيشة الدنيئة الذليلة.
قرأنا في بعض الجرائد ما يراه المرشحون له من الفوائد فلا حاجة إلى ذكرها،
ولكننا نذكرهم بفائدة منها قد غفلوا عنها وكان ينبغي أن تكون أول ما يخطر بالبال،
وهي أنه لا يرجى أن يتولى أمر البلاد السورية أحد غيره يقدر على حفظ الأمن
في بادية البلاد الواسعة ويزيل منها غوائل الغزو بين الأعراب بمنعه وإقامة العدل
بينهم ثم ينقلهم من البداوة إلى الحضارة بالتدريج، وقد رأى ما فعل والده في هذه
السبيل، وفي ذلك من الفوائد الاقتصادية وغيرها ما لا يخفى.
ولو كان نصبه مرجوًّا عندنا لشرحنا فوائده بالتفصيل خدمة للبلاد لا له كما
يتوهم من لا شعور لهم بلذة خدمة الأمة والملة وشعور الإخلاص لله تعالى فيها وفي
غيرها، فإن هاتين اللذتين الروحيتين العقليتين أعظم عند أهلهما من جميع اللذات
البدنية والنفسية كالوظائف وجمع الأموال (ومن ذاق عرف) .
إن أتيح للبلاد ملك كفيصل السعودي كانت الملكية خيرًا لها من الجمهورية،
وإن كان لا يتاح لها إلا بعض المفتونين بعظمة السلطة وشهواتها، فالجمهورية أقل
شرًّا؛ لأنه يصدق عليها المثل (نحس متغير خير من نحس مستمر) .
وقد اقترح الكاتب الحر اللوذعي أمين الريحاني على الجمعية التأسيسية أن
تكون حكومتها جمهورية لا دينية، وأن تختار لرياستها فارس بك الخوري من كبار
الوطنيين المسيحيين لتثبت الأكثرية الإسلامية فيها لمن يتهمهم بالتعصب وهضم
حقوق الأقليات براءتها من هذه التهمة، وقد كان هذا الاقتراح غريبًا عند كل
الطوائف مع اتفاق الجميع على أهلية فارس بك لمثل هذه الرياسة؛ ولكن انتخابه
لمثل هذا الغرض يتضمن الاعتراف الرسمي من الجمعية بأن الذين يتهمون
المسلمين هذه التهمة يعتقدون صحتها، وأن المسلمين في حاجة إلى إقامة (شهود
نفي) يدفعونها بها، وإن الشاهد العدل على هذا هو ترك الأمة ما عليه جميع الأمم
من حق الأكثرية الساحقة وإعطاؤه لأقلية إن كانت ضعيفة في عددها وثروتها فهي
قوية بعطف أوربة كلها عليها، فإن النصارى في سورية الحاضرة التى ألفت
الجمعية التأسيسية لوضع حكومتها لا يبلغون 10 في المائة بل قيل: إنهم 5 أو 6
في المائة، وعقلاء المسلمين من أعضاء الجمعية التأسيسية وغيرهم يعلمون أن
الذين يتهمونهم بالتعصب وهضم حقوق غيرهم لا يعتقدون صحة هذه التهمة،
وإنما يحاربونهم بها حتى يضطروهم إلى ترك جميع حقوقهم الملية، ومن أهمها هذا
الحق الثابت في قوانين جميع الأمم، وقد ثبتت براءتهم من هذه التهمة في عهد
استقلالهم القصير فلم يشك أحد من النصارى منهم ما كان يشكو المسلمون ولا
يزالون يشكون من حكومة لبنان.
وقد رد على الريحاني كاتب مسيحي من وجوه أقواها قوله: إذا كان الغرض
ما ذكرت فلماذا قيدته بالأقلية المسيحية وبفارس بك الخوري ولم تتركه على إطلاقه؟
وتقول: أو يذكر فارس بك الخوري من قبيل المثل للاستحقاق؟
وقد نسينا في أول المقال أن نذكر ما نقلته الصحف من ترشيح فرنسة لرجل
من أسرة سلطان المغرب الأقصى لما رأته من طاعتهم لها وكونهم لا علم لهم ولا
إرادة غير ما تريد منهم فذكرناه هنا تتمة للفائدة، ولا يرضى بذلك من أهل البلاد
أحد من الوطنيين المستقلي الفكر كما هو ظاهر بالبداهة.
نعم إن الجمعية التأسيسية لم تقل شيئًا، وإن ما ظهر في جميع أعمالها من
الروية والأناة مبشر بالخير، ونسأل الله تعالى أن يؤيد اجتهادها بالتوفيق والنجاح.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
لجنة يوبيل الرافعي
الأعضاء بحسب حروف الهجاء
الشيخ محمد أفندي الجسر رئيس
…
... الشيخ كاظم أفندي الميقاتي
موسى أفندي نحاس أمين الصندوق
…
لطف الله أفندي خلاط
سابا زريق سكرتير
…
...
…
... مصطفى عادل أفندي الهندي
الشيخ إسماعيل أفندي حافظ
…
... الدكتور ميشال أفندي رحمه
جورجي أفندي يني
…
...
…
... نديم أفندي جسر
الدكتور حسن أفندي رعد
…
...
…
هاشم أفندي ذوق
الدكتور رشاد أفندي حجه
…
...
…
يعقوب أفندي صراف
الشيخ سامي أفندي صادق
…
...
…
يوسف أفندي إسكندر نصر
عبد الحميد أفندي كرامي
اليوبيل الذهبي للشاعر الكبير
عبد الحميد بك الرافعي
درجت الأمم الراقية على تكريم أعلامها النوابغ مظهرة بتكريمها هذا شعورها
بالمجهودات الصادقة التى بذلوها في سبيل نشر أريج نبوغهم والخدم الجلى التى
قدموها لأوطانهم، ومستنهضة للهمم في الوقت نفسه لاقتفاء آثارهم والسير على
مناهجهم، ولما كان حضرة الشاعر الكبير عبد الحميد بك الرافعي ممن رفعوا لواء
الشعر عاليًا في هذه البلاد، وقد مر عليه خمسون عامًا، وهو يبعث للعالم العربي
من شعره الدرر الغوالي فقد رأت طرابلس أن تقدم طاقة من زهر تقديرها لحضرته
اعترافًا بعبقريته الشعرية الممتازة فتألفت لجنة مركزية لتحقيق هذا الغاية، وضرب
الثامن عشر من شهر تشرين الثاني المقبل عام 1928 موعدًا لإقامة يوبيل ذهبي
لحضرته.
فاللجنة تدعو أهل الأدب والفضل في كل قطر ناطق بالضاد إلى مشاركتها في
مشروعها إنهاضًا لكرامة الأدب العربي وتشجيعًا لرجاله على متابعة العمل في سبيل
رفع لوائه، وذلك بتأسيس لجنة في حاضرتكم ومؤازرة المشروع من الوجهتين
المادية والأدبية، أما المؤازرة المادية فمهما قلت فاللجنة تسجل لمرسليها فضلاً،
فالعبرة للعاطفة في مثل هذا التبرع لا للمال، وهذه التقدمات المالية ترسل باسم
أمين صندوق اللجنة لتحوَّل يومًا ما إلى تقدمة واحدة تذكارية تليق بعواطف
المتبرعين.
وأما التقدمة الأدبية نثرًا كانت أم شعرًا فترسل باسم سكرتير اللجنة فتقبلها
اللجنة بملء الارتياح فاتحة لها صدر كتاب اليوبيل الذي سيصدر مع ذكر التقدمات
المادية والأدبية وما أنشد في الحفلة.
وسيظل باب المراسلات مفتوحًا حتى الخامس عشر من تشرين الأول سنة
1928 لا برحتم أنصارًا للأدب العربي الصحيح.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... سكرتير اللجنة
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... سابا زريق
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقريظ المطبوعات الحديثة
(الكويت)
مجلة دينية تاريخية أدبية شهرية صدر الجزء الأول من هذه المجلة في مدينة
الكويت لمحررها الأديب الفاضل الشيخ عبد العزيز الرشيد المعروف من خيرة أدباء
تلك البلاد العربية العزيزة، فألفيناه وقد تناول المواضيع الإصلاحية الدينية بعناية
تنم عن مشربه الحسن في الإصلاح الديني كما أنه ألم برد الشبهات وبحث بحثًا
طريفًا في الآداب والأخلاق وعني بما يسمونه القديم والجديد، وكذلك أفرد بابًا
خاصًّا في الكويت للبحث التاريخي فبدأ الكلام فيه عن نجد وما جاورها لأهمية
الدور الذي لعبته تلك الأقطار في هذا الأيام، وهناك قِطَع مختارة من الشعر العربي
والحِكَم العربية، والمجلة مطبوعة على ورق جيد ومطبوعة طبعًا حسنًا وقيمة
اشتراكها في الكويت تسعة روبيات وفي خارجها 12روبية فنرجو (للكويت) تقدمًا
مضطردًا ورواجًا يليق بهمة وإخلاص منشئها الفاضل.
***
(كتاب الإبهاج في شرح المنهاج)
للشيخ تقي الدين السبكي ومعه نهاية السول في شرح منهاج الأصول، تأليف
الشيخ الإمام جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن الإسنوي على متن منهاج الأصول
تأليف القاضي ناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي، والكتاب ثلاثة أجزاء قام
بطبعه محمود أفندي صبيح صاحب المكتبة المحمودية بميدان الأزهر على ورق
جيد في أكثر من 700 صفحة، وهو من الكتب العظيمة المُعَوَّل عليها في علم
أصول الفقه، وهو مقرر على طلبة العلم بالجامع الأزهر الشريف والمعاهد الدينية
وثمنه خمسون قرش صاغ خلاف أجرة البريد ويطلب من مكتبة المنار وجميع
المكاتب الشهيرة في كل الجهات.
***
(بلوغ المرام من أحكام ذوي الأرحام)
ويليه القول الصائب في تقديم ولد الغاصب تأليف الأستاذ العلامة الشيخ محمد
رحيم من علماء طرابلس الشام وهو كتاب ألم بموضوعه من جميع الوجوه فجاء
وافيًا بالغرض المطلوب منه، وقد قرَّظه رهط من كبار علماء مصر والشام، ثمنه
أربعة قروش مصرية ويباع في مكتبة المنار.
***
(مهاتما غاندي)
وضع العالم الإفرنسي الشهير روس روللان كتابه هذا باللغة الفرنسية فأقبل
عليه الجمهور إقبالاً فائقًا ونقل الكتاب إلى عدة لغات، وقد رأى الأستاذ السيد عمر
فاخوري الأديب البيروتي أن يقدم للأمة العربية هذا المؤلف الجميل فترجمه إلى لغة
الضاد، وقدمته مجلة الكشاف التى تصدر في بيروت هدية لقرائها، وقد وصف
المؤلف غاندي ومبادئه وصفًا شائقًا يستحق الإعجاب، والكتاب يطلب من مؤلفه
الفاضل في بيروت ومن مكاتبها الشهيرة.
***
(سرح الأعين)
كتاب في الأخلاق والعادات لمؤلفه الفاضل الأستاذ علي فؤاد المنوفي مفتش
التعليم الأولي بمجلس مديرية الدقهلية، وهو بحث أخلاقي انتقادي طبع مشكولاً
على ورق جيد ويطلب من المكاتب الشهيرة.
***
(الوهابيون والحجاز أو نجد وحجاز)
نقل الأستاذ العلامة مولانا عبد الرحيم ناظم مكتبة العلوم المشرقية بلاهور
رسالتنا (الوهابيون والحجاز) إلى اللغة الأوردية الهندية، ونشرته مكتبة الهلال
الشهيرة بلاهور، وهو يطلب من مديرها السيد عبد العزيز المحترم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
ترجمة محمد علي الهندي للقرآن
س16من صاحب الإمضاء في سمبس برنيو (جاوه)
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة مولاي الأستاذ العلامة الجليل السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار
الأغر نفعني الله والمسلمين بعلومه آمين.
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، أما بعد فالمرجو من فضلكم وشفقتكم
على الأمة الإسلامية الجواب عن هذا السؤال وهو: هل يجوز العمل بتفسير مولاي
محمد علي الهندي الذي فسَّر به القرآن باللغة الإنكليزية أم لا؟ وقد ترجمه باللغة
الملاوية الحاج عثمان جوكرو أمينوتو (IJokroaminoto) وقد صار النزاع
بين الجاويين في أمر هذا التفسير فأكثرهم اعترضوا عليه، ولكن قال المترجم: إنه
لم ير أحدًا بيَّن خطأ هذا التفسير، ولهذا أرجو أن تبدوا رأيكم فيه، نعم قد علمت
أن مفتي مصر وبيروت لم يأذنا بإدخال هذا التفسير الإنكليزي فيهما، ولكن عدم
إذن المفتيين في ذلك لم يكن كافيًا لإقناع الناس بعدم جواز العمل به، هذا وتفضلوا
بقبول شكري وشكر الأمة سلفًا على جوابكم الشافي المنتظر، ودمتم سالمين وملجأ
للمسترشدين.
…
...
…
...
…
...
…
... محمد بسيوني عمران
(ج) الظاهر أنكم تريدون من العمل بهذا التفسير الاعتماد على ما بيَّن به
معاني التنزيل من أحكام العبادات والمعاملات أو ما هو أعم من ذلك كالاعتماد عليه
في العقائد الدينية، ولا يمكن أن يفتي بهذا إلا من قرأ هذا التفسير أو الترجمة
التفسيرية كلها ورأى أن صاحبها لم يخرج فيها عن شيء من القطعيات التى أجمع
عليها المسلمون أو جرى عليها جمهور السلف الصالح ولم يشذ عن مدلول الألفاظ
العربية فيما ليس بقطعي، والمشهور أن صاحبه محمد علي هذا من القاديانية وأنه
حرَّف بعض الآيات المتعلقة بالمسيح لأجل الاستدلال بها على كون ميرزا غلام
أحمد القادياني هو المسيح المنتظر، هذا هو سبب منع شيخ الأزهر ومفتي بيروت
لإدخال المصحف الشريف المطبوعة معه هذه الترجمة الإنكليزية إلى مصر
وسورية لئلا يضل المسلمون بهذا التحريف، وقد ذكرت هذا في الجزء التاسع
من تفسير المنار، والطائفة القاديانية مارقة من الإسلام تدعي الوحي لمسيحها
الدجال وخلفائه، ولهم في تحريف القرآن مفاسد لم يسبقهم إليها دعاة الباطنية من
زنادقة الفرس وغيرهم، ومنها أنهم يزعمون أن سورة الفاتحة تدل على استمرار
الوحي الإلهي إلى آخر الزمان، وقد رددنا على دجالهم في حياته وبيَّنا ضلالهم بعد
موته مرارًا في مجلدات المنار المتعددة.
وعندي أنه لا ينبغي للمسلمين أن يعتمدوا على هذا الترجمة ولا غيرها في
فهم القرآن والعمل به، وإنما ينتفع بهذه التراجم في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام
ممن لا يعرفون العربية ويعرفون لغة الترجمة، وراجعوا كتابنا (ترجمة القرآن)
في هذا الموضوع فهو يغني عن الإطالة هنا في هذه المسألة.
***
من استباح التزوج بأكثر من أربع
(س17 -20) ومنه أيضًا:
مولاي الأستاذ السيد الأجل فخر الأنام، نفع الله تعالى بوجوده الإسلام.
أرجو من فضلكم الجواب عن هذه الأسئلة وهي:
هل قوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} (النساء: 3) نص على عدم جواز الزيادة على أربع زوجات أم لا؟
وهل يجوز لأحد أن يتزوج بأكثر من أربع نسوة تقليدًا لمن قال بتسع أو
ثماني عشرة امرأة أم لا؟ وما حكم الأولاد الذين هم من النساء الزوائد مع حديث
غيلان، الذي صحَّحه الحاكم وابن حبان، وهو (أمسك أربعًا وفارق سائرهن)
وإذا فعل ذلك أحد من الكبراء (الأمراء والسلاطين) أو غيرهم فهل يجب على
العلماء إنكار فعله عليه بالنصيحة له أم لا؟
هذا والمرجو منكم الجواب، ولكم مني الشكر ومن الله الثواب.
…
...
…
...
…
...
…
... محمد بسيوني عمران
(ج) الآية الكريمة نص على جواز نكاح الأربع بشرطه وعدم الزيادة عليها،
ومن قال: إنها تدل على جواز 18 فهو محرف للنص بجهله باللغة أو بسوء
القصد، وتقليده ممنوع بإجماع أهل الحق من المسلمين؛ ومن فعل ذلك عن جهل
يُعْذَر به فأولاده مما زاد على الرابعة أولاد شبهة، ولا شك في أنه يجب على علماء
المسلمين الإنكار على مَن يخالف هذا الإجماع المستَمَد من نص القرآن المؤيد بالسنة
العملية والأحاديث الصحيحة أميرًا كان أو مأمورًا ملكًا كان أو سوقة فحكم الله واحد
لا يختلف باختلاف المظاهر وغيرها، وإنما يختلف أسلوب إنكار المنكر والأمر
بالمعروف، فيراعى فيه من الحكمة والموعظة الحسنة ما يُرْجَي به القبول.
***
إمامة الجمعة وما يشترط فيها الشافعية
(س20-22) وله أيضًا
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة العلامة الحجة، مولانا الأستاذ السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار
الإسلامي أدامه الله تعالى للأمة إمامًا مصلحًا آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإني أرجو من فضلكم أن تتفضلوا
بالجواب عن الأسئلة التى تتعلق بصلاة الجمعة فلم تزل أفهام الناس تختلف فيها
باختلاف أقوال الفقهاء فيها ألا وهي:
(1)
قال بعض العلماء: يُشْتَرط أن يكون إمام الجمعة ممن سمع الخطبة،
وإن زاد على الأربعين، فهل هذا القول صحيح أم لا؟
(2)
قال في الجمل على شرح المنهج: (فرع) لو خطب شخص وأراد
أن يقدم شخصًا غيره ليصلي بالقوم فشرطه أن يكون ممن سمع الخطبة وينوي
الجمعة إن كان من الأربعين وإلا فلا؛ إذ تجوز صلاة الجمعة خلف مصلي الظهر
اهـ شوبري، فما معنى قوله:(وإلا فلا) فسِّروه لنا، وهل يشترط على الصبي
أو العبد أو المسافر أو مصلي الظهر أن يسمع الخطبة إذا كان إمامًا للجمعة أو لا؟
إذ هم قد قالوا: إن أحد الأربعة يصح أن يكون إمامًا للجمعة، فإني لم أفهم
اشتراطهم على الإمام أن يكون ممن سمع الخطبة، وإن زاد على الأربعين، فإنهم
ليسوا من أهل الجمعة، وإن سمعوا الخطبة فسماعهم لها لم يجعلهم معدودين من
العدد الذي تصح به الجمعة، ومع ذلك تصح إمامتهم، هذا والمرجو منكم الجواب
عن هذه الأسئلة، ولو كانت عند أهل العلم من البديهات، ولكن الجواب عن أمثالها
لا يخلو من حسن الإفادات.
…
...
…
...
…
...
…
... محمد بسيوني عمران
(ج) الحق أن تشديد فقهاء الشافعية في أحكام صلاة الجمعة لا يطاق وهم
يستنبطون من كل استباط أحكامًا، وإن كان الأصل الأول لا يقوم عليه دليل
كاشتراط الأربعين الموصوفين بالصفات المعلومة في انعقاد الجمعة، وإذا كان هذا
غير صحيح؛ لأن الأدلة قامت على خلافه سقط كل ما بُنِيَ عليه مما سألتم عنه هنا
وغيره، والمتبادر من أحكام الإمامة عند جماهير العلماء أن من صحت إمامته لغير
الجمعة صحت إمامته لها، وكل من صلى الجمعة وجب عليه أن ينويها،
والشوبري ليس شارعًا لهذه الأمة ولا إمامًا مجتهدًا فيها، فمن كلَّف نفسه ما لم
يكلفه الله من التعبد بآرائه وآراء أمثاله فحسبه ما يرهق به نفسه في الدنيا، والذي
يجب على كل مسلم حضر الجمعة حيث تقام أن يصلي مع المسلمين كما يصلون،
فإن كان ممن لا تجب عليه كالمسافر ذهبت رخصة السفر بدخوله فيها، وكانت
صلاته كصلاة سائر المسلمين، ولا يجب عليهم أن يعدوا المصلين ويجعلوا لكل نوع
منهم صلاة غير صلاة الآخرين.
***
الماسونية
س 23 من صاحب الإمضاء بتونس:
الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
حضرة الأستاذ رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء، أقدم لجنابكم فائق
احتراماتي وأحييكم تحية مخلص بار مستنهلاً من مواردكم العذبة غيث التحقيق فيما
أرجو أن يخضل به روض تاموري وينعم عندي مرج التحقيق بإسفاركم لي عن
مُحَيَّا الطائفة الماسونية، ومهيع سلوكها، والغاية التى ترمي إليها ومركزيتها في
الكون ومحور دائرة أعمالها وكيفية ارتباط أعضائها وسلم تدرجهم في السعي،
والسبيل الذي يمكن الاطلاع به على كل حقائق هيئتها، وهل في ذلك ضيرعلى
الدين المحمدي، أو مساس بالعقائد حتى أكون ممن نهل ورد التحقيق، ولكم جزيل
الشكر ووافر الامتنان من المخلوقين، وعظيم الأجر من رب العالمين، حرَّره
راجي الإفادة.
…
...
…
...
…
...
…
... محمد الصالح رمضان
(ج) ليس عندي من العلم ما أجيبكم به عن كل هذه الأسئلة وإنما أعلم
بالإجمال أن الجمعية الماسونية قد أسست لأجل هدم الحكومة الدينية البابوية أولاً
وبالذات، ثم هدم كل حكومة دينية وإقامة حكومة لا دينية مقامها، وحيثما تم لهم
ذلك فإن الجمعية تكون رابطة أدبية وصلة تعارف وتعاون بين أهلها المؤلفين من
أهل الملل المختلفة وأكثرهم لا يعرف منها الآن أكثر من ذلك.
والواضعون لأساسها الأول هم اليهود وغرضهم الأساسي منها إعادة ملك
سليمان الديني إلى شعبهم في القدس وإعادة هيكله إلى ما وضع له وهو المسجد
الأقصى، فأعظم كيد لهم وجد في الأرض أنهم هدموا الحكومات المسيحية الدينية
من أوربة غربيها فشرقيها والحكومة الإسلامية التركية والنطرنية الروسية، وبعد
هذا كله ظهرت جمعيتهم الصهيونية تستغل خدمتهم للإنكليز في الحرب بالتوسل بها
إلى إقامة حكومة دينية يهودية في فلسطين وإذا أردتم الاطلاع الواسع على شئون
هذه الجمعية فعليكم بما كتبه فيها أشد خصومها في العالم وهم الجزويت، وليسوا
لديكم بقليل.
***
قراءة العامي للكتب الدينية
(س 24-26) من صاحب الإمضاء ببيروت:
حضرة صاحب الفضل والفضيلة العالم العلامة الأستاذ الجليل السيد محمد
رشيد رضا صاحب مجلة (المنار) الغراء، دام محفوظًا.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإني أرفع لسيادتكم ما يأتي راجيًا
التكرم بالإجابة عليه.
(1)
هل يجوز للعامي الذي لا يعرف نحوًا ولا صرفًا مطلقًا أن يقرأ كتب
تفسير القرآن الكريم والأحاديث القدسية والنبوية وشرحها وتفسيرها والتوحيد والفقه
وغير ذلك، وهو يلحن فيها أم لا؟
(2)
هل يجوز للعامي أن يفتي غيره في المسائل الدينية الإسلامية التي
يعرفها أم لا؟
(3)
أرجوكم أن تبينوا لنا أسماء وأصحاب الكتب الدينية الإسلامية
الصحيحة المعتمدة في العبادات والمعاملات وغير ذلك، فتفضلوا بالجواب، ولكم
الأجر والثواب.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
السائل
…
...
…
...
…
...
…
...
…
عبد القادر البعلبكي
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
ببيروت
أما الجواب عن السؤال الأول فهو أنه يجوز لمن يجهل النحو والصرف قراءة
الكتب الدينية ومطالعتها ولا يضره اللحن فيها، وإنما يشترط عدم اللحن في تلاوة
القرآن، ولكن ليس له أن يلقن الناس شيئًا من الأحاديث إلا إذا ضبطها على أحد
العلماء.
وأما الجواب عن الثاني فهو أنه لا يجوز للعامي أن يفتي غيره بما يفهمه من
المسائل الدينية باجتهاد منه، وأما إذا حفظ مسألة من العلماء وكان على ثقة من
حفظها وفهمها فله أن يذكرها لغيره، وليس لغيره أن يأخذ بما نقله له ويعتمد عليه
في العمل.
وأما الجواب عن الثالث فلا سبيل إليه؛ لأن الكتب الدينية وأصحابها كثيرون
منهم المشهورون المستغنون عن الذكر كمالك والشافعي والبخاري ومسلم، ولكل
أهل مذهب كتب مشهورة يسألون عن المعتمد منها.
وقد ذكرنا في مباحث تفسير قوله تعالى من سورة المائدة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101) أشهر الكتب التى يُعْتَمَدُ
عليها في الأمور الدينية من كتب السنة وشروحها وكتب الأحكام المؤيدة بدلائلها
فتطلب من جزء التفسير الثامن ومن كتاب (يسر الإسلام) الذي صدر حديثًا.
_________
الكاتب: محمد بهجت البيطار
تفسير المنار
تقريظه بمناسبة طبع الجزء الأول منه
للأستاذ العالم العامل، الأديب الخطيب الفاضل
الشيخ محمد بهجة البيطار الدمشقي
سليل بيت البيطار الشهير بالعلم، وهو الآن مدير المعهد العلمي السعودي بمكة المكرمة
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ} (فصلت: 53) .
طلع علينا الجزء الأول من تفسير عالم الإسلام الشهير، الأستاذ السيد محمد
رشيد رضا منشىء المنار المنير، وفي النفس شوق إلى رؤيته يعجز اللسان عن
بيانه، وفي عصرنا الحاضر حاجة إلى ظهوره يقصر القلم عن وصفها، يعرف
قيمة المنار وتفسير المنار من عرف مطالب هذا الزمن المنوعة، ومشاكل المسلمين
الكثيرة، التي أوقعتهم في بحران من الاضطراب العظيم، وسلكت بهم في سبيل
النجاة منه طرائق قددًا.
نهض السيد الجليل بذلك العبء الثقيل، وأخذ يحل عقد المنازع الدينية
الدنيوية المتجددة المعقدة، ويبين لأمته وجه الحق فيها، وطريق الخلاص منها،
مستهديًا بهدي السنة والتنزيل، وهما خير هاد ودليل، مسترشدًا بسنن الوجود التى
لا تبديل فيها ولا تحويل، وإليك أهم ما انفرد به المنار وتفسيره عن غيره، وجعله
وحيدًا في نوعه:
(1)
تصديه لملاحدة العصر الداعين إلى استباحة الأبضاع، الساعين في
تقويض دعائم العمران، وقلب سنن الاجتماع، ونظام الاشتراع، وفي صحفهم
المنشرة المشتهرة، فهذا التفسير يكشف عن مخازيهم وإفكهم، ويرد سهامهم
الخاسرة في نحورهم.
(2)
مقاومته لمهاجمة دعاة التثليث في كتبهم التي لا تنضب مادتها، ولا
يحصى عددها، وما أشد مزاعمهم في الإسلام ومفترياتهم عليه، وحسبك أنه لا تمر
به شبهة منهم إلا ويأتي عليها نقضًا وإبطالاً.
(3)
فتاويه التى تبحث في أدق المسائل الإسلامية، وتحل أعقد المشاكل
الدينية الاجتماعية حلاًّ يفي بحاجة العصر، ويتمشى مع قواعد النصوص الشاملة،
والمصلحة العامة الراجحة، وعالم الإسلام -أيده الله تعالى بروح منه- يذكرنا بما
يلقى إليه من الأسئلة المشكلة من أطراف المعمور، وبما يجيب به عنها بأسلوبه
الحكيم، الصادر عن علمه الراسخ بشيخ الإسلام ومفتي الأنام الإمام ابن تيمية
رضي الله عنه في ذلك كله، على أن مشاكل عصرنا أكثر، وطرق حلها أصعب.
(4)
دعوته إلى التوحيد الخالص، ومذهب السلف الصالح، وتحذيره من
شوائب الشرك والبدع والشكوك، والافتتان بدعاء المخلوق، ومقارعته القبوريين
الذين يغرون الناس بالتهافت على أضرحة الصالحين، وإنزال حوائجهم وطلباتهم
بهم، وتذكيره علماء الأمة ونصحه لهم بأن يرشدوا العامة إلى كل ما هو أهدى
سبيلاً، وأقوى دليلاً، وأجمع لمصالحهم في الآخرة والأولى.
(5)
أنه يثبت أن جميع ما استحدث في هذا العصر من السيارات
والطيارات والغواصات والكهرباء وسائر المخترعات التي تحفظ بها مصالح الأمة
وتحمي حوزتها وتدفع عوادي الشر عنها، وتجعلها قوية البأس، موفورة الكرامة،
هو مقتضى دين الإسلام، ومن تعاليم السنة والقرآن، وأن المسلمين الذين هداهم
الله تعالى في كتابه إلى علوم الأكوان، وسخر لهم ما في السموات وما في الأرض
تسخير تمكين هم أولى بالمسابقة بل السبق في هذا المضمار، (وها هي ذي
الحكومات الإسلامية لا سيما الحكومة السعودية الحجازية النجدية التى تعد أرسخها
تدينًا ومحافظة على هدي السلف قد أخذ جلالة ملكها المعظم يستعمل في مملكته من
وسائل النقل الحديثة ما قرب البعيد، وأدخل البلاد في طور جديد) ألا وإن عمل
خير أمة أخرجت للناس في خير القرون وأفضلها بشهادة الله ورسوله هو حجة
عملية مبطلة لمزاعم الفريق الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وصرح غلاتهم
بمروقهم من الإسلام فرارًا من ضعف المسلمين واستكانتهم! كأن الإسلام هو الذي
أورثهم هذا الحرمان! {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا
نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْناً} (الكهف: 105) نعوذ بالله من الخذلان.
وهو أيضًا حجة على بعض المستذلين المستضعفين من المسلمين الذين مزقهم
الغرب بآلاته الفاتكة المدمرة التي يعادون تعلم صنعتها كل ممزق، ويقولون هي
كلها من علوم الإفرنج، وما هي كلها من علوم الإفرنج، ولكنها من علوم المسلمين
الأولين الذين عملوا بما هداهم إليه كتابهم، فأخذها الأفرنج عنهم، وزادوا فيها
وأضافوا إليها عجائب أخرى، كما عمل سلفنا فيما نقلوه من حضارة من تقدمهم،
وكما هو شأن المتأخر مع من تقدمه، فمن حاجَّنا في ذلك حاججناه بالكتاب والسنة،
وما كان عليه سلف هذه الأمة.
إذًا أليس من الخزي والعار أن يصرح بعض غلاة التفرنج بمفارقة الإسلام
افتتانًا بزخارف مدنية قد أوجب الله عليهم الأخذ بمنافعها من قبل، وعدَّ الإسلام
بعض أعمالها من الفروض، وبعضها من المندوب إلخ، وعمل بها السلف الصالح؟
كلا إنهم جمعوا بين محاسنها ورذائلها معللين ذلك بأن المدنية الغربية لا تتجزأ!
وأنهم من أجل ذلك تركوا دينهم وفضائله! فهل سمعت في الدنيا بعذر أبشع من هذا؟
أوليس من المؤسف المخجل أن يحرم آخرون ممن غزاهم الأجنبي في عقر دارهم
على أنفسهم، وعلى أمتهم ما أوجب الله عليهم وعلى أمتهم تعلمه والعمل به صونًا
لهم عن الوقوع فيما وقعوا فيه، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ومنهم من
ينتظر ظهور المهدي ليقيم الإسلام وينجيهم مما هم فيه، وقد فاتهم أنه إذا ظهر كان
جهاده فيمن يعطل أحكام الشريعة.
(6)
أنه يضيف إلى وجوه إعجاز القرآن، ومعجزات النبي صلى الله عليه
وسلم التى ذكرها سلفنا وجوهًا أخرى لم تكن معروفة من قبل، وانكشفت الآن لدى
المحققين الباحثين في خواص الكون، وتاريخ البشر وسنة الله في الخلق، وقد
حققها القرآن الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه قبلهم بثلاثة عشر
قرنًا، ككون الرياح تلقح الأشجار والثمار، وكون السموات والأرض كانتا مادة
واحدة، وكجعل كل شىء حي من الماء، وجعل النبات مؤلفًا من زوجين اثنين،
والريح هي التى تنقل مادة اللقاح من الذكر إلى الأنثى (راجع تفصيلها من ص
210 ج 1) .
قال السيد المفسر: وفي هذا المعنى عدة آيات أعمها وأغربها وأعجبها قوله
تعالى: {سبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا
يَعْلَمُونَ} (يس: 36) .
ومنه (أي مما حققه القرآن من المسائل العلمية) قوله تعالى: {وَالأَرْضَ
مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ} (الحجر: 19) إن
هذه الآية هي أكبر مثار للعجب بهذا التعبير (موزون) فإن علماء الكون
الأخصائيين في علوم الكيمياء والنبات قد أثبتوا أن العناصر التي يتكون منها النبات
مؤلفة من مقادير معينة في كل نوع من أنواعه بدقة غريبة لا يمكن ضبطها إلا بأدق
الموازين المقدرة من أعشار الغرام والملليغرام، وكذلك نسبة بعضها إلى بعض في
كل نبات، أعني أن التعبير بلفظ (كل) المضاف إلى لفظ (شىء) الذي هو أعم
الألفاظ العربية الموصوف بالموزون هو تحقيق لمسائل علمية فنية لم يكن شيء
منها يخطر ببال بشر قبل هذا العصر، ولا يمكن بيان معناها بالتفصيل إلا
بتصنيف مستقل) (ج1 ص211 تفسير) .
(7)
قال الأستاذ: ومما امتاز به هذا التفسير على جميع كتب التفسير:
بيان سنن الله في الكائنات، وسنته في سير الاجتماع البشري، كقوة الأمم وضعفها،
وسعادتها وشقائها، وعزها وذلها، وسيادتها لنفسها ولغيرها، وسيادة غيرها
عليها واستعبادها إياها، مع تطبيق ذلك على المسلمين في ماضيهم وحاضرهم،
المخرج لهم من ضعفهم الحاضر.
(8)
بيان موافقة تعاليم القرآن وهدايته لمصالح البشر في كل زمان ومكان
وأن شقاء البشر الحاضر العام لأمم الحضارة، وما فيها من فوضى الآداب
والاجتماع لا يزول إلا باتباع هدايته.
أقول: ما أشار إليه الأستاذ من الشقاء الحاضر وفوضى الآداب والاجتماع في
أمم الغرب المتمدينة، تقابله الطمأنينة على الأنفس والأعراض والأموال في جزيرة
العرب المتدينة، وأين هذا من ذاك؟ أين تأثير قوة الإسلام على الوجدان من تأثير
قوة السلاح على الأبدان؟
الإسلام دين عام لجميع الشعوب والأقوام، والقرآن هو الذي هدى من دانوا
به من الأمم إلى كل ما تمتعوا به من صنوف النعم، ولقد كثَّر الله به أهله بعد قلة،
وأعزهم بعد ذلة، وقوَّاهم بعد ضعف، وأظهر على أيديهم تلك المدنية الزاهرة،
التي جددت ما اندرس من المدنيات الغابرة، وأوجدت أصول مخترعات الأمم
المعاصرة.
(9)
بيان أن القرآن الحكيم هو الذي هدى السلف إلى الجمع بين مطالب
الروح والجسد، فهم بعد أن سمت عقولهم بالتوحيد، وزكت نفوسهم بضروب
الأخلاق والعبادات، عنوا أشد العناية بالعلوم والفنون النافعة التي عدها الإسلام من
الفروض كفنون الرياضيات وسنن الكائنات، وإن شئت قلت علم الأرض
والسموات، عملا بقوله جل اسمه:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (البقرة: 29) وقوله عز قائلاً: {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (يونس: 101) وقوله سبحانه: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ
جَمِيعاً مِّنْهُ} (الجاثية: 13) فهذه الآيات الكريمة وأمثالها هي التي أرشدت سلفنا
الصالح إلى ما في السموات من أسرار ومنافع، وما في الأرض من كنوز وذخائر،
فارتقت عقولهم وأفكارهم بالعلوم الإلهية، والفنون الصناعية، ارتقاء سادوا به
الأرض، وساسوا به العالم، سياسة هي في نظر المطلعين على تاريخ الأمم القديمة
والحديثة أفضل مثال للعدل والرحمة.
(10)
تطبيق ما في القرآن من المواعظ والعبر على حال أهل هذا العصر،
والإتيان بالشواهد والأمثال على ذلك، وبيان الفرق بين ماضي المسلمين
وحاضرهم، وحجة القرآن عليهم، ووصف المَخْرَج لهم من جحر الضب الذي
سلكوه باتباع سنن من قبلهم من أهل الكتاب وغيرهم.
وبعدُ فإن تفسير المنار للقرآن، الذي جرى فيه على طريقة شيخه الأستاذ
الإمام غني بشهرته عن الوصف والبيان، فهو كسائر ما يخطه قلم السيد في مجلته
وغيرها منذ أكثر من ثلاثين عامًا تحقيقًا وإبداعًا، ألا وإن خصائص هذا التفسير
لكثيرة، وقد ذكرنا أهمها، وإذا كان شرف العلم تابعًا لشرف الموضوع وتفسيره
العزيز، وحاجة عصرنا إلى مثله، وعدم الاستغناء عنه بغيره، فنسأل الله تعالى أن
يبارك للمسلمين في وقته وعمره، وييسر له التفرغ إلى إتمامه برحمته وفضله.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد بهجة البيطار
_________
الكاتب: سليمان أباظه الأزهري
الجزء الأول من تفسير القرآن الحكيم
تقريظه واقتراح اختصاره أو تلخيصه مع تمني إتمامه
للكاتب البليغ، والعالم الأديب
الأستاذ الشيخ سليمان أباظة الأزهري السلفي
المدرس في بيت الله الحرام
قال من كتاب:
أحمد الله على ظهور هذه النعمة وآمل أن أرى في القريب العاجل تمام هذا
التفسير الجليل، على هذا النسق البديع، الذي يشبع عقل الباحث تغذية وريًّا،
ويجعله عن غيره غنيًّا، كما آمل أن أرى في الأقرب الأعجل خلاصة لهذا التفسير
تكون صالحة لقراءتها درسًا عامًّا تستفيد منه العامة قبل الخاصة، ليسهل على
المعلم تأدية مهمته في تعليم ذلك السواد الأعظم المنتسب إلى الإسلام - وما هو منه
في شيء - دين الله علمًا صحيحًا سهلاً، خلاصة على ذلك الطراز الجميل البديع
الذي كنا معشر تلاميذ السيد نسمعه منه في الدرس الذي تكرم علينا به في داره
بدرب الجماميز، ذلك الطراز السهل على السيد فقط، الممتنع على غيره.
ذلك الطراز البديع الذي كانت المعاني منه تسابق لفظ السيد إلى أذهاننا، فلم
نلبث أن رأينا أنفسنا ورآنا الناس علماء بين عشية وضحاها من الزمان، فكنا
نأسف على إخواننا أولئك الذين حرموا أنفسهم من هذا الكنز الثمين، وأضاعوا
عمرهم في القال والقيل.
ذلك الطراز البديع الذي صدر عن فطرة السيد العالية، واستعداده الشريف فقد
كنا نفاجئه مفاجأة، ولا نترك له فرصة يراجع فيها كلام غيره، أعني لا نمكنه مما
يسمى (الاستعداد للدرس) أو إعداد الدرس حتى لا يتسرب لتلك الفطرة المحمدية
الرشيدية العالية الشريفة شيء يؤثر فيها، فتضيع علينا الفائدة التي نبتغيها منها،
والضالة التي ننشدها، وهي الوصول إلى العلوم الصحيحة، والحقائق العالية من
مواردها الصافية، بذلك النوع الجديد من المدارسة، أو المحاضرة أو المحادثة.
ومن يقدر على تلك الخلاصة غير السيد؟ أليس رب البيت أدرَى بما فيه من
جهة؟ ومن جهة أخرى هل يخفى على السيد أن الله تعالى قد حباه دون غيره بنعمة
عَزَّ إن لم أقل عدم نظيرها، ولا سيما عند علماء هذا الزمان؟
تلك النعمة هي إيداع المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة، مع حكمة التشريع
التي تحبب النفس في العمل، وتقشع عنها ثياب العجز والكسل، عدا عن الإبداع
في الإتيان بالمعاني العالية، بألفاظ وأساليب ممتعة سهلة.
هل يتكرم السيد بهذه الخلاصة لتكون للتفسير بمثابة المجمل، ويكون هو لها
بمثابة المفصل؟ هل يتكرم السيد بهذا في القريب العاجل في حجم لا يزيد عن
مجلدين، كحجم حزأين من التفسير الكبير؟ حبذا لو عجل السيد بها، فإن (خير
البر عاجله) .
وحبذا لو كانت هذه الخلاصة مرتبة متمشية مع المعاني لا مع السور، أعني
ذلك الترتيب الذي قال لي عنه السيد منذ سنين، وهو أن تجمع الآيات في المعنى
الواحد مع ما يناسبها، ومن يستطيع أن يعمل هذا غير السيد؟ أعني: فرز آيات
القرآن الحكيم على هذا النظام الجميل؛ لئلا يحصل الخلل في الجمع لو تولاه غيره.
إني أرى ذلك سهلاً عليه جدًّا لو مسك المصحف في أوقات رياضته، ولا
سيما إذا كانت في الخلوات، حتى إذا تم كرَّ عليه شرحًا وتفسيرًا، أسأل الله أن
يمنع السيد من الشواغل الخاصة والعامة ليقوم بهذا العمل الخطير، الذي ليس له
نظير، إنه سميع مجيب.
_________
الكاتب: محمد زهران
الانتقاد على تفسير المنار
بسم الله الرحمن الرحيم
سيدي الجليل:
السلام عليكم ورحمة الله (وبعد) فقد أدهشني جدًّا وأضاق صدري كثيرًا
جملة جاءت بشرح آية {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} (آل عمران: 21) من تفسيركم للجزء الثالث حاصلها أنه إذا أريد بكلمة حق في
الآية ما يشمل الحق العرفي كما هو مقتضى عموم النكرة في سياق النفي كان قيد
(بغير حق) مخرجًا لقتل نبي بحق كما لو قتل المصريون موسى لقتله القبطي، فإنه
بتقدير أن يكون عرفهم يقضي بقتل القاتل خطأ يكون قتلهم له بحق فلا يعاقبون عليه،
وإنما تذم شريعتهم إذا كانت غير عادلة اهـ.
وهذا مما يقتضي منه العجب لو صدر عن أي مسلم فكيف بصدوره عن
مصلح عظيم، وأستاذ محقق كبير مثل السيد، الحق واحد وهو ما طابق الواقع،
فالحق العرفي أي ما يعد في عرف بعض الأمم حقًّا إن كان مطابقًا للواقع فهو حق،
وإلا فهو باطل، فكيف يجوز قتل نبي لمجرد أن ما تواطأ أهل العرف على اعتباره
حقًّا يقضي بقتله؟ هذا مما لا يستجيزه أحد يؤمن بالأنبياء، ثم بعد فرض أن شريعة
الذين قتل موسى عليه السلام أحدهم تجيز قتله مع نبوته، كيف يتردد في كونها
عادلة أو غير عادلة حتى يصح قولكم: (وإنما تذم شريعتهم إذا كانت غير عادلة) .
العبارة لا مساغ لها في نظرنا بل هي نص في أن قتل النبي قد يكون بحق
وجائزًا، واعتقاد هذا كفر بلا ريب، فإن كان لكم فيها قصد صحيح فتكرموا
بشرحه وافيًا في أول عدد يصدر من المنار؛ إزاحة لهذه الغمة من القراء، ولا
تؤخروا هذا البيان إلى عدد ثان؛ لأنه أهم من كل مهم، وقد رأيت من القراء من
أبرق وأرعد لهذه العبارة الغريبة، ولم أجد ما أهون به عليه أمرها مع شدة حرصي
على مقاومة أعداء المنار، وعكوفي على بث الدعوة إليه في كل فرصة، وإني
أنتهز هذه الفرصة لتقديم أوفى عبارات الاحترام والإجلال لشخصكم الكريم.
(استدراك) : الظاهر أن موسى عليه السلام لم يكن نبيًّا حين قتل القبطي فلو
قتل إذًا لم يصدق على قاتله أنه قتل نبيًّا أصلاً فالتمثيل به لمرادكم لا يصح.
كتب على عجل شديد وفي حال تكاد لا تسمح خط سطر واحد فمعذرة.
…
...
…
...
…
...
…
... 16 المحرم سنة 1347
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... محمد زهران
…
...
…
...
…
...
…
... بالمحمودية بحيرة
(الجواب) : ما قلناه: ليس نصًّا ولا ظاهرًا في أن قتل النبي قد يكون حقًّا،
بل هو نص في أنه لا يكون حقًّا، ولو على سبيل العرف والاصطلاح، وإنما
أوتيتم من ضعف اللغة العربية، والعبرة في كل قول بمقصده الذي يقرره السياق،
فلا يصح أخذ مفرد أو جملة منه، واستنباط معنى منها ينافيه ما سيق الكلام لأجله
وإلا لأمكن أن يقال: إن تقييد القرآن ذم اليهود بكون قتلهم الأنبياء بغير حق يدل
بمفهومه على أن قتلهم قد يكون بحق في نفس الأمر، ولكن الذي وقع منهم وذموا
عليه كان قتلاً بغير حق، وهل يقول هذا أحد يفهم هذه اللغة بناء على أن مقدم القيد
كثيرًا ما يكون مقصودًا، وإلا كان القيد لغوًا.
وهذا نص عبارتنا: وقوله تعالى: {بِغَيْرِ الحَقِّ} (الأعراف: 33) بيان
للواقع بما يقرر بشاعته وانقطاع عرق العذر دونه، وإلا فإن قتل النبيين لا يكون
بحق مطلقًا كما يقول المفسرون، وأقول: إن هذا القيد يقرر لنا أن العبرة في ذم
الشىء ومدحه تدور مع الحق وجودًا وعدمًا لا مع الأشخاص والأصناف، وإذا قلنا:
إن كلمة (حق) المنفية هنا تشمل الحق العرفي بقاعدة أن النكرة في سياق النفي
تفيد العموم يدخل في ذلك مثل قتل موسى عليه السلام للمصري، وإن لم يكن
متعمدًا لقتله، فإذا كانت الشريعة المصرية تقضي بقتل مثله وقتلوه يكون قتله حقًّا
في عرفهم لا يذمون عليه، وإنما تذم شريعتهم إذا كانت غير عادلة، واليهود لم
يكن لهم حق ما في قتل من قتلوا من النبيين لا حقيقةً ولا عرفًا اهـ.
هذه الجملة الأخيرة هي النتيجة المقصودة من السياق كله وهو أن مقتضى
بلاغة القرآن في التعريف والتنكير أن تنكير كلمة حق هنا تدل على أن أولئك
اليهود الذين كانوا يقتلون النبيين لم يكن لهم أدنى شبهة من الحق على قتلهم حتى ما
قد يسميه بعض الناس حقًّا في عرف يصطلحون عليه، وإن لم يكن حقًّا في الواقع
ونفس الأمر، هذا وقد صرَّحنا قبل ذلك بما قاله المفسرون كافة من أن قتل النبيين
لا يكون بحق مطلقًا.
فإذا كان هذا هو المقصود من السياق كله، فكيف فهمتم من تصوير ما يُعَدَّ
حقًّا عرفيًّا أنه نص في أن قتل الأنبياء قد يكون حقًّا؟ وهل هذا إلا قلب للموضوع
وإبطال للنص الصريح المقصود بالذات من العبارة مع التصريح به قبلها؟
على أن تمثيلنا لمسألة القتل والعقاب عليه بمقتضى شريعة عرفية بقتل
(موسى) للمصري لو عاقبوه عليه بالقتل بحسب شريعتهم لا يدل أيضًا على ما
فهمتم من تجويز كون قتل الأنبياء يكون بحق، فإن التمثيل ليس فيه ذكر الأنبياء
وموسى عليه السلام لم يكن نبيًّا عندما قتل المصري، وهو عَلَم شخص مفهومه
جزئي، والنبي اسم جنس ومفهومه كلي، فأي منطق أباح لكم أن تجعلوا القضية
الجزئية الشخصية قضية كلية؟
ومن العجيب قولكم في ذيل الانتقاد وقد تذكرتم أن موسى لم يكن نبيًّا: إن
التمثيل به لمرادنا لا يصح! إنه ليس لنا مراد من التمثيل إلا تصوير ما يسمى حقًّا
عرفيًّا، وأنه لم يكن مما يمكن أن يستند إليه قتلة الأنبياء من اليهود فصح أنه لم
يكن لهم أدنى عذر أو شبهة، هذا مرادنا لا مراد لنا غيره، ولكن حكمتم علينا
بسوء الفهم لا القصد، إن مرادنا التمثيل لقتل الأنبياء وهو ما ينافيه سابق الكلام
ولاحقه.
هذا وإن الواقع أن موسى عليه السلام قتل رجلاً مصريًّا بغير حق، ولكن
كان ذلك قبل نبوته ورسالته، وقد سمى هو ذلك ذنبًا بقوله في خطاب ربه: {وَلَهُمْ
عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} (الشعراء: 14) واعترف لفرعون بأنه فعل ذلك
وهو من الضالين، وأن الله مَنَّ عليه بعد ذلك وجعله من المرسلين، كما ترى في
أول سورة الشعراء، وكان أول ما أوحى الله تعالى إليه أن ذكَّره فيما ذكره به من
ماضيه أنه قتل نفسًا وأنه تعالى نجَّاه من الغم وفَتَنَه بعد ذلك فُتُونًا، أي محَّصَه
وطهَّره ثم جعله رسولاً كما ترى في أوائل سورة طه.
والظاهر من خوفه أن يقتلوه أنه كان من شريعتهم قتل القاتل وإن كان قتله
بوكز اليد كما فعل عليه السلام، وفي التوراة يقتل المرء بذنوب دون ذلك منها أنَّ
مَن سبَّ أباه أو أمه يقتل، فلو ظفرت حكومة فرعون به قبل أن يفر وقتلته ألا يعد
قتلها إياه حقًّا في شريعتها؟ وهل تسميته حقًّا في عرفها يدل على أن قتل الأنبياء
عليهم السلام يكون حقًّا مطلقًا أو مقيدًا؟
سبحان الله! إن القاتل المقتول في واقعة الحال غير نبي، وهب أنه نبي،
ولم يقتل لأجل نبوته، فهل يصح الاستدلال بقتله على أن الشريعة التى حكم بها
عليه تبيح قتل الأنبياء - والتعبير بقتل الأنبياء يفيد أن نبوتهم هي السبب المبيح
للقتل؛ لأن ترتيب الحكم على المشتق يؤذن بالعلة كما قالوه في قوله تعالى:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (المائدة: 38) وقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي
فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا} (النور: 2) الآية، وإذا كان الاستدلال على كون
الشريعة تبيح ذلك غير صحيح أفلا يكون من حكى الواقعة أحق بأن لا يعد مبيحًا
لذلك؟
وجملة القول أننا قد صرحنا في تفسير الآية أن قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير
حق كما يقول المفسرون كافة، وكما قلنا نحن أيضا في تفسير آية البقرة {وَيَقْتُلُونَ
النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ} (البقرة: 61) وفي غيرها، وأننا قد زدنا على هذا بأن
استنبطنا من تنكير (حق) في سياق النفي بأنه ليس لقاتليهم حق ما ولا شبهة حق
بأن يكون حقًّا عرفيًّا لا حقيقيًّا مطابقًا للواقع، فكيف تقول بعد هذا: إن ما ذكرناه
في تصوير الحق العرفي يدل على أننا نجوز أن يكون قتل الأنبياء حقًّا وأنه نص
في ذلك؟
إن من مدهشات العجائب أن يخطر هذا في بال أحد يفهم اللغة العربية، ولو
كانت العبارة توهم هذا وهمًا يخطر في البال مع وجود ما ينافيه فيها لما عدمنا،
وقد مضى على نشر تفسير الآية في المنار وفي التفسير ربع قرن من ينتقد علينا
هذا الإيهام ويوجب علينا رفعه بنص صريح، وفي الناس من ينظرون إلى هفواتنا
بالمناظير المكبرة، ولكن وجد في أصدقائنا من فهم ما فهم، وهو من أهل العلم
واللغة، فنستغفر الله لنا وله.
كتبت هذا وأنا مصاب بالحمى ومنهي عن الكتابة وأسأل الله العافية.
_________
الكاتب: مصطفى نور الدين
قُرْب الله تعالى من عباده
من مصطفى نور الدين، إلى إمام المصلحين، وملجأ المسترشدين، السيد
محمد رشيد رضا متعه الله بالصحة والعافية ونفعنا بعلومه آمين.
السلام عليكم ورحمة الله، أما بعد فقد قرأت في الجزء الثاني من تفسير المنار
لقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} (البقرة: 186) هذه العبارة،
وهي في آخر سطر من الصفحة 178: وقال الأستاذ الإمام: يصح أن يكون من
قرب الوجود، فإن الذي لا يتحيز ولا يتحدد تكون نسب الأمكنة وما فيها إليه واحدة
فهو تعالى قريب بذاته من كل شيء؛ إذ منه كل شيء إيجادًا وإمدادًا وإليه المصير،
وهذا الذي قاله من الحقائق العالية وعليه السادة الصوفية، فقد قال أحد العلماء في
قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} (الواقعة: 85) أي إذا بلغت روحه
الحلقوم: إن القرب بالعلم وكان أحد كبار الصوفية حاضرًا فقال: لو كان هذا هو
المراد لقال تعالى في تتمة الآية: (ولكن لا تعلمون) ولكنه لم ينف العلم عنهم،
وإنما قال: {وَلَكِن لَاّ تُبْصِرُونَ} (الواقعة: 85) وليس شأن العلم أن يبصر
فينفي عنا إبصاره وإنما ذلك شأن الذات اهـ بالمعنى.
لما قرأت هذه العبارة ووجدتها مصرحة بأن الله قريب بذاته من كل شيء من
مخلوقاته ومخالفة لما ذهب إليه السلف من أن الله مستو بذاته على عرشه بائن من
خلقه مع قربه منهم بعلمه عجبت لإقراركم بل استحسانكم لمضمونها، وإنما عجبت
لأني أعلم أنكم من أحرص الناس على اتباع السلف في هذه المسألة وهي كثيرة
ومستفيضة شهيرة من الكتاب والسنة وكلام الصحابة والتابعين ومن بعدهم خصوصًا
ما جاء من ذلك في كتب ابن تيمية وابن القيم، وكتاب العلو للذهبي. ومن تأمل
الآية التي في سورة الحديد تجلى له بأجلى بيان أن مذهب السلف في هذه المسألة
هو الصواب (وههنا ذكر المنتقد الآية وتكلم في تفسيرها وحديث: (اللهم أنت
الأول فليس قبلك شيء) وتفسيره ثم قال:
وأما الاستدلال بقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَاّ تُبْصِرُونَ} (الواقعة: 85) على أنه تعالى قريب بذاته من مخلوقاته فهو استدلال باطل؛ لأنه
مبني على معنًى مخالف لما عليه جمهور المفسرين، فإن بعضهم فسَّر القرب بقرب
الله من المحتضر بالعلم، وفسَّر تبصرون بمعنى الإبصار بالبصيرة وهذه عبارة
الجلال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} (الواقعة: 85) بالعلم {وَلَكِن لَاّ تُبْصِرُونَ} (الواقعة: 85) من البصيرة أي لا تعلمون ذلك اهـ.
وبعض المفسرين وهم الأكثر فسَّر القرب بقرب الملائكة من المحتضر،
وفسَّر تبصرون من الإبصار بالبصيرة، ومن ذلك تعلم أن الاستدلال بهذه الآية على
أنه تعالى قريب بذاته من مخلوقاته استدلال فاسد؛ لأنه لم يسلك قائل هذا القول أحد
التفسيرين بل لفق بينهما ففسد المعنى، ثم لا غرابة ولا بُعْدَ في هذا التفسير الثاني
من حيث إسناد قرب الملائكة إلى الله فقد عهد له نظير في القرآن فقد قال تعالى:
{اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} (الزمر: 42) مع إسناد التوفي إلى الملائكة
في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} (الأنعام: 61) وفي
قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ} (السجدة: 11) وأمثال ذلك في القرآن
كثيرة لمن تأمل.
والخلاصة أن المقصود من كتابتي بهذا لفضيلتكم هو أني أرجو إفادتي بما
يزيل عجبي، ولكم مني الشكر، ومن الله جزيل الأجر.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
مصطفى نور الدين
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
بدمياط
(المنار)
أقول: (أولاً) إن قرب الوجود بالمعنى الذي فسره به الأستاذ الإمام رحمه
الله تعالى أقرب إلى مذهب السلف في علوه على خلقه مع مباينته لهم، وهو قوله:
إن نسبة الأمكنة وجميع ما فيها إليه واحدة، ففيها رد لقول من يقول: إن الله تعالى
في كل مكان من أهل الحلول الذين عني علماء السلف كل العناية بالرد عليهم بقوله:
إنه تعالى فوق عباده بائن من خلقه، وأما عبارة ذلك الصوفي فليست كعبارة
الأستاذ، فما ذكرناه من التقريب بينهما هنالك احتمال رجَّحه عندنا تحسين الظن
بقائله ولا يمنع منه إلا العلم بأنه حلولي، فإن منهم الحلوليين كما أن منهم المحدثين
الأثريين كشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي الأنصاري على ما في كتابه منازل
السائرين من عبارات منتقدة وكالشيخ عبد القادر الجيلاني رحمهما الله تعالى وهما
من مثبتي صفة العلو ومنكري تأويل الصفات، وستأتي تتمة لمعنى قرب الوجود
في آخر هذا الرد.
(وثانيًا) إن قول المنتقد بذهاب السلف إلى أن الله تعالى (مستو بذاته على
عرشه) خطأ وإن نقل ذلك عن بعض الأثريين من أهل القرن الثالث والرابع، وما
كل ما قاله عالم معدود من جماعة يُعَدُّ مذهبًا لهم، وإسناد الاستواء إلى الذات لم يرد
في كتاب الله ولا في حديث متواتر ولا آحادي صحيح مرفوع إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ولا نقل عن جماعة الصحابة ولا عن واحد منهم، ولا علماء
التابعين على أن العمدة على العقائد نصوص الكتاب العزيز والسنة الصحيحة
القطعية الدلالة أو إجماع أهل الصدر الأول، ومن الخطأ الذي فتن به جميع
المنتمين إلى المذاهب حتى مذهب السلف الذي ليس مذهب شخص معين أن يأخذ
المقلدون له قول كل عالم منسوب إليه ويعدونه من أصول المذهب المسلمة أو
أحكامه المتبعة، ويعدون مخالفه مخالفًا للمذهب.
نقل الحافظ الذهبي في كتاب العلو عن ابن أبي زيد شيخ المالكية في عصره
أنه قال في رسالته المشهورة في مذهب مالك: وإنه تعالى فوق عرشه المجيد بذاته،
وأنه في كل مكان بعلمه اهـ ، وقفَّى الحافظ على هذا بذكر من نقل عنهم مثل
هذا القول قبله وبعده باللفظ أو المعنى كقول بعض العلماء: (والله تعالى خالق كل
شيء بذاته ومدبر الخلائق بذاته بلا معين ولا مؤازر) مع أن هذا على ما فيه ليس
بمعنى ذاك، ثم قال الحافظ متأولاً له ولهم؛ لأنهم من طائفته الأثرية ومنتقدًا ما
نصه:
وإنما أراد ابن زيد وغيره التفرقة بين كونه تعالى معنا وبين كونه تعالى فوق
العرش فهو كما قال: ومعنا بالعلم وإنه على العرش كما أعلمنا حيث يقول:
{الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) وقد تلفظ بالكلمة المذكورة (أي فوق
عرشه بذاته) جماعة من العلماء كما قدَّمناه، وبلا ريب أن فضول الكلام تركه من
حسن الإسلام.
إلى أن قال بعد ذكر تاريخ وفاته سنة 386: وقد نقموا عليه قوله بذاته فليته
تركها اهـ ، وهذا وما قبله من الانتقاد الأدبي الصريح لهذه الكلمة غير المأثورة
أي المبتدعة التى جعلها أخونا المنتقد أصلاً من أصول مذهب السلف من الصحابة
فمن دونهم.
وأزيد على هذا أن قول ابن أبي زيد رحمه الله تعالى: (وإنه في كل مكان
بعلمه) منتقد أيضًا، وإن أراد به التعبير عن تأويل بعض أئمة الحديث كأحمد بن
حنبل لآيات المعية بحملها كلها على معية العلم، والرد على الحلوليين بما هو أشبه
بتأويل قولهم بما يصححه منه بإبطاله -ذلك بأن جملة (وهو في كل مكان) هي
عين ما يقولون والضمير فيها لذات الله عز وجل. فقوله بعده (بعلمه) لا ينافي
دلالة الجملة على كونه في كل مكان بذاته؛ لأن المتبادر أن الظرف فيها متعلق
بمحذوف تقديره متلبسًا أو متصفًا بعلمه- وهذا الوصف الواقع فضلة في الكلام لا
ينقض معنى ما هو العمدة فيه ولا يقيده بجعله بمعنى قول آخرين من علماء السلف:
وعلمه في كل مكان، فإن صفة الذات كالعلم لا توجد إلا حيث توجد الذات أي لا
توجد إلا بوجودها لاستحالة انفصالها عنه، وإنما الذي يصح أن يقال: إنه تعالى
فوق عباده مُسْتَوٍ على العرش، ويعلم كل شيء من أمور خلقه كما قال تعالى: {ثُمَّ
اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ} (الحديد: 4) إلخ.
(وثالثًا) قال المنتقد: إن الاستدلال بقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ
وَلَكِن لَاّ تُبْصِرُونَ} (الواقعة: 85) على قرب الذات باطل (لأنه مبني على
معنى مخالف لما عليه جمهور المفسرين) ونحن نقول بصرف النظر عن أصل
المسألة: إن هذا تعليل للبطلان لا يقبله أحد من أهل العلم؛ لأنه نص في أن كل ما
خالف ما عليه جمهور المفسرين باطل، وهذا باطل بالبداهة ولم يوجد عالم من
المفسرين ولا من غيرهم قال: إن قول الجمهور منهم أو من غيرهم قطعي
كنصوص الكتاب والسنة فيكون كل ما خالفه باطلاً.
ثم بيَّن أن للجمهور قولين أحدهما تفسير (تبصرون) بأنه من البصيرة أي
العلم، وذكر عبارة الجلال فيه، وثانيهما فسَّر القرب بقرب الملائكة من المحتضر،
وبأن تبصرون من الإبصار بالبصيرة، وعزا هذا القول للأكثر فيكون هو قول
الجمهور عنده، ونحن لا نعرف عن مفسري السلف رواية في ذلك، وإنما هو قول
مصنفي التفسير، وقد يقال: إن قوله تعالى قبل الآية: {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} (آل
عمران: 143) دليل على أن الإبصار المنفي هو إدراك البصر لا البصيرة وأن
البصيرة ليست مرادفة للعلم، وإنما تدل على العلم المؤيد بالدليل أو اليقين في
المعرفة أو ما فيه عظة واعتبار، وتفسير ضمير الذات من الله عز وجل وهو
(نحن) بالملائكة تأويل بعيد من اللفظ جدًّا، وهو عين التأويل الذي ينكره السلف
على المبتدعة.
ولكن المنتقد قرب هذا التأويل بقوله: إنه عهد له نظير في القرآن، وهو
قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} (الزمر: 42) مع إسناد التوفي
إلى الملائكة في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} (الأنعام: 61) وفي قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} (السجدة: 11) قال: وأمثال ذلك في القرآن كثيرة لمن تأمل.
وهذا التأويل الذي ذكره لآية توفي الله للأنفس لا يجري على طريقة السلف
ولا الخلف فتوفي الله للأنفس غير محال عقلاً ولا شرعًا، فتأوله بجعل لفظ الجلالة
فيه بمعنى الملائكة! فالله تعالى هو الفاعل للتوفي، ولكل شىء من تدبير الكون،
وقد أسند التوفي إليه في آيات كثيرة لم يقل أحد من السلف ولا من الخلف فيما نعلم:
إنه أراد بها إسنادها إلى الملائكة، نعم إنه أسند التوفي أيضًا إلى ملائكته وإلى
رسله، أي من الملائكة في آيات أقل من الآيات التى أسنده فيها إلى ذاته خبرًا
ودعاء، وأسنده في آية أخرى إلى ملك واحد {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ
بِكُمْ} (السجدة: 11) والجامع بين هذه الآيات كلها أن المتوفي الحقيقي للأنفس
والأرواح هو الله تعالى، وأنه وكل بذلك ملكًا له أعوان من الملائكة يتولون تنفيذ
أمره تعالى، وذلك الملك هو الرئيس لهم كما ورد في التفسير المأثور، وذكرناه في
محله من تفسيرنا.
ولو تفكر أخونا قليلاً في هذا المسألة التى توهم أن ما قاله فيها ضروري لا
خلاف فيه، وتأمل بقية آية الزمر، ثم تذكر ما في معناها من الآيات لما تعجل
بكتابة ما كتبه ليخطئ به غيره في فهم كلمة من آية.
قال تعالى: {فَيُمْسِكُ الَتِي قَضَى عَلَيْهَا المَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ
مُّسْمًّى} (الزمر: 42) فهل يتجرأ على القول بأن الملائكة هي التي تفعل ذلك؟
وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} (الأنعام: 60) فهل يقول بجواز إسناد هذا إلى الملائكة، وإن كان بصفة
الحصر، ومع ما عطف عليه من العلم أم يفرق بين ضميري الفعلين فيجعل الأول
للملائكة والثاني لله؟
وقال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ} (النحل: 70) فهل يفرق بين ضميري
الفعلين، فيجعل الأول لله والثاني المعطوف عليه للملائكة؟
وقد علمنا تعالى أن ندعوه بقولنا: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} (آل عمران:
193) وقوله: {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} (الأعراف: 126) فهل يجوز أن يكون
الخطاب في هذا الدعاء للملائكة؟
إنني أطلت في هذا وفيما قبله لأذكر أخي في الله المنتقد لأجل الاستزادة من
العلم بأن لا يتجرأ بعد الآن على التخطئة والتصويب والترجيح والتجريح في تفسير
كلام الله بغير تدقيق وتحقيق وطول بحث وكثرة مراجعة.
إنه خطَّأ ذلك الصوفي وشيخنا في تفسير آية واحدة سلكا في تفسيرها مسلك
السلف من حيث الأخذ بالظاهر وعدم التأويل فإن الله تعالى أسند (أقرب) إلى
ضمير الذات (نحن) فمعناه أنه قريب بذاته، ووجهه على مذهب السلف أن يقال:
إنه قريب بذاته كما يليق به لا كقرب الأجسام بعضها من بعض، وهو قرب المسافة
التى تحدد بالذراع والباع معا كما يقولون: إنه استوى على العرش، وينزل إلى
سماء الدنيا، ويضحك، ويسمع، ويرى كما يليق به، لا كما هو المعهود من
المخلوقين، والمتأولون للآية إنما تأولوها كما تأولوا الاستواء على العرش والنزول
إلى سماء الدنيا، وغير ذلك من الصفات والأفعال؛ لزعمهم أن إسنادها إلى الذات
يوهم الحلول والتحيز كما قالوا في سائر الصفات.
وهذا سبب تأويل علماء السلف لآيات المعية كلها حتى قالوا: إن الإمام أحمد
لم يتأول غيرها، وانتقد عليه ذلك بعض العلماء السلفيين، وإنه لم يكن في حاجة
إلى ذلك كما تراه في رسالة العلامة الشوكاني، وإنما كان سبب هذا التأويل منه
ومن غيره وجود طائفة من المبتدعة تقول: إن الله تعالى حالٌّ في العالم كحلول
السمن في اللبن، والروح في البدن، وطائفة تقول: إنه هو عين العالم، وهذا
نقضٌ لما كان عليه السلف من الإيمان بأنه تعالى فوق جميع خلقه بائن منهم، ولكنه
على كل حال تأويل يحمل اللفظ على غير ظاهره ليوافق العقيدة، وهذا ما جرى
عليه المتكلمون كافة في تأويلهم، ولا سيما الأشعرية الذين يخطئهم السلفيون أهل
الأثر.
وأنا حملت كلام الأستاذ الإمام على مذهب السلف؛ لأنني أعلم أنه كان سلفي
العقيدة كما صرَّح به قولا وكتابة، على أنني ذكرت في التفسير أنه كان يسبق إلى
فهمه في بعض الصفات ما جرى عليه مفسرو الأشعرية من التأويل لما كان من
توغله في علم الكلام ، وليس حملي هذا بتكلف بل هو مراده قطعًا، وحملت عليه
كلام ذلك الصوفي في تفسير آية (الواقعة) أيضًا؛ لأنه مع احتمال عبارته له لا
يصح أن يحمل على مذهب الحلول إلا إذا علم أن قائله كان حلوليًّا، وأنَّى لنا بذلك؟
وإذا أنت رجعت إلى ما ورد في سبب نزول الآية التى نحن بصدد الكلام
عليه رأيت أن بعض الصحابة رضي الله عنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أين
ربنا، وفي رواية أن بعضهم سأله:(أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه) ؟
فنزلت الآية في ذلك.
ومن المعلوم بالضرورة أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يجهلون أن الله
تعالى يسمع كل دعاء ويعلم مراد كل داع، وإنما سألوا أيسمع عن قُرْب أم عن بُعْد؟
فأجابهم تعالى بأنه قريب وبيَّن لهم رسوله ذلك بأنه أقرب إلى أحدهم من عنق
راحلته، وأبلغ منه قوله تعالى:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} (ق: 16) وأصح من تلك الروايات ما رواه الشيخان من قوله صلى الله عليه
وسلم للصحابة لما رفعوا أصواتهم بالتكبير: (أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون
أصم ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا بصيرًا قريبًا) فقوله:(قريبًا) ليس من اللغو
ولا هو بمعنى عليم، وما أول الآية به الزمخشري مفسر المعتزلة أقرب إلى اللغة من
تأويل القرب بالعلم، وهو أنها تمثيل لحاله في سهولة إجابة من دعاه وسرعة إنجاحه
لحالة من سأله بمن قرب مكانه، فإذا دعي أسرعت تلبيته، والغرض من التأويلين
نفي قرب المكان، فكيف نرده؛ لأنه تأويل أخرج به اللفظ عن حقيقته وجعله استعارة
تمثيلية؟ والاستعارات التمثيلية كثيرة في القرآن، وهي من أكبر آيات بلاغته، وقد
صرَّح الكرخي في تفسير القرب على مذهب السلف فقال: الحق أن القرب من
الصفات نُؤْمِن به ونُمِرُّهُ على ما جاء ولا نُأَوِّل ولا نُعَطِّل اهـ.
ومما ورد في القرب ولا يصح جعله بمعنى العلم قوله تعالى لخاتم رسله:
{قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ
قَرِيبٌ} (سبأ: 50) وقوله: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ
مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ
إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} (هود: 61) .
وخلاصة ما تقدم أن الأصل في مذهب السلف فيما وصف الله به نفسه ما
أسنده إلى ذاته من الأفعال أن نؤمن بها كما وردت ونفسرها بما تدل عليه عبارتها
العربية من غير تأويل ولا تعطيل مع مراعاة تنزيهه تعالى عما قد يوهمه اللفظ في
نفسه من تشبيه بخلقه، ومن فهم مع التمسك بهذه القاعدة من كلام الله تعالى في
بعض الآيات فهما يزداد به هو وغيره إيمانًا بالله وعلمًا كان ممن قال فيهم أمير
المؤمنين علي كرم الله وجهه لما سأله أبو جحيفة هل خصكم رسول الله صلى الله
عليه وسلم بشيء من العلم فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهمًا يؤتيه الله
عبدًا في القرآن إلخ، فيراجع نصه في صحيح البخاري.
بعد هذا أختم هذا البحث بأن قرب الله من عباده لا يفهمه حق فهمه كمعيته إلا
بتذكر آيات آخرى كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا} (فاطر: 41) وقوله: {وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ} (البروج: 20) وقوله:
{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} (الأنفال: 17) وقوله: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} (المؤمنون: 88) إلخ وتذكر العقيدة الإسلامية المتفق عليها بدلالة أمثال هذه
الآيات، وما في معناها من الأحاديث، وهي أن الإيجاد والإمداد للعالم كله كليهما
بيد الله تعالى لا تستغني ذرة من الكون عنه تعالى طرفة عين، فمن كان هذا شأنه
كان قريبًا من كل شيء علمًا وقدرة وتدبيرًا وتصرفًا، ومنه إجابة الدعاء، والنصر
على الأعداء، وتقليب القلوب والأبصار إلخ، وتصرفه في كل ذلك كما قال:
{وَمَا أَمْرُنَا إِلَاّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} (القمر: 50) فكل هذا المعاني تدخل في باب
قربه من خلقه، وهي تتعلق بعدة من صفاته، فإذا هو أسند القرب إلى ذاته أمررناه
كما هو مع التنزيه من تأويل ينافي الإسناد إلى الذات، ولا تعطيل يجعله كاللغو بل
نعطي كل مقام من المعنى ما يليق به من علم وتصرف وغير ذلك، والله أعلم.
_________
الكاتب: جميل الرافعي
الأكثرية والأقلية
أو المسلمون والقبط
تعود اليوم هذه المسألة الخطيرة الشأن إلى الظهور مرة أخرى على صفحات
الجرائد اليومية وغير اليومية، بعد أن اتفق عقلاء الأمة في إبان الحركة القومية
عام 1919على دفنها في روايات النسيان واعتبار الخوض فيها لا يتفق مع مصلحة
الوطن في شيء، وناهيك بأن الدولة المحتلة ترى في إثارة هذه المسألة وأمثالها
ذرائع تتذرع بها للوصول إلى مآربها الاستعمارية في المسألة المصرية حتى إنها
وضعتها في القسم الثاني من التحفظات التى حملها تصريح 28 فبراير المشهور.
لكن رغبة العقلاء من أبناء الأمة لا تستطيع أن توقف الطغيان الاجتماعي
الذي برزت آثاره ماثلة في كل مرافق الحياة، وليس في مقدور أحد أن يقاوم
الطبيعة ولو إلى حين، من أجل ذلك عادت هذه المسألة فأصبحت حديث الناس
وموضع شكوى المتذمرين والمستائين.
نحن في مقدمة المعجبين بنشاط إخواننا الأقباط وتضامنهم بل تفانيهم في
الحرص على مصلحتهم الطائفية التى أصبحت خدمتها مدعاة الفخار لكثير منهم.
لكن هذا الإعجاب الذي نضمره لإخواننا القبط لا يصادف على الدوام ارتياح
جمهور إخواننا المسلمين الذين يشاهدون أن إخوانهم بفضل وسائل السعي والتكافل
قد قبضوا على نواحي الأعمال المهمة في دوائر الحكومة والشركات، وهي تكاد
تكون أهم مصادر العيش للمتعلمين والأميين.
ماذا نقول للشاب المسلم الذي يحمل أعلى الشهادات إذا قرع باب مجلس
النواب مثلا فرفض طلبه وهو يرى أن رؤساء فروع الأعمال سواء كانت كتابية أو
فنية أو غير ذلك جميعها في أيدي الأقباط ومعظمهم لا يتمتع بالشهادة التي يتمتع بها
هذا المسلم؟ لا جدال في أن هذا الذي رفض طلبه يقول: إن هذا التضامن لم يكن
لتحسين أحوال الطائفة القطبية فقط، بل لغمط حقوق المسلمين، وإذا عرفت أن
63 في المائة من عمال الترامواي الوطنيين أقباط، والباقي من المسلمين وبعض
الغرباء لقلت مع ذلك العامل الذي زاحمه قبطي بتوصية من فخري بك عبد النور
مثلا: إن هذا التضامن متجه كله لغمط حقوق الأكثرية.
نعم إن الحياة تزاحم ولا يفوز فيها إلا الجسور المزاحم وإلا حقت عليه سنة
تنازع البقاء، ولكن ما العمل إذا كانت الأكثرية في غفلة عن التضامن والأقلية
تتضامن للحياة فتنتزع حقوق الأكثرية؟ عند ذلك لا بد من التذمر والشكوى الذين
تراهما اليوم قد أوشك أن يرتفع الصوت الصاخب فيها، وتشق الوحدة التي جاهدنا
كثيرًا للحصول عليها فتكون النتيجة في مصلحة المحتل.
كان إخواننا الترك في عهد الدولة العثمانية المرحومة لا يسمحون لأبناء
العرب سواء كانوا سوريين أو عراقيين أو غيرهم أن يطالبوا بأدنى حق من حقوقهم
في الدولة بحجة أن هذه المطالبة باسم العرب معناها التفرقة بين الترك والعرب،
وفي هذا ما فيه من الدمار لقضية الوطن، فكان الترك يستغلون سكوت العرب،
ويعلمون أولادهم وأولاد العنصرين الأرمني واليهودي والأناضوليين أو الروملي
على حساب ميزانية المعارف العامة التي يدخل فيها إيراد البلاد العربية ويحرم أبناء
هذه البلاد من التعليم، ومن بث الشكوى من ذلك، وإلا نعتوا بأنهم رجعيون.
والظاهر أن الحالة في مصر آلت في هذا الأيام إلى ما آلت إليه حالة الترك
والعرب قديمًا، فالمسلمون يعلمون أن الغبن يحف بهم من الجهات الست، ولا
يستطيعون أن يتكلموا في أمر هذا الإشكال الاجتماعي الخطير الذي تناول العيش
مخافة أن يقال: إنهم يعملون على شق عصا الوحدة، ولكن التاريخ العثماني لا يزال
ماثلاً أمام الجميع، فإن صبر العرب فرغ في يوم من أيام سنة 1916 وقام العرب
في وجه الترك لا يطالبون بحقوقهم في الدولة، بل يطلبون الاستقلال عن العنصر
التركي وإجلاءه عن بلادهم؛ لأن ثورة البطن كما يقول الألمان أهم ثورة.
وإذا قسنا الأمور بأشباهها جاز لنا أن نقول: إن هذا التذمر الذي منشؤه
تضامن الأقلية على هضم حقوق الأكثرية التي استنامت بشكل لم يعهد له نظير في
التاريخ الحديث في الوقت الذي تسكت الأقلية كل من يتحدث في هذا الأمر،
وتصيح في وجهه إنها هي المظلومة المضطهدة لا بد وأن ينتهي بما لا يتفق مع
مصلحة الوطن عمومًا والأقلية خصوصًا، وقد شرع بعض الأفاضل يتكلمون في
هذا الموضوع بما توجبه المصلحة الوطنية، ثم انتقل كما قدمنا إلى الصحف
فتناولته بعضها بما يجب، وأخيرًا قرأنا في السياسة الأسبوعية منذ أسابيع مقالاً
رئيسيًّا لحضرة رئيس تحريرها الدكتور حسين هيكل بك تناول فيه هذا المسألة
الخطيرة من نواحيها المتعددة فوصف ألوانًا كثيرة من ألوانها، ولكنه لم يوفق إلى
وصف العلاج ولا أشار إلى طريقة المعالجة إلا إشارة سطحية لا تغني فتيلاً.
وقد بنى مقاله هذا على أمور كثيرة كان أظهرها نتيجة الامتحان النهائي
لمدرسة الطب الملكية في هذا العام، فقد تبين أن عدد الناجحين 83 طالبًا بينهم 30
مسلمًا، والباقي من الأقلية.
ولقد كانت هذا النسبة الهائلة كافية لأن تثير في الكاتب مواضع البحث الدقيق
فينبه أمته إلى الحالة الخطيرة التى سارت إليها الأكثرية بإهمال المسئولين من قادتها.
كذلك فعل الدكتور هيكل بعد أن بيَّن خطورة هذه النسبة في شهادات مدرسة
الطب، فذكر أن الأقليات تتضامن في جميع بلاد العالم ببواعث كثيرة أهمها
المحافظة على جامعتها كما هي الحالة في يهود الروسيا وبعض الأقليات الأخرى في
أوربا وأمريكا وأن هذا التضامن له في التاريخ أسوأ النتائج وأفعل الثورات؛ لأنه
ينتهي بالأقلية إلى احتكار الأموال والمراكز الرئيسية في الحكومات وضرب لذلك
أمثالاً عديدة، ولا سيما في أوربا وأمريكا، وأن الأكثرية تثور عندما تتنبه في وجه
الأقلية ، ثم أبان أن الحالة هنا بدأت بالتذمر همسًا وارتفع هذا الهمس قليلاً وربما
صار صوتًا صاخبًا، وأن الوطنية تقتضي أن يتنبه الإنسان إلى الخطر قبل وقوعه،
وانتهى من مقاله بأن أهاب بالمسلمين أن يحذروا خطر هذا الحالة الهائلة، وأن
ينصرفوا بكل قواهم إلى العلم.
ولما قرأنا مقال الأستاذ هيكل بك أحببنا أن نقفي عليه ببيان العلاج الناجع لكنا
تريثنا قليلاً لنرى آراء الأقلية فيه، فلم يمض على نشر هذا المقال ثلاثة أيام حتى
رأينا الأقلية امتعضت منه وشرعت تحاربه ناسبة إلى ذات الكاتب الرغبة في إظهار
غيرته على الإسلام؛ ليكون مقبولاً في الانتخابات القادمة عند الأكثرية المسلمة،
وذهب آخرون منهم إلى أن الرجل يحاول التفريق بين العنصرين المسلمين والقبط،
وتناوله بعضهم بتهم كثيرة لا شأن لنا بها، وإنما الذي يعنينا أننا فهمنا أن الأقلية
لا تحب البحث في هذا الموضوع؛ لأن فيه تنبيهًا للأكثرية ليس من مصلحة الأقلية
البحث فيه.
ثم طلعت علينا جريدة المقطم الغراء بمقال مهم لرجل من رجالات الأقلية
قدمت المقطم لنشره مقدمة قالت فيها: إنها ترددت عدة أيام في نشره ثم نشرته.
وقد رأيناه لا يخرج عن المقالات التي نشرتها الأقلية بشيء يستحق الذكر
اللهم إلا إعادة النغمة القديمة التى عقد المؤتمر القبطي المعهود في أسيوط من أجلها
وهي أن الأقلية التى لم تتمتع إلى الآن بوظيفة مدير هي المضطهدة حقًّا، وأن القبط
هم أهل البلاد الحقيقيون فلا يقاسون باليهود في أوربا وأمريكا فجمع الأستاذ هيكل
هذه الآراء كلها ورد عليها ردًّا وجه أكثره إلى تبرئة نفسه مما نسب إليه من
الأغراض، وأنه لا يقصد إلا التنبيه إلى مسألة ليس الاستمرار فيها من مصلحة
الوطن، ثم كرَّر ما قاله أولاً من ضرورة أخذ الأكثرية بأسباب العلم وأن لا واسطة
تعصم الأكثرية من الخطر إلا العلم وحده.
تلك خلاصة ما كتبته السياسة الأسبوعية ومخالفوها في هذا الموضوع الخطير
والذي نعجب له أننا لم نقرأ كلمة من كتاب الأكثرية في أمر كهذا يهمها في الصميم
من شئونها الحيوية كأن الله تعالى كتب لهذه الأكثرية المسلمة أن تظل في غفلة عن
كل أمر يتعلق بجوهر حياتها.
لم تتقدم الأقلية في مصر وغير مصر بالتذمر، وإن انقلب همسًا ولا بالهمس
وإن تحول إلى صخب، ولا بالانتقاد مهما يكن مرًّا، وما كانت مقالات الكتاب
وحدها بعاملة عملاً جديدًا في المسائل الخطيرة، فالأقلية بلغت في مصر ما بلغته
بأسباب جليلة الشأن لا يمكن للأكثرية أن تنهض من مستواها الذي وصلت إليه إلا إذا
توسلت بما توسلت به الأقلية حذو النعل بالنعل.
انظر إلى شابين من عمر واحد وذكاء واحد وثروة واحدة وحي واحد دخلا
مدرسة واحدة، تجد أن القبطي منهما يتقدم على المسلم في العمل والجد والمثابرة
والصبر وما إلى ذلك من وسائل النجاح، والمسلم يتأخر عنه ثم تكون النتيجة كما
رأيت من نجاح 53 قبطيًّا و30 مسلمًا في مدرسة الطب، وعدد الأقباط لا يبلغ
المليون والمسلمون 14 مليونا أو يزيدون فما السر في هذا الأمر العجيب مع أن
الأقباط ليسوا أسمى ذكاء من المسلمين، بل الثابت أن المسلمين بالنسبة لاختلاطهم
بالعناصر الإسلامية التى جددت فيهم الدم المصري أكثر ذكاء، والبرهان على ذلك
ظهور كثير من النوابغ بين المسلمين وندرة النبوغ في الأقلية مع المحافظة على
النسبة؟ السر في جميع ذلك لم يكن من طينة الشاب المسلم ولا من فطرته السليمة
فقد يكون أذكى وأنبل من القبطي، ولكن السر كل السر في أن المسلم ليس وراءه
هيئة من الهيئات التى تتولى شئون الجماعات والأفراد ترشده وتوجه قواه إلى الحياة
القومية والملية كما هي الحال عند إخواننا الأقباط وغيرهم من الأقليات الشرقية غير
المسلمة في مصر.
في القطر المصري ألوف من الكنائس القبطية بجيشها الجرار من القساوسة،
وإلى جانب هؤلاء الجمعيات الملية الكثيرة وفوقها المجلس الملي في القاهرة يضم
بين أعضائه خيرة رجال الأقلية علمًا وهمة وإخلاصًا ويحيط بهؤلاء مئات المجلات
الدينية القبطية شهرية أو نصف شهرية.
كل هذا الهيئات الوطنية لا وظيفة لها إلا إرشاد العائلات والأفراد القبطية في
مصر إلى مصالحها الدينية والدنيوية، فإنك إذا وزعت هذه المجلات القبطية
والقساوسة على عدد أفراد الأقلية القبطية تجد أن الواحد منهم يتصل بإرشاد الكنيسة
مرة في الأسبوع ويزوره القسيس مرة أخرى، ويقرأ ثمرة أفكار الغيورين من كتاب
القبط وواعظيهم مرارًا، وكل هذا مرتبط بالمجلس الملي القبطي وإرشاداته وأعماله
المتواصلة لمصلحة الطائفة القبطية دون سواها.
ثم لا تظن أن ذلك على أهميته هو الذي خطا بالأقلية القبطية إلى هذه الغاية
التى وصلت إليها فأدهشت الجميع، بل إن هناك جيشًا عظيمًا من الجمعيات
التبشيرية الأمريكية والإنكليزية واللاتينية للبنين والبنات وهناك جمعيات شبان
المسيحيين وجمعيات إخوان الكتاب المقدس وجمعيات كثيرة أجنبية كلها تعمل فوق
عمل الجمعيات القبطية بجد ونشاط لترقية حال الأقلية المسيحية، وهي لا تتأخر أن
تمد أفراد هذه الأقليات بنفوذها السياسي عند السلطات العليا، فإن جمعيات
البروتستانت كانت توظف حتى الخاملين من إخواننا الأقباط في المراكز المهمة
بشرط تغيير المذهب من كاثوليك أو أرثوذكس إلى بروتستانت.
وهناك عوامل أخرى يضيق نطاق البحث عن استيعابها اجتمعت كلها في
مصلحة الناشئة القبطية وغيرها من الأقليات حتى حملت أفراد الأقلية على الشعور
القومي وبلذة الاستفادة من هذا التضامن، فلا عجب إذا رأيت بعضهم يسعى أن
يعين بالوظيفة قريبه أو صديقه من الأقلية قبل أن تخلو؛ لأنه نشأ على هذا، وأعد
له عدته، وأصبح من متممات حياته ومقومات ملته، ولو كنت مكانه لما فعلت غير
فعلته.
لكن مَن للناشئة الإسلامية في مصر وغير مصر؟ وأنَّى لها بقوة واحدة من
هذه القوى التي ألممنا ببعضها؟
ليس للفتى والفتاة المسلمة شيء من ذلك لا جمعيات ملية، ولا إرشادات دينية،
ولا مجلات إسلامية تقدر قدرها، فكيف يستطيعان مجاراة إخوانهم أفراد الأقلية
المسلحة بأحدث الأسلحة وهما أعزلان من كل سلاح، دع ما يحيط بهما من وسائل
الفساد والدمار؟
يقولون: إن جماعة الأقلية القبطية في الوفد استغلت جميع الحركات التى قام
بها حتى سيطرت على معظم شؤونه فبات لا يتحرك حركة جدية إلا متأثرة بنفوذ
الأقلية، وإن استغلالها هذا بدأ في عهد المرحوم سعد باشا نفسه على ما به من قوة
إرادة، ونحن لا يهمنا مبلغ ما في هذه الأقوال من الصحة، فإن سنة الطبيعة قضت
أن يستغل القوي الضعيف.
فليس العيب عيب القوي؛ لأنه استبد بل عيب الضعيف الذي ضعف حتى
استنام، فإذا لم تستغل الأقلية القبطية ضعف الأكثرية المسلمة استغلتها أية أقلية
أخرى، سنة الله في خلقه {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) .
وإذا أردنا أن نحلل المسألة تحليلاً بسيطًا ونجاهر بالحقائق وندلل عليها وجب
أن نصرح بأن الأقلية مهما تقدمت وارتقت فلا يُعَد رقيها رقيًّا لمصر، بل لو أصبح
كل فرد من إخواننا القبط مثلاً عاليًا في العلم والثروة والجاه والرقي، وكانت
الأكثرية كما نشاهد اليوم لظلت مصر متأخرة؛ لأن الأقلية التي لا تتجاوز الواحد
بنسبة 14 لا يمكن أن يؤثر رقيها على رقي المجموع التأثير المطلوب، وهذه
النظرية نفسها كان أبناء العرب في السلطنة العثمانية يجبهون بها الترك في حين أن
الفرق بين الترك والعرب لا يعتبر شيئًا مذكورًا بالنسبة إلى الفرق بين نسبة
المسلمين والقبط، لذلك فإن عمل القبط لمصلحة الطائفة وحدها ليس من مصلحة
الوطن في شيء مهما تعددت مظاهره، وهذه الحقيقة التي يجب أن نجاهر بها
لإخواننا القبط؛ لأن السكوت عنها إما خيانة وطنية أو جبنًا تأباه مصلحة البلاد.
لكنك لا تستطيع أن تقول للأقلية: قفي مكانك حتى يسير بنا الزمن وتطورات
الأقدار إلى ما وصلت، ومن ثم نسير معًا، فإن العالم والأقدار نفسها تهزأ بك
وبكسلك وتواكلك وبرؤيتك العبر الماثلة وعدم اعتبارك بها، كما أنه ليس في طبيعة
الأقلية أن تستعد لتعطيل سيرها إلى الإمام لأجلك، فالواجب عليك أن تعمل مثلما
عملوا وإلا حقت عليك سنة الفناء وورثتك الأقلية ليس بالوظائف والأموال كما يقول
الدكتور هيكل بل بكل شيء تعتز به الأمم، إذن ليست الصيحة في وجه الطلاب أن
يتعلموا، بل الصيحة في وجه المسئولين من الأكثرية كي يعملوا لأبنائهم ومستقبل
الوطن كما عمل المسئولون من الأقلية لأبنائهم ومستقبل طائفتهم، ووسائل العمل
وإن كنا لا نملك منها كل ما تملك الأقلية كالجمعيات التبشيرية الأجنبية.
فلنعمل على الأقل عمل الهيئات المسيحية الوطنية، وإلى هذا وأكثر منه ننبه
إخواننا رئيس وأعضاء جمعية الشبان المسلمين، وبهذا تستطيع الأكثرية الحياة
الصحيحة ومجاراة غيرها بل بهذا وحده يرتقي الوطن.
…
...
…
...
…
...
…
... جميل الرافعي
_________
الكاتب: حامد محمود محيسن
العقوبة في الإسلام
ليست تقريرًا لنظرية الانتقام [1]
المجتمع لا بد لنظامه من تشريع العقوبات
للأستاذ الفاضل صاحب الإمضاء:
قد اتفق لي أن لم أقرأ كلمة الأستاذ كامل البهنساوي بجريدة السياسة الغراء تحت
عنوان (الإجرام) في عددها الصادر يوم 14 من جمادى الأولى سنة 1346 ولكن
لفت نظري بعض الذين يغارون على الإسلام ويعلمون أن مبادئه من أسمى المبادئ
لنظام المجتمع.
قرأتها فإذا الأستاذ فيها يبين أن نظر المجتمع إلى العقوبة على الإجرام قد أخذ
في تاريخ البشر تطورات أربعة، فكان نظر المجتمع في عهد الإنسان الأول إلى
المجرم نظر انتقام ثم تطور إلى (نظر قمع) ثم تطور إلى (نظر إصلاح المجرم)
ثم تطور إلى (منع المجرم من الإجرام) وهذه النظرية الأخيرة هي أحدث النظريات
وأعجبها للكاتب.
بدأ الكاتب الكلام في نظرية الانتقام بهذه العبارة (كانت نظرية الانتقام التي
أقرتها الديانة الإسلامية والتي أساسها (السن بالسن والعين بالعين) هو صورة
واضحة من نظرية الانتقام التي كان يعامل المجرم بناء عليها، والتي أصبحت لا
تصلح مطلقًا لهذا الزمن) إن الناظر في هذه العبارة يُخَيَّل إليه أن الكاتب كان قرمًا
إلى أن يطعن تعاليم الإسلام السامية إذ لم يذكر في عبارته سوى الديانة الإسلامية
مع أنها كغيرها من الديانات في تقرير العقوبات فقد نص القرآن على أن عقوبة
السن بالسن والعين بالعين كانت من تعاليم التوراة، وكأنما كان أول ما يهتم له
الكاتب أن يبين كون تشريع الإسلام غير صالح لهذا الزمن الذي لطفت فيه العواطف
ورقت فيه البشرة فأصبح المجرم بحكم العصر لا يحتمل أن يؤلم ولا يحتمل أن تمس
كرامته: ولو أتيح للكاتب وقلمه بين أنامله وقد جلس جلسة المتعقب للشارع الحكيم أن
ينظر فيما شرعه الإسلام من عقوبة نظرة الباحث عن الحقيقة لما وقع في ذلك الخطأ،
خطأ الحكم بأن ما شرعه الإسلام لتأديب المجرمين قد جارى فيه نظرية الانتقام
وأصبح غير صالح لهذا الزمن.
وقبل أن أبين للكاتب أن نظرية الإصلاح ونظرية المنع اللتين قد افتتن بهما
الكاتب قد وضعهما الإسلام من ثلاثة عشر قرنًا ونصف على أحسن وضع وأكفله
لنظام البشر قبل أن يقررها (جورنج) و (المدرسة الفرنسية الحديثة) قبل أن أبين
للكاتب هذا فإني مُنَاقِشُهُ في أن تشريع الإسلام في العقوبات قد جاء على (وفق
نظرية الانتقام) التي أصبحت غير صالحة لهذا الزمن.
إن الكاتب نفسه في الكلام على نظرية الانتقام قد ذكر أنه كان من أنواع
العقوبات في طور الانتقام أن يصير الجاني رقيقًا للمجني عليه، وكان منها الغلي
في الزيت وقتله جوعًا وحرقه بالنار وقتله وإلقاؤه فيها، وفصل الأعضاء وقطعها،
ثم ذكر الكاتب أنه لما تطورت نظرية الانتقام إلى (نظرية القمع) وخفت وحشية
الإنسان شيئًا أصبح الموت عقوبة على كل جريمة حتى كانت إنكلترا في القرون
الوسطى تعاقب على أكثر الجرائم بالموت، فكانت تعاقب بالموت على السرقة
والتزييف، وذكر الكاتب زيادة على ذلك أن ذكاء الإنسان في طور الانتقام كان
منصرفًا إلى اختراع وسائل التعذيب التي كانت يطول معها خروج الروح.
ذكر الكاتب كل ذلك، ثم هو مع هذا يزعم أن الإسلام جاء مقررًا (نظرية
الانتقام) وإن الإسلام لبريء مما يرميه الكاتب وإليه أسوق تشريع الإسلام وما أقره
وما لم يقرره حتى يتبين الضلال من الهدى.
ما جعل الإسلام الاسترقاق عقوبة على جريمة ولا جعل كذلك الغلي في الزيت
عقوبة على جريمة، ولا جعل الإسلام الحرق بالنار أو الإلقاء فيها، أو القتل جوعًا
عقوبة على جريمة، بل حظر كل ذلك حظرًا شديدًا، نعم القتل من العقوبات التي
شرعها الإسلام، لكن يجب أن يلتفت القارئ إلى أنه لم يكن عقوبة على كل جريمة
كما ذكر الكاتب أنه كان كذلك في طور القمع، بل إنما كان عقوبة على جريمتين
فقط جريمة القتل وجريمة الزنا من المتزوج.
وقد كان يصح أن يغمز الإسلام في تشريعه لعقوبة القتل على جريمة القتل
أن لو لم يرسم خطة الإصلاح والمنع المفتون بهما الكاتب، ولكن سأبين لحضرته
كيف أحكم الإسلام وضع هاتين الخطتين بحيث لو ترسمهما المجتمع ما كنت تسمع
بالإجرام إلا كما تسمع بحوادث الزلزال أو انفجار البراكين، وما شرع الإسلام عقوبة
القتل على القتل، وأرسلها إرسالاً كما كان الشأن في طور الانتقام، بل حاطها
باعتبارات تبعد بها المراحل عن دائرة الانتقام، وتتنحى بالمجرم عن مخالب ولي الدم
حتى لا تتمكن من إيقاع ما يشفي به نفسه من المجرم.
فترى الإسلام أولاً: حرم التمثيل بالمجرم وأوجب الإحسان في القتل بأن
يسلك أسرع الوسائل إزهاقًا للروح، لا كما كان الشأن في عهد الانتقام الذي (كان
يتفنن الذكاء الإنساني في تهيئة وسائل التعذيب والانتقام التي يعذب بها الجسد
ويطول معها إخراج الروح) اسمع إن شئت قول الرسول الكريم: (إن الله كتب
الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبْحَة) .
وترى الإسلام ثانيًا: حرَّم على ولي الدم وهو يكاد يتميز من الغيظ أن يتولى
عقوبة القاتل بنفسه ابتعادًا بالمجرم عما عساه أن يندفع إليه ولي الدم من إسراف في
القتل، بل أوجب على ولي الدم أن يرفع الأمر إلى الحاكم حتى يتولى بنفسه إثبات
الجريمة وإيقاع عقوبتها فأضعف بذلك سلطان ولي الدم على المجرم، ثم جاء من
جهة ثانية وأضعف سلطان الحاكم عليه بما جعله لولي الدم من حق العفو عن
المجرم إلى العقوبة المالية (الدية) وأوجب على الحاكم قبول ذلك العفو وإعفاء
المجرم من القتل، فهل ينتظر حضرة الكاتب تخفيفًا عن المجرم ولطفًا به وراء ذلك؟
وترى الإسلام ثالثًا: قد ندب الحكام إلى المبالغة في التحقق من ارتكاب
الجريمة بحيث تنزاح أمامهم جميع الشُّبَه حتى لو حام حوالي الإجرام أضعف شبهة،
وجب أن يدرأ الحد عن المجرم، قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم:
(ادرءوا الحدود بالشبهات) فهل ترى بعد هذه الاعتبارات أن هذه العقوبة
انتقامٌ؟
المجرم قد فعل بالمقتول ما أمكنته منه الفرصة تعذيبًا وتمثيلاً ولكن الشارع قد
حاطه بكل ما أمكن من مظاهر الإحسان والتخفيف.
وبعد فليدع الكاتب كل هذه الاعتبارات وليُحَكِّم هو عواطفه في شأن النفس
التي لم تؤثر فيها وسائل الإصلاح ولم تُعِقْهَا وسائل المنع، بل أقدمت بعد هذه وتلك
على إزهاق نفس بشرية عمدًا بغير ذنب ولا جريمة، أفيستحق هذا المجرم في نظر
الكاتب أن يعطف عليه ويوصف بأنه بائس ومسكين، وهلا كان من عسى أن يتركه
المقتول من أطفال وزوجة وشيوخ من آباء وأمهات أحناهم الدهر وقوستهم الأيام،
هلا كان هؤلاء هم البؤساء والمساكين، وهلا استحق ذلك المجرم الذي كسر
عصاهم التي كانوا يتكئون عليها وأطفأ مصباحهم الذي كانوا يستضيئون به وسد
عليهم سبل الحياة هلا استحق هذا المجرم أن ننزل به عقوبة القتل حتى لا تتكرر
منه أمثال تلك الجناية، وماذا عسى أن تمنعه من الإجرام والمفروض أنه لم تُجْدِهِ
نظرية الإصلاح ولم تعقه نظرية المنع، أفلا تبقي على المجني عليه وعلى الجاني
كذلك بإقامة تمثال العقوبة أمام عينيه، صدق الله العظيم {وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ} (البقرة: 179) ألا فليقتصد حضرة الكاتب في ترقيق عواطفه فلا تأخذه بمثل هذا
المجرم رأفة فليس أوسع رحمة من رب العالمين.
وأما الجريمة الثانية التي جعل الإسلام عقوبتها القتل وهي جريمة الزنا من
المتزوج فأي جريمة هي وما كنهها؟ هي أن يتعدى الجاني على عفاف المرأة
فيمزقه، وعلى عرضه فيخدشه وهو بذلك قد تصدى على كل رجل يمت إلى تلك
المرأة بسبب قرابة فنزع عنه ثوب شرفه وتركهم سبة في الوسط الذي هم فيه فما
هم برافعين بعد ذلك لهم رأسًا، وفي ذلك قتلهم الأدبي الذي هو أهون منه قتلهم
الجسماني، ثم هو قد تعدى كذلك على قريباتها فنزع عنهم أردية الشرف والعفاف
فحال بينهم وبين أن يتزوجن؛ إذ الناس يتخذون من تلك الحادثة مقياسًا لعفتهن
فيتحرَّجون من زواجهن، وفي ذلك أي ضرر بهن، ذلك هو كنه الجريمة، فهل بعد
ذلك يستحق ذلك المجرم أن يعطف عليه ويوصف بأنه البائس المسكين؟ ألم يكن
أقرباؤها من الرجال والنساء هم البؤساء والمساكين.
على أن الإسلام لم يجعل القتل عقوبة الزاني إلا إذا كان متزوجًا (حكمة بالغة)
رأَى الشارع أنه إذا كانت قد توفرت أسباب منعه من ارتكاب تلك الجريمة، ثم
هو لم يمتنع عنها فليس للمجتمع راحة وطمأنينة بغير تطهيره منه حتى لا يثلم
شرف أسر أخرى، وواضح أن ليس في عقوبة الزاني بالقتل -مظهر للانتقام- إذ
الجريمة خدش عرض وتسجيل عار والعقوبة قتل وإزهاق روح.
بقى أن الإسلام قد جعل عقوبة المتعدي على جارحة من جوارح الإنسان أن
يعاقب بإزالة مثل تلك الجارحة منه، قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ
قِصَاصٌ} (المائدة: 45)، قد يقال: إن مظهر الانتقام واضح في تلك العقوبة؛ إذ
جعل مثلا العين بالعين والأنف بالأنف إلخ، ولكن إذا أتممت الآية قراءة وجدتها قد
بعدت بتلك العقوبة عن دائرة الانتقام بعدًا شاسعًا؛ إذ ندبت المجني عليه إلى العفو
عن أخيه حيث تقول: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} (المائدة: 45) فتراها
للمبالغة في ترغيب المجني عليه في العفو عبَّرت عنه بالتصدق ووعدت عليه
بالغفران، ولا يفوتك أن الإسلام مع هذا حرَّم على المجني عليه أن يتولى القصاص
بنفسه من الجاني فلم يجعل له عليه سلطانًا وأوجب على الحاكم أن يعفيه من القصاص
متَى عفى عنه صاحب الحق، فلا هو أسلمه للمجني عليه ولا هو أسلمه للحاكم، فأين
بربك في هذا (مظاهر الانتقام) ؟
هذا من جهة نفي كونه (انتقامًا) بقي أن ننظر إلى التشريع في حد ذاته،
وهل بغيره يرتدع المجرم أو يصلح المجتمع؟ إن الذي يدرس نزعات النفس
البشرية من جهة ويدرس حالة المجتمع من جهة أخرى يرى في هذا التشريع أحكم
وسيلة لنظام المجتمع، فإن الغضب والسَّوْرَة غريزة من غرائز النفوس البشرية وما
أكثر دواعيه التي تقتضيها طبيعة الحياة البشرية، تلك الحياة التي لا بد فيها من
تناقض في الأغراض وتضارب في الشهوات والميول، فلو لم يشعر الجاني حين
تثار نفسه بداع من الدواعي أنه نازل به مثل ما ينزله بأخيه، فماذا عساه أن يحول
بينه وبين فقء عين أخيه أو قطع أذنه، وإن في كثرة هذا النوع من الإجرام إذا
أُهْمِلَ العمل بهذا التشريع لأكبر شاهد على أن هذه المبادئ من أسمى نظم البشر،
ولو أننا عملنا بهذا التشريع لقل وقوع مثل هذه الجريمة.
وقد كنت شغوفًا أن أبين للكاتب مبلغ أحكام التشريع الجنائي في الإسلام وما
له من الأثر الحسن في نظام المجتمع وطمأنينته، وإن موعدنا المقال الآتي فسأتتبع
فيه جزئيات العقوبة التي شرعها الإسلام حتي يتبين للناس حقيقة الأمر.
والذي أعني به الآن بعد ما بان أن الإسلام لم يقرر (نظرية الانتقام) أن أبين
للكاتب كيف أحكم الإسلام وضع (نظرية الإصلاح) و (نظرية المنع) من ألف
وثلاثمائة وستة وأربعين عامًا، وأنهما ليستا حديثتين أحدثهما (جورنج) و (المدرسة
الفرنسية الحديثة) .
ولو أن الكاتب قد نظر في دين الإسلام نظرة العالم الباحث قبل أن يقرأ الكتب
الإفرنجية لما ارتطم في ذلك الخطأ المبين.
يقول الكاتب في الكلام على (نظرية الإصلاح) وبدأنا نصل إلى رأي جديد
كانت خلاصته مباحث العلماء المختلفين وأهمهم (جورنج والمدرسة الفرنسية
الحديثة) كما سبق أن تكلمنا عنه وهو أن المجرم شخص كبقية النوع الإنساني،
وأنه لا يرتكب ما يرتكب من الجرائم لأميال وغرائز طبيعية، وإنما كان لأن تعليمه
والوسط الذي هو فيه كان قليلاً أو ناقصًا مملوءًا بالسيئات ويؤكد هذه النظرية
الجديدة ما أثبته علماء الإجرام والمذهب الإجتماعي من أن الجرائم تابعة لحال
الوسط الاجتماعي ومداها من الفساد والإصلاح) وإنما سقت للقارىء عبارة الكاتب
ليعلم أن كل ما وصل إليه جورنج والمدرسة الفرنسية الحديثة وعلماء الإجرام
وعلماء الإجتماع هو أن وسيلة الإصلاح إنما تكون بالتعليم وارتقاء البيئة والوسط
الذي يحيا فيه الشخص، وإن هذا القليل من كثير مما وضعه الإسلام من وسائل
الإصلاح.
فالإسلام أولاً قد حتَّم على كل مسلم ومسلمة طلب العلم مهما صعب الوصول
إليه ومهما بَعُدَ منالاً، قال الرسول الكريم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم
ومسلمة) ، (اطلبوا العلم ولو في الصين) وإن من أول ما يجب من أنواع العلم الذي
هو عام في عبارة الشارع، أن يعلم الإنسان ما لله من قدرة لا حدود لها وعلم بالسر
وأخفى ووحدانية في الكون لا راد لما قضى ولا مانع لما أراد، يعلم ذلك بناء على
البراهين العقلية الماثلة في النفس والآفاق {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} (آل عمران: 190) وإن امتلاء
النفس بتلك العقيدة لوازع يصحب النفوس في خلوتها واجتماعها وليلها ونهارها فليس
كوازع الجنود والخفراء (والبوليس السري) الذي إن أفاد نهارًا فليس يفيد ليلاً،
وإن عاق عن الإجرام في الاجتماع فليس بعائق عنه في الانفراد، ولو أننا نزلنا على
حكم الإسلام فتعلمنا ما أوجب تعليمه لما أثقلت خزانة الحكومة المصرية بما هي مثقلة
به اليوم من الأموال التي تنفقها على إدارة الأمن العام.
وثانيًا: فرض الإسلام على كل شخص خمس صلوات أي فرض عليه أن يقدم
مراسم العبودية والتقديس لذي العظمة والجلال في اليوم خمس مرات تبتدئ من
الصباح حيث يبدأ الناس أعمالهم وتنتهي بوقت نومه حتي يكون كل زمن اليقظة في
مراقبة ربه، وإن هذا لمن أمتن الحواجز بين الإنسان والإجرام: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى
عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} (العنكبوت: 45) .
وثالثًا: فرض الإسلام على كل شخص صيام شهر من السنة وفي ذلك إشعار
النفس بأنها لا تزال مغلوبة ومقهورة للعقل فينكبح جماحها عن الإسراف في الشهوات
التي كثيرًا ما تدفع الإنسان إلى الإجرام حين لا يرى سبيلاً إلى الحصول على شهوته
إلا بالإجرام.
ورابعًا: قد أوجب الإسلام علينا جميعًا إسداء النصيحة لبعضنا والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر وبالغ في إيجاب ذلك حتى فرض على الإنسان أن يمنع
الشخص عن الإجرام بالقوة متى استطاع، فإن عجز عن ذلك منعه بالقول، فإن عجز
تنكر له من سكوت، قال عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده،
فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) أصل عظيم
ومبدأ اجتماعي من أسمى المبادئ لو أننا عملنا به لقل الإجرام إلى أدنى حد ممكن في
الاجتماع البشري، فهل يُبْتَغَى لإصلاح المجرمين بوسائل وراء تلك الوسائل التي
شرعها الإسلام من ثلاثة عشر قرنًا ونصف.
وأما (نظرية المنع) التي سماها الكاتب حديثة جدًّا، وفي الحق هي ليست
بالحديثة جدًّا، ولكنها قديمة جدًّا؛ إذ قد وضعها الإسلام من ثلاثة عشر قرنًا ونصف،
ولأجل أن نتبين كيف وضع الإسلام (نظرية المنع) نبحث عن أسباب الجرائم،
وإننا لو بحثنا عن هذا لوجدنا غالب أسباب الإجرام ترجع:
أولاً: إلى الحاجة والفقر.
ثانيًا: عدم العمل خصوصًا من ذوي النفوس الشريرة، فإن عطلة هؤلاء من
العمل كثيرًا ما تستدعي الاسترسال في فكرة إحداث الشرور والجرائم.
ثالثًا: الطيش وسَوْرَة النفس التي يحدثها تعاطي المسكرات.
ورابعها: الخصومات والمشاكل والأحقاد والضغائن التي كثيرًا ما ينبتها
التنافس في وسائل الحياة والتزاحم على أسبابها وإن هذا التنافس وذلك التزاحم
لطبيعي للاجتماع البشري.
فأما السبب الأول للإجرام، وهو الحاجة والفقر فقد وضع الإسلام لاقتلاع
جذوره نظامًا ماليًّا من أحكم النظم الاجتماعية في توزيع الثروة بين أفراد البشر ذلك
النظام هو ما شرعه الإسلام من فريضة الزكاة: أوجب فيه جزءًا مخصوصًا، وكان
من أحكام التشريع أنه لم يرفع الحد الذي تجب به الزكاة، بل تراه قد أوجب الزكاة
على مَن يملك اثني عشر جنيها تقريبًا فما فوق، وبذلك يكثر عدد من نأخذ جزءًا من
ماله.
وتراه من جهة ثانية لم يرفع قدر المأخوذ من ذي المال بل تراه قد جعل
واحدًا من أربعين في بعض أنواع الثروة حتى لا يلحق أرباب الأموال ضرر مالي،
وبذلك نستطيع أن يتوفر لدينا مقدار من المال لا يبقى معه فقير ولا ذو حاجة وبذلك
نكون قد استأصلنا أغلظ أسباب الجرائم جذورًا.
وأما العطلة من العمل فقد حرمها الشارع تحريمًا شديدًا حتى أوجب على
الإنسان أن يباشر أدنى الأعمال حين لا يمكنه مباشرة سواه فترى الرسول يقول:
(لأن يحتزم أحدكم حزمة حطب فيبيعها خير له من أن يتكفف الناس) فلو أن
الحكومة علمت بهذا المبدأ لشغل العمل نفوسًا كثيرة عن أن تفكر في إحداث الجرائم
والجنايات.
وأما تعاطي المسكرات فقد جعل له الإسلام عقوبة مادية هي عقوبة الجلد، فلو
أنفذناها على متعاطي المسكرات لأغلقنا سببًا آخر من أسباب الإجرام.
وأما المشاكل والخصومات والأحقاد والضغائن التي هي ضرورية للحياة التي
لا بد فيها من التنافس وتناقض الأغراض فمن المحال استئصالها وتطهير المجتمع
منها بوسائل الإصلاح أو وسائل المنع مهما كانت تأثيراتها - لذلك ترى الشارع
الحكيم وضع من المبادئ والتعاليم ما أراد به تخفيف أثر ذلك الأصل من الشرور
والجرائم فتراه مثلاً أوجب على الجار الإحسان إلى جاره، وبالإحسان -كما قررته
الشرائع وقرره الأخلاقيون- تستل الأحقاد والضغائن، وتراه حرم التجسس وتتَبُّع
العورات لما في علم الشخص بأن آخر قد أدرك من عوراته ما يحاول إخفاءَه على
الناس من ألم النفوس المثير للضغائن والأحقاد.
وحرَّم أن يعيب الإنسان إنسانًا آخر في غيبته لما في ذلك أيضًا من إيلام
النفوس وإثارتها قال تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} (الحجرات:
12) وكذلك حرَّم الغش في المعاملات؛ إذ الغش ليس إلا صورة من صور سلب
أحد المتعاملين مال الآخر بدون مقابل، ولا شيء أثقل على النفس من أن تشعر
بأنها قد سلبت شيئًا من حقوقها.
وكذلك حرَّم الربا؛ إذ مآله أخذ أحد المتعاملين جزءًا من مال الآخر بلا مقابل
ولمثل ذلك في النفوس أسوأ الآثار.
وترى الإسلام قد وضع قواعد لجميع أنواع المعاملات لا يكاد يبقى معها سبيل
للمشاحنات والمنازعات ثم تراه مع هذا كله أوجب على أهل كل بيئة أن يقوموا
بالإصلاح بين كل متنازعين لما في ذلك من وقف تيار المنازعات المؤدي كثيرًا إلى
أفظع الجرائم.
كل هذه المبادىء التي ذكرناها وغيرها مما لم أذكره إنما قصد بها الشارع
مجرد تخفيف أثر ذلك الأصل: أصل الخصومات والمنازعات، وأما وقف تياره
بتابًا أو تقليل أثره إلى أدنى حد ممكن مع ردع النفوس التي بلغت في الشر والفساد
مدى لا تؤثر معه ما شرعه الإسلام من وسائل الإصلاح ولا تعوقها وسائل المنع من
الإجرام فليس له من سبيل إلا إقامة هياكل العقوبات أمام أعين هؤلاء المجرمين.
لذلك ترى الإسلام مع إحكامه لوضع وسائل الإصلاح ووسائل المنع على ما
رأيت، لم يهمل أمر العقوبات الصارمة؛ إذ يرى أن من الضروري لنظام المجتمع
وتطهيره من الجرائم أو تقليلها إلى أدنى حد ممكن إقامة عقوبات كالتي شرعها،
وإن من يرى من علماء الإجرام أو علماء الاجتماع اكتفاء المجتمع بوسائل الإصلاح
أو المنع من غير حاجة إلى إقامة عقوبات تردع النفوس البعيدة المدى في الشر
لَمقصرٌ في بحثه أو مخطئ خطأ واضحًا، وإن في كثرة الجرائم في أمريكا التي
يتحدث عنها الكاتب كدولة وصلت إلى أحدث النظريات في علاج الجرائم لأكبر
شاهد على أن المجتمع لا غنى له عن إقامة هياكل العقوبات التي تردع بعض
المجرمين ممن لا يجديهم إصلاح ولا يعوقهم منعٌ، فصدق الله وكذب الجاهلون.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
حامد محمود محيسن
…
...
…
...
…
...
…
...
…
مدرس بمعهد
…
...
…
...
…
...
…
...
…
الإسكندرية
_________
(1)
نقلا عن جريدة السياسة اليومية الصادرة في يوم الإثنين 29 يناير سنة 1928.
الكاتب: محمد رشيد رضا
إحصائية عن الطلاق في أمريكا
إن الولايات المتحدة هي بلاد الإحصائيات، وكل شؤونها يعبر عنه بالملايين
وإذا كان الأمريكيون قد أحصوا مظاهر الجو وعدد السيارات التي يملكها الأفراد،
وكل ما يختص بالأشغال التجارية والألعاب الرياضية إلخ، فقد حُقَّ لهم أن يحصوا
أيضًا أحوال الزواج والطلاق وهي تفوق غيرها شأنًا.
ولم تعبأ حكومة الولايات المتحدة بأية نفقة وأي جهد في سبيل الإحصاء، قد
أجرت إحصاء خاصًّا بالزواج خمس مرات في المدة الواقعة بين سنة 1876 وسنة
1923 وظهر اهتمام الناس بهذا الإحصاء، ولا سيما أنه صدر بجانب الأرقام
الجافة مذكرة تفسيرية شائقة، ويمكن شراء كليهما بمبلغ زهيد قدره عشر سنتات
(أي نحو عشرين مليما) فيلقي الأمريكي بذلك نظرة عامة على الحالة الاجتماعية في
بلاده، وقد ذكر الإحصاء أسباب الطلاق، ولكنه للأسف لم يبين أسباب الزواج
أيضًا، ولو فعل لكان أمرًا شائقًا يدعو إلى دراسة عميقة.
وقد عقدت في سنة 1923: 373 ، 224 ،1 زواجًا، فإذا اعتبرنا من
تخطى الخامسة عشرة من عمره كفئًا للزواج كان المتزوجون في الولايات المتحدة
4.
41 في الألف من الأكفاء للزواج.
وفي نفس السنة حصل 226.165 طلاقًا، وقد فاق هذا العدد مثله في كافة
السنوات السابقة، وكانت نسبة الطلاق في سنة 1870: 81 طلاقًا لكل مائة ألف
من السكان المتزوجين، أما في سنة 1923 فقد بلغت هذه النسبة 160 في المائة
ألف ومن ال 226. 165 طلاقًا الذي حدث في سنة 1293 - - 582. 111حادثة
كان فيها الرجل هو المذنب و53. 27 حادثة كانت المرأة هي المذنبة، فالرجل
إذن يسبب الطلاق في 67. 8 في المائة من حوادثه.
ولكن أسباب الطلاق هي أهم جزء من إحصاء الحكومة الأمريكية، وقد
قسمتها إلى سبعة أنواع، وقد يقسم أيضًا بعضها، هذه الأسباب هي الخيانة الزوجية
والقسوة (وتحت هذه ستة عشر نوعًا) والهجران بسوء القصد، والإدمان على
السكر (ومنه تعود المخدرات) ، وإهمال القيام بالنفقة البيتية، والنوع الثالث هو
اختلاط بعض الأنواع السابقة والسابع يضم جميع الأسباب الأخرى (ومنها الأسباب
غير المعروفة) .
وكان أكثر حوادث الطلاق مسببة عن القسوة، وقد بلغت حوادثها 58178
في سنة 1923 وكانت أقلها حوادث الطلاق بسبب الإدمان على الخمر ومثلها،
وكان عددها 2139.
وقد بيَّن الإحصاء أيضًا مدد الزوجيات التي انتهت بالطلاق ويظهر منه أن
وقت الخطر الذي يبتدئ فيه هو عقب السنة الثالثة من الزواج، ولكن قد تكثر
حوادث الطلاق أيضًا بعد السنة الرابعة أو التاسعة من الحياة الزوجية ثم تقل كثيرًا
بعد ذلك وتكون الحياة الزوجية قد تأسست وقويت، ويقل الحصول الطلاق بعد أن
تمضي عشرون سنة على الزواج، ولكن لا أمان أيضًا في هذه السن، فإن
الإحصاء دل على حوادث طلاق وقعت بعد أن مضى على الزواج إحدى وعشرون
سنة أو أكثر.
وأكثر حوادث الطلاق وقعت في السنوات العشر التالية للزواج، هي ثلثا
مجموع الإحصاء ويبين الإحصاء أن معظم حوادث الطلاق تسببها القسوة في
السنوات الثلاث الأولى للزواج، وفي الأحوال التي تكون المرأة هي المذنبة يكون
سبب الطلاق في أكثرها هو خيانتها لرابطة الزوجية، وأكثر ما يحصل ذلك منها
في السنوات الأولى للزواج، وأما الرجل فيندر أن يخون زوجته كما يظهر من
الإحصاء في العهد الأول للحياة الزوجية وإنما تكثر خيانته من السنة الخامسة لعقد
الزواج إلى السنة التاسعة عشرة، ولكن القسوة من جانب الزوج تكثر في السنوات
الثلاث الأولى ثم تقل بعد ذلك، وأما الهجر والإدمان فعلى العكس.
والآن لننظر ماذا نال الأطفال من جراء حوادث الطلاق ومن الزوجيات
التي انتهت بالطلاق في سنة 1923 وعددها 164609 كان 92140 دون أطفال أي
56 في المائة وفي 57576 حالة منها كان للزوجين المطلقين أطفال، ولم
يدرك الإحصاء حالة ال14893 الباقية، ومما تجدر ملاحظته أن المرأة كانت توافق
على الطلاق إذا كانت لها أطفال أكثر مما لو لم يكونوا لها، وفي الـ 57576
من الأحوال التي كان فيها للمطلقات 106034 طفلاً حكم في 43249 حالة منها
بأن تحضن الأم أطفالها.
ولكن ليست هذه الأرقام والنسب هي كل ما حواه الإحصاء الأمريكي الدقيق
بل لقد ذكر أيضًا إحصاءات بالنسبة لكل ولاية أمريكية مما لا يهم القراء.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الشروع في عمارة الحرم القدسي الشريف
تسلم المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى في فلسطين زمام إدارة الأوقاف
والمحاكم الشرعية الإسلامية عام 1340 هجرية ووضع نصب عينيه منذ ذلك العام
أمر الشروع في تعمير بنيان الحرم القدسي الشريف المشتمل على المسجد الأقصى
أول القبلتين وثالث الحرمين وقبة الصخرة الشريفة، الدرة اليتيمة بين المباني
الشرقية النفيسة والآثار الإسلامية الخالدة، وما يتبعها من الأبنية الأثرية المختلفة
التي أحاطها المكان المقدس ببركاته، ومسح عليها الفن من نتائج القرائح المتوقدة
ببدائعه؛ وذلك لأن هذا الآثار القيمة قد أحاطها البلى من كل جانب، فتصدع بعض
أقسامها، وتآكل بعض آخر من عوالم الجو المستمرة، حتى كاد معظمها يشرف
على الاندثار لا سمح الله؛ لأن هذه الأبنية النفيسة لم تتناولها يد الإصلاح الجدي
منذ أجيال عديدة، وجُلُّ ما كان يجري فيها من العمارة ينحصر في ترميم سطحي
بسيط لا أثر للمتانة ولا للفن فيه.
فلما أخذ المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى على عاتقه شرف القيام بهذا
المشروع فكَّر في تسليم إدارته الفنية إلى المهندس القدير المرحوم كمال الدين بك
وهو أشهر المهندسين المتخصصين في المباني الإسلامية ففاوضه في هذا الأمر
كتابة ثم استدعاه من مقره في الآستانة ففحص هذه الأبنية فحصًا فنيًّا دقيقًا وقرَّر أن
مشروع التعمير يحتاج إلى ما لا يقل عن (150000) على أن يقوم بالعمل هيئة
فنية مؤلفة من عدد من المهندسين برياسته، ثم رجع إلى الآستانة وعاد منها
مستصحبًا ثلاثة ممن يعتمد عليهم من المهندسين القديرين، وأضاف إليهم مهندسًا
آخر من القدس الشريف وأخذ يضع الخطط الفنية للقيام بهذا العمل الكبير، فلما تم
ذلك، عقد المجلس الإسلامي الأعلى، وثلاثة مهندسين من حكومة فلسطين
ومهندسي الهيئة الفنية المذكورة فبحثوا هذه الخطط الموضوعة وختموا اجتماعهم
باتخاذهم القرار الآتي:
بعد الفحص والتدقيق في حالة قبة المسجد الأقصى، والجزء السفلي منه،
والمشاريع الثلاثة التي قدمها كمال الدين بك، والتقرير الذي قدمه المندوبان
المصريان مصطفى حمدي بك القطان ومحمود أفندي أحمد، وبعد البحث الوافي،
تقرر بالإجماع قبول المشروع الثاني، وأساسه تقوية البناء مع المحافظة عليه جهد
المستطاع.
أما تفاصيل هذا المشروع فهي كما يلي:
صلب المجموع، تقوية الأسس، تقويم الأعمدة، تجديد الأوتار الخشبية
(الشدادات) حفظ العقود والمقرنصات ورقبة القبة (الكرسي) وبقدر المستطاع حفظ
القبة نفسها وبالإجمال كل ترميم أو تجديد يجده كمال بك ضروريًّا ومستطاعًا فيما
عدا ما ذكر.
(وتزيد الهيئة على ذلك أنه وإن كان المشروع الأول المتعلق بالتجديد،
والذي اختاره المعمار كمال الدين بك هو ذا نتيجة أقوى وأجمل إلا أنها تؤثر
بالإجماع المشروع الثاني المذكور أعلاه، والموافق لتقرير المندوبين المصريين،
لاعتبارات أثرية ودينية واجتماعية) .
وبهذه المناسبة ترى الهيئة أنه يستحسن أن يعطى كمال الدين بك الحرية
التامة في اختيار الوسائل التي ستُتَّبَعُ، وتقرير الإجراءات التي ستُتَّخَذُ لتنفيذ
الأعمال المقرَّرَة في المشروع المذكور أعلاه وإنهائها على أحسن وجه.
(وترى الهيئة أن هذا العمل ضروري ودقيق وأنه لا بد من إعطاء كمال
الدين بك الذي سينفذه الحرية في أن يختار كل ما يحتاج إليه من العمال الفنيين،
وأن يتخذ كل التدابير الاحتياطية الخاصة التي يقتضي اتخاذها في مشروع دقيق
كهذا) .
(ثم تود الهيئة أن تبدي عظيم ارتياحها لما رأته من الدقة والمهارة اللتين
أظهرهما الأستاذ المعمار كمال الدين بك وهيئته الفنية في درس المسألة والمشاريع
التي هيأها، وأن تظهر أيضًا ثقتها مجمعة بذلك التحضير الدقيق المحكم، ومنه
تبدو بجلاء تام الأهمية الكبيرة التي تشتمل عليها هذه القضية الدقيقة وتفاصيلها
وفروعها، وعلى هذا وضعت هيئة المؤتمر هذا القرار النهائي بكل ثقة (في 23
شباط سنة 1924) .
***
جمع نفقات العمارة
أيقن المجلس الإسلامي الأعلى أنه لا يتأتى القيام بمشروع هذه العمارة إلا إذا
قام المسلمون عامة ملوكهم وأمراؤهم وشعوبهم بمساعدته مساعدة جدية لما يتطلبه
من النفقات الكبيرة، فقام بإذاعة دعوة عامة وجهها إلى مسلمي العالم كافة
يستصرخهم باسم الإسلام والحضارة الإسلامية والفن الإسلامي أن يقبلوا على
مؤازرة هذا المشروع، وقد نشرت الدعوة باللغات الإسلامية في أنحاء العالم
الإسلامي، ثم أوفد الوفود إلى مصر والحجاز أولاً وثانيًا، والآستانة والهند
والعراق، وجمع الأموال من هذه البلاد بمقادير مختلفة، ووردت إليه الإعانات من
بلاد أخرى تتضح مبالغها جميعًا من مطالعة البيان المالي الآتي:
***
بيان الواردات باعتبار الأقاليم
مليم جنيه مصري
…
... الجهة المتبرعة
248 6478
…
من صندوق المجلس الإسلامي بفلسطين والواردات المحلية
375 4231
…
من أهالي فلسطين.
733 38761
…
من الحجاز
608 23788
…
من الهند
322 6206
…
من العراق
520 1362
…
من الكويت
780 2681
…
من البحرين
635 612
…
من المحمرة
700 338
…
من سورية
440 19
…
من تركيا
860 306
…
من مصر
920 48
…
المهاجرين في أمريكا
ــ
141 94837
***
طريق الإنفاق
اقتضى المشروع أن يكون له في القدس لجنة مركزية تشرف على سيره
وتتولى إدارة شئونه المالية إدارة منظمة حسب الأصول الفنية والمالية فعيَّن المجلس
الإسلامي لجنة مؤلفة من نخبة من أعيان البلاد الخبيرين الموثوق بهم لهذا الغاية
سميت لجنة عمارة الحرم الشريف، وطلب المجلس الإسلامي الأعلى إلى جميع
الأقطار الإسلامية التي اشتركت في نفقة العمارة أن ترسل كل منها عضوًا من قِبَلها
يمثلها في هذه اللجنة.
وقامت هذه اللجنة بواجباتها وأعمالها حق القيام، فوضعت السجلات والدفاتر
المنظمة لجميع المعاملات الحسابية وضبطت قيود أعمالها حق القيام، فوضعت
السجلات والدفاتر المنظمة لجميع المعاملات الحسابية وضبطت قيود أعمالها ضبطًا
محكمًا وراقبت شراء المواد المقتضاة وأشرفت على أهم الأمور الإدارية في هذا
المشروع.
ويتضح للقارئ من البيان التالي مجمل الواردات والنفقات لغاية 13 ذي
الحجة سنة 1346 الموافق غاية مارس سنة 1928 التي كان المجلس الإسلامي
الأعلى يرسل بيانات بتفاصيلها إلى كبار المتبرعين والصحف المختلفة في كل شهر:
***
الورادات السنوية
مليم
…
جنيه
43 20386 عن 14 جمادى أول سنة 41 لغاية23 جمادى أول سنة 42
…
... الموافق سنة 23
396 56604 عن 24 جمادى أول سنة 42 لغاية 5 جمادى ثاني سنة 43
…
... الموافق سنة 24.
21 11160 عن 6 جمادى ثاني سنة 43 لغاية 16 جمادى ثاني سنة 44
…
... الموافق سنة 25.
445 3021 عن 17 جمادى ثاني سنة 44 لغاية 26 جمادى الثاني سنة 45
…
... الموافق سنة 26.
952 3317 عن 27جمادى ثاني سنة 45 لغاية 8 رجب سنة 46 الموافق
…
... سنة 27.
311 357
…
عن 9 رجب 46 لغاية 13 ذي الحجة الموافق سنة 28
ــ
41 94837 المجموع
نفقات عمارة المسجد الأقصى
367 7168 المصروف من صندوق الأوقاف لغاية 19 محرم سنة 342
…
الموافق غاية آب سنة 23 قبل تشكيل لجنة عمارة المسجد الأقصى
724 3242 نفقات عن 20 محرم لغاية 23 جماد أول الموافق عن أيلول لغاية
…
كانون أول سنة 1923.
615 17403 نفقات عن 24 جماد أول سنة 1342 لغاية 5 جماد ثاني 1343
…
الموافق سنة 1924.
828 11380 نفقات عن 6 جماد ثاني سنة 1343 لغاية 16 جماد ثاني سنة
…
1344 الموافق سنة 1925.
193 6412 نفقات عن 17 جماد ثاني سنة 1344 لغاية 26 جماد ثاني سنة
…
1345 الموافق سنة 1926.
62 15926 نفقات عن 27 جماد الثانية سنة 1345 لغاية 8 رجب سنة 1346
…
الموافق سنة 1927.
764 6196 نفقات عن 9 رجب سنة 346 لغاية 13 ذي الحجة سنة 346
…
الموافق غاية مارس سنة 1928.
ــ
443 67730 المجموع
***
إتمام عمارة قبة المسجد الأقصى
وقد تمت بتوفيقه تعالى عمارة المسجد الأقصى وما يحيط بها من المباني
المتداعية على أكمل وجه حتى إن زلازل فلسطين الأخيرة على شدتها لم تُحْدِث في
الأمكنة التي عمرت تأثيرًا ما على حين أن جملة من الأبنية الكبرى في القدس
تصدعت مما دل دلالة صريحة على أن العمارة الجديدة قد جرت على الأصول
الفنية بحيث أصبح البناء يتحمل صدمات العوامل الطبيعية وقد شهد بذلك
المهندسون الذين زاروا المكان فشاهدوا متانة عمارته واتفقوا على أنه لو لم يبادر
المجلس إلى عمارة قبة المسجد لدمرها الزلزال تدميرًا.
***
حفلة افتتاح عمارة المسجد الأقصى
ومما نحمد الله تعالى عليه أن يتم هذا المشروع على يد المجلس الإسلامي
الأعلى الذي رأى من الحق عليه أن يفتتح هذا القسم من العمارة بحفلة حافلة يدعو
إليها عظماء العالم الإسلامي ومن آزره في إتمام هذا المشروع مؤازرة مادية أو أدبية،
وقد اختار لذلك يوم مولد سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم من هذا العام
الموافق 12 ربيع الأنور سنة 1347.
وتعد الهيئة لهذه العمارة تقريرًا فنيًّا وافيًا عن هذا المشروع إجمالاً وتفصيلاً،
وستوزعه على المحتفلين، وتنشره بعدئذ في العالم الإسلامي بمختلف اللغات، والله
ولي التوفيق.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
اختيار الشيخ محمد مصطفى المراغي
شيخًا للأزهر والمعاهد الدينية
مرت بضعة أشهر على وفاة المرحوم الشيخ أبي الفضل الجيزاوي والحكومة
في حيرة في اختيار خلف له وقد جعل القانون أمره إلى الوزارة حتى وفق صاحب
الدولة مصطفى النحاس باشا إلى اختيار هذا الرجل ولعمري إنه لم يكن في البلد من
يصلح لهذا المنصب في هذا الوقت غيره حتى احتيج إلى هذا الوقت الطويل
لمعرفته - وهو رئيس المحكمة الشرعية العليا أي أكبر رجال القضاء الشرعي
ولكن اختياره على أولئك النفر من المرشحين للمنصب على المعهود في التقليد بين
كبار الشيوخ هو الذي اقتضى طول الروية والبحث من قبل، وللوزراء أهواء
مختلفة ولكل من أولئك المرشحين انتماء إلى وزير كبير أو ضلع مع حزب من
الأحزاب السياسية التي يُعَدّ أولئك الوزراء من زعمائها، فكانت آية إخلاص
مصطفى النحاس باشا في اختياره للشيخ محمد مصطفى المراغي أنه فضَّله على
بعض الشيوخ الموالين للوفد المصري المعدودين من حزب السعديين، وذلك بعد أن
أخبره بمزاياه من ثقات الأزهريين المستنيرين من لا يمتري في معرفتهم وحسن
نيتهم، وهو يعلم مع هذا أنه أعطَى منصبه الشرعي حقه فلم ينتم إلى حزب من
الأحزاب ولم يتزلف إلى وزير من الوزراء كما أنه لا يعادي حزبًا ولا وزيرًا من
الوزراء وأنه مرضي لدى جلالة الملك.
إن بيان ما أجملته من الحكم بأن هذا المنصب لا يصلح له في هذا الوقت إلا
هذا الرجل يتوقف تفصيله على بيان حالة الأزهر من نواحيها المتعددة، وبيان
مزايا الشيخ العقلية والإدارية ومعرفته لحالة العصر من نواحيها المختلفة، وما
يحتاج إليه الإسلام من التجديد والإصلاح، وفوق هذا كله استقلاله في فهم الدين
والعلم فهو في الذروة العليا من نجباء تلاميذ الأستاذ الإمام رحمه الله، فعسى أن
يجعله الله هو المتمم لما بدأ به أستاذه وأستاذنا من إصلاح الأزهر.
كنت أود أن مكنتني صحتي من التفصيل الذي أشرت إليه ولكنني لا أزال
مريضًا، وقد كتبت هذه الكلمة، وأنا مستلق في سريري، وإلى الله المشتكى،
وهوالمسئول بتعجيل الشفاء.
***
اعتذارنا للقراء بمرضنا ومصائبنا
قد علم القراء ما كان من أمر مرضنا، وما كان لنا أن نكتمه عنهم، وقد
كانت وطئة الحمى خفت حتى قلما تتجاوز الدرجة 38 فكتبنا تفسير هذا الجزء
وباب الفتاوى وباب الانتقاد على التفسير، وعرض لنا بعد ذلك التهاب شديد في
اللوزتين فارتفعت الحمى زهاء أسبوع ثم خفت بزواله ثم عادت إلى الارتفاع حتى
منعنا الأطباء من الخروج إلى المكتب ومن مقابلة الناس.
وكنا جعلنا تاريخ هذا الجزء سلخ المحرم من السنة الجديدة 1347 ولكن كاد
شهر صفر أن ينتهي ولم نستطع كتابة شيء آخر مما كان في النفس فأذنا الإدارة
بإتمام الجزء ببعض المختارات المفيدة من الصحف والرجوع في هذه الفرصة إلى
تقريظ الكتب التي تأخر تقريظها وإصدار الجزء، وسنجعل تاريخ الجزء الذي بعده
سلخ ربيع الأول، وما ندري هل يقدرنا الله تعالى على كتابة شيء منه أم لا،
والرجاء بفضله عظيم.
***
وفاة فاضلة
ابتلينا في 30 ذي الحجة سنة 1346 بوفاة شقيقتنا البارة الفاضلة العاقلة
السيدة الحاجة حفصة رحمها الله تعالى، ولله ما أخذ ولله ما أعطى وما أبقى، وإنا
لله وإنا إليه راجعون.
***
كلمة إلى حضرات المشتركين
إن دَخْلَنَا في هذه البضعة الأشهر التي تضاعفت فيها نفقاتنا بسبب المرض
وغيرها كان أقل مما كان في مثلها من كل عام فنستنجد الوفاء والمروءة من
المدينين لنا باشتراك المنار أو أثمان الكتب أن يعجلوا بإرسال جميع المتأخر لنا
عندهم، ونحن نعده لهم في هذا الوقت كأنه إعانة منهم، ومن لم يؤثر فيه هذا القول
في أداء الحق الذي عليه فهو أعرف بقيمة نفسه وعليه ما يستحق من جزاء الدنيا
والآخرة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقريظ المطبوعات الحديثة
(روح الاشتراكية)
تأليف الدكتور غوستاف لوبون وترجمة الأستاذ عادل زعيتر خريج جامعة
باريس، عني بنشره إلياس أفندي أنطون إلياس صاحب المطبعة العصرية ثمنه 20
قرشًا مصريًّا.
الدكتور غوستاف لوبون عالم أوربا الاجتماعي الشهير وصاحب المؤلفات
الاجتماعية الفذة لا يحتاج عند جمهور القراء إلى تعريف، خصوصًا وقد اشتهر هذا
العالم الجليل بدرس الشئون الشرقية عامة والعربية خاصة وله عطف على الشعب
العربي وعناية كبيرة بمدنيته التي ظهرت آثارها بكتابه الشهير (حضارة العرب)
حتى إن جماعة من أدباء مدينة بيروت كانوا أقاموا له حفلة شكر في مدينتهم اعترافًا
بفضله وشكرًا لإنصافه لأمتهم العربية كما اشتهر هذا الفيلسوف بالابتعاد عن التعصب
والتصريح بالحقائق التي يحاول معظم علماء الغرب ورجاله سترها كتعصب أوربا
ولا سيما فرنسا موطنه ضد الحكومات الإسلامية والإسلام.
كان آخر ما ألف الدكتور غوستاف هذا الكتاب (روح الاشتراكية) بعد (سر
تطور الأمم) ، و (روح الاجتماع) ، و (الآراء والمعتقدات) ، و (الثورة
الفرنسية) . فجاء كتابًا قيمًا في أبحاثه جليلاً في مراميه، عز على صديقنا الأستاذ
عادل زعيتر أحد أركان النهضة العربية أن تحرم الأمة العربية من ثمراته، فعني
بترجمته ترجمة سلسة فجاءت حلة قشيبة من حلل العربية التي تكتسي بها مؤلفات
الغرب، فنثني على همة المترجم ونرجو أن يوفق إلى انتخاب أمثال هذه الأسفار
القيمة، ونحث القراء على اقتناء هذا الكتاب النفيس.
لكن هذا الكتاب كأمثاله في علمه لا يخلو من نظريات مخالفة للأديان، لا
يعسر على علماء الدين المحققين تأييد جانب الدين فيها.
***
(علم الاجتماع)
علم حياة الهيئة الاجتماعية وتطورها تأليف الأستاذ الفاضل نقولا أفندي حداد
صاحب مجلة السيدات والرجال بمصر.
لزميلنا الأستاذ حداد عناية ثابتة بالعلم والشئون الاجتماعية ورغبة جليلة في
التأليف والابتكار، وقد ألف منذ 20عامًا أو أكثر رواية حواء الجديدة وعرضها
على كبار الكتاب في مصر وغيرها فحازت استحسان جمهور المفكرين، وبالرغم
من اشتغاله بالصيدلة لا يدخر وسعًا في مواصلة الأبحاث العلمية والاجتماعية، وقد
أخرج لنا هذا الكتاب (علم الاجتماع) يبحث في كيفية تكون المجتمع وأطواره وفي
عقلية الجماعات والرأي العام، وفي العوامل المختلفة التي كونت المجتمع وطوَّرته
وفي اعتراك هذه العوامل وتوازنها، بأسلوب سهل وعبارة مستفيضة بالأمثال التي
تقرب الموضوع إلى الأذهان، وقد جاء الكتاب في جزأين كل جزء زهاء 350
صحيفة من القطع الكبير وثمنها 50 قرشًا، وقد أخرجته بهذا الثوب الجميل
المطبعة العصرية لصاحبها الفاضل إلياس أفندي أنطون إلياس فنثني على همة
المؤلف، ونرجو للكتاب كل رواج يستحقه كما نستزيد صديقنا الأستاذَ حدادًا من هذه
المؤلفات الحديثة لدى قراء العربية.
***
(أمراض الأطفال الكثيرة الانتشار)
للدكتور العالم الفاضل الأستاذ عبد العزيز بك نظمي الاختصاصي بأمراض
الأطفال خدمة للعلم تُذْكَر فتُشْكَر، فلا يمضي عام أو بعض عام حتى يُتْحِف القراء
بمؤلف جديد، وقد كان من أهم ما نفع به جمهور القارئين والقارئات كتابه هذا فقد
توسع في موضوع أمراض الأطفال الذي يهم العالم أجمع وخاصة سكان القطر
المصري؛ لكثرة وفياته، وجاء ببيان مهم عن طرق الوقاية والمعالجة والإسعافات
المفيدة النافعة، طبع على ورق جيد تبلغ صفحاته 333 صفحة وثمنه 25 قرشًا،
فنشكر لمؤلفه خدمته هذه للعلم، ونحث القراء على مطالعته والاستفادة منه.
***
(تهذيب الكامل)
تأليف الأستاذ الفاضل السباعي بيومي يقع في جزأين كل جزء منهما يتجاوز
ثلاثمائة صفحة من القطع المتوسط طبع على ورق مصقول ثمنه 40 قرشًا جعل
الجزء الأول في المنثور، والثاني في المنظوم.
وقد ذكر مؤلفه أن كتاب الكامل للمبرد على شهرته الواسعة، وكونه من أنفع
كتب الأدب وأغزرها مادة قد صدر عن مؤلفه خاليًا من فهرس يرشد القارئ إلى
مراميه ومختلطًا بعضه ببعض اختلاطًا يبعد الاستفادة منه، وأنه هو قد وفق إلى
رده إلى أبواب مرتبة يحتوي كل منها على طائفة متناسبة من أنواع الكلام
وضروب القول غير تارك منه شيئًا دون إلمام به، ثم أخرج ما به من تعليقات
لأبي الحسن عن الصلب إلى الهامش مع بعض زيادات له، وقد جعل في الجزء
الأول المنثور في أربعة أبواب: باب الخطب والوصايات والمواعظ، وباب الكتب
والعهود والرسائل وباب الحِكَم والأمثال والجوامع، ثم باب النوادر والأخبار
والحوادث، والقسم الثاني المنظوم يشتمل على ستة أبواب وذيل أما كون كتاب
الكامل من أركان كتب الأدب فهو مما اتفق عليه المتقدمون الذين كانوا يتدارسونه
كما قال ابن خلدون والمتأخرون الذين كلَّت هممهم دونه، وأما الحاجة إلى تهذيبه
هذا فقد جعلته قريب المتناول من جميع طلاب الآداب، وكان لا ينظر فيه إلا
الأفراد من أساتذتهم فنرجو للكتاب الإقبال والرواج، كما نود أن يوفق مؤلفه إلى
ترتيب كتب أخرى من الكتب الثمينة التي خلت من الفهرس مع شدة حاجتها إليه.
***
(الفتاوى الطرسوسية أو أنفع الوسائل إلى تحرير المسائل)
تأليف العلامة قاضي القضاة نجم الدين إبراهيم بن علي بن أحمد بن
عبد الواحد بن عبد الصمد الطرسوسي المتوفى سنة 758 هجرية صحَّحه وراجع
نقوله الأستاذان الشيخ مصطفى محمد خفاجي المدرس بقسم التخصص في القضاء
الشرعي والشيخ محمود إبراهيم من خريج قسم التخصص المذكور، وقد جمع هذا
الكتاب ما لم يشمله قبله كتاب خصوصًا ما يتعلق بالوقف والقضاء حتى كان عمدة
لأفاضل العلماء السابقين ومرجعًا ثقة للمتأخرين، وقد عانا المصححان كثيرًا في
ضبط الكتاب لاختلاف في النسخ الخطية الموجودة فنثني على همتهما ونرجو أن
ينتفع أهل العلم بمزايا هذا السِّفْر الجليل، وقد عني بطبعه في مطبعة الشرق فجاء
نظيفًا على ورق مصقول من القطع المتوسط، وعدد صفحاته 352 صفحة.
***
(التهذيب في أصول التعريب)
تصنيف الدكتور العالم الفاضل الأستاذ أحمد عيسى بك لا يجهل قُرَّاء الصحف
والمجلات الأبحاث القيمة التي يعالجها صديقنا الأستاذ الدكتور أحمد عيسى بك
والمنقبون لسير العلم يقرأون باهتمام مصنفاته الأدبية وما وفق إلى ترجمته من
الكتب المفيدة، وقد بَدَا له أن يضع هذا السفر في أصول التعريب، فذكر فيه
خلاصة ما رآه من العقبات في مزاولة الترجمة والتعريب، وأهمها في نظره قلة
المصطلحات العربية المقابلة للمصطلحات الأعجمية، والثانية تعريب ما يمكن
تعريبه من المصطلحات التي يعسر إيجاد لفظ يقابلها ويحل محلها، ثم عزَّز رأيه:
بأن العرب في إبان نهضتهم لما احتاجوا إلى اقتباس شيء من علوم الأمم المتحضرة
التي تقدمتهم اضطروا بحكم الضرورة إلى تعريب الكثير من الألفاظ في مختلف
العلوم سواء كانت أعلامًا على بلدان أو على أشخاص أو أسماء معانٍ لا مدلول لها
في لغتهم، أو أنهم خافوا على تلك الألفاظ من الالتباس إن هم ترجموها ولم يوجدوا
اللفظ الأعجمي بجانبها يوضحها، فقضت ضرورة الحال بتعريبها وإدماجها في
لغتهم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مآثر قريش وخصائصها قبل الإسلام وبعده
أوردنا في رسالة خلاصة السيرة المحمدية جملة من خصائص قريش التي
فضلوا بها القبائل والشعوب، وكانوا أهلاً لظهور الإصلاح الإسلامي فيهم وبعثة
خاتم النبيين منهم، ثم رأينا في هذه الأيام جملة في ذلك فيها تفصيل لبعض ما
أجملناه هنالك وزيادة عليه في كتاب ثمار القلوب للثعالبي فأحببنا نشره في المنار،
ليكون كالتكملة لما أوردناه عند كتابة تلك الرسالة من غير مراجعة كتاب ما، وفيه
زيادة على ما هنا، على توخينا الإيجاز هنالك قال الثعالبي رحمه الله:
أهل الله
كان يقال لقريش في الجاهلية: أهل الله؛ لما تميزوا به عن سائر العرب من
المحاسن والمكارم والفضائل والخصائص التي هي أكثر من أن تُحْصَى.
(فمنها) مجاورتهم بيت الله تعالى وإيثارهم سكن حرمه على جميع بلاد الله،
وصبرهم على لأواء مكة وشدتها وخشونة العيش بها.
(ومنها) ما تفردوا به من الإيلاف والوفادة والرفادة (الرفادة شيء تترافد به
قريش في الجاهلية تخرج فيما بينها مالاً تشتري به للحاج طعامًا وزبيبًا)
والسقاية والرياسة واللواء والندوة.
(ومنها) كونهم على إرث من دين أبويهم إبراهيم وإسماعيل عليه السلام
من قَرْيِ الضيف ورفد الحاج والمعتمرين والقيام بما يصلحهم وتعظيم الحَرَم
وصيانته عن البغي فيه والإلحاد وقمع الظالم ومنع المظلوم.
(ومنها) كونهم قبلة العرب وموضع الحج الأكبر ويؤتون من كل أَوْب بعيد
وفج عميق، فترد عليهم الأخلاق والعقول والآداب والألسنة واللغات والعادات
والصور والشمائل، عفوًا بلا كلفة، ولا غرم ولا عزم ولا حيلة، فيشاهدون ما لم
تشاهده قبيلة، وليس من شاهد الجميع كمن شاهد البعض، ولا المجرب كالغمر،
ولا الأديب كالفضل، فكثرت الخواطر واتسع السماع وانفسحت الصدور، ورأوا
الغرائب التي تُشْحَذ، والأعاجيب التي تُحْفَظ، فثبتت الأمور في صدورهم،
واختمرت وتزاوجت، فتناتجت وتوالدت، وصادفت قريحة جيدة وطينة كريمة،
والقوم في الأصل مرشحون للأمر الجسيم؛ فلذلك صاروا أدهى العرب وأعقل
البرية، وأحسن الناس بيانًا، وصار أحدهم يوزن بأمة من الأمم، وكذلك ينبغي أن
يكون الإمام، فأما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان يزن جميع الأمم.
(ومنها) ثابت جودهم وجزالة عطاياهم واحتمالهم المؤن الغلاظ في أموالهم
المكتسبة من التجارة، ومعلوم أن البخل والنظر في الطفيف مقرون بالتجارة التي
هي صناعتهم، والتجار هم أصحاب التربيح، والتكسب والتدنيق، وكان في
اتصال جودهم العالي على الأجواد من قوم لا كسب لهم من التجارة عجب من
العجب، وأعجب من ذلك أنهم من بين جميع العرب دانوا بالتحمس والتشدد في
الدين فتركوا الغزو؛ كراهة للسبي واستحلال الأموال، فلما زهدوا في الغصوب لم
يبق مكسبة سوى التجارة فضربوا في البلاد إلى قيصر بالروم والنجاشي بالحبشة
والمقوقس بمصر وصاروا بأجمعهم تجارًا خلطاء، فكانوا مع طول ترك الغزو إذا
غزوا كالأسود على براثنها [1] مع الرأي الأصيل والبصيرة الناقدة فهذا يسير من
كثير من خصائصهم في الجاهلية [2] .
فلما جاء الله تعالى بالإسلام وبعث منهم خير خلقه وأفضل رسله محمدًا رسول
الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه، تظاهر شرفهم، وتضاعف كرمهم،
وصاروا على الحقيقة أهلاً لأن يدعوا أهل الله، فاستمر عليهم وعلى سائر أهل مكة،
وعلى أهل القرآن هذا الاسم حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أهل القرآن
هم أهل الله تعالى وخاصته) وقال لعتاب بن أسيد لما بعثه إلى مكة: (هل تدري
على من استعملتك؟ استعملتك على أهل الله) وسأل عمر بن الخطاب رضي الله
عنه نافع بن عبد الحارث الخزاعي حين قدم عليه من مكة من اسخلفتَ على مكة؟
قال: ابن أبزى. قال: استخلفتَ على أهل الله مولى؟ قال: إنه أَقْرَؤُهم لكتاب
الله تعالى، قال:(إن الله تعالى يرفع بالقرآن أقوامًا) .
قال بعض السلف: حسبك من قريش أنهم أهل الله وأقرب الناس بيوتًا من
بيت الله، وأقربهم قرابة من رسول الله، ولم يسم الله تعالى قبيلة باسمها غير
قريش وصارت فيهم ولهم الخصال الأربع التي هي أشرف خصال الإسلام - النبوة،
والخلافة والشورى والفتوح - فليس اليوم على ظهر الأرض وممالك العرب
والعجم في جميع الأقاليم السبعة ملك في نصاب نبوة، وإمامة في مغرس رسالة إلا
من قريش، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:(الأئمة من قريش) وقال عليه
السلام: (قَدِّمُوا قريشًا ولا تَتَقَدَّمُوهَا وتعلموا منها ولا تعلموها) وأنشد:
إن قريشًا وهي من خير الأمم
…
لا يضعون قدمًا على قدم
أي يُتَّبَعُونَ ولا يَتَّبِعُونَ، وقال الأعشى وهو يعاتب رجلاً ويخبر أنه مع شرفه
لم يبلغ مبلغ قريش:
فما أنت من أهل الحجون ولا الصفا
…
ولا لك حق الشرب في ماء زمزم
وسيمر بك في هذا الكتاب من نكت فضائلهم، وغرر غرائبهم، ما تكثر
فائدته وتطيب ثمرته، وإن كان لا مزيد على وصف الجاحظ لهم ومدحه إياهم
وتخصيصه بني هاشم منهم فإنه رحمه الله ألقى جمة فصاحته واستنزف بحر بلاغته
في فصل له وهو قوله: العرب كالبدن وقريش روحها، وهاشم سرها ولُبُّها،
وموضع غاية الدين والدنيا منها، وهاشم ملح الأرض وزينة الدنيا، وحلي العالم،
والسنام الأضخم، والكاهل الأعظم ولباب كل جوهر كريم، وسر كل عنصر
شريف، والطينة البيضاء، والمغرس المبارك، والنصاب الوثيق، ومعدن الفهم،
وينبوع العلم، ومناهل الظامي إلى الحلم، والسيف الحسام في العزم، مع الأناة
والحزم، والصفح عن الجرم، والإغضاء عن العثرة، والعفو عند القدرة، وهم
الأنف المقدم، والسنام الأكوم، والعزم المشمخر، والصبابة والسر، وكالماء الذي
لا ينجسه شيء، وكالشمس لا تخفى بكل مكان، وكالنجم للحيران، والماء البارد
للظمآن.
ومنهم العمران والأطيبان والشيخان والشهيدان، وأسد الله وذو الجناحين وسيد
الوادي وساقي الحجيج، وحليم البطحان، والبحر والحبر، والأنصار أنصارهم،
والمهاجر من هاجر إليهم أو معهم، والصديق من صدقهم، والفاروق من فرق بين
الحق والباطل منهم، والحواري حواريهم، وذو الشهادتين لأنه شهد لهم، ولا خير
إلا هم أو فيهم أو معهم أو يضاف إليهم، وكيف لا يكونون كذلك وفيهم رسول رب
العالمين، وإمام الأولين والآخرين، وسيد المرسلين وخاتم النبيين، الذي لم تتم
لنبي نبوة إلا بعد التصديق به، والبشارة بمجيئه، الذي عم برسالته ما بين الخافقين،
وأظهره الله على الدين كله ولو كره المشركون، فقال:{نَذِيراً لِّلْبَشَرِ} (المدثر:
36) وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} (الأعراف: 158)
وقال صلى الله عليه وسلم: (بعثت إلى الأحمر والأسود وإلى الناس كافة) وقال:
(نُصِرْتُ بالرعب من مسيرة شهر، وأعطيت جوامع الكلم، وعُرِضَتْ عليَّ مفاتيح
خزائن الأرض) وقال: (أنا أول شافع ومُشَفَّع وأول من تنشق عنه الأرض) .
وقد أقسم الله سبحانه وتعالى بحياته في القرآن فقال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي
سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} (الحجر: 72) وقال: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (القلم: 1) فأكد القسم وفسَّر المعنى ثم قصد نبيه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4) ولا عظيم أعظم ممن عظَّمه الله كما أنه لا صغير أصغر ممن صغَّره الله
فأيُّ ممدوح أعظم وأفخر وأسنى وأكبر من ممدوح مادحه الله، وناقل مديحه،
وراوية كلامه جبريل، والممدوح محمد صلى الله عليه وسلم اهـ.
_________
(1)
براثن الأسد أظافره، ولا يظهر هنا، فلعل الأصل فرائسها.
(2)
وصف البصيرة بالنقد صحيح؛ إذ بها يتميز ويعرف الجيد والرديء ويحتمل أن تكون الكلمة (النافذة) .
الكاتب: محمد مصطفى المراغي
إصلاح الأزهر الشريف
مذكرة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي شيخ الأزهر
أوجب الدين الإسلامي على أهله أن تختص طائفة منهم بحمله وتبليغه إلى
الناس {وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا
فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122)
وأوجب الله على نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو الناس إلى السبيل الموصلة إليه
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) وقواعد العلماء كلها متفقة على وجوب السعي إلى نشر الدين وإقناع
العباد بصحته، وعلى وجوب حمايته من نزعات الإلحاد وشبه المضلين.
وفي الكتاب الكريم آيات كثيرة تحث على النظر في الكون وعلى فهم ما فيه
من جمال ودقة صنع، وقد لفت النظر إلى ما في العالم الشمسي من جمال باهر
وصنع محكم، ولفت النظر إلى ما في الحيوان من غرائز تدفعها إلى الصنع الدقيق
والأعمال التي لها غايات محدودة، وأشار إلى سير الأولين، وحث القرآن على
العلم، وفاضل بين العلماء والجهال، وأعمال السلف الصالح، وسير العلماء لا تدع
شبهة في أن الدين الإسلامي يطلب من أهله السعي إلى معرفة كل شيء في الحياة.
وقد تولى سلف علماء الأمة القيام بهذه المهمة على أحسن وجه وأكمله،
فخلفوا تلك الثروة العظيمة من المؤلفات في جميع فروع العلم، ودرسوا أصول
المذاهب في العالم ودرسوا الديانات ودرسوا الفلسفة على ما كان معروفًا في زمنهم،
وكتبوا المقالات في الرد على جميع الفرق، وكانت للعقل عندهم حرمته، وله
حريته التامة في البحث، وكان الاجتهاد غاية يسعى إليها كل مشتغل بالعلم متفرغ
له.
ولكن العلماء في القرون الأخيرة استكانوا إلى الراحة وظنوا أنه لا مطمع لهم
في الاجتهاد، فأقفلوا أبوابه ورضوا بالتقليد، وعكفوا على كتب لا يوجد فيها من
مذاهب وآراء، فأعرض الناس عنهم، ونقموا هم على الناس فلم يؤدوا الواجب
الديني الذي خصصوا أنفسهم له، وأصبح الإسلام بلا حملة ولا دعاة بالمعنَى الذي
يتطلبه الدين.
في الدين الإسلامي عبادات وعقائد وأخلاق، وفقه في نظام الأسرة، وفقه في
المعاملات مثل البيع والرهن وفقه في الجنايات.
وقد عرض الدين الإسلامي لغيره من الأديان وعرض لعقائد لم تكن لأهل
الأديان، وأشار إلى بعض الأمور الكونية في النظام الشمسي والمواليد الثلاثة من
جماد ونبات وحيوان.
وقد هوجم الإسلام أكثر من غيره من الديانات السابقة، هوجم من أتباع
الأديان السابقة، وهوجم من ناحية العلم، وهوجم من أهل القانون.
لهذا كانت مهمة العلماء شاقة جدًّا تتطلب معلومات كثيرة: تتطلب معرفة
المذاهب قديمها وحديثها، ومعرفة ما في الأديان السابقة ومعرفة ما يَجِدُّ في الحياة
من معارف وآراء، ومعرفة البحث النظري وطرق الإقناع، وتتطلب فهم الإسلام
نفسه من ينابيعه الأولى فهمًا صحيحًا، وتتطلب معرفة اللغة وفقهها وآدابها وتتطلب
معرفة التاريخ العام وتاريخ الأديان والمذاهب وتاريخ التشريع وأطوراه، وتتطلب
العلم بقواعد الاجتماع.
والأمة المصرية أمة دينها الإسلام، فيجب عليها - وهي تجاهر بذلك - أن
ترقي تعليمه؛ ليرقى حملته، ويكونوا حفاظًا ومرشدين يدعون الناس إليه.
ولا يوجد دواء أنجع من الدين لإصلاح أخلاق الجماهير فإن العامة تتلقى
أحكام الدين والأخلاق الدينية بسهولة لا تحتاج إلى أكثر من واعظ هاد حسن
الأسلوب جذاب إلى الفضيلة بعمله وبحسن بصره في تصريف القول في مواضعه.
ولذلك كان الدعاة إلى الفضيلة قديمًا وحديثًا يلجئون إلى الأديان يتخذونها
وسائل للإصلاح بل كل داعاة المذاهب السياسية وحملة السيوف لم يجدوا بُدًّا من
الرجوع إلى الأديان وصبغ دعواتهم بها، كل ذلك لأن حياة المجتمعات لا تدين
لنوع الإصلاح إلا إذا صبغ بصبغة دينية يكون قوامها الإيمان.
والأمة المصرية، بل والأمم الشرقية جمعاء، تدهورت أخلاقها فضعفت لديها
ملكات الصدق والوفاء بالوعد والشجاعة والصبر والإقدام والحزم وضبط النفس عن
الشهوات، وضعفت الروابط بين الجماعات فلم يعد الفرد يشعر بآلام الآخرين
ومصائبهم، وقد أثرت الحياة الفردية في حياة الجماعة أثرها الضار فانحطت منزلة
الأمم، ورضيت من المكانة بأصغر المنازل.
وقد أرى أن الأمة المصرية، وهي تريد النهوض والمجد وتتطلع إلى حياة
سياسية راقية يجب عليها أن تتذكر دينها، وتلتفت إلى حملة ذلك الدين فتصلح شأنهم
وترقي تعليمهم، وتضعهم في المكانة اللائقة بالمرشدين، والتي يجب أن يكون عليها
حملة الدين. أما إهمال هذه الناحية والسعي إلى ترقية النواحي الأخرى من حياة
الأمة، فلا أرى أنه يوصل إلى الغرض المقصود، فالخلق هو العمود الفقري للأمم لا
يمكنها أن تنهض بغيره، وأسهل طريق لتكوينه هو طريق الدين إذا أصلح تعليمه
وهذِّب دعاته.
وقد كان الأزهر مصدر أشعة نور العلوم الدينية والعربية وغيرها إلى البلاد
الإسلامية، وقد أصابه ما أصاب غيره في الشرق من خمول وضعة، فيجب على
الأمة المصرية وهي تحمل راية الأمم الإسلامية أن تنقي هذا المصباح (الأزهر)
من الأكدار، وأن تُوجِد له جهازًا قويًّا يستمد نوره منه على طريقة تتناسب مع ما
جَدَّ في العالم من أطوار في العلم وفي التفكير وفي الحوار والتخاطب، وفي طرق
الاستدلال والبحث، والدولة تنفق على الأزهر قدرًا عظيمًا من المال لا تستطيع أن
تمنعه عنه ولا تستطيع أيضًا أن تلغي الأزهر، وما يتبعه من معاهد لتوجد بدلها
معاهد أخرى، فالحاجة إلى إصلاح الأزهر واضحة لا تحتمل نزاعًا وجدالاً.
وإني أقرِّر مع الأسف أن كل الجهود التي بذلت لإصلاح المعاهد منذ عشرين
سنة لم تَعُدْ بفائدة تُذْكَر في إصلاح التعليم، وأقرر أن نتائج الأزهر والمعاهد تُؤْلِم
كل غيور على أمته وعلى دينه، وقد صار من الحتم لحماية الدين لا لحماية الأزهر
أن يغير التعليم في المعاهد، وأن تكون الخطوة إلى هذا جريئة يقصد بها وجه الله
تعالى فلا يبالي بما تُحْدِثه من ضجة وصريخ فقد قرنت كل الإصلاحات العظيمة في
العالم بمثل هذه الضجة.
يجب أن يدرس القرآن دراسة جيدة، وأن تدرس السنة دراسة جيدة، وأن
يفهما على وفق ما تتطلبه اللغة العربية فقهها وآدابها من المعاني، وعلى وفق قواعد
العلم الصحيحة، وأن يبتعد في تفسيرهما عن كل ما أظهر العلم بطلانه، وعن كل
ما لا يتفق وقواعد اللغة العربية.
يجب أن تُهَذَّب العقائد والعبادات وتنقى مما جَدَّ فيها وابْتُدِعَ، وتهذب العادات
الإسلامية بحيث تتفق والعقل وقواعد الإسلام الصحيحة.
يجب أن يدرس الفقه الإسلامي دراسة حرة خالية من التعصب لمذهب، وأن
تدرس قواعده مرتبطة بأصولها من الأدلة، وأن تكون الغاية من هذه الدراسة عدم
المساس بالأحكام المنصوص عنها في الكتاب والسنة والأحكام المجمع عليها والنظر
في الأحكام الاجتهادية لجعلها ملائمة للعصور والأمكنة والعرف وأمزجة الأمم
المختلفة كما كان يفعل السلف من الفقهاء.
يجب أن تدرس الأديان ليقابل ما فيها من عقائد وعبادات وأحكام بما هو
موجود في الدين الإسلامي ليظهر للناس يسره وقدسه وامتيازه عن غيره في مواطن
الاختلاف، ويجب أن يدرس تاريخ الأديان وفرقها وأسباب التفرق، وتاريخ الفِرَق
الإسلامية على الخصوص وأسباب حدوثها.
يجب أن تدرس أصول المذاهب في العالم قديمها وحديثها، وكل المسائل
العلمية في النظام الشمسي، والمواليد الثلاثة مما يتوقف عليه فهم القرآن في الآيات
التي أشارت إلى ذلك.
يجب أن تدرس اللغة العربية دراسة جيدة كما درسها الأسلاف، وأن يضاف
إلى هذه الدراسة دراسة أخرى على النحو الحديث في بحث اللغات وآدابها.
يجب أن توجد كتب قيمة في جميع فروع العلوم الدينية واللغوية على طريقة
التأليف الحديثة، وأن تكون الدراسة جامعة بين الطرق القديمة (في عصور
الإسلام الزاهرة) والطرق الحديثة المعروفة الآن عند علماء التربية، وعلى الجملة
يجب أن يحافظ على جوهر الدين، وكل ما هو قطعي فيه محافظة تامة، وأن
تهذب الأساليب ويهذب كل ما حدث بالاجتهاد بحيث لا يبقى منه إلا ما هو صحيح
من جهة الدليل، وكل ما هو موافق لمصلحة العباد.
يجب أن يفعل هذا لإعداد رجال الدين؛ لأن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم
عامة ودينه عام، ويجب أن يطبق بحيث يلائم العصور المختلفة والأمكنة المختلفة،
وإن لم يفعل هذا فإنه يكون عُرْضَة للنفور منه والابتعاد عنه كما فعلت بعض
الأمم الإسلامية، وكما حصل في الأمة المصرية نفسها؛ إذ تركت الفقه الإسلامي؛
لأنها وجدته بحالته التي أوصله إليها العلماء غير ملائم، ولو أن الأمة المصرية
وجدت من الفقهاء من جارى أحوال الزمان وتبدل العرف والعادة وراعى
الضرورات والحرج لما تركته إلى غيره؛ لأنه يرتكن إلى الدين الذي هو عزيز
عليها.
ولست أنسى أن هذه الدراسة التي أسلفت بيانها دراسة شاقة تحتاج إلى مجهود
عظيم وتحتاج إلى رجال قد لا تجدهم في طائفة العلماء، وتحتاج إلى مال يكافأ به
العاملون، ولكن سمو المطلب يحملنا على تذليل كل عقبة تقف في طريقه وتوجب
علينا السخاء والبذل؛ لأننا نريد إصلاح أعز شيء على نفوس الجماهير، ونريد بهذا
الإصلاح تقويم هذه الأمة ونهوضها.
وليس من السهل أن يُكَلَّف شخص واحد بهذه الدراسة على اختلاف أنواعها،
بل من الواجب أن يفكر في طريقة التقسيم وجعل الدراسة أقسامًا وأنواعًا متميزة.
وبعد هذا أستطيع أن أضع أسسًا إجمالية للنظام الذي أبغي أن يكون عليه
الأزهر والمعاهد الدينية.
1-
يجب أن يقسم التعليم الديني إلى قسمين: قسم يحدد عدد تلاميذه وترتب
درجات التعليم فيه وتبين لهم حقوقهم والغايات التي تراد منهم والأعمال التي تسند
إليهم من أعمال الدولة، وهذا هو القسم الذي سيكون موضع العناية ومكان الرجاء
والأمل، وقسم لا يحدد عدده ولا ترتب درجات التعليم فيه، ولا يكون له شيء من
الحقوق في أعمال الدولة، وإنما الغاية من وجوده هي سد حاجة من يريد التفقه في
دينه ومعرفة اللغة العربية؛ ليخرج من الجهالة إلى نور العلم ويقنع بالعلم نفسه،
وتوضع لهذا القسم نظم لا يُقْصَد منها أكثر من مراقبة الأخلاق، ومن تعليم أفراده
تعليمًا صحيحًا بعيدًا عن العقائد الفاسدة موصلاً إلى روح الدين موصلاً إلى خلق
قويم، والقسم الأول تجعل درجات التعليم فيه ثلاثا فيكون ثلاثة أقسام:
1-
القسم الأولي مدته خمس سنوات.
2-
القسم الثانوي مدته خمس سنوات.
3-
القسم العالي مدته خمس سنوات.
والتعليم في القسمين الأولي والثانوي يكون عامًّا على مثال التعليم في
المدارس الأميرية، ويُعَلَّم فيهما كل ما يُتَعَلَّم في المدارس الأميرية ما عدا اللغات،
وتعلم فيهما علوم الأزهر الأصلية بالقدر المؤهل لدخول الأقسام العالية تعليمًا لا
يكون قوامه حفظ الدروس، وإنما يكون قوامه فهم العلم والمران على البحث
والتدليل وتربية الملكات، وقد يُلاحظ أن المدة لا تحتمل تعليم علوم الأزهر، وتعليم
ما يدرس في المدارس الأميرية، ولكن هذه الملاحظة تزول إذا لُوحِظَ أن الطالب
في المعاهد يؤخذ في سن عالية عن سن التلميذ في المدارس الأميرية، ويغلب أن
يكون أَلَمَّ بكثير من المعلومات في المدارس الأولية، وأن يكون حافظًا للقرآن
فاستعدادُهُ وسنُّه يسمحان بأن يحتمل هذا المقدار الذي يُرَاد أن يعلمه على أن الشروط
التي توضع لقبول التلاميذ في القسم الأولي كفيلة بإبعاد مَن لا يقوى على احتمال
هذه الدراسة، ويقسم التعليم العالي إلى ثلاثة أقسام:
1-
قسم اللغة العربية.
2-
قسم الفقه.
3-
قسم الإرشاد والدعوة.
ويجب أن يلاحظ أني حيث أعرض لهذا الأقسام وحيث أبين ما يُدْرَس فيها
فإني أضع رسمًا إجماليًّا قابلاً للتهذيب وأترك تفصيله إلى أن يحين وقت التفصيل
فتؤلف له لجان فنية.
أما القسم الأول فتدرس فيه علوم اللغة من نحو وصرف ووضع وعلوم
البلاغة وأدب اللغة العربية وتاريخ الآداب وعلم النفس والتربية، ويُعَلَّمُ التلاميذ فيه
بعض اللغات التي لها اتصال وثيق باللغة العربية، ويدرس فيه الكتاب والسنة من
حيث اتصال اللغة العربية بهما، ومن حيث اتصالهما بآدابها.
وأما القسم الثاني فيُدَرَّسُ فيه الكتاب والسنة دراسة مفصلة، وبخاصة من
ناحية الأحكام الفقهية، ويدرس أصول الفقه وتقارن المذاهب الإسلامية بالقواعد
العامة في أصول القوانين ويدرس تاريخ التشريع الإسلامي، وما يلزم للقاضي
والمحامي من نظم القضاء والإدارة وقوانين المُرَافعات.
وأما القسم الثالث فيُدَرَّسُ فيه المنطق والتوحيد الإسلامي والأخلاق والفلسفة
قديمها وحديثها، وتاريخ الأديان والمذاهب مع مقارنتها بالدين الإسلامي، ويدرس
أدب اللغة والقرآن والسنة وبخاصة من ناحية طرق الهداية والإرشاد.
بعد ذلك أنتقلُ إلى الغاية من هذا التعليم النظامي وسأجدُ نفسي مضطرًا إلى
شيء من الإطالة في القول:
عندما فكرت الحكومة المصرية في إنشاء مدرسة دار العلوم لتخريج أساتذة
اللغة العربية في المدارس الأميرية كان العلماء في الأزهر لا يعنون إلا بدراسة
القواعد وفلسفتها دراسة نظرية بعيدة عن التطبيق، وبدراسة الألفاظ وخدمة عبارة
المؤلفين ولا يعنون بالغاية من اللغة ولا بخدمة اللغة نفسها، يشهد بذلك أن أسلوب
الكتب المؤلفة في تلك الأيام بعيدة كل البعد عن اللغة، يشهد بذلك أن بعض كبار
العلماء ممن شاهدناهم لم يكونوا يحسنون التعبير عن أغراضهم، ولا تزال منهم
بقية إلى اليوم، وكان العلماء أيضًا لا يدرسون شيئًا من العلوم العامة كالتاريخ
والحساب والهندسة وتقويم البلدان، وكانوا يحافظون على ما هم عليه أشد المحافظة
ولا يرون الخير إلا فيما هم فيه، فلم تكن معلوماتهم العامة ولا طرائق تعليمهم
مؤهلة لتوليهم تعليم النشء في المدارس الأميرية على النحو الحديث.
وعندما فكرت الحكومة في إنشاء مدرسة القضاء الشرعي كان الأزهر على
النحو الذي وصفته، وكان فيهم علماء يحرمون تقويم البلدان والتاريخ والحساب،
ويكتبون مقالات في الجرائد ضد هذه العلوم، وكان ولاة الأمور يشكون من أن
القضاة لا يعرفون الأرقام، ولا يعرفون طرق التوثيق ولا يعرفون من العلوم العامة
ما يجب أن يعرفه شخص يتولى الحكم بين الناس، وقد بدَّل الله هذه الأحوال
وأصبح قانون الأزهر مشتملاً على ضعفي العلوم التي كانت تُدَرَّس من قبل، وأصبح
يُدَرَّسُ فيه التاريخ الطبيعي وتُدَرَّسُ فيه الطبيعة والكيمياء ويُدَرَّس فيه الجبر
والهندسة، وَقَبِلَ الأزهرُ في قسم تخصص القضاء الشرعي دروسًا في وظائف
الأعضاء ودروسًا في التشريح، قَبِلَ الأزهريون كل جديد وأعدوا أنفسهم له وزالت
كل العقبات التي كانت من قبل ولم يبق إلا إصلاح طرق التعليم وإيجاد المعلمين
الأكفاء وتوزيع العلوم على الأقسام توزيعًا صحيحًا، وإذا كانت هناك بقية تعترض
الجديد فلم يبق لها من الشأن ما تستطيع معه أن تكون عقبة في طريق الإصلاح.
في الدولة الآن مدارس متعددة بنوع واحد من التعليم: فيها دار العلوم لتعليم
اللغة، وفيها الأزهر وكل المعاهد لعلوم اللغة، فيها مدرسة الشرعي للفقه ونظم
القضاء، وفيها تجهيزية دار العلوم، وفي الأزهر أقسام تماثلها.
تنفق الدولة على هذه المدارس جميعها، ومن الممكن أن تقتصد في هذه
النفقات، ومن الممكن أن تضم هذه النفقات بعضها إلى بعض، وتوحد جهودها؛
لتخرج أمثلة أحسن من هذه الأمثلة.
في الدولة أشكال مختلفة من العلماء تخرَّجوا في مدارس مختلفة يحسد بعضهم
بعضًا وينقم بعضهم على بعض، ولهذا أثره في إفساد الأخلاق.
لم لا يحملنا هذا كله على التفكير في توحيد الجهود وتوحيد النفقات، ونجعل
قسم اللغة منبع علماء اللغة العربية لجميع مدارس الدولة والأزهر، وتخصص فرقة
من قسم الفقهاء لتحل محل مدرسة القضاء فتكون ينبوعًا للقضاة والمحامين والمفتين
وتُلْغَى تجهيزية دار العلوم والقضاء.
أول ما يعترضنا في هذا أن مدرسة دار العلوم أنشئت للحاجة إليها، وقد
حققت الآمال فيها فأخرجت للدولة علماء أحيوا اللغة العربية وآدابها بعد أن كادت
تدرس، وكانوا من أهم الأسباب لنشر تلك اللغة وتحبيبها إلى الناس بينما الأزهر
ضعف التعليم فيه، وأصبح محلاًّ لشكوى الأمة وشكوى أهله أنفسهم، وليس من
الحكمة بناء على الآمال في الأزهر أن تميت مدرسة محققة الفائدة، وكذلك في
مدرسة القضاء.
ولكنا على الرغم من قوة هذه الحجة يمكننا التغلب عليها بمراعاة ما يأتي:
قد كان الأزهر منفصلاً عن الحكومة في الماضي انفصالاً تامًّا فلم تكن له بها
علاقة إلا بمبلغ يسير من الرزنامه كان حقًّا له عليها، ولم يكن للحكومة إشراف
عليه، وقد تبدَّل الحال فصارت ميزانية الأزهر الضخمة أكثرها من وزارة المالية
وبعضها من وزارة الأوقاف، وصار لرئيس الدولة حق الإشراف عليه وصار
مسئولاً عنه أمام البرلمان، وأصبح من اليسير على الأمة والحكومة أن تعرف فيم
تنفق الأموال وبأي شيء تشتغل المعاهد وعلى أي نحو تسير.
ثم إن اندماج دار العلوم والقضاء سيفضي حتمًا إلى إدخال أساتذة المدرستين
في الأزهر، وإلى وجود الصلة التامة بينهم وبين العلماء، فهذه الصلة التي من
شأنها أن توجد تماس الأفكار ستنتج نتائجها الحسنة في إحسان الدراسة، وستكون
هناك عناصر قوية من رجال التعليم في مجالس الإدارة والمجلس الأعلى، وفي
التفتيش على المعاهد، وعلى الجملة ستوجد كل الضمانات التي تطمئن النفوس إلى
أن المعاهد لا ترجع القهقرى.
هذا الذي قلته مضافًا إلى توحيد التعليم وتوحيد النفقات وتجانس العلماء في
الدولة من شأنه أن يحملنا على المضي في هذا الطريق.
وتختص مدرسة القضاء على نظامها الجديد بكلمة لا بد لي من التصريح بها:
لست أرجو للقضاء الشرعي خيرًا من هذه المدرسة على نظامها الجديد، وقد
كان نظامها منذ أنشئت إلى سنة 1923 خيرًا من هذا النظام الجديد.
ذلك أننا حتى اليوم ليس لنا مراجع في القضاء إلا تلك الكتب المؤلفة في
القرون الماضية، وهي كتب مُعَقَّدَة لها طريقة خاصة في التأليف لا يفهمها كل من
يعرف اللغة العربية، وإنما يفهمها من مارسها، ومرن على فهمها، وعرف
اصطلاح مؤلفيها، وأيضًا فإن العلوم الشرعية التي يحتاج إليها القاضي مشتبكة
يستمد بعضها من بعض، ولا غنى للفقيه عن تعرف علوم كثيرة ترتبط بالفقه،
ونظام المدرسة الجديد قطع الصلة أو أضعفها بين تلاميذ مدرسة القضاء وبين الكتب
القديمة، فالتلاميذ الذين يتخرجون من التجهيزية ويُنْقَلون إلى مدرسة القضاء ليس
لهم من المؤهلات ما يعدهم لتفهم تلك الكتب وإلى هضم تلك المعلومات التي
وضعت لهم في البرنامج.
ولست أدافع الآن عن الكتب القديمة (بل وأرجو من الله أن يمكننا من
الاستغناء عنها بأحسن منها) وإنما أدافع عن الموجود الذي قضت الضرورة
بوجوده، فنحن في حاجة إلى رسل بين القديم والحديث، وأولئك الرسل يجب أن
نعلمهم القديم والحديث ليخرجوا للناس حديثًا جيدًا فلا بد لنا من علماء فيهم من القوة
ما يستطيعون معه تصوير ذلك في أسلوب حديث، ولذلك فإنه يجب أن يراعى في
النظام الجديد للأزهر عدم إهمال طرقه الأصلية في البحث وفهم الكتب.
أما المدرسة على نظامها منذ أنشئت إلى سنة 1923 فإنها تستحق الثناء ولا
أجد ما أعيبها به، ولكن أستطيع القول بأن تعهد الأزهر والمعاهد بالرقابة وحسن
الإدارة يُخْرِج للأمة مثل علماء تلك المدرسة أو أحسن منهم.
وقد أشير في تقرير لجنة إصلاح الأزهر سنة 1924 إلى شيء من المقارنة
بين القضاة خريجي الأزهر والقضاة خريجي المدرسة، ويحسن الرجوع إليه؛ لأنه
يفيد فيما نحن بصدده.
وخلاصة ما أسلفته أن تندمج تجهيزية دار العلوم والقضاء ومدرسة القضاء
ومدرسة دار العلوم في المعاهد، على أن توضع قواعد وقتية لهذه المدارس بالنسبة
لتلاميذها الموجودة فيها الآن.
أما امتيازاتهم فهي كما يأتي:
علماء اللغة العربية يكونون أساتذة في الأزهر والمعاهد الدينية وفي جميع
مدارس الحكومة ومجالس المديريات.
علماء الفقه يكونون أساتذة العلوم الشرعية في الأزهر والمعاهد الدينية وجميع
مدارس الحكومة.
وعلماء فرقة القضاة يكونون قضاة ومحامين ومفتين وأساتذة أيضًا.
وعلماء الإرشاد والدعوة يكونون أساتذة في الأزهر والمعاهد ويكونون خطباء
وأئمة ووعاظًا ومرشدين.
أما شهادة القسم الأعلى فليس لها شيء من الحقوق إلا تأهيل صاحبها لدخول
القسم الثانوي، وأما شهادة القسم الثانوي فتؤهل صاحبها للأقسام العالية وتؤهله
لوظائف الكتابة في المحاكم الشرعية والمعاهد الدينية.
وقد ينظر بعدُ في علاقة هذا القسم وبعض الأقسام العالية بالجامعة المصرية
إذا أراد واحد من حاملي شهاداتها دخول الجامعة المصرية في بعض أقسامها.
وقد يصح أن يقال: لندع دار العلوم ومدرسة القضاء تمضيان في طريقهما
ولنصلح الأزهر على هذا النحو الذي أشير إليه وليس هناك ضرر في وجود
مدارس متعددة صالحة غير أن ما أشرت إليه بالنسبة لمدرسة القضاء يحملنا على
عدم السكوت على نظامها الحاضر، وما أشرت إليه بالنسبة للغاية العظيمة التي
ننشدها من توحيد التعليم وتجانس العلماء، ومن الفائدة التي تعود على المعاهد
نفسها من إدخال العناصر القوية في اللغة العربية وهم علماء دار العلوم إلى الأزهر
يجعلنا نفضل طريق التوحيد على طريق التعدد.
وهناك أمر لا يصح الإغضاء عنه، ذلك أن وجود مدارس دار العلوم
والقضاء وتجهيزية دار العلوم مؤثر في الأزهر والمعاهد من حيث الرغبة فيهما؛
لأن نتيجة الأزهر (إذا لم يخرج قضاة ومحامين وعلماء للغة العربية في الحكومة)
تقتصر على إخراج علماء للمعاهد وخطباء للمساجد وهي نتيجة غير مرغبة، ومن
شأنها أن تجعل التعليم الديني في المعاهد مقصورًا على بعض الطبقات التي ليس لها
في الحياة آمال سامية، وهذه الطبقات وحدها قد لا تؤمن على هذه الوديعة وديعة
الخلق الديني والثقافة الإسلامية، ومن الواجب أن لا يغيب عنا ونحن نتقدم لتهذيب
التعليم الديني وتقويم أخلاق الأمة أن نشجع الطبقات الراقية على الدخول في هذه
المعاهد لتقوم بما يُطْلَب منها من العناية بالأخلاق.
وأمر آخر: وهو أن سلب الامتيازات القديمة التي كانت للأزهر من تخريج
القضاة والمحامين وعلماء اللغة العربية يؤثر أمام الرأي العام داخل الدولة المصرية
وخارجها في الأقطار الأخرى في سمعة الأزهر والمعاهد، ومن واجب الدولة
المصرية أن تحافظ على كرامة هذا المعهد القديم، وأن ترد إليه مجده فإنه واسطة
اتصال وثيق بين الأمة المصرية وغيرها من الأمم، وإذا أحسن استخدام هذه
الوساطة عادت بفائدة أدبية ذات قيمة على الشعب المصري.
ومتى تم تنظيم الأزهر وأخذ مكانته فستعود إليه ثقة الأمم الإسلامية، وتطلب
منه علماء ومرشدين خصوصًا إذا علمت فيه اللغات التي يحتاج إليها المرشد إذا
ذهب إلى بلد من البلاد الإسلامية.
هذا هو مُجْمَل رأيي في إصلاح المعاهد والتعليم الديني أقدمه خاليًا من
التفاصيل حتى إذا ما صادف قبولاً، واتفق على النقط الأساسية فيه أمكن أن نشرع
في تأليف اللجان الفنية التي تبحث أجزاء المشروع، وأمكن بعد ذلك أن نرجع إلى
القوانين لإصلاحها.
وقبل أن أختم كلمتي هذه أشير إلى أن من الممكن إيجاد كل الضمانات لحسن
سير التعليم، وذلك بتأليف مجال الإدارة ومجلس الأزهر الأعلى على وجه تمثل فيه
وزارة المعارف تمثيلاً قويًّا، وأن يكون قسم التفتيش على اللغة العربية والعلوم
الحديثة مشتملاً على رجال يكون لوزارة المعارف رأي في اختيارهم، بل ويمكن
أيضًا أن يكون لوزارة المعارف مندوبون لحضور الامتحانات.
ولا بد لي أيضًا من أن أصرِّح بأن الأزهر لا ينبغي أن يعنى بإخراج معلمين
للمدارس الأولية، وسننظر في إنهاء الدراسة الخاصة بالتعليم الأولي.
كما أنه لا بد لي أيضًا من الإشارة إلى وجوب إلغاء قانون التخصص فقد دلت
التجارب على عقم نتائجه، ولذلك أسباب كثيرة قد يحسن عدم الإفضاء بها، وأيضًا
فإن النظام الذي أشرت إليه، وهو نظام تقسيم الدراسة العالية سيضمن تخريج
علماء لهم تفوق في علوم الأقسام التي يدخلونها.
وأسأل الله أن يهيئ للأزهر والمعاهد طريق الفلاح والنجاح في ظل مولانا
حضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول، وأن يوفق رجال دولته إلى عمل الخير لهذه
الطائفة وللأمة المصرية جمعاء.
(المنار)
لقد أوتي الأستاذ الأكبر في هذه المذكرة الحكمة وفصل الخطاب وجاءت شاهدًا
على ما أشرنا إليه في الجزء الماضي من سعة علمه بطرق الإصلاح، وعلى
شجاعته وإقدامه، وقد ذكرت الصحف أن صاحب الدولة رئيس الوزراء تلقى
المذكرة بالقبول، ووعد ببذل المستطاع من المساعدة للأستاذ على تنفيذها.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد عبد العزيز الخولي
كيف يتكون المرشدون [
1]
للأستاذ العلامة صاحب الإمضاء
(4)
في مصر ثلاثة آلاف عالم أو يزيدون، وعشرات الألوف من طلبة العلم، قل
أن تجد فيهم من يُحسن الإرشاد، ويستطيع أن يأخذ بزمام القلوب فيقودها إلى حيث
سعادتها في حياتها العاجلة والحياة القابلة.
وما كان ذلك لنقص في عقول أصحابها أو فساد في فِطَرهم ولكن لم يسلك بهم
السبيل السوي الذي سلكه رب العالمين، في تكوين سيد المرسلين وخير المرشدين،
محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.
وإن يكن استعدادنا دون استعداد الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا مانع من
أن نلم أو نقارب فإن الله لا يكلفنا ما لا طاقة لنا به {لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} (الأعراف: 42) .
لذلك فكرت طويل التفكير في الطريق الذي نستطيع به تكوين المرشدين
الصالحين غير مُبَال برسوم أو تقاليد فهداني طول البحث وصادق البلاء إلى
الطريقة الآتية:
إذا أردنا تربية مرشد فعلينا أن نُحَفِّظَه القرآن على قارئ تقي حسن السيرة
والخلق، وذلك بعد أن يلم بالقراءة والكتابة والعلوم الأولية التي تفتق الأذهان وتنمي
العقول، فإذا ما أتم حفظه علمناه القواعد النحوية مع التطبيق الكثير من آي القرآن
ثم ألقينا زمامه إلى عاقل أديب دَيِّن يقرأ عليه كثيرًا من كتب الأدب الشعرية والنثرية
ويدربه في أثناء ذلك على الكتابة والخطابة، فإذا ما أجاد الكتابة وانطلق لسانه
بالخطابة رجعنا به إلى القرآن وقد حفظه وطالبناه بالإكثار من تلاوته مع تفهم
معانيه وتدبر آياته دون أن يستعين بكتاب تفسير أو معلم، اللهم إلا عقله الناضج
وفطرته السليمة وأدبه الذي تعلمه فإن لم يكن له في كل أولئك الكفاية فوقف في فهم
كلمة غريبة أو معنى آية غامضة فلا عليه إن استعان بكتب التفسير أو معلم أمين،
ولكن بمقدار ما يعرف المجهول ويستبين المستور، ثم يعود سيرته الأولى في
الاستقلال بالفهم، واستنباط المعاني والحكم والأحكام التي تضمنتها الآيات.
وإنما اخترنا تلك الطريق من بين سائر الطرق في تعلم القرآن للأسباب الآتية:
أولاً: هذه هي الطريقة التي تعلم بها الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه
كتاب الله المبين، فكانوا يعتمدون على عقولهم ولغتهم الفطرية في تفهم الآيات،
وكانوا إذا وقفوا في كلمة أو آية سأل غافلهم ذاكرهم، وعالمهم من هو أعلم منه
{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 43-44) ولذلك لما وقف عمر
بن الخطاب في كلمة الأب في قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَباًّ} (عبس: 31) سأل
عنها فأخبر أنها المَرْعَى.
ثانيًا: كتب التفسير محشوة بالخرافات الإسرائيلية والأباطيل المذهبية، ثم
هي لم تفسر كتاب الله من حيث هو كتاب هداية يقضي بين الناس فيما فيه يختلفون،
بل عمدوا إلى النكات البلاغية والمسائل النحوية فأطالوا الكلام فيها مما حال بين
القلوب ومعاني القرآن وهدايته، ثم تراهم يفسرون اللفظ أو الجملة بكل محتملاتها،
وإن أبى ذلك الأسلوب أو ناقضه آية أخرى، ثم نجدهم يؤولون القرآن حسب
مذاهبهم الفقهية أو نِحَلهم العقيدية، فترى (الكشاف) على جلالته في التفسير،
وسبقه الجم الغفير، يرجِّح دائمًا آراء المعتزلة، وينهج في التفسير إلى ما يوافقها،
ونرى الفخر الرازي يعزز آراء الشافعية (الأشعرية) ويُزَيِّف آراء الرازي من
الحنفية، ونرى النسفي متعصبا لمذهبه، يقضي له في كل شِجَار، وإن كان غيره
واضح الحجة قائم البرهان ليس عليه غبار، وإذا نظرت في تفسير النيسابوري
وجدته سلك مسلك الباطنية في بيان القرآن، وإن هم إلا فرقة أرادت القضاء على
الدين من حيث لا يشعر المسلمون فيفسرون كتاب الله بما لا يتفق واللغة ولا ترشد
إليه السنة بل بما يناقضه ويأتي على صرح بنائه من القواعد.
من أجل ذلك لا نرى للمرشد بل لكل متفهم للقرآن أن يتعرفه من طريق
العكوف على كتب التفسير، بل عليه أن يعتمد على نفسه بعد أن يتحصل على ما
رسمنا مضيفًا إليه معرفة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسننه العملية معتمدًا
على الكتب الصحيحة التي كتبت بعين النقد والبصيرة ككتاب (زاد المعاد من هدي
خير العباد) لابن قيم الجوزية، وإن يكن لا بد من كتاب في التفسير فخيرها في
نظرنا (جامع البيان في تفسير القرآن) للإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري
المتوفى سنة 310هـ فإنه تفسير سلفي فسَّر به القرآن من حيث هو كتاب هداية،
وكتب قبل أن ترفع الفرق الزائغة رءوسها، وقبل أن تتمكن في النفوس بدعة
التعصب للمذاهب التي أضرت بالكتاب والسنة ضررًا بليغًا، على أن كتب التفسير
على كثرتها أخذت أحسن ما فيها من تفسير ابن جرير وتفسير الكشاف مضيفة إلى
ما أخذته غثاء من القول، وتعصبًا للمذاهب، وتقعرًا في الإعراب، وفي استخراج
النكت البلاغية فالعناية بالأصل أولى من العناية بهذه الكتب المحرَّفَة في ألفاظها
ومعانيها، والتي كتبت بلسان التعصب والصناعة، لا بلسان الحق والهداية [2] .
ثالثًا: ما فهمه الإنسان من تلقاء نفسه وكان نتيجة بحثه وكده يتمكن من قلبه،
وقلَّما تذهب به يد النسيان، ثم إن الإنسان بذلك يتعود الاستقلال في الفهم،
والاعتماد على النفس، والترفع عن حضيض التقليد، وربما عنَّ له من المعاني ما
لم يعن للسابقين، وربما كان في عصره حوادث كشفت عن معاني كثير من الآيات،
فإذا كان مستقلاًّ في فهمه، مسترشدًا بأحوال عصره في تفهم القرآن، سهل عليه
إدراك هذه المعاني الجديدة، على أني لا أعتبر مفسرًا من يحفظ أقوال غيره دون
أن تكون له ملكة فهم في القرآن، فإن هذا إن حول عما يحفظه قليلاً لم يستطع
متابعة السير معك؛ لأنه ما تعود الاستقلال في البحث.
ذلك ما يتعلق بأصل الدين في تكوين المرشدين، ولكن لن يصلوا إلى حبات
القلوب بوعظهم إلا إذا عرفوا الدنيا وسير أهلها وأخلاقهم، لذلك كان من الواجب
أن يتعرفوا أحوال المسلمين العامة، وصلتهم بغيرهم من الأمم الأخرى، وأن
يختلطوا بالناس ليعرفوا عللهم وأمراضهم، حتى إذا ما وصفوا لهم الدواء أتى على
الداء فبرأ بإذن الله، وكأيٍّ من واعظ لعدم تبصره بشئون الناس أضل أكثر مما
هدى، وهدم فوق ما بنى، ونفَّر بدل أن قرَّب، فأمثال أولئك دعاة الغواية، لا
رسل الهداية، أولئك الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
وكما يلزم الواعظ الخبرة بأحوال الناس ينبغي أن يقف على طرف من علوم
الحياة التي تبصره بالكون ونظامه، والسنن التي قام عليها بناؤه، حتى يكون لهم
من ذلك معين على معرفة أسرار الله في صنعه، وحكمته في تدبير خلقه، وبذلك
يستطيع فهم آي القرآن الكونية وتقريبها من أفهام العامة، فيبصر ويبصرون،
وبآيات الله يوقنون، وعلى الله قصد السبيل.
***
صناعة خطب الجمعة وإلقاؤها
بينا لك أن خير الخطب ما كان مصدره نفس الخطيب وشعوره وإحساسه لا
نفس غيره ممن مضت بهم القرون، وكانوا في عالم غير عالمنا، ولهم أحوال
تخالف حالنا، فمن أراد العظة البالغة، والقولة النافذة، فليرم ببصره إلى المنكرات
الشائعة، والحوادث الحاضرة، خصوصًا ما كان منها قريب العهد لا تزال ذكراه
قائمة في صدور الناس وحديثه دائرًا على ألسنتهم، أو ذائعًا في صحفهم، وأثره
مشاهدًا بينهم، ثم يتخير من هذا الحوادث ما يجعله محور خطابته ومدار عظته ثم
ينظر ما ورد من الآيات والأحاديث الصحيحة في الموضوع الذي تخيره ويجيد
فهمها ويفكر في الأضرار المالية والصحية والخلقية والاجتماعية التي قد تنشأ عن
هذه الجريمة التي جعلها موضع عظته، ويحصي هذه الأضرار في نفسه أو بقلمه
ثم يبدأ في كتابة الخطبة إن أراد كتابتها مُضَمِّنَها آثار تلك الجريمة وما ورد عن
الشارع فيها صائغًا ذلك في قالب خطابي جذاب أخاذ يناسب أفهام السامعين ولغة
الحاضرين.
هذا إذا أراد التنفير من رذيلة أو الإقلاع عن جريمة ذاع بين الناس أمرها أو
طفح عليهم شرُّها، فإن أراد الترغيب في فضيلة أو الحث على عمل خيري أو
مشروع حيوي فليفكر في مزاياه تفكيرًا واسعًا مراعيًا الصالح العام دون المآرب
الخاصة، ويستحضر ما يناسبه من الآيات والأحاديث وفي الكتاب كل شيء وفي
السنة البيان والتفصيل، ثم ينحو في الكتابة النحو الذي بينا، وإياه والسجع المتكلف
والمحسنات المرذولة التي كثيرًا ما تخفي الأغراض وتعمي المعاني وتأخذ بصاحبها
عن سداد القول وقصده.
وليكن كلامه جامعًا محكمًا صادرًا عن قلبه مملوءًا بالعبر والعظات وينبغي أن
يكون تفكيره في جو هادئ بحيث لا يحول بينه وبين حديث النفس وحكمة العقل
ومراقبة الرب أي حائل، كما يُعْنَى بتصفية نفسه وتهذيبها قبل الشروع في العمل،
فيقدم بين يديه قراءة ما تيسر من القرآن الذي هو آيات بينات في صدور الذين
أوتوا العلم مع خشوع وخضوع وتدبر للآيات ويقلل من الطعام والشراب حتى لا
تذهب بطنته بفطنته، فيريد القول فيستعصي عليه أو بصدور غثاء أو يكون معين
كلامه اللسان فلا يتجاوز الآذان.
ثم إذا خط الخطبة فإن شاء حفظها وألقاها، وإن شاء ارتجل ما تضمنته،
وهو أحب الأمرين إليَّ حتى لا يكون مقيدًا بعبارة، فإذا ما عَنَّ له حادث جديد أثناء
الخطابة كان له من الحرية ما يمكنه من الخوض في الحدث الحادث، وكثير من
الحفاظ إذا نسوا جملة وقفوا في الخطبة فلا ينبسون بكلمة فيفقدون الهيبة في نفوس
العامة، وما ألزمها للواعظ الناصح، فكان من المصلحة ألا يتقيد بعبارة، بل يتخير
من العبارات ما يؤدي المعاني التي وصل إليها بحثه. وإن شاء الخطيب ألا يقيد
بالكتابة ما جادت به فكرته بل يرسمه في مخليته ويسطره في ذاكرته، ثم إذا حانت
الخطبة استملى الذاكرة فأملته ولم تخنه إن شاء ذلك كان خيرًا وأولى؛ لأنه لا
يحتاج إلى قلم يخط به، ولا قرطاس يقيد فيه، بل هو غني بنفسه وذاكرته عن
الآلات والأدوات، وخير الغنى غنى النفس، ذلك ما يرعاه في صناعة الخطابة.
أما الإلقاء فصوت مُسْمِع، وعبارة بَيِّنَة، ومقاطع واضحة، وتمثيل للحوادث،
وسير مع الطبيعة، دون تكلف ممقوت وصوت مكذوب، أو تمطيط في الفاصلة
أو غُنَّات غير متقبلة.
وإياه أن يأخذه الغرور بعلو المكانة وارتفاع الدرجة، أو يغلب عليه الرياء،
والتطلع إلى الثناء، فإن ذلك مرض الواعظ القاضي على سلطانها، المانع من
تأثيرها، بل عليه أن يراقب الله وحده ويذكر أنه عليم بخَطَرات نفسه وجولات
ذهنه ثم مُحَاسِبه على ما تخفي الصدور، وإذا علم أن ثناء الناس لا قيمة له عند الله
ما لم يكن بحق - وأنه لا يحول دون ضر أراده الله بمن يقول ولا يفعل، أو ينطق
بغير ما يُضْمِر ويظهر غير ما يبطن إذا علم ذلك سهل عليه أن يدع الناس وثناءهم
جانبًا ويولي وجهه نحو الذي فطر السموات والأرض وبيده ملكوت كل شيء وهو
يجير ولا يجار عليه، فإن ذلكم الجدير بالرعاية والأولى بالرقابة، والحقيق بالرغبة
في ثوابه، والرهبة من عقابه، لا من لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، وربما كان ثناؤه
بلسانه وبين جنبيه عدو لدود وحسود حقود فالواعظُ العاقل مَنْ مقالُ حالِهِ ساعةَ
يتصدى للإرشاد {لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً
قَمْطَرِيراً} (الإِنسان: 9-10)، {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} (القلم: 32) .
وحذار للواعظ أن يلتزم خطبة واحدة في خطبة الجمعة الثانية فإن ذلك سبيل
موبوء، ودَأْب مَرْذُول، وكيف تستحل ساعة من وقت الناس كافة لا تفيدهم فيها
فائدة، ولا تعود عليهم منها عائدة، بل يسمعون عبارات قد حفظوها وملوها حتى
تركوا التفكير فيها، فأصبحت في نظرهم لغوًا من القول {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ
أَعْرَضُوا عَنْهُ} (القصص: 55) وهل تظن فرقًا بين من يسرق أموال الناس
ومن يسرق أوقاتهم؟ اللهم إنه لا فرق إلا أن الأول يجني على المال، والثاني على
رأس المال، فإن الوقت مصدر كل خير في الحياة الراهنة والحياة القابلة، وإن
الدنيا مزرعة الآخرة، لماذا نُعْنَى بالخطبة الأولى فنضع لها كل جمعة نصًّا جديدًا،
ولا نُعْنَى بالثانية، فنلتزم نصًّا مَجَّتْه الأسماع ونبذته الطباع، إنه لا داعي لذلك إلا
الجهل والكسل، والجهل بصناعة الخطابة أقعدنا عن صنع الخطبتين، وإن أجهدنا
الذهن واعتصرنا الفكر فقصارى الجهد وغاية الوسع خطبة واحدة نؤلفها في أسبوع،
والكسل قعد بالذين يلتمسون دواوين الخطباء عن أن يحفظوا خطبتين فاكتفوا
بواحدة لكل جمعة، واتخذوا للثانية نصًّا لزامًا مدى حياتهم بل ربما ورثوا أبناءهم
تراث أجدادهم {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (الزخرف: 22) .
فليقلع الخطباء عن هذه العادة الممقوتة ويسلكوا في الثانية ما سلكوه في الأولى
حتى يكون آخر ما يقرع الأسماع من وعظهم كلم حديث وبدع طريف مما عملته،
أيديهم فيحمد لهم الناس ما صنعوا ويشكرون لهم ما قدموا، والله الموفق للسداد.
…
...
…
...
…
...
…
... محمد عبد العزيز الخولي
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
تابع لما نشر في المجلد 27 (ج4 ص 251) من المنار.
(2)
نسأل الأستاذ الكاتب أن يبين للناس في تعليمهم طرق الإرشاد رأيه في تفسير المنار أليس قد تجنب العيوب التي نعاها على المفسرين وسبقه إلى هذا النعي وسلك في التفسير طريق الهداية، ونسأله أن يبين ذلك بغير أدنى محاباة.
الكاتب: سيف الرحمن رحمة الله فاروق (اللورد هدلي)
يفترون على الله كذبًا
مطاعن المبشرين في صاحب الرسالة الإسلامية
لصاحب الفخامة سيف الرحمن رحمة الله فاروق (اللورد هدلي)
رئيس الجمعية البريطانية الإسلامية [*]
نشرت المجلة الإسلامية (إسلامك رفيو) التي يصدرها الخواجة كمال الدين
مقالاً مطولاً بقلم اللورد هدلي الذي ذاع في الناس خبر اعتناقه لدين الإسلام منذ
عشر سنين، ردًّا على مفتريات المبشرين الذين لم يكتفوا بعقد مؤتمراتهم ضد
العالم الإسلامي، بل هم يوجهون المطاعن البذيئة إلى النبي الكريم، فليشهد التاريخ
وليسطر في صفحاته هذه الأعمال التي تدل على عقلية سقيمة وتربية لا تليق أن
يتصف بها أتباع السيد المسيح عليه السلام، وهذا هو:
(كنت أطلع من وقت إلى آخر على كتابات الإرساليات المسيحية التي
يطبعونها بشكل كراسات صغيرة، ويدَّعون فيها أنهم يُدْلُون للقراء بمعلومات قيمة
عن الدين الإسلامي وواضع أسسه، وإنني لأعترف وأنا عظيم الأسف بأنني أشعر
بذلة عظيمة وخجل شديد عندما أجد أن أحد رجال وطني يضطر إلى الأخذ بالرياء
والتمويه والتحريف لكي يعزز آراءه نحو الدين، فإن الدين الحق يعلم الناس العدل
والآداب وعدم الافتراء والكذب؛ وإنه ليُذهِل أن يرى القارئ إلى أي مدى تسير
التعصبات الدينية المسيحية.
وانظر إلى وجه الصورة الآخر: ألا تدهشك رؤية مظاهر روح التسامح
والحسنى التي يقررها القرآن، وذلك الهدوء الذي يلاقي به المجتمع الإسلامي
الحملات القوية العديمة القيمة التي تحمل عليه وعلى ديانته باسم عيسى الكريم أحد
أنبيائه؟
إنني لا أجد أي جور أو تحريف في أعمال هذه النبي الكريم، وإنه وإن كانت
هناك كلمات شديدة يدفع بها المسلمون عن كرامتهم إلا أنهم لم يلجأوا إلى مثل هذه
التهم الملفقة كي يكون منها أهم أسلحتهم التي يهاجمون بها خصومهم.
وها أنا ذا ذاكر الآن بعض قطع من كراسات وضعت خصيصًا لتشويه أخلاق
المصلح العربي العظيم، وسيرى كل شخص ذي عقل سليم مسيحيًّا كان أم مسلمًا
أن طلب الانتقام هو السلاح الوحيد الذي يهاجمون به الإسلام، يريدون بذلك أن
يطفئوا تلك الشمس النيرة، وأن يحجبوا أشعتها الوضاءة وليس في تلك الكراسات
حجج ولا إشارات إلى الحقائق التاريخية وإنما هي تقارير مثيرة متوالية تدل على
عقلية كاتبيها السخيفة وذوقهم السقيم.
ويرى القارئ هنا بعض أمثلة مقيئة وإنني أعتذر إليه لذكر هذيان كهذا يَمُجُّهُ
الذوقُ السليم ويحمرُّ منه وجه الفضيلة، وعذري في ذلك أنه يجب على كل مسلم أن
يعلم مقدار تعصب هذه الشرذمة الضالة، وأن يرى هذه الهجمات المتتالية التي
توجه منذ زمن بعيد ضد المسلمين الذين لا تسمح لهم حسناتهم وصبرهم وطول
أناتهم وحسن ذوقهم بأن يقابلوهم بمثل هذه السفالة المنكرة المبتذلة التي نهى عنها
المسيح الذي يعتقد هؤلاء المتدينون الأسافل أنه ربهم ومولاهم.
من ذلك ما نشرته جريدة (نور آفشو) وهي جريدة تبشيرية أسبوعية تطبع
في لوديانا قالت:
(الوحي الذي نزل على.. . أتي من لدن الشيطان) .
(المسلمون في الواقع حُمُر وأعمالهم كأعمال الجحوش) .
(المسلمون مربوطون بحبال الشيطان من رقابهم) .
(كل نساء بلاد العرب المتزوجات زانيات) .
(خلاص المسلمين مبني على ارتكاب الخطايا وجعلت الأعمال الطيبة عندهم
كوسيلة للحرمان، أما الخطيئة فقد نظمت كفرض وحيد لحياتهم الطبيعية) .
(أسس محمد أمة جعلت ارتكاب الخطايا، وجعلت الأعمال الطيبة [1]
يتعمدون الكذب ويسفكون الدماء ويرتكبون السرقة وقطع الطريق ومصيرهم إلى
جهنم جميعا) .
وكتب الدكتور ت. هويل راعي الكنيسة الإنجليزية بلاهور:
(مِن محض رغبته أو غوايته الشيطانية شكر محمد الأصنام وسجد لها) .
(إنه ظل خاضعًا للشيطان والسحر) .
(وقال مخاطبًا المسلمين بتعيير وتوبيخ؛ ذلك لأن قوادكم مجرمون شريرون
وعقولهم ضعيفة) .
وكتب القس ج. هراوءوس الأستاذ في اللاهوت (هناك أشياء كثيرة تدل
على أن.. . مجرم أثيم) .
(الطمع والغضب كانا من الشرور القوية الغريزية في
…
) .
(إن.. . مفتقر إلى الإخلاص) .
(إن.. . لا يستطيع أن يتخلص من جهنم بأية واسطة وسيلقى في جهنم
كباقي المخطئين) .
وكتب القس روكلين:
(أصحاب محمد يوصفون بأنهم سفاكون دماء وظلمة متوحشون ولصوص
غشاشون وفاعلو كل أصناف الآثام) .
وكتب القسم السير وليم مبور:
(قد سجن.. . في داخل بخار جهنم إلا أن كل ذلك حصل من جراء ارتكابه
الجرائم التي ظل يمارسها إلى أن مات) .
(القرآن مجموعة من الحكايات اليهودية والمسيحية المسروقة من التوراة
وغير الموثوق بها) .
قال اللورد بعد نقل ما ذكر:
أنا أفهم أن للقلم حرمة وأفهم أنه مرآة حامله، فإذا أثم القلم فيما يسود من
بياض القرطاس دل على أن لصاحبه نفسًا لا تسمو كثيرًا عن نفوس المجرمين،
وكل ما في الأمر أنه طليق وأنهم سجناء
…
فالذي يحاول أن ينال من غيره ببذيء
القول لا ينال إلا من نفسه، والذي يريد أن يطعن غيره بفُحْش الكلام لا يطعن إلا
صدره.
فإذن يفهم من أقوال المبشرين أنهم ضالون مضللون وإذا كان هذا هو الأدب
لديهم فماذا تركوا لأوباش الأحواش (المواخير) وأبناء الأزقة؟
إن تعاليم القرآن الكريم، قد نفذت ومُورِسَتْ في حياة محمد صلى الله عليه
وسلم الذي أظهر من أشرف الصفات الخلقية ما لا يتسنى لمخلوق آخر إظهارها فكل
صفات الصبر والثبات والحلم والصدق كانت ترى في خلال الثلاثة عشرة سنة أثناء
جهاده في مكة هذا، ولم تتزعزع ثقته بالله تعالى وأتم كل واجباته بشمم وشهامة.
كان صلى الله عليه وسلم مثابرًا في عمله لا يخشى لومة لائم؛ لأنه كان
يدرس المسئولية التي ألقاها الله تعالى على كاهله، وقد أثارت تلك الشجاعة التي لا
تعرف الجفول - تلك الشجاعة التي كانت حقًّا إحدى مميزاته وأوصافه العظيمة -
إعجاب واحترام الكافرين، وأولئك الذين كانوا يحاولون قتله، ومع ذلك فقد انتبهت
مشاعرنا وزاد إعجابنا له في حياته الأخيرة أيام انتصاره بالمدينة عندما كانت له
القوة والقدرة على الانتقام واستطاعته الأخذ بالثأر ولم يفعل من ذلك شيئًا بل عفا
عن كل أعدائه.
إن العفو والإحسان والشجاعة والحلم كل ذلك كان يرى منه في خلال تلك
المدة، وإن عددًا عديدًا من الكافرين اهتدوا إلى الإسلام عند رؤيتهم ذلك.
عفا بلا قيد ولا شرط عن كل هؤلاء الذين اضطهدوه وعذَّبوه.
آوى إليه كل الذين كانوا قد نفوه من مكة وأغنى فقراءهم وعفا عن ألد أعدائه
عندما كانت حياتهم في قبضة يده وتحت رحمته.
تلك الأخلاق اللاهوتية التي أظهرها النبي الكريم أقنعت العرب الكافرين بأن
حائزها لا يمكن إلا أن يكون مرسلاً من عند الله وأن يكون رجلاًَ هاديًا إلى الصراط
المستقيم، وإن تلك الأخلاق المُضَرِيَّة الشريفة حولت كراهيتهم المتأصلة في نفوسهم
إلى محبة وصداقة متينة.
فكل هذه المحاولات العقيمة والوسائل الدنيئة التي يقوم بها المبشرون لتحقير
شريعة النبي العظيم بالبذاءة آنًا، وبالسفاسف المتضمنة كثيرًا من طمس الحقائق آنًا
آخر لا تمسه بأذًى ولا تغير عقيدة تابعيه قيد أصبع.
وليعلم هؤلاء الذين اتخذوا مثل هذه الأكاذيب ذريعة وأحبولة ليقتنصوا
المسلمين أن الكلام البذيء والكذب كانا أكره شيء في نظر أعظم معلمي الناصرة.
لا أظن أبدًا أن المسلمين اجتهدوا في حين من الأحيان أن يحشروا أفكارهم
ومعتقداتهم الدينية في حلوق الناس وصدورهم بالقوة والفظاعة والتعذيب، وإذا كان
هناك مثل هذه الحالات فحينئذ يمكننا أن نقول: إن مرتكبي هذه الآثام ليسوا
بمسلمين مطلقًا؛ لأننا لا نستطيع أن نقر بأن القرآن الشريف يصادق على أفعالهم.
إن محمدًا كان قانونيًّا ومحاربًا وعندما امتشق الحسام هو وتابعوه لم يكن ذلك
إلا للدفاع عن أنفسهم فقط، ولم يعتدوا قط على أحد، والسيرة النبوية تثبت لنا ذلك.
نحن نعتبر أن نبي بلاد العرب الكريم هو ذو أخلاق متينة وشخصية بارزة
حقيقية وزنت واختبرت في كل خطوة من خطى حياته، ولم ير فيها أقل نقص أبدًا.
وبما أننا باحتياج إلى نموذج كامل يفي بحاجاتنا في معترك هذه الحياة فحياة
النبي المقدس تسد تلك الحاجة.
إنما حياة محمد صلى الله عليه وسلم كمرآة أمامنا تعكس علينا التعقل والسخاء
والشجاعة والإقدام والصبر والحلم، والوداعة والعفو وجميع الأخلاق الجوهرية
التي تتكون منها الإنسانية وترى ذلك فيها بألوان وضاءة وجلاء شديد.
خذ أي وجه من وجوه الآداب تجده موضحًا في إحدى حوادث حياته وقد
وصل محمد إلى أعظم قوة وأتى إليه مُقَاوموه ووجدوا منه رحمة لا تُجَارَى.
وكان ذلك سببًا في هدايتهم ونقائهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
إن الهمة العظيمة التي لا تَعْرِف الكلل أو الوهن التي كان يبذلها النبي الكريم
لمنع عبادة الأصنام قد أثارت معارضة مريعة ضده، فلم تكن هناك قبيلة من قبائل
العرب بدون معبود صنمي، وقد أشعلت كل قبيلة لظى الحرب كي تؤيد أصنامها
وتحميها حصل ذلك كله حينما كان النبي بالمدينة، وفي الواقع فقد قضى هنالك أيامًا
أشد من تلك التي قضاها في مكة، ولما كان أعداؤه يشنون الغارة عليه في كل آن،
ومن جميع الجهات أخذ في مقاتلتهم أو إرسال رجاله لصدهم عن سبيلهم فكانوا
طورًا ينتصرون وتارةً ينهزمون، وكانت كل حادثة تخلق فرصة مناسبة للنبي
الكريم؛ ليظهر مكنونات أخلاقه العظيمة التي لو جمعها الإنسان ونسقها لوجد العالم
منها لنفسه قوانين وشرائع تتفق مع كل زمان ومكان.
لم يشهر محمد صلى الله عليه وسلم السلاح إلا حين الحاجة القصوى لحماية
الحياة البشرية، ولربما يدعي بعض المبشرين أن الإسلام استعمل السيف في نشر
الدين، ولكن لحسن الحظ عجز ألد أعداء الإسلام القادحين عن أن يأتوا بأقل دليل
أو مثل من الأمثلة التي أثرت فيها الحرب على هداية قبيلة واحدة أو شخص واحد.
إن هذه الوقائع كانت سببًا لإظهار كرم أخلاق محمد صلى الله عليه وسلم الذي
امتلك كل قلوب مواطنيه، والذي كان أشد تأثيرًا في الهيئة من أي شكل من أشكال
الإكراه، وقد أظهرت تلك المعاملة النبيلة السامية التي كان يعامل بها النبي
المنهزمين عجائب وغرائب أدهشت العالم أجمع.
فهل آن لهؤلاء المبشرين أن يسكتوا بعد أن ظهر الحق وزهق الباطل، وهل
آن لهم أن يكفوا عن هذه المفتريات التي تسقط من قيمتهم في المجتمع الإنساني؟
ولا عجب أن كذب المبشرون أو افتروا على الله كذبًا فكم تظاهر اللص
بالأمانة، والداعر بالاستقامة، والزنديق بالتدين.
ولكن لا عجب فقد غاض من وجههم ماء الحياة، وقد قال النبي العربي:
(إذا لم تستح فاصنع ما شئت) .
ولو كانوا يستحيون من أنفسهم، أو على الأقل من الناس، لما أقدموا على
هذا الادعاء الباطل والافتراء الواضح، ولما باتوا مضرب المثل في الدس والتدجيل،
وعلمًا في التفريق والتضليل؟
ولكنك ترى أشد الناس إلحادًا أكثرهم تظاهرًا بالورع، وهم في الحقيقة أمهر
في النصب والاحتيال من الضاربين بالرمل واللاعبين (بالوَدَع) .
(المنار)
بينا مرارًا ما علمناه بالاختبار الطويل من أن طغمة المبشرين بالنصرانية
مؤلفة في الأغلب من أفراد من المرتزقين بدينهم الذين لا يؤمنون به ولا بغيره من
الأديان لذلك يستحلون افتراء الكذب المحرم في جميع الأديان، وهم في كل قطر
يظهرون من كذبهم وبهتانهم وسفاهتهم بقدر ما تسمح به حال حكومتها، وحسب
المسلم أن يرى أن هؤلاء الأرذلين هم مثال النصرانية ودعاتها وأئمتها ولكنهم
يلبسون على العوام بضروب من الرياء ما هو شر من الرياء الفريسي الذي ينبز به
المسيح عليه السلام أمثالهم من يهود عصره كما ترويه هذه الأناجيل بل هم والله شر
منهم، ولولا أنهم من أسفل البشر لأضلوا كثيرًا من عوام المسلمين الجاهلين، ولكن
الله لطيف بعباده.
_________
(*) منقولة من جريدة الفطرة الغراء.
(1)
كذا في جريدة الفطرة، والكلام غير مفهوم؛ لأنه محرف أو فيه نقص ولا يهمنا تصحيحه.
الكاتب: محمد رشيد رضا
وفاة سيد أمير علي
أحد قادة التفكير الإسلامي وحامل دعوة الإسلام في الغرب
القاضي أمير علي الهندي عالم من أكبر أعلام الإسلام في الشرق والغرب لا
يحتاج فيهما إلى تعريف أو وصف، اختاره الله إلى جواره والإسلام في أشد الحاجة
إلى أمثاله العظماء في علمهم وأخلاقهم وخدمتهم إليهم، وقد كنا ننتظر أن نرى
ترجمة لحياته الحافلة من علماء الهند، ولكنا لم نظفر إلا بهذه الترجمة التي دبجها
يراع الأستاذ محمد عبد الله أفندي عنان المصري ونشرت بجريدة السياسة،
وهذه هي:
نعت إلينا الأنباء الأخيرة المرحوم (مولانا) سيد أمير علي المشترع
والفيلسوف الهندي الأشهر فطويت بوفاته صفحة حافلة من أنفس صفحات التفكير
الإسلامي في عصرنا، وفقد الإسلام إمامًا من أحدث أئمته، وأرسخهم قدمًا في
دراسته، ومجاهدًا باسلاً قضى زهاء نصف القرن في الذَّوْد عن مبادئه وأحكامه،
ولعل مفكرًا مسلمًا لم يعمل في عصرنا لِبَثِّ دعوة الإسلام العلمية والاجتماعية قدر
ما عمل أمير علي برائع بيانه وناهض حجته وطريف نقده وتحليله فقد خاطب أمير
علي الغرب بلغة غربية وعمد إلى شرح مبادئ الإسلام الروحية والشرعية
والاجتماعية بأساليب الغرب العلمية، فكان أول مسلم استطاع أن يخرج للغرب
صورة صادقة من هذه المبادئ تضطرم بإيمان مسلم شربت نفسه روح الإسلام
الحقة ولا تشوبها مع ذلك ذرة من التشيع أو التحامل، وأن يعرضها في ثوب علمي
محدث يتذوقه الذهن الغربي ولا ينكره الذهن الإسلامي، وكان أول مسلم استطاع
أن يخرج للغرب أجمل وأدق صورة من المجتمع الإسلامي القديم ومدنيته وتفكيره.
ويرجع ذلك بالأخص إلى نشأة أمير علي وتكوينه الفكري، فهو سليل أسرة
عربية تنتمي إلى آل البيت هاجرت في أواسط القرن الثامن عشر من فارس إلى
الهند واستقرت في موهان من إقليم أود (أيودهيا) في شمال الهند، وفي موهان
ولد سيد أمير علي في 6 إبريل سنة 1849 من أب مسلم (هو سعادت علي) وأم
إنجليزية (هي إيزابيل أدا) ودرس أولا في كلية هوجلي في كلكوتا ونال أعلى
درجات في التاريخ والأدب، ونال شهادة العالمية من كلية عليكرة الإسلامية، ثم
ذهب إلى لندن ودرس القانون، ونال إجازته سنة 1873 واشتغل بالمحاماة بادئ
بدء، ثم عين أستاذًا للشريعة الإسلامية في كلية الرياسة في كلكوتا، فمديرًا لمدرسة
الحقوق بها، فكبيرًا لقضاة كلكوتا، وكان قد ظهر بكفايته وبيانه في كل هذه
المناصب فعين في سنة 1890 مستشارًا بمحكمة بنغالة العليا، فكان أول هندي
جلس في هذا الكرسي، وفي سنة 1904 اعتزل القضاء، وعاد إلى إنجلترا وأقام
في لندن وكان اسمه قد ذاع يومئذ ولفت أنظار ولاة الأمر في الهند وفي إنجلترا
بخدماته القضائية، وكفايته الفقهية، ومقدرته النادرة في الكتابة بالإنجليزية، فعين
في سنة 1909 مستشارا ملكيًّا في المجلس المخصوص، وانتدب للعمل في لجنته
القضائية فكان أيضًا أول هندي ظفر بهذا المنصب السامي.
بيد أن التدرج في مناصب الدولة ومراتبها الرفيعة ليس أعظم ما في حياة سيد
أمير علي، فإن جانبها الباهر هو الإنتاج الفكري والنشاط السياسي اللذين سلخ أمير
علي فيهما زهاء نصف قرن، وقد اختص فتوته وكهولته بالإنتاج الفكري ولم يأخذ
قسطه من النفوذ السياسي إلا في شيخوخته بعد أن تبوأ بظفره في عالم التفكير
والكتابة مكانًا أسمى، ولم يعن أمير علي بالتفكير والكتابة إلا في ناحية واحدة هي
الإسلام مبادئه وأحكامه وتعاليمه وتاريخه: ففي هذا الميدان برز أمير علي وكان
الفقيه البارع والفيلسوف المحدث والكاتب المبدع، وكان أول ما أخرج في هذا
الباب رسالة نقدية في حياة النبي وتعاليمه [1] كتبها سنة 1872 وهو فتى لا يجاوز
الثالثة والعشرين فألفتت إليه الأنظار في الهند، والظاهر أنه آنس منذ البداية في
نفسه كفاية خاصة لتحقيق تلك الأمنية التي جاشت بها نفسه، وخصها بتفكيره وبيانه،
وهي عرض الإسلام على الغرب في ثوبه الحقيقي والذود عنه مما يُرْمَى به ظلمًا
في المجتمعات الغربية، وقد وفق أمير علي في تحقيق هذا الغاية أعظم توفيق
وأبدع فيما وفق إليه، فأخرج للغرب بالإنجليزية سلسلة كتبه النفيسة في شرح
مبادئ الإسلام وأحكامه ولم يقتصر فضله في ذلك على تدوين الأحكام الشرعية
وتنظيمها وشرحها كما فعل في مؤلفه الضخم (الأحوال الشخصية في الأحكام
الشرعية) [2] اللذين أَمْلَى وضعهما عليه ما شاهده أثناء حياته القضائية في معاهد
بنغالة الفقهية ومحاكمها الشرعية من غموض وتعقد في درس الشرعية الإسلامية
وتطبيقها على يد قضاة من الإنجليز قَلَّمَا يدركون روح التشريع الإسلامي.
لم يقتصر فضله على ذلك، ولكنه عمد إلى غاية وَعِرَة شاقة هي شرح مبادئ
الإسلام الروحية من الوجهة العلمية وتحليلها من الوجهة الاجتماعية والمقارنة بينها
وبين مبادئ الأديان الأخرى وإلى حياة النبي العربي وتصوير خلاله ومناقبه وشرح
تعاليمه السياسية، فأخرج أقوى كتبه وأعظمها (روح الإسلام أو حياة محمد
وتعاليمه) [3] وهو مؤلف ضخم يعرض فيه بالنقد والتحليل لترجمة النبي وأصول
الإسلام وفرائضه وفكرته في الألوهية وأحكامه في الأحوال الشخصية والاجتماعية
وفكرته في البعث وروحه في القومية والسياسة والعلم والأدب والفرق الإسلامية
وفلاسفة الإسلام وفيه يبلغ ذروة الافتنان والإجادة في دقة التصوير، وسلامة التدليل
والتعليل، وروعة البيان والعرض، ولا سيما في مقدمته التي هي قطعة من أقوى
وأبدع فصول التوحيد والكلام، أما ناحية الإسلام الأخلاقية فقد تناولها أمير علي في
كتاب آخر هو: (خلال الإسلام)[4] الذي يعتبر تتمة لكتاب (روح الإسلام) .
ولم يقف أمير علي عند هذا العرض الباهر لمبادئ الإسلام وتعاليمه، وهذا
الوصل الجريء الراجح بين العلم والدين بل شاء أن يقدم إلى الغرب صورة صادقة
من المجتمع الإسلامي ذاته خلال العصور المتعاقبة، وأن يقرن الصور المعنوية
التي قدمها من الإسلام وروحه وأصوله بصورة مادية من سير الدول الإسلامية
فوضع كتابه (مختصر تاريخ المسلمين)[5] وفيه يتناول تاريخ الدول الإسلامية
دولة فدولة، وإذا ذكرنا تشعب الموضوع واتساعه كان وصف المؤلف كتابه
(بالمختصر) حقًّا من حيث الإيجاز في سرد الحوادث، ولكن كتاب أمير علي يقدم
للقارئ صورة من أبدع الصور التي وضعت في تاريخ الإسلام ويَبُذُّ الكتب
الموسوعة بالطرافة والحداثة وحسن الترتيب ودقة التحليل، وفيه يبدو أمير علي
المؤرخ المستنير والناقد المتمكن، فيسرد تاريخ الإسلام ودوله في ضوء النظريات
الحديثة، سواء من حيث الدولة أو السياسة، ويُعْنَى بالناحية الاجتماعية والفكرية
فيقدم عنهما في نهاية كل دولة لمحة قوية ممتعة، وتراه فيما يسرد وينقد يضطرم
بروح إسلامي حق لا تشوبه شائبة تعصب أو تحامل يحمد في مواضع الحمد،
ويحمل في مواضع الذم، وأسلوبه في كل ذلك عذب قوي، وليس من المبالغة أن
نقول: إنه كثيرًا ما يسمو إلى منافسة جيبون وماكولي خصوصًا في وصف
الحوادث العظمى كالحروب الصليبية، وغزو التتار لبغداد، وسقوط غرناطة،
والخلاصة أن مختصر أمير علي في تاريخ الدول الإسلامية من أنفس ما كتب في
هذا الموضوع، وفي اعتقادنا أنه وُفِّق أعظم توفيق في إدراك الغاية التي قصدها
بوضعه وهي (التعريف بأحدث الشعوب التي تركت في العالم آثارًا لا تُمْحَى والتي
ما زالت أوربا الحديثة تتغذى من تراثه) .
هذه هي الخدمات الجليلة التي أداها أمير علي في سبيل نشر الدعوة الإسلامية
والذَّوْد عنها بسلاح الحقائق والأدلة والمنطق السليم، وقد سبق أمير علي وعاصره
مستشرقون تجردوا لبحث الإسلام وتاريخه وبذلوا في هذا السبيل جهودًا نبيلة مثمرة
بلا ريب، ولكن أمير علي يفوقهم جميعًا بكونه قد تحرَّر من أسباب التحامل التي
تُرَى ماثلة في كثير من مباحثهم وأدرك روح الإسلام ونفذ إلى أعماق العواطف
والخلال الإسلامية فكان بذلك خير أهل للمهمة التي كرس لها تفكيره وبيانه.
وكان للسيد أمير علي مقامه في الزعامة السياسية في الهند، وكان يعمل أثناء
الأعوام الطويلة التي سلخها في قضاء الهند وإدارتها على تحقيق أمنية عزيزة له
هي تقدم مواطنيه مسلمي الهند، سواء من الوجهة المادية أو المعنوية، وقد بذل في
ذلك السبيل جهودًا شتى، وكان لهذه الجهود نصيب كبير من الفوز أثناء أن كان
عضوًا بمجلس التشريع الأمبراطوري ما بين سنتي 83 و 85 على أنها لم تحمل
ثمرتها العامة إلا في عهد اللورد مورلي في سنة 1906 حيث رأت الحكومة
البريطانية أن تُدْخِل طائفة كبيرة من الإصلاحات الدستورية والتشريعية في حكومة
الهند تحقيقًا لأماني المعتدلين وتهدئة للاضطرابات الوطنية التي وقعت يومئذ.
على أن أمير علي كان في جهوده السياسية بالنسبة للإسلام دوليًّا أيضًا، ففي
جميع الخطوب التي كانت تدهم الإسلام أو الأمم الإسلامية كان صوت أمير علي
يرتفع في بريطانيا وفي أوربا، وكان آخر صيحة أرسلها في هذا السبيل نداءه
المشهور الذي وجهه أيام الحرب الريفية إلى فرنسا، وناشدها فيه أن تسالم شعبًا
صغيرًا مجاهدًا، فالعالم كله يعرف أنها تستطيع سحقه بأيسر أمر، ولكن التسامح
في احترام الأماني القومية لهذا الشعب الصغير الباسل، يسجل لفرنسا في صحف
الفروسية والشهامة، فكان هذا النداء قطعة مؤثرة من البيان والحكمة التي عرف
بهما أمير علي كل حياته.
هذه هي صفحة وجزء من حياة هذا المفكر المسلم الكبير وآثاره الجليلة، ففقده
رُزْء للعالم الإسلامي كله، ولكن للعالم الإسلامي أن يتعزى عن خطبه الفادح بما
أودعه أمير عَلِيّ صفحات آثاره الخالدة من عميق حكمته وصائب منطقه وسحر
بيانه تغمده الله برحمته وأفسح له رحب جنانه.
_________
(1)
Critcal Examination of life and Teachigs of mahomet.
(2)
personal law of the Mohammedans.
(3)
Studentds hand book of Moh.
(4)
Spirit of Islam.
(5)
Ethios of Islam.
(6)
A short History of the saracens.
الكاتب: أحمد جميل الرافعي
المرأة المسلمة ونهضتها الحاضرة
لحضرة الفاضل صاحب الإمضاء
لا أكذب القارئ أني قليل التفاؤل بهذه النهضة النسائية التي نجم قرنها في
خلال المظاهرات السياسية عام 1919 ضعيف الثقة بنتاج هذه الحركة التي لا أجد
فيها أثرًا للبركة المزعومة، اللهم إلا إذا بقينا نتمسك بالقشور ونهمل اللباب أو تظل
حياتنا مليئة بالأوهام لا تطل عليها الحقائق.
لا أتعرض للحجاب؛ إذ لم يبق من حجاب، ولا أبحث في السفور فقد
تخطينا السفور من جميع نواحيه، ولكني أريد أن أنفذ إلى صميم النهضة فأحلل ما
فيها من خير وشر وغَثّ وسمين.
يزعم المتكلمون في شئون النهضة النسائية في مصرنا سواء كانوا من الرجال
أو النساء أن المرأة المصرية نهضت، فقد كثر المتعلمات وشرعن يظهرن بمظهر
المتمدنات، حتى صارت فيهن العالمة الفاضلة والخطيبة المُفَوَّهَة والكاتبة الجريئة،
والمدارس الرسمية وغير الرسمية تُخَرِّج في كل عام خريجات حصلن على نصيب
من العلم غير قليل، فهذه النهضة، وإن تكن كالطبل يدوي من بعيد إلا أن لها شأنها
في حركة التقدم الإنساني المستمر أليس الرمد خيرًا من العمى؟
هذه كل صفات النهضة النسائية التي صار بعض أعضائها يطالبن بالانتخابات
السياسية وبعضهن يحضرن المؤتمرات النسائية العالمية والبعض الآخر يطلبن
مساواة المرأة بالرجل مساواة تجعل العاقل يضحك حتى يستلقي على قفاه.
وإذا ألقيت نظرة صادقة على جميع هذه المدعيات العريضة تجدها جوفاء أو
قل بتواضع: إنها مجموعة قشور خالية من اللباب.
إن نهوض المرأة كنهوض الرجل يجب أن يكون مبنيًّا على أساس ثابت
وضعت أحجاره المتينة وضعًا محكمًا بمصلحة الوطن الحقيقية وإلا كان هذا
النهوض ككل بناء لا أساس له.
ولأجل أن نختصر لك الطريق فلا ندعك تتوغل في أعماق البحث نذكر لك
أن أساس هذه النهضة النسائية المكذوبة المدارس، وأنت تعلم أن برامج المدارس
وخصوصًا للبنات المسلمات ليس فيها من العلم الصحيح علم واحد، فكل العلوم
سطحية خصوصًا ما كانت علاقته بالحياة العملية علاقة مباشرة، ولسنا في حاجة
إلى أن نضرب لك الأمثال فوزارة المعارف المصرية لا يوجد فيها رجل واحد
يدعي بحق أن هذه الوزارة وفقت حتى الساعة إلى برنامج يستطيع منفذوه أن
يرفعوا به مستوى الفتاة المسلمة وكل ما وضعوه هو مجموعة برامج تخرج فتيات لا
يعرفن العلم ويحتقرن الجهل، يقدرن العمل ولا يعرفن كيف العمل في أبسط
وظائف المرأة في الحياة، وأما المظاهر الفارغة وهي عبارة عن بعض الرطانة
باللغات الإفرنجية والعزف على آلة البيانو أو معرفة شيء من الجغرافية الناقصة
والتاريخ المُشَوَّه والأدب المقلوب، فهذا كله من أسباب خروج الفتيات من حظيرة
الجد والعمل إلى فضاء الفوضى والانصراف إلى المظاهر الفارغة التي يستغلها
الأوربي بملابسه وأزيائه وأصباغه التي رمانا بها من عهد بعيد، وأغرقنا فيها من
عهد قريب.
ليس في مصر نهضة نسائية ولا شبه نسائية؛ لأن الفتاة التي تحمل اليوم
أعلى الشهادات المصرية لا تعرف شيئًا عن فن تربية الأولاد، وهو أسمى وظائف
المرأة قديمًا وحديثًا، وخصوصًا بعد أن نفذ العلم في كل شئون الحياة، فالفتاة التي
لا تستطيع إدارة منزلها على قواعد الاقتصاد الصحيح والنظافة الصحيحة الحديثة،
والعمل بيدها في مطبخها عملاً أسمى في مجموعه من عمل الطاهي أو الطاهية
الأميين لم تستفد من علمها ولم تنهض حقًّا، والفتاة التي لم تتعلم في المدرسة حقيقة
دينها والفضائل التي تعصمها من الرذيلة على اختلاف أنواعها لا تستطيع أن تهيئ
للأمة أبناء صالحين لأمتهم ودينهم بل لم تنهض، بل لم تشرف بعدُ على قمة
النهوض ولا على قاعدته، ثم المرأة التي لا تحسن معاشرة الزوج بل تنفره من
الحياة الزوجية، وقد خلقت لتساعده عليها لم تنهض.
ثم أختصر لك الطريق فأسألك أيها القارئ الحكيم هل تمشي في شوارعنا
شوارع القاهرة؟ أجل إنك تمشي كل يوم تستعرض هذه الجماهير النسائية، ولا
سيما اللواتي ينم مظهرهن على أنهن حملن شهادات المدارس، ولا سيما العالية،
أتُراك تجد في مظاهرهن شيئًا من مظاهر الحياة الصحيحة اللهم ما خلا الصحة في
البعض التي جاءتهن عفوًا وبلا عناء؟ ألم تر التبرج الذي لا تسيغه حتى الهمجية؟
ألا ترى الآداب التي سفلت حتى ذكَّرتنا عهدًا من أسوأ عهود التاريخ؟
ثم ما هذا الإسراف الذي يقصم ظهور الرجال ولا يدل إلا على الجهل حتى
في طبيعة الإسراف؟
أتظن يا سيدى القارئ أن كل هذا الإسراف في الملبس والمركب هو من
مظاهر الثروة الصحيحة؟
كلا إن أكثر ذلك يستدينه الرجل المغلوب على أمره، وقد يستدينه بالربا
الفاحش.
فأين النهضة المزعومة إذا كانت المرأة اكتفت منها بالإسراف والتبرج
وخلع احترام الرجل وإهمال الدار والانصباب على العرض الزائل والتمسك بالأوهام
الكاذبة؟ أما المرأة الأمية التي كنا نعرفها منذ 25عامًا، والتي شكونا إلى الله من
جهلها المطبق، فقد كانت تدبر البيت إدارة تلتئم في كثير من الأحوال مع مستوى
الأمة، وتربي الأبناء تربية فيها أثر كبير للأخلاق الفاضلة والرجولية الصادقة،
والإيمان القوي، وكانت تقتصد كل الاقتصاد فكان معظم مصروفها في بلدها ولا تنفق
إلا بحساب.
فإذا قسنا نتاج المتعلمات بنتاج الجاهلات فهل نرى أثرًا لغير النهضة
المقلوبة؟ أنا لا أنكر أن للرجال المسلمين دخلاً عظيمًا في هذا التأخر المسمى
نهضة، ولكني لا أود البحث في الأسباب الآن، وإنما أحاول أن أقرر أن نهضة
المرأة مكذوبة وأن الإسراف في تسميتها نهضة فيه من الضرر على المرأة والوطن
ما لا يخفى على البصير.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
أحمد جميل الرافعي
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
السبرتزم أو استحضار الأرواح
هل يُثبت العلم وجود الأرواح وإمكان مخاطبتها؟
أحدث الآراء في هذا الشأن
أشرنا في الصفحة العلمية الماضية إلى مسألة مخاطبة الأرواح، وأظهرنا
العلاقة التي بينها وبين التنويم المغناطيسي، والحقيقة أن اعتقاد وجود الأرواح قديم
جدًّا يرجع إلى الزمن الذي نشأت فيه العقائد الدينية، وفي الكتب المنزلة إشارات
متعددة إليه، إلا أنه لم يتخذ شكله الحاضر إلا في أواسط القرن الفائت كما سيجيء
ذلك.
ولا حاجة إلى القول بأن أصحاب مذهب (السبرتزم) يعتقدون أن روح
الإنسان تفارق الجسد عند الموت، وتمضي إلى مكان مجهول، ولكنها لا تقطع
علاقاتها بهذا العالم، بل تعود إليه من وقت إلى آخر في حالات معينة، وتتجلى
لأفراد معينين من الناس يُعرفون (بالوسطاء) وليس من السهل تجليها للوسطاء
دون غيرهم ولكن سببه (على ما يدعي أصحاب هذا المذهب) هو استعداد أولئك
الوسطاء استعدادًا خاصًّا يمكنهم من الاتصال بالأرواح ويسهل وقوعهم في غيبوبة
استهوائية إذا قضت الضرورة بذلك.
والقائلون بوجود الأرواح وبإمكان استحضارها ومخاطبتها لا يسلمون من
بعض الخلط والوقوع في المتناقضات، فبينما هم يقولون بأن الأرواح غير مادية
تراهم يقولون: إنها مؤلفة من شبه مادة هي الأكتوبلازم أو أن مادة الأكتوبلازم
تنبعث منها فتتخذ شكل الإنسان الذي كانت تسكن جسده، ومن البديهي أن هذه
الدعوى لا تخرج عن حَيِّزِ النظريات التي لا تنطبق على مبدأ علمي.
ولسنا نريد الآن أن نفند مذهب (السبرتزم) أو ننفيه، وإنما نحن نعتقد أن
جميع ما كتبه أصحاب هذا المذهب والعلماء الذين يؤيدونه لا يكفي لإثبات نظريتهم
من وجه علمي، وأن انتصار فريق من مشاهير العلماء (للسبرتزم) لا يعتبر
برهانًا على صحته، نعم إن وليم ستيد وهولوكاين والسر أوليفرلودج والدكتور
تليارد وغيرهم هم من العلماء الذين يشار إليهم بالبنان، وقد حاولوا إثبات نظرية
(السبرتزم) بكل ما فيهم من قوة، ولكن مساعيهم لا تقنع جمهور العلماء، والرأي
السائد بين هؤلاء هو أن العلم لم ينجح حتى الآن في إثبات دعوى (السبرتزم)
وهذا لا يمنع من تمكنه من إثباتها في المستقبل.
ومما يدعو إلى الأسف ظهور الكثيرين من الدجالين والمشعوذين الذين حاولوا
إيهام الناس أن في وسعهم استحضار الأرواح ومخاطبتها وكثيرًا ما أقاموا الحفلات
الخاصة لذلك فتمادوا في الشعوذة وخداع الناس، وكان لانكشاف خداعهم أسوأ أثر
في النفوس من جهة مذهب (السبرتزم) مع أننا لا ننكر أن بين العلماء فريقًا سعى
لإثبات هذه المذهب بكل جد وإخلاص.
نبذة تاريخية
أميركا مهد مذهب السبرتزم
قلنا: إن اعتقاد وجود الأرواح قديم جدًّا يرجع إلى الزمن الذي نشأت فيه
العقائد الدينية، وقد كان هذا الاعتقاد شائعًا بين أقدم الأمم، ولا سيما بين المصريين
الذين كانوا يدفنون موتاهم ويطمرون معهم ما قد تحتاج إليه روح الميت من سلاح
وطعام في أثناء تجوالها في عالم الأرواح، وكان القوم يعتقدون أن روح الإنسان
تعود إلى هذا العالم من وقت إلى وقت لتتزود بما تحتاج إليها في رحلاتها النائية.
وكان الاعتقاد بإمكان الاتصال بالأرواح شائعًا بين اليهود أيضا كما يؤخذ من
رواية ساحرة (عين دور) في التوراة وخلاصتها أن الملك (شاول) لجأ إلى تلك
الساحرة لتستحضر له روح النبي صموئيل لعلها تشفع به عند الله؛ لينصره على
أعدائه فاستحضرت له الساحرة روح صموئيل وأنذرته بسوء مصيره.
على أن مذهب (السبرتزم) أو استحضار الأرواح لم يتخذ شكله الحالي إلا
في أواسط القرن التاسع عشر، وكان بدء ذلك في أميركا إذ ادَّعت أسرة رجل
يدعى فوكس (والأسرة مؤلفة من الرجل وزوجه وابنتيهما) بأن أصواتًا وحركات
غريبة كانت تزعجهم في بعض الليالي، ثم ادعت إحدى الابنتين، وهي كاترين
فوكس بأنها كانت تسمع في الليل فرقعة معينة من غير أن ترى أثرًا لمنشىء تلك
الفرقعة، وفي ذات ليلة خاطبها صوت مجهول، وقال: إنه روح أحد الذين سكنوا
ذلك المنزل، وبعد أيام ذهبت كاترين للإقامة مع أختها المتزوجة، وفي أثناء إقامتها
هنالك بدئ بوضع (السبرتزم) على أساسه الحديث، ولعل كاترين وأختها هي
أول (الوسطاء) الذين ظهروا في الصور الحديثة و (الوسيط) هو الصلة بين
العالم الروحي والعالم المادي، ووجوده شرط لازم لمخاطبة الأرواح على ما يقول
أصحاب هذا المبدأ؛ لأن للوسطاء كما سبق القول استعدادًا خاصًّا للاتصال
بالأرواح نظرًا إلى سهولة وقوعهم في غيبوبة استهوائية.
ومنذ اتخذت أيام أسرة فوكس نظرية (السبرتزم) شكلاً خاصًّا من مقتضياته
تجلي الروح للوسطاء في أحوال معينة يصحبها دائما أصوات (نقرات) على
الأبواب أو الموائد وتحريك موائد مستديرة على وجه معين لا نعلم ما هي الحكمة
في اختياره دون غيره كما أننا لا نعلم ما هي الحكمة في أن الأرواح تختار
للتخاطب أحرفًا هجائية تركب منها كلمات معينة بدلاً من أن تنطق بما تريده
بصراحة وإيجاز.
وليس ذلك فقط بل إن (الوسطاء) اصطلحوا على وضع (قاموس)
للأصوات والحركات التي يدعون أنها تصدر من الأرواح، فاصطلحوا على تفسير
صوت النقرة الواحدة على الباب أو النافذة أو المائدة بمعنى نعم، والنقرتين بمعنى
(لا) والثلاث النقرات بمعنى آخر، وهلمَّ جرًّا.
انتشار مذهب السبرتزم
والأحوال التي ساعدت على نشره
وما كاد مذهب السبرتزم يظهر وينتشر في أميركا حتى وصل إلى أوربا أيضا
فأخذ (الوسطاء) الأميركيون يقصدون إلى إنجلترا لنشر مذهبهم ولإقامة حفلات
استحضار الأرواح، وساعد على إذاعة شهرتهم ونشر تعاليمهم ما في الناس كافة
من الميل إلى غوامض الطبيعة وإلى معرفة كل ما وراء العالم المنظور، كما أن
المحزونين والمصابين بفقد أحبابهم يحنون أبدًا إلى مخاطبة أرواح أولئك الأحباب
والاطمئنان عليهم في عالمهم غير المنظور.
ثم إن العقائد الدينية كلها تؤيد وجود الأرواح وتقول: إنها تخلد في عالم غير
عالم المادة، وقد ساعدت تلك العقائد على نشر مذهب (السبرتزم) وعليه فليس
عجيبًا أن ترى اليوم هذا المذهب منتشرًا في أنحاء كثيرة، وله أنصار كثيرون حتى
من أقطاب العلماء مع أن العلم لم يستطع إثبات هذا المذهب بوجه قاطع حتى الآن،
ولا نزال نذكر أن إحدى الصحف الإنجليزية عرضت في السنة الماضية جائزة
مالية كبيرة لمن يستطيع إثبات (السبرتزم) إثباتًا علميًّا لا شك فيه.
وعهدت إلى لجنة من كبار علماء إنجلترا في فحص دعوى كل (وسيط)
يتقدم لنيل تلك الجائزة وبعد مباحث شاقة قام بها العلماء وبعد فحص جميع
(الوسطاء) الذين تقدموا إليهم حكموا بأن مذهب (السبرتزم) لا يزال بعيدًا عن كل
ما يثبته إثباتًا علميًّا قاطعًا، وذلك مع اعترافهم بعجزهم عن تعليل بعض الأمور
والمشاهد التي تتم على يد (الوسطاء) والتي يصعب وصفها بأنها من قبيل الخداع،
نعم إن هذه الوصف ينطبق على أعمال بعض (الوسطاء) ولكن من الظلم تعميمه
على جميعهم.
الأرواح والبيوت المسكونة
رأي السير أوليفر لودج في تلك البيوت
ولا يخفى أن بين الأرواح والبيوت المسكونة علاقة شديدة، وعامة الناس
يؤمنون بوجود الأرواح، وترى معظمهم ينفرون من سكنى تلك البيوت نفورًا شديدًا
سببه الخوف من الأعمال المزعجة التي تعملها الأرواح في تلك البيوت.
ومن الغريب أن فريقًا من العلماء، وعلى رأسهم السير أوليفر لودج من كبار
فلاسفة الإنجليز يصدقون وجود البيوت المسكونة، ويعللون ذلك تعليلاً قائمًا في
الظاهر على مبدأ علمي إلا أنه نظري ينقصه التطبيق العملي، وخلاصة هذا
التعليل هو أن الأرواح وهي غير مادية قد تتغلغل في المادة وتقيم بها مع الاحتفاظ
بحريتها في الانفصال عنها متى شاءت، فإذا فرضنا أن إنسانًا مقيمًا بمنزل معين
قتل غيلة فقد تتغلغل روحه (على ما يقول السير أوليفرلودج) في المواد المصنوع
منها المنزل في الحجر والخشب والحديد إلخ ثم تنفصل عنها في حالات معينة.
وقد شرحنا هذه النظرية في صفحة علمية ماضية فلا حاجة للعودة إليها الآن،
وإنما نقول: إن إثبات هذه النظرية من وجه علمي ليس من الهنات الهينات.
لماذا ينكر الماديون
نظرية استحضار الأرواح ومخاطبتها
على أن جميع الجهود التي بذلها أنصار مذهب (السبرتزم) لإقناع العلماء
بصحة مذهبهم قد ذهبت أدراج الرياح وذلك للأسباب الآتية:
(1)
أن العلم لم يثبت وجود الروح وجودًا حقيقيًّا حتى الآن ولا خلودها بعد
الموت.
(2)
أن الاختبار أثبت أن كثيرًا من الذين يدعون القدرة على استحضار
الأرواح كانوا كاذبين محتالين.
(3)
أن الحفلات التي يقيمها مستحضرو الأرواح لا تقنع العلماء من وجه
علمي لا سيما أن معظمها متماثل متشابه كتحريك الموائد المستديرة والنقر على
الأبواب نقرًا اصطلحوا على تفسيره بأحرف هجائية معينة.
(4)
عدم معرفة الحكمة في أن الأرواح لا تظهر إلا في الحالات التي
يختارها مستحضروها من وجود الظلام الحالك والوسيط والموائد المستديرة إلخ.
وهناك أسباب أخرى تحول دون تصديق العلماء الماديين لإمكان استحضار
الأرواح، وهم يعتقدون أن مستحضريها هما فريقان لا ثالث لهما، فإما أن يكونوا
مشعوذين مخادعين أو أن يكونوا سليمي النية مخدوعين فيما يعتقدونه من إمكان
حضور الأرواح أو استحضارها، والفريق الأخير هم (الوسطاء) الذين يسهل
إيقاعهم في غيبوبة مغنطيسية والإيحاء إليهم - وهم على تلك الحال - بأن يجيبوا عن
بعض المسائل التي تجول بأفكار الحاضرين، ومستحضرو الأرواح لا ينكرون أن
وسطاءهم يسقطون أحيانًا في غيبوبة استهوائية أي في سبات مغناطيسي، ويدعون
بأن ذلك لازم لحضور الأرواح.
وقد اعتاد سواد الناس أن يتصوروا الروح شبحًا غريبًا يبدو هنيهة ثم يتوارى
عن الأبصار، وعلى هذه الفكرة بنى الشعراء والخياليون القصص الخاصة
بالأرواح (راجع رواية شكسبير التي ورد فيها ذكر الأرواح) فاستحضار الروح
إلى الذهن بصورة تختلف عن تلك الصورة ليس مما تأنس إليه النفس، نعم إن هذا
الاختلاف ليس دليلاً على بطلان مذهب (السبرتزم) ولكن لا تنس أن (الروح)
التي يمثلها لنا شكسبير وأمثاله هي أقرب إلى العقل من (الروح) التي يستحضرها
أنصار (السبرتزم) بصورة حركات مزعجة ونقرات على الأبواب وعلى الموائد
المتحركة.
ولسنا ننكر أن كثيرًا من المشاهد التي يعرضها أنصار مذهب (السبرتزم)
لاستحضار الأرواح هي في ظاهرها خارقة للطبيعة يصعب تعليلها أو اكتشاف أثر
الخداع أو الشعوذة فيها، ومع ذلك فهي غير كافية لإقناع العلماء بصحة مذهب
(السبرتزم) .
مَثَل من استحضار الأرواح
هل يمكن تعليل أو اكتشاف أثر الشعوذة فيها؟
ومما يجدر بالذكر أن الدكتور تليارد هو من أشهر علماء الإنجليز، وهو
عضو بالجمعية العلمية الملكية التي يعتبر أعضاؤها صفوة العلماء الإنجليز، وقد
نشر هذا العالم مقالته في مجلة (نايتشير) الإنجليزية (انظر العدد الصادر في 18
أغسطس الماضي) وصف فيها حادثًا يعتقد أنه يثبت نظرية استحضار الأرواح
إثباتًا قاطعًا، وقد رأينا أن نورد هنا خلاصة مقالته المشار إليها، قال:
حاولت في خلال الست السنوات الماضية أن أدرس الظواهر الخارقة المتعلقة
بمسألة استحضار الأرواح لأرى هل من الممكن إثباتها علميًّا؛ لأن في إثباتها دليلاً
قاطعًا على حقيقة الخلود التي طال عليها الجدل، وكنت في أول الأمر شديد
الارتياب في مسألة الخلود أكاد أنكرها إنكارًا باتًّا، وأعتقد أنها خرافة لا طائل تحتها،
وأن الموت هو نهاية كل شيء، وفي الوقت عينه كنت أعترف بأن في الظواهر
الخارقة المتعلقة (بالسبرتزم) أو استحضار الأرواح ما ليس من قبيل الخداع،
ومع ذلك لا يمكن تعليله تعليلا ينطبق على العالم، وإنما يمكن تعليله إذا سلمنا جدلاً
بدعوى الخلود، وبعد بحث واستقراء عظيمين سمعت بوجود السيدة كراندون
الأميركية وعلمت بأنها أشهر (وسيطات) هذه العصر وأصدقهن في استحضار
الأرواح، وقد قابلتها وشهدت بعض أعمالها فلم يبق عندي شك في حقيقة (السبرتزم)
لأن التجارب التي أجرتها مسز كراندون أمامي وأمام أحد أصدقائي تثبت وجود
الأرواح وإمكان الاتصال بها بطريقة علمية.
وقبل الإتيان على تفاصيل تلك التجارب لا بد من ذكر الأمور الآتية وهي:
(1)
اتخذت جميع الاحتياطات الممكنة لمنع الغش.
(2)
أن التجارب التي قامت بها مسز كراندون أمامي وأمام صديقي كانت
مقنعة تمام الإقناع، وفي الإمكان إعادتها مثنى وثلاث ورباع؛ ليتأكد كل من
يخالجه أدنى شك أنه ليس ثمة أقل خداع، وهذا يبطل حجة الذي يتهمون الوسطاء
بأنهم يرفضون عادة تكرار التجارب التي يقومون بها.
(3)
أن التجارب التي قامت بها مسز كراندون، والتي تقوم بها أمام جميع
الناس ليست مما في طوق البشر، وكل ما فيها دليل على صحة ما يدعيه أنصار
مذهب (السبرتزم) .
وإليك نبذة مختصرة عن (الوسيطة) مسز كراندون، وكيف وصلت إلى ما
وصلت إليه من (الوساطة) في استحضار الأرواح.
من هي مسز كراندون؟
وكيف أصبحت (وسيطة) لاستحضار الأرواح؟
أما مسز كراندون فهي زوجة طبيب جراح مشهور من أهالي بوستن بأميركا
واسمها الأصلي مرجريت ستنسون وهي من أهالي كندا، وكان لها أخ يدعى
(والتر) قتل في سنة 1912 في اصطدام إحدى السكك الحديدية وكانت مرجريت
تحبه حبًّا يقرب من العبادة، وهو يقابل حبها بالمثل، وفي سنة 1923 بدأت
مرجريت تسمع في الليل من وقت إلى آخر أصواتًا غريبة هي أشبه بالنقر على
الموائد وغيرها كما أنها كانت تشعر شعورًا غريبًا لا تستطيع وصفه، ثم أخذت تقع
بعد ذلك في غيبوبة وتسمع صوت أخيها والتر، ثم صار غيرها أيضًا يسمع ذلك
الصوت وعرفه جميعهم، وظل الصوت يزداد وضوحًا وجلاءً، وقد سمعت بأذني
في جلستين متواليتين في أواخر إبريل سنة 1926 فإذا هو صوت أجش يلقي
الرهبة في نفوس السامعين ويسترعي كل انتباههم كأنه متسلط عليهم.
ولما ذهبت إلى بوستن في هذه السنة بعد غياب عامين أتيح لي أن أحضر
أربع جلسات جديدة استحضرت فيها مسز كراندون روح أخيها والتر، وأظهرت
في ذلك مقدرة مدهشة، وقد أردت أن أمنع كل غش وخداع فالتمست من مسز
كراندون وزوجها أن يأذن لي في مراقبة التجربة بنفسي وأخذ جميع الاحتياطات
التي أعتقد أنها لازمة لمنع الغش، وقد كان لي ما أردت، وفي الحقيقة أن
الجلستين الأوليين من الأربع الجلسات المذكورة كانتا كافيتين لإقناع أعظم المنكرين
بأن روح والتر هي التي تجلت لمرجريت وكانت تخاطبها، ومع ذلك فإن الجلستين
الأخيرتين كانتا أدعى إلى الدهشة والاستغراب من سابقتيهما وكان بودي أن آتي
على تفاصيل الجلسات الأربع كلها، ولكن بما أن الجلستين الأخيرتين هما بدء
سلسلة من التجارب التي قد عزمت على إجرائها، ولم أفرغ منها حتى الآن فإني
أرى الأفضل أن أقصر الكلام على الجلستين الأوليين.
برهانان على خلود الروح
أحدهما نفسي والآخر حسي
وقد حاولت في هاتين الجلستين أن أتحقق وجود الروح بطريقتين إحداهما
عقلية نفسية، والأخرى مادية حسية، وإليك ما تم في هذا الشأن:
الجلسة الأولى عقدت في منزل الدكتور كراندون ببوستن في 31 مايو سنة
1928 من الساعة التاسعة إلى الساعة العاشرة مساء.
ذهبت أنا والأستاذ إيفانس الأخصائي بعلم الحشرات من جامعة كمبردج
لحضور هذه الجلسة، ولم يكن صديقي إيفانس قد حضر جلسة كهذه من قبل ولا
كان يصدق دعوى (السبرتزم) التي كان يسميها خرافة، فلما وصلنا إلى بيت
الدكتور كراندون شرعنا في الاستعداد لتلك الجلسة على الوجه الآتي:
اقتطعت أنا وصديقي إيفانس عدة أوراق من تقويم (نتيجة) معلق على
الحائط وخبأناها بعد أن أبدلنا ترتيبها بحيث لم يكن أحد منا يعرف ذلك الترتيب،
ثم كتب صديقي إيفانس أرقامًا وملاحظات على قطع أوراق وضعها في جيبه،
وكان معه أيضًا عدد من مجلة قد صدرت في ذلك اليوم، وفي أثناء الجلسة بينما
كانت جميع الأنوار مطفأة والظلمة حالكة تجلت روح والتر حسب العادة وأخذت
تقرأ الأرقام والملاحظات التي كتبها إيفانس مع ذكر ترتيب أوراق التقويم (وكنا
نحن أنفسنا نجهل ذلك الترتيب) ولما حدثت وشوشة في الغرفة سمعنا الروح تدعو
إلى السكون التام، ورأينا شررًا أحمر ينبعث في الهواء ثم سمعنا صوتًا يقول: إن
إيفانس تعرف بخطيبته في إحدى البواخر، وكان هذا الأمر مدهشًا إذ لم يكن أحد
يعرف بخطبة إيفانس -ولا أنا- ولكن ظهر أنها كانت صحيحة، وفضلاً عن ذلك
علمت الروح بالمجلة التي كانت مع إيفانس، وبأنه طالع فيها صفحة كذا وكذا.
وذكرت الروح أشياء أخرى غريبة لا يتسع المجال لشرحها وقد اقتنع صديقي
إيفانس بصحتها، ولكن لا يتطرق إلى ذهنه شيء من الريب في أني أنا والدكتور
متفقان مع (الوسيطة) مرجريت على طرق الغش طلبنا إعادة التجربة، وأنا
والدكتور كراندون غائبان من الغرفة، فكانت النتيجة مدهشة أيضًا.
البرهان الحسي
استخراج بصمة الأصابع
أما الجلسة الثانية فقد عقدناها في منزل الدكتور رتشاردس بمدينة بوش أيضًا
وذلك في أول يونية سنة 1928 من الساعة التاسعة والنصف مساء.
اتخذنا جميع الاحتياطات التي تخطر بالبال لمنع الغش، وطلبنا من الدكتور
كراندون، وجميع الذين اعتادوا حضور الجلسات أن لا يحضروا جلسة تلك الليلة
بل يتركونا وشأننا فأجابوا مُلْتَمَسَنَا، وحضر معنا في هذه المرة الكابتن فايف الخبير
ببصمة الأصابع، وكنت أنا وهو قد أحضرنا معنا علبة من الشمع الذي يستعمل
لبصمة الأصابع والمشهور في أمريكا باسم (شمع كر) وفي العلبة عدة قطع مكعبة.
أما سبب إحضارنا العلبة فهو أننا أردنا أن نأخذ بصمة أصابع (الروح)
لنرى هل تطابق بصمة أصابع والتر التي كانت لا تزال ظاهرة على آخر شفرة
حلاقة استعملها والتر في اليوم الذي قتل فيه، ومما يجدر بالذكر أن أم والتر قد
حفظت -على سبيل التذكار- جميع الآثار الخاصة بابنها لا تفرط بشيء مما كان له
أو كان يستعمله.
وكان الاتفاق أن تطبع لنا روح والتر بصمة أصابعها على قطع شمع (كر)
التي أحضرناها لذلك الغرض لنقابلها ببصمة أصابع والتر الكائنة على الشفرة التي
أشرنا إليها، ولكي نمنع وقوع الغش وخوفًا من أن تكون بصمة الأصابع قد أعدت
من قبل على قطع شمع (كر) من عندهم اتفقت أنا وصديقي إيفانس على أن نضع
علامة سرية على كل قطعة شمع في العلبة التي معنا، وزيادة في الاحتياط كسرنا
قطعة صغيرة من كل من تلك القطع وخبأناها عندنا حتى متى أعيدت إلينا القطع
مبصومة بطابع أصبع الروح نتحقق أنها من القطع التي كانت معنا بعينها وفي
وسعنا أن نكملها بإعادة ما كسرناه منها.
وبعد أخذ هذه الاحتياطات وغيرها بدأت الجلسة فشعرنا في وسط الظلام
الدامس بحركة غريبة وسمعنا حفيف الروح بكل وضوح، ثم علمنا أن كل شيء قد
تم، وأن البصمة قد طبعت على قطع الشمع.
وهكذا كان، فلما انتهت الجلسة وتوارت الروح؛ إذ قطع الشمع التي كنا قد
أحضرناها قد طبعت جميعها بطابع أصبع والتر، ولما ضاهى صديقي الكبتن فايف
تلك البصمة ببصمة إصبع والتر على الشفرة التي سبقت الإشارة إليها ثبت له أن
البصمتين هما واحدة، فلم يبق عندنا شك في أن الروح كانت روح والتر.
هذه خلاصة مختصرة لما نشره الدكتور تليادر في مجلة (نايتشر) عن
جلستين من جلسات السبرتزم التي حضرها ومع كل احترامنا لشهرة هذا العالم
الفاضل وغزارة علمه لا يسعنا إلا القول بأن التجارب التي حضرها لم تكن تخلو
من الخداع ولا سيما تجربة بصمة الأصابع؛ إذ ما أدرانا أن البصمة التي كانت
على شفرة الحلاقة والتي هي محفوظة عند أم والتر هي بصمة أصبعه الحقيقية؟
أما كيفية طبعها على قطع الشمع فقد لا تخلو من شعوذة.
أما الجلسات الأولى فالأرجح أن ما تم فيها كان بمساعدة الاستهواء (التنويم
المغناطيسي) والتليباثي (نقل الأفكار) ولا نعتقد أن له علاقة باستحضار الأرواح.
_________
الكاتب: محمد سعيد السيوطي
رسالتان طريفتان
في توجيه حديثي الذباب
وخطفة الجن
بمباحث الطب والعلم والحديث
بسم الله، الحمد لله وحده، وصلى الله على مَن لا نبي بعده، وعلى آله
وصحبه.
عن جدة في 21 المحرم سنة 1347
جناب العلامة المحقق والفهامة المدقق منشئ مجلة المنار السيد محمد رشيد
رضا المحترم بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أبدي أنني اطلعت على الجزء
الأول للمجلد التاسع والعشرين من مجلة المنار الغراء الصادر سنة 1346 ورأيت
الأبحاث المحررة في الصحيفة (48، 49، 50، 51) بخصوص حديث الذباب
وحديث جابر وما وقع من الارتياب في صحتهما للظن بأنهما مخالفان لما عليه العلم
والفن، ولما كان الواقع والحقيقة بخلاف ما ذُكر جئت بهذه المقالة مثبتًا فيها صحة
الحديثين الشريفين المذكورين، ومبينًا أهميتهما من الوجهة العلمية والفنية الصحية
وتطبيقاتها العملية توخيًا لإظهار الحقائق، فأرجو درجها في أول جزء يصدر من
مجلتكم الغراء، واقبلوا مزيد الاحترام سيدي.
…
...
…
... رئيس الصحة البحرية والكورنتينات الحجازية
…
...
…
...
…
...
…
الدكتور محمد سعيد السيوطي
الرسالة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
(تصحيح حديث الذباب)
نص الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإن في
أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء) إن ظاهر معنى هذا الحديث كان معارضًا لما
كان عليه الفن إلى بضع سنين ذلك الذي دفع الطبيب المرحوم محمد توفيق صدقي
لتضعيفه والوقوع في الخطأ؛ لأن العلوم والفنون الطبية عقلية وتجريبية غير
مستندة إلى قواعد ثابتة، بل عُرْضَة للتبدل والتغير في كل آن وزمان، ولذا ندم من
حكَّم العقل في الشرع وسلك طريقة المعتزلة في التفسير والتأويل وانحرف عن
طريقة السلف الصالح المثلى؛ لأن الشرع فوق العقل.
لقد أثبتت التجارب الفنية الحيوية الحديثة في هذا الحديث الشريف معجزة
جديدة أماطت اللثام عن أسرار غامضة، ونكات لطيفة وفوائد جمة أشار إليها النبي
صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، وذلك أنه كشفت منذ بضع سنوات وظيفة
الذباب الطبيعية وفوائده العظمى للإنسانية خصوصًا في إطفاء جائحات الهيضة أي
(الكولرا) فإنه تبين غب البحث والتنقيب الدقيق في مختبرات الجراثيم
(لابوراتوار) أن وبريون الكولرا الداخل في القناة الهضمية في المصابين
بالهيضة الذين دخلوا في دور النقه يفرز جسيمات صغيرة من نوع (الآتريم)
تسمى (باقتربوفاج) أي مفترسة الجراثيم أو آكلة الباكتريات، فهذه الجسيمات
عضويات مستقلة حيوية متصفة بالتكاثر، وبتمثيل المواد الغذائية المختلفة عنها
في تركيبها وتحويلها لعناصرها (آدابتاسيون) فهي حائزة ثلاثة أوصاف
حيوية التكاثر والتمثيل والاعتياد على الأوساط، وهذا لا يترك شبهة في أنها
متصفة بالحياة، وأنها ليست من أنواع المختمرات المنحلة.
وهذه المفترسة للجراثيم صغيرة الحجم جدًّا يقدر طولها بـ 20 25 ملي
ميقرون تمُر من المراشحات الجراثيمية لشامبرلان وغيره حال كون الباكتريا
المعروفة لا تقدر على النفوذ منها، وقد أمكن تلوينها بطريقة ترسيب ذرات الفضة
عليها ورؤيتها وتحقق بالتجارب التي أجراها مندوب رياسة الصحة البحرية
والكرنتينات المصرية في الهند لإجراء التدقيقات الفنية والتنقيب من أسباب ظهور
جائحات الكولرا العديدة في الهند وطرز انطفائها وانتهائها وطريقة التداوي والتحفظ
منها ومنع انتشارها واستيلائها، والمندوب المشار إليه من خيرة الأساتذة يدعى
دريل قدم تقريره في 12 ديسمبر سنة 1927 ذلك التقرير المسهب الذي أوضح فيه
ما وُفِّقَ لكشفه من خصائص وخواص الباقتريوفاج، وذلك نتيجة تتبعات دقيقة مع
زملائه الجراثيمين والأطباء في الهند فأماط اللثام عن الحقائق الفنية الخفية، وأثبت
أن الباقتريوفاج هو العامل الوحيد في إنماء جائحات الكولرا، وأنه يوجد في براز
الناقهين من المرض المذكور، وأن الذباب ينقله من البراز إلى آبار ماء الشرب
فيشربه الأهلون، ومن حين ظهور الباقتربوفاج القوي في ذباب البلاد ومائها تنطفي
جذوة الكولرا وينقطع دابر الوباء بسرعة، وأنه حصل على الباقتريوفاج القوي من
جسم الذباب والحصانة الحقيقية تتسرب إلى الأهلين بسبب دخوله في أمعائهم بشرب
الماء أو بتناول الأغذية التي ينقله إليها الذباب.
وقد تمكن الأستاذ دريل من استنبات الباقتريوفاج وتنميته وكان يأمر المريض
بتناول جرعة ماء من 10 سانتيمترات مكعبة فيها سنتيمتران مكعبان من زراعة
الباقتريوفاج القوي وجرعها دفعة واحدة ثم يأمر بتناول جرعة ثانية من 4 سم من
زراعة الباقتريوفاج ممزوجة ب 40 س م ماء يتناول منه كل ساعتين ملعقة كبيرة،
فلا يلبث أن يشفى في مدة لا تتجاوز يومين، وكان يضع في بئر القرية 40
سنتيمترًا مكعبًا من زراعة الباقتريوفاج القوي فإذا شرب منه أهلها زالت جائحة
الكولرا في يومين أو ثلاثة أيام من القرية.
ومن جملة تجاربه التي أجراها أنه كان يضع قطرة واحدة من محلول فيها
سنتيمتر مكعب من براز نَاقِهٍ من الكولرا يحتوي على الباقتريوفاج بعد ترشيحه في
مائة سنتيمتر مكعب من زراعة وبريون الكلولرا القوي فيقتلها ويذيبها تمامًا في
برهة قصيرة وتصبح الأنبوبة العكرة التي كان فيها زرع الكولرا شفافة تمامًا، ثم
يأخذ من الأنبوبة التي أميتت جراثيمها ما يقدر في المليون واحد من السنتيمترات
مكعب فيضعها في أنبوبة ثانية فيها مائة سهم من زرع وربون الكولرا فتذيبها أيضًا
في بضع ساعات وتصبح الأنبوبة شفافة، وأثبت أنه لو وضع جزء من بيليون
جزء من السنتيمتر المكعب منه على زرع الكولرا الذي مقداره (100) س مكعب
فإنه ينمو فيه ويتلفه ويذيبه ويجعله براقًا، وقد أجرى تجاربه العديدة العملية في
الهند فأتت باهرة كما أن هذه التجارب ذاتها قد نجحت في البرازيل على باسيل
الدينتاريا الحادة، وهي معمول بها إلى اليوم في مداواة الدوسنطاريا الحادة، وكان
يشفي المصاب في ظرف 6 ساعات و2 و24ساعة، والأطباء الإيطاليون استعملوه
في مداواة حمى التيفوئيد والبارانيفوئيد فحصلوا على نتائج حسنة سنة 1924،
وهذا أثبت أن عامل الشفاء الحقيقي العضوي في شفاء الكولرا والدوسنطاريا الحادة
الباقتريوفاج، وقد حصل الأستاذ دريل على باقتريوفاج وحيد وكثير المعادل (بولي
والان) ضد أنواع جراثيم الأستافيلوكوكس الأبيض والذهبي والليموني فكان
الباقتريوفاج عامل الوقاية الحقيقي.
وقد ورد في مجلة فارما سوتيكال جورنال التي تصدر بلندن عدد 3359 في
17 مارس سنة 928 نقلاً عن مجلة التجارب الطبية عدد 1037 54 عام 1927
تحت عنوان الباقتريوفاج من ذباب البيوت ما نصه: لقد أطعم الذباب الذي يألف
البيوت من زرع الجراثيم المولدة للأمراض كولتور [1] وبعد حين من الزمن اختفى
أثر الجراثيم التي في الذباب وماتت كلها؛ وحصل في الذباب مادة قاتلة للجراثيم
تسمى باقتريوفاج، والمؤلف يرى أنه إذا هيأ خلاصة من الذباب في محلول ملحي
فيسيولوجي فإن الخلاصة المذكورة تحتوي على مادة الباقتريوفاج القوية ضد أربعة
أنواع من الجراثيم المولدة للأمر، وأنها أيضًا تحتوي على مادة نافعة أخرى ليست
من نوع الباقتريوفاج، ولكنها نافعة للدفاع العضوي ضد أربعة أنواع من الجراثيم
المرضية غير المذكورة انتهى.
ولعل العالم الطبي كلما زاد التنقيب وامتد البحث عن خواص الذباب يأتينا
بمكتشفات جديدة وخصائص عديدة نافعة أيضًا ومما تقدم يتبين بجلاء أن الذباب
عامل من العوامل الخادمة لظهور الباقتريوفاج ببلعه الجراثيم وإتلافها وبحصول
الباقتريوفاج في جسمه كما أنه عامل بالواسطة ينقلها من براز الناقهين إلى المياه،
والأطعمة فتعم الحصانة، ويحصل الشفاء بذلك، وينقطع دابر الجائحات المرضية
الوبائية المخيفة والمهددة للنوع البشري بالدمار.
إن ذباب البيوت معروف عنه أنه يقع على البراز والمواد القذرة والمحلات
الوسخة العفنة، وكل هذه مملوءة بالجراثيم المولدة للأمراض فاختيار الذباب لها يدل
على أنه موظف بالانتخاب الطبيعي لأكل هذه الجراثيم التي ينتج عنها حصول
الباقتريوفاج في جسمه وموظف لنقل الباقتريوفاج رأسًا، وقد ينقل الجراثيم
والباقتريوفاج معًا فبأكله الجراثيم اجتمع فيه الداء وبحصول الباقتريوفاج في جسمه
اجتمع فيه الشفاء، وكذلك بنقله الجراثيم والباقتريوفاج المهيأ في براز الناقهين اجتمع
في الذباب الداء والشفاء، فهذا معنى ما ورد في عَجُزِ الحديث الشريف (فإن في أحد
جناحيه داء وفي الآخر شفاء) وأما ما ورد في صدر الحديث الشريف (إذا وقع
الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه) فالغمس هو لأجل أن يدخل الباقتريوفاج
للشراب وقد بيَّنا أن أثرًا زهيدًا منه يكفي لقتل جميع الجراثيم المماثلة أي التي نشأ
عنها الباقتريوفاج والقريبة منها ، وحيث ورد في نص الحديث (فليغمسه) أي
فليغمس الذبابة كلها أي جسم الذبابة ومنه جناحاها ولم يرد فليغمس جناحيها مما دل
على كون الداء والشفاء بالجناحين إنما هو أمر اعتباري ولفظي لا يفيد التخصيص.
والأمر بغمس جسمها يؤيد ذلك، وهو لأجل تطهير الشراب من الجراثيم،
وذلك بإدخال الباقتريوفاج للشراب من جسم الذبابة فالفن قد أثبت وجود الباقتريوفاج
في جسم الذبابة، وهذا يطابق تمام المطابقة للأمر الوراد في الحديث، ولو كان
للأجنحة فقط خصوصية الداء والشفاء لكان ورد الأمر بغمسها وحدها، ولهذا لم يبق
ثمة ضرورة للتنقيب عن الجناحين، والمعروف أن الجناحين كغيرهما من أعضاء
الذبابة يحملان ما يلامسهما من جراثيم أو باقتريوفاج، سواء كانا مجتمعين أو
منفردين وعليه فالفن لا ينفي وجود الداء والشفاء فيهما، وبهذا حصلت المطابقة
التامة بين الحديث الشريف والفن الراهن وتحققت صحة الحديث ويستنتج مما تقدم:
(1)
أن إخبار النبي صلى الله عليه وسلم منذ ألف وثلاثمائة سنة ونيف عن
الداء محمولاً على الذباب، وكذا عن الشفاء مع أن العين لا ترى شيئًا من ذلك،
ولم يكن لعلم الجراثيم أثر ولا للآلات المكبرة وجود هو معجزة كشفت عن سر الداء
والشفاء في آن واحد، وأشارت إلى الجراثيم وإلى الباقتريوفاج مع أن فن الجراثيم
مضى عليه نصف عصر، ولم يصل إلى معرفة الباقتريوفاج إلا في هذه السنين
الأخيرة.
(2)
اعتماد المداواة بالباقتريوفاج، وقد بيَّنا أن الباقتريوفاج يطفئ جائحات
الكولرا بأسرها والناقل له هو الذباب.
(3)
إثبات منفعة الذباب ووظائفه الطبيعية، ولذا لم يرد إبادة الشراب إذا
وقع فيه الذباب أو تعقيمه أو طرح الجزء الذي يقع فيه من الغذاء كما في حديث
الفأرة، وسر تخصيص تطهير الغذاء الذي يقع فيه جاء لكونه عاريًا عن هذه
الخواص، وكذا الفن فإنه لم يثبت للفأر سوء المضرة إلى يومنا هذا، ولو أن علماء
الإفرنج الجراثميين اطلعوا على نص هذا الحديث الشريف لكان تذلل لهم اكتشاف
الباقتريوفاج منذ أكثر من ثلاثين سنة كما وقع لمن أمَّ البلاد الشرقية منهم ورأى
طريقة المحافظة على الجبن بغمسه في الزيت فأخذ عن الشرقيين هذه الطريقة
واستعملها في تنمية وزرع الجراثيم المتعيشة بلا هواء؛ إذ قد جاء هذا الحديث
الشريف ببلاغ مهم في علم تدبير الصحة ومداواة الأسقام وكبح جماح الأمراض
الوبائية وإطفاء جذوتها ومداواتها والتوقي منها كما أقره أقطاب الفن اليوم، والله
الهادي إلى سواء السبيل.
(المنار)
قد سبق لنا القول بأنه لم يبعد أن يكتشف لنا العلم والطب الحديث سرًّا من
أعلام النبوة في معنى حديث الذباب ولا يتم لنا هذا بما شرحه الكاتب إلا إذا كان
الحديث مرويًّا بالمعنى وأما لفظه الصريح في أن الداء في أحد الجناحين والدواء في
الآخر فلا يؤيده هذه البحث.
***
الرسالة الثانية
تعليق على حديث جابر
في خطفة الجن وغير ذلك من الوصايا النافعة
الحديث الذي نصه (خمِّرُوا الآنية وأوكئوا الأسقية وأجيفوا الأبواب وأكفتوا
صبيانكم عند المساء فإن للجن انتشارًا وخطفة وأطفئوا المصابيح عند الرقاد فإن
الفويسقة ربما اجترت الفتيلة فأحرقت أهل البيت) فهذا الحديث الشريف رواه كثير
بن شنظير بهذا الصيغة وراوه ابن جريج وحبيب المعلم عن عطاء بلفظ (فإن
للشياطين انتشارًا وخطفة) .
وقد اطلعت في مجلة المنار الغراء صحيفة 42 من الجزء الأول للمجلد التاسع
والعشرين على الإشكال الذي وقع في متن الحديث المذكور خصوصًا على ما ورد
فيه من خبر انتشار الجن بما نصه بالحرف الواحد (ففي هذا من الإشكال أن أكثر
أهل الأرض لا يمنعون أولادهم من الخروج في هذا الوقت وتمر الأعصار ولا
يعرف أحد أن الشياطين فعلت بأحد منهم شيئًا، هذا إشكال يخطر في بال كل متعلم
من الأمصار التي انتشرت فيها العلوم والفنون التي يسمونها العصرية، وكل متعلم
على طريقتهم في القرى والمزارع فيقولون: إنه مخالف للواقع في تعليل منع
الصغار في الخروج في المساء أي في أول الليل) .
أقول: إن هذا الحديث أقره الفن على لفظ كثير بن شنظير والمراد بالجن هي
الجراثيم (الميكروبات) التي هي عوامل الأوبئة والأمراض ويدل على ذلك ما ورد
عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (غطوا الإناء وأوكئوا السقاء
فإن من السنة ليلة فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء أو سقاء ليس عليه وكاء
إلا نزل فيه من ذلك الوباء) .
ويؤيد ذلك أيضًا ما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فناء أمتي بالطعن والطاعون) قيل يا
رسول الله هذه الطعن قد عرفناه فما الطاعون؟ قال: (وخز أعدائكم من الجن وفي
كُلٍّ شهادةٌ) وقال ابن الأثير في النهاية: الطعن: القتل بالرمح والوخز طعن بلا
نفاذ.
وأخرج البزار عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله هذا
الطعن قد عرفناه فما الطاعون؟ قال: (يشبه الدمل يخرج في الآباط والمراق،
وفيه تزكية أعمالهم وهو لكل مسلم شهادة) .
وأخرج الطبراني عن معاذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(لتنزلن منزلاً يقال له: الجابية يصيبكم فيه داء مثل غدة الجمل يستشهد به أنفسكم
وذراريكم ويزكي به أعمالكم) قال: ابن الأثير في النهاية: الغدة طاعون الإبل،
وقلما تسلم منه يقال: أَغَدَّ البعيرُ فهو مُغِدٌّ.
ففي حديث: (غطوا الإناء وأوكئوا السقاء) قاعدة جليلة من علم تدبير
الصحة (هجين) للتحفظ من الأوبئة والأمراض التي قد تدخل الإناء والسقاء إذا
كانا مكشوفين بسبب نزول الغبار الحامل لجراثيمها إليهما التي قد يثيرها الهواء
الشديد في ليلة من ليالي السنة أو بسبب سقوط الحشرات والهوام التي لا تخلو من
الجراثيم في الإناء والسقاء، وهذا لا تختلف فيه أصحاب العقول الراجحة والأبصار
الناقدة، وإن لفظة الوباء الواردة في هذا الحديث تشير لمعنى (فإن للجن انتشارًا
وخطفة) الورادة في حديث جابر؛ لأن عامل الوباء هي الجراثيم كما قرَّره الفن
الحديث بأن عامل جميع الأمراض الوبائية هي الجراثيم، فهذا متفق عليه) والجن
هي الجراثيم؛ لأن معناها اللغوي ينصرف لكل ما لا يُرَى من العوالم، وكما حققته
يرجع إلى أصلين أصل روحاني مكلف، وهذا النوع هو الوارد ذكره في القرآن
الكريم {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الجِنِّ} (الجن: 1) ونوع مادي من
المخلوقات العضوية الصغيرة الحية، وهي الجراثيم (ميكروأورغانزم) وهي كما
عرف الفن خواصها وخصائصها تدب دبًّا بحركاتها المعروفة، ووردت الإشارة
إليها بالآية الكريمة: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَاّ أُمَمٌ
أَمْثَالُكُم} (الأنعام: 38) فالجراثيم داخلة في عموم {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ} (الأنعام: 38) لأن مقرها الأرض لا الهواء، وفي هذه الآية فلسفة دقيقة، وهي
أن هذه المخلوقات العضوية الصغيرة الحية مهما صغر حجمها فإنها بمجموعاتها
مشابهة للمجموعة البشرية المتصفة بالحياة، ولها وظائف مماثلة؛ لأن الجسم
البشري مركب من مجموعة خلايا (سيلول) ترجع لخلية واحدة متصفة بالحياة
والتكاثر والتمثيل والائتلاف على الأوساط، وكذا الجراثيم فإنها مكونة من خلية
واحدة متصفة بالأوصاف المذكورة.
ويستدل على أن المراد بالجن هي الجراثيم من حديث أبي موسى الأشعري
رضي الله عنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم فما الطاعون؟ قال: (وخز
أعدائكم من الجن) وقد ثبت بالفن الراهن أن عامل الطاعون هو الجرثوم المسمى
باسيلوس بيستس، وبهذا ثبت بصورة جازمة أن المراد بهذا الحديث من لفظة الجن
هي العضويات الحية الصغيرة المسماة بالجراثيم على اختلاف أنواعها، وعليه
يشمل هذا المعنى عموم ما ورد من الأحاديث الشريفة المتعلقة بالأوبئة والأمراض
الجائحة وعلم تدبير الصحة كما في الحديث (إن من القرف التلف) .
قال ابن الأثير الجزري في كتاب النهاية عند شرح قوله عليه السلام (إن من
القرف التلف) القرف ملابسة الداء، ومداناة المريض، والتلف الهلاك ، انتهى.
والمعلوم أن الأمراض الوبائية الجائحة هي المهلكة بخلاف الأمراض العادية
وعوامل الأمراض الوبائية هي الجراثيم، وفي هذا إشارة لأصل كبير الفائدة من
علم تدبير الصحة وهو التوقي من ملامسة المرضى المصابين بأمراض وبائية كما
يؤيد ذلك حديث (فر من المجذوم فرارك من الأسد) والحديث المخرَّج في
الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه (لا يُورَدَنَّ مُمَرَّض على مُصِح) وما
روي في الموطأ (وليحلل المصح حيث شاء، قالوا: وما ذلك يا رسول الله؟ فقال:
(إنه أذى) .
ولنستطرد لبيان ما نحن بصدده بعد ما ثبت بالأدلة القاطعة أن المراد بالجن
هي الجراثيم فقوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البزار عن عائشة رضي الله
عنها لما سألته فما الطاعون؟ قال: (يشبه الدمامل يخرج من الآباط والمراق) وما
ورد في الحديث الذي أخرجه الطبراني عن معاذ رضي الله عنه (لتنزلن منزلاً
يقال له الجابية يصيبكم فيه داء مثل غدة الجمل يستشهد به أنفسكم وذراريكم ويزكي
به أعمالكم) وصف كامل لنوع الطاعون الدملي من حيث تخيره الغدد اللنفائية التي
يدخلها ويستقر فيها، وهي الغدد الإبطية والغدد الكائنة في المراق أي أسفل البطن
في المغابن، وهذا النوع شبهه صلى الله عليه وسلم بالدمل، ويسميه الأطباء
بالطاعون الرئوي، وهو فعل مشتق من الأول، ويوجد نوع ثالث يسمى بالطاعون
الصفتي وهو أيضًا مشتق من الأول بسبب دخول جراثيم الطاعون بالعروق التي في
الغدد اللنفائية إلى الدورة الدموية، وهذا النوع خطر جدًّا، فالنبي صلى الله عليه
وسلم ذكر الأصل وعرَّفه تعريفًا فنيًّا دقيقًا بيَّن فيه عامل المرض وأوصاف المرض
ومقر المرض وإنذار المرض أي خطره وبين طريقة التوقي منه بحديث الطاعون
الذي رواه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وهو (إذا سمعتم به بأرض فلا
تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه) فالنبي صلى الله
عليه وسلم أول من وضع أساس الكرنتينا (الحَجْر الصحي) بهذا الحديث ولم
يتعرض صلى الله عليه وسلم لمداوة الطاعون هذا، وما جاء عنه صلى الله عليه
وسلم من الحقائق الفنية في الطاعون هو غاية ما وصل إليه الطب والفن اليوم فهو
لم يتعده ولم يوفق لاكتشاف دواء شاف ولا لقاح واق حقيقة، فإن لقاح هافكن لم
يعتمده المحققون من الأخصائيين نهائيًّا، فما أتينا على ذكره بعد من معجزاته
الباهرة صلى الله عليه وسلم.
ومضى قوله صلى الله عليه وسلم (واكفتوا صبيانكم عند المساء، فإن للجن
انتشارًا وخطفة) يشير لقاعدة جليلة من علم تدبير الصحة لها فوائد عظمى، وهو
أنه من مقررات العلم المذكور أن مرض الملاريا الجائح (حمى الورد، الحمى
الاجامية، الحمى الردغية تزداد صولتها مساء بسبب انتشار البعوض الناقل
لطفيلاتها المسماة (هماتوزوثر) قبيل الغروب، ولذا أوصت الحكماء بالتوقي من
الخروج مساء في المحلات والمناطق التي تحتوي على مستنقعات، ووصيتهم هذه
للكبير والصغير على حد سواء، ولا يخفى أن هذا المرض أكثر خطرًا على
الأطفال منه على الشبان والكهول، والبلاد الحجازية تكثر فيها الملاريا هذه بسبب
وجود الصهاريج والآبار الكثيرة التي تتألف منها المستنقعات بسبب ركود مياهها؛
ولأن أكثرها متجمع من ماء الأمطار وتظل راكدة شهورًا عديدة وقد شاهدت بأم
عيني انتشار المرض المذكور في بلدة جدة وفي مكة المشرفة، وضحاياه كثيرة،
فكثيرا ما يتحول المرض إلى نوبة حمى خبيثة تقتل الأطفال والكبار بظرف يوم أو
يومين، وجائحة الملاريا هذه موجودة في أكثر بلاد الشرق الأدنى ولها أنواع كثيرة
مختلفة الأذى والخطر، وقد اهتمت السلطات الحكومية جمعاء لمكافحتها وإعداد
وسائل التوقي من الوقوع في مخالبها، ولذا أوصى سيد الحكماء صلى الله عليه
وسلم بحديثه المتقدم بعدم إخراج الأطفال مساء للتوقي منها، وهذا ما أوجبه الفن
وقد فهم معنى فإن للجن انتشارًا وخطفة بأنه مراد به الجراثيم والطفيلات المحمولة
في بطن البعوض التي تنتشر بسبب انتشار البعوض الذي يعقص الإنسان ويدخل في
جسمه تلك الطفيلات فتنتشر في دمائه وتتغذى بها وبذلك تخطف صحته في
أحوالها المزمنة، فترى المريض مخطوف اللون فقير الدم، وقد تخطف حياته
بسرعة في أحوالها الخبيثة المسماة بالحمى الخبيثة الناشئة عن طفيل التروبيقا (وإلا
فإنه لم يشاهد أنه اختطف طفل وتوراى عن الأبصار لخروجه مساء من داره) فهذا
معنى الانتشار والخطفة الوارد في نص الحديث الشريف، سدَّد الله خطواتنا لفهم
معاني أحاديث رسوله المعظم، ووفقنا للعمل بها وأرشدنا لإحلالها محلها اللائق بها
من الإجلال والتعظيم حتى تعمنا الرحمة المشار إليها بقوله عز وجل {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ
إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) والحمد لله أولا وآخرًا، حرِّر في 17
محرم سنة 1347.
…
...
…
... رئيس الصحة البحرية والكرنتينات الحجازية
…
...
…
...
…
محمد سعيد السيوطي
(المنار)
إننا لا نعلم أن أحدًا سبقنا إلى إدخال ميكروبات الأمراض وغيرها في عموم
كلمة الجن والجنة (بالكسر) ومع هذا نقول: إن في حمل خطفة الجن والشياطين
عليه في حديث جابر تكلفًا ظاهرًا لا تقبله أفهام جمهور المستقلين بالفهم ويحتمل أن
يكون الحديث منقولاً بالمعنى، وإنه لو نقل بلفظه لكان ما أراده الطبيب الفاضل
ظاهرًا فيه بغير تكلف وكل مسلم يجزم بأنه إن صح لا بد أن يكون معناه صحيحًا.
_________
(1)
معنى زرع الجراثيم: أن تدخل في أنابيب زجاجية فيها مرق اللحم وغيره من الأغذية الخاصة بالجراثيم والمساعدة على تكاثرها ونموها فتنمو وتنتشر فيها الجراثيم حتى تصبح الأنابيب مملوءة
كلها بالجراثيم التي لا يمكن تعيين عددها بالمليارات والبليونات.
الكاتب: عن جريدة الاتحاد
الوطن القومي لليهود [*]
نشرت جريدة المسلم (أوتلوك) الهندية تحت هذا العنوان كلمة للكاتب الذي
يوقع مقالاته باسم ليجانوس هذه ترجمتها:
إن المادة الرابعة من عهد فلسطين الذي خوَّل عصبة الأمم حق اغتصاب تلك
البلاد من أصحابها العرب الشجعان الأحرار، تذكر كتلة قذرة تسمى الهيئة
الصهيونية التي اعترف بها كوكيلة عن (اليهود وبأن لها حق إبداء النصح
والاشتراك في إدارة فلسطين في المسائل الاقتصادية والاجتماعية وغيرها مما قد
يكون له أثر في تكوين الوطن القومي لليهود، وفي مصالح الجمهور اليهودي
الفلسطيني، على أن تكون تلك الكتلة دائمًا تحت إدارة ونفوذ المصالح الحكومية
لتساعدها، وتشترك معها في تعمير البلاد والنهوض بها) .
والمادة المذكورة تقول بأن الهيئة الصهيونية (ستتخذ الخطوات اللازمة
بمشورة الحكومة البريطانية لتحقيق اتحاد جميع اليهود الذين يعتزمون المساهمة في
إنشاء الوطن القومي اليهودي) .
وقد أشرت في مقال خاص سابق حول هذا الموضوع إلى أن إنشاء (الوطن
القومي اليهودي) في فلسطين يُخْفِي بين طياته غرضًا آخر هو أن يخلق في تلك
البلاد مقاطعة بريطانية جديدة لتكون بمثابة مركز للجيوش في عربستان، وهذه
الحقيقة جاءت ضمن الكتاب الذي وضعه الكولونيل ودج وود الراديكاني عن
فلسطين، أما فيما يختص بجمهور اليهود فإنه لا يريد ولم يرد قط استثمار فلسطين؛
لأن الأجيال التي نفي اليهود خلالها من تلك البلاد جعلتهم من أهالي جميع أقطار
العالم، وإذا كانوا يشعرون بشيء من الحنو نحو (فلسطين الذهبية) فإنه لا يتجاوز
العاطفة الروحية وما تهتاجه من الأغاني التي تثير المثل العليا، ولا يهمهم مطلقًا
الوجهة الجغرافية والسياسية في تلك البلاد.
إن نظام فلسطين هو حركة سياسية قامت بها الإمبريالية البريطانية بمعاونة
أصحاب رءوس الأموال من اليهود لمجرد مصلحتهم الخاصة.
***
الاشتراكية
في عهدنا الحاضر
ووجه أحد المسلمين إلى (ليجانوس) السالف الذكر خطابًا جاء فيه:
سيدي ليجانوس:
إن الاشتراكية في عهدنا الحاضر قد وعظت الزعماء المسلمين في الوقت
الملائم، فهناك ما يحمل على الاعتقاد بجواز إخراج المسلمين من عقائدهم بواسطة
التيارات القوية التي تدفعها (الوطنية) إن الغريق يتشبث بعود من القش وثمة
شعور مشترك بين جميع الذين يعادون إنجلترا للترحيب بمن يتقدم إليهم بالدواء
الشافي، ولكن على المسلمين أن يذكروا بأن غايتهم الأولى هي الإسلام، فلهم إذا
خُيِّرُوا بين عقيدتهم وبين وطنهم فيجب عليهم أن يختاروا عقيدتهم الدينية (الإسلام)
من غير تردد ولا تريث.
إن البلشفية تغمر الهند اليوم بدعاياتها، وكذلك أصحاب رؤوس الأموال من
البراهمة من أمثال جواهارلال الذين يجاهرون بعقائدهم الاشتراكية المتطرفة لسبب
واحد هو أنهم يظنون أن عليهم أن يرحبوا بعدو العدو، ولكن المسلم الحقيقي لا
يستطيع أن يكون جزويتيًّا يجب علينا أن نبحث أولاً عن مصلحة عقيدتنا ثم عن
مصلحة وطننا بعد ذلك.
ما هو مسلك البلاشفة نحو الأديان؟ إنهم يصرحون علانية بأن العالم لن ينجو
من الأوطوقراطية وحكم الفرد حتى يعزل الأوطوقراطي الأعظم (الله جل جلاله
وهم لم يستريحوا إلى مجرد تكوين هذه النظرية، ولكنهم قوَّضوا أركان الكنائس
وشنقوا رجال الدين والآن وقد عفوا على النصرانية في بلادهم فإنهم يتعقبون
الإسلام، وقد جاء في (البرافدا) وهي الصحيفة الرسمية للسوفيات أن الحكومة
قررت تكوين جبهة متحدة مؤلفة من شباب الاشتراكيين المتطرفين من السوفياتيين
وجمعيات النساء لمحاربة العقائد الدينية في الجمهورية التركية، وقد نبَّههم إلى أن
(العقيدة الإسلامية يجب القضاء عليها؛ لأن السوفييت يعتبرونها الحصن القوي
للسلطة الروحية) .
وقد شفعت الحكومة السوفيتية هذه النصيحة الحارة بإيراد مثل مما يجب القيام
به فقالت: (إن دور العالم الإسلامي التي لا تزال باقية في داغستان وكازاكخان
وتركستان والقرم وأزربيجان الواقعة تحت الحكم السوفيتي يجب القضاء عليها قضاء
مبرمًا كما يجب الضغط بكل قوة على الصحف الإسلامية، وقد جرى كل هذا في وقت
نهضة ملك الأفغان الأخيرة وقيامه برحلته.
يجب على المسلمين في هذه البلاد، وفي جميع أقطار العالم أن يواجهوا هذه
الجبهة، وما تَعُدُّهُ لتقويض أركان الإسلام بجبهة متحدة، ومن غير مراعاة
للاعتبارات الوطنية خشية أن تعمى أبصارهم دون النظر إلى حقيقة هذه الكارثة.
_________
(*) منقول من عدد 25 صفر سنة 1347 من جريدة الاتحاد.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الاحتفال بعمارة المسجد الأقصى
مع حفلة المولد النبوي
في 12 ربيع الأول
نشرنا في الجزء الرابع الماضي من المنار البيان الذي نشره المجلس
الإسلامي الأعلى لفلسطين في شأن هذه العمارة والوعد بالاحتفال بها في ذكرى
المولد النبوي الشريف.
وقد دُعِيَ إلى حضور هذا الاحتفال جم غفير من وجهاء المسلمين في البلاد
المختلفة والأقطار الدانية والنائية مع الدعوة العامة لمن شاء من أهل البلاد، وكان
صاحب هذه المجلة ممن دُعِيَ فاعتذر بمرضه آسفًا لما يفوته من حضور جمع
إسلامي مختلط كبير قلما يجتمع في غير بيت الله الحرام، حيث لكل أحد شاغل
عما سوى أداء المناسك وحقوق المشاعر العظام.
وما جاء الموعد إلا وكانت الوفود الإسلامية قد اجتمعت وامتزجت بأهل البلاد
فكان بعضهم يموج في بعض في منتهى البهجة والسرور، وقدر عددهم بخمسة
وعشرين ألفًا.
وقد زينت إدارة المجلس الإسلامي الحرم الثالث الشريف بالأنوار الكهربائية،
وكذا مكان المجلس ومدرسة روضة المعارف التابعة له، ووضعت هنالك الألعاب
النارية البديعة الأشكال، التي كان يكتب بعضها في لوح الجو آيات القرآن، فكان
الجماهير يتمتعون بها جلة ليلة المولد الشريف على المشهور.
وفي ضحوة ذلك اليوم كان الاحتفال الحافل المقصود بالدعوة فافتتح بتلاوة
آيات من الذكر الحكيم، ثم ألقى صاحب السماحة السيد محمد أمين الحسيني رئيس
الاحتفال خطبة الرياسة المتضمنة لتاريخ هذا العمل العظيم، وهذا نص ما يتعلق
بالعمارة منه نقلا عن جريدة الجامعة العربية الغراء التي تصدر في القدس الشريف.
خطبة رئيس الاحتفال
ننشر فيما يلي الخطاب الذي ألقاه سماحة رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في
المسجد الأقصى يوم الافتتاح بعمارة قبة هذا المسجد على وفود البلاد الإسلامية فبعد
أن ألقى سماحته كلمة مفصلة عن المسجد الأقصى من الوجهة التاريخية، أوضح
الأعمال التي قام بها المجلس من أجل العمارة، وهذا نص القسم الثاني من الخطاب
المتعلق بالعمارة.
برنامج المجلس الإسلامي في
العمارة والإصلاح بالمسجد
الأقصى والحرم الشريف
موقع بيت المقدس الجغرافي ومكانته الدينية العظيمة في نظر الملل الثلاث قد
جعلا بحيث يتبوأ مركزًا دينيًّا ساميًا بين سائر البلاد المقدسة، ويصبح حافلاً بالآثار
الدينية والتاريخية من إسلامية وغير إسلامية مما أدى لأن يكون مطمح أنظار
السائحين والزائرين من كل صقع وبلد يؤمونه جماعات وأفرادًا بمقاصد مختلفة.
وإن للحرم الشريف بما فيه من أماكن مباركة وآثار نفيسة المكانة الأولى بين
جميع معابد هذا البلد المقدس لما عليه تلك المباني والآثار من هندسة بديعة وزخرفة
رائعة بلغت أقصى حد الإتقان والبراعة، على أن هذه الآثار والمباني القيمة
والقائمة في ساحة الحرم الشريف الواسعة البالغة مساحتها (650 و260) متر مربعًا
أي 283 دونمًا قد سبب لها الإهمال (وفي جملتها المسجد الأقصى كما ذكرنا)
تصدعًا وتشوهًا أدى إلى خطر داهم في كثير منها مما حمل المجلس الإسلامي
بفلسطين على أن يسارع في مشروع عمارتها متخذًا لذلك البرنامج الآتي:
أولاً: عمارة المسجد الأقصى عمارة ثابتة متينة.
ثانيًا: تجديد نوافذ الجص الملونة في أماكن مختلفة والقاشاني والرخام في
القسم الخارجي لمسجد الصخرة المشرفة.
ثالثًا: عمارة المآذن الأربعة التي حول الحرم الشريف.
رابعًا: إزالة الأبنية التي أُحْدِثَتْ جهلاً، واسْتُكْمِلَتْ من أعلى باب القطانين
أجمل باب أثري للحرم الشريف، ومن فوق الأروقة التي تَحُدُّهُ من الشمال والجنوب.
خامسًا: فتح أروقة الحرم التي سُدَّت في أزمنة سالفة مختلفة واتُّخِذَتْ غُرفًا.
سادسًا: هدم سبعة أروقة منها بسبب تصدعها الخطر وبناؤها من جديد.
سابعًا: عمارة المدرسة الإسعودية شمال الحرم الشريف وإصلاح واجهتها
المبنية على الطرز العربي الأنيق واستعمالها دار كتب للمسجد الأقصى.
ثامنًا: استرجاع جميع المدارس والأماكن التي تحيط بالحرم الشريف والتي
استولي عليها، وإعادتها وقفًا على المشروعات الخيرية كما كانت واستعمالها في
ذلك.
تاسعًا: تنظيم الساحات الخالية في الحرم الشريف على وجه يتناسب مع
جمال آثاره وجلال مكانته وإنشاء أحواض للماء موافقة للنظام الصحي يستفاد منها
للوضوء بشكل كافل لراحة المصلين.
عاشرًا: تأسيس متحف إسلامي يحفظ الآثار الإسلامية من الضياع.
حادي عشر: توسيع أبنية مدارس البنات الإسلامية ودار الأيتام وكلية
الروضة المجاورات للحرم الشريف وإنشاء قاعة واسعة للمحاضرات.
هذا، وقد نفذ قسم غير قليل من هذه المشروعات، وبقي قسم تبذل الجهود
لتحقيقه.
***
جمع الأموال اللازمة وإيفاد الوفود
لما كان هذا البرنامج يقتضي لإنفاذه مبالغ كبيرة، وكانت واردات أوقاف
فلسطين لا تتسع لأكثر مما تقوم به من الإنفاق على الشئون التي هي في كفالتها من
إدارة المساجد والمدارس والمعاهد الدينية الأخرى، ومن المشروعات التي تقتضيها
حاجة المسلمين في مدن فلسطين وقراها، فقد رأى المجلس الإسلامي ضرورة
الاستعانة في مشروع عمارة المسجد الأقصى المبارك والحرم الشريف بأهل الخير
والإحسان في هذه البلاد، وفي سائر الأقطار الإسلامية الأخرى، فألف لذلك وفودًا
من أعضاء المجلس نفسه ومن غيره من وجهاء البلاد وأعيانها إلى الحجاز أولا
وثانية، وإلى مصر والهند والعراق وخليج العجم والآستانة.
وقد لاقى أكثر هذه الوفود نجاحًا وعطفًا كبيرًا في الأقطار الإسلامية وقد بلغ
مجموع الإعانات التي جمعت لهذا السبيل (94. 952) جنيهًا و (141) ملا
موزعة وفق الجدول الآتي:
مليم
…
جنيه
733 38761 من صاحب الجلالة الملك حسين بن علي والحجاز.
322 06206 من صاحب الجلالة الملك فيصل الأول والعراق.
06771 من صاحب السمو نظام حيدر أباد الدكن (الهند) .
340 07811 من حضرة مولانا طاهر سيف الدين (الهند) .
193 0920 من أهل الهند.
780 02681 من أهالي البحرين.
520 01312 من أهالي الكويت.
635 00612 من حضرة الشيخ خزعل خان (شيخ المحمرة) .
700 00338 من أهالي سوريا.
860 00306 من أهالي مصر.
920 00163 من المهاجرين في أميركا.
440 00019 من تركيا.
375 04231 من أهالي فلسطين.
248 16478 من صندوق المجلس في فلسطين والواردات المحلية.
الموارد الدائمية
على أن المجلس الإسلامي رأى أيضًا ضرورة إيجاد موارد دائمية تتأمن معها
الغاية التي يسعى إليها من العمارة والإصلاح والتجديد والتأسيس، ففكر في إنشاء
عقارات جديدة يرصد ريعها للحرم الشريف فشرع في بناء فندق كبير على أحدث
طرز في أرض الجبالية في شارع مأمن الله يحتوي على ما ينوف عن 136 غرفة
عدا قاعات الاستقبال وقاعات المطالعة، وما إلى ذلك من الجهازات الحديثة
المستوفية كل الشروط، ويزيد ريعه السنوي عن الستة آلاف جنيه، وأتم إنشاء
بضعة مخازن في باب الساهر وسيقوم بإنشاء غيرها.
المشورة في تعين خطة العمارة
في قبة المسجد الأقصى ومؤتمر المهندسين
رأى المجلس الإسلامي قبل أن تشرع الهيئة الفنية بتنفيذ ما وضعته من
تصميمات أن يستشير أهل الخبرة من أرباب الفن فرجا من حكومة مصر أن ترسل
بعض مهندسيها المعتمد عليهم فتفضلت بإرسال مهندس من قبل وزارة الأوقاف،
وآخر من وزارة الأشغال، وطلب من حكومة فلسطين فأرسلت ثلاثة مهندسين فعقد
هؤلاء مؤتمرا فنيا مع مهندسي الهيئة الفنية في القدس مؤلفًا من عشرة مهندسين
بحثوا فيه جميع الخرائط والخطط المهيأة، فقرروا بالإجماع خطة سارت عليها
الهيئة الفنية بمهارة تامة وفقًا لما وضعته من التصميمات وحملت القبة المتصدعة
التي تزن ألف طن على حمائل خشبية وجددت الأساس فدعمت العمود والقوس
اللذين في الأقصى القديم (تحت هذه البناء) بدعائم من الخرسانة المسلحة.
ثم انتقل العمل إلى منطقة القبة في المسجد الأقصى فوضعت أساسًا من
الخرسانة المسلحة لتقوم عليها أعمدة ثمانية جديدة اقتطعت من المقالع المحلية
وأعدت لتستبدل بالقديمة البالية، وأنشئ تحت الأقواس القديمة أقواس جديدة من
الحجارة الضخمة وترك بينهما فراغ لقوس حامل من الخرسانة المسلحة، ثم أسندت
أركان القبة إلى ساندات خشبية ضخمة، وشرع برفع القديم البالي فأزيلت قطع
الشدادات، فالتيجان فالأعمدة فقواعدها بصورة تدريجية وأقيم مكانها دعائم جديدة
أيضًا من الخراسانة المسلحة المتينة، ثم صفحت بالأحجار المزية البلدية بالرخام
المنحوت على الطراز الإسلامي العربي، وبهذا تم تقوية منطقة القبة، وأمن عليها
الانهيار الفجائي وأصبحت من المتانة بدرجة عظيمة جدًّا.
وإذا تم ذلك فقد أمكن القيام بعمارة الأقسام المتصدعة التي تحيط بمنطقة القبة
فجددت في الجناح الغربي لها أربعة أعمدة وستة أقواس حجرية، وهدم السقف الذي
كان على وشك السقوط وجعل جميعه في تلك الجهة من الخرسانة المسلحة كما هدم
القسم الغربي من الحائط الجنوبي وأعيد من جديد بالحجارة تدعمها الخرسانة
المسلحة من الخلف، وقد فتحت فيه نوافذ كبيرة أنارت تلك الأقسام، وقد كانت
مظلمة، وكذلك عمر السقف الخشبي للجناح الشرقي من القبة، وأزيلت أركان
ودعائم كثيرة كانت تتخذ قديمًا ساندة فلم يعد بعد العمارة من حاجة إليها.
وقد اهتم بتزيين هذه الأقسام وزخرفتها فكسيت واجهة المحراب وواجهة
أقواس القبة الشرقي والقبلي والغربي بأشكال هندسية بديعة من الجص البارز
المُذَهَّب ورصع القوس الشمالي بالفسيفساء البديعة على النسق القديم الذي وجدت
آثاره تحت القصارة التي كانت تستر واجهة القوس جميعها قبل العمارة، وظهر أن
هذه الآثار القليلة الباقية من الفسيفساء هي من عهد الفاطميين سنة 714 هجرية كما
صُفِّحَت الشدادات بالنحاس المذهب منقوشًا بنقوش بارزة، وصفحت سقوف الجهة
الغربية بالخشب الملون والمُذَهَّب، أما الحائطان القبلي والغربي اللذان عُمِرَا من
جديد فقد رُصِّعَا بالفسيفساء الحجرية الملونة على أشكال بديعة.
هذا وقد وضع أكثر من ثلاثين نافذة من الجص المحفور المزين بأنواع
الزجاج الملون على طراز فني رائع لتوضع في أماكن مختلفة من واجهة المحراب
والحائط القبلي وأسطوانة القبة.
وتتراوح مساحة كل نافذة من هذه النوافذ ما بين (5 ، 1) إلى (5) أمتار
مربعة، وقد نقش تاريخ العمارة بالخط الكوفي وآيات من القرآن الكريم بالخط
الثلث على أركان القبة من فوق التيجان.
العمارة في الصخرة المشرفة
اقتصرت العمارة في الصخرة المشرفة حتى الآن على تجديد عشرين نافذة
داخلية من نوافد الجس الملونة بالزجاج كانت بحالة غير صالحة بالمرة، وقد تولى
صنع هذه النوافذ ونوافذ المسجد معلمان أخصائيان استدعيا من الآستانة، وضم
إليهما عدد من أبناء البلاد قُصِدَ تعلُّمُهم هذه الصنعة البديعة المندثرة وإحياؤها في
البلاد.
وقد وفقوا بذلك كل التوفيق.
أما القاشاني والرخام للقسم الخارجي من الصخرة فلم يشرع بتجديده وإصلاحه
بسبب ما دعت إليه الضرورة من تقديم الأهم الخطر من المباني والآثار الأخرى في
الحرم الشريف، وقد عمرت أيضًا من المآذن المئذنة الفخرية، مئذنة باب السلسلة
ومئذنة باب الغوانمة والصلاحية، ورممت بعض المدارس التي حول الحرم واتخذ
بعض هذه المباني دارًا للآثار الإسلامية ودارًا للكتب ورمم أيضًا كثير من آبار
الحرم الشريف.
الزلزال
بينما كان المجلس الإسلامي عاملاً على تنفيذ برنامجه بالعمارة والإصلاح
والتجديد متبعًا في ذلك تقديم الأهم على المهم إذ رُزِئَتْ فلسطين بزلزال محرم سنة
1346 الذي جاء على كثير من البنيان فيها فصدعه وهدمه، وفي جملته بعض
المباني الأثرية والعمارات الضخمة المتينة، وقد كان الحرم الشريف بما فيه من
مبان وآثار مستهدفًا ومعرضًا، بسبب موقعه من اتجاه الاهتزاز لتيار هذه الزلزال
المتوالي الشديد، لذلك لم يسلم من أثر تصدع منه فيما عدا مسجد الصخرة المشرفة
إلا ما ناله نصيب من هذه العمارة وخصوصًا المسجد الأقصى مع قبته الذي قدر
الخبراء أهل الفن بأن الزلزال لو سبق عمارته لانهار جميعه وأصبح ذلك المكان
التاريخي أثرًا بعد عين لا سمح الله.
خاتمة
قبل أن نختم هذا البيان نرى من الواجب أن نتقدم بالشكر لله أولاً، ثم
لإخواننا المسلمين الذين بذلوا من أموالهم وجهودهم في سبيل الاحتفاظ بهذا المسجد
المبارك ومعاضدة مشروع عمارته فكانوا بذلك ممن عمر مساجد الله {إِنَّمَا يَعْمُرُ
مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (التوبة: 18) .
ومما هو جدير بالذكر في هذه العمارة هو:
أولاً: أنها قامت بأموال أفراد المسلمين مع أن جميع العمارات التي سبقتها
لهذا المسجد كانت بأموال الحكومات والملوك، فكشفت عما في نفوس العالم
الإسلامي من عطف على هذه المسجد وعما في المسلمين من استعداد للتعاون على
البر والتقوى وتلبية كل دعاء إلى الخير، ولقد لاقت الوفود التي أرسلت إلى
الأقطار الإسلامية عطفًا كبيرًا في كل مكان وصدورًا رحبة وإخاء صادقًا، وإنا نعد
هذا الشعور والعطف نجاحًا فوق كل نجاح لاقته هذه الوفود أيضًا، ومما يسر أن
نذكر لكم أن المسلمين في مقاطعة يوننان من بلاد الصين قد لبوا الدعاء على ما
بيننا وبينهم من بُعْدٍ شاسع وبعثوا إلينا بكتاب أنبئونا فيه أنهم شرعوا بجمع الإعانات
ولعل الفتن الأخيرة في الصين لم تمكنهم من إتمام مشروعهم.
ثانيًا: لم تقتصر فائدة هذه العمارة على ترميم المسجد الأقصى فحسب، بل
تجاوزته إلى تعليم عدد غير قليل من أبناء البلاد الصناعات النفيسة الدقيقة كصنع
هذه النوافذ الجصية، وهذا زجاجها أيضًا صنع في معامل الزجاج الوطنية في
الخليل وكصناعة الجص النافر المُذهَّب الذي ترون أنموذجًا منه، وكصناعة سبك
الرصاص المصفح به هذه المسجد وصناعة النحاس الذي يحيط بهذه الشدادات
الخشبية وكإتقان صناعة النقش والنحت وتعميم صناعة الخرسانة المسلحة ولم يكن
عمالنا يعرفونها من قبل. وغير ذلك من الصناعات.
ثالثًا: وإنا نرى من الواجب المُحَتَّم علينا أن نشكر هنا صاحب الأيادي
البيضاء على هذه المشروع وأعظم متبرع له وأكرم مساعد عليه صاحب الجلالة
الهاشمية الملك حسين الذي نقش اسمه على أركان هذه القبة ولقد نقشت كذلك أسماء
كبار المتبرعين الذين نذكر لهم تبرعهم بالشكر الجزيل؛ وهم صاحب الجلالة الملك
فيصل الأول ملك العراق وصاحب العظمة نظام حيدر آباد والمولى الكريم طاهر
سيف الدين، ونشكر أيضًا تبرع حضرة صاحب السمو أميرة بهوبال، وكل من
ساعد هذا المشروع بماله أو بعطفه.
وإنا لنشكر من صميم القلب لجنة عمارة الحرم الشريف التي قامت بخدمات
عظيمة، ونشكر الوفود التي تجشمت المشاق في سبيل هذا المشروع والهيئة الفنية
على ما بذلت من الجهود الكثيرة؛ ونشكر جميع من عمل في هذا السبيل من وفود
ولجان ومهندسين ورسامين وعمال وموظفين، وكل من تفضل بتلبية دعوتنا وشده
احتفالنا هذا أو أناب عنه أو اعتذر ونشكر بصورة خاصة صاحب السمو الأمير
المعظم الذي تفضل بتلبية دعوتنا والذي عطف على هذا المشروع عطفًَا كبيرًا.
ونشكر الحكومة المصرية التي تفضلت بإرسال مهندسين من قبلها للاشتراك
مع مؤتمر المهندسين.
رابعًا: ويهمنا أن نسترعي الأنظار إلى أن هذا الاحتفال هو افتتاح للعمل
وأنموذج منه، وهو ابتداء لا انتهاء فإن الحرم الشريف لا يزال يحتاج إلى جهود
عظيمة لإصلاحه وإيصاله إلى الدرجة التي تليق به وتليق بكرامة أربعمائة مليون
من المسلمين تجله وتقدسه.
وإنا سنواصل السعي بإذن الله للمضي في طريقنا والمثابرة على العمارة
واثقين كل الثقة بعون الله وعطف العالم الإسلامي وتعضيده لمشروعنا، والله
الموفق.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
ما يسمى الاختلاف بين الهيئات السورية
(تأخرت لكثرة المواد)
كثر خوض الجرائد في سورية ولبنان وفلسطين ومصر فيما سمي الاختلاف
بين الهيئات السورية، واهتم به الوطنيون في دمشق أم البلاد السورية حتى رجال
الجمعية التأسيسية وغيرها من الجماعات وتحدثوا هناك وهنا بوجوب السعي إلى
الصلح وإزالة الاختلاف بجمع الكلمة وتوجيه قوى الهيئات كلها إلى المصلحة الوطنية
في هذا الوقت الذي دخلت فيه القضية السورية في طور حل عملي مع الدولة
الفرنسية، ولكن لم نر شيئًا عمليًّا في ذلك، بل يظهر أن الوطنيين الذين أظهروا
الاهتمام به في سورية لم يقف أكثرهم على حقيقة هذا الاختلاف، ولا يعرفون مثيره
الذي لولاه لم يقع؛ لأنه يلبس عليهم بكثرة ما يكتب ويستكتب من الإعلان عن نفسه
والوقيعة في غيره، ولو عرفه جمهورهم كما يعرفه أهل البحث والروية منهم لأنحوا
اللائمة عليه وحده، فإما أن يكرهوه على إيثار وطنه على نفسه، وإما أن يجمعوا على
إسقاطه ونبذه بعد اتفاق أكثرهم على ذلك.
ألا وهو ذلك (القناف) النفاج المفتون بلقب الزعامة الذي يرى من شرط
خلوصها له وصيرورته زغلول سورية أن لا يبقى أحد من سروات بلاده وأصحاب
المزايا العالية والوطنية الصادقة فيهم إلا وهو مثخن بالطعن والجرح في مآثره
ومزاياه، ولا سيما أولئك الأفراد الأفذاذ الذين أجمعت عليهم الكلمة كأمير البيان
وقائد المجاهدين السياسيين لدى جمعية الأمم وفي سائر المحافل السياسية الأوربية
الأمير شكيب أرسلان، وشقيقه رب السيف والقلم وقائد المجاهدين في الثورة
الوطنية الأمير عادل أرسلان، ورجالات حزب الاستقلال الذين كونوا المسألة
العربية وأوجدوها في البلاد، وكذا الذين ظهرت مناقبهم العليا أخيرًا في الجمعية
التأسيسية السورية ولهجت بذكرهم الألسنة، وتبارت في الثناء على وطنيتهم أقلام
الصحف المختلفة فهذا (القناف النفاج) هو الذي أقنع الأمير ميشيل لطف الله
بمبالغاته الخلابة بأن جميع رجال حزب الاستقلال أعداء له وبأنه هو الذي يستطيع
أن يؤلف له عصبية تسقطهم وتحول جميع إعانات المجاهدين إلى جمعية إعانة
منكوبي سورية التي هو (أي الأمير) رئيسها، وبذلك يكون جميع رجال الثورة الذين
عادوا إلى شرق الأردن وفلسطين ومصر والذين لجئوا إلى الصحراء آلة في يده تضم
إلى ما في يده من النفوذ السياسي للجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني فتنحصر
القضية السورية في يده من كل وجه من حيث يسقط أعداؤه وفي مقدمتهم (بزعمه)
الأمير شكيب المحتكر لأعمال الوفد السوري مع إحسان بك الجابري وهو بزعمه عدو
أيضًا - والأمير عادل أرسلان صاحب النفوذ الأعلى مع سلطان باشا الأطرش القائد
العام للثورة - وحينئذ يتحدان معًا على الاتفاق مع فرنسة على حل عقدة القضية
السورية كما يريدان.
صدق الأمير ميشيل تلك الأخاديع الخلابة فكانت عاقبتها تعذر اتفاق أعضاء
اللجنة التنفيذية معه على ما كان شجر من الخلاف بسبب تدخل أخويه في القضية
بنفوذه، وبسبب ما نقلت عنه جريدة المعرض البيروتية فقررت اللجنة إلغاء
الرياسة الشخصية لها فلم يبق للأمير ميشيل عمل ولا شأن فيها؛ لأنه لم يكن
عضوًا منتخبًا، بل جعلته اللجنة رئيسًا محاباة له لسابق خدمته.
ثم كان من عاقبتها أيضًا أن اجتمع أعضاء جمعية الإعانة السورية وقرَّروا
بالإجماع حل الجمعية وتصفية حساباتها فخاب سعي (القناف النفاج) في أمنيتيه أو
في خلابتيه للأمير ميشيل.
***
مكتب الاستعلامات السوري
مطاعنه ومفاسده
كان مكتب الاستعلامات السوري عندما كان تحت مراقبة اللجنة التنفيذية
للمؤتمر السوري الفلسطيني يخدم القضية السورية خدمة صادقة كان لها تأثيرها
الحسن المشهور في الشرق والغرب، وقد تركه الأمير ميشيل بعد انفصاله من
اللجنة بأيدي جماعة من أصحاب الأهواء الذين يخدمون أنفسهم بالطعن في غيرهم
فهو يطعن في المجاهدين أبطال الثورة ويسعى للتفريق بينهم، وله غير ذلك من
المخازي التي لهجت بها الجرائد في سورية وفلسطين ومصر عازية كل إفساد إلى
مكتب رقم 45 شارع عابدين الذي ينفق عليه وعلى من فيه الأمير ميشيل لطف الله
حتى صار هذا المكتب مصدر سفه وإفساد ويقول بعض أصدقائه: إنه قلما يعلم بما
يصدر منه.
نعم إن الأمير ميشيل لا يعلم بكل ما يصدر من مكتبه السياسي (رقم 45
شارع عابدين) من مخازن السفاهة والفساد بالتفصيل؛ لأنه لا يحضر كل مجالس
الزعنفة التي فيه ولا يجد وقتًا لقراءة ما يكتبون وما ينشرون، ولكنه يعلمه بالإجمال
ويطلع على كثير منه، وهو الذي يدفع أجور الكتابة والنشر ورواتب الكاتبين فهو
مسئول عن كل ذلك وعليه تبعته الأدبية والسياسية كما شافهناه بذلك من قبل وضربنا
له المثل المشهور:
من يربط الكلب العقور ببابه
…
فكل أذاة الناس من رابط الكلب
***
اعتذار الأمير ميشيل
عن طعن مكتبه بنا
إننا بعد نشر ردنا على الزعيم محمد علي الهندي في مسألة ملك الحجاز
ونجد ومسألة الخلافة رأينا في جريدة السياسة مقالة مَعْزُوَّة إلى اسم مجهول يشتمنا
فيها ويقول: إن صاحب المنار رجل مادي لا يكتب شيئًا إلا لاستدرار المال وقد
أهان بِرَده جميع الدول الإسلامية لما يأخذه على ذلك من الجنيهات من ابن السعود،
وأنه كان قد أخذ من أمراء لطف الله ستمائة جنيه لأجل أن يغش لهم ملك الحجاز
بجعل البنك الحجازي رسميًّا إلخ. فلم نعجب لنشر السياسة مثل هذا الطعن وما هو
شر منه وأعرق في الإفك والبهتان انتقامًا منا على مقاومة دعوتها الإلحادية اللادينية،
ثم علمنا من مُطَّلِع على ما هنالك أن السياسة لم تقبل نشر تلك المقالة القذرة إلا
برجاء من حضرة الدكتور عبد الرحمن شهبندر وأن المقالة نشرت بعد ذلك في
نشرة مكتب الاستعلامات السورية رقم 45 شارع عابدين.
وبعد ذلك بشهر أو أكثر جاءني كتاب من الأمير ميشيل لطف الله يقول فيه:
إنه جاءه في البريد نسخة من نشرة مكتب الاستعلامات السوري المشار إليه، وعليها
تعليق بالخبر هذا نصه: (أيليق هذا الطعن في حق صاحبك) .
ثم قال: إنني ليس من الذين يسهل عليهم انتهاك حرمة الصداقة الشخصية
لاختلافات تقع بيني وبين زملائي على نظريات سياسية أو مبادئ عمومية
…
إلخ.
ثم قال: (قد قرأت ما كتب في تلك النشرة وأسفت كثيرًا لذلك ولمت رجال
مكتب الاستعلامات على نشر مثل هذه الأمور التي لا تبررها الغايات الشريفة التي
اشتغلنا بها سوية ولا نزال ننشدها، وإن اختلفت نظريات كل منا ما أفضى (كذا)
إلى ما حصل من الانشقاق الذي أعتقد أن كل وطني غيور يأسف له.
(ولا أخفي عليك أنني كثيرًا ما أوقفت نشر كتابات ومقالات رأيت فيها طعنًا
شخصيًّا عليك كان كاتبوها يعتقدون أنها تسرني ولذلك أطلعوني عليها قبل نشرها،
فأفهمتهم جليًّا أنني لا أريد أن ينشر شيء فيه طعن شخصي بك، وأن نشر مثل ذلك
يكدرني) إلخ، ما كتبه مفتخرًا بمحافظته على المبادئ القويمة.
وأقول: إنني أشكر لحضرته هذه المحافظة على الحقوق الأدبية الودية، وقد
حافظت له على خير منها منذ شجر الخلاف إلى الآن حتى أثبتت ذلك بعض
الجرائد إلى عهد قريب، وكنت قد صرَّحت بمثل هذه المناسبة في المنار أنني لم أر
منه ومن أخيه الأمير جورج في معاشرتي لهما بضع سنين إلا الآداب العالية (وقد
كتب إليَّ الأمير جورج من أوربة برقية تعزية عن شقيقتي) ولكن هذا العمل الذي
يعمل باسمه وماله في مكتبه السياسي قد شوَّه هذه السمعة الأدبية، وقد كتبت إليه
مثل هذا الكتاب الخاص ولا لوم الزعنفة الناشرة لما ذكر من الطعن بل يجب عليه
منعها من مثل ذلك كما كان يجب عليه تكذيبها فيما يتعلق بالبنك الحجازي لأنه عند
الناس مظنة أن يكون مأخوذًا عنه، ولا يخطر في بال قراء النشرة غير ذلك.
فلما وصل مرجوع الكتاب إليه أرسل إلى سكرتيره الأدبي وهو صديق
إبراهيم بك ديمتري ليشرح لي شعوره وعذره في عدم تكذيب النشرة في مسألة
البنك قال: إن الذي نشر في شأنها كذب، ولكن طال عليه العهد حتى نسي قبل علم
الأمير به فرأى أن تكذيبه ينبه الأذهان ويعيد الذكرى إلى ما دخل في زاوية النسيان
فعدمه أولى، ثم نوَّه بما يسمعه من الأمير من الثناء عليَّ وأنه لا بد من عودة المياه
بيننا إلى مجاريها صافية كما كانت بعد أن كدرها هؤلاء المشاغبون.
قلت: مهما تكن العلاقة الماضية والحاضرة بيننا وما يرجى في المستقبل فلا
عذر للأمير في ترك مكتبه السياسي على هذه الحالة المخزية التي لولاها لم يكن
للخلاف ذلك التأثير السيئ في البلاد.
ولكن يظهر أن الرجل لا يستطيع إغضاب هذه الزعنفة التي صرح بأنها
تنشر من مكتبه ما تعلم بأنه يكدره؛ لأنه لا يجد الآن غيرها، ولا يمكنه أن يدع
مكتبه السياسي مقفلاً، ويظهر أن الزعنفة علمت هذا الضعف منه فلم تعد تبالي بما
يرضيه وما يسوءه بدليل عودتها إلى أشد الطعن الكاذب فيمن صرَّح لها باستيائه من
الطعن فيه.
أما ما فيَّ من الطعن في المسألتين فأقول فيه كلمة وجيزة لتعلقه بتاريخ حياتي
فإن كان أمثال هؤلاء الطاعنين لا يخاطَبون فإنني أقولها للتاريخ لا لهم.
أما قولهم: إنني دافعت عن ابن السعود ابتغاء جوائزه وإدرار أمواله عليَّ فهم
معذورون فيه؛ لأنهم ماديون لا دين لهم يخدمونه ولا أمة لهم يدافعون عنها فإن لم
يكونوا كلهم كذلك فحسبهم زعيم الإفساد المحرك لهم، وإنني أصرح الآن بأن كل ما
كتبته في المسألة العربية مما لابن سعود فيه ذكر فإنني كتبته عن اعتقاد بأنه حق،
وأن بيانه واجب عليَّ شرعًا ولم يخطر في بالي عند كتابة شيء منه استمالة ابن
السعود ولا الانتفاع منه، ومنه هذا الرد المفحم على أشد أعدائه وخصومه في الهند
فإنني والله لم أرج عليه جزاء منه ولا شكورًا لما سبق من أمثاله، وكذلك قد كان،
فوالله إنه لم يكتب إليَّ كلمة شكر عليه، وليس ذلك لأنه كنود لا يقدر قدر هذه
الخدمة، بل لعلمه بأنني أقوم بها بباعث الاعتقاد الديني والمصلحة الإسلامية
العربية، وقد صرَّح لي باعتقاده هذا فيَّ عند اللقاء وكتبه في بعض مكتوباته.
أقول هذا غير نَاسٍ لما كتبته من قبل في الرد على الذين أشاعوا هنا وفي
أوربة أنني أخذت منه خمسة آلاف وقيل عشرة آلاف جنيه مكافأة على خدمتي له
عدة سنين، فقد قلت في معرض الرد على هذه الإشاعات كلمة قصدت بها إيهام
الحساد ما يسوءهم فحواها أن الأخذ من إمام المسلمين وملك من ملوكهم مكافأة على
خدمة شريفة ليس حرامًا ولا عارًا، وهذا هو الحق ولكن ما سرى منه إلى بعض
الأذهان يومئذ من صدق تلك الأخبار غير صحيح.
وأما مسألة البنك الحجازي فأقول فيها:
(أولا) : إن ما ذكره الطاعن كذب.
و (ثانيًا) إنني أنا عضو في مجلس إدارة البنك الحجازي، وأعتقد أن جعل
هذا البنك رسميًّا للحجاز خير للحجاز ولمَلِكه ولأهله فإقناعه به إن أمكن نصيحة له،
وأعتقد أن أخذ الجعل على السعي لمثل هذا لا يعد عيبًا فيعير به من يُنْسَب إليه،
وكل عاقل عرف هذه المسألة يعلم أن إنشاء هذا البنك ليس بمصلحة مالية ظاهرة
لمنشئه، وإنما الباعث عليه غرض سياسي له يفضله على المال والكسب.
وما الطعن بصاحب المنار في مثل هذا وذاك إلا كالطعن فيه بأنه عاب جميع
الدول الإسلامية بقوله: إنها لا تقبل مشروع الزعيم الهندي الخيالي في جعلها تابعة
في السياسة العامة لخليفة واحد يعيد لها سيرة خلافة أبي بكر الصديق رضي الله
عنه، ومثله زعمهم أنه كان يقتات من فتات مائدة الشيخ محمد عبده ولم يف له
بحق هذه النعمة، والعالم الإسلامي كله يعلم مكان صاحب المنار من الأستاذ الإمام.
هذا وإن بعض أهل الرأي والإخلاص انتقد عليَّ شيئًا يتعلق بذلك الرد،
وسأبينه مع البحث فيه في جزء آخر إن شاء الله تعالى.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقريظ المطبوعات
(مجلة الرابطة الشرقية)
نبَّهتْ حوادث العالم في تاريخه الحاضر كثيرًا من علماء الشرق وقادة الرأي
فيه إلى أن الأمم الشرقية أصبحت أحوج ما تكون إلى أن تتصل بينها الروابط
وتتمهد لها أسباب التعارف والتقارب.
كان الشرق في حاجة إلى ذلك منذ القدم، منذ انقسم العالم إلى أمم شرقية
وغربية، منذ كان الشرق شرقًا والغرب غربًا، وكان المتقدمون من دعاة الإصلاح
في العالم الشرقي يشعرون مثلنا بهذه الحاجة، ويدعون إلى العمل على شدها، إلا
أن هذه الدعوة لم يقدر لها أن تتوطد على نظام ثابت، وقواعد محكمة، لذلك كانت
تتقلب على تقلبات الأيام فتظهر حينا وتخفى، وتضعف آونة وتقوى، لكن إحساس
الشرقيين بتلك الحاجة قد أصبح اليوم أقوى منه في كل ما سلف من العصور،
وأدرك العاملون على نهضة الشرق أنه قد آن لهم أن يقيموا الدعوة إلى الرابطة
الشرقية على ما ينبغي لها من أساس متين ونظام محكم.
لقد اجتمع في مصر سنة 1341 هجرية (1922م) أفذاذ من رجال الشرق
العاملين على إصلاحه، وبعد التشاور فيما بينهم أسسوا جمعية دعوها (جمعية
الرابطة الشرقية) يكون غرضها نشر علوم الشرق وآدابه والبحث في شئونه،
للعمل على ترقية شعوبه وتكوين صلة تعارف بين أرباب الرأي والقلم منهم على
اختلاف أجناسهم لتبادل الآراء والمعلومات في هذا السبيل، ثم لتكون رسول سلام
وتعارف بين الأمم الشرقية، التي لها من سوابق تواريخها المجيدة، وحضارتها
القديمة، وتقاليدها القويمة، ومدارك أفرادها العالية وموارد ثروتها الثمينة ما
تستطيع به أن يخدم بعضها بعضًا، وأن تتضامن في سبيل إسعاد المجتمع الإنساني
وتربيته لخير جميع الأجناس والأديان.
شعرت جمعية الرابطة الشرقية منذ نشأتها بأنه لا مناص بأن تكون لها مجلة
خاصة تخدم أغراضها وتنشر مبادئها وتعينها على الوسائل التي تريد انتهاجها، لكن
حالة الجمعية وظروفها في الماضي لم تكن لتسمح لها بالتفكير الجدي في إصدار
المجلة على الوجه الذي يليق، ثم أراد الله -وله الحمد- أن تتغلب الجمعية على تلك
المصاعب التي كانت تعترضها، فلذلك قررت بجلسة 7 ذي القعدة سنة 1346،
27 إبريل سنة 1928 أن تصدر مجلة تدعَى (الرابطة الشرقية) ووضعت لها
نظامًا تسير عليه، واختارت لجنة تقوم بتدبيرها مؤلفة من ثلاثة أعضاء.
***
(برنامج المجلة)
الغاية التي تعمل المجلة لها هي في الجملة إزالة ما يمكن إزالته من الفوارق
غير الطبيعية التي أقيمت سدًّا بين الأمم الشرقية وبعضها، ومحاولة التقريب بين
هذه الأمم حتى يتيسر لها أن تتعارف، فإذا ما تعارفت تآلفت، وإذا ما تآلفت
تساندت وتعاونت، وإذا ما تساندت وتعاونت استطاعت أن تعيش حرة قوية،
وضمنت لحياتها أن تكون سعيدة كاملة ولمدنيتها الناهضة أسباب الرقي والنجاح،
فيتساوى عند ذلك الشرق والغرب، ويصبح كلاهما عضدًا للآخر في مجال العمل
النافع لخير البشرية كلها.
وسوف لا تَأْلُو المجلة جهدًا في التماس تلك الغاية بكل الوسائل التي تناسب
ما لذلك المقصد الكريم من نبل وشرف فتحاول أن تتبع بعناية كل مظاهر الحياة
الشرقية وعناصر نهضتها، وما يكون ذا أثر قريب أو بعيد في مدنية الشرق،
فتتخذ من ذلك كله موضوعات لبحث حر ونزيه يشترك فيه أهل الرأي البصيرون
ممن يعنيهم أمر النهضة الشرقية عسى أن يتضح سبيل الخير والشر، ويتميز وجه
النافع والضار دون أن تقف المجلة في ذلك موقف المتعصب لأمة ولا طائفة ولا
دين ولا مذهب، لكنها تضع المصلحة العامة للشرق كله فوق جميع هذه الاعتبارات،
تريد المجلة في جميع الأحوال أن تقف موقف السفير الأمين الذكي يحاول أن
يزيل ما قام بين أمم الشرق من حجب وعقبات ليرى بعضها بعضًا ويسمع بعضها
بعضًا فتتعارف فتتقارب فتصبح بنعمة الله إخوانًا.
***
(موضوع المجلة)
تُعْنَى المجلة بكل ما يكون ذا علاقة بنهضة الشرق أو مؤثرًا في مدنيته،
وبكل ما يساعد على تمكين العروة بين الشرقيين لا تتقيد بناحية من البحث دون
ناحية ولا بموضوع دون موضوع ما دام ذلك داخلاً في حدود أغراضها ومتصلاً
بمظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية في الشرق.
والمجلة حريصة من أجل ذلك على تَنَكُّب المباحث التي لا يكون فيها ما ينفع
مبدأ الرابطة الشرقية ولا يمس الشئون الحية في أمم الشرق، وكذلك تحرص المجلة
على مجانبة الأبحاث التي لها علاقة بالمنازعات الدينية، والخلافات المذهبية، فإن
التعرض لمثل هذه الأبحاث في الشرق خطر يخشى أن يغتال كل دعوة إلى تقارب
الشرقيين وتواصلهم، تلك دعوة يجب أن تأخذ سبيلها بعيدًا عن كل ما يثير
حزازات النفوس، ويحرك نزعات العصبية.
وتتجنب المجلة الخوض أيضًا فيما قد يعرُّضها لفتن السياسة، فلا تتناول
المباحث السياسية إلا من نواحيها العلمية البريئة.
الموضوعات التي تُعْنَى بها المجلة بنوع خاص هي:
1-
المباحث العلمية.
2-
الاجتماع.
3-
الاقتصاد.
4-
الأدبيات والفنون الجميلة.
5-
الأخبار والحوادث مشتملة على ما يكون له اتصال خاص بموضوع
المجلة.
6-
الإشارة بقدر ما يمكن إلى ما يظهر من الكتب والمباحث التي يكون لها
ارتباط بموضوع المجلة مع تلخيص المهم منها ونقده.
7-
درس حالة التعليم في الأمم الشرقية المختلفة.
8-
جماعة الرابطة الشرقية بنشر قراراتها وأهم أخبارها ومباحثها وتلخيص
المحاضرات التي تُلْقَى بها.
ويشترط فيما تتناول المجلة من هذه المباحث بوجه أن يكون مفيدًا لأمم الشرق
ومتصلاً بحياتها الحاضرة، وألا يكون فيه ما يثير خلافًا دينيًّا أو سياسيًّا.
***
(نصراء المجلة)
تعتمد المجلة في أداء واجبها وتحقيق أغراضها على المساعدة التي ترجوها
من أعضاء الرابطة الشرقية، وكل من يتفضل بمناصرتها والكتابة لها في حدود
موضوعاتها من شرقيين ومستشرقين.
***
(مراسلو المجلة)
تتخذ المجلة تدريجيًّا في كل جهة من أهم الجهات الشرقية وغيرها مراسلين
يوافونها بالأنباء ويكتبون في موضوعاتها ويستكتبون من ذوي الرأي والمكانة في
بلادهم من يرون في كتاباتهم نفعًا للشرق وللمجلة.
***
(اشتراك المجلة)
رأت اللجنة مؤقتا أن تظهر المجلة مرة كل شهرين، وأن تكون قيمة
الاشتراك السنوي خمسين قرشًا صاغًا في مصر وستين في الخارج تدفع سلفًا،
وأن ترسل المجلة مجانًا إلى حضرات أعضاء الرابطة الشرقية.
***
(عنوان المجلة)
المخاطبات غير المالية تكون باسم (لجنة الرابطة الشرقية) بشارع سامي
رقم 28 المالية بمصر.
والمعاملات المالية تكون باسم (حضرة صاحب السعادة أحمد شفيق باشا)
بالعنوان المتقدم.
***
(لجنة المجلة)
الرئيس: السيد عبد الحميد البكري، مدير المجلة: أحمد شفيق باشا،
المشرف على التحرير: الأستاذ علي عبد الرازق.
مصر القاهرة 17 صفر سنة 1347، 5 أغسطس سنة 1928.
(المنار)
نحمد الله أن آن تنفيذ إصدار هذه المجلة التي قرَّرنا إصدارها من أول العهد
بإنشاء المجلة، ولكن نخشى أن يظهر فيها شيء من شذوذ المراقب الذي يسوء
جميع المسلمين كدفاعه عن الترك وثنائه على خطة حكومتهم في نبذ الإسلام وراء
ظهورهم ومحاولة إزالة كل أثر له في شعبهم، ولكن الرجاء في سماحة الرئيس
وسعادة الوكيل أن يحولا دون ذلك، فالمراقب لا بد له من مراقبة.
***
(القول الصحيح في ترجمة حياة محمد والمسيح)
عني الأستاذ الفاضل عبد العزيز أفندي نصحي أمين مخازن الجمعية الزراعية
الملكية بأشمون في وضع هذه الترجمة عناية يستحق من أجلها كل شكر وإعجاب،
لطيفة العبارة جميلة الأسلوب، ناقش فيها أصحاب الأناجيل مناقشة متواضعة من
أناجيلهم وألزمهم الحجة من أقوالهم، والرسالةُ ملخصٌ صغيرٌ لتاريخ الرسولين
الكريمين مبتدأة بتاريخ السيد المسيح، ويتخلل ذلك بعض أعمالهما وأقوالهما عليهما
الصلاة والسلام.
والرسالة صغيرة الحجم على ورق عادي ثمنها 2 قرشان مصريان غير
أجرة البريد وتباع في مكتبة المنار.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقرير لجنة إصلاح التعليم في الأزهر
والمعاهد الدينية الإسلامية في مصر وقراراتها
أصدر صاحب الدولة رئيس الوزارة أمرًا بتأليف لجنة للنظر في الإصلاح
الذي طلبه للأزهر شيخه صاحب الفضيلة الشيخ محمد مصطفى المراغي فألفت
اللجنة من فضيلته وتحت رياسته من وكيل وزارة المعارف (عبد الفتاح بك صبري)
ومفتش العلوم الحديثة في الأزهر (محمد خالد حسنين بك) والسكرتير البرلماني
لوزير المعارف (الأستاذ الشيخ عبد العزيز البشري) وقد اجتمعت هذه اللجنة
بضع مرات ما بين 23 أغسطس و 5 سبتمبر أصدرت في خاتمتها التقرير الآتي
المتضمن لخلاصة قراراتها وهذا نصه:
التقرير
حضرة صاحب الدولة رئيس مجلس الوزراء:
تفضلتم دولتكم فأصدرتم في 13 أغسطس سنة 1928 قرارًا بتأليف لجنة
للنظر في الإصلاحات المقتضى إدخالها على نظام الجامع الأزهر والمعاهد الدينية
العلمية الإسلامية وذلك طوعًا لميول حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك فؤاد الأول
حفظه الله فإنه ما برحت المعاهد الدينية موضع عنايته وعطفه الكريم وإذا كانت هذه
اللجنة قد أتمت مهمتها على جهتها وفي أيسر وقت مقدر فالفضل في ذلك يرجع أولا
إلى ما يشعر به أعضاؤها من رغبة جلالة مولانا الملك وغيرة دولتكم على معاهد
الدين ورغبتكم في أن تبلغ في القريب الحد المستطاع من الكمال والعظمة ويرجع
ثانيًا إلى ما ملك أعضاءها من الشعور بأن هذه المهمة الجليلة التي ألقيت على
عواتقهم ينبغي ألا يضن عليها بجهد؛ لأنها مسألة الدين والعلم معًا، وإنه ليسرنا في
هذا المقام أن نبلغ دولتكم أنه لقد كان يقع الخلاف وتضطرب وجهات النظر في
مطارحة الآراء إلا أننا كنا ننتهي بحمد الله إلى الإجماع على ما نتخذه من القرارات،
ذلك أننا من الساعة الأولى تمثلنا مصلحة العلم ومعاهد الدين وعلونا بها على كل
اعتبارات أخرى فكانت وسيلتنا إلى هذه الغاية الإقناع وحده وكان من التوفيق أن
كل ما أثبتنا من المبادئ إنما تقرَّر بإجماع الآراء.
لم يبق اليوم من شك في أن الجامع الأزهر يحتاج إلى إصلاح كبير، فلقد
اعتصم من زمن بعيد بألوان من العلوم وتكلف في أساليب التعليم فنونًا خاصة
متجاهلاً في هذا وفي ذاك ما تنتفع به قرائح الباحثين كل يوم، وما يستخرج العلم
من مكنوزات الطبيعة، وما يجلي من سنن الله تعالى في هذا العالم وتطاول على
ذلك الزمن، وفي كل يوم يزداد الانفراج بين الأزهر وبين العالم حتى أصبح أهله
أو كادوا يصبحون غرباء لا يفهمون الناس ولا يفهمهم الناس [1] .
ولقد بُذِلَتْ من ثلاثين سنة جهودٌ محمودةٌ في فترات متعددة ترامت كلها إلى
إصلاح الأزهر وتقريب ما بين أهله وسائر المتعلمين في الدنيا فلم تلق نجاحًا
مذكورًا؛ لأن سواد الأزهريين لم يكن مؤمنًا بالحاجة إلى هذا الإصلاح أو على
الأصح لم يكن مؤمنًا بالعالم ولا بما يتحرك فيه من علم وفن إنما العالم كله لا يعدو
في لحظه أحكامًا لا يستوي كثير منها لحاجات الزمان إلى ضرب من الفلسفة اللفظية
لا غناء له في الدين ولا اتصال له بالأسباب الدائرة بين الناس.
واليوم وقد تفجرت هذه الحقيقة القاسية ورأى الأزهريون أنفسهم بعد إذ كثر
عديدهم أنهم ينزلون إلى ميدان الحياة بغير سلاح انبعثوا هم أنفسهم يطلبون
الإصلاح الذي يجدي عليهم في دينهم ودنياهم جميعًا، وهذا ما يدخل على صدورنا
اليقين بأن ما ارتسمناه محقق إن شاء الله في هذا العهد الموصول النهضات.
ولقد كانت الغاية التي تمثلناها من أول يوم أن تصبح المعاهد الدينية ينبوعًا
غزيرًا من ينابيع الثروة العلمية في البلاد وبحيث يعود إلى الجامع الأزهر مجده
القديم من العالم الإسلامي وليكون المنهل الذي يرده طلاب الدين وطلاب العربية من
العالمين العربي والإسلامي، ولم يتداخل اللجنة أيُّ شك في أن الأزهر لا يتهيأ له
ذلك إلا إذا استخلصت فيه أحكام الدين مما علق بها من الشوائب ويرجع في
تقريرها إلى ما كان يجري عليه السلف الصالحون في أنضر عصور الإسلام بحيث
توافق أحوال الزمان والمكان كما ينبغي أن يعدل فيه عن الطريقة العتيقة في تدريس
علوم اللغة إلى تدوينها على النحو الذي يفسح في الملكات ويطبع الألسن على
صحيح البيان وبحيث يجري تدريس عادتها وأسبابها على مناهج التحقيق العلمي
الحديث، وبمقتضى النظام الذي اجتمعت له نية اللجنة يتسنى للأزهر أن يتولى
تخريج العلماء المتفقهين في دينهم العارفين بأحوال زمانهم الواصلين بين أحكام
شريعتهم وما يجلوه العلم الحديث من سنن الكون، ومن هؤلاء يتخذ أساتذة الشريعة
في المعاهد الدينية والمعاهد الأخرى التي يدرس فيها الفقه الإسلامي كما يتخذ
القضاة للمحاكم الشرعية ويتخذ أيضًا الدعاة المرشدون لأحكام الدين الخالص سواء
في القطر المصري أم في الأقطار الإسلامية الأخرى، وكذلك يقوم الأزهر على
تخريج أساتيذ اللغة العربية للمعاهد الدينية ولمدارس الحكومة أيضًا.
وقد التفتت اللجنة إلى أمر جليل الخطر، ذلك أنه قد تَظْهَر في بعض
الأحايين ألوان من المواهب لو أنها تُعُهِّدَتْ وفُسِحَ لها في جوانب الطريق لربت
وخرج بها العظماء والفاتحون في أبواب العلم المختلفة وتقييد أصحابها بمهنة أو
بمنصب كثيرًا ما يحول بينها وبين كمالها المقسوم، لهذا رأت أنه يحسن أن تسن
في المستقبل طريقة لالتماس أصحاب هذه المواهب وتعهدهم بالوسائل المادية
والأدبية سواء أكانوا من خريجي الأقسام العالية أم من أقسام التخصص حتى
يستطيع كل منهم أن ينقطع للبحث العلمي في الباب الذي هيأته له موهبته.
وقد اقتصرت اللجنة على تقرير المبادئ العامة التي قدرت كفايتها لتحقيق هذه
المطالب الجليلة وتركت وضع خطط الدراسة ومناهجها للجان فنية تُؤَلَّف لهذا
الغرض، ورأت أن تجعل مراحل التعليم في الأزهر أربعًا: ابتدائي، ومدته أربع
سنين وثانوي ومدته خمس، وعال ومدته أربع، وتخصص ومدته سنتان، كما
رأت توحيدًا للثقافة العامة في البلاد أن يجري الأزهر في قسميه الابتدائي والثانوي
في العلوم الحديثة على المنهج المرسوم لتلاميذ المدارس الابتدائية والثانوية فيما عدا
اللغات الأجنبية على أن يفرض النصيب الأوفر في هذين القسمين للمادتين الدينية
والعربية، ورأت أن تربط منه التعليم في المعاهد الدينية بالتعليم الإلزامي بحيث لا
تقل سن الطالب عن اثنتي عشرة سنة ولا تزيد عن الخامسة عشر، وبذلك يكون
الطالب قد أمضى خمس سنوات على الأقل في هذا التعليم فيجب أن يُشْرَط لقبوله
أن يؤدي امتحانًا يثبت به أن قد أحرز محصولاً يكافئ المقرَّر في ذلك التعليم لغاية
السنة الخامسة فضلاً عن حفظ نصف القرآن الكريم على الأقل وحفظ سائره في
السنوات الأربع الأولى.
ولقد توجه الرأي في ذلك على عدة اعتبارات أظهرها أن مَنْ دون الثانية
عشرة لا يتيسر له في العادة أن يتجرد للطلب في المعاهد مستغنيًا عن كفالة أوليائه،
وأن من يتلقى في التعليم الإلزامي أو ما يكافئه خمس سنين ينفسح له الوقت في
التعليم الابتدائي والثانوي للبسط في علوم الدين واللغة فوق القدر المرسوم للعلوم
الحديثة في التعليم العام (الابتدائي والثانوي) .
وطوعًا لسنة التفريع رأت اللجنة أن ينظم التعليم العالي ثلاث شعب.
(إحداها) لدراسة الفقه ووسائله [2] من كتاب الله وسنة الرسول ومذاهب
السلف الصالحين ومقارنتها بعضًا ببعض توسلاً إلى استخراج الأحكام الشرعية على
النحو الذي كان يستخرجها به أولئك السلف الكرام.
(والثانية) تصرف أَجَلّ العناية فيها إلى دراسة علوم الكلام والنظر.
(والثالثة) لدراسة علوم اللغة العربية وآدابها وتاريخها.
ويدخل في ذلك دراسة الكتاب والسنة من الناحية البلاغية حتى إذا استوى
لطلاب هذه الأقسام العالية تحصيل المقرر المقسوم لهم وأحرزوا شهاداتهم انطلق من
شاء منهم إلى التخصص والغرض منه التأهيل للمهنة بحذق وسائلها والتمرن فيها
حيث يجمع بعض طلاب الفقه وطلاب اللغة في قسم واحد هو الذي يعد لمهنة
التدريس في كل من هذين الفرعين (والقسم الثاني) لإعداد بعض طلاب الفقه
لمهنة القضاء وما إليها (والقسم الثالث) ينتظم طلاب علوم الكلام والنظر [3]
لإعدادهم للدعوة والإرشاد.
وإذا كان طلاب الأزهر قد أخذوا بنظام جديد يقرب من النظام المزمع سنُّه من
سنة 1925 بحيث اكتملت له في التعليم الابتدائي إلى الآن ثلاث سنين على هذا
النظام فقد تقرَّر البدء بإنشاء السنة الأولى الثانوية في أكتوبر سنة 1929 ليتسنى
تغذية هذا القسم بمن أتموا الدراسة الابتدائية على ذلك النظام، على أنه بعد وضع
المنهج اللازم للقسم الابتدائي يجب أن يعمل ترتيب انتقالي لتطبيق هذا المنهج
تطبيقًا يجعل كل من أتم الدراسة الابتدائية قد استوفاه كله بقدر الإمكان، كذلك رأت
اللجنة أن يبدأ بتنفيذ شروط القبول في السنة الأولى الابتدائية اعتبارًا من سنة
1929.
أما القسم العالي في الأزهر فقد اجتمعت النية كما سلف الإشارة على تقسيم
الدراسة فيه تقسيمًا يتسق للتخصيص في الأسباب التي يعالجها خريجو هذا المعهد؛
لأن إبهاظ طلاب الأقسام العالية بالقدر الهائل من العلوم لا يستقيم مع قواعد التربية
الحديثة لذلك رأت اللجنة أن تعجل بهذا التقسيم حتى تنتظر هذه المرحلة من مراحل
التعليم طلابًا يتجرد كل منهم لما يعد له من فنون العلم، ومن حيث إنه قد تبين أن
وزارة المعارف تستعين الآن بفنون واسعي الخبرة على وضع نظم وافية لمدارس
المعلمين العليا ومنها دار العلوم وربط الصلات بين الدراسات المتجانسة في التعليم
العالي فقد رأت أنه يحسن الانتظار في تقسيم الدراسة في القسم العالي حتى يجتمع
الرأي في ذلك وبهذا تتهيأ الفرصة لاستفادة الأزهر نفسه بنتائج هذا البحث الذي
ربما تأثرت به دار العلوم إلى حد كبير، ومن المفهوم أنه ستكون بين هذه المدرسة
وبين قسم اللغة وأسبابها في الأزهر أوثق الصلات في مناهج التعليم، وبعد تقدير
الزمن اللازم، لهذا قرَّرت اللجنة أن يبدأ بتقسيم الدراسات في القسم العالي في
الأزهر من أكتوبر سنة 1930 بحيث تجري الدراسة في قسم اللغة العربية في
الأزهر على نفس المنهج الذي يقرر لدراسة العلوم على أن يضاف إليها من المواد
ما لم يكن درسه طلبة القسم الثانوي في الأزهر مما هو مقرَّر على طلبة تجهيزية
دار العلوم، وبحيث أن طلبة القسم العالي في الأزهر المحررين للغة وآدابها متى
أتموا الدراسة على هذا الوجه كانت لهم نفس امتيازات خريجي دار العلوم.
وقد تذاكرت اللجنة في الطريقة العملية التي تضمن كفاية خريجي الأزهر
لتدريس اللغة العربية وآدابها سواء في المعاهد الدينية أم في المدارس الأميرية
فرأت أن تشترك وزارة المعارف بما لها من قديم الخبرة في أساليب التعليم في
وضع خطط الدراسة ومناهجها في القسم الثانوي والقسم العالي المحرر لدراسة اللغة
وآدابها وقسم التخصص في هذه الدراسة، وأن تشترك كذلك اشتراكًا فعليًّا في وضع
أسئلة الامتحانات وفي مباشرتها تحريريًّا وشفويًّا وعمليًّا، وأن لا تضن الوزارة
على المعاهد الدينية بإعارتها العدد الكافي من خيرة الأساتذة والمفتشين بحيث
يكونون في أعمالهم تابعين لإدارة المعاهد وإليها مرجعهم وعلى ذلك فكلما تمت سنة
على الوجه المطلوب ابتداء من السنة الأولى الثانوية في المعاهد الدينية ألغيت السنة
التي توازيها من تجهيزية دار العلوم إلى أن تُلْغَى كلها في الوقت الذي يتم فيه
التعليم الثانوي في المعاهد الدينية على النظام الجديد، على أن من يستحق الإعادة
من طلبة أية سنة ملغاة في تجهيزية دار العلوم يعتبر طالبًا في السنة التي توازيها
في القسم الثانوي بالمعاهد الدينية.
وقد رأت اللجنة أن يكون امتحان التخرج من دار العلوم [4] والقسم العالي
المحرر في الأزهر للغة وآدابها واحدًا للفريقين، وعلى حسب ترتيب النجاح يكون
القبول في قسم التخصص على أنه بعد إذ يثبت بالامتحان النهائي لطلبة دار العلوم
وطلبة ذلك القسم في الأزهر أنهما متكافئان في التخريج يبدأ بالاستغناء بالأزهر عن
دار العلوم.
***
مدرسة القضاء الشرعي
وقد بحثت اللجنة في شأن مدرسة القضاء الشرعي وبخاصة بعد إذ تقرر بادئ
الرأي أن الأزهر يتولى بعد أخذه بالنظام الجديد تخريج أصحاب الكفايات العالية من
القضاة والمحامين فتبين أن هناك نحو ألفي محام ممن يحملون شهادة القضاء
الشرعي في حين لا يتسع المجال لكثير من هؤلاء فلو أنه قد ضم إليهم ممن
يخرجهم الأزهر ومن تخرجهم المدرسة كل عام لتضخم العدد وتكاثر سواد
المتعطلين ممن يحملون شهادة عالية ولهذا آثاره السيئة نحو البلاد ونحو هؤلاء
المتخرجين أنفسهم، وإذا لوحظ أن وزارة الحقانية لا تحتاج إلى أكثر من ستة في
العام في المتوسط لإلحاقهم بوظائف القضاء الشرعي وأن المحاماة قد بشمت بذلك
العدد الهائل فقد بان أنه من الميسور سد حاجة القضاء كلها بالموجودين فعلاً من الآن
إلى أن يخرج قسم التخصص بالأزهر أصحاب الكفاية المطلوبة من القضاة
والمحامين واللجنة تعلم أن مدرسة القضاء الشرعي الجديدة لم يقبل عليها في العام
الماضي أحد من الطلاب بالمرة حتى اضطرت وزارة المعارف إلى تحويل من طلبوا
دار العلوم بعد إذ رغَّبَتْهم بوسائل عدة حتى رغبوا بهذا التحويل، أما في العام الحاضر
فلم يتقدم إليها سوى أحد عشر!
ولما كانت كل الدلائل تنبئ بأن هذه المدرسة تتداعى من نفسها إلى أنها لا
تنتج في الغاية إلا الإكثار من سواد المتعطلين من حملة الشهادات العالية، فقد تقرَّر
إلغاء السنة الأولى اعتبارًا من هذا العام وتحويل طالبيها إلى مدرسة دار العلوم،
وتقرر كذلك مراجعة حضرة ناظر المدرسة في شروط قبول طلبة السنة الثانية من
مدرسة القضاء في السنة الثانية من دار العلوم ثم تخيير هؤلاء الطلبة في ذلك حتى
إذا قدروا أن من مصلحتهم هذا التحويل حولوا، وألغيت السنة الثانية من مدرسة
القضاء في هذا العام أيضًا.
وبهذا ترى دولتكم أن للجنة في جميع وسائل الإدماج الذي طلبته توحيدًا لتعليم
اللغة والدين في البلاد تحرت ألا تضر بأحد من الطلبة القائمين الآن أو تعترض
سبيله إلى غاية أو تتحيف من امتيازاته المقدرة له.
وبحثت اللجنة في شأن إعادة الراسبين في الامتحانات فرأت أن تغتفر إعادة
سنتين في كل قسم من الأقسام الثلاثة، أما قسم التخصص فلا إعادة فيه بل يجب
شطب اسم الراسب من أول مرة، ورأت ألا يقبل في امتحانات الشهادات من
الخارج إلا كل من أتم مرحلة من مراحل التعليم ورسب في السنة النهائية لتلك
المرحلة وشطب اسمه لمضي المدة المقررة، على أنه لا يباح له الدخول في
الامتحان بعد ذلك أكثر من مرتين في السنتين التاليتين.
***
طلاب العلم الغرباء في الأزهر
وكان مما عُنِيَتْ اللجنة بترديد النظر ومطارحة الرأي فيه جماعة الغرباء
الذين يفدون على المعاهد الدينية من الأقطار الأخرى فتبين أن التسامح الذي جرت
به العادة مع هؤلاء يستدرجهم إلى عدم العناية بالتعليم والانصراف إلى ما يسيء
طباعهم ويفسد أخلاقهم حتى إذا رجعوا إلى قومهم كانوا إعلانًا عن الأزهر غير
كريم، فتقرر إلغاء شهادات الغرباء بحيث لا تعطى شهادة إلا لمن يتعلم منهم التعليم
المقرر أسوة بطلاب القسم النظامي.
وفي هذا الباب لاحظت اللجنة أمرًا حقيقًا بالاعتبار ذلك أنه قد يعد طالب نفسه
في بلاده حتى يتأهل للدخول في القسم الثانوي مثلاً، فضلاًَ عن أن هؤلاء لا يفدون
عادة على مصر في أسنان صغيرة، فرأت أن يقبل الغرباء ابتداء في امتحان
الشهادة الابتدائية والشهادة الثانوية، وأن يترخص في أمر السن معهم للانتظام في
الدراسة على أن يترك تحديد ذلك وضبط قواعده لمجلس الأزهر الأعلى.
أما القسم غير النظامي في الأزهر فقد رأت اللجنة أن على من يريد طلب
العلم فيه أن يقدم طلبًا يبين فيه المواد التي يرغب في دراستها في العام حتى يتهيأ
لإدارة المعاهد توزيع الأساتذة على طلاب هذا القسم وتخصيص أماكن التدريس لهم
وهؤلاء لا يراقبون إلا من الجهة الأخلاقية ولا تعقد لهم امتحانات مطلقًا، وإن حُقَّ
لأساتذتهم أن يعطوهم إجازات في العلوم التي يكون قد درسوها وكان ذلك واقعًا في
الأزهر إلى وقت قريب.
***
عدد طلاب القسم النظامي
وتذاكرت اللجنة في شأن العدد الذي تتناوله الأقسام النظامية في المعاهد الدينية
فقررت أن يجدد مجلس الأزهر الأعلى في كل سنة العدد الذي يقبل في السنة
الأولى في التعليم الابتدائي مراعيًا في ذلك بالضرورة القدر الذي ينتظم به التعليم
طوعًا للمنهج المرسوم وتستوي به المراقبة الأخلاقية بحيث يسد كذلك حاجة البلاد
إلى هذا النوع من المتعلمين في غير إسراف ولا تقييد.
وضمانًا لثبات أساليب التعليم وعدم اضطرابها بكثرة التعديل والتغيير تبعًا
لاختلاف الآراء في مذاهب التعليم وتمشيًا مع القانون الأول في هذا الباب رأت
اللجنة أنه يجب أن تصدر خطط الدراسة بقانون وأن تقرَّر مناهجها بمرسوم.
ومما تناولته بحوث اللجنة الجهة التي تتولى إدارة أقسام التخصص فاجتمع
الرأي على أن تتولى إدارة المعاهد الدينية قسمي التخصص في الدعوة والإرشاد
وفي القضاء، أما قسم التخصص في مهنة التدريس بفروعها فقد رُئي لاعتبارات
كثيرة تأجيل البت في ذلك إلى أن يوضع نظام هذا القسم.
هذه هي الأسس التي هدانا الرأي إلى أن يقوم عليها النظام الحديث للمعاهد
الدينية، ويجري في حدودها ما ينبغي لها من وجوه الإصلاح، وإننا لجد واثقين
بأنها لو أصابت موافقة دولتكم فأمرتم بتنفيذ هذا، والشروع في وضع الخطط
التفصيلية لها لكان من حق الأزهر أن يتسلف الهناء على ما سيدرك من العظمة
الحقيقية باسمه، والتي تستشرف إليها مطامعه من قديم الزمان.
ونسأل الله تعالى أن يجزي دولتكم على هذا الخير الجليل أحسن الجزاء،
ونتشرف بأن نرفع مع هذا محاضر الجلسات التي عقدتها اللجنة والقرارات التي
اتخذتها فيها ونرجو دولتكم أن تتفضلوا فتقبلوا أجل الاحترام.
(إمضاءات الرئيس وأعضاء اللجنة)
***
(2)
القرارات
التي اتخذتها لجنة إصلاح نظم التعليم في الأزهر والمعاهد الدينية العلمية
الإسلامية
(1)
يتولى الأزهر بعد أخذه بالنظام المقسوم تخريج العلماء المتفقهين في
دينهم العارفين بأحوال زمانهم الواصلين بين أحكام شريعتهم وما يجلوه العلم الحديث
من سنن الكون، ومن هؤلاء يتخذ أساتذة الشريعة في المعاهد الدينية والمعاهد
الأخرى التي يُدَرَّسُ فيه الفقه الإسلامي كما يتخذ القضاة للمحاكم الشرعية ويتخذ
أيضًا الدعاة المرشدون لأحكام الدين الخالص سواء في القطر المصري أم في
الأقطار الإسلامية الأخرى، كذلك يقوم الأزهر على تخريج أساتيذ اللغة العربية
للمعاهد الدينية ولمدارس الحكومة أيضًا.
(2)
ربط بدء التعليم في المعاهد الدينية بالتعليم الإلزامي وأن لا تقل سن
القبول عن الثانية عشرة، ولا تزيد على الخامسة عشرة، وأن يؤدي الطالب
امتحانًا يثبت به أنه قد أحرز محصولاً يكافئ المقرر في التعليم الإلزامي لغاية السنة
الخامسة.
(3)
قررت اللجنة كذلك وجوب حفظ القرآن كله على طلبة المعاهد الدينية؛
ورأت في هذا السبيل ألا يقبل في الأزهر طالب إلا إذا كان حافظًا على الأقل
لنصف القرآن الكريم، وأنه بعد ذلك يجب أن يكون حافظًا للقرآن الكريم كله عند
تمام السنة الرابعة الابتدائية، وأن يترك للجنة التي تضع خطط التعليم ومناهجه
تنظيم الطريقة التي ينفذ بها هذا القرار.
(4)
تقرر جعل مراحل التعليم أربعًا: ابتدائي ومدته أربع سنين وثانوي
ومدته خمس، وعال ومدته أربع، وتخصص ومدته سنتان.
(5)
يجب أن يفرض النصيب الأوفر في التعليم الابتدائي والثانوي للمادتين
الدينية والعربية، وإلى جانب هذا ينبغي أن يؤخذ طلاب هذين القسمين من العلوم
الكونية بنفس القدر الذي تأخذ به وزارة المعارف تلاميذها في التعليم العام
(الابتدائي الثانوي) .
(6)
ينتظم التعليم العالي ثلاث شعب (إحداها) لدراسة الفقه ووسائله من
كتاب الله وسنة الرسول ومذاهب السلف الصالحين ومقارنتها بعضها ببعض توصلاً
لاستخراج الأحكام الشرعية على النحو الذي كان يستخرجها به أولئك السلف الكرام
(والثانية) تصرف العناية جلُّها فيها إلى دراسة علوم الكلام والنظر (والثالثة)
لدراسة علوم اللغة العربية وآدابها وتاريخها ويدخل في ذلك دراسة الكتاب والسنة
من الناحية البلاغية حتى إذا استوى لطلاب هذه الأقسام العالية تحصيل القدر
المقسوم لهم وأحرزوا شهادتهم انطلق من شاء منهم إلى التخصص، والغرض منه
التأهل للمهنة بحذق وسائلها والتمرين فيها بحيث يجمع بعض طلاب الفقه وطلاب
اللغة وطلاب علوم الكلام والنظر في قسم واحد هو الذي يعد لمهنة التدريس في كل
من هذه الفروع، والقسم الثاني لإعداد بعض طلاب علوم الكلام، والنظر للدعوة
والإرشاد.
(7)
يحسن أن تسن في المستقبل طريقة لالتماس أصحاب المواهب
وتعهدهم بالوسائل المادية والأدبية سواء أكانوا من خريجي الأقسام العالية أم من
أقسام التخصص حتى يستطيع كل منهم أن ينقطع للبحث العلمي في الباب الذي
هيأته له موهبته.
(8)
تقرر أن تشترك وزارة المعارف في وضع خطط الدراسة ومناهجها
في القسم الثانوي والقسم العالي المحرر لدراسة اللغة وآدابها وقسم التخصص في
هذه الدراسة، وأن تشترك كذلك اشتراكًا فعليًّا في وضع أسئلة الامتحانات وفي
مباشرتها تحريريًّا وشفويًّا وعمليًّا، وأن لا تضن الوزارة على المعاهد بإيجادها العدد
الكافي من خيرة الأساتذة والمفتشين بحيث يكونون في أعمالهم تابعين لإدارة المعاهد
وإليها مرجعه، وعلى ذلك فكلما تمت سنة على الوجه المطلوب ابتداء من السنة
الأولى الثانوية في المعاهد الدينية ألغيت السنة التي توازيها من تجهيزية دار العلوم
إلى أن تلغى كلها في الوقت الذي يتم فيه التعليم الثانوي في المعاهد الدينية على
النظام الجديد.
(9)
تقرر تنفيذ قرار اللجنة المتضمن لشروط القبول في السنة الأولى
الابتدائية اعتبارًا من سنة 1929.
(10)
بعد وضع المنهج اللازم للقسم الابتدائي بجعل ترتيب انتقالي لتطبيق
هذا المنهج تطبيقًا يجعل كل من أتم الدراسة الابتدائية قد استوفاه كله بقدر ما يمكن.
(11)
يبدأ بإنشاء السنة الأولى الثانوية في المعاهد الدينية في أكتوبر سنة
1929 حيث تلغى السنة الأولى من تجهيزية دار العلوم كما تلغى في السنة التالية
السنة الثانية فيها، وهكذا حتى يتم إلغاؤها تمامًا في نفس الوقت الذي تتم فيه للقسم
الثانوي في المعاهد خمس السنين.
(12)
من يستحق الإعادة من طلبة أية سنة ملغاة في تجهيزية دار العلوم
يعتبر طالبًا في السنة التي توازيها في المعاهد الدينية.
(13)
يبدأ تقسيم الدراسات في القسم العالي بالأزهر في أكتوبر سنة 1930
بحيث تجري الدراسة في قسم اللغة العربية في الأزهر على نفس المنهج الذي قُرِّرَ
لدار العلوم على أن يضاف إليها من المواد ما لم يكن دَرَسَهُ طلبة القسم العالي في
الأزهر المحرر من اللغة وآدابها حتى إذا أتموا الدراسة على هذا الوجه كانت لهم
نفس امتيازات خريجي دار العلوم.
(14)
يكون امتحان التخرج من دار العلوم والقسم العالي بالأزهر المحرر
للغة وآدابها واحدًا للفريقين، وعلى حسب ترتيب الناجحين يكون القبول في قسم
التخصص.
(15)
بعد أن يثبت بالامتحان النهائي لطلبة دار العلوم وطلبة القسم العالي
المحرر في المعاهد الدينية لتعليم اللغة أنهما متكافئان في التخريج يبدأ بالاستغناء
بالأزهر عن دار العلوم.
(16)
يبدأ بإلغاء السنة الأولى من مدرسة القضاء الشرعي اعتبارًا من هذا
العام وتحويل طلبتها إلى مدرسة دار العلوم، وبعد ذلك يخير هؤلاء الطلبة في هذا
حتى إذا رأوا أن من مصلحتهم هذا التحويل حولوا، وألغيت السنة الثانية من
مدرسة القضاء في هذا العام أيضًا.
(17)
تقرَّر أن يعهد إلى لجنة فنية بتوزيع القدر الباقي من مواد العلوم
الحديثة المقررة في التعليم الابتدائي العام على السنوات الأربع الأول (حيث
يحتسب بالضرورة ما حرز منها الطلاب في سني التعليم الأولى) .
وأن تشكل لجنة أخرى لوضع خطط الدراسة للعلوم الدينية والعربية وما إليهما
للقسمين الابتدائي والثانوي مع مراعاة بقاء خطة الثانوية على ما هي عليه الآن فيما
عدا ذلك، أما خطط الدراسة العالية وأقسام التخصص فتشكل لها لجان خاصة تبدأ
عملها بعد إقرار الخطط والمناهج التي تقرر للقسمين الابتدائي والثانوي.
(18)
قرَّرت اللجنة تمشيًا مع القانون العام في شئون التعليم أن تعتمد
خطط الدراسة بقانون وأن تعتمد مناهجها بمرسوم.
(19)
تقرَّر إعادة سنتين في كل قسم من الأقسام الثلاثة، أما قسم
التخصص فلا إعادة فيه بل يجب شطب اسم الراسب من أول مرة.
(20)
تقرَّر أن يقبل في امتحانات الشهادات من الخارج كل من أتم مرحلة
من مراحل التعليم وسقط في السنة النهائية لتلك المرحلة وشطب اسمه لمضي المدة
المقرَّرة على أن لا يباح له الدخول في الامتحان بعد ذلك أكثر من مرتين في خلال
السنتين التاليتين.
(21)
يقبل الغرباء للامتحان ابتداء في الشهادة الابتدائية والشهادة الثانوية
للانتظام في الدراسة ويُتَرَخَّصُ في أمر السن معهم على أن يترك تحديد ذلك وضبط
قواعده لمجلس الأزهر الأعلى.
(22)
على من يريد طلب العلم في القسم النظامي في الأزهر أن يقدم طلبًا
يبين فيه المواد التي يبغي دراستها في العام حتى تستطيع إدارة المعاهد توزيع
الأساتذة على طلبة هذا القسم وتخصيص أماكن التدريس لهم، وهؤلاء لا يُرَاقبون
إلا من الجهة الأخلاقية ولا تعقد لهم امتحانات مطلقًا، وإن جاز لأساتذتهم أن
يعطوهم إجازات في العلوم التي يكونون قد برعوا فيها.
(23)
يحدد مجلس الأزهر الأعلى في كل سنة العدد الذي يقبل في السنة
الأولى في التعليم الابتدائي بالمعاهد الدينية.
(24)
تتولى إدارة المعاهد الدينية قسمي التخصص في الدعوة والإرشاد
وفي القضاء، أما قسم التخصص في مهنة التدريس بفروعها فقد رُئي تأجيل البت
في ذلك إلى أن يوضع نظام هذا القسم.
(انتهت القرارات)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
سبق لنا كلمة في هذا المعنى في المنار من زهاء ثلاثين سنة حاصلها أن الذي يدخل الأزهر يدخل في عالم خياليٍّ لا علاقة له بعالم الوجود الخارجي فإذا عرضت له حاجة في عالم الأحياء خرج من عالمه الخيالي فنظر في حاجته ثم عاد فزج نفسه فيه.
(2)
كان ينبغي اختيار لفظ أصوله أو ينابيعه على لفظ وسائله هنا بل كان ينبغي أن تجعل دراسة الكتاب والسنة هي المقصد الأول ويجعل الفقه تابعًا لهما.
(3)
كان ينبغي أن يصرح هنا ببعض العلوم الأخرى المهمة في هذا القسم كعلم النفس والأخلاق والاجتماع وفلسفة التاريخ والملل والنحل وهي مقصودة للجنة قطعًا.
(4)
المنار: كذا في الأصل الذي نشر في الصحف وصوابه: التخرج في دار العلوم.
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتح اليهود لباب الفتنة في القدس
التمهيد لانتزاع المسجد الأقصى من المسلمين
بالاستيلاء على جداره الغربي وما حوله
تمهيد في السياسة البريطانية
للدولة الإنكليزية مكايد وحِيَل في انتزاع الممالك من أهلها واستعبادهم وفي
ضرب الشعوب بعضها ببعض (كالسيل يقذف جلمودًا بجلمود) في سبيل منافعها قد
أتقنتها منذ شرعت في الاستعمار إلى هذه الحرب العامة الأخيرة التي استخدمت فيها
لمصلحتها الشعوب الهمجية والمدنية والوسط بينهما حتى إنها جعلت الولايات
المتحدة الأميركية آلة في يدها وجعلت رئيسها العظيم ويلسن كأنه والٍ من ولاتها أو
راجًا من رجوات إمبراطوريتها الهندية، وقد غرَّها النجاح في هذا الكيد حتى
أقدمت في عقب هذه الحرب على أمر عظيم ما أظن أنها درسته من جميع وجوهه
كعادتها.
ذلك الأمر العظيم هو أنها وضعت نصب عينيها استعباد الأمة العربية وجعل
جزيرتها المنيعة التاريخية ومعاهدها الدينية المقدسة تحت سلطانها، وهذه المعاهد
هي المساجد الثلاثة: المسجد الحرام بمكة المكرمة والمسجد النبوي المحمدي في
المدينة المنورة والمسجد الأقصى في بيت المقدس.
وقد أتاحت لها الحرب الاستيلاء العسكري والسياسي على الثالث ثم استخدمت
لقتل الأمة العربية وإفنائها في هذا القطر (فلسطين) الشعب اليهودي جريًا على
عادتها في قذف الشعوب بعضها ببعض، وبدأت من التمهيد للاستيلاء على الحجاز
باستخدام الشريف عبد الله ابن الشريف حسين منفي قبرص اليوم، وملك العرب
وخليفة المسلمين بوهمه بالأمس، فكاد لأخيه الشريف علي الذي تَمَلَّك على الحجاز
محصورًا في جدة عند خروج والده منه بأن أغراه بالذهب الإنكليزي وبنصر
الإنكليز إياه على ابن السعود على أن يصدر إرادته السنية بجعل منطقة العقبة
ومعان أهم مواقع الحجاز البحرية الحربية تابعة لشرق الأردن التي جعلها هو داخلة
في دائرة الإمبراطورية البريطانية باسم الانتداب، ثم بعقده مع هذه الدولة معاهدة
تجعل شرق الأردن وما ألحق به من الحجاز موقعًا حربيًّا للدولة الإنكليزية لها الحق
في استخدام أهله وماله في الحرب: حرب من! حرب الأمة العربية طبعًا إذ لا
يوجد غيرها، ولما قامت أهالي البلاد تنكر هذه المعاهدة قاومهم الأمير الشريف ابن
الشريف ابن الشريف بالقوة والقهر بمساعدة رئيس حكومته حسن خالد بك نجل
القطب الشهير الشيخ أبي الهدى أفندي (الصيادي الرفاعي الحسيني بدعواه) .
ربما تكون الدولة الإنكليزية قد درست حال الأمة العربية درسًا اعتقدت به أن
الاستيلاء عليها ممكن بضرب بعضها ببعض، وذلك بجعل حاكمي العراق وشرق
الأردن عدوين لابن السعود حاكم الحجاز ونجد فإن صح هذا - وقد يكون غير
صحيح - فما أراها قد درست المسألة اليهودية الصهيونية من كل وجه فإن العرب
إذا كانوا لا يزالون جاهلين متفرقين، ولا يزال يوجد الخونة في أكبر بيوتاتهم،
فاليهود ليسوا كذلك بل هم أعظم كيدًا ومكرًا من الإنكليز، وإن كانت قد استخدمتهم
في الحرب المدنية الكبرى لاستمالة الولايات المتحدة إليها وفي بث روح التمرد في
ألمانية للامتناع عن الحرب وطلب الصلح على قواعد ولسن.
نعم إنها استخدمتهم واعدة إياهم بجعل فلسطين وطنًا قوميًّا لهم تمهيدًا لامتلاكها
وتجديدًا لملك اليهود فيها تحت سيادتها، وهي تعلم أن الغرض الأعظم من هذا
الملك إعادة هيكل سليمان لهم لإقامة شعائر دينهم وقرابينهم فيه، وتعلم أن مكان
الهيكل في عرفهم هو المسجد الأقصى، وتعلم مكانة المسجد الأقصى عند المسلمين
عامة والعرب خاصة وعرب فلسطين بالأخص، ولكن هل تعلم مع هذا أن عند
المسلمين من دلائل النبوة وأخبار الرسول صلوات الله عليه وسلامه المتعلقة بهذه
المسألة ما هو أصرح مما عند اليهود من مثل ذلك من أنبيائهم؟ ما أظن اللورد
بلفور الذي ابتكر عهد الوطن القومي ووعد به الصهيونيين يعلم ما عند المسلمين من
الأحاديث النبوية في قتال اليهود ببيت المقدس، وما أظن أنه يؤمن بصحة ما عند
اليهود من (النبوات) في ذلك، وما أظن أن وزير المستعمرات البريطانية وسائر
أعضاء الوزارة بأعلم من اللورد بلفور في ذلك.
فإن كان ظني في غير موضعه فالحكومات الإنكليزية من عهد ابتكار اللورد
بلفور لعهده إلى الآن متعمدة حشر ما يمكن من اليهود في فلسطين؛ لأجل إيقاد نار
الفتنة بينهم وبين العرب بوازع الدين في الفريقين ومساعدة اليهود على العرب
لأجل جعل هذه المنطقة من بلاد العرب يهودية بريطانية فاصلة بين عرب مصر
وعرب سورية والعراق، فإن لم يكن فأقل فائدتها من ذلك أن يكون كل من الفريقين
المتكافئين فيها معتمدًا على سلطانهم وحاكمهم في حفظ نفسه من الآخر.
اليهود الصهيونيون يسوقون سائر اليهود إلى امتلاك البلاد وانتزاع المسجد
الأقصى من المسلمين بسائق العقيدة الدينية وقد كان من أنباء هذا الشهر أنهم فتحوا
باب الفتنة قبل أن يكون لهم الغلب العددي والحكمي في البلاد.
***
مسألة المبكى أو البراق
وهو الجدار الغربي من الحرم الأقصى
كان يقال: إن اليهود يعتقدون أن كسارة ألواح موسى عليه السلام مدفونة
تحت الجدار الغربي من سور الحرم الشريف ببيت المقدس فهم يجتمعون هنالك
يبكون ويحيون ذكر مجدهم الديني في هيكلهم، والمسلمون يروون أن البراق الذي
ركبه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء قد ربط بهذا الجدار فله مزية عندهم
على سائر جدران المسجد ويسمونه (البراق) ، وقد كان من تسامح المسلمين
وتساهلهم أن سمحوا لليهود بما ذكر في أيام ضعف اليهود وسلطان المسلمين فطمع
هؤلاء بعد الاحتلال البريطاني ومشروع الدولة في تنفيذ عهد بلفور لهم حتى حاولوا
في هذا العام الاستيلاء على هذا الجدار وما حوله من بناء على أنه معبد لهم،
وصاروا يضعون هنالك الكراسي والمناضد والأضواء في وقت اجتماعهم حتى كان
من عدوانهم في عيد الغفران لهم ما يأتي بيانه، وهم يعلمون كما تعلم الحكومة
البريطانية في لندن وفلسطين أن هذا من الأوقاف الإسلامية الثابتة بالتواتر، وكان
من قواعد ما يسمونه الانتداب في فلسطين أن المعاهد الدينية لجميع الملل تبقى على
حالها لا يسمح لأحد بالاعتداء عليها، ولكن عامة اليهود الصهيونيين يعتقدون أنهم
ما جلبوا إلى فلسطين إلا لإقامة ملك سليمان فيها وجعلها وطنًا لهم دون غيرهم،
فاستعجلوا في هذا العام بالتمهيد لإعادة هيكل سليمان الذي حل محله مسجد الصخرة
بامتلاك الجدار الغربي من الحرم وهو أقرب الجدران إلى جامع الصخرة.
وإننا نبدأ في بيان عملهم في هذا الشهر وبعض ما أثاره في البلاد ببلاغ
حكومة فلسطين الرسمي فيه وهذا نصه:
بلاغ حكومة فلسطين
في مساء 23 أيلول الجاري أي ليلة عيد الغفران (يوم كيبور) رفع متولي
وقف أبي مدين الذي يقع ضمن دائرته الرصيف ومنطقة البراق (المبكى) شكوى
إلى جناب حاكم مقاطعة القدس بأن حاجزًا قد أنشئ على الرصيف الملاصق
للبراق، وأدخل إليه أشياء أخرى تخالف العادة المتبعة كقناديل كاز وعدد من
الحصر وهيكل أكبر من الحجم الاعتيادي، فزار حاكم المقاطعة البراق في أثناء
صلاة المساء، وقرَّر عملا بالعادة التي أقرتها الحكومة وجوب رفع الحاجز قبل
إجراء الصلاة في اليوم التالي، وأعطى تعليمات بهذا المعنى إلى الشماس القائم
بترتيبات الصلاة في البراق محتفظًا بقرراه في مسألة القناديل بإزالته صباح اليوم
التالي باكرًا، وقبل تأكيداته بتنفيذ تعليماته، وبلغ في ذات الوقت ضابط البوليس
البريطاني القائم بالوظيفة ضرورة رفع الحاجز من مكانه إذا لم يقم بتعهده.
فزار ضابط البوليس صباح اليوم التالي البراق، ورأى أن الحاجز لا يزال
في مكانه فسأل القائمين بالصلاة أن يرفعوه من ذلك المكان غير أنهم أجابوه بأنهم لا
يستطيعون ذلك نظرًا لقداسة ذلك اليوم فرفعه عندئذ رجال البوليس بنفسهم، ولم
يكن المصلون عمومًا قد اطلعوا على ما جرى سابقًا، فعندما رأوا البوليس يرفعون
الحاجز الذي استعمل لفصل النساء عن الرجال هاجوا وسعى بعضهم لمنع البوليس
من رفعه بالقوة، وأخيرًا رفع الحاجز.
ويعتبر جلب الحاجز ونصبه على الرصيف تعديًا على الحالة الراهنة مما لا
يمكن الحكومة السماح به، غير أن الحكومة تأسف لما حصل من الخوف
والانزعاج لجماعة كبيرة من المصلين في يوم مقدس كهذا لليهود، وقد علمت
الحكومة أن المراجع اليهودية قد جازت الشماس المسئول عن الحادث بما يستحق
على عمله، وقد شددت الحكومة عليهم في ضرورة مراجعة موظفي الحكومة
المسئولين عن التدابير المسموح باتخاذها في أثناء الصلاة في البراق في أعياد
اليهود الرسمية التي أبديت للمراجع اليهودية عند وقوع مثل هذه الحوادث في
البراق في سنتي 1922 و1925 وهذه السنة أيضًا.
ولم يكن هنالك وقتئذ ضابط بوليس يهودي؛ لأن جميع البوليس اليهود كان قد
أجيز لهم التغيب عن الخدمة يوم عيد الغفران، وستمعن الحكومة النظر في ضرورة
وجود ضابط بوليس يهودي في المستقبل بين الذي يرسلون إلى البراق للمحافظة في
أعياد اليهود الخطيرة، وفي الختام ترى الحكومة بأن رفع الحاجز كان ضروريًّا
غير أنها تأسف لما وقع من جراء رفعه. انتهى.
وقد جاء في جريدة الجامعة العربية الغرَّاء التي تصدر في القدس الشريف بعد
نشر هذا البلاغ ما نصه:
والقارئ لهذا البلاغ يشعر أن الحكومة قد وقفت موقف الضعف محاولة ستر
اعتذارها لليهود بأنها تمسكت بوجهة نظرها في ما اتخذته من الإجراءات ضدهم في
البراق، وقد كنا نحب أن تظل الحكومة واقفة موقف الحزم، سالكة السبيل الذي
يقضي به الحق والعدل والتعامل القديم في مسألة البراق، وأن لا يؤثر عليها هذه
المناورات التي يقوم بها اليهود من أجل أمر لا حق لهم فيه على الإطلاق.
وقد اتصل بنا من مصدر موثوق أن اليهود قد طلبوا من الحكومة الإذن للقيام
بمظاهرة عامة واسعة النطاق يحضرها أفراد عديدون من اليهود من سائر جهات
فلسطين، وذلك في يوم الإثنين (اليوم) حيث تذهب جموعهم إلى البراق بالأناشيد
بقصد التمويه والتأثير على الحكومة.
***
هياج الرأي العام الإسلامي والدعوة إلى عقد اجتماع
ولما اتصل بالمسلمين في القدس خبر عزم اليهود على القيام بهذه المظاهرة
هاجوا هياجًا عظيمًا وفكروا في ضرورة اتخاذ التدابير اللازمة لرد عادية اليهود
فتأسست لجنة من أهل الحمية والغيرة طبعت منشورًا دعت فيه المسلمين إلى
حضور اجتماع عام في المسجد الأقصى بعد صلاة العصر (أمس) ، وقد وصلتنا
صورة من هذا المنشور فأثبتناها في ما يلي:
نداء عام إلى إخواننا المسلمين كافة
أيها المسلمون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
تعلمون أنه قد حدث في هذه الأيام محاولة الاعتداء على مكان البراق المجاور
للمسجد الأقصى الذي إليه كان إسراء النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وقد ظهر
من هذه المحاولة التي تكررت أمثالها من قبل على غير جدوى، أن القوم الطامعين
في الاعتداء على الجانب الغربي من سور المسجد الأقصى مصممون على الأخذ
بكل وسيلة للطمع في حقكم وحق جميع المسلمين في هذا البيت العظيم من بيوت الله
المقدسة.
وإزاء هذه الحالة يتطلب الواجب الديني من كل مسلم أن ينظر بعين الجد
واليقظة فيما يَدْهَم المسلمين من خطر عاجل، ولذلك فقد [1] أوجبت خطورة الحالة
على المسلمين أن يتشاوروا في هذه الحالة ابتغاء اتخاذ الحيطة لوقاية بيت الله من
الاعتداء وتقرير ما ينبغي تقريره في هذا الشأن الخطير من اتخاذ الوسائل
المشروعة القانونية لدى الحكومة والمراجع الإيجابية.
وعليه فإننا ندعو كل مسلم في هذا البلد المقدس إلى حضور صلاة العصر في
المسجد الأقصى في هذا اليوم (الأحد) الواقع في 16 ربيع الثاني سنة 1347
الموافق 30 أيلول سنة 1928 وإننا نتوسل إليكم المبادرة إلى حضور هذه الصلاة
بوقتها، آملين من غيرتكم تلبية النداء والسلام عليكم ورحمة الله، اللجنة الداعية.
القدس في 16 ربيع الثاني سنة 1347
***
في المسجد الأقصى
وعند صلاة العصر اجتمع ألوف من المسلمين في المسجد الأقصى فبعد
الصلاة خطب كل من الشيخ عبد الغني أفندي كامله وعزت أفندي دروزة والشيخ
حسن أفندي أبو السعود في الحاضرين وأوضحوا لهم مقاصد اليهود في محاولاتهم
الموجهة إلى البراق الذي هو السور الغربي للحرم الشريف، وبعد ذلك أعد
الحاضرون مضبطة إلى فخامة المندوب السامي يحتجون فيها على أعمال اليهود
العدائية، وما أدت إليه من هيجان في الرأي العام كما أعدوا مضبطة أخرى طالبين
فيها أن تسمح الحكومة بإقامة المظاهرات السلمية في القدس وسائر أنحاء فلسطين
والاحتجاج إلى وزارة المستعمرات وملوك المسلمين وأمرائهم والشعوب والصحف
الإسلامية وإلى عُصْبَة الأمم وقد انتخبوا لجنة تنفيذية لتنفيذ هذه المقررات سننشر
أسماء أفرادها فيما بعد.
ونظرًا لضيق الوقت ننشر نص المضبطتين في العدد القادم.
وقد بلغ هياج الرأي العام بين المسلمين مبلغه في السخط على هذه الأعمال
التي يقوم بها اليهود، وهذه الدعاية التي يبثونها في فلسطين أو في الخارج
ويعجبون من الوقاحة التي دعت اليهود لأن يفكروا في الاعتداء على حق مقدس
للمسلمين لا يتصور أحد من المسلمين أن يفرط في ذرة منه ما دام فيه عرق ينبض
وسيرسل المجلس الإسلامي الأعلى إثر ذلك تقريرًا شديد اللهجة إلى الحكومة
موضحًا فيه خطورة الحالة، مطالبًا منها تدارك الأمر بما يطمئن خواطر المسلمين
ويهدئ من ثوران نفوسهم المهتاجة.
هذا وإننا نوجه كلمتنا الأخيرة إلى الحكومة وإلى إدارة الأمن العام طالبين منها
أن تضرب على أيدي اليهود الطامعين فيما ليس لهم حق فيه، والعاملين على العبث
بالأمن العام، وموجهين نظرها إلى أن التساهل في مسألة حساسة خطيرة كهذه قد
يؤدي إلى ما لا تُحْمَد عُقْبَاه؛ لأن المسلمين في فلسطين لا يمكن أن يفرطوا قط في
ذرة من حقوقهم في هذا المكان الذي يشكل الجدار الغربي للمسجد الأقصى الشريف
أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ونخشى أن يتعدى الهياج القدس إلى سائر
بلدان فلسطين، ثم إلى العالم الإسلامي كافة إذا لم تتدارك الحكومة الأمر بالحزم
والشدة اهـ.
(المنار)
قد قام رئيس المجلس الإسلامي الفلسطيني صاحب السماحة السيد محمد أمين
الحسيني مفتي القدس وأعضاؤه بما يجب عليهم من السعي لدرء هذه الفتنة من
طريق الحكومة كما فعلوا الواجب من ناحية تنبيه المسلمين كما يجب عليهم في
ذلك، وحسبنا نشر هذا الكتاب مبينًا لتلك المساعي الرسمية في ذلك.
***
كتاب المجلس الإسلامي الأعلى
بشأن حوادث البراق إلى فخامة المندوب السامي
فخامة المندوب السامي:
(عطفًا على جميع المخابرات التحريرية والمحادثات الشفهية التي جرت بين
المجلس الإسلامي الأعلى وبين الحكومة المركزية بالقدس، قديمًا وحديثًا، بشأن
البراق الشريف، (جدار الحرم الغربي) نلفت نظر فخامتكم إلى ما يأتي:
1 -
أن هذه الناحية من الجدار المذكور، هي مكان البراق الشريف نسبة
لبراق النبي محمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد
الأقصى، وأن المسلمين في جميع أقطار الأرض يحتفلون كل سنة بذكرى هذا
الإسراء الذي جاء نصًّا في القرآن الكريم.
2 -
أن هذا الجدار هو جدار المسجد الأقصى ثالث الحرمين الشريفين، الذي
هو عند المسلمين عامة بمنزلة حرم مكة المشرفة وحرم المدينة المنورة.
3 -
أن كل جزء من الحرم الشريف وكل جدار يحيطه بما فيه هذا الجدار
الترابي هو في عقيدة المسلمين جزء لا يتجزأ من المسجد الأقصى المبارك الذي
أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى فضل زيارته والصلاة فيه، وشد الرحال إليه،
من أدنى الجهات وأقصاها.
من هذا كله يُعْلَم أن المسجد الأقصى وكل جزء من الحرم الشريف القدسي،
وخصوصًا هذه الناحية من الجدار الغربي التي هي مكان البراق الشريف، له مكانة
مقدسة عظمى عند المسلمين عامة في مشارق الأرض ومغاربها، وأنهم يتعلقون
بهذا المسجد المبارك المذكور في القرآن الكريم تعلقًا دينيًّا شديدًا مقرونًا بالإجلال
والتعظيم.
ونظرًا لهذه المكانة العظمى للمسجد الأقصى والحرم الشريف عند المسلمين فقد
دأبوا منذ بضعة عشر قرنًا على المحافظة عليه بشتى الوسائل فأنشئوا حوله
المدارس والزوايا وحبسوا الجهات المحيطة به أوقافًا - كما يشاهد الآن - وخصوصًا
فيما يحيط بناحية البراق الشريف، فهي وقف على زاوية القطب الشهير سيدنا أبي
مدين الغوث (قدَّس سره) والمغاربة.
بل بالنظر لأهمية هذا المكان أيضًا - لم ترض الحكومة العثمانية - رغم ما
بذله اليهود وزعماؤها في جميع العالم من شتى الوسائل والتقرب والالتماس أن
يتعدوا الزيارة المحضة التي تساهل بها سكان ذلك الحي حينئذ لجميع الطوائف،
كما يظهر من قراراتها العديدة، وخصوصًا قرار مجلس الإدارة العثمانية الأخير في
القدس الذي تعلمه الحكومة.
ومن البديهي أنه لو كان بحسبان المسلمين أن اليهود سيطمعون هذا الطمع
يومًا ما سمحوا لهم حتى بمجرد الزيارة.
فعليه استرسال اليهود منذ الاحتلال إلى اليوم في محاولاتهم بمختلف الطرق
والدعاية الخارجية والداخلية لإحداث حق لهم، وبذلهم الجهود متطلعين إلى استملاك
هذا المكان الشريف من أيدي المسلمين، هو أمر بظاهره وباطنه تَحَدٍّ عنيف
للمسلمين فيما هو أقدس أماكنهم الدينية.
ومن الظاهر أنه إذا ظل اليهود في استرسالهم هذا ولم يجدوا من الحكومة
حزمًا حاسمًا يلزمهم التقيد المطلق بالزيارة المحضة على نحو قرار مجلس الإدارة
المذكور فلا بد بطبيعة الحال أن ذلك يؤدي إلى عواقب وخيمة، وإن المجلس
الإسلامي الأعلى المعبر عن رأيه ورأي المسلمين كافة في هذه القضية الخطيرة لا
يرضى بصورة من الصور التساهل في تمكين اليهود أن يغيروا تلك الحالة أو
يخرجوا عنها بأي شكل كان، ويطلب من الحكومة بإلحاح وضع حد حاسم نهائي
لمحاولاتهم وأطماعهم في هذا المكان الشريف ويلفت نظرها إلى أن استمرار هذا
الأمر غيرَ محسوم ولا مقطوع به يوصل الحالة العامة عند المسلمين إلى طور لا
تخفى عاقبته على حكمة الحكومة البريطانية كما بدا من حالتهم اليوم إثر الحوداث
الأخيرة.
ولما كان اليهود لا يزالون إلى هذا الساعة يضعون بعض أدوات من كراسي
صغيرة ومائدة وخزانة ومصابيح، فإن المجلس الإسلامي الأعلى يحتج باسم جميع
المسلمين في العالم على هذا بكل قوة، ويرجو من الحكومة أن تتفضل بالمبادرة إلى
رفع هذه الأدوات جميعها من أماكنها رفعًا دائمًا، مع إخطار اليهود بأن لا يعودوا
إلى وضع أي شيء منها مرة أخرى.
وهنا نقطة أخرى جزع المسلمون لها جزعًا شديدًا، وهي إرسال ضابط
يهودي إلى البراق إرضاء لليهود، فإن في ذلك ما يزيد الأمر استفحالاً، ويشجع
اليهود فيزيدون في أطماعهم زيادة تجعلهم يسترسلون في الاعتداء شيئًا فشيئًا،
فضلاً عن أن هذا الأمر لا ينفي أن يكون الضابط اليهودي متعصبًا يتناول المغاربة
المسلمين سكان المكان بألوان من التعدي وسط هذا الحي الإسلامي البحت أثناء
دخولهم إلى منازلهم وخروجهم منها.
ولذلك فإن المجلس الإسلامي يطلب بإلحاح أن تعيد الحكومة نظرها في
المحاذير التي تنشأ عن وجود ضابط يهودي في محل إسلامي محض، ليس لليهود
فيه أقل حق، ويخشى أن يتخذ اليهود من وراء ذلك أسبابًا لإثبات حق لهم، بوجود
ضابط يهودي، وهو يطالب أن يكون الضابط مسلمًا ليأمن المسلمون على هذا
المكان المقدس وليطمئن أهل الحي وسكانه من المغاربة المسلمين.
وبالنهاية يرجو المجلس الإسلامي من الحكومة أن تتفضل باعتبار ما بسطه
في هذا الكتاب بصدد مسألة البراق أنه من الأمور الخطيرة التي يرجو هو
والمسلمون من الحكومة سرعة تلافيها بما يحفظ حقوق المسلمين غير منتقصة
ويوقف اليهود وقفًا نهائيًّا عند الحالة المذكورة لهم.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.
…
...
…
...
…
... رئيس المجلس الإسلامي الأعلى
…
...
…
...
…
...
…
... محمد أمين الحسيني
(المنار)
هذا وإن جريدة الجامعة العربية لا تزال تأتينا من القدس الشريف بأخبار هذه
الفتنة وتهييج اليهود للمسلمين بعدوانهم وتظاهرهم واحتجاج هؤلاء من بلاد فلسطين
وغيرها من سورية ومصر على اليهود من جانبهم بالدعاية وتماديهم في العدوان
وغرورهم بلين الحكومة البريطانية لهم وتعيينها شرطيًّا (بوليسا) منهم للمحافظة
على مكان الفتنة.
وإننا ننصح للحكومة البريطانية بأن تقمع الفتنة وتسد بابها قبل تفاقمها ولعلمها
بأن البخاري ومسلمًا وغيرهما قد رووا لنا أن نبينا صلوات الله وسلامه عليه قد قال:
(تقاتلكم اليهود فتسلطون عليهم حتى يقول الحجر: يا مسلم هذا يهودي ورائي
فاقتله) ونخبرهم بأن علماء المسلمين فسروا مثل هذا الحديث بأنه إنما يقع مضمونه
قبيل قيام الساعة عندما يظهر الدجال الذي يدعي أنه هو المسيح الذي ينتظره اليهود
فيقومون معه ويقاتلون المسلمين، ولأجل هذا لا يخطر في بال مسلم أن يعتدي
على أحد من اليهود قبل ذلك الوقت فإذا أراد اليهود التعجل به فيجب أن تمنعهم
الحكومة الإنكليزية، ومن أنذر فقد أعذر، وسنعود إلى الكلام في هذه المسألة إذا
ظلت الفتنة قائمة إلى وقت تحرير الجزء السابع من المنار.
_________
(1)
هذا التعبير من خطأ الجرائد الذي سرى إلى جميع طبقات الكاتبين بالعربية، والصواب في مثله من الجمع بين لام التعليل وفاء السببية تقديم الفاء؛ لأن ما بعدها لا يعمل فيما قبلها بأن يقال هنا فلذلك أوجبت الحالة أو أوجب خطر الحالة كذا إلخ.
الكاتب: عبد الله محمود شكري
دعاية الرفض والخرافات والتفريق بين المسلمين
ومُوقِد نارها الشيخ محسن الأمين العاملي
خطة المنار في التأليف بين المسلمين
يعلم جميع قراء المنار والمطلعين، وكذا الواقفون على النهضة الإصلاحية
التي قام بها منشئه على أساس الوحدة الإسلامية منذ ثلاثين سنة أو أكثر أنه كان من
سيرته في مجاهدة البدع والخرافات التمثيل لها بما فشا منها بين أهل المذاهب
المنسوبة إلى السنة دون ذكر أهل مذاهب الشيعة وغيرهم؛ لئلا يتهمه المتعصبون
من هؤلاء بالتعصب، وإن كان يصرح دائمًا ببناء دعايته على أساس نصوص
الكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح وعدم التقيد فيها بمذهب من المذاهب، بل مع
تصريحه بما يعتقده من أن التعصب لأي مذهب منها مناف للوحدة الإسلامية
ومخالف لنصوص القرآن.
وقد اشتهرت قاعدته الذهبية التي دعا إليها علماء المذاهب كلها، وهي نتعاون
فيما نتفق عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما تختلف فيه، وندعو علماء كل طائفة وأهل
كل مذهب لمقاومة البدع الفاشية فيهم؛ لتكون دعوتهم أقرب إلى القبول.
وقد وافقنا على دعوتنا هذه كثيرون من أهل السنة المستقلين والمقلدين
للمذاهب ولكننا لم نر أحدًا من علماء الشيعة نصرنا عليها بالكتابة، وإنما استحسنها
بعض المنصفين فيما شافهونا به (كالسيد الشهيرستاني النجفي والسيد عبد الحسين
العاملي والمرحوم الشيخ محي الدين عسيران) على أننا لم نسلم من شر متعصبيهم،
فقد نشرنا مرة رسالة في أول المجلد 16 من المنار (سنة 1326) لصديقنا
العلامة المرحوم الشيخ محمد كامل الرافعي من بغداد كتبها في أثناء سياحته يذكر
فيها قيام علماء الشيعة بدعوة الأعراب إلى التشيع، واستعانتهم على ذلك بإحلال
متعة النكاح لمشايخ قبائلهم الذين يرغبون في الاستمتاع بكثير من النساء في كل
وقت.
ولما نشرنا تلك الرسالة في المنار علقنا عليها تعليقًا رجونا أن يحول دون
تعصب الشيعة واحتمائهم علينا ورمينا بضد ما نقوم به من التأليف والتوحيد، فقلنا:
إن تعليم الإعراب الجاهلين مذهب الشيعة في العبادات والحلال والحرام خير من
بقائهم على جهلهم المعهود، وحصرنا توجيه انتقاد الكاتب في وجهته السياسية،
وهي ما كان يشوب تلك الدعاية من التنفير من الدولة العثمانية والتحبيب في الدولة
الإيرانية إلخ ولم ننشر اسم الكاتب يومئذ لئلا توذيه الحكومة الحميدية لما هو معلوم
من حالها.
نشرنا هذا في المنار فلم نجد أحدًا منهم هاجه واحتمى عليه إلا هذا المتعصب
الجامد على الرفض [1] الشيخ محسن الأمين العاملي على خلاف ما نَقَلَ لنا بعض
الناس عنه من إظهار الإنصاف في مجالسه مع علماء السنة من باب التقية، فألف
رسالة سماها (الحصون المنيعة، في الرد على ما أورده صاحب المنار في حق
الشيعة) لم يكن في تأليفها محسنًا في الرد، ولا أمينًا في النقل، ولكنها فرصة
اغتنمها لبث أمرين (أحدهما) فيما ارتأيت في ذلك التاريخ صَدّ نابتة الشيعة في
جبل عامل وغيره عن المنار؛ إذ كانت قد أثرت فيهم خطته الإصلاحية ودعوته
إلى الاستقلال في فهم الدين من الكتاب والسنة وترك التقليد وعصبية المذاهب فيه،
والشيعة أشد الفرق في ذلك حتى الذين يسمونهم المجتهدين منهم، ويفتخرون على
أهل السنة بأنهم هم الذين يأخذون بالاجتهاد الذي أقفل بابه أهل السنة، ومن المعلوم
ببداهة العقل أن الاجتهاد الحقيقي الذي هو الاستقلال بأخذ الدين من ينابيعه ينافي
التمذهب بمذهب معين.
(الأمر الثاني) بث مذهب الشيعة بين أهل السنة وترجيحه على مذهب
السنة، وجعل مسألة متعة النكاح حجة على هذا الترجيح، فأطال فيها بغير طائل.
أرسلت إليَّ هذه الرسالة عقب صدورها فلم أشأ أن أرد على أباطيلها لسببين
(أحدهما) مخالفة ذلك لخطتي في التأليف بين فرق المسلمين؛ لأن المجادلات في
الانتصار للمذاهب تذكي نار التعصب والشقاق بين أهلها (وثانيهما) أن صاحبها لا
يستحق أن يرد على مثله؛ لأنه لا يطلب الحق في المناظرة كما هو شأن المقلدين،
ولا سيما المتعصبين الغلاة مثله، فمناظرتهم تضر ضررًا لا يقابله منفعة استبانة
الحق لهم فيرجى رجوعهم إليه.
وكيف يرد مثلنا من المستقلين ودعاة التأليف على من يستدل على صحة
المتعة بقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (النساء: 24)
فيزعم أن لفظ الأجور لا يصح أن يكون بمعنى المهور؛ لأنه لم يرد في لغة القرآن
بهذا المعنى وإنما سماها القرآن الصدقات (بضم الدال) وزعمه هذا يدل على أحد
أمرين: إما الجهل بالقرآن ولغته، وإما تعمد تحريفه وقد يجتمعان، فقد قال الله
تعالى في سورة الممتحنة في المؤمنات اللواتي يتركن أزواجهن المشركين ويهاجرن
إلى المدينة {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (الممتحنة:
10) وقال تعالى بعد ذكر حل طعام أهل الكتاب من سورة المائدة: {وَالْمُحْصَنَاتُ
مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} (المائدة: 5) .
وإنني لما حررت الدلائل في مسائل متعة النكاح في تفسير سورة النساء من
جزء التفسير الخامس وتعرضت لخلاف الشيعة فيها قلت في آخر البحث ما نصه
(وهو قد كتب بعد تأليف تلك الرسالة) .
(ولا سعة في هذا التفسير لهذه المباحث بل أخشى أن أكون خرجت بهذا
البحث عن منهاجي فيه وهو الإعراض عن مسائل الخلاف التي لا علاقة لها بفهم
القرآن والاهتداء به، وعن الترجيح بين المذاهب الذي هو مثار تفرق المسلمين
وتعاديهم، على أنني أبرأ إلى الله من التعصب والتحيز إلى غير ما يظهر لي أنه
الحق والله عليم بذات الصدور - إلى أن قلت:
(فإن اطلعنا بعد ذلك على روايات أخرى للشيعة بأسانيدها فربما نكتب في
ذلك مقالاً تمحص فيه ما ورد من الطريقين ونحكم فيه بما نعتقد من قواعد التعارض
والترجيح وننشر ذلك في المنار) اهـ.
وقد أرسل علامة الشام المستقل الشيخ جمال الدين القاسمي (رحمه الله تعالى)
رسالة العاملي في أثناء نشرها إلى علامة العراق المستقل السيد محمود شكري
الألوسي (رحمه الله تعالى) وسأله عن رأيه فيها فأجابه برسالة تتضمن الرد الشديد
عليها وتجهيل مؤلفها، وقد اطلعنا على هذا الرد، ولم نشأ أن ننشره لما تقدم بيانه.
ولكن العاملي الرافضي المتعصب عاد في هذه الأيام إلى ما هو شر مما كتبه
في تلك الرسالة؛ لأن حرية الطعن والتفريق في ظل الحكومة الفرنسية أوسع مما
كان في عهد دستور الدولة العثمانية، فألف كتابًا كبيرًا استغرق خمسمائة صفحة في
هذا الموضوع جعل عنوانه الرد على الوهابية، ودس فيه ما يبغي من الدعاية
الرافضية، وإثبات الخرافات القبورية، والطعن في صاحب المنار لا فيما نشره
مما يخالف مذهبه وتقاليده فقط، بل طعن في شخصه ونقل ما كتبه شاب إيراني
فرمسوبي متعصب للدولة الإيرانية ولمذهبها لأنه مذهبها! ! في بعض الجرائد من
الطعن الشخصي فيه والافتراء عليه بضد الواقع، ولا سيما في مسألة الشريف
حسين وأولاده والاتحاديين فقد زعم أننا كنا نمدح الشريف في وقت عزه وملكه
وزهدناه بعد فقده، وهذا كذب وبهتان كما يعلم جميع المطلعين على المنار كزعمه
أن فيصلا هو الذي عين صاحب المنار رئيسًا للمؤتمر السوري العام في دمشق وكل
الناس يعلمون كالشيخ العاملي أن المؤتمر انتخب صاحب المنار لرياسته انتخابًا،
وأنه ما كان لفيصل أن يعينه تعيينًا.
طالبني بعض أهل السنة بالرد على هذا الكتاب وقد تصفحت أهم مسائل
أبوابه في زهاء ثلاث ساعات فرأيت فيها من الكذب في النقل أو الاقتصار منه على
ما يوافق هواه ومن الدعاوي الباطلة والكلم المحرف عن مواضعه وتأويل النصوص
القطعية ما يبخل الحريص على وقته أن يقرأه كله فكيف يضيعه في الرد على كل
ما فيه من الباطل؟
ولكن في نشر هذا الكتاب ضررًا عظيمًا وإفسادًا كبيرًا لعقائد المسلمين كافة
وعقائد أهل السنة خاصة؛ لما فيه من الشبهات الكثيرة الصادرة في صور الأدلة
على عبادة موتى الصالحين بالدعاء وغيره وتحريف نصوص القرآن الصريحة في
منع ذلك كقوله تعالى: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: 18) وقوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} (الأعراف: 194) وقوله:
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ
عَذَابَهُ} (الإسراء: 57) أي أولئك الذين يدعونهم من دون الله توسلاً بهم إليه هم
يبتغون الوسيلة والقربى إلى الله {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} (الإسراء: 57) أي يبتغي ذلك
أقربهم إلى الله كالمسيح عليه السلام والملائكة فكيف من دونهم؟ كما أنه يرد بعض
الأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك؛ لأنها من رواية أهل السنة، أو يحرفها
بالتأويل.
وما أضعف المسلمين في دينهم ودنياهم شيء كما أضعفهم وأفسدهم الاتكال
على الميتين في قضاء حاجاتهم ومصالحهم ودفع الأذى عنهم، فهذا مما يضر أهل
السنة والشيعة، ولا سيما في هذا العصر، وهو يوهم الفريقين أنه من الإسلام وأنه
لم يخالف فيه أحد منهم إلا الوهابية، مع أنه لم يقل به أحد من أئمتهم لا أئمة أهل
البيت كالصادق والباقر ولا أئمة الأمصار الآخرين كالأربعة رضوان الله عليهم
أجمعين، بل النصوص عن أئمة أهل البيت عليهم السلام موافقة للأحاديث
الصحيحة من منع هذه البدع الخرافية كما يعلم من المناظرة بين العالمين الشيعي
والسلفي المستقل التي نشرناها في المجلد الثامن والعشرين من المنار.
ومثال ما يضر أهل السنة وحدهم ما صوَّره الرافضي المتعصب في رسالته
وكتابه لهم من أن أصول الدين والفقه عند الشيعة وأهل السنة واحدة، وإنما الفرق
الوحيد بينهما مسألة حب آل بيت الرسول عليه وعليهم السلام وموالاتهم والاحتجاج
بما رواه أئمتهم عنه وما اجتهدوا فيه وهو ما نبينه فيما يلي مع الإشارة إلى دسيسته
فيه.
***
الفرق بين السني والشيعي
يزعم الشيخ العاملي في الفرق بين السني والشيعي أن أصول أهل السنة
والشيعة في العقائد والأحكام واحدة وأن الخلاف بينهما هو كالخلاف بين فقهاء السنة،
وإنما يمتاز الشيعة بأنهم هم الذين (يوالون ويتتبعون أهل البيت الطاهرين الذين
أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيرًا، الذين دخلوا مدينة العلم النبوي من بابها
وتمسكوا بالثقلين كما أمرهم نبيهم) وهو يكرر هذا القول الذي نقلناه من آخر كتابه
الجديد وقد قال بعده:
(وهم مسلمون يقرون الله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة ويلتزمون بجميع ما
جاء به من عند ربه مما اتفق عليه جميع المسلمين [2] ويرجعون فيما اختلفوا فيه
إلى أقوال الأئمة الذين إن لم يكونوا فوق الأئمة الأربعة وفوق ابن عبد الوهاب في
العلم فليسوا دونهم) وقد ذكر في مقدماته فصولاً في أصول الدين التي هي دلائل
الأحكام يوهم قارئها من غير علماء السنة أنها اتفاقية، وفيها ما سنشير إليه من
الدسائس.
وقد سبق له تفصيل للتفرقة بين الطائفتين في رسالته (الحصون المنيعة)
ذكر فيها أن المسلمين كانوا في أول الإسلام (فرقة واحدة حتى قتل الخليفة الثالث
وبويع الخليفة الرابع فلم يجد أعداؤه وسيلة إلى هدم خلافته والقدح فيه أقوى من
نسبة قتل الخليفة الثالث إليه، فسعوا في ذلك جهدهم حتى تمكنوا من إقناع جم غفير
من المسلمين بذلك وتهيأ لهم بما دبروه من الحيلة أن يقسموا المسلمين فرقتين
فسميت إحداهما علوية والأخرى عثمانية، ونالوا بذلك ما أملوه من الملك وقهر علي
بن أبي طالب وأولاده الذين هم أعدى أعدائهم ويخافون منازعتهم في الملك ولهم
عندهم ثارات بدر وغيرها، ولم يكتفوا بهذا حتى أمروا بِسَبِّ علي بن أبي طالب
على جميع منابر الإسلام) (ص9 و10) .
وبعد إطالته في وصف هذه العداوة مدة ملك بني أمية وجملة من ملك بني
العباس الذين قال فيهم: (إنهم لم يكونوا أقل تشددًا في قهر العلويين وإيذاء من
ينسب إليهم من الأمويين حتى قل المنتسبون إلى أهل البيت بالنسبة إلى غيرهم
وتستروا واختفوا خوفًا على دمائهم وكثر المائلون إلى الأمويين والعباسيين
والمتقربون منهم رغبًا أو رهبًا) وذكر أن أهل البيت كانوا يخفون علومهم ثم
أظهروها في آخر مدة ملك بني أمية وأول ملك بني العباس لقلة الضغط، فظهر
مذهب أهل البيت في عهد الإمامين محمد الباقر وجعفر الصادق الذي نسب إليه
مذهب الشيعة في الفروع.
قال: (ثم صار المنتسبون إلى أهل البيت عليهم السلام يعرفون بالشيعة
وغيرهم بالسنة ونسخ اسم العلوية والعثمانية) (ص12) .
أقول: إن هذا التفصيل هو غير الحق وغير ما يعتقده الشيعة من أصل
نحلتهم أيضًا، وهو صريح في أن أعداء أهل البيت النبوي الذين كانوا يسمون
العثمانية هم الذين صاروا يسمون أهل السنة، فالشيخ محسن العاملي هذا وأمثاله
يطعنون في أهل السنة بمثل هذا القول الباطل فإن جميع أهل السنة يقولون بأن عليًّا
رضي الله عنه هو الإمام الحق بعد عثمان وأن معاوية كان باغيًا عليه، ويخدعون به
مسلمي هذا العصر بجذبهم إلى التشيع لعلمهم بأنهم يحبون أهل البيت جميعهم الحب
الصحيح المعتدل وبعضهم يغلو فيهم كلهم كما يغلو الشيعة في بعضهم، فهم
يجذبونهم إلى المذهب بهذه الدعوى الباطلة، كما دافع هو والشاب الإيراني عمن
انتقد عليهم بث نزغة التشيع من الحضارمة وجعلهم من الروافض مثله على
تصريحنا في المنار بأنهم لا يدعون إلى مذهب الإمامية ولا الزيدية بل يقولون:
إنهم شافعية سنية وإنما يدعون إلى الغلو في تعظيم العلويين والخرافات بما أدى إلى
النفور منهم ومقاومة الجماهير لهم، ولا سيما جمعية الإرشاد، ونحن إنما انتقدناهم
غيرة عليهم وعلى الدين الصحيح.
ثم ذكر هذا الداعية عقب ما تقدم أصول فقه أهل السنة والشيعة إجمالاً، ومنه
انفراد الشيعة بأقوال أهل البيت وما استقل العقل بحسنه أو قبحه، وذكر بعد ذلك
كثيرًا من علمائهم ومصنفاتهم بما لا يخلو من بحث ونظر، وهو قد وضح أصول
الأحكام الدينية ومآخذ الأدلة في كتابه الجديد فنشير إلى بعض الدسائس في كلامه لا
للرد عليه، فإن مثله لا يُنَاظَر، ولكن ليعرف أهل السنة دسائسه ولا يَغْتَرُّ غير
الواقف على أصول الدين منهم بكلامه الموهم.
(1)
قال في ص 82 (الكتاب كلام الله المنزل على نبيه صلى الله عليه
وسلم وهو قطعي السند؛ لاتفاق المسلمين كافة على أن ما بين الدفتين مُنَزَّل منه
تعالى) ، ونقول: لكن رافضة الشيعة يزعمون أن ما بين الدفتين ليس كل كلام الله
تعالى، بل حذف منه الصحابة بعض الآيات وسورة الولاية أي ولاية علي عليه
السلام، ويزعمون أن عليًّا كتبه من نسخة كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم
خصَّه بها وأمره أن يكتبه منها، وهو المعصوم دون سائر الصحابة من الخطأ فلم
يقبلوها منه، وينقلون عن أئمة أهل البيت أكاذيب في القرآن وتحريف الصحابة
رضي الله عنه له لعلها مما قال العاملي: إنهم كانوا يكتمونه عن الناس ويخصون
به الثقات من محبيهم، ولبعض علماء القرن الماضي منهم كتاب سماه (فصل
الخطاب، في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) ينقل عن كتبهم وأئمتهم الأباطيل
في ذلك ويقولون: إن القائم المنتظر وهو عندهم محمد المهدي بن الحسن العسكري
المختبئ منذ ألف سنة ونيف في السرداب من بلدة سامرا (سُرَّ مَن رأى) سيظهر
القرآن الصحيح التام.
وقد ذكر في الكلام على السنة والأخبار النبوية أن البابية يحتجون على
ضلالتهم بخبر المهدي يأتي بأمر جديد وقرآن جديد، ونقول: إن هذا الخبر لا
وجود له في كتب الأحاديث المروية عند أهل السنة والجماعة فلا بد أن يكون من
أخبارهم هم، وهو إنما يخطئ البابية في الاستدلال به على أن المهدي هو زعيمهم
الباب، لا في رواية الخبر نفسه؛ لأنه ذكر ذلك في سياق استدلال كل طائفة من
الأخبار كالآيات على نِحْلَتِهَا لاحتمال الألفاظ لذلك بالتأويل الذي هم فرسان ميدانه.
(2)
إنه عرَّف السنة بقوله: (السنة قول المعصوم أو فعله أو تقريره)
ويتوهم من لا يعرف عقائدهم أن هذا التعريف موافق لما عليه علماء أصول الفقه
من أهل السنة أنها أقوال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، بناء
على اعتقادهم أنه هو المعصوم في هذه الأمة؛ إذ لا عصمة عند أهل السنة لأحد
من البشر إلا الأنبياء عليهم السلام، ولكن الشيعة يقولون بعصمة أئمة أهل البيت،
ويقولون بأن العصر لا يخلو من معصوم كما صرَّح العاملي به في تعريف الإجماع
من كتابه هذا.
وليعلم القراء أن السنة المُرَادة بقول العلماء (أهل السنة والجماعة) في مقابلة
أهل البدع كالروافض والجهمية هي السيرة العملية التي كان عليها المسلمون في
عصر النبي صلى الله عليه وسلم وصدر الإسلام قبل ظهور البدع، ومن ذلك قول
علي كرم الله وجهه لابن عباس رضي الله عنهم حين أرسله لمُحَاجَّة الخوارج:
(احملهم على السنة، فإن القرآن ذو وجوه) يعني أنهم يتأولونه بغير المراد منه،
وأما السنة بمعنى السيرة العملية فلا يمكن تأويلها، ولكن الشيعة لا يحتجون بها.
(3)
من أصول الدين المهمة عندهم مسألة الإمامة العظمى ويزعمون أن
ثبوتها بالنص كما صرَّح به هو وغيره وأن النبي صلى الله عليه وسلم نص في
يوم (غدير خم) على إمامة علي عليه السلام، ووصى له بها، وأن جمهور
الصحابة عصوا نبيهم وخالفوا عن أمره حبًّا في الرياسة فجعلوها باختيار أهل الحل
والعقد، ولما كان الزعيمان الأكبران الأعظمان في الصحابة أبو بكر وعمر
رضي الله عنهما هما اللذين استأثرا بهذا الأمر كانا أعدى أعدائهم، وكان من
شعارهم لعنهما ويلقبون الأول بالعجل والثاني بالسامري، بل صرَّح بعض علمائهم
بأنهما قد ارتدا عن الإسلام هما وجمهور الصحابة الذين وافقوهم، وزعموا أن عليًّا
كرَّم الله وجه لم يبايعهما إلا تقية وحاشا بطل الإسلام أشجع الشجعان وأزهد الزهاد
من هذا النفاق المسمى بالتقية، وأنت ترى هذا الرافضي وأمثاله من غلاة
الشيعة لا يطلقون الترضي عن الصحابة بل يقيدونه بمثل قوله في أول كتابه
(وصلى الله على سيدنا محمد وآله وخيار أصحابه وسلم) ويعني بخيار أصحابه
شيعة علي كسلمان الفارسي وعمار والمقداد رضي الله عنهم أجمعين.
وليعلم القارئ أنه كان من الصحابة والتابعين من يرون أن عليا كرم الله وجهه
أحق بالإمامة العظمى من غيره ولكنهم لم يكونوا يعتقدون أن ولاية غير الأولى
والأحق غير جائزة ولا أن الشيخين العظيمين وركني الإسلام الركينين قد ارتدا عن
الإسلام أو ضلا عن صراطه المستقيم، وكذلك أكثر من كانوا يفضلون عليًّا على
غيره من علماء القرون الأولى ويطلق هو وغيره عليهم لقب الشيعة.
ومن المعلوم لجمهور [3] المتعلمين في هذا الزمان أن للبشر من جميع الأمم
نظريتين في الولاية العامة والملك (أحدهما) أن الحق فيها لاختيار الأمة الذي يعبر
عنه في عرف هذا العصر بالديمقراطية، وهي المرجحة عند جميع أمم المدنية،
وقد سبقهم إليها المسلمون بإرشاد القرآن في قوله عز وجل: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى
بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) وإنما خالف فيها الشيعة ذاهبين إلى النظرية الثانية،
وهي أن الحق فيها لشرفاء الأمة ذوي الأنساب والأحساب ولكنهم يزعمون أنهم
يتمسكون فيها بنص نبوي بل بزعم المجازفون منهم أنها كانت منصوصة في القرآن
فأسقط جمهور الصحابة ذلك النص كما تقدم.
وبناءً على هذه النظرية يقاوم الروافض الإمام عبد العزيز بن سعود ملك
الحجاز ونجد تعصبًا لمذهبهم على مذهب أهل السنة الذي يقيمه ابن سعود إقامة لم
يسبق لها نظير بعد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، ولكن العاملي يطعن فيه وفي
قومه ملقبًا إياهم بالوهابية ومدعيًّا أنهم مخالفون لجميع المسلمين الذي لا فرق بين
سنيهم وشيعيهم بزعمه إلا حب آل بيت الرسول وولايتهم والاهتداء بعلمهم، ومراده
بذلك التوسل للطعن في عقائد سلف الأمة وهديهم، وفي مذهب إمام أئمتها وأستاذ
أعظم حفاظها أحمد بن حنبل رضي الله عنه فهو يقول (مثلاً) : إن الوهابية
يكفرون تارك الصلاة ويرد عليهم، وهذا مذهب الإمام أحمد كما هو مشهور
ومنصوص في كتب الفقه من قبل وجود الوهابية، وقد ظهر لجميع العالم بطلان
استدلاله على جواز منع إيران للحج بأن فيه خطرًا على حياتهم وحريتهم من ملك
الحجاز.
ألا تراه على افترائه الكذب في طعنه بالوهابيين راضيًا بأعمال الشريف
حسين وأولاده ومدافعًا عنهم، فالشريف عبد الله بن حسين الذي اقتطع بخداع أخيه
الشريف علي أهم منطقة حربية غنية من أرض الحجاز وجعلها تحت سلطة الإنكليز،
وهو يجبر أهل البلاد التي تولى إمارتها على إقرار المعاهدة المخزية التي عقدها
معهم، وكذلك السيد تاج الدين الحسني رئيس حكومة سورية الحاضر هما أفضل
وأحق بنسبهما بالحكم من جميع الوطنيين الذين اشتهروا بخدمة أمتهم ووطنهم
وجاهدوا في سبيلها بأموالهم وأنفسهم.
نكتفي الآن بهذا التنبيه العام للمسلمين في مقابلة الدعاية الخرافية التي نشط
لبثها فيهم الملا محسن العاملي، ونقفي عليها بالرسالة الوجيزة التي كتبها علامة
العراق المرحوم السيد محمود شكري الآلوسي إلى علامة الشام المرحوم الشيخ جمال
الدين القاسمي مع حذف بعض العبارات القاسية التي فيها، ننشرها الآن للضرورة
التي أشرنا إليها، وليعلم بعض ما عندنا أولئك الذين يتوخون الاعتدال في الدعاية
الشيعية والرد على مخالفيها كزميلنا الفاضل (صاحب مجلة العرفان المفيدة في بث
العلم والأدب الذي عرض بالانتقاد علينا مرارًا ويطلب من علماء الشيعة المنصفين
أن يبينوا لنا ما يرونه فيها وفيما كتبناه من خطأ بالدليل والبرهان لنعترف لهم به
{وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .
***
رد السيد الآلوسي على حصون العاملي الرافضي
صورة الكتاب الذي أرسله علامة العراق السيد محمود شكري الآلوسي إلى
علامة الشام الشيخ جمال الدين القاسمي في الرد على صاحب رسالة (الحصون
المنيعة فيما أورده صاحب المنار في الشيعة) وشنعهم القبيحة (والعناوين للمنار) .
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى حضرة العالم الأوحد، والعلم المفرد، فخر هذا الزمان، والمشار إليه
بالبنان، الأخ الأكمل، والخل المفضل، جمال الدنيا والدين، وبهجة الإسلام
والمسلمين، جناب السيد جمال الدين أفندي القاسمي كان الله تعالى له، وأناله من
الدين ما أمله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد فلم أزل أتشرف بألطافكم العلية،
وتتوارد على المخلص نعمكم السنية، فأتضرع إلى الله تعالى وأسأله أن يجزيكم
عني خير الجزاء.
قبل هذا وصل إلي كتاب (النصائح الكافية) فرأيت مصنفه ممن اتبع هواه،
ولم يراقب مولاه، وفي هذه الأيام وردني كتاب (الحصون المنيعة) فلما طالعته
وجدته أيضًا كتابًا دل دلالة صريحة على أن مصنفه من المتعصبين في الرفض،
المغالين في البغضاء للسنة النبوية، ورأيت الإعراض عن كلا الكتابين هو الحزم،
فإنا لو رمينا
…
وأظن أن المقالة التي في (المنار) حررها الشيخ كامل أفندي
الرافعي فقد مر عند ذلك التاريخ على العراق واجتمعنا به وسررنا بملاقاته حيث
كان سلفي العقيدة منور الفكر، فكتب ما كتب عما رأى من أحوال رافضة
العراق، ومن العجب أن الرافضي ادعى أن فرقته أطوع الناس للحكومة مع أن
سيفها لم يزل على رقابهم، ولم يمض يوم من الأيام إلا والحرب معهم قائمة
على سيفها، فكم ألجئوا الحكومة إلى خسائر أموال ونفوس، وجميع القبائل الذين
ترفضوا هم أعدى الناس لدولة الإسلام، وفي هذا الأسبوع ورد تلغراف يخبر عن
هجوم جمع منهم على شطرة المنتفق وقتلهم جمعًا من الضباط وعددًا كثيرًا من
الأفراد، وحروبهم في العمارة شهيرة، وكذلك قبائل الديوانية والنجف والسماوة
وكربلاء لم يزالوا قائمين على ساق الحرب مع الحكومة، واختلال العراق دائمًا إنما
هو من الإرفاض، فقد تهرى أديمهم من سم ضلالهم، ولم يزالوا يفرحون بنكبات
المسلمين حتى إنهم اتخذوا يوم انتصار الروس على المسلمين عيدًا سعيدًا، وأهل
إيران زيَّنوا بلادهم يومئذ فرحًا وسرورًا [4] ولو بسطنا القول في هذا الباب وذكرنا
حروبهم ومخازيهم لاستوجب إفراد مجلد كبير، والمنكر لذلك كالمنكر للشمس
رأد الضحى.
***
بغض الروافض لبعض أهل البيت
وأعجب من ذلك دعوى الرافضي حب أهل البيت والعمل بعلومهم والأخذ
بالكتاب والسنة. إن الروافض كاليهود يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض؛ وذلك لأن
العترة بإجماع أهل اللغة تقال لأقارب الرجل وهم ينكرون نسب بعض العترة كرقية
وأم كلثوم ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعدون بعضهم داخلاً فيها
كالعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجميع أولاده وكالزبير ابن صفية عمة
رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبغضون كثيرًا من أولاد فاطمة رضي الله عنهما
بل يسبونهم كزيد بن علي بن الحسين وقد كان في العلم والزهد على جانب عظيم،
وكذا يحيى ابنه فإنهم أيضًا يبغضونه، وكذا إبراهيم وجعفر ابنا موسى الكاظم
رضي الله عنهم، وقد لقبوا الثاني بالكذاب مع أنه كان من أكابر الأولياء، وعنه
أخذ أبو يزيد البسطامي، ولقبوه بالكذاب أيضًا جعفر بن علي أخا الإمام الحسن
العسكري ويعتقدون أن الحسن بن الحسن المثنى وابنه عبد الله المحض وابنه محمد
الملقب بالنفس الزكية ارتدوا - حاشاهم - عن دين الإسلام.
وهكذا اعتقدوا في إبراهيم بن عبد الله وزكريا بن محمد الباقر ومحمد بن
عبد الله بن الحسين بن الحسن ومحمد بن القاسم بن الحسن ويحيى بن عمر الذي
كان من أحفاد زيد بن علي بن الحسين، وكذلك في جماعة حسنيين وحسينيين كانوا
قائلين بإمامة زيد بن علي بن الحسين، إلى غير ذلك مما لا يسعه المقام.
وهم حصروا حبهم بعدد منهم قليل، كل فرقة منهم تخص عددًا وتلعن الباقين،
هذا حبهم لأهل البيت والمودة في القربى المسئول عنها، على أن الحب ليس
عبارة عن لطم الخدود وشق الجيوب وهتك سادة الأمة في كل عام.
وما أحسن ما قال الأخرس في ذلك:
هتكوا الحسين بكل عام مرة
…
وتمثلوا بعداوة وتصوروا
ويلاه من تلك الفضيحة إنها
…
تطوى وفي أيدي الروافض تنشر
{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31) وأين
أهل الابتداع من الاتباع.
***
زعم الرافضة تحريف القرآن
ادعوا أنهم أخذوا دينهم من الكتاب والسنة وأقوال العترة، كذبوا والله في ذلك
فإن الكتاب الكريم مُحَرَّفٌ بزعمهم قد أسقطوا منه نحو ثلثه كما صرَّحت بذلك كتبهم
فلا يعبئون به ولا يعرجون عليه ولا يقيمون له وزنًا، وإنه مخلوق لا ينزهونه،
هذا شأن الكتاب لديهم، وأما السنة فعندهم أن الصحابة ارتدوا جميعًا عن دين
الإسلام إلا سلمان وعددًا يسيرًا معه لا يبلغون العشرة بسبب عدم قيامهم بنص
الغدير على زعمهم.
***
الكتب المعتدة عند الشيعة الإمامية
وأما العترة فاعلم أن الروافض زعموا أن أصح كتبهم أربعة: الكافي، وفقه من
لا يحضره الفقيه، والتهذيب، والاستبصار، وقالوا: إن العمل بما في الكتب الأربعة
من الأخبار واجب، وكذا بما رواه الإمامي ودَوَّنَه أصحاب الأخبار منهم، نص عليه
المرتضى وأبو جعفر الطوسي وفخر الدين الملقب عندهم بالمحقق المحلي، وهو
باطل؛ لأنها أخبار آحاد وأصحها الكافي، ومنهم من قال: أصحها فقه من لا يحضره
الفقيه، وقال بعض المتأخرين منهم الناقد لكلام المتقدمين: أحسن ما جمع من الأصول
كتاب الكافي للكليني والتهذيب والاستبصار.
وكتاب من لا يحضره الفقيه حسن، وقد طالعت في بعضها وما زعموه من
الصحة باطل من وجوه؛ لأن من أسانيدها من هو من المُجَسِّمة كالهشامين وشيطان
الطاق المُعَبَّر عنه لديهم بمؤمنه، وأمثال هؤلاء ممن اعترف الرافضة أنفسهم
باتصافهم بما ذكرنا.
ومنهم من أثبت الجهل لله في الأزل كزرارة بن أعين والأحولين وسليمان
الجعفري ومحمد بن مسلم وغيرهم (ومنهم) فاسد المذهب كابن مهران وابن بكير
وجماعة أخرى (ومنهم) الوُضَّاع كجعفر القزاز وابن عياش (ومنهم) الكذاب
كمحمد بن عيسى (ومنهم) الضعفاء وهم كثيرون (ومنهم) المجاهيل وهم أكثر
كابن عمار وابن سكره (ومنهم) المستور حاله كالبلقسي وقاسم الخراز وابن فرقد
وغيرهم، وهؤلاء رواة أصح كتبهم.
وقد اعترف الطوسي بنفي وجوب العمل بكثير من أحاديثهم التي صرحوا
بصحتها، والكليني يروي عن ابن عياش وهو كذاب.
والطوسي يروي عمن يدعي الرواية عن إمام مع أن غيره يكذبه كابن مسكان
فإنه يدعي الرواية عن الصادق وقد كذَّبه غيره، ويروي عن ابن المعلم وهو يروي
عن ابن مابويه الكذوب صاحب الرقعة المزورة ويروي عن المرتضى أيضًا، وقد
طلبا العلم معًا وقرآ على شيخهما محمد بن النعمان وهو أكذب من مسيلمة، وقد
جوَّز الكذب لنصرة المذهب، والكلام على أكاذيبهم وفاسد رواياتهم يطول والمقصود
تكذيب قول رافضي: إنهم تلقوا علوم العترة.
***
تعبد الإمامية بالرقاع الصادرة عن المهدي المنتظر
نعم إنهم أخذوا غالب مذهبهم كما اعترفوا من الرقاع المزورة التي لا يشك
عاقل أنها افتراء على الله، والعجب من الروافض أنهم سموا صاحب الرقاع
بالصدوق وهو الكذوب لأنه عن الدين المبين بمعزل.
كان يزعم أنه يكتب مسألة في رقعة فيضعها في ثقب شجرة ليلاً فيكتب
الجواب عنها المهدي صاحب الزمان بزعمهم، فهذه الرقاع عند الرافضة من أقوى
دلائلهم، وأوثق حججهم، فتبًّا ...........................................
واعلم أن الرقاع كثيرة منها رقعة علي بن الحسين بن موسى بن مابويه
القمي فإنه كان يظهر رقعة بخط الصاحب في جواب سؤاله، ويزعم أنه كاتب أبا
القاسم ابن أبي الحسين بن روح أحد السفرة على يد علي بن جعفر بن الأسود أن
يوصل له رقعته إلى الصاحب فأوصلها إليه فزعم أبو القاسم أنه أوصل رقعته إلى
الصاحب (أي المهدي) وأرسل إليه رقعة زعم أنها جواب صاحب الأمر له.
ومنها رقاع محمد بن عبد الله بن جعفر بن حسين بن جامع بن مالك الحريري
أبو جعفر القمي كاتب صاحب الأمر سأله مسائل في أبواب الشريعة قال: قال لنا
أحمد بن الحسين وقفت على هذه المسائل من أصلها والتوقيعات بين السطور، ذكر
تلك الأجوبة محمد بن الحسن الطوسي في كتاب الغيبة وكتاب الاحتجاج.
والتوقيعات خطوط الأئمة بزعمهم في جواب مسائل الشيعة، وقد رجَّحوا
التوقيع على المروي بالإسناد الصحيح لدى التعارض، قال ابن مابويه في الفقه بعد
ذكر التوقيعات الواردة من الناحية المقدسة في (باب الرجل يوصي إلى الرجلين)
هذا التوقيع عندي بخط محمد بن الحسن بن علي، وفي الكافي للكليني رواية
بخلاف ذلك التوقيع عن الصادق، ثم قال: لا أفتي بهذا الحديث بل أفتي بما عندي
من خط الحسن بن علي.
(ومنها) رقاع أبي العباس جعفر بن عبد الله بن جعفر الحميري القمي
(ومنها) رقاع أخيه الحسين ورقاع أخيه أحمد.
فهؤلاء كلهم كانوا يزعمون أنهم يكاتبون صاحب الأمر (المهدي المنتظر)
ويسألونه مسائل في أحكام الشرع، وأنه يكتب جواب أسئلتهم كما ذكره النجاشي
وغيره من علمائهم وأبو العباس هذا قد جمع كتابًا في الأخبار المروية عنه وسماه
(قرب الإسناد إلى صاحب الأمر) .
و (منها) رقاع علي بن سليمان بن الحسين بن الجهم بن بكير بن أعين أبو
الحسن الرازي فإنه كان يدعي المكاتبة أيضًا ويظهر الرقاع قال النجاشي: كان له
اتصال بصاحب الأمر وخرجت له التوقيعات.
هذه نبذة مما بنوا عليه أحكامهم ودانوا به وهو نغبة من دأماء [5] وقد تبين بها
حال دعوى الرافضي في تلقي دينهم عن العترة، والعبد كتب عليهم عدة ردود قبل
نحو عشرين سنة، وشكوا عَلَيَّ إلى شاه العجم ناصر الدين (وهو خاذله) وكتب
علي إلى السلطان المخلوع فصادرت الحكومة ما وجدوه من كتبي المطبوعة في
الهند وهذا الرافضي له علم بما جرى فلا لوم عليه إن نبذني بما نبذني.
***
طعن الشيخ محسن في الوهابية
كل أحد يعلم أنه لا حقيقة له عندهم بل دل على جهله، على أن زخرفة
القبور حرام لدى كافة المسلمين وهم أول من ابتدع ذلك وسرى إلى غيرهم،
والرافضة يصرحون في كتبهم - وقد رأيته بعيني - أن زيارة قبور الأئمة أفضل
من سبعين حجة، ولذلك تراهم يطوفون عليها، ويطلبون جميع حوائجهم منها،
وبنوا عليها القباب من الذهب وعلقوا عليها كل ما يُسْتَطْرَفُ ويفدون عليها كل ليلة
ما يكفي لتنوير مدينة عظيمة {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (الكهف:
104) .
***
ندب الحسين وسب الصحابة
واجتماع رجالهم في النجف وغيره للطم الخدود، وقراءة الحمص المكذوبة
وأكل النذور وإضلالهم لجهلة الأعراب أيضًا لهذه العلة ودينهم الذي يدينون به سب
الصحابة وتكفيرهم، وإضلالهم الأعراب بذلك، وإلا فَهُمْ أجهل الناس بكل علم،
وكم بحثت مع من ادعى منهم الاجتهاد فألقمتهم (ولله الحمد) بحجر السكوت،
واعترفوا بجهلهم لدى خاصتهم، وهؤلاء الدجالون أضر على المسلمين من جميع
المخالفين، فإن اليهود والنصارى وعباد الأوثان لا يتمكنون من إغواء أحد من
الأعراب، ولا يمكنهم التقرب إليهم، ولا تسمع منهم كلمة لديهم، فالأعراب آمنون
من شر هؤلاء.
أما هؤلاء الدجالون، والضالون المضلون، فقد تزَّيْوا بزي المسلمين
وشاركونا في كثير من الشعائر، فربما نفقت خزعبلاتهم على عوام الأعراب لنيل
شهواتهم، والتوصل إلى مقاصدهم من: جمع النذور، وأخذ الخمس، وأجرة
قصص التعازي ونحو ذلك، مع حثهم ووعظهم على عدم طاعة الحكومة ولا
إعانتها في شيء، حتى حصل مقصودهم وأصبح العراق نيرانًا تتسعر، فكم أسالوا
دماء المسلمين وأضروا الحكومة ضررًا عظيمًا والحكومة لم تنتبه لذلك إلا بعد أن
اتسع الخرق على الراقع.
والرافضي يقول: إن العراق كان ولم يزل دار الروافض، مع أني أعلم أن
أقوامًا من القبائل كانوا على مذهب أهل السنة وفي هذا العصر ترفضوا منهم قبائل
زبيد وهم عمدة قبائل الطرق قوة وشجاعة وكثرة عدد، وهكذا قسم عظيم من شمر
وقسم من بني تميم فضلا عن العصور التي لم أدركها.
ومن العجب من هذا الرافضي أنه عَدَّ فرقته من المتبعين، وجعل أهل السنة
كالوهابية وأضرابهم من المبتدعين، مع أن الروافض يبيحون شتم جمهور أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم بل يحكمون بارتدادهم إلا عددًا يسيرًا، ويفضلون
الأئمة الاثني عشر على أولي العزم من المرسلين، ويقولون: إن الأئمة يوحى
إليهم، ويقولون: إن موتهم باختيارهم، ويقولون بالرجعة أي بأن الأئمة سيرجعون
إلى الدنيا وينتصفون من أعدائهم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ومَن والاهما
ويصلبونهم ويقتلونهم، وإن إمام الوقت هو محمد المهدي الذي غاب في سرداب (سُرَّ
مَن رَأَى) وإنه حي يُرْزَق ويزعمون أنه إذا ذكر في مجلس حضر فيقومون له،
واعتقدوا بتحريف القرآن ونقصانه وأن الله لا يُرَى في الآخرة، وأنكروا كثيرًا من
ضروريات الدين.
ومع ذلك يقولون: إنهم على حق، وغيرهم المتبعون لرسول الله صلى الله
عليه وسلم المحافظون على ما جاء به المهدي ودين الحق هم المبتدعون، وما
أحسن ما قال فيه القائل [6] .
ليس التقى هذي التقية إنما
…
هذا النفاق وما سواه المنكر
وما تكلم به في المتعة يكفي لإثبات ضلالهم، وعندهم متعة أخرى يسمونها
المتعة (الدورية)[7] ويروون في فضلها ما يروون، وهي أن يتمتع جماعة بامرأة
واحدة، فنقول لهم من الصبح إلى الضحى في متعة هذا، ومن الضحى إلى الظهر
في متعة هذا، ومن الظهر إلى العصر في متعة هذا، ومن العصر إلى المغرب في
متعة هذا، ومن المغرب إلى العشاء في متعة هذا، ومن العشاء إلى نصف الليل
في متعة هذا، ومن نصف الليل إلى الصبح في متعة هذا.
فلا بدع ممن جوَّز مثل هذا النكاح أن يتكلم بما تكلم به ويسميه (الحصون
المنيعة) وينبز أهل الإيمان والتوحيد بما ينبزهم به {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ
عَزْمِ الأُمُورِ} (آل عمران: 186) .
وقد ردوا على الرافضة قولهم بالمتعة في كتب مفردة وقد ردها عليهم الجد في
تفسيره، والردود العامة عليهم لا تُحْصَى فالعلامة محمد أمين السويدي رد عليهم
بأربع مجلدات (سماه الصارم الجديد) والصواقع بتقديم القاف لأحد علماء الهند
مجلد ضخم رد عليهم أيضًا، والتحفة، وللجد ثلاثة ردود مختصرة، والفقير رد
عليهم بنحو ألف ورقة فاغتصبته الحكومة وذلك بثلاثة مصنفات أحدها المسمى
بصب العذاب على من سب الأصحاب. يوم المولد سنة 1328.
…
...
…
...
…
...
…
... عبد الله محمود شكري
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
الرفض يراد به الغلو في التشيع فالشيعة منهم المعتدلون ومنهم الغلاة ومنهم الباطنية الملاحدة أعداء الإسلام كالعبيديين والشيخ العاملي متعصب للجميع.
(2)
يستثني المؤلف بهذا القيد ما انفرد بروايته عنه صلى الله عليه وسلم حفاظ السنة كمالك وأحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن، وهل لسنته صلى الله عليه وسلم حفاظ غيرهم؟ .
(3)
المراد بالجمهور هنا العارفون بالشؤون العامة من جميع الطوائف والشيعة يطلقون هذا اللفظ ولفظ العامة على أهل السنة ويسمون شيعتهم الخاصة.
(4)
المنار: الإنصاف أن الدولة العثمانية هي التي أثارت عصبية الشيعة عليها بحروبها لدولة إيران وما زالت السياسة تستخدم الدين لأهواء أهلها.
(5)
أي كحسوة طائر من بحر.
(6)
نكتفي بالأول من الأبيات التي ذكرها هنا لأن ما بعدها طعن شديد لا نستحسن نشره.
(7)
لدينا رسالة منه في هذه المتعة التي هي أقبح الزنا وأضره.
الكاتب: محمد عبد العزيز الخولي
كيف يتكون المرشدون [
1]
للأستاذ الفاضل صاحب الإمضاء
(4)
نماذج في صناعة الخطب
عرفناك أن مادة الخطبة: (1) موضوع مُتَخَيَّر وتفكير فيه يوضح المنافع أو
يبين المضار (2) وآيات بينة وأحاديث صادقة تلائم الموضوع، أما تخير
الموضوع والتفكير فيه فأساسه حكمة العقل، وسلامة الذوق، وأما الآيات فدونك
كتاب الله فيه الغنية إن كنت له قارئًا، ولآياته متدبرًا، وأما الأحاديث فلا يميز
صحيحها من عليلها إلا الناقد البصير، ولا يقف على ما ترتبط بموضوعه منها إلا
الخبير بها، وقد وَفَّقَ الله صديقنا المفضال الأستاذ الشيخ محمد العدوي المدرس
بالقسم العالي بالأزهر فوضع كتابه (مفتاح الخطابة والوعظ) الذي جمع فيه الآيات
والأحاديث المقبولة المتعلقة بكل موضوع من موضوعات العقائد والعبادات
والمعاملات والأخلاق مما أغنى المرشد عن طويل البحث وسهل له طريق الوعظ،
وسنتخذ منه مادة لبعض ما نضعه من النماذج لينسج الخطباء على منواله، إن لم
يوفقوا لمثاله.
***
النموذج الأول
في حس\ن المعاشرة بين الزوجين
(الآيات الواردة في الموضوع) :
{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ
فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} (النساء: 19) ،] وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ
ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً [2 {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم
مِنَ الكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة: 231) ،] وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [3 {
وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة: 228) .
***
(الأحاديث الواردة فيه)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا وخياركم خياركم لنسائهم) رواه الترمذي وابن
حبان في صحيحه.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي) رواه ابن حبان في صحيحه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(استوصوا بالنساء خيرًا فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج ما في الضلع
أعلاه، فإذا ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء)
رواه البخاري ومسلم.
عن معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: ما حق زوجة
أحدنا عليه؟ قال: (أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه،
ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت) رواه أبو داود.
عن عمرو بن الأحوص الجشمي رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله
عليه وسلم في حجة الوداع يقول بعد أن حمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال:
(ألا واستوصوا بالنساء خيرًا فإنما هن عوان [4] عندكم ليس تملكون منهن شيئًا
غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع
واضربوهن ضربًا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا، ألا إن لكم
على نسائكم حقًّا ولنسائكم عليكم حقًّا، فحقكم عليهن أن لا يوطئن فراشكم من
تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في
كسوتهن وطعامهن) رواه ابن ماجه والترمذي وقال: حسن صحيح.
وروى الحاكم من حديث معاذ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: (لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من
عظم حقه عليها، ولا تجد امرأة حلاوة الإيمان حتى تؤدي حق زوجها ولو سألها
نفسها وهي على ظهر قتب [5] ) .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إذا دعا الرجل امرأته لفراشه فلم تأته فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى
تصبح) رواه البخاري ومسلم.
وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل
لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ولا تأذن في بيته إلا بإذنه) رواه البخاري.
***
البحث العلمي في الموضوع
يتحقق حسن العشرة بما يأتي:
(أ) من جانب الزوج يكون:
(1)
بالإنفاق على زوجته من غير تقتير ولا إسراف.
(2)
بالعدل بينها وبين غيرها من الزوجات أو القريبات إن كن.
(3)
بالابتعاد عن هجرها وإيذائها بلا مبرر، وبترك الغيبة عنها خارج
المنزل إلى ساعة متأخرة من الليل.
(4)
بألا يمسكها تحت يده ضرارًا؛ ليعتدي عليها.
(5)
بإرشادها إلى طرق الخير وحثها على سلوكها والابتعاد عن مواطن
الشر.
(6)
بألا يمنعها من زيارة أهلها في الأوقات المناسبة.
(ب) من جانب الزوجة يكون:
(1)
بطاعته في كل معروف، ومن ذلك إجابتها له إذا دعاها إلى الفراش.
(2)
بالنظافة في نفسها وأولادها وخدمها وبيتها.
(3)
بالمحافظة على نفسها وبناتها وماله وسره.
(4)
بالإحسان في تدبير المنزل وتربية الأولاد والقيام على أخلاقهم.
(5)
بعدم إرهاقه في طلبات الملابس وأدوات الزينة.
(6)
بألا تدخل أحدًا يكرهه منزله بلا إذنه.
(7)
بألا تخرج من بيته بدون استئذانه.
(8)
بأن تواسيه بمالها إن انتابته نائبة أو مسته عسرة.
(ج) من جانب كل منهما يكون:
(1)
باستعمال كل منهما الأدب مع صاحبه في المحادثة والمحاورة وتجنب
بذيء الكلام وفاحش القول.
(2)
يسعى كل منهما في دفع ما قد يحل بالآخر من مرض أو بلاء في
المال أو الأهل أو تخفيفه.
(3)
بالصبر على ما قد يكون في خلق الآخر من انحراف مع السعي في
مداواته وعدم المسارعة إلى الخصام أو الفراق.
(4)
عمل كل ما من شأنه أن يجلب سرور الآخر ومودته ما دام ذلك في
دائرة المشروع والمعروف، فلا يرى إلا جميلاً، ولا يسمع إلا حسنًا، ولا يشم إلا
طيبًا.
أما ثمرات حسن العشرة فهي ما يأتي:
(1)
المحبة بين الزوجين وهي أساس السعادة المنزلية.
(2)
الصحة في الجسم والراحة في البال والاقتصاد في المال.
(3)
تخلق الأولاد بالأخلاق الطيبة وتعودهم الأعمال الصالحة.
(4)
الرغبة في الاتصال بهذه الأسرة بمصاهرتها والمصاهرة إليها.
(5)
التعاون على شئون الحياة.
(6)
صلاح الأمة بصلاح الأسرة التي هي وحدتها ومثال مصغر منها.
***
الصوغ الخطابي أو الخطبة
الحمد لله جعل السعادة المنزلية في القيام بواجب الزوجية، وجعل صلاح
الأمة في صلاح الأسرة، فالأمة المكونة من أُسَر صالحة، ذات أخلاق عالية،
وعلاقات طيبة، أمة راقية، جديرة بالمكانة السامية، والكلمة النافذة، أشهد أن لا
إله إلا الله جعل كلاًّ من الزوجين سكنًا لصاحبه يفضي إليه بسر نفسه، ويلقي إليه
زمام أمره ويطمئن إليه في كل شأنه {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا
لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم:
21) وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصَّانا بالنساء خيرًا لضعفهن، وكان أحسننا
قيامًا بحقوقهن، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن سلك طريقه
واقتفى أثره.
(أما بعد) فإن خير البيوت ما عُمِرَ بحسن العشرة، والألفة والمحبة والمودة
والرحمة، وشرها ما ساءت فيه العلاقات، وتقطعت بين أفراده الصلات، وما
حسن العشرة إلا بمراعات كل من الزوجين حق صاحبه، وإخلاصه في القيام
بواجبه فيا معشر الأزواج أنفقوا على زوجاتكم مما رزقكم الله وحذار أن تقتروا
عليهن أو تسرفوا، فإن ذلك مفسدة للأخلاق، ومجلبة للشقاق {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن
سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ
اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} (الطلاق: 7) .
يا معشر الأزواج: اعدلوا بين الزوجات إن كن متعددات، ولا تفضلوا
بعضهن على بعض في المبيت أو النفقة، أو مسكن أو كسوة؛ لئلا تشعلوا بينهن
نار العداء، فيفسدن أمر بيوتكم، ويورثن الأحقاد أولادكم، فيكونوا أعداء
متباغضين، لا إخوة متحابين متعاضدين.
إياكم وهجر الزوجات بلا سبب أو إيذاءهن بلا مبرر، فإن ذلك موحش
لقلوبهن، ومنبت للعداوة في نفوسهن: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ
كَانَ عَلِياًّ كَبِيراً} (النساء: 34) .
إياكم والسهر خارج المنزل إلى ساعة متأخرة من الليل، وربما كان ذلك في
فجور وفساد، فإن ذلك ممل لقلوبهن، وأدعى لارتيابهن، ومحرك للفتنة في
نفوسهن، وقد يسول لهن الشيطان ما لا تحبون، ولبناتكم ما لا تودون، فاعمروا
بيوتكم بحضوركم، وآنسوا أهلكم بحديثكم، واملئوا عيونهن بأعيانكم، إياكم إذا لم
يرد الله وفاقًا بينكما، ولم تتلاءم طباعكما، ولم يكن من سبيل لإقامة حدود الله فيكما،
إياكم أن تمسكوهن في هذه الحال ضررًا لتعتدوا عليهن، وتسلبوهن حقوقهن،
فإن ذلكم ظلم لنفوسكم ومضرة بكم، وقد أذن الله لكم وقتئذ في فراقهن
{فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُوا وَمَن
يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً} (البقرة: 231) وحذار أن
تضيقوا عليهن في حقوقهن المشروعة، فلا تمنعوهن من التصرف في أموالهن،
وزيارة أهلهن وأقاربهن، والذهاب إلى بيوت الله لسماع العظة، وإقامة الصلاة،
فإنكم إن شددتم في مضايقتهن خشي انفجارهن فلا يأتمرن بأمر، ولا ينتظرن الإذن،
ولا يقفن في الخروج عند حد.
أرشدوهن إلى كل معروف، فعلموهن الدين، وحفظوهن كتاب الله المبين،
واسلكوا بهن طريق الأخلاق الطيبة والأعمال الصالحة، وحذروهن من الشر أن
يقترفنه، ومن الإثم أن يخالطنه، ومن دور اللهو والخلاعة أن يذهبن إليها،
ويدنسن نفوسهن بما احتوت عليها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لَاّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ
مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم: 6) .
أما الزوجات فواجب عليهن إطاعة أزواجهن في كل معروف، فلا يعطلن لهم
أمرًا، ولا يخالفن لهم نهيًا، فإن دعوهن إلى الفراش فالواجب الطاعة والامتثال؛
لأن المخالفة موحشة للقلوب، موغرة للصدور، موجبة للنفور، وعليهن المحافظة
على أموالهم، وبيوتهم وأولادهم، وليصن أعراضهن وأعراض بناتهن
{فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} (النساء: 34) ولتكن
النظافة في مقدمة ما تراعاه المرأة في بيتها، ونفسها وأولادها وخدمها، فإن
النظافة من الإيمان، ونِعْمَ هي المسرة للإنسان، ولتكن في بيتها حكيمة، مدبرة
غير مقصرة ولا مسرفة، ولتكن أسوة لمن حولها في حسن أخلاقها وجميل أعمالها،
والمحافظة على واجبها، وإياها أن تكلف زوجها ما لا يطيقه أو ترهقه في مطعم أو
كسوة أو زينة أو بهرجة، فإن ذلك متلفة للأموال مفسدة للأخلاق، وإياها أن تدخل
بيته من لا يحبه أو تخرج منه بغير إذنه، أو تمنع عنه ثروتها إن قل ماله أو ساءت
حاله، فإن ذلك مما يثير العداوة ويفسد العلاقة.
وليحافظ كل منهما على الأدب في مخاطبة صاحبه ونده، واستجلاب محبته
ووده، وإن رأى منه انحرافًا في خلقه، أو شذوذًا في معاملته، فليقابل ذلك بالصبر
والكلمات الرقيقة، والعبارات اللطيفة حتى يهديه سواء السبيل ويسلك به الصراط
المستقيم.
أيها الناس إن حسن العشرة بين الأزواج مجلبة خير كثير، ومدرأة شر كبير،
ففي حسن المعاشرة السرور والرحمة، فيه الصحة في الجسم، والراحة في البال،
والاقتصاد في المال، فيه تنبت الذرية الطيبة التي يسعى الناس إلى مصاهرتها،
والاتصال بها، فيه التعاون على شئون الحياة، وحسن الصلة بالله، فيه السعادة
لقومكم، والخير لبلدكم لو كنتم تسمعون وتعملون {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ
قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق: 37) .
روى الترمذي وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا وخياركم
خياركم لنسائهم) .
…
...
…
...
…
...
…
... محمد عبد العزيز الخولي
(المنار)
إن ما تقدم من حديث أمر المرأة بالسجود لزوجها لو جاز أن يسجد بشر لغير
الله ورد على سبيل المبالغة، وكأن سببه وراء الرد على من استأذنه صلى الله عليه
وسلم بالسجود له إسماع بعض الناشزات على أزواجهن وما أكثرهن في هذه الأيام
وهو عند الترمذي غريب من طريق ضعَّفه أبو داود، وتصحيح الحاكم له لا يُعْتَدُّ
به لولا إقرار الذهبي له عليه.
_________
(1)
تابع لما نشر في المجلد 27 (ج4 ص 251) من المنار.
(2)
تفيد الآية أن الذي لم يعمل بكتاب الله ولم يقف عند حدوده فقد اتخذ آيات الله هزوًا.
(3)
درجة الرياسة اهـ من الأصل.
(4)
أسيرات.
(5)
القتب: الإكاف الصغير الذي يوضع على سنام البعير.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الجزء التاسع من تفسير القرآن الحكيم
قد تم طبع الجزء التاسع من هذا التفسير السلفي العصري الروحي الاجتماعي
المدني السياسي الوحيد في كتب الإسلام، ومما يقال فيه: إنه هو المشتمل على كل
ما ذكر الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر في مذكرته الإصلاحية من المزايا
والمعارف والهداية التي يجب درس التفسير لأجلها وزيادة.
وحَسْبُ طلاب تفسير كتاب الله تعالى للفهم والتفقه والتدبر والهداية لما فيه
سعادة الدارين للأفراد والأمم أن يعلموا أن هذا التفسير قد حوى خلاصة دروس
الأستاذ الإمام الأزهرية في خمسة أجزاء وجرى على منهاجه وزاد عليه ما تعلم
قيمته مما يأتي.
روى لنا صاحب السماحة السيد محمد توفيق البكري في هذه الأيام بعد عودته
معافًى من المستشفى ولله الحمد بمناسبة ذكر التفسير، وما كان من إعجاب الناس
بدروس الأستاذ الإمام في الأزهر، وما امتاز به من العلم والعرفان قال: كنت
راكبًا مع أستاذنا في ليلة من ليالي رمضان فسألته في أثناء حديث معه فيه: إلى من
نرجع في ذلك إذا لم تكن حاضرًا؟ فقال: إلى السيد رشيد رضا صاحب المنار.
وهاؤم اقرؤوا بعض شهادات كبار العلماء المستقلين في هذا التفسير.
كتب الأستاذ الفاضل الشيخ محمد العدوي مدرس التفسير والحديث في القسم
العالي من الأزهر الشريف في تقريظ له ما نصه:
(تفسير المنار فيما أعلم هو أمثل تفسير يتناسب مع روح العصر الحاضر،
يتجلى فيه لقارئه عظمة التشريع الإسلامي بأسلوب جذاب، يفيض على قارئه هداية،
ويبعث فيه روح الحياة العملية، ويعده لأن يكون عالمًا دينيًّا، وباحثًا اجتماعيًّا،
وأستاذًا أخلاقيًّا، يريه أسباب تفرق الأمة، ثم يريه كيف يجتمع شملها، ويبين له
ما أدخله أعداء الدين عليه من البدع والمحدثات، ثم يرسم له طريق تطهيره
منها....) .
ثم بيَّن مزايا هذا التفسير في مباحث اللغة والأحكام الشرعية من الأصول
والفروع والعقائد وقصص الرسل وفي سنن الاجتماع والأخلاق بما تحتاج إليه الأمة
في هذا العصر ولا تجده في غيره.
وكتب الأستاذ الفاضل الشيخ علي سرور الزنكلوني مدرس التفسير والحديث
في القسم العالي من الأزهر الشريف أيضًا بمناسبة صدور الجزء الأول من هذا
التفسير بعد صدور سبعة أجزاء من قبله مخاطبًا لمؤلفه.
أما بعد فقد طلع على العالم الإسلامي في هذه الأيام الجزء الأول من تفسير
القرآن الحكيم الذي دبَّجه يراعك، وأحكمه تفكيرك ورسوخك في علوم الدين، فقد
أودعت فيه من آيات العلم والحكمة ما يشهد لك بالنبوغ والتفوق على رغم
حسادك
…
) .
ثم جاء بثناء طويل عليه وعلى مجلة المنار وحاجة الناس إليها، وبيان مزايا
المرشدين المتأخرين على المتقدمين ما عدا الأنبياء عليهم السلام إثباتًَا لمزاياهما،
وعاد بعده إلى الكلام على التفسير فقال:
(وقد كان من مزيد توفيق الله لك أن خصصت جزءًا عظيمًا من وقتك
لتفسير كتاب الله تعالى على طريقة لم تُسْبَق إليها من كبار رجال التاريخ في
عصور الإسلام، فقد وجهت فيه كل عنايتك إلى بيان أغراض الكتاب والكشف عن
مراميه، وأجهدت نفسك في لفت العقل إلى روح التشريع الإلهي وإظهار سره في
الوجود.
ولم يفتك المهم من الأبحاث الاصطلاحية التي ألهت جمهور المفسرين عن
غرض الكتاب الأسمى، وصرفتهم عن الغاية التي من أجلها نزل الكتاب الكريم
وهى الهداية والسعادة) .
ثم ذكر أن واضع هذه الطريقة ومحكم أساسها هو شيخه وشيخنا الإمام رحمه
الله تعالى، وأن صاحب المنار هو الذي أحكم البناء إلى التمام، واستطرد إلى
ظهور الجزء الأول من التفسير فقال فيه:
(وفي الحق أن هذا السفر آية من الآيات، ومعجزة من المعجزات في
التفسير إلى اليوم) إلى أن قال: (وفيه من الإبداع ما لا عهد لنا به، ومن
الزيادات ما لم يشافهنا به الأستاذ الإمام في درسه) .
ثم اقترح على صاحب المنار تأليف (تفسير متوسط ينتفع به العامة والخاصة)
وكتب العلامة الشيخ أحمد إبراهيم أستاذ الشريعة الغراء في كلية الحقوق بالجامعة
المصرية تقريظًا حافلاً بدأه بوصف مجلة المنار بتناول جميع وجوه الإصلاح
الإسلامية مما لم يتيسر في جملته لغير صاحبها، وبكونه يدعو كل من آنس فيه
الاستعداد للخير إلى قراءتها، وبنظمه لما كان ينثره شيخه الأستاذ الإمام من اللآلئ
في دروس التفسير التي كان يلقيها في الأزهر والزيادة عليها مما فتح الله عليه من
نفيس الفرائد قال:
(ثم انفردت به بعد أن استأثرت بالشيخ رحمه ربه فكنته فيما استقللت به،
إلخ) .
ثم ذكر الجزء الأول بمناسبة صدوره فقال فيه:
فرأيت نور الهداية الربانية قد فاض عليه وغمره من أوله إلى آخره) .
ثم قال في آخر هذا التقريظ:
(وإن خير تفسير لكتاب الله تعالى على ما نعلم من حيث هو كتاب هداية
وإرشاد لهو تفسير المنار، أقول لك ذلك أيها العالم الموفق غير مداج ولا ممالئ،
بل أترجم لك عما تتحدث به نفسي) .
(غير أني أقترح عليك وأرجو أن يسمح لك وقتك بما أقترح أن تقتبس من
هذا التفسير الممتع تفسيرًا مختصرًا يحتوي زبدته؛ لينتفع به العامة ومن لا يتسع
وقته لقراءة التفسير المطول) .
(أسأل الله تعالى أن يكون معك ويمدك بروح منه، ويهبك القدرة على إتمام
هذا التفسير ومختصره، إلخ) .
وكتب العالم العامل الأستاذ محمد بهجة البيطار مدير المعهد العلمي السعودي
بمكة المكرمة تقريظًا للتفسير ذكر فيه له عشر مزايا قد انفرد بها ثم قال في آخره:
(ألا وإن خصائص هذا التفسير لكثيرة، وقد ذكرنا أهمها وإذا كان شرف
العلم تابعًا لشرف الموضوع فتفسير السيد الإمام لكتاب الله تعالى على هذه النحو
الذي أشرنا إليه هو أفضل ما ينفق فيه المرء أعوامه وأمواله، وأستاذنا يعلم قيمة
وقته الثمين، وتفسيره العزيز، وحاجة عصرنا إلى مثله، وعدم الاستغناء عنه
بغيره، فنسأل الله تعالى أن يبارك للمسلمين في وقته وفي عمره، وييسر له التفرغ
إلى إتمامه برحمته وفضله) .
وكتب العالم الأديب، والكاتب المجيد، الأستاذ الشيخ سليمان أباظة الأزهري
المدرس في بيت الله الحرام وهو ممن تلقوا بعض دروس التفسير على المؤلف
يقترح في كتاب له المبادرة إلى وضع مختصر لهذا التفسير فقال ما خلاصته:
(أحمد الله على ظهور هذه النعمة، وآمل أن أرى في الترتيب العاجل تمام
هذا التفسير الجليل، على هذا النسق الجليل، الذي يشبع عقل الباحث تغذية وريًّا
ويجعله عن غير غنيًّا، كما آمل أن أرى في الأقرب الأعجل خلاصة لهذا التفسير
تكون صالحة لقراءتها ودرسًا عامًّا تستفيد منه العامة قبل الخاصة ليسهل على المعلم
تأدية مهمته في تعليم ذلك السواد الأعظم، دين الله سلما صحيحًا سهلاً، خلاصة
على ذلك الطراز الجميل البديع الذي كنا معشر تلاميذ السيد نسمعه منه في الدرس،
ذلك الطراز السهل على السيد فقط الممتنع على غيره إلخ ما كتبه من الإطراء،
ونحن نَعِدُ هؤلاء المقترحين للتفسير المختصر وغيرهم بأننا نبدأ به في الشهر الآتي
إن شاء الله تعالى.
***
مزايا الجزء التاسع
ومما امتاز به الجزء التاسع من المسائل الاستطرادية بحث طويل في أخبار
عمر الدنيا وخبط بعض العلماء في تحديده ولا سيما السيوطي عفا الله عنا وعنه،
وبحث آخر في أحاديث الفتن وأشراط الساعة كالدجال والمهدي وما فيها من
التعارض والإشكالات حتى الصحاح منها، ويدخل هذان البحثان في 37 صفحة
وقد ختم بسبع قواعد تفيد في حل مشكلات الأحاديث المتعارضة والمشكلة.
(ومنها) مسألة رؤية الرب تعالى في الآخرة وخلاف أهل السنة والمعتزلة
والصوفية وغيرهم (كالشيعة) فيها من جهة دلالة النصوص ومن جهة النظريات
العقلية، وتحقيق كونها ليست من المسائل القطعية، ويدخل في هذا البحث الكلام
على الحُجُب بين العبد والرب ومنها النور وفيها الكلام على النور الحسي والمعنوي
والكهرباء وأول ما خلق الله تعالى، ومن أهم فوائده تطبيق مذهب السلف في هذه
المسألة على آخر ما وصل إليه بحث علماء الكون في التكوين والمادة والقوى
والمخلوق الأول.
ويدخل فيه أيضًا بحث الكشف وإدراك النفس للأشياء من غير طريق الحواس
والعقل، ومباحث الرؤى والأحلام والرؤية في العمل النومي والتنويم المغناطيسي
على طريقة علماء هذا العصر، وكذا بحث الأرواح وتجليها في الصور وتشكل
الملائكة والجن في الصور المادية.
(ومنها) مسألة كلام الله تعالى وتكليمه لموسى وغيره ويدخل فيه بحث
الكلام النفسي والكلام اللفظي وما اخترع البشر من الآلات لنقل الكلام كالتلغراف
والتليفون.
(ومنها) تحقيق الحق في آيات الصفات الإلهية وأحاديثها وهو مذهب
السلف الصالح، وقد أفرغ الفصل الاستطرادي لهذه المسائل الثلاث في 61 صفحة.
(ومنها) مسألة بشارات الأنبياء في التوراة والإنجيل والزبور وغيرها
بالنبي الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه بحث حقيقة التوراة والإنجيل وهو
يدخل في 80 صفحة.
(ومنها) بحث معنى اتباع الرسول وموضوعه أي ما يجب اتباعه فيه مما
هو دين وتشريع ولوازمه والفرق بينه وبين العادات وأمور الدنيا التي فوضت إلى
اجتهاد الناس وكسبهم وبحث تبليغ دعوة الإسلام ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم
إلى جميع الناس.
(ومنها) بحث توحيد الإسلام في الدين والحكم واللغة وكون اللغة العربية
لغة الإسلام ووجوب تعلم جميع المسلمين لها، وما يتعلق بذلك من وجوب إزالة
العصبيات الجنسية واللغوية المفرقة بين المسلمين الملقية للعداوة والبغضاء بينهم.
(ومنها) وهو من ملحقات ما قبله حظر ترجمة القرآن باللغات المختلفة
ليكون قرآنًا لكل شعب إسلامي يتعبد به بلغته فهذا غير جائز؛ لأنه مخالف
لنصوص القرآن في كونه عربيًّا أنزل باللسان العربي وكان آية ومعجزة بلغته
ومتعبدًا به بلغته إلخ، وكونه ينافي مقصد الإسلام من وحدة المسلمين وجعلهم أمة
واحدة متحدة لا يصدع وحدتها خلاف، وفيه بيان غرض إقدام الترك الكماليين على
ترجمته، وهو التمهيد لترك الإسلام نفسه وهذا البحث وحده قد استغرق 60 صفحة
من التفسير وأعظم مزايا هذا الجزء ما جاء به من خلاصة لسورة الأعراف تدخل
في ستة أبواب، ثلاثة منها في أصول العقائد الثلاث الإلهيات والنبوة والبعث وما
وراءه، و (4) في أصول التشريع وقواعد الشرع العامة و (5) آيات الله وسننه
في الخلق والتكوين وفيه 14 أصلاً، و (6) في سنن الله تعالى في الاجتماع
والعمران البشري وشئون الأمم المعبر عنه في عصرنا بعلم الاجتماع وفي 7 أصول.
وقد بلغت صفحات هذا الجزء مع الفهرس الأبجدي وجدول أغلاط الطبع
702 فهو في حجم الجزء السابع الذي يباع بثلاثين قرشًا، وقد رأينا أن نوحد ثمن
أجزاء التفسير فنجعل ثمن كل جزء منها 25 قرشًا لا فرق بين الكبير كهذين
الجزأين والصغير كالجزء الثاني الذي تنقص صفحاته عن 400 والوسط بينهما،
وهذا سعر الورق المتوسط ويزاد في سعر الجزء من الورق الجيد خمسة قروش.
وأما باعة الكتب وطلبة الأزهر وسائر طلبة المدارس فننقص لهم من ثمن كل
جزء من الورقين خمسة قروش، وكذا وزارة المعارف ومن يشتري خمسة أجزاء
فأكثر.
_________
الكاتب: عبد الحميد الرافعي
خطر هجوم الكماليين على الإسلام
استبدال الأحرف اللاتينية بالحروف العربية
وجوب محاربة هذا الخطر على العالم الإسلامي
أريد اليوم أن أوجه هذه الكلمة لأول مرة إلى الشباب الإسلامي في كل بقاع
الأرض وإلى شباب الأمة العربية خاصة ليتدبروا أمرهم في هذا الهجوم المكشوف
الذي يقوم به الكماليون لمحو الإسلام من الدنيا بما يخترعونه من الأساليب
الشيطانية في بلادهم، وما يبثونه من الدعاية ضد الدين الإسلامي في الشرق
والغرب، وأريد أن يفهم هذا الشباب المسلم أن مقاومة هجوم الكماليين هذا بات
فرضًا مقدسًا عليهم ليستطيعوا الاحتفاظ بدينهم هم وذراريهم المستقبلة، فإن أعداء
الإسلام في أنقرة لم يجدوا أمامهم عملاً يقومون به في هذه الأيام لإتمام هذا الغرض
إلا استئجار الكتاب من أوربيين وشرقيين بأموالهم وأموال المبشرين لنشر الدعاية
ضد الإسلام، حتى صار أعداء هذا الدين من سياسي أوربة يستخدمون المحاضرات
العلمية لإقناع الطلبة الشرقيين في أوربا باستبدال الأحرف اللاتينية بالعربية كما
فعل ذلك الأستاذ لويس ماسينيون مدير معهد الكليج فرانسز في باريس للقضاء على
القرآن بالقضاء على الأحرف العربية تأييدًا لدعاية الكماليين المأجورة.
وإلى شباب الإسلام والقراء عمومًا نبذة من مقال لأحد الكتاب الأوربيين الذين
تستأجرهم أنقرة لنشر دعايتها تبريرًا لخطتها الجديدة في محاربة الإسلام وتأييدًا
لمزاعم الكماليين في الدين الإسلامي والعرب.
قال الكاتب: م ج السويسري من مقالة نشرها بجريدة جورنال دي جنيف:
(إن أهم إصلاح يحاول مصطفى كمال أن يقوم به في بلاده هو قلب أفكار
شعبه لينفرهم من الدين الإسلامي، وفي وسعنا أن نقول: إن الإسلام في تركيا
يختلف اختلافًا بيِّنًا عما كان عليه قبلا في زمن الخلفاء العثمانيين أو في باقي
الأقطار الإسلامية، وإن مصطفى كمال بعمله هذا قد طهَّر عقيدة الأتراك من
خرافات هذه الديانة وأساطيرها القديمة، واعتقاداتها العقيمة التي لا تلائم العصر
الحديث، ثم ساق الكاتب السويسري الحديث الذي لقنه إياه الكماليون على هذا النمط
فقال:
(لقد أثبت التاريخ أن الدين الإسلامي لم يحدث فيه العلماء أي إصلاح منذ
قام محمد بدعوته أي منذ 13 قرنًا، وبهذا كانت الشقة بعيدة بين المدنية الحديثة
وهذا الدين.
ولنضرب لذلك مثلاً: إن الشريعة الإسلامية تُحَتِّم على كل مسلم أن يصلي
خمس مرات في النهار، وعليه أن يكون متوضئًا في كل مرة، أي عليه أن يغسل
وجهه ويديه إلى المرفقين ورجليه إلى الكعبين ويمسح رأسه إلى آخر ما هناك من
الصعوبات الجمة كخلع الحذاء وتشمير الثياب، وكم من فقراء سرقت ثيابهم وهم
يصلون فطلقوا هذا الدين ثلاثًا، فهل بلغ بنا الخبل إلى أن نخلع أرديتنا ونبلل ثيابنا
ونشوه كي (بناطليلنا) خمس مرات في اليوم.
(ولأجل أن يبرر الصلاة على طريقة البروتستانت كما أعلنا ذلك في وقته
قال: قال أحد الأتراك الأتقياء: أما أنا فقد كنت أكره الدخول إلى المسجد بسبب
واحد وهو الرائحة الكريهة التي تنبعث من أقدام المصلين وكنت أضطر أحيانًا
لمغادرة المسجد قبل قيام الصلاة خوفًا على نفسي من الاختناق.
ثم قال: ويريد المصلحون أن تستبدل السجاجيد بالكراسي ويستعاض عن
أصوات الحفظة والمشايخ التي تكون مضحكة في أغلب الأحيان بالأنغام الموسيقية،
وعندها تمتلئ المساجد بالمصلين الحاسري الرءوس؛ ولقد حذا الأتراك في طريق
عبادتهم حذو الأوربيين؟ وأصبحت الآن أنقرة الكعبة الجديدة للدين الإسلامي
الجديد [1] فهل يحذو العرب حذو الترك فيخلصوا من هذه التقاليد التي ما أنزل الله
بها من سلطان؟
هذه كلمة اجتزأناها من مقالة الكاتب السويسري ينشرها في أوربا بأموال
الترك وعقليتهم لم يستطع المبشرون قبل الكماليين أن ينشروا مثلها في أوربا مطلقًًَا
على شدة حقدهم على الإسلام، والذي نلفت إليه الأنظار أن هذه المقالة ليست من
بنات أفكار الكاتب الأوربي المؤجر، بل هي إملاء الكماليين أنفسهم فإن ما يكتبه
هؤلاء المأجورون لا يخرج عما يقوله الكماليون في الإسلام سواء في بلادهم أو في
خارجها، من الأقطار الشرقية والغربية، حتى إن جريدة مخادنت التي تصدر في
مدينة القاهرة تكتب على ملأ من الناس أن مصدر تأخر الترك اللغة العربية أو
بالحري الإسلام.
وإذا دققت النظر فيما ينشر في أوربا ومصر تجد أن روح الكماليين لا تقف
عند القضاء على الإسلام في تركيا، بل هي ترمي إلى محو الإسلام من جميع
الأقطار، وقد باتت الخزانة السرية تنفق على هذه الدعاية أموالاً طائلة من أموال
المسلمين لقتل الإسلام بجرأة غريبة يردد صداها المبشرون المسيحيون مع
السياسيين الأوربيين الذين يرون أن أهم وسيلة لاستعمار البلاد الإسلامية القضاء
على الدين الذي يدعو أهله إلى إنشاء الدولة والدفاع عنها بالنفس والنفيس فيجعل
من المسلم شخصية كاملة أساسها عزة النفس بالفضائل الإسلامية، والرأي المتفق
عليه بين المطلعين على نية الترك هو أن الغاية الأولى من هذه الحركة التي لم
يعهدها الإسلام في الحرب الصليبية هي التزلف لأوربا، وهذا كل ما يرمي إليه
مصطفى كمال.
هذه حالة لم تمر بحياة الإسلام في دور ما من أدوار قوته وانحطاطه، وأعظم
ما في الكارثة من سوء سكوت المسلمين عنها، ووجود بضعة أشخاص منهم
يؤجرون ضمائرهم لإذاعتها والدفاع عنها، حتى بلغ الانحطاط الأخلاقي والتسفل
الأدبي بهؤلاء أنهم يذيعون بين العامة في مصر والإسكندرية أن مصطفى كمال من
أعظم المسلمين غيرة على الإسلام وأن أعماله هذه التي ظاهرها عداء شديد للإسلام
ليست إلا مظاهر ليخدع بها أوربا حتى إذا تمكن من خديعتها حملها على التخلي له
عن بلاد الإسلام التي احتلتها بغفلة الترك في الماضي (كمصر) ومن ثم يعيد لها
استقلالها
…
فهل سمع العالم بعقلية أخطر من عقلية هؤلاء الدعاة الذين يذيعون في
هذا القطر أمثال هذا الهذيان؟ وهل هناك أشد احتقارًا للمصريين من هذا الاحتقار.
بعد هذه المقدمة نستميح إخواننا الأتراك الذين لم تؤثر فيهم جناية الكماليين،
والذين يألمون كما نألم من وصول الحال إلى ما وصلت إليه في تركيا وسريانها
لأفغانستان وإيران واضطراب العالم الإسلامي لها، نستميح هؤلاء الإخوان الكرام
أن يعذرونا؛ إذ نحن دافعنا عن القرآن والعربية اللذين يعمل الكماليون بإرشاد
البولشفيك على مطاردتهما، والحط من شأنهما، وإذا كانت أوربا وقفت كلها صفًّا
واحدًا بما فيها الكنائس المنظمة والشعوب القوية والحكومات المسلحة في وجه
البولشفيك دفاعًا عن الدين المسيحي فما أجدرنا أن نتحد نحن - بعد أن ساق الروس
الحمرُ التركَ الكماليين أمامهم للقضاء على الإسلام- للوقوف في وجه هذا الخطر.
يحب أن نفكر جيدًا في هذا ونقوم بالواجب له حق القيام.
هذا وإن دعاية الكماليين الحمراء تقوم على أساسين: الأول أن الدين
الإسلامي لا يصلح لحياة الترك الجديدة، وهذه نفس دعاية المبشرين المسيحيين
والسياسيين الأوربيين، والثاني أن اللسان العربي بما فيه أحرفه العربية آية
انحطاط العنصر التركي والعثرة الحقيقية في سبيل رقي الترك.
أما أن الإسلام لا يصلح للحياة الجديدة فنحب أن نسأل مصطفى كمال ما قيمة
هذا العنصر التركي في الوجود قبل أن يتشرف بدين الإسلام؟ وهل كانت قيمته
الحقيقية أكثر من قبائل متوحشة تؤجر نفسها للقتال أنى كان القتال؟ ثم إلى أين
وصل هذا العنصر بفضل هذا الدين العظيم حين استاق أمامه مئات الألوف من
الجيوش باسم الإسلام فسيطر على عمران ثلاث قارات من الكرة الأرضية ومد
سلطانه إلى شعوب وأمم من أعظم أمم الأرض؟ هل كان ذلك في العهد الذي كان
الشعب التركي وملوكه وحكامه مسلمين أم كان وهم طورانيون يعبدون الذئب
الأغبر؟ وهل المدنية الإسلامية العربية والعدل العربي اللذان مدَّا رواقهما على
الأندلس وعلى قسم عظيم من أوربا حتى ضرب بعصرهما الذهبي الأمثال كانا في
بداوة الجاهلية أم نور الإسلام؟
لندع هذا البحث الذي يهزأ المبشرون المسيحيون من أنفسهم عندما يضطرون
لاتخاذه واسطة للهجوم على الإسلام قيامًا بواجب المهنة التي يحترفونها، ونتقدم إلى
هؤلاء الكماليين نبحث معهم تحت أشعة الشمس المنيرة في مسألة الأحرف العربية
التي يزعمون أنها كانت سببًا لتأخر مدنيتهم الموهومة ثم نعطف على حديث لسعادة
الجنرال محيي الدين باشا وزير الكماليين بمصر، وما أنكره من عطف المسلمين
على الترك وكون هذا العطف المُدَّعَى لم يكن له أثر في الوجود العملي.
أما مسألة الأحرف العربية وتأخيرها للسان التركي عن التقدم، فنحن نستطيع
أن نصرِّح تصريحًا ربما رآه جمهور الناس غريبًا في بادئ الأمر إلا أنه الحقيقة
المجردة. وهو أنه لا يوجد إلى الآن شيء يسمى اللسان التركي ودون في الكتب
وقرأه الناس ويستطيع الشعب في تركيا وأوربا في صميم الأناضول والتركستان أن
يفهم جملة من جملة فهمًا صحيحًا، اللهم إلا إذا كان هناك بعض علماء الآثار
والعاديات يقدرون على حل تلك الرطانة والتكلم بها في أتفه الأمور، وهذا أعظم
برهان للتاريخ على أن المدنية التركية لا وجود لها ولو وجدت لكان لها كتب دُوِّنَت
فيها أو نقوش أثرية كنقوش المدنية المصرية.
إذا فهمت ذلك يجب أن تعلم أن اللسان الموجود الآن الذي يتكلم به الأتراك
ويعتبر أجمل الألسن الشرقية إنما هو اللسان العثماني الذي وضعه فريق من علماء
العثمانيين من الترك والشركس والألبان والعرب منذ قرن تقريبًا فجاء نصفه عربيًّا
والنصف الآخر خليط من الفارسية والتركية وبعض الكلمات الإفرنجية، وقد تعلمنا
هذا اللسان عن أساتذته واطلعنا على كثير من مؤلفاته العلمية والأدبية فلم نر عالمًا
تجاسر على الزعم بأن هذا اللسان غير اللسان العثماني، بل كان علماء اللغة
يقولون في صلب مؤلفاتهم: قاموس اللسان العثماني أدبيات اللسان العثماني نحو
اللسان العثماني [2] وإنني لما كنت تلميذًا وجدت في برنامج الدروس اليومية أن
الساعة 11-12 مثلاً هي حصة اللسان العثماني، ولم تذكر حصة لشيء يسمى
اللسان التركي، ولكن لما أعلن الدستور وصار كتاب الترك ينقلون ما يكتبه
الأوربيون بشأنهم صاروا يطلقون كلمة تركيا على البلاد العثمانية؛ لأن الأوربيين
يطلقون كلمة تركيا عليها، وكلمة تركيا بدلاً من العثمانية نسبة إلى العثمانيين، وقد
احتج فريق من علماء العرب ومبعوثيهم في الآستانة على كتابة تركيا بدلا من الدولة
العثمانية، وقالوا للأتراك: إننا شركاء في هذه المملكة بل نحن العنصر الأكبر فيها
فإطلاق هذه الكلمة افتئات على الحقيقة يستلزم ضياع شخصية الأمة العربية
والعناصر الأخرى كالكرد والشركس والألبان والروم والأرمن وغيرهم. فأجاب
الأتراك بأن هذه الكلمة ترجمة عن الإفرنجية وليست مقصودة ثم سكت العرب
فتمادى الترك.
إذا علمت هذا، وعلمت أن اللسان التركي غير موجود اليوم وأن هذا اللسان
الذي يستبدلون أحرفه العربية باللاتينية إنما معينه بل مصدر حياته اللغة العربية
وأنه قبل أن يتكون اللسان العثماني الذي يستمد حياته وأدبياته وعلومه من اللسان
العربي لم يكن لهذه العلوم والأدبيات التي يتغنى بها الترك وجود، بعد هذا العلم
تستطيع أن تحكم على مبلغ مكابرة الكماليين وجرأتهم على الكذب في حق العلم
والتاريخ والحقيقة كلها، فقد زعموا أنهم يتركون هذا اللسان العثماني بقولهم عن كلمة
(كتاب) العربية التي لا مقابل لها في التركية مثل: (كي تاب) فالمراد بتتريكها
إخراجها من عربيتها وتحريف لفظها برسمه هكذا (kItab) وهذا منتهى الحمق
والغباوة، وقد نشرت الصحف التركية التي تصدر في اليونان مقالاً للأستاذ صاحب
السماحة صبري أفندي شيخ الإسلام السابق خاطب فيه الترك بقوله: إنكم إذا استبدلتم
الحروف العربية وجب إخراج الألفاظ العربية وإحلال محلها كلمات إفرنجية؛ إذ لا
مقابل لها في التركية وعندها تخسرون على الأقل كلمات: الغازي والجمهورية
ومصطفى كمال أيضًا.. . لأنها كلها عربية.
وهنا لا ترى بدًّا من أن ننقل للقراء الكرام كلمة جميلة تستند إلى العلم
الصحيح دبَّجَها يراع الكاتب القدير الأستاذ عبد الله عنان في مسألة الأحرف اللاتينية
نشرت في صدر السياسة اليومية، ومما جاء فيها قوله: (بيد أنا لا نؤمن بما
يعلقه فخامة الغازي على هذا الانقلاب من الخير والمزايا وكل ما تدور حوله
حُجَج الغازي ومن معه من أنصار الفكرة أن الكتابة الجديدة وسيلة ناجعة لمحاربة
الأمية داخل تركيا، ونشر اللغة التركية خارجها؛ لأن الكتابة العربية بما تحتوي من
مصاعب الشكل والإعراب عثرة في سبيل هذه الغاية، والكتابة اللاتينية تبسط
القراءة والإعراب بأحرف الحركة، وربما كان في هذا القول مسحة من الوجاهة،
ولكنها مزية شكلية ضئيلة تقابلها مصاعب شكلية أيضًا في كيفية ضبط الحركات
اللاتينية، وتطبيقها بدقة على الحركات العربية، وهو ما يحرج اليوم قادة الحركة
ويضطرهم في كل يوم إلى التغيير والتبديل في ما يضمونه من قواعد الهجاء، هذا
إلى أن الكتابة العربية لا تنفرد بصعوبة الشكل والإعراب فمن بين اللغات الغربية
ما يحتوي على مثل هذه الصعوبة، كالألمانية والروسية، ففيهما يتخذ الشكل
صورة الإضافة والتغيير في أواخر الكلمات طبقًا لأحوال الإعراب ومع ذلك
فإن هذه الصعوبة لم تكن في وقت من الأوقات عقبة في سبيل التعليم ومحاربة
الأمية في ألمانيا وروسيا، أما القول بأن الحروف اللاتينية مما يساعد على نشر
اللغة التركية فهي أمنية لا نؤمن بها، فما كانت سهولة الكتابة أو القراءة وحدها
عاملاً جوهريًّا في نشر اللغات، وإنما تنتشر اللغات بتراثها الأدبي والعلمي ،
ومكانة شعوبها من المدنية والثقافة، وأهمية مركزها السياسي والاقتصادي،
وما كانت اللغة التركية في عصر من العصور لغة آداب أو علوم أو مدنية أو تجارة،
وما كانت سوى نوع من الرطانة لقبائل غازية يوم برزت هذه القبائل من قفارها
واتصلت بالمجتمع الإسلامي، فاعتنقت دينه وشرائعه، واقتبست من فيض لغته كل
ما أصبغ على هذه (الرطانة) ثوب اللغة وكل ما غنيت به وازدانت، حتى
أصبحت اللغة التركية تموج بالكلمات العربية وأضحت مدينة بكل ما فيها من بيان
وتعبير إلى العربية، بل غدت العربية روحها ولحمها، بل لقد بهرت اللغة
العربية المجتمع التركي أيام فخاره وازدهاره بفصاحتها وجمالها، فغدت لغة الآداب
والعلوم، واصطفاها المفكرون من الترك على (لهجتهم) المجدبة، فانطلقت بها
ألسنتهم وأقلامهم.
وإذا كان للتفكير التركي اليوم آثار جليلة فهي باللغة العربية التي وسع بيانها
هذا التفكير، بل إن أنفس الآثار التركية سواء في الفقه أو التاريخ أو الأدب إنما
هي بالعربية، والخلاصة أن اللغة العربية كانت بالنسبة للترك وغيرهم من الشعوب
النازحة إلى حظيرة المدنية الإسلامية لغة التفكير كما كانت اللاتينية في العصور
الوسطى بالنسبة للمجتمعات الغربية (وكانت صولتها قوية على المجتمع التركي
أيام فتوته وازدهاره، وأثرها أثيلاً في بيانه وتراثه الفكري، وكان كل ما أثاب
الترك به العربية هو تحسين خطها والافتنان في تنميقه؛ إذ كان طبيعيًّا أن تكتب
بالعربية تلك (اللهجة) التي غدت لغة بما اقتبست من العربية.
ما كانت التركية إذن في عصر من العصور لغة تفكير، وما كان لها تراث
فكري أو أدبي يغري بتعلمها ولو كتب باللاتينة، وما يعرف التاريخ للمجتمع
التركي مدنية أو ثقافة خاصة به تغري حتى الخاصة من الباحثين بتعلم لغته، كذلك
لا نعتقد أن مركز تركيا الدولي أو الاقتصادي مما يحمل على نشر التركية، فما هو
الخير إذن في الحروف اللاتينية.
(إن كتابة التركية بالحروف اللاتينية لن يحمل إلى التركية جديدًا في تراثها،
ولن تخلق أذهانًا جديدة في مجتمع آثر مفكروه في أزهر أيامه أن يفكروا بالعربية
وما هي إلا حجاب كثيف يسدل على الماضي، وقطع لصلاته، ومحو لمعالمه
ورسومه، وبالأخص نزع لآثاره الروحية.
فهل هذا ما يرمي إليه سادة أنقرة [3] ؟ ألا ليت لا ، اهـ.
أما تعريض الترك باللغة العربية وأحرفها وكونها سبب تأخرهم فقد أبطلناه لك
من أساسه وبيَّنا لك مبلغ جهلهم في عصر النور ومقدار جرأتهم على الحقيقة في
عصر الحقائق، فإذا أيدهم فيه دعاة النصرانية (المبشرون) وبعض المأجورين
من كتاب أوربا لمحاربة الإسلام وحبًّا في ذهب أنقرة، فإن ألوفًا من علماء أوربا
نفسها الذين يعرفون الإسلام والمدنية العربية والترك وحكوماتهم التي بفضل جهلها
استولى الأوربيون على كل أملاك المسلمين فجعلوهم عبيدًا بعد أن كانوا سادة الدنيا
يهزأون بهؤلاء الكماليين كل الهزؤ ويسخرون بحركتهم من جميع وجوهها.
وقد ألف أحد إخواننا الترك الأفاضل كتابًا منذ سنتين ونيف عندما فتحت
مسألة الحروف اللاتينية في المؤتمر الذي عقد في روسيا حمل فيها على هذه الفكرة
حملة كان لها أثرها في سير الحركة التي أوقفت، ولكن الروس أعداء الإسلام
والعربية لم يلبثوا أن استأنفوا القضاء عليها بما رأوه من استعداد الكماليين الذين
أولوا ما جهلوا من العالم الإسلامي وحقائقه ومن جهل شيئًا عاداه.
نحب أن نستأنف الرد على الجنرال محيي الدين باشا بعد أن زيفنا رأيه في
مسألة الدعاية التي ينشرها للكماليين بأمثال أحاديثه مع مكاتب وادي النيل في مقال
لبعض الجرائد.
يقول الجنرال: (يسأل البعض: أليس اشتراك الشعب التركي مع الشعوب
العربية في استعمال الحروف القديمة مما يؤدي إلى ارتباط القلوب وتوثيق عرى
الصداقة بين الترك والعرب؟ ونحن نجيب بالسلب
…
فإن ذاك إنما هو ارتباط
صوري لا قيمة له! ! ! ولا أدل على هذا من التاريخ الذي برهن على عدم ذلك
الارتباط!
فانظر يا رعاك الله إلى هذه المكابرة ونكران الجميل؟ انظر إلى هذه الجرأة
على التاريخ إلى هذا الحد في بلد من أعظم عواصم الإسلام والعربية ينكر ما جناه
الترك من الفوائد العظيمة التي نجمت من ارتباط الترك بالعرب كل هذه السنين
ولولاها لما كان الترك شيئًا مذكورًا في هذا الوجود.
إني والله لأخجل من الرد على رجل يمثل دولته إذا حاولت أن أبين له ما
يعرفه صغار التلاميذ كما أني لشديد الأسف على هذا العداء الذي يجاهر به
الكماليون العرب ودين الإسلام وهم لولا الإسلام والعربية لما كانوا سوى طوائف
متوحشة وقفت نفسها على التخريب والتدمير والحروب وسفك الدماء.
فإذا جاز نكران الجميل بين الناس فلا يجوز أن ينكر الترك فضل العرب إلى
هذا الحد، ولا سيما في بلاد العرب نفسها.
وبعد فإني أدعو جميع الغيورين من المسلمين إلى رفع برقع مجاملة الترك،
وإلى الوقوف في وجه الكماليين للدفاع عن الإسلام قبل أن يطغى سيل إلحادهم على
بلاد المسلمين، وقد نجمت قرونه في إيران وأفغانستان، وأُذَكِّر إخواني المسلمين
أن الجمود إزاء هذه الحركات ليس كالجمود أمام حركات المبشرين.
ومن يستطع الجهاد وقتل هذه الروح الشريرة التي تمليها البولشفية على أنقرة
ولم يفعل فهو آثم قلبه، والسلام.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
الرافعي
(تنبيه)
وقع في هذه المقالة، وفيما بعدها كلمات يُظَنُّ أن الترك يعدونها طعنًا في
شخص رئيس جمهوريتهم مصطفى كمال باشا والأمور الشخصية غير مقصودة لنا،
وإنما نحن ندافع عن ديننا ونغار على شعب الترك الإسلامي، وقد استشرنا بعض
كبار علماء القانون في المقالتين بعد طبع الجزء وإعداده للتوزيع فأشار علينا بأن
نعيد طبع المقالتين، ونغير فيهما بعض الجمل والكلم من باب الاحتياط ففعلنا؛
ولذلك تأخر الجزء وكتبنا هذا التنبيه في الطبعة الثانية.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار: من سخافة الكاتب وسخافة من يخدمهم إطلاق اسم الدين الإسلامي بعد الغلو في ذمه على ضلالة الترك الكماليين مع إطرائها وسنبين سائر سخفه وخطله بعد.
(2)
المنار: أخبرني أحمد مختار باشا الغازي أنه لما كان في طور التعلم لم يكن للغتهم قاموس ولا نحو ولا صرف وأنه لما حاول مصطفى رشيد باشا تعليم بعض الترك الإفرنسية لم يمكن تعلمها إلا لطلبة العلم الديني الذين يعرفون العربية.
(3)
المنار: نعم إن هذا كل ما يبغون لينسوا شعبهم هذا الدين وكل ما يذكرهم به؛ لئلا يعودوا إليه بعد موتهم، ونحن قد صرحنا بهذا في تفسير الجزء الثامن وفي المنار قبل وقوعه.
الكاتب: محمد رشيد رضا
حقائق في عداوة ملاحدة الترك للإسلام
وتعليق على المقالة السابقة
1 -
فكرة ترك الإسلام في ملاحدة الترك:
سافرت في أواخر رمضان سنة 1327 (أكتوبر سنة 1909) أي في أول
سني الدستور العثماني إلى الآستانة للسعي لأمرين: (أحدهما) تأسيس (جمعية
للدعوة والإرشاد) تستعين على عملها بإنشاء مدرسة كلية إسلامية وتوثيق الروابط
بين الدولة والمسلمين (وثانيهما) السعي للتأليف بين العرب والترك؛ إذ كانت
العصبية التركية الجنسية قد نجمت قرونها وبدأت بنطاح العرب وغيرهم من
عناصر الدولة قبل أن ترتفع وتعلو، وأقمت في الآستانة سنة كاملة كنت فيها
عزيزًا مكرمًا من رجال الدولة وزعماء جمعية الاتحاد والترقي، وتيسر لي بذلك أن
أكشف الستار عن إلحاد هؤلاء الزعماء وعزمهم على محو الإسلام من الشعب
التركي وتأسيس دولة تركية محضة، وجعل الولايات العربية مستعمرات لهذه
الدولة، وتتريك سائر العناصر العثمانية، ومن تقدر على تتريكه من العرب أيضًا.
وقد اجتمعت هنالك برئيس الجمعية التي تشتغل بما سموه تطهير اللغة
التركية من الألفاظ العربية وأعضائها وناظرتها، فاعتذروا لي عن عملهم بأنه فني
محض لا علاقة له بالدين ولا بالسياسة، وإنما الغرض منه تسهيل التعليم على
عوام الترك ولا سيما فلاحي الأناضول، وقد أقمت عليهم الحجة كما شرحته في
المقالات التي نشرتها في الآستانة نفسها بالعربية والتركية وفي مقالات (رحلة
الآستانة) .
فمصطفى كمال باشا لم يبتكر شيئًا مما يسمونه التجديد، وإنما سنحت له
الفرصة لتنفيذ ما قرَّره من قبله من جماعة (جون ترك) بتأثير ساسة الإفرنج
المستعمرين ودسائس الروس الطورانيين، ولعلمي بهذه المقاصد صرَّحت في المنار
وفي تفسير القرآن أيضًا بأن الترك الكماليين يقصدون من ترجمة القرآن التمهيد
لمحو الإسلام من الشعب التركي، وكان ذلك قبل إعلانهم للحرب على الإسلام.
وإنني من ذلك العام بارزت الاتحاديين العداء وأطلقت عليهم لقب
(الملاحدة) وأنا في الآستانة، وأطلقت لساني بانتقادهم حتى إن طلعت بك أو
باشا قال للدكتور عبد الله بك جودت وقد لامه هذا على عدم تنفيذه لمشروع
الجمعية والمدرسة: نحن ما قصرنا مع رشيد أفندي بل كرَّمناه ولكنه يطعن فينا شديدًا
وصل إلى حد الرذالة.
نعم إنه كرَّمَني بالحفاة القولية والفعلية وبالدعوة غير مرة إلى طعامه وكان
يقدمني على مائدته حتى على كبار علماء المشيخة الإسلامية كمستشارها وعلى
غيرهم، وعرض عليَّ أن يعطيني في كل عام عشرين ألف جنيه عثماني من
الذهب للقيام بشئون المدرسة على أن لا تكون تابعة لجمعية إسلامية.. .) بل
مشايعة لجمعية الاتحاد والترقي، فلم أقبل، وقد كتبت كل هذه التفصيلات في عهد
دولتهم وصولتهم، ومع هذا يفتري عليَّ المفترون من ملحد ورافضي بأنني لم
أتحول عنهم إلا بعد سقوطهم كما زعموا مثل هذا الزعم في خصومتي للشريف
حسين وأولاده سواء.
***
2 -
خطة الكماليين تنفيذية لا إنشائية:
إن دولة الترك الكمالية الجديدة قد وجدت من ملاحدة القواد والضباط وغيرهم
أعوانًا كثيرين على تنفيذ كل ما كانوا قرَّروه هم وإخوانهم، وكل ما كانوا يتمنونه
بعد أن صار بيدهم قوتا الدولة العسكرية والمالية، ولما يتم لهم ذلك كله فيما ظهر
لنا بعد ذلك فله بقية منها تغيير الصلاة باختراع صلاة جديدة هي كصلاة
البروتستانت كما قال الكاتب السويسري: ولكنهم يمهدون للشيء ثم ينفذونه على
الطريقة التي سماها مصطفى كمال باشا (سياسية المراحل) كما مهَّدوا لإلغاء
الخلافة بنصب خليفة روحاني لا عمل له، وكانوا أولاً يحسبون أكبر حساب
لاحتماء الشعب التركي الذي يغلب على سواده الأعظم التدين بالإسلام وتألبه عليهم،
فلما شرعوا في العمل رأوا أن المعارضة ضعيفة فقد كان أقواها ثورة الأكراد التي
تعبت القوى العسكرية في القضاء عليها، وأما ما عداها من الائتمار السري
بالاغتيال وهو لم ينقطع فلا ثبات له أمام سلطان الحكومة العسكري القاهر
وجواسيسها الكثيرة، فأوجفوا في سيرهم بقطع المراحل بسرعة البخار، وكانت
تقدر بسير الرجلين أو سير البغل والحمار، وهذا الذي جرَّأ ملاحدة الأفغان وإيران
على اتباع خطوات الشيطان بترك الهداية الدينية إلى الإباحة المادية، على ما بين
شعوبهما والشعب التركي وما بين زعمائهما وحكوماتهما من الفروق، فالشعب
التركي قد ذللته لقواده وحكومته الخدمة العسكرية العامة، وسلطتها القاهرة،
وأضعف شكيمته الفقر ونكبات الحرب المتوالية، التي اشتدت وطأتها في حرب
البلقان فالحرب العامة، والملاحدة في قواده وضباطه وأطبائه وحكامه كثيرون بما
مارسوا من التعاليم الأوربية وما تمرسوا به من مخالطة ساسة الإفرنج من زهاء
قرن، والشعبان الإيراني والأفغاني ليسا كذلك، والملاحدة فيهما قليلون، وسنبين
هذا الموضوع بالتفصيل في مقال سنكتبه فيما سعينا له من صد الأفغانيين عما هم
عرضة له من الإلحاد.
***
3 -
ما يطمع فيه مصطفى كمال بنجاحه:
كان مصطفى كمال باشا بنجاحه في تنفيذ مقاصد جماعة (الجون ترك) بأن
يكون مؤسس دولة تركية جديدة تنسب إليه فقال الدولة الكمالية، كما كان يقال
الدولة العثمانية، ولذلك بذل جهده ونفوذ سلطانه الشخصي في طرد أسرة آل عثمان
من بلادهم ومصادرة أملاكهم، ومحو ذكر دولتهم وسلاطينهم إلا بالسوء والطعن،
ولعمري إنها لنفس كبيرة، وهمة بعيدة، وإن كنا نحن المسلمين نستنكر هذه الخطة
الجديدة وكثير من العقلاء يرون أنها غير سديدة.
ثم صار يطمع بأن يكون مؤسس أمة جديدة بتأسيس لغة جديدة ودين جديد
للشعب التركي الرومي الموجود في الأناضول وبقية الرومالي وفيما انتزعوه من
قطر سورية والعراق العربيين، واللغة والدين أقوى مقومات الشعوب ومميزاتها
ولا يبعد عليه بعد ذلك أن يستبدل لقب (كمالي) بلقب (تركي) الذي يحافظ عليه
إلى الآن، كما حافظ على اسم الإسلام مدة قليلة من الزمان، وهو لم يبق للترك
شيئًا من مقوماتهم ولا من تاريخهم الذي كانوا به أمة مجيدة ذات دولة عزيزة، كما
أنه لم يبق من شريعة الإسلام شيئًا، حتى إن داعيتهم الكاتب السويسري يصرح بما
لقَّنوه إياه من الطعن بكل ما جاء به نبي الإسلام صلوات الله وسلامه عليه حتى
الطهارة والصلاة فجعلوهما مما ذموه من خرافات الإسلام المنافية للحضارة العصرية
الأوربية! التي يقلدهما ملاحدة الترك ويتكلفون انتحالها لزعمهم أنهم مساوون
لشعوب أوربة أو لتوهمهم أن التكحل كالكحل، وأن لا فرق بين الطبيعة والمنتحل،
بل افتروا في الطعن على الإسلام ما لا يخفى على عاقل جهلهم وسخفهم فيه، حتى
مستأجرهم الكاتب السويسري على ما في كلامه من كذب وتناقض وتشويه للحقيقة.
***
4 -
الطهارة والوضوء في الإسلام:
يقول هذا الكاتب: إن من سيئات الإسلام وجوب الوضوء للصلوات الخمس
الذي هو عبارة عن غسل الوجه واليدين إلى المرفقين ومسح الرأس وغسل الرجلين
إلى الكعبين، ثم يقول عن بعض ملاحدة الترك: إنه ترك الصلاة وفرَّ من المسجد
هربًا من الرائحة الكريهة التي تنبعث من أرجل المصلين! فيا للفضيحة! كيف
يعقل أن تكون رائحة المصلين الذين يغسلون أرجلهم عند إرادة الصلاة كريهة لا
تطاق عقب غسلها مع أنهم يكررون هذا الغسل خمس مرات كل يوم كما يقول؟
وقد أجمع الأطباء والعقلاء على مدح هذه المزية من مزايا الإسلام وتفضيله بها على
غيره حتى إن بعض أطباء فرنسة الكبار أسلم في هذا العهد بسبب اطلاعه على
نصوص الطهارة في القرآن وغيرها، مما يتعلق بحفظ الصحة ووجدانه إياه موافقًا
لأحدث ما تقرَّر في طب هذا العصر، وقال: إنه لا يمكن أن يصل رأي رجل أمي
ولا متعلم من العرب إلى ذلك في العصر الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم
ويا ليت شعري كيف يصدر من عاقل يحترم نفسه ذم النظافة وجعلها سببًا للقذارة،
وعدّها منافية للحضارة؟ إذن تكون الحضارة الأوربية مبنية على تفضيل النجاسة
والقذارة، على النظافة والطهارة، ولهذا يفضلها الترك وأنصارهم على المدنية
الإسلامية التي تعد الطهارة من أهم فرائضها، ولعل هذا الكاتب من المسيحيين
الذين تمر السنين ولا يغتسلون استغناء عن الغسل والطهارة بالمعمودية النصرانية،
فقد أخبرني مستر متشل أنسن الذي كان وكيلاً للمالية بمصر أن الإنكليز هم الذين
علَّموا أوربة كثرة الاستحمام بعد أن تعلموها هم في الهند وأنه لا يزال في أوربة من
تمر عليه السنة أو السنين ولا يستحم فيها.
وأما ما نوَّه به السويسري من العسر في الوضوء فنجيب عنه بأن العسر قد
يكون في غسل الرجلين لو كان حتمًا في كل وقت على من يلبس الجوارب
والخفاف والأحذية الجلدية، وليس الأمر كذلك، فإن من يلبس في رجليه ما
يسترهما وهما طاهرتان يجوز له أن يمسح على الساتر لهما بيده المبللة بالماء بدلاً
من غسلهما، ومن قواعد الإسلام الأساسية رفع الحرج والعسر من جميع أحكامه
كما هو منصوص في القرآن الحكيم، ويجوز لمن يلبس حذاء نظيفًا أن يصلي فيه،
وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصلون بنعالهم، ونسكت عن هذيانه
في سرقة ثياب المصلين وجعلها كأنها من لوازم الصلاة.
***
5-
شبهة ضرر السجود على الأرض:
إن أقوى شبهات هؤلاء الملاحدة على صلاة الإسلام هي السجود على الأرض،
وهي غير مقصورة عليهم، بل روي أن الاستنكاف من وضع الوجه على الأرض
خضوعًا لله تعالى قد كان مانعًا لبعض مشركي العرب المتكبرين من الدخول
في الإسلام أو عذرًا اعتذر به، ولكن لا يقع مثله من مؤمن بالله تعالى وبالدين
الذي يأمر بالسجود له عز وجل، ولمتفرنجي هذا العصر شبهة على السجود
غير استنكاف الكبرياء، وهو أن بعض أرجل المصلين المصابين ببعض الأمراض
تؤثر في موضع وقوفهم للصلاة تأثيرًا يضر من يسجد في مواضع وطئها بما قد
ينفصل منها من (ميكروبات) المرض.
ذَكر لي هذا طبيب عربي فقلت له: إن هذا أمر نادر الوقوع لا يخلو كل
مجتمع يكثر فيه الناس من مثله، ولا سيما حيث يزدحمون كمجامع الحفلات المدنية
والسياسية ومسارح التمثيل وغيرها، ولا نرى الأطباء ينهون عنها إلا في أوقات
بعض الأوبئة، وإن التنطع والإفراط في التوقي من جراثيم الأمراض في كل وقت
قد يكون ضرره أكبر من نفعه، وإنكم تقولون يا معشر الأطباء: إن الأجسام
تتعرض لميكروبات الأمراض القليلة في الأحوال العادية تكتسب مناعة يقل فيها
تأثيرها بعد تعودها حتى إنها قد تكون واقية له من الإصابة بها في الحالة الوبائية
كما يستفيد الذي تلقحونه بقليل من مصل الجدري وغيره مناعة يأمن بها أن يصاب
بالثقيل منه، وتقولون: إنه لو فرض أن رجلا نشأ في قلة جبل حيث الهواء النقي
الخالي من جميع ميكروبات الأمراض وأشعة الشمس الدائمة المانعة من التعفنات
والماء الزلال الجاري الذي لا تشوبه شائبة ثم ترك هذا المكان وخالط الناس في
المدن التي تكثر فيها الأمراض فإنه يكون أشد استعدادًا للعدوى من جميع من نشأ في
تلك المدينة.
قامت لي الحجة على هذا الطبيب لبنائها على أصول علمه فاعترف بها،
وأقول مع هذه: إنه يمكن أن تجعل صفوف المصلين في المساجد منظمة بحيث
يكون موطئ الرجلين في الوقوف غير موضع الوجه للسجود، وقد رأيت بلاط
بعض مساجد الهند صفوفًا مقسمة بالرخام الملون في كل صف منها ما يشبه سجادة
الصلاة لكل فرد من المصلين.
***
6-
الزي الإفرنجي والصلاة:
وأما جعله لبس السراويلات الإفرنجية مما يصدُّ عن الصلاة فقد رأيت في
مصر من يعتذر عن ترك الصلاة بمثل ما ذكره الكاتب من اتقاء تجعيد كي سراويله
وهذا لا يقع من مسلم يدين بالإسلام، وإنما هذه أعذار من نسميهم المسلمين
الجغرافيين، وقد قال الدكتور سنوك الهولندي المستشرق الشهير إن أكثر الذين
يلبسون هذه الملابس الإفرنجية من المسلمين يتركون الصلاة أي وترك الصلاة
مقدمة لترك الإسلام، بل هو منه عند بعض الأئمة كأحمد بن حنبل رحمه الله تعالى،
وأخبرني بعض نظار المدارس الأميرية أنه كان يأمر التلاميذ بالصلاة فامتنع
بعض أولاد الباشوات معتذرًا بأمر أبيه له بعدم الصلاة؛ لئلا يتجعد أسخف سراويله
(بنطلونه) فما هذا الوالد الزنديق الذي يحب أن يجعل ولده المخنث كأنه في زيه
الجميل مصبوب من قالب لا يتغير ولا يتبدل كأنه من شحنة مدرسة البوليس
المصري في الزي الذي اخترعه لهم الإنكليز؛ لئلا يصلي أحد منهم.
***
7-
محاسن الصلاة الإسلامية ومزاياها:
ألا إن الصلاة الإسلامية نفسها لأكمل عبادة شرعها الله لعباده المؤمنين على
ألسنة رسله عليهم السلام، فهي جامعة لأعلى المناجاة الروحية لله تعالى ذكرًا ودعاءً
وخشوعًا وأدبًا ولأنفع الرياضة الجسدية بتحريك جميع الأعضاء في القيام والركوع
والسجود ولا سيما التورك في التشهد الأخير والسجود على رءوس الأصابع،
وصلاة الجماعة مقتضية أفضل وسائل المساواة الاجتماعية بين الغني والفقير
والمأمور والأمير والرئيس والمرءوس بوقوفهم في صف واحد.
وقد نقل إلينا عن بعض علماء الإفرنج المستقلين الإعجاب بهذه الصلاة حتى
خصوم الإسلام منهم فقد قال الفليسوف رينان الفرنسي: إنني ما رأيت المسلمين في
مسجد يصلون جماعة إلا وتمنيت لو كنت مسلمًا أو قال: احتقرت نفسي لأنني غير
مسلم، ولما طعن في الإسلام في خطاب له في السربون ذكره الفليسوف المنصف
غوستاف لوبون بقوله هذا فاعترف به.
وقد افتتح الكونت (هنري دي كاستري) كتابه (الإسلام: خواطر وسوانح)
بمقدمة ذكر فيها ما رآه في سياحته في الشرق من صلاة المسلمين صلاة الجماعة
ووصف من إعجابه بها وتأثيرها في نفسه أنه احتقر نفسه تجاه جماعة من الفرسان
كان استخدمهم للسير في خدمته في صحاري حوران وكان يراهم في غاية الخضوع
والإجلال له وكانوا ثلاثين فارسًا من العرب يتقدمهم حَادٍ ينشدهم أناشيد أكثرها في
مدحه قال ما ترجمته بقلم المرحوم أحمد فتحي باشا زغلول:
(وبينما نحن سائرون على هذه الحالة؛ إذ سكت الشاعر والتفت قائلاً
بصوت خشن: سيدي الآن وقت العصر، هنالك ترجلت الفرسان واصطفوا لصلاة
العصر مع الجماعة، وصلاة الجماعة مفضلة عند الله في اعتقاد المسلمين كما هي
كذلك عند المسيحيين، أما أنا فقد ابتعدت عنهم، وكنت أود أن لو انشقت الأرض
فابتلعتني، وجعلت أشاهد البرانس العريضة تنثني وتنفرج بحركات المصلين
وأسمعهم يكررون بصوت مرتفع (الله أكبر، الله أكبر) فكان هذا الاسم الإلهي
يأخذ من ذهني مأخذًا لم يوجده فيه درس الموحدين، ومطالعة كتب المتكلمين،
وكنت أشعر بحرج لست أجد لفظًا يعبر عنه سببه الحياء والانفعال، أحس بأن
أولئك الفرسان الذين كانوا يتدانون أمامي قبل هذه اللحظة يشعرون في صلاتهم
بأنهم أرفع مني مقامًا وأعز نفسًا، ولو أني أطعت نفسي لصحت فيهم (أنا أيضًا
أعتقد بالله وأعرف الصلاة وكيف أعبد) فما أجمل منظر أولئك القوم في نظامهم
لصلاتهم بملابسهم وجيادهم بجانبهم أرسأنها على الأرض وهي هادئة كأنها خاشعة
للصلاة، تلك هي الخيل التي كان يحبها النبي صلى الله عليه وسلم حبًّا ذهب به
إلي أنه كان يمسح خياشيمها بطرف إزاره عملاً بوصية جبريل عليه السلام، وكنت
أرى نفسي وحيدًا في عرض هذه الصحراء على ما أنا به من اللباس العسكري
الضيق الذي يبرم فيه الجسم الإنساني بغير احتشام تلوح عَلَيَّ سمات عدم الإيمان
في مكان هو مسقط رأس الديانات كأنني من الحجر أو من الكلاب أمام أولئك القوم
الذين يكررون إلى ربهم صلوات خاشعة تصدر عن قلوب ملئت صدقًا وإيمانًا.
(وبينما أنا كذلك إذ جال بخاطري، ما رود في التوراة من أن الله يسكن
خيمة سام ويكثر من أولاد يافث، وقد كان الفريقان مجتمعين في ذلك المكان،
أولئك المصلون الذين هم من ولد سام معجبون بدينهم وعبادة ربهم ورب آبائهم الله
الذي دخل خيمة إبراهيم، وأنا ابن يافث الذي يمتد ذكره بالحرب والفتوح، ولما
انتهى بنا الطريق ورجعت إلى مكان راحتي جعلت أكتب ما علق بذهني من الأفكار
فأحسست أني منجذب بحلاوة الإسلام كأنها أول مرة شاهدت في الصحراء قومًا
يعبدون خالق الأكوان، وذكرت خيام النصارى لا متعبد فيها غير النساء وأخذني
الغضب من كفر أبناء المغرب وقلة إيمانهم) اهـ.
وقد رأيت جميع المصريين يسخرون من تقليد الترك الكماليين لصلاة
البروتستانت حتى ملاحدتهم وطلاب التجديد الذين يعبرون عنهم بالمصلين، ولم أر
أحدًا استحسن ذلك منهم إلا إبراهيم بك الهلباوي المحامي المشهور وود أن يتبعهم فيه
جميع المسلمين، وقال لي: إنه قد أفتى هو والأستاذ الشيخ عبد العزيز جاويش
خوجه كمال الدين الهندي الذي يدعو إلى الإسلام في إنكلترة بأن يقبل من نساء
الإنكليز المسلمات أن يتركن السجود على الأرض في صلاتهن؛ لأن زيهن المحزق
(الضيق) يضايقهن فيه فاكتفى منهم بما دون ذلك وسأسأل الأستاذ جاويش عن
حقيقة هذه المسألة.
***
8-
رأي كُتَّاب الغرب والشرق في الانقلاب التركي:
نحن نوافق صديقنا الرافعي في أن أعداء الإسلام من ساسة أوربة
كالمستعمرين والمبشرين يشايعون الترك الكماليين، ويحمدون عملهم ويسمونه
إصلاحًا ويرغبون فيه، ولا غرو فإننا نرى ملاحدة المسلمين وزنادقتهم يفعلون
وينوهون به في الصحف ويسمون مصطفى كمال باشا المصلح المجدد، فما بالك
بكُتَّاب النصارى من الملاحدة ومن المتعصبين لملتهم في الباطن، فهؤلاء أشد نصرًا
للكماليين ونشرًا لمفاسدهم وترغيبًا لسائر المسلمين في اتباعهم حتى في لبس
البرانيط.
وأما أحرار أوربة وفلاسفتها فقد سخروا ولا يزالون يسخرون من إكراه
مصطفى كمال باشا للترك على لبس البرنيطة، ومن محبي الترك أو دولتهم في
ألمانية من رثى لهم وحزن عليهم، وصرَّح بأن القلبق التركي يفوق البرنيطة
الإفرنجية جمالاً ومهابة.
وانتقدوا تقليدهم لأوربة في قوانينها بترجمتها لتنفيذها في الشعب التركي
المباين للشعوب الأوربية في تاريخه وتربيته وعقائده وتقاليده وأخلاقه وعاداته،
وهي الأسس التي تبنى عليها القوانين وتجب مراعاتها في وضعها، ولا يرون لها
فائدة بدون ذلك، ويسخرون ممن يظن أن القوانين تغير الشعب وتنشئه خلقًا جديدًا
سريعًا كما يحاول مصطفى كمال باشا.
وقد نشرنا من قبل ما قاله لورد كتشنر للسيد عبد الحميد الزهراوي في مصر
على مشهد ومسمع منا، ونشرناه في حال حياتهما ونقلته عن المنار إحدى الصحف
الأوربية متعجبة من حرية اللورد كتشنر أو مستنكرة لقوله، قال له: إن الغرض
من القوانين العدل وهي لا تفيد في الأمم إلا إذا كانت موافقة لأخلاقها وتقاليدها
وعندكم الشريعة الإسلامية شريعة عادلة وهي الموافقة لحال أمتكم فما بالكم تتركونها
وتحاولون العمل بقوانيننا التي لم تكن موافقة لحال أمتنا إلا بعد تنقيح عدة قرون.
***
9-
حقيقة حال الشعب التركي:
يزعم الترك الكماليون تبعًا لزعيمهم أن الشعب التركي شعب عظيم راق لم
تعد تصلح له شريعة عتيقة كالشريعة الإسلامية، ويتجرأ الوقحون المجاهرون
بالإلحاد منهم على ذم هذه الشريعة وذم الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم الذي
جاء بها وذم قومه العرب في مقام الترفع عن صلاحيتها للشعب التركي العظيم،
وقد نقل إلي وأنا في الآستانة أن أحد باشاواتهم قال: لو أعلم أن شعرة في جسمي
تؤمن بهذا العربي (يعني خاتم النبيين وإمام المرسلين صلوات الله وسلامه عليه
وعلى آله) لقلعتها مع ما حولها من جلد ولحم وألقيتها.
أنا لا أعرض هنا للرد على هؤلاء المغرورين ببيان فضل الشريعة الإسلامية
على البشر عامة وعلى الترك خاصة، ولا بتحقير العرب بالمفاضلة بينهم وبين
الترك وذكر شهادة فلاسفة أوربة على ذلك، بل أقول كلمة حق وجيزة في حقيقة
حال الشعب التركي ربما أعود إلى بسطها في مقال آخر؛ إذ قد طال هذا المقال،
وربما صار مملولاً بضمه إلى ما قبله في موضوعه العام، وإن كان في الحقيقة عدة
مقالات مختلفة الموضوع.
الترك جيل حربي بالطبع، موصوف بعزة النفس، وشدة البأس، وحب
الغلب والسيادة، وهي صفات تعد أهلها لأن يكونوا من أرقى الشعوب لولا الموانع،
وقد كان همجيًّا في حروبه قاسيًا في معاملاته، مخربًا للعمران الذي يستولي عليه،
فهذَّبه الإسلام بقدر استعداده للتهذيب فكان له بالإسلام دولة عزيزة، ولكن الحرب
التي هي أقوى ملكاته لم تدع له وقتًا يصرفه إلى العلوم والفنون التي هي من لوازم
قوة الدولة وسعة سلطانها، وكان من أعظم أسباب حرمانه من الحضارة العلمية
الفنية أن لغته كانت لغة همجية ضيقة لا مجال للعلوم والفنون فيها، ولغرور الدولة
العثمانية بتركيتها لم تقتبس لغة الإسلام مع عقيدته وشريعته فتجعلها لغة الدولة
والعلم والفن بل حصرتها في المدارس الدينية والمشيخة الإسلامية بقدر الحاجة إليها
في فهم الشريعة على مذهب الحنفية التي اختارت تقليده.
وقد اقتبس الإفرنج من الحضارة الإسلامية علومها وفنونها بمخالطة العرب
في الأندلس وكذا في الشرق بسبب الحروب الصليبية ما لم يقتبس مثله الشعب
التركي لضعف استعداده وضيق لغته، فولدت الحضارة الأوربية الحاضرة مما
اقتبسه أهلها من المدنية العربية الغابرة كما اعترف بذلك المستقلون من فلاسفتهم
ومؤرخيهم، تلك المدنية العربية الزاهرة التي قضى عليها الترك بما مهَّد لهم بنو
عمهم التتار من التخريب والتدمير، فكانوا مصداقًا لقول رسول الله صلى الله عليه
وسلم فيما يعد من دلائل نبوته: (اتركوا الترك ما تركوكم فإن أول من يسلب أمتي
ملكهم وما خولهم الله بنو قنطوراء) .
الترك هم الذين وقفوا حضارة العرب ومدنيتهم وحالوا دون استمرارها بل
أماتوها بسلب ملكهم ولم يستطيعوا هم أن يحلوا محلهم فيها ولا أن ينشئوا حضارة
جديدة، وإنما استطاع ذلك الإفرنج، فكانوا كلما تقدموا في العلوم والفنون إلى الأمام
يرجع الترك إلى الوراء، حتى فقدوا تفوقهم العسكري في أوربة بجهلهم للفنون
العسكرية والصناعات الحربية التي استحدثها الإفرنج وعجزوا عن مضاهاتهم فيها
وعن اقتباسها منهم بل صاروا عيالاً عليهم ولا يزالون يبتاعون منهم الأسلحة
والبوارج الحربية فالطيارات الحديثة إلى اليوم، ولولا تنازع دول أوربة الكبرى
على ممالكهم ولا سيما مركز القسطنطينية لزالت سلطنتهم منذ قرون أو قرنين،
على أنهم ما زالوا ينقصونها من أطرافها حتى زالت بالحرب العالمية الأخيرة ولم
يبق لهم منها إلا عقرها في الأناضول وبعض الرومللي.
إن هذا الشعب على جهله الذي أضاع منه أعظم سلطنة (إمبراطورية) في
قلب العالم تولى أمرها بضعة قرون ولم يستطع أن يستخرج شيئًا من كنوز أرضها
الثمينة، ولا أن يجني منها ثروة تُذْكَر، ولا أن يترك فيها أثرًا عمرانيًّا يحمد، لم
يفقد بهذا الخسران المبين والجهل الفاضح شيئًا من كبريائه وعنجهيته ودعوى
زعمائه أنه أرقى شعوب الأرض فلا يليق به الخضوع لأعدل الشرائع وأكمل
الأديان (الإسلام) ولا أن ينسب إلى الشرق المنحط؛ لأنه مساو لأعظم دول
الغرب، وإنما الواجب عليه أن يقلدها في أزيائها وسائر لبوسها وشر عادتها كإباحة
المسكر ورقص النساء والرجال وإباحة الكفر والفواحش، ثم في قوانينها حتى
الشخصية منها، بل زاد في عهد الكماليين كبرًا وخنزوانة بما أتيح له من الانتصار
على اليونان، وما اليونان؟ وما قيمة الانتصار عليهم؟ لولا ما أتيح له من وراء
ذلك وهو اعتراف أوربة في معاهدة لوزان باستقلاله المطلق فيما بَقِيَ له من بلاده،
وإنما كان سبب هذا الاعتراف تنازع دول الحلفاء في سياسة الشرق الأدنى بعد
الحرب، حتى إن إيطالية وفرنسة ساعدتا الترك على حرب اليونان، وقام الشعب
الإنكليزي ينكر على دولته التي كانت تساعد اليونان سياستها هذه لملله وسآمته من
رزايا الحرب ورغبته في الاستراحة من عقابيلها، فأسقط وزارة جورج لويد
المعادي للترك المساعد لليونان وأكره خلفه على خلاف سياسته هذه.
هذا ما غر هؤلاء الترك الكماليين فحملهم على هذه الدعاوي العريضة وعلى
ما قاموا به مما يسمونه ويسميه الملاحدة المتفرنجون منا بالإصلاح والتجديد، فأما ما
كان منها في الأزياء والعادات وإباحة الكفر والفسوق فكله إفساد للأرواح والأخلاق
والآداب التي لا يحيا شعب بدون حياتها وصلاحها، وأما ما كان منها في ترقية
الزراعة والصناعة والنظام العسكري فإننا نعترف بأنه إصلاح لا بد منه، والدين
الإسلامي يوجبه ويحث عليه.
وأما القوانين المنتزعة من دول أوربة فهي في جملتها مُفسدة للشعب التركي
غير مُصلحة ولا مُعينة على الإصلاح لما أشرنا إليه من آراء علمائها في سبب ذلك،
وتقليد الترك لأوربة في قوانينها قديم ليس من مبتكرات مصطفى كمال باشا، فهم
قد توجهوا إلى ذلك من عهد السلطان محمود الذي ولي السلطنة سنة 1222 وبدءوا
بالتنظيم العسكري والزي الأوربي ما عدا البرنيطة، ثم جددوا ذلك بإعلان
التنظيمات الخيرية في أول عهد السلطان عبد المجيد الذي ولي سنة 1255 مما
قامت ثورة المتفرنجين في آخر مدة السلطان عبد العزيز الذي استعصى عليهم
بشجاعته وقوة إرادته
…
ثم أعلنوا القانون الأساسي عقب تولية السلطان عبد الحميد
سنة 1293 أي منذ نصف قرن، وهو على توقيفه له قد نشر باسمه عدة قوانين
مقتبسة من قوانين أوربة (كما انتشرت المدارس الأوربية للمبشرين بالنصرانية
الأميرية المتفرنجة) ولم تزدد العدالة بتلك القوانين والمدارس إلا ضعفًا ومرضًا،
وما ذلك إلا لأنها تقليد صوري لأوربة سببه توهم المغرورين من الترك أنهم
يساوونها به وإن لم يكن أكثره موافقًا لحال شعبهم، على أنهم لم ينفذوا شيئًا منه كما
يجب، كما أنهم لم ينفذوا الشريعة، بل كان مدار أحكامهم ومحاكمهم على الرشوة
التي تحاول حكومتهم استئصالها؟ وأول ما فعلته في ذلك محاكمة وزير بحريتها
السابق وبعض كبراء رجالها على رشوة عظيمة في وزارة البحرية.
وجملة القول أن الترك قد دخلوا الآن في فتنة تجربة جديدة واسعة النطاق
شديدة الخطر يظن زعماؤهم من القواد الحربيين أنها منهم على طرف التمام؛ لأن
العقيدة الغريزية فيهم أن القوة العسكرية تعمل كل شيء، فلننتظر عاقبة هذه
التجربة بعد فشلهم في جميع التجارب الماضية، فإنما العلم بها عند الله تعالى وإنما
نعرف نحن بعض أسباب الأمل والفشل.
فأما أسباب الأمل فهي محصورة في قوة إرادة الزعماء مع ضعف الشعب،
وفي كثرة أعوانهم المتفقين معهم على خطتهم كما تقدم، وفي تمكنهم من إبعاد القواد
والضباط ورجال الإدارة والقضاء المخالفين لها عن المعسكرات ودواوين الحكومة
بالقوة القاهرة، وفي بناء كثير من أعمالهم العسكرية والاقتصادية على قواعد الفنون
العصرية.
***
وأما أسباب الفشل فالمعروف عندنا منها:
(1)
أن السواد الأعظم من الشعب الذي يدين الله تعالى بالإسلام تقليدًا
ووجدانًا لا يقبل الجدال ساخط على هذه الحكومة لشعوره بأنها تهدم دينه الذي هو
مناط أمله في سعادة الآخرة، وكذا الدنيا، فإن ما ناله من الملك والعظمة لم يكن إلا
بالإسلام.
(2)
ما أصيب به الشعب من الفقر والعوز وعجزه عن أداء ضرائب
الحكومة الكثيرة التي زادت سخطه عليها.
(3)
عجز الحكومة عن القيام بما تصدت له من الأعمال النافعة المنتجة
كسكك الحديد وغيرها بكثرة نفقاتها على التأسيسات العسكرية ومظاهر العظمة
المدنية على ما ذكرنا من فقر شعبها وإرهاقها إياه بما فوق طاقته، وإحتكارها لأهم
ينابيع ثروته.
(4)
تربص كثير من كبار رجال العسكرية والإدارة بها الدوائر لإسقاطها
وإرضاء الشعب بحكومة ترضيه في دينه ودنياه.
(5)
غرور زعماء هذه الحكومة بقوتهم واستعجالهم في هدم دين هذا
الشعب العظيم وتقاليده ومجد سلفه، وقد يكون مع المستعجل الزلل.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
المطبوعات الجديدة
كتب دينية إسلامية
(التعريف بالنبي والقرآن الشريف)
طبع بمطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة سنة 1345 صفحاته 110 بقطع
رسالة التوحيد.
كتاب نفيس مختصر مفيد، تأليف صديقنا صاحب الفضيلة الأستاذ السيد
محمد علي الببلاوي نقيب السادة الأشراف بالديار المصرية، ومراقب إحياء الآداب
العربية بدار الكتب المصرية وموضوعه كما علم من اسمه قسمان في كل منهما
مسائل مهمة وضع لكل منهما عنوان لتسهل الفهم والمراجعة.
فالقسم الأول وهو في التعريف بالنبي صلى الله عليه وسلم يشتمل على مسائل
نسبه وميلاده ووفاة والديه وحضانة جده له وكفالة عمه أبي طالب، وعلى نشأته
وتأديب الله له وبغضه للوثنية وأكله من ثمرة عمله وخطبة السيدة خديجة له
وتزوجه بها وعلى تعبده بغار حراء وظهور ملك الوحي له فيه وتفصيل خبر الوحي
المعروف في البخاري وغيره وتبليغ الرسالة وإيذاء قريش له، ولمن آمن به ثم خبر
الهجرة وما تقدمها من انتشار الإسلام في الأنصار رضي الله عنهم ثم تصدي قريش
لقتاله فيها، وإذن الله تعالى له بالقتال دفاعًا وتأمينًا لدعوته السلمية المبنية على
أساس الدليل والبرهان فقتاله لهم إلى أن نصره الله تعالى عليهم بفتح مكة والقضاء
على الوثنية في جزيرة العرب.
ويلي هذا طرف من أخلاقه العظيمة صلى الله عليه وسلم فالكلام على عموم
رسالته، وحجة القرآن الدائمة عليها، فالكلام على شريعته وما فيها من أصول
الإصلاح التي كانت بها آخر الشرائع، فالكلام على معناه، وأنواعه ووجود
الملائكة.
وأما القسم الثاني وهو التعريف بالقرآن الكريم فيدخل في مسائله التحدي به
والعجز عن معارضته وما تضمنه ووصفه ونزوله منجمًا ومدة نزوله وعدد سوره،
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بحفظه ومعنى نزوله على سبعة أحرف (وتحرير
هذه المسألة هو سبب هذا التأليف) فالكلام في كتابته على عهد النبي صلى الله عليه
وسلم وترتيبه فالكلام على جمعه وتدوينه وكتابته في المصاحف وإرسالها إلى
الأمصار ومباحث في كتابته وشكله وعناية المسلمين في كل عصر بكتابتهم له على
الأحرف السبعة.
وختم الكتاب ببيان موجز لما اشتمل عليه القرآن من الأحوال الشخصية
والشئون العمرانية كمسائل الزوجية من المساواة بين الزوجين وتعدد الزوجات
بشرطه والطلاق للحاجة إليه ونظام التوريث وحقوق الوالدين والوصية باليتامى
والاقتصاد والاتحاد والشورى في الأمور وغير ذلك، وهو كما قال قليل من كثير.
جمعت كل هذه المباحث النفيسة في 110 صفحات.
وفي الكتاب مقتبسات من نور رسالة التوحيد للأستاذ الإمام شيخنا وشيخ
المؤلف أثابه الله وأدام النفع بآثاره الصالحة فنحث كل مسلم على مطالعته وقراءته
لأهله وأولاده.
***
(كتاب الدين الإسلامي)
(طبع بمطبعة الرحمانية سنة 1346 صفحاته 98 بقطع رسالة التوحيد) .
كتاب جديد، مختصر مفيد، يتعاون على تأليفه وتحريره ثلاثة من خيار
أساتذة المدارس الأميرية العليا ونابغي خريجي دار العلوم وهم أصدقاؤنا الأستاذ
الشيخ حسن منصور وكيل مدرسة القضاء الشرعي، والشيخ عبد الوهاب خير
الدين المدرس بمدرسة القضاء الشرعي والشيخ مصطفى عنان المفتش بوزارة
المعارف.
وقد نشر الجزء الأول منه في العام الماضي وروعي فيه ما قررته وزارة
المعارف في تعليم الدين للسنة الأولى من طلبة المدارس الثانوية وموضوعه العقائد
وما يتعلق بها من حكمة التشريع وأصول الآداب للدين الإسلامي، ورأينا أن عمدة
الأساتذة المؤلفين لهذا الكتاب في أهم مسائله رسالة التوحيد للأستاذ الإمام أستاذ
الجميع رحمه الله.
ومن العجيب أن جميع أبحاثه في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي
القرآن الحكيم منقول من كتاب (التعريف بالنبي والقرآن الشريف) للسيد الببلاوي
بنصوصه وعناوينه كما رأيت وهو مثله مقسم أحسن تقسيم ومُبَوَّب أجمل تبويب،
وإن لم تسم أصول مباحثه بالأبواب، ولم تقرن بأرقام العدد ولا بحروف أبي جاد،
وهي:
أ- الدين الإسلامي تعريفه وخصائصه الخمس:
(1)
احترام العقل والحث على علوم الكون.
(2)
المساواة بين الناس في الأحكام، وما يطلب من طاعة الحكام.
(3)
تقرير السلام العام ومن مباحثه حال الإسلام مع غير أهله وحرية
الزوجة في العقيدة، ويعنون به إباحة تزوج المسلم بالكتابية مع بقائها على دينها
تؤدي عباداته كما تعتقد إلخ.
(4)
الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة.
(5)
صلاحيته لكل أمة في كل زمان ومكان.
ب- أثر الدين في تهذيب النفس بعقائده وعباداته وآدابه ومعاملاته.
ج- الرسالة والرسل عليهم السلام.
د- المعجزة ومعناها وسبب إظهارها ووجه دلالتها على الرسالة.
هـ- الحاجة إلى الرسالة وبيانها من طريقين ملخص مما هو مشروح في
رسالة التوحيد.
و أقسام المعجزة وأفردت بفصل خاص.
ز- رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مبدوء بترجمته في بيان نسبه
ومولده وتربيته وتجارته وزواجه وعبادته وبينها بدؤه خبر الوحي ففترته فتبليغ
الدعوة فإيذائه صلى الله عليه وسلم لأجلها فتصدي المشركين لحربه فالإذن له بالقتال
وغزواته ونصر الله له.
طرف من أخلاقه صلى الله عليه وسلم فخبر وفاته وملخص سيرته صلى الله
عليه وسلم عموم رسالته وبيان كونه خاتم النبيين ونسخ شريعته لما قبلها، والوحي
وأنواعه، ويليه الكلام في القرآن الكريم، وفيه مباحث متعددة - وهي وما قبلها من
مباحث نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم مأخوذة من كتاب السيد الببلاوي كما تقدم،
ولكنه ختم بطائفة من الآيات وعشرة أحاديث مختارة لأجل حفظهما، والكتاب جدير
بالتدريس في المدارس الإسلامية الثانوية كلها.
***
(كتاب الإسلام الصحيح)
(طبع مطبعة المنار سنة 1345 صفحاته 123 من قطع المنار يباع بمكتبة
المنار) تأليف صديقنا الأستاذ الفاضل الشيخ سعيد بن محمد الشريف
الزواوي الجزائري الإمام الخطيب بجامع سيدي رمضان بمدينة الجزائر، حمله
على تأليفه فيما نرى ما حدث في بلاد الجزائر في هذا العهد من النهضة الإسلامية؛
إذ قام فيها بعض أهل العلم بمقاومة خرافات أهل الطريق ودجلهم والتقاليد المبتدعة
وأنشئت لذلك صحف مخصوصة قامت بالواجب قيامًا يفوق ما كنا نظن في هذه
البلاد، وقد تناولتها بعض الصحف الخرافية وعارضتها بنشر الثناء على بعض
رجال الصوفية ومشايخ الطرق وأصحاب الزوايا المعروفة، وقد وقف صاحب هذا
الكتاب موقفًا وسطًا بين المختلفين بنشر كتاب في التعريف بالإسلام أصوله وفروع
عبادته وآدابه، مع ميل ظاهر لتأييد ما كان عليه السلف الصالح بعبارات لطيفة
فهو من أنصار الإصلاح الإسلامي المعتدلين.
وقد بدأ كتابه ببيان العقائد الإسلامية من التوحيد والرسالة وقَفَّى عليه بذكر
أصوله وينابيعه ومآخذ أحكامه وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس وقَفَّى عليه
بتعريف الإيمان والإسلام، ثم بالكلام على الصلاة والطهارة وما يتعلق بهما وتكلم
بمناسبة وجوب ستر العورة في مسألة حجاب النساء التي اضطرب فيها مسلمو
الأمصار في هذا العهد كلامًا معتدلاً بين إفراط الحجازيين وتفريط السفوريين، ثم
تكلم في سائر أركان الإسلام من الزكاة والصيام والحج، فبيَّن ما رآه ضروريًّا
لجماهير المسلمين من ذلك كله في 32 صفحة من الكتاب.
ثم انتقل إلى بيان الأحكام الإسلامية العامة التي جهلتها جماهير الأمة من
إسلام السلف وإسلام الخلف وكون الإسلام دينًا ذا أحكام وقوانين، وعرف الحكم
الشرعي وأحكام التكليف الخمسة من وجوب وندب وتحريم وكراهة وإباحة، وقَفَّى
عليه بالحكم العقلي والحكم العادي، وانتقل من ذلك إلى بيان معنى المذهب وعدد
المذاهب والبحث في إمكان وحدتها وعدمه والتفضيل بينها والتقليد لها هل يجوز أم
لا؟
ثم انتقل من هذا إلى مباحث التصوف والصوفية وكشفهم ومذاهبهم وما لا
حجة لهم فيه، كالكشف الذي هو أساس معارفهم وقد اجتمعت الأمة حتى علماء
الصوفية منهم على أنه ليس بحجة شرعية، ولا يجوز أن يُبْنَى عليه حكم شرعي،
ثم تكلم في الشيعة الظاهرية والباطنية فأصحاب الطرق واختلافهم، والبحث في
صحة إسلامهم واستغناء الإسلام والمسلمين عن طرقهم، وفي معنى الولي والولاية،
والكرامات، والسحر، والطلسمات والكرامات المزوَّرة، وما يتعلق بالأولياء
وقبورهم من البدع والضلالات وديوان الأولياء، وما أحدثه غلاة المتصوفة
الممتزجين بالشيعة والروافض من القول بعصمة الأئمة والمهدي المنتظر، وختم
ذلك ببيان الفرق الضالة.
ثم أتى بفصل لبعض الصالحين في الأخلاق المذمومة والأخلاق المحمودة،
وقَفَّى عليه بالكلام في كبائر المعاصي والإسلام الصحيح والفرقة الناجية وفرقة
الإسماعيلية الباطنية ودولة الفاطميين والموحدين، وبذلك ختم الكتاب، ولا نقول:
إنه وفَّى هذه المباحث حقها من التمحيص والتحقيق في هذه الورقات، وإنما جاء
بخلاصة قريبة المأخذ يقل أن يجدها الجمهور مجموعة في كتاب مثله في اختصاره
وسهولته.
طبع هذا الكتاب بمطبعة المنار صديق المؤلف صديقنا الفاضل وأحد قدماء
قراء مجلتنا السلفي الغيور الحاج محمد المانصالي من كبار تجار الجزائر ووجهائها
ابتغاء نشر الدين والعلم، وهو يباع في مكتبة المنار بمصر وثمن النسخة منه خمسة
قروش أميرية.
***
(الإحكام في أصول الأحكام)
الإمام أبو محمد علي (ابن حزم) الأندلسي من أجلّ أئمة المسلمين حفاظ
السنة وفقهاء الملة، وكتابه الإحكام في أصول الأحكام من أجلّ كتب أصول الفقه،
كما أن كتابه (المحلى) من أجلّ كتب الفروع، بل فضَّله سلطان العلماء العز بن
عبد السلام على جميعها هو والمغني للعلامة ابن قدامة الحنبلي.
ونبشر القراء بأن كتاب الإحكام يطبع الآن بمطبعة السعادة بمصر (على نفقه
مكتبة الخانجي) طبعًا جميلاً على ورق جيد، وقد صدر منها جزآن صغيران الأول
في سنة 1345 والثاني في سنة 1346 في كل منهما زهاء 150 صفحة فقط،
وهذا التقسيم للكتب الكبيرة قد اخترعه فيما نعلم الشيخ منير الدمشقي تاجر الكتب
الشهير، وهو مفيد في ترويجها وتسهيل الاشتراك فيها ومسهل لمطالعتها، ولكنه
عائق عن المراجعة بها بعد جمعها في المجلدات الكبيرة؛ إذ جعل لأوراق كل جزء
منها أرقامًا خاصة به كما فعل أصحاب مكتبة الخانجي في كتاب الأحكام على براعة
والدهم الأستاذ محمد أمين الخانجي في فن الطباعة ونشر الكتب.
وقد تولَّى تصحيح الكتاب صديقنا الأستاذ الفاضل الشيخ أحمد محمد شاكر أحد
قضاة الشرع المشهورين، فمن أراد اقتناءه والتعجل بالاستفادة مما صدر ومما
سيصدر منه قبل تمامه فليراجع (مكتبة الخانجي) للاشتراك فيه وهي مشهورة في
شارع عبد العزيز بمصر، وسنبين فضله ومزاياه بعد تمام طبعه إن شاء الله تعالى.
***
(كتاب إرشاد الخواص والعوام لفعل الواجب وترك الحرام)
(طبع المطبعة الأهلية بالجزائر سنة 1345 صفحاته 111من قطع المنار)
كتاب جليل في نصوص الكتاب والسنة الواردة في النهي عن المعاصي
والأمر بالطاعات أو الترهيب والترغيب (تأليف العالم الفاضل السيد محمد بن عبد
الله ملين) من علماء الجزائر ذكر فيه 31 معصية وزهاء ستين طاعة أو أكثر،
وقد سرد كلاًّ من النوعين سردًا حسب ما اتفق فلم يراع فيها ترتيبًا خاصًّا وهو يعزو
كل حديث إلى من خرَّجه من جامعي كتب السنة كالشيخين وأصحاب السنن وغيرهم،
نفع الله بكتابه وأجزل من ثوابه.
***
(بيان مشروعية الحجاب)
رسالة مختصرة لصاحب الفضيلة، والمزايا الجميلة، محامي الشريعة،
ومجاهد البدع والمعاصي الفاشية، صديقنا الأستاذ الشيخ مصطفى نجا مفتي بيروت،
كتبها بمناسبة ما فشا من تهتك النساء، ودعوة المتفرنجين إياهن إلى هتك
الحجاب، ذكر فيها خلاصة أقوال المفسرين والفقهاء المتعلقة بالموضوع وفنَّد فيها
شبهات السفوريين، وأودعها بعض أقوال علماء أوربة للشرق من غير المسلمين
في الثناء على الشريعة الإسلامية، وقد طبعت في المطبعة الوطنية ببيروت وتوزع
فيها مجانًَا، فجزى الله كاتبها وطابعها وناشرها خير الجزاء.
***
(مجلة الإصلاح)
(صحيفة دينية علمية اجتماعية أخلاقية) تصدر في مكة المكرمة مرتين في
كل شهر، عدد صفحات الجزء منها 24 صفحة من القطع الكبير مديرها الأستاذ
الشيخ محمد الفقي الأزهري رئيس شعبة الطبع والنشر بمكة، وقيمة الاشتراك
السنوي فيها ثلاث ريالات سعودية في الحجاز ونصف جنيه إنكليزي في خارجه،
وقد صدر منها ثلاثة أجزاء أولها في 15 صفر سنة 1347 والثاني في 15 والثالث
30 ربيع الأول منه، وقد استغربنا جعل أرقام كل جزء منها مستقلة غير تابع
ثانيها لأولها، وثالثها لثانيها مع أن مديرها مختبر لأعمال الطبع بما كان من اشتغاله
بالتصحيح في المطبعة السلفية بمصر واختبار شئونها.
وأما موضوع المجلة فهو الإصلاح الإسلامي كما يدل عليه اسمها، وقد ذكر
مديرها في فاتحة الجزء الأول منها أنه كان يتمنى أن يصدر صحيفة دينية علمية
(تضم صوتها إلى صوت المصلحين وتتعاون وإياهم على ما هم بسبيله من دعوة إلى
الحق وإرشاد إلى الصلاح) وذكر أن اتساع دائرة الفساد تدعو إلى إمداد جيش
الإصلاح بما يقوى به على مقاومة هذا الفساد، ثم ذكر أنه لما سنحت له الفرصة
بمقابلة الإمام عبد بالعزيز بن السعود تحدث إلى جلالته بذلك فأجابه الإمام جوابًا
مسهبًا في وجه الحاجة إلى هذا العمل، وما يشترط مراعاته فيه ووعد بالمساعدة
عليه لمن يقوم به على الوجه الذي ذكره، وقد نشره بنصه المفيد فالتزم له ذلك
وشرع فيه.
وكان مما عُني به فيها نشر تفسير للقرآن الغرض من نشره (فهم القرآن من
حيث هو دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم في حياتهم الأولى والآخرة إلخ) فهو
ينحو فيه نحو ما نذكره في الترجمة عن تفسير المنار، بل موضوع مجلة الإصلاح
بعض ما بيناه من مقاصد مجلة المنار عند إنشائها في سنة 1315 فنتمنى أن تكون
خير عون لنا وخير نصير، وقد زارنا مديرها الفاضل فكاشفناه بأهم ما تجب
مراعاته في تحريرها وما نراه من أسباب رواجها، ونسينا أن نذكر له مسألة أرقام
صحائفها فلذلك ذكرناه هنا، وإذا رأينا بعد ذلك حاجة إلى بعض النصائح فلا نبخل
على (الإصلاح) بها.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
امتناع بعض علماء الصحابة عن التحديث
وجعل الحديث من أصول التشريع
س27 من حضرة الأمير شكيب أرسلان الشهير بلوزان (بسوسرة أوربة)
حضرة الأستاذ الإمام مَفْزَع الإسلام، في المشكلات الجسام، السيد محمد
رشيد رضا أدامه الله لهذه الأمة علمًا هاديًا، آمين.
إن في الجزء الأول من المجلد التاسع والعشرين من المنار بحثًا من أهم ما
جالت فيه أقلام جهابذة الأصوليين هو المتعلق بأحاديث الصحيحين، وما قيل من
أغلاطها، ورواية أبي هريرة والفرق بين أحاديث التشريع وغيرها فقد قرأت هذا
البحث مع وفرة شواغلي مرتين أو ثلاثًا، ولا أزال عطشان إلى هذا المنهل العذب
ومترقبًا صدور الكتاب الجديد الذي وعدتم بإخراجه تحت اسم (يسر الإسلام
وأصول التشريع العام) ، ولقد أخذ بمجامع فؤادي قولكم: (إن صحيح البخاري
أصح كتاب بعد كتاب الله ولكنه ليس معصومًا هو ورواته من الخطأ وليس كل
مرتاب في شيء من روايته كافرًا) .
إني لست بمحدث وليس لي حق أن أبدي وأعيد في الحديث الشريف إلا على
سبيل الاستفادة، ولذلك أرجوكم أن تتفضلوا علينا برأيكم في الروايات الآتية وهي:
في الجزء الثالث من طبقات ابن سعد الكبرى الصفحة 74 عن عامر عن عبد
الله بن الزبير عن أبيه قال: قلت للزبير: ما لي لا أسمعك تُحَدِّث عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كما يُحَدِّث فلان وفلان قال: أما إني لم أفارقه منذ أسلمت،
ولكنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كذب عليَّ فليتبوأ مقعدًا
من النار) .
فظاهر هنا أن الزبير كان يعتقد أنه مهما كانت حافظة الراوي من القوة فلا
يستطيع أن يعيد ما سمعه بدون زيادة أو نقصان، وأنه كان يخشى أن يزيد على
رسول الله أو ينقص من كلامه فتحامى الحديث كله تقريبًا.
وفي صفحة 102 من الجزء المذكور عن السائب بن يزيد أنه صحب سعد بن
أبي وقاص من المدينة إلى مكة قال: فما سمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه
وسلم حديثًا حتى رجع، ثم عن يحيى بن عباد عن شعبة: دخلوا على سعد بن أبي
وقاص فسئل عن شىء فاستعجب فقال: إني أخاف أن أحدثكم واحدًا فتزيدوا المائة.
فهذا صحابي عظيم أيضًا كالزبير وكلاهما من العشرة يعتقد أن الحديث مهما
يكن راويه ثقة يتطرق إليه الزيادة والنقصان.
وفي الصفحة 110 من الجزء المذكور عن عمرو بن ميمون قال: اختلفت
إلى عبد الله بن مسعود سنة ما سمعته فيها يحدث عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم ولا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه حدَّث ذات يوم بحديث
فجرى على لسانه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلاه الكرب حتى رأيت
العرق يَتَحَدَّر عن جبهته ثم قال: إن شاء الله إما فوق ذاك أو قريب من ذاك وإما
دون ذاك.
وفي الصفحة 111 من الجزء الثالث من الطبقات أخبرنا المعلى بن أسد قال
أخبرنا عبد العزيز بن المختار عن منصور الغداني عن الشعبي عن علقمة بن قيس
أن عبد الله بن مسعود كان يقوم قائمًا كل عشية خميس فما سمعته في عشية منها
يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة واحدة قال: فنظرت إليه -
وهو معتمد على عصى- فنظرت إلى العصى تزعزع، قال: أخبرنا مالك بن
إسماعيل قال: أخبرنا إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن عامر عن مسروق عن عبد
الله قال: حدَّث يومًا حديثًا فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم
أرعد وأرعدت ثيابه ثم قال: أو نحو ذا أو أشبه ذا.
ومعلوم أن عبد الله بن مسعود كان لا يفارق الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه
كان أتبع له من ظله وأولى الناس بالرواية عنه، وهذا مشربه في الحديث، وقد
ذكرتم في ذلك البحث نهي الإمام عمر عن التحديث.
وجاء في الجزء الخامس من طبقات ابن سعد أيضًا صفحة 140 رواية عن
عبد الله بن العلاء: سألت القاسم بن محمد أن يملي عليَّ أحاديث فقال: إن
الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب فأنشد الناس أن يأتوه بها فلما أتوه بها
أمر بتحريقها، ثم قال: مثناة كمثناة أهل الكتاب قال: فمنعني القاسم بن محمد
يومئذ أن أكتب حديثًا.
وهذا هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق المشار إليه بالبنان بين التابعين
بالفضل والعلم والورع.
فلماذا بعد هذه الدلائل كلها لا يزال علماء الدين يتخذون الصحيحين وغيرهما
من كتب الحديث مراجع في الشرع ويعتقدون أن مجرد توفر الشروط في الصحة
كاف لجعل الحديث ثابتًا لا شبهة فيه كأن سامعيه تلقوه رأسًا من فم رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
أفلا يرون أن ثلاثة من أجلّ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عبد
الله بن مسعود بمكانه من الورع والصدق والعلم بالدين لم يكونوا يحدثون تقريبًا ولم
يكونوا يركنون إلى أنفسهم أن تبدر من ألسنتهم كلمة في سياق حديثهم عن
المصطفى لم يكن صلى الله عليه وسلم قالها.
فلماذا لا نقتدي بهم ولا نزال نجعل صحة الحديث بمجرد توفر الشروط قضية
مسلمة؟
إن هؤلاء الأئمة الذين هم من أجلّ أصحاب رسول الله وألزمهم له، والذين
هم طليعة من نشروا الإسلام وأسسوا بوانيه لم يكن بينهم وبين الرسول واسطة
ولقد وتكاءدهم التحديث عنه خوف الزيادة أو النقصان.
فكيف يجب أن نثق في صحة الأحاديث الواصلة بالأسانيد العديدة المتسلسلة
من عدة قرون ونبني عليها الأحكام، ونقول: هذا حلال وهذا حرام، ومن لم يؤمن
بهذا فقد كفر بالإسلام.
…
...
…
...
…
... لوزان 22 ذي العقدة سنة 1346
…
...
…
...
…
... شكيب أرسلان
(جواب المنار)
إن المروي عن علماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم من اتقاء التحديث، بل
من النهي عنه، وعن كتابة الحديث ومن تحريق ما كتب بعضهم منه أو الأمر
بتحريقه هو أكثر مما ذكر الأمير السائل في المسألة الأولى، وقد بسطنا ذلك في
المجلد التاسع والعاشر والحادي عشر من المنار كما سيأتي، ولو لم يكن في المسألة
إلا ما نقله عن طبقات ابن سعد لكان للمعارضين له أن يقولوا: إن هؤلاء الذين نقل
عنهم ابن سعد ما نقل قد ثبتت روايتهم لكثير من الأحاديث، فعبد الله بن مسعود له
في صحيح البخاري وحده 85 حديثًا على شدة تحرِّي البخاري وصعوبة شرطه في
جامعه الصحيح، ولو لم يرو المحدثون عن ابن مسعود إلا هذا العدد لكان غير
معارض لتحريه في التحديث وقلة روايته فإنه من قدماء الصحابة وأكثرهم سماعًا من
الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن له في سائر كتب السير والمسانيد روايات أخرى
كثيرة وأما الزبير فلم يرو عنه البخاري في صحيحه إلا سبعة أحاديث، وروى فيه
عن سعد بن أبي وقاص عشرين حديثًا، وهذا أدل على ما ذكر من تحاميهم للتحديث،
وإنما كان لداعية قوية لا خوفًا من الخطأ فقط بل لأمر أعظم.
عرض للبحاثة المرحوم الدكتور محمد توفيق صدقي ما عرض لبعض
الباحثين قبله وكذا بعده من أن الإسلام هو القرآن وحده، وأن الأحاديث كانت
تشريعًا موقتًا لأهل عصر النبوة بدليل عدم كتابة أهل الصدر الأول من الصحابة لها
كالقرآن وعدم تبليغها للناس وأمرهم بالعمل بها بل بدليل نهي النبي صلى الله عليه
وسلم عن كتابة شيء عنه غير القرآن ونهيه عن كثرة السؤال؛ لئلا تكثر الأحكام
فترهق الأمة من أمر دينها عسرًا ونهي بعض علماء الصحابة عن كتابة الحديث
أيضًا، وأحب الدكتور أن يعرض هذا الرأي على علماء المسلمين ويطالبهم ببيان
الحق فيه فنشرناه له في المجلد التاسع من المنار (ص515) وطالبنا علماء الأزهر
وغيرهم بالرد عليه لبيان الحق في المسألة، وإزالة الشبهات التي تعرض لكثير من
الناس فيها، فرد عليه الشيخ طه البشري من علماء الأزهر وعالم عربي مقيم في
الهند اسمه الشيخ صالح اليافعي ورد هو على ما كتبوه، وقد نشرنا رد العالم
الأزهري في ص 699 - 711، 712 من المجلد التاسع أيضًا ثم رد محمد توفيق
صدقي عليه في ص 906 منه وَقَفَّيْنَا عليه بحكم المنار بين المتناظرين في (ص
925 -
930) منه حكمنا الخلاف حكمًا أذعن له الدكتور محمد توفيق صدقي
وغيره ولم يرد عليه أحد من المتناظرين ولا من غيرهم وسنذكر خلاصته، وأما رد
الأستاذ الشيخ صالح اليافعي فقد نشرناه في عدة أجزاء من المجلد العاشر.
ثم إن صديقنا المرحوم رفيق بك العظم كتب بحثًا موضوعه (التدوين في
الإسلام) وألقاه في نادي المدارس العليا في القاهرة وجمع فيه ما وقف عليه في
كتب التاريخ من كتابة الحديث وغيره، فاقترح علينا بعض قراء المنار نشر ذلك
البحث والتعليق عليه بما يبدو لنا من استدراك أو انتقاد، كما اقترح علينا كل من
الدكتور محمد توفيق صدقي ومناظره الشيخ صالح اليافعي وغيرهم تمحيص كتابة
الحديث التي تجاذبها المتناظران في موضوع بحثه.
فإجابة للاقتراحات نشرت خطبة رفيق بك في الجزء العاشر من مجلد المنار
العاشر، وعلقت عليها أهم ما رأيته منتقدًا فيها، ثم انتقلت إلى مسألة كتابة الحديث
فبدأت بنشر ما جمعه الحافظ ابن عبد البر في كتابه (جامع بيان العلم) من النهي
عن الكتابة وكراهيتها ومن الرخصة فيها، وقد جمع من الروايات ما لم يجمع غيره
فيها. نشرت البابين اللذين أوردهما بحذف أسانيده نقلاً عن مختصره في أربع
ورقات، واستدركت عليه روايات لغيره في النفي والإثبات، ثم عقدت فصلاً
للتعادل والترجيح بين الروايات المتعارضة في الأمر بالكتابة والنهي عنها عند تعذر
الجمع بينها، وذلك في ورقتين أي أربع صفحات من الجزء العاشر من المجلد
العاشر من المنار (راجع كل ذلك في ص 743 - 768 م10) ثم أتممت هذا
البحث بفصل آخر موضوعه (نهي الصحابة ورغبتهم عن الرواية) مع بيان تأويل
العلماء لذلك النهي والحكم فيه نشرته في الجزء التالي أي الحادي عشر (ص
849 -
854 م10) فمن أراد الوقوف على هذا التفصيل كله في المسألة فليراجع
صفحات الجزءين التي بينا أرقامها آنفًا، وفيه الجواب المفصل عما سأل عنه
الأمير شكيب في الموضوع.
ولا بأس بأن نقول فيه كلمة مجملة لمن لا يتيسر له تلك المراجعة: إن دين
الإسلام هو القرآن كتاب الله تعالى وما بيَّنه به رسوله صلى الله عليه وسلم من فعل
وقول صار سنة متبعة بالعمل أو التبليغ العام في الدعوة إلى الإسلام وبيانه للناس
من أصحابه رضي الله عنهم، وأما الأحاديث التي لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم
بتبليغها ولا عني خلفاؤه وعلماء أصحابه بتبليغها للناس على أنها من دينهم ولم
تصر سنة متبعة بعمل جمهورهم بها إما لأن الحديث منها كان خاصًّا بمن خوطب
به من تشديد أو تخفيف اقتضته حاله أو لأنه لم يقصد به التشريع أو لغير ذلك ثم
رواها التابعون عن أفراد منهم روايات آحادية لم تتواتر فهي لا تعد تشريعًا عامًّا
لبيان دين الإسلام بحيث يجب على الأمة وأئمتها تبليغه والأخذ به.
على أن فيما صح منها لنقاد الرواية وبعض ما صح متنه ولم يصل سنده إلى
درجة الصحيح، ولم يسقط إلى حد الموضوع أو الواهي من الهداية والحكم ما لا
يسع من بلغه من المسلمين إلا أن يهتدي به.
وإنني ألخص بعض المسائل مما كتبته في المجلد العاشر أي منذ اثنتين
وعشرين سنة على سبيل النموذج والإيضاح لهذه الخلاصة (ص 66 - 768) .
قلت هنالك: إن أصح ما ورد في المنع من كتابة الحديث ما رواه أحمد في
مسنده ومسلم في صحيحه وابن عبد البر في كتاب العلم وغيرها عن أبي سعيد
الخدري مرفوعًا (لا تكتبوا عني شيئًا إلا القرآن فمن كتب عني غير القرآن
فليمحه) .
وإن أصح ما روي في الإذن به حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما
مرفوعًا (اكتبوا لأبي شاه) وقد بينت أنه لا يعارض حديث أبي سعيد وما في معناه
على قاعدتنا التي مدارها على أن نهيه صلى الله عليه وسلم عن كتابة حديثه مُرَاد
به أن لا يتخذ دينًا عامًّا كالقرآن، وذلك أن ما أمر بكتابته لأبي شاه هو خطبة
خطبها صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة موضوعها تحريم مكة ولقطة الحرم، وهذا
من بيانه صلى الله عليه وسلم للقرآن الذي صرَّح به يوم الفتح، وصرح به في
حجة الوداع، وأمر بتبليغه فهو خاص مستثنًى من النهي العام، وقد صرَّح البخاري
في باب اللقطة من صحيحه بأن أبا شاه اليمني طلب أن تكتب له الخطبة المذكورة
فأمر صلى الله عليه وسلم بإجابة طلبه، وقد قلت هنالك:
(ولو فرضنا أن بين أحاديث النهي عن الكتابة والإذن بها تعارضًا يصح أن
يكون به أحدها ناسخًا للآخر لكان لنا أن نستدل على كون النهي هو المتأخر بأمرين:
أحدهما استدلال من روي عنهم من الصحابة الامتناع عن الكتابة، ومنعها بالنهي
عنها، وذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وثانيهما عدم تدوين الصحابة
الحديث ونشره ولو دونوا ونشروا لتواتر ما دونوه.
(فعزيمة علي رضي الله عنه على من عنده كتاب أن يمحوه وقول أبي سعيد
الخدري رضي الله عنه: (تريدون أن تجعلوها مصاحف) وقول عمر بن الخطاب
عند الفكر في كتابة الأحاديث أو بعد الكتابة: (لا كتاب مع كتاب الله) وفي
الرواية الأولى - وقوله في الرواية الثانية بعد الاستشارة في كتابتها: (والله إني لا
أشوب كتاب الله بشيء أبدًا) وقول ابن عباس: (كنا نكتب العلم ولا نُكْتبه) أي لا
نأذن لأحد أن يكتبه عنا ونهيه في الرواية الأخرى عن الكتابة، وقوله الذي تقدم في
ذلك - ومحو زيد بن ثابت للصحيفة ثم إحراقها وتذكيره بالله من يعلم أنه يوجد
صحيفة أخرى في موضع آخر، ولو بعيدًا أن يخبره بها ليسعى إليها ويحرقها،
وقوله الذي تقدم في ذلك - وقول سعيد بن جبير عن ابن عمر: إنه لو كان يعلم بأنه
يكتب عنه لكان ذلك فاصلاً بينهما - ومحو عبد الله بن مسعود للصحيفة التي جاءه
بها عبد الرحمن بن الأسود وعلقمة وقوله عند ذلك: (إن هذه القلوب أوعية
فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره) كل هذا الذي أورده ابن عبد البر وأمثاله مما
رواه غيره كإحراق أبي بكر لما كتبه وعدم وصول شيء من صحف الصحابة إلى
التابعين وكون التابعين لم يدونوا الحديث لنشره إلا بأمر الأمراء - يؤيد ما ورد من
أنهم كانوا يكتبون الشيء لأجل حفظه ثم يمحونه.
(وإذا أضفت إلى هذا ما ورد في عدم رغبة كبار الصحابة في التحديث؛
بل في رغبتهم عنه، بل في نهيهم عنه قوي عندك ترجيح كونهم لم يريدوا أن
يجعلوا الأحاديث (كلها) دينًا عامًّا دائمًا كالقرآن، ولو كانوا فهموا عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه يريد ذلك لكتبوا ولأمروا بالكتابة ولجمع الراشدون ما كتب
وضبطوا ما وثقوا به وأرسلوه إلى عمالهم ليبلغوه ويعملوا به ولم يكتفوا بالقرآن
والسنة المتبعة المعروفة للجمهور بجريان العمل بها، وبهذا يسقط قول من قال: إن
الصحابة كانوا يكتفون في نشر الحديث بالرواية.
وإذا أضفت إلى ذلك كله حكم عمر بن الخطاب على أعين الصحابة بما
يخالف بعض تلك الأحاديث ثم ما جرى عليه علماء الأمصار في القرن الأول
والثاني من اكتفاء الواحد منهم كأبي حنيفة بما بلغه ووثق به من الحديث، وإن قل
وعدم تعنيه في جمع غيره إليه؛ ليفهم دينه ويبين أحكامه قوي عندك ذلك الترجيح.
بل نجد الفقهاء بعد اتفاقهم على جعل الأحاديث أصلاً من أصول الأحكام
الشرعية وبعد تدوين الحفاظ لها في الدواوين وبيان ما يُحْتَج به وما لا يحتج به لم
يجتمعوا على تحرير الصحيح والاتفاق على العمل به، فهذه كتب الفقه في المذاهب
المتبعة ولا سيما كتب الحنفية فالمالكية فالشافعية فيها مئات من المسائل المخالفة
للأحاديث المتفق على صحتها، ولا يُعَدُّ أحد منهم مخالفًا لأصول الدين.
وقد أورد ابن القيم في إعلام الموقعين شواهد كثيرة جدًّا من رد الفقهاء
للأحاديث الصحيحة عملاً بالقياس أو لغير ذلك، ومن أغربها أخذهم ببعض الحديث
الواحد دون باقيه، وقد أورد لهذا أكثر من ستين شاهدًا (فلتراجع في ج 14و 15و
16 من مجلد المنار السادس) وسنورد في الجزء الآتي شيئًا مما ورد في نهي
الصحابة عن الرواية، وفي عملهم بالحديث كيف كان، فقد أطلنا الآن) اهـ.
ثم إننا وافينا بهذا الوعد في مقال نشرناه في ص 849 - 854 من المجلد
العاشر نفسه عنوانه (نهي الصحابة ورغبتهم عن الرواية) ذكرنا فيه أهم الروايات
التي أوردها الحافظ ابن عبد البر وغيره، وما ذكروه من الروايات المعارضة لها
في الظاهر دون الواقع، وما ذكروه من الترجيح مع نقده، وحاصل جمعنا بينها أن
السنة بالمعنى المعروف في عصر الصحابة هي التي كانت تعد من الدين وكانوا
يأمرون باتباعها والمحافظة عليها ثم ختمنا هذا المقال بقولنا:
(وليعلم القارئ أن هذا البحث الأصولي بمعزل عن مسألة اهتداء المسلم بما
يصح عنده من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم فتلك الأقوال هي ينابيع الحكم،
ومصابيح الظلم، وجوامع الكلم، ومفخر الأمة على جميع الأمم، بل إن في الأحاديث
التي لم تصح أسانيدها من البدائع، والحكم الروائع، والكلم الجوامع، ما تتقاصر عن
مثله أعناق العلماء، وتكبوا في غاياته فرسان الحكماء، ولا تبلغ بعض مداه قرائح
البلغاء، ولا غرو فإن من الأحاديث ما صحت متونه، ولم تصح أسانيده، كما أن
منها ما أشكلت متونه، وإن سلم من الطعن رواته، وأنًَّى لغيرنا ببعض ما عندنا من
الأسانيد لأقوال حكمائهم، أو لكتب أنبيائهم، فنحن يسهل علينا من التمحيص
والتحقيق ما لا يسهل على غيرنا فليتدبر المتدبرون، وليعمل العاملون) اهـ.
فعلم مما تقدم كله أن ما ذكره الأمير من روايات في تحامي بعض كبار علماء
الصحابة التحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يصح أن يجعل دليلاًَ على
صحة ما استشكله من جعل العلماء كتب الحديث ولا سيما الصحيحين مراجع في
الشرع بل ناهيك بما ذكر في هذه الروايات من تهيب أولئك الصحابة للتحديث
وتعليله بخوفهم من الخطأ في أداء الحديث أن يدخلوا في عموم من يتناولهم وعيد
قوله صلى الله عليه وسلم: (من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) وهو
متواتر عنه صلى الله عليه وسلم بلفظه، ومن رواته الزبير وسعد بن أبي وقاص
وابن مسعود رضي الله عنهم وورد بحذف كلمة (متعمدًا) فإن هذا يصح أن يجعل
دليلاً على أن قلة تحديثهم ليس لاعتقادهم أن أحاديث الآحاد القولية ليست من أصول
الشرع وأدلته، بل من ورعهم وتحريهم نقل الحديث بلفظه، وقد صح عنهم أنهم
حدثوا في روايات أقوى من هذه الروايات التي ذكرها ابن سعد في طبقاته كما تقدم
ولكن الجمهور قد جوَّزوا بعدهم روايته بالمعنى فكان مثار مشكلات كثيرة.
وإنما يتجه استشكاله إذا بناه على تلك الروايات التي أوردناها في المجلد
العاشر من المنار، وأشرنا إليها آنفًا، وقد أجاب العلماء عنها بأجوبة بيَّنا هنالك ما
فيها من ضعف وذكرنا هنا نموذجًا منه، وفيما ذكره من الروايات أن بعض
الصحابة كان يخاف أن يحدث من يحضره من التابعين فيزيدوا في حديثه ما ليس
منه ولو سوء الفهم.
ولكن وجد من الصحابة من كان لا يتحامى التحديث كهؤلاء، بل وجد فيهم
من تفرغ له وجعله كل همه من حياته كأبي هريرة الذي كان أقل ما يروي من
سماعه وأكثره عن غيره من الصحابة وعن التابعين أيضًا حتى عن كعب الأحبار
وكان مع ذلك قلما يذكر سماعًا، فأكثر ما روي عنه عنعنة كانت مصدر مشكلات
كثيرة، وإن لم يتعمد التدليس فيها، كل هذا وقع ولم يشدد الخلفاء بعد عمر رضي
الله عنه بكتابة السنن لأجل ضبطها والتمييز بينها، ثم تصدَّى الحُفَّاظ الجامعون لها
في المسانيد والسنن للتمييز بين صحيحها وسقيمها، وما يحتج به، وما لا يحتج به
منها، وتوقف ذلك على كتابة تواريخ الرواة ونصب ميزان الجرح والتعديل للحكم
عليها فكان ذلك منجاة من أكثر مشكلات تلك الفوضى.
ومع هذا كله لم يوجب أحد من علماء المسلمين العمل بكتاب من الكتب
المُؤلفة في الحديث بل طلب بعض الخلفاء من الإمام مالك أن ينشر له كتابه الموطأ
في الأقطار ويحمل المسلمين على العمل به، فامتنع مالك من ذلك على شدة تحريه
في جميع روايات الموطأ ومواطأة جُلّ علماء المدينة له عليه، وإنما كان الصحابة
والتابعون متفقين على أنه يجب على المسلمين أن يأخذوا دينهم من كتاب الله في
المرتبة الأولى ثم من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يعنون بالسنة
الطريقة المأثورة عنه صلى الله عليه وسلم بالعمل لا الروايات النادرة التي لم يكن
يعرفها إلا رواتها من الآحاد، وهذا أمر قطعي لا خلاف فيه، ثم صار علماء
الأمصار يطلقون اسم السنة على كل ما روي في شأن الرسول صلى الله عليه وسلم
من قول وعمل وتقرير وصفة، وقرَّروا أن كل ما ثبت من ذلك متعلقًا بالتشريع فهو
من دلائل هذا الدين وشرعه، وإنما يخرج من ذلك ما كان من أمور العادات وشئون
الدنيا كالزراعة والصناعة والأكل والشرب مما لم يحرم بالنص، فأفعاله صلى الله
عليه وسلم فيها تدل على الإباحة ويطلقون على الأمر فيها لقب الإرشاد كما فصَّلناه
في كتاب (يسر الإسلام
…
) وغيره.
ثم كان من هدي علماء الأمصار في عصر الرواية أن يهتدي كل منهم بما
يصح عنده من أحاديث الآحاد، وإن لم تصر سنة متبعة بالعمل بحسب فهمه
واجتهاده، ولا يعد من لم يبلغه ذلك أو من لم يصح عنده ناقصًا في دينه أو مقصرًا
فيه ولا يعدون اجتهادهم في تصحيح الحديث، وفي كونه مما يحتج به تشريعًا عامًّا
إلا أن بعض الذين وقفوا حياتهم على رواية الأحاديث كانوا يعيبون المقلين من
الرواية والآخذين بالرأي والقياس ويسمونهم أهل الرأي، ولكنهم لا يعدونهم ضالين
كالمبتدعة، فإمامهم الأعظم أبو حنيفة معدود من أئمة أهل السنة ولم يعبأ جمهور
علماء الملة بما روى الخطيب وغيره من الطعن فيه، وصاحبه أبو يوسف معدود
من أئمتهم أيضًا، وكان قاضي هارون الرشيد ومفتيه، ولم ينكر ذلك أحد من أئمة
عصره، وأما صاحبه الآخر محمد بن الحسن فاشتغل بالحديث أكثر من صاحبيه،
وتلقى المؤطأ عن الإمام مالك، ولقي الشافعي وأحمد واطلعا منه على فقه أبي حنيفة
فسرت إليهما عدوى التوسع في القياس بعد أن قال أحمد: سألت الشافعي فقال: هو
كلحم الميتة يلجأ إليه عند الضرورة، ولم يكن لهما ولا لغيرهما مندوحة عن القياس
والرأي بعد التصدي للفتوى العامة في عصر كثرت فيه أسئلة الناس ومشكلاتهم
الدينية وقضاياهم المدنية والجزائية باتساع دائرة الحضارة وكثرة أسباب المعايش
والأعمال.
ومن المعلوم أن بعض أئمة فقهاء الحديث أنكروا حجية القياس مطلقًا، وخص
الإنكار بعضهم بغير الجلي أو بالخفي منه، أو ما كان علته غير منصوصة،
وخصَّه المحققون من القائلين بغير به العبادات، وأما التعبدي منها، وما يتعلق
بعالم الغيب فلا وجه للقياس فيه مطلقًا، ولكن المتأخرين من المصنفين المقلدين
يدخلون فيها القياس، وهم ليسوا منه أهله، وصار كلامهم مسلمًا عند العامة كقول
بعضهم بجواز وضع الستور على القبور قياسًا على الكعبة، وجواز تقبيل الحجارة
وغيرها مما يُوضع على قبور الصالحين قياسًا على الحجر الأسود، دع تقبيل
مفاتيح الكعبة وغيرها، وقياس حياة الشهداء وغيرهم في البرزخ من عالم الغيب
على حياة الدنيا واستنباطهم من ذلك جواز قضائهم حاجات الذين يدعونهم من دون
الله ومع الله فيما لا يقدر عليه إلا الله بل يقولون بوقوعها، وإن كان هذا شركًا،
ويدخلون ذلك كله في باب القُرْبَة والتعبد وهو تشريع لم يأذن به الله ولا يرتضيه
أئمة الدين.
وقد أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه حين أرسله إلى
اليمن أن يجتهد رأيه في الحكم؛ إذا عرضت له قضايا لا يجد فيها نصًّا في القرآن
ولا سنة من أحكام الرسول التي جرى عليها العمل في عهده، ولكن الفقهاء توسعوا
في هذا الإذن فجعلوا أحاديث الآحاد حتى الشاذ والمفرد والمرسل، وكذا الضعيف
غير الواهي منها في حكم السنة المتبعة على خلاف بينهم في ذلك، واصطلحوا
على تسمية ذلك كله سنة، وجعل أكثرهم اجتهاد الرأي عامًّا في العبادات
والمعاملات الشخصية لا خاصًّا بالقضاء كمورده، كما جعلوا الإجماع الاصطلاحي
في كل عصر حجة شرعية، وما ثبت عندهم بذلك دينًا على إنكار بعض أئمة
الهدى كالإمام أحمد لما عدا إجماع الصحابة، ووافقه بعض علماء الأصول على
عدم إمكان العلم بهذا الإجماع إن وقع مع الشك في إمكان وقوعه، عادة، ولكن
بعض المتأخرين حتى من الحنابلة جعلوا اتفاق الأئمة الأربعة حجة.
فكان ذلك له سببًا لكثرة التكاليف والتشديد في الدين، ولا سيما جعل كل ما
كتب في الفقه دينًا يجب على الأمة اتباعه، وأما الأئمة فلم يطالبوا الأمة إلا بما ثبت
قطعيًّا، وأما ما فيه مجال للاجتهاد من دليل ومدلول، فلم يكلفوا به إلا من ثبت
عنده وحرموا تقليدهم فيما ثبت من اجتهادهم، وقد فصَّلنا كل هذا في مواضع من
المنار والتفسير فكثرت بذلك أحكام العبادات والحلال والحرام وسائر المعاملات
بعدهم على خلاف ما كان يريد الرسول صلى الله عليه وسلم كما شرحنا ذلك في
بحث يسر الإسلام الذي نشر في كتاب مستقل، فعلى من أراد الإحاطة بالبحث مع
جميع أطرافه مراجعة الكتابين أيضًا.
وأما ما بالغ فيه بعض المؤلفين من عد أحاديث الصحيحين ولا سيما البخاري
قطعية فقد بيَّنا خطأه فيها ونقلنا عن علماء هذا الشأن ما يؤيد كلامنا، وسنعود إليه
عند دفع بعض مشكلات هذه الروايات كما تقدم لنا في مشكلات أشراط الساعة ولا
سيما أحاديث الدجال والمهدي، وحسبنا هذا الآن.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأسئلة البيروتية
س (29 -34) من صاحب الإمضاء في بيروت:
حضرة الأستاذ الرشيد، والعالم الفريد، السيد محمد رشيد رضا صاحب
المنار الأغر دام محفوظًا.
تحية وإجلال، وبعد فقد اطلعنا على الجزء الأول والخامس من المجلد الرابع
والعشرين من مناركم الأنور فيما يتعلق بالتحلي بلبس الذهب والفضة للرجال،
فتعذر عليَّ الحصول على ما يشفي غلتي ويروي ظَمَئِي لخفاء العبارة وعدم
التصريح بالحِلِّ أو الحرمة، وقد اطلعنا على الرسالة المسماة الأجوبة الشرعية عن
الأسئلة البيروتية، لمؤلفها الفاضل الشيخ عبد الرحمن خلف المدرس بالقسم العالي
بالأزهر، وفتوى من حضرة الأستاذ محمد شكري الآلوسي وتجدون طي هذه
الرسالة صورة الفتوى المذكورة:
(1)
لتبينوا رأيكم فيهما، وألتمس من فضيلتكم إجابتنا إجابة صريحة
واضحة حسب ما يقتضيه الشرع الإسلامي الحنيف عن سؤالنا الآتي وهو:
(2)
هل يجوز للرجال التحلي بلبس الحرير والذهب والفضة والنحاس
والحديد وغير ذلك من أنواع المعادن كالخاتم وساعة الجيب وسلسلتها وساعة اليد
وإسورتها والنظارة (ما يسمونها بالعوينات) وغير ذلك من أنواع الحلي أم لا؟
(3)
وهل هذا الحديث الآتي صحيح معتمد عام في حرمة التحلي بلبس
النحاس والحديد مطلقًا على الرجال ولو في غير الخاتم أم لا، وهو أن رجلا جاء
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من شبه، فقال له عليه السلام:
(ما لي أجد منك ريح الأصنام) فطرحه فقال يا رسول من أي شيء أتخذه؟ فقال:
(اتخذه من ورق ولا تتمه مثقالاً) وفي رواية أخرى: ورأى على رجل خاتم صفر
فقال: (ما لي أرى منك رائحة الأصنام) أو رأى على آخر خاتم حديد فقال: (ما
لي أرى منك حلية أهل النار) .
(4)
وهل النظارة وساعة الجيب وسلسلتها وساعة اليد وأسورتها تعتبر من
الأواني أم من الحلي؟
(5)
وهل يجوز للرجل المسلم أن يتزيا بلبس البرنيطة والطربوش والبدلة
الإفرنجية (السترة والبنطلون) أم لا؟
(6)
وهل يجوز التشاؤم من الأعداد والسنين والشهور والأيام والأوقات
وغير ذلك أم لا؟ أرجوكم نشر ذلك على صفحات مجلة المنار الغراء ليكون النفع
عامًّا، وتفضلوا بالجواب ولكم الأجر والثواب.
15 شبعان سنة 1346
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... شريف خطاب
معلم بمدرسة البنين الابتدائية الثانية لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في
بيروت ، وقد أرسل إلينا السائل مع هذا رسالة مطبوعة في فتوى الأستاذ الشيخ
عبد الرحمن خلف وهي طويلة، وفيها مسائل كثيرة غير ما في هذا السؤال لا
يمكن نشرها هنا، وأرسل معه فتوى السيد الآلوسي، وهذه صورتها:
فتوى علامة العراق
السيد محمود شكري الآلوسي رحمه الله تعالى
في مسألة تحلي الرجال
بسم الله الرحمن الرحيم
سألتم هل يجوز التحلي بلبس الفضة للرجال كساعة الجيب وسلسلتها وساعة
اليد وأسورتها ويد العصا والختم والأزرار وغير ذلك من أنواع الحلي أم لا؟ وهل
قوله صلى الله عليه وسلم: (ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها لعبًا) في الحديث الذي
رواه الإمام أحمد وأبو داود صحيح متعمد عليه غير منسوخ أم لا؟
فالجواب: أن مذهب أهل الحديث يُجَوِّز التحلي بلبس الفضة للرجال بجميع
ما ذكر في السؤال، والحديث المذكور معتمد عليه غير منسوخ ففي كتاب السيل
الجرار، لم يخص الدليل إلا الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة والتحلي
بالذهب للرجال فالواجب الاقتصار على هذا النقل، وعدم القول بما لا دليل عليه
بل بما هو خلاف الدليل {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِياًّ} (مريم: 64) أما حلية الذهب فلا
شك في ذلك؛ لورود الأدلة الدالة على تحريم قليلها وكثيرها، وأما حلية الفضة
فالمانع يحتاج إلى دليل؛ لأن الأصل الحل وقد دل على هذا الأصل قوله عز
وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (البقرة: 29) وقوله
سبحانه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف: 32) .
مع ما ثبت أن سيفه صلى الله عليه وسلم كانت فيه فضة، ومع قوله صلى
الله عليه وسلم: (عليكم بالفضة فالعبوا بها كيف شئتم) اهـ المقصود.
هذا ما تيسر من الجواب، والله سبحانه العالم بالصواب.
وللمتأخرين من مقلدي المذاهب الأربعة كلام غير كلام أهل الحديث الواجب
اتباعه فهم كما قال القائل:
أهل الحديث عصابة الحق
…
فازوا بدعوة سيد الخلق
ونختم الكلام بعرض التحية والسلام، 25 ذي الحجة سنة 1341
الفقير إليه تعالى
…
...
…
...
…
...
…
... محمود شكري الآلوسي
ثم أرسل إلينا فتويين في المسألة لصاحبي الفضيلة مفتي الشام ومفتي طرابلس
مع كتاب يسألنا فيه عن رأينا فيها بتاريخ 8 شوال سنة 1346 ثم أرسل فتوى
أخرى في ذلك لفضيلة مفتي بيروت مع كتاب كسابقه وذلك في 29 ذي القعدة سنة
1346، وكان هذا في بدء مرضنا الطويل الذي نهانا الأطباء في أثنائه عن الكتابة
وكل ما يكد الذهن، وإننا ننشر نص الفتاوى الثلاث أيضًا بعد نص الاستغناء
بحسب ترتيب التاريخ لبيان مذهب الحنفية في مسائلها.
***
استفتاء مفتي الشام ومفتي طرابلس في المسألة
(1)
هل يجوز للرجال التحلي بلبس الحرير والذهب والفضة والنحاس
والحديد، وغير ذلك من أنواع المعادن كالخاتم وساعة الجيب وسلسلتها وساعة اليد
وأسورتها والنظارة (ما يسمونها بالعوينات) وغير ذلك من أنواع الحلي أم لا؟
(2)
هل النظارة وساعة الجيب وسلسلتها وساعة اليد وأسورتها تعتبر من
الأواني أم من الحلي فتفضلوا بالجواب ولكم الأجر والثواب.
***
فتوى فضيلة مفتي الشام
الحمد لله تعالى، لا يجوز للرجال التحلي بلبس الحرير والذهب والفضة
والتختيم بذهب وحديد وصفر ولا يجوز له استعمال ساعة الذهب ولا سلسلتها من
الذهب وغير ذلك من أنواع الحلي إلا التختيم بخاتم الفضة فقط، أما النظارة وساعة
الجيب وسلسلتها وساعة اليد وأسورتها فليست من الأواني كما هو معلوم، وعلى
كل فلا يجوز استعمالها للرجال إذا كانت من الذهب أو الفضة كما ذكرنا.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... مفتي الشام
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد عطا الكسم
…
...
…
...
…
...
…
...
…
23 رمضان 1346
***
فتوى فضيلة مفتي طرابلس
الحمد لله تعالى، الجواب: يحرم على الرجال التحلي بهذه المذكورات في
السؤال؛ لأنها من المنهي عنها في الأحاديث الشريفة سوى خاتم ومنطقة وحلية
سيف من الفضة وجميعها تعتبر من الحلي لا من الأواني، وأما خاتم الحديد
والنحاس فمكروه لبسهما كما في الدر المختار وغيره، والله سبحانه وتعالى أعلم.
…
...
…
...
…
...
…
... كاتبه الفقير إليه عز شأنه
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... مفتي طرابلس
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد رشيد ميقاتي
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... عفي عنه
***
فتوى فضيلة مفتي بيروت
الحمد لله تعالى، لا يجوز للرجال لبس الحرير ولا التحلي أي التزين بذهب
وفضة إلا بخاتم ومِنْطَقة وحلية سيف من فضة لا من الذهب؛ لورود آثار اقتضت
الرخصة من الفضة بهذه الأشياء خاصة فهي مستثناة مما لا يجوز للرجال، هذا
خلاصة ما ذكره علماء المذهب في هذه المسألة كما في المتون وغيرها ومنه يعلم
أنه لا يجوز للرجل أن يتزين بخاتم من الذهب ولا بساعة أو بسلسلة ساعة أو
نظارة من الذهب أو الفضة وليست هذه الأشياء من الأواني، وفي الكنز وشرحه
للعيني: وحرم التختيم بالحجر والحديد والصفر أي النحاس والرصاص والقزدير
ونحو ذلك والذهب اهـ، وفي الفتاوى الهندية: ويكره للرجل التختم بما سوى الفضة
والتختم بالذهب حرام في الصحيح اهـ، وفي الجوهرة: التختم بالحديد والنحاس
والرصاص مكروه للرجال والنساء؛ لأنه زي أهل النار اهـ والله تعالى أعلم.
20 رمضان المبارك سنة 1346.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... مفتي بيروت
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... الختم
***
جواب المنار عن هذه الأسئلة
(1، 2) فتاوى المفتين في التحلي وما نختاره منها:
(1)
أما فتاوى المفتين الثلاثة في الأمصار السورية الثلاثة فهي نصوص
مأخوذة من كتب مذهب الحنفية الذي التزموا الفتوى به استصحابًا لما كانت عليه
الفتوى الرسمية للمفتين الرسميين في عهد الدولة العثمانية، وإن كنا نعلم أن كلاًّ من
مفتي بيروت ومفتي طرابلس يقلدان مذهب الشافعي رضي الله عنه وعن سائر أئمة
الدين، وما نرى فيها من خلاف كحكم التختم بالنحاس والحديد هل هو الحرمة أو
الكراهة فهو لاختلاف نصوص تلك الكتب، على أن الكراهة إذا أطلقت عندهم
تنصرف إلى كراهة التحريم، وفي فتوى مفتي بيروت من الفقه والدقة ما ليس في
غيرها.
وأما فتوى السيد الآلوسي فهي مقتضى ما عليه علماء الحديث الذين يقولون
بما صح في الكتاب والسنة من غير تقليد لأحد المجتهدين، وهي فتوى مجملة يجد
السائل تفصيل أدلتها في الفتوى 57 من مجلد المنار الرابع والعشرين، ولكن
السائل يقول: إنه لم يفهم المراد من هذه الفتوى؛ لعدم التصريح في كل مسألة بأن
هذا حرام أو حلال فههنا أصرح بأنني أعتقد أن الأصل في الزينة الحل بنص قوله
تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ} (الأعراف: 32) وأنه لا يجوز
لمسلم أن يحرم على أناس شيئًا إلا بنص شرعي قطعي الرواية والدلالة لئلا يدخل
فيمن يقولون على الله بغير علم وينصبون أنفسهم للتشريع، وقد قال الله تعالى
لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى
اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33) وقال: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ
الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ} (النحل: 116) الآية.
وقد فسَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتخاذ اليهود والنصارى أحبارهم
ورهبانهم أربابًا من دون الله) بأنهم يحلون لهم ويحرمون عليهم فيتبعونهم كما في
التفسير المأثور، ولا يتضمن قولي هذا تعريضًا بالمفتين المذكورين هنا وأمثالهم
من علماء المذاهب المتبعة؛ لأن القاعدة عندهم أنهم يسألون عن نصوص المذهب
فينقلونها للسائل فهم لا يحلون شيئًا ولا يحرمون برأي ولا بدليل مستقل) .
فلما بينا في تلك الفتوى ما صح في تحريم استعمال الذهب والفضة وهو الأكل
والشرب في آنيتهما، وكذا خاتم الذهب على ما فيه من خلاف بين الصحابة بيناه
هنالك، كان ذلك بيانًا لاعتقادنا أن كل ما عداه حلال وهو ما أشار إليه الآلوسي
رحمه الله فيما نقله عن كتاب السيل الجرار للإمام الشوكاني، وكان الشوكاني من
فقهاء الحديث القائلين بتحريم حلية الذهب دون الفضة وجمهورهم لا يحرمون إلا
الأكل والشرب من الذهب كالفضة، ومنهم من يحرم الخاتم منه أيضًا.
قال الإمام محمد بن إسماعيل الوزير في كتابه (سبل السلام شرح بلوغ المرام)
في الكلام على حديث حذيفة المتفق عليه: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة
ولا تأكلوا في صحافهما فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) قال ما نصه:
الحديث دليل على تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة وصحافهما سواء
كان الإناء خالصًا ذهبًا أو مخلوطًا بالفضة؛ إذ هو مما يشمله أنه إناء ذهب وفضة،
ثم ذكر الخلاف في سائر الاستعمالات غير الأكل والشرب وتحريم بعضهم لها
بالقياس عليهما من القائلين بالقياس ورد ذلك بأن شروطه لم تتم هنا ثم قال: والحق
ما ذهب إليه القائل بعدم تحريم غير الأكل والشرب فيهما؛ إذ هو الثابت بالنص
ودعوى الإجماع غير صحيحة، وهذا من شؤم تبديل اللفظ النبوي بغيره فإنه ورد
بتحريم الأكل والشرب فقط فعدلوا عن عبارته إلى الاستعمال وهجروا العبارة النبوية
وجاءوا بلفظ عام من تلقاء أنفسهم ولها نظائر في عباراتهم اهـ ، وتبعه في هذا
صاحب (فتح العلام) ونقل عبارته هذه.
وقد قلت من قبل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أقدر من هؤلاء
المؤلفين المشددين المعسرين على بيان دين الله فلو أراد تحريم الاستعمال لصرح به،
وقد بيَّن لنا أن الله سكت عن أشياء رحمة بنا غير نسيان ونهى أصحابه عن
السؤال عن المسكوت عنه، وقد شرحنا هذا في بحث يسر الإسلام.
أما حديث علي كرم الله وجهه في المسند والسنن الأربع قال: إن النبي صلى
الله عليه وسلم أخذ حريرًا فجعله في يده اليمنى، وأخذ ذهبًا فجعله في اليسرى ثم
قال: (إن هذين حرام على ذكور أمتي) زاد ابن ماجه (حِل لإناثهم) ففيه مقال:
صحَّحه ابن حبان والحاكم وهما يتساهلان في التصحيح، وذكر الحافظ تصحيحهما
له في الفتح وسكت عليه، ولكنه قال في التلخيص: وبيَّن النسائي الاختلافات فيه
عن يزيد بن أبي حبيب وهو اختلاف لا يَضر، ونقل عبد الحق عن ابن المديني
أنه قال حديث حسن ورجاله معروفون، وذكر الدارقطني الاختلاف فيه على يزيد
بن أبي حبيب عن ابن أبي الصعبة عن رجل من همدان اسمه أفلح عن عبد الله بن
زرير به، لكن قال: أفلح الصواب فيه أبو أفلح، قال الحافظ: قلت: وهذه رواية
أحمد في مسنده عن حجاج عن وهيب والله أعلم، وأعله ابن القطان بجهالة حال
راويه ما بين علي ويزيد بن أبي حبيب فأما عبد الله بن زرير فقد وثقه العجلي وابن
سعد، وأما أبو أفلح فينظر فيه اهـ.
وأما حديث أبي موسى وحديث عقبة بن عامر بمعنى حديث علي رضي الله
عنه فهما أضعف منه وعللهما من الانقطاع والضعف أقوى، وقد بينت ذلك في
فتوى المجلد السابع، على أن التحريم في ذلك مجمل يمكن حمله على الحديث
الصحيح المبين للتحريم بجعله في الأكل والشرب في صحاف النقدين وآنيتهما،
وكذا في خاتم الذهب.
فأمثال هذه الأحاديث المعتلة الأسانيد المجملة المعنى لا يصح أن يُجْعَل
تشريعًا عامًّا للأمة، وأما الورع والاحتياط فيقضيان على مَن ظن صحتها أن
يراعيها في عمله ولا سيما إذا اقترن بعدم مراعاتها ما لا شك في تحريمه كالإسراف
والخيلاء وقد بينا ذلك في فتوى المجلد السابع.
***
3 -
حكم استعمال خاتم الحديد والنحاس:
الحديث الذي ذكره السائل في هذه المسألة أخرجه أصحاب السنن وصححه
ابن حبان من رواية عبد الله بن بريدة عن أبيه، وابن حبان يتساهل في التصحيح
وفي سنده أبو طيبة عبد الله بن مسلم المروزي قال فيه ابن حبان نفسه: يخطئ
ويخالف، وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه ولا يُحتج به، وعبد الله بن بريدة
الذي انفرد أبو طيبة برواية هذا الحديث عنه قد ضعَّفه الإمام أحمد وغيره.
وقد ورد في حديث الواهبة نفسها في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال لمن أراد أن يزوجه بها: (اذهب فالتمس ولو خاتمًا من حديد) وهو
يدل على أن خواتم الحديد كانت مستعملة ومأذونًا باستعمالها؛ إذ لا معنى لالتماسه
وجعله صداقًا للمرأة إلا لُبْسه.
وتنظير الحافظ في هذا الدليل ظاهر البطلان، ونبَّه عليه صاحب عون
المعبود في شرح سنن أبي داود، على أن الحل هو الأصل، وإنما يحتاج إلى
النص في التحريم ولا يصح نص فيه، فالتحلي بهذه المعادن مباح، والله أعلم.
***
4-
الفرق بين الآنية والحلية:
قال الراغب في مفردات القرآن: الإناء ما يوضع فيه الشيء، وجمعه آنية
نحو كساء وأكسية، والأواني جمع الجمع، وأما الحلي فهو ما يتزين به زاد في
اللسان من مصوغ المعدنيات أو الحجارة، المفرد حلي كثدي، والجمع حلي بضم
الحاء وتشديد الياء كثدي، وكذا حلية قال تعالى:{أَوَ مَن يُنَشَّأُ فِي الحِلْيَةِ} (الزخرف: 18) وجمعه حلى بالكسر فيهما فهو كلحية ولحى، فعلى هذا لا يكون ما
سأل عنه السائل من الأواني وجهًا واحدًا، ولا من الحلي إلا ما كان منه للزينة أو
قصدت باستعماله، فآلة معرفة المواقيت لم توضع للزينة ولا سيما التي توضع في
الجيب؛ إذ لا تحصل الزينة إلا بإظهارها، ولكن قد تقصد بها الزينة ولا سيما
ساعة السوار، وأما السوار والسلسلة فهما من الحلي كما هو ظاهر.
***
5-
لبس البرنيطة ونحوها:
قد بيَّنا في مواضع من المنار أن الأصل في جميع الأزياء الحل إلا ما اشتمل
منها على سبب من أسباب الكراهة أو التحريم كتشبه المسلمين بغيرهم أو كون
الزي مانعًا من أداء الصلاة أو عائقًا عنه بحث يكون سببًا لتركها ولو في بعض
الأحوال، وقد فصَّلنا هذا تفصيلاً في المجلدات القديمة والأخيرة، ومنها جواب
سؤال لصاحب هذه الأسئلة في الجزء الثاني من هذا المجلد ورد بعد هذه الأسئلة.
***
6-
التشاؤم:
التشاؤم وَهْمٌ رديء غير لائق بالمسلم الذي يهديه دينه إلى نبذ الأوهام والأخذ
بالحقائق، وكانت العرب تسمي التشاؤم الطِّيَرة ويقولون: تطيَّر بكذا أي تشاءم؛
لأن أكثر ما يتشاءمون به حركات الطير إذا مرَّت من جهة اليسار، وهو البروح
ويسمون الطائر البارح، ويقابله السنوح، وهو المراد من جهة اليمين، ويسمى
المارّ منها السانح، وكانوا يتفاءلون به، وقد وردت أحاديث كثيرة في نفي الطيرة
وإبطال التشاؤم وبيان أنها من الخرافات، بل في بعضها أنها من الشرك منها
الصحيح ومنها المرسل والموقوف، ومن أصحها حديث: (لا عدوى ولا طيرة ولا
هامة ولا صفر) رواه البخاري وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعًا، وله ألفاظ
أخرى، والهامة: البومة كانوا يتشاءمون بها وبقي هذا موروثًا من الجاهلية، ولكن
عرب الجاهلية كانوا يزعمون أن نفس القتيل تخرج من قبره في شكل طائر، ولا
تزال تقول: اسقوني حتى يؤخذ بثأره ويسمونها الهامة، وكانوا يتشاءمون من شهر
صفر، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم كل هذه الخرافات، وقال بعضهم: المراد
من صفر هنا تأخير القتال في المحرم إلى صفر وهو من نسيء الجاهلية.
ولكن ورد في حديث الصحيحين وغيرهما ما ظاهر بعض ألفاظه إثبات الشؤم
في المرأة والدار والفرس وهو مخالف للأحاديث الأخرى الصحيحة المعقولة من
نفي ذلك، وقد أنكرت عائشة على أبي هريرة روايته في ذلك، وقالت: إنما كان
النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أن اليهود تقول هذا فسمع أبو هريرة آخر الحديث،
ولم يسمع أوله وتأوله بعضهم بما سنبينه في مقال خاص إن شاء الله تعالى.
وأما الحديث المشتهر على الألسنة (آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر)
وفي بعض ألفاظه (آخر أربعاء في صفر) فهو موضوع عزاه في الجامع الصغير
إلى وكيع في الغزو وابن مردويه في التفسير والخطيب في التاريخ وعلَّم عليه
بالضعف، ولكن قال العلامة الشيخ محمد الحوت الكبير في مجموعه الذي لخَّصه في
تخريج الأحاديث المشتهرة: إن هذا الحديث موضوع كما ذكره ابن الجوزي وغيره.
وقال العلامة الديبع في (تمييز الطيب من الخبيث) ما نصه:
(حديث)(يوم الأربعاء يوم نحس مستمر) أخرجه الطبراني في الأوسط
عن جابر وفي فضله والتنفير منه أحاديث، وكلها واهية، وكذا ما يروى في أيام
الأسبوع مرفوعًا (يوم السبت يوم مكر وخديعة، ويوم الأحد يوم غرس وبناء،
ويوم الإثنين يوم سفر وطلب رزق، ويوم الثلاثاء يوم حديد وبأس، والأربعاء يوم
لا أخذ ولا عطاء، والخميس يوم طلب الحوائج، والجمعة يوم خطبة النكاح)
أخرجه أبو يعلى من حديث ابن عباس ضعيف أيضًا لكن يروى عن عائشة أنها
قالت: (أحب الأيام إليَّ: يخرج فيه مسافري، وأنكح فيه، وأختن فيه حسبي يوم
الأربعاء) ، هو الظاهر أن عائشة رضي الله عنها أرادت بهذا إبطال ما بقي في
النفوس، ولا سيما نفوس النساء من تأثير خرافات الجاهلية.
هذا وإن التشاؤم وهم عام في شعوب البشر كلها فالإفرنج يتشاءمون من عدد
13 وقلما يختارون معدوده في شيء.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
أسئلة من مسقط
الفقه والعلوم العصرية في القرآن
والصناعات في المسلمين
س (35-37) من صاحب الإمضاء في مسقط:
(1)
الفقه وما المقصود منه؟
(2)
القرآن والعلوم العصرية وما المقصود منه؟
(3)
تأخر المسلمين في الصنائع ما السبب فيه؟
1 -
{َلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} (التوبة:
122) القرآن العظيم.
2 -
(من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين) الحديث الشريف.
3 -
(تفقهوا قبل أن تسودوا) الحديث الشريف.
…
...
…
...
…
...
…
عبد الله عبد العزيز البلوشي
…
...
…
...
…
...
…
...
…
بمسقط
(ج) هكذا وردت هذه الأسئلة موجزة مجملة، فأما الفقه فهو في اصطلاح
علماء الشرع: العلم بالأحكام العملية الشرعية المستنبطة من أدلتها التفصيلية، وأما
معناه في اللغة واستعمال القرآن والحديث فهو الفهم الدقيق الناشئ عن الفطنة
والمثمر للعمل والاعتبار كما حققناه في تفسيرنا، وآخر ما كتبناه فيه تفسير قوله
تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَاّ يَفْقَهُونَ بِهَا} (الأعراف: 179) إلخ آية من سورة الأعراف وتفسيرها في صفحة 418 من جزء
التفسير التاسع فيراجع فيه ويدخل في هذا المعنى ما ذكر في السؤال من آية وحديث.
وأول الآية التي ذكرها قوله تعالى: {وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً} (التوبة: 122) أي للقتال بل يجب في الحالة العادية أن ينفر بعضهم بقدر الحاجة،
ويكون مع النبي صلى الله عليه وسلم من يتلقى منه العلم، ويتفقهون في الدين
وآخرها: {وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122)
ولهذه الآية عند المفسرين وجهان أو أكثر لا محل هنا لبسطها.
وأما الحديث الأول فقد رواه أحمد والشيخان وغيرهما، وله تتمة، ومعناه
ظاهر، وأما الثاني فقد رواه البيهقي في شعب الإيمان، وذكره البخاري في معلقاته
بصيغة الجزم عن عمر رضي الله عنه من كلامه، ومعناه تفقهوا قبل أن تصيروا
سادة في قومكم أو بيوتكم فيشغلكم ذلك عن العلم والتفقه.
وأما مسألة القرآن والعلوم العصرية أي الكونية، فالظاهر أن السائل يسأل
عن المقارنة بينهما؛ لأنه رآها في بعض الصحف، فإن كلا منهما معروف في
نفسه، فنجيبه بأن العارفين يقصدون بهذه المقارنة أن القرآن أرشد المؤمنين به إلى
هذه العلوم في الآيات الكثيرة التي بين بها آياته تعالى في خلق السموات والأرض
وما فيهما وما بينهما، فإن دلالة الشمس والقمر والكواكب والسحاب والمطر والبحار
والأنهار والجبال وأنواع النبات والثمار على قدرته تعالى ومشيئته وحكمته ورحمته
ودلالة ما في مجموعها من وحدة النظام على وحدانيته كل ذلك لا يكمل للناظر فيها
إلا بقدر علمه بما فيها من الخواص العجيبة والنظام الدقيق، وقد فصَّلنا ذلك في
مواضعه من تفسيرنا.
وأما مسألة تقصير المسلمين في الصناعات وإتقان غيرهم لها فله أسباب
ترجع كلها إلى ضعف الحضارة العربية فذهابها بذهاب ملك العرب بعدوان الترك
عليهم وقضائهم على الخلافة العباسية في الشرق، وسلبهم لكل ما كان للعرب فيه
من ملك وعدوان الأسبان من الإفرنج على عرب الأندلس والقضاء على ملكهم
ودينهم فيها، ولولا هذا وذاك لظلت الحضارة العربية الإسلامية في نماء وارتقاء،
ولوصلت إلى ما وصل إليه الإفرنج الذين ورثوا حضارتهم ومتونهم من دون الترك
الضعيفي الاستعداد للعلوم والفنون، ومن أسباب هذا الضعف أنه لم يكن لهم لغة
تساعدهم على تلقيها، ولم يجعلوا اللغة العربية العلمية الفنية التشريعية لغة رسمية
لهم، بل لم يوسعوا لغتهم الضيقة بها وباللغة الفارسية ويجعلوها لغة تامة ذات
معاجم ونحو وصرف وبيان إلا منذ مدة قريبة تقل عن قرن كما بينا ذلك في مواضع
من المنار مرارًا، ولكن كان لبعض ملوك الأعاجم من المسلمين في حضارة الهند
وغيرها، وكان لهم فيها صناعات كثيرة ثم ضعفت فزالت بزوال ملكهم أيضًا، إلا
بقايا منها في بعض البلاد كالشام ومصر وهي الآن في طور شرق جديد يجمع فيه
بين الصناعات القديمة والصناعات الحديثة الإفرنجية.
ومن مصائب المسلمين أنهم ابتلوا بزعامة الجاهلين من أدعياء العلم الذين
يزعمون أن العلوم والفنون التي عليها مدار جميع الصناعات المعاشية والحربية
محرَّمة في الإسلام مع أنها من فروض الكفايات كما يراه السائل في تفسير
{وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) في أول هذا الجزء، وقد
طرقنا هذا البحث في المنار مرارًا.
***
حديث (من تشبه بقوم فهو منهم) ورهن الانتفاع
س 38 من صاحب الإمضاء بتونس:
إلى حضرة الأستاذ الإمام مفتي الإسلام سيدي محمد رشيد رضا مفتي المنار
المنير حفظه الله وأدام نفعه آمين.
وبعد فالرجاء من حضرتكم الجواب عن الحديثين الآتيين ونصهما: (من
تشبه بقوم فهو منهم) و (من تشبه بقوم فليس منا) .
1-
فالمرغوب من فضيلتكم أن ترشدونا هل هما صحيحان أم لا؟ وما
قيمتهما من الصحة، وفي أي كتاب من الصحاح رُوِيَا؟ ويكون ذلك على صفحات
مناركم المنير مع شرحهما شرحًا كافيًا يتفق مع الحال والمراد، والله يجزيكم ويديم
النفع بكم والسلام.
2-
ما قولكم في رهن الانتفاع، وهل الأئمة كلهم كانوا متفقين عليه أم فيه
خلاف؟ وما الفرق بينه وبين ربا الفضل؟ وما الدليل على جوازه؟ أفيدونا بذلك
ولكم الأجر والثواب والسلام.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... محمد الخوجة
(ج) أما حديث (من تشبه بقوم فهو منهم) فقد رواه أحمد وأبو داود من
حديث عبد الله بن عمر مرفوعًا والطبراني في الأوسط من حديث حذيفة بن اليمان
ووضع له في الجامع الصغير علامة الحسن، وصححه ابن حبان، وهو يشمل
التشبه في الحسن والقبح والخير والشر، وأما تشبه المسلمين بالكفار ففيه كثير من
الأحاديث الصحيحة صريحة في منعه، وقد شرحنا ذلك في المنار مرارًا، وأما
حديث (من تشبه بقوم فليس منا) فلا أذكر أنني رأيته في شيء من كتب السنة
لأراجعه ومعناه غير ظاهر، وفوق كل ذي علم عليم.
***
حكم رهن الانتفاع
قال الإمام الخرقي الحنبلي في متنه المشهور: ولا ينتفع المرتهن من الرهن
بشيء إلا ما كان مركوبًا أو محلوبًا فيركب ويحلب بقدر العلف اهـ.
قال العلامة ابن قدامة في شرح هذه المسألة من المغني ما نصه في كفاية
الكلام في هذه المسألة في حالين (أحدهما) ما لا يحتاج إلى مؤنة كالدار والمتاع
ونحوه فلا يجوز للمرتهن الانتفاع به بغير إذن الراهن بحال لا نعلم في هذا خلافًا؛
لأن الرهن ملك الراهن فكذلك نماؤه ومنافعه فليس لغيره أخذها بغير إذنه.
فإن أذن الراهن للمرتهن في الانتفاع بغير عوض وكان دين الرهن من قرض
لم يجز؛ لأنه يحصل قرضًا يجر منفعة، وذلك حرام، قال أحمد: أكره قرض
الدور وهو الربا المحض يعني إذا كانت الدار رهنًا في قرض ينتفع بها المرتهن،
وإن كان الرهن بثمن مبيع أو أجر دار أو دين غير القرض فأذن له الراهن في
الانتفاع جاز ذلك روي ذلك عن الحسن وابن سيرين وبه قال إسحاق، فأما إن كان
الانتفاع بعوض مثل أَنْ استأجر المرتهن الدار من الراهن بأجرة مثلها من غير
محاباة جاز في القرض وغيره؛ لكونه ما انتفع بالقرض بل بالإجارة، وإن حاباه
في ذلك فحكمه حكم الانتفاع بغير عوض لا يجوز في القرض ويجوز في غيره،
ومتى استأجرها المرتهن أو استعارها فظاهر كلام أحمد أنها تخرج عن كونها رهنًا
فمتى انقضت الإجارة أو العارية عاد الرهن بحاله، قال أحمد في رواية الحسن بن
ثواب عن أحمد إذا كان الرهن دارًا فقال المرتهن: اسكنها بكرائها، وهي وثيقة
بحقي ينتقل فيصير دينًا ويتحول عن الرهن، وكذلك إن أكراها للراهن، قال أحمد
في رواية ابن منصور إذا ارتهن دارًا ثم أكراها لصاحبها خرجت من الرهن فإذا
رجعت إليه صارت رهنًا، والأولى أنها لا تخرج عن الرهن إذا استأجرها المرتهن
أو استعارها؛ لأن القبض مُسْتَدَام ولا تنافيَ بين العقدين وكلام أحمد في رواية
الحسن بن ثواب محمول على أنه أذن للراهن في سكناها كما في رواية ابن منصور؛
لأنها خرجت عن يد المرتهن فزال اللزوم لزوال اليد بخلاف ما إذا سكنها المرتهن،
ومتى استعار المرتهن الرهن صار مضمونًا عليه، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو
حنيفة: لا ضمان عليه ومبنى ذلك على العارية فإنها عندنا مضمونة، وعنده غير
مضمونة.
(فصل) فإن شرط في الرهن أن ينتفع به المرتهن فالشرط فاسد؛ لأنه
ينافي مقتضى الرهن، وعن أحمد أنه يجوز في المبيع، قال القاضي: معناه أن
يقول: بعتك هذا الثوب بدينار بشرط أن ترهنني عبدك يخدمني شهرًا فيكون بيعًا
وإجارة فهو صحيح، وإن أطلق فالشرط باطل لجهالة ثمنه، وقال مالك: لا بأس
أن يشترط في البيع منفعة الرهن إلى أجل في الدور والأرضين، وكرهه في
الحيوان والثياب وكرهه في القرض، ولنا أنه شرط في الرهن ما ينافيه فلم يصح
كما لو شرطه في القرض.
(فصل) الحال الثاني ما يحتاج فيه إلى مؤنة فحكم المرتهن في الانتفاع به
بعِوَض أو بغير عوض بإذن الراهن الذي قبله، وإن أذن له في الإنفاق والانتفاع
بقدره جاز؛ لأنه نوع معاوضة، وأما مع عدم الإذن فإن الرهن ينقسم قسمين
محلوبًا ومركوبًا وغيرهما، فأما المحلوب والمركوب فللمرتهن أن ينفق عليه
ويركب ويحلب بقدر نفقته متحريًا للعدل في ذلك، نص عليه أحمد في رواية محمد
ابن الحكم وأحمد بن القاسم واختاره الخرقي، وهو قول إسحاق، وسواء أنفق مع
تعذر النفقة من الراهن؛ لغيبته؛ أو امتناعه من الإنفاق، ومع القدرة على أخذ
النفقة من الراهن واستئذانه، وعن أحمد رواية أخرى: لا يحتسب له بما أنفق،
وهو متطوع بها ولا ينتفع من الرهن بشيء، وهذا قول أبي حنيفة ومالك والشافعي
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه) ولأنه
ملك غيره لم يأذن له في الانتفاع ولا الإنفاق عليه فلم يكن له ذلك كغير الرهن اهـ
المراد منه وهو كاف في جواب السؤال.
***
صلاة المغرب بعد غروب الشمس
بنصف ساعة في عدن
س 30 من صاحب الإمضاء في (عكابة) بعض قرى اليمن:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
جناب حضرة الأستاذ المحترم صاحب الفضل والفضيلة الإمام العالم العامل
مفتي الأنام وخليفة شيخ الإسلام السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغرَّاء
حفظه الله سرمدًا، وجعله للأنام منارًا ومرشدًا، ونفعنا بعلومه وجعله للإسلام
والمسلمين ذخرًا، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد إهدائكم مزيد السلام التام،
وأفضل التحية والإكرام، أما بعد فليقين علمي بإخلاصكم في خدمة الإسلام
والمسلمين ولحرصي على فتاويكم الشافية الكافية أقدم لفضيلتكم هذا السؤال الآتي
وأرجو نشر جوابه على صفحات مناركم المنير، وسأبقى بغاية الانتظار لفتواكم
الشافية، زادكم الله علمًا وهدًى.
سيدي ما تقول السادة العلماء أئمة الدين، أحيا الله بهم شريعة سيد المرسلين
في جماعة من مجاوري بندر (عدن) يصلون العشاء الآخرة بعد مضي نصف
ساعة من غروب الشمس ويزعمون أنهم يشاهدون مغيب الشفق الأحمر، وأنه لا
يدوم بقاؤه زيادة على هذا القدر، فهل يمكن مغيبه في هذه البلدة بعد هذا القدر،
وهل تصح صلاتهم، ويحوز لمن سمع أذانهم أن يصلي العشاء تقليدًا لهم أم لا؟
مع أن أصحاب التقاويم يقطعون بعدم إمكان مغيبه قبل ساعة وثُمُن، أفيدونا بالجواب،
ولكم من الله جميل الأجر والثواب، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه
وسلم، وختامًا سيدي أرجوكم قبول فائق الشكر والاحترام والسلام.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... من المخلص
…
...
…
...
…
... الشيخ عبد العزيز بن عطار العريقي
…
...
…
...
…
... القاطن في قرية عكابة من قطر اليمن
(ج) إن الوقت الشرعي لدخول العشاء عند جماهير المسلمين هو مغيب الشفق
الأحمر بعد غروب الشمس، وهو يختلف باختلاف الأقطار والفصول ويُعْلَم
بالمشاهدة، لا بالنظريات والأقيسة ولا تقدير أصحاب التقاويم الذين لم يستقرئوا كل
بقعة في الأرض فما على السائل إلا أن يراقب جهة الغرب في المكان المسئول عنه
وينظر بعينيه كم يكون بين اختفاء الشفق الأحمر وبين غروب الشمس، فإن كان
لديه مانع من ذلك فليعهد بذلك إلى مَن يثق به من أهل عدن.
والأصل في هذا حديث تحديد جبريل المواقيت للنبي صلى الله عليه وسلم،
وفيه أنه صلى العشاء أول مرة حين غاب الشفق، وقد أخرج ابن خزيمة في
صحيحه عن ابن عمر مرفوعًا (ووقت صلاة المغرب إلى أن تذهب حمرة الشفق)
والصحيح في مذهب الشافعي، وكذا مذهب أكثر فقهاء العترة وعليهما جمهور أهل
اليمن، وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة وغيرهم أن الشفق هو الحمرة التي
تُرَى في الأفق بعد غروب الشمس فإذا زالت دخل وقت العشاء، وإن بقي في الأفق
شيء من الصفرة التي تعقب الحمرة، وإن مذهبه الجديد أن وقت المغرب بقدر ما
يتطهر المرء ويستر عورته ويؤذن ويقيم ويصليها ثلاث ركعات، ولكن كبار علماء
المذهب رجَّحوا القول القديم بامتدادها إلى أن يغيب الشفق الأحمر؛ لأن الحديث
صح بذلك، وقد علَّق القول به في كتاب الإملاء على صحة الحديث؛ لأن قاعدة
مذهبه أنه إذا صح الحديث يؤخذ به ويرمى بكلامه المخالف له عرض الحائط.
ومذهب الإمام الباقر وأبي حنيفة والمزني من أصحاب الشافعي أن الشفق هو
البياض الذي يُرَى في الأفق بعد غروب الشمس فلا يدخل وقت العشاء إلا بذهاب
ذلك البياض الذي تكون له بقية بعد ذهاب الحمرة، ونَقْل أئمة اللغة يشهد لقول
الشافعي، وجمهور علماء الأمة، وهو أن الشفق: الحمرة بعد غروب الشمس،
والله أعلم.
_________
الكاتب: عبد الله محمود شكري
السنة والشيعة
أو الوهابية والرافضة
كنا نريد أن نكتفي في إبطال دعاية الرافضي الشيخ - أو السيد أو الملا -
محسن الأمين العاملي في كتابه الجديد، وصد المسلمين عنها بما نشرناه في الجزء
الماضي، ولكننا رأينا أن نجيب دعوة من دعونا إلى التوسع في ذلك بتأييد ما حكمنا
به على صاحب هذا الكتاب من الكذب في النقل والطعن في السنة النبوية وغش
المسلمين بعَزْوِها إلى الوهابية وابن تيمية وتلاميذه دون سائر المسلمين وبالاكتفاء
من النقل من الكتب بما يؤيد مزاعمه وكتمان غيره من كلام من ينقل عنهم وكلام
غيرهم في الموضوع، وبغير ذلك مما تدعو إليه الحاجة، ويوجبه درء الفتنة،
وإبطال البدعة، فنقول:
طعن العاملي في الوهابية وابن تيمية
قال الرافضي العاملي في أول صفحة 129من كتابه تحت عنوان (اعتقاد
الوهابية ومؤسس دعوتهم وقدوتهم ابن تيمية في الله تعالى وصفاته) ما نصه:
(اعلم أن الوهابية ومؤسس دعوتهم محمد بن عبد الوهاب وباذر بذورها
أحمد بن تيمية وتلميذه ابن القيم وأتباعهم ادعوا أنهم موحدون، وأنهم باعتقاداتهم
التي خالفوا بها جميع المسلمين حموا جناب التوحيد أن يتطرق إليه شيء من الشرك،
وادعى الوهابيون أنهم هم الموحدون وغيرهم من جميع المسلمين مشركون كما
سيأتي، ولكن الحقيقة أن ابن تيمية وابن عبد الوهاب وأتباعهما قد أباحوا حمى
التوحيد وهتكوا ستوره وخرقوا حجابه ونسبوا إلى الله تعالى ما لا يليق بقدس جلاله
تقدس وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا، وأثبتوا لله تعالى الوجه واليدين واليد
اليمنى واليد الشمال والأصابع والكف والعينين كلها بمعانيها الحقيقية من دون تأويل،
وهو تجسيم صريح) .
(وحملوا ألفاظ الصفات على معانيها الحقيقية فأثبتوا لله تعالى المحبة والرحمة
والرضا والغضب وغير ذلك بمعانيها الحقيقية من غير تأويل، وأنه تعالى يتكلم
بحرف وصوت فجعلوا الله تعالى محلاًّ للحوادث وهو يستلزم الحدوث كما بين في
محله من علم الكلام) .
(أما ابن تيمية فقال بالجهة والتجسيم والاستواء على العرش حقيقة، والتكلم
بحرف وصوت وهو أول من زقا بهذا القول وصنَّف فيه رسائل مستقلة كالعقيدة
الحموية والواسطية وغيرها، واقتفاه في ذلك تلميذه ابن القيم وابن عبد الهادي
وأتباعهم، ولذلك حكم علماء عصره بضلاله وكفره، وألزموا السلطان بقتله أو
حبسه، فأخذ إلى مصر ونُوظِر وحكموا بحبسه فحبس وذهبت نفسه محبوسًا بعدما
أظهر التوبة ثم نكث ونحن ننقل ما حكوه عنه في ذلك وما قالوه في حقه لتعلم ما
هي قيمة ابن تيمية عند العلماء.
(قال أحمد بن حجر الهيتمي الشافعي صاحب الصواعق في كتابه (الجوهر
المنظم في زيارة القبر المعظم) في جملة كلامه الآتي في فصل الزيارة: إن ابن
تيمية تجاوز إلى الجناب المقدس وخرق سياج عظمته بما أظهره للعامة على المنابر
من دعوى الجهة والتجسيم
…
إلخ.
(وقال ابن حجر أيضًا في (الدرر الكامنة) على ما حكي: إن الناس
افترقت في ابن تيمية (فمنهم) من نسبه إلى التجسيم لما ذكره في العقيدة الحموية
والواسطية وغيرهما من ذلك بقوله: إن اليد والقدم والساق والوجه حقيقية لله، وأنه
مستو على العرش بذاته، فقيل له: يلزم في ذلك التحيز والانقسام؟ فقال: أنا لا
أسلم أن التحيز والانقسام من خواص الأجسام فألزم بأنه يقول بالتحيز في ذات الله
إلخ) .
أقول: حسبي هذه الجملة من تقول الرافضي نموذجًا على كذبه في نقوله
ومزاعمه واقتصاره في النقل على ما يوافق هواه، ويؤيد دعايته ودعواه، كما يفعل
دعاة النصرانية (المبشرون) فيما ينقلونه من القرآن العظيم وكتب الحديث وغيرها
من كتب المسلمين؛ لتشكيكهم في الدين ثم تحويلهم عنه إن لم يكن إلى النصرانية
فإلى الإلحاد والزندقة؛ لأنهم يفضلونها على الإسلام الذي جاء بتوحيد الله تعالى
وتنزيهه، وبكون المسيح عليه السلام نبيه جعله وأمه آية للناس بحملها به من نفخ
روح الله جبريل عليه السلام إلخ - كما فعل أمثالهم أعداء الإسلام من يهود الحجاز
عند ما سألهم مشركو مكة عن دينهم ودين محمد أيهما الحق؟ فشهدوا لهم بأن دين
الوثنية وعبادة الأصنام هو الحق، وبأن دين محمد وهو التوحيد والبعث والشهادة
بالرسالة لموسى عليه السلام وغيره من رسل الله هو الباطل؟ كذا يفضل هذا
الرافضي البدعة على السنة وعلى ظاهر القرآن أيضًا.
***
بيان تَقَوُّلِ العاملي على ابن تيمية والوهابية
زعم الرافضي العاملي المتعصب أن أول من زقا بهذه العقائد أي صاح بها
ودعا إليها هو ابن تيمية وتبعه بها تلميذاه ابن القيم وابن عبد الهادي؛ ولذلك حكم
علماء عصره بضلاله وكفره وألزموا السلطان بقتله أو حبسه إلخ.
أقول (أولاً) : إن الوهابية يدعون بحق أنهم موحدون وحامون لحِمَى التوحيد
من تَطَرُّقِ الشرك، وكان يدعي هذه الدعوى بحق من قبلهم شيخ الإسلام، وعلم
أهل السنة الأعلام، وهادم أركان بدعة الروافض وغيرهم من المبتدعة أرباب
الخرافات والأوهام، وماحق شبهات الفلاسفة وضلالات الكفرة.
(ثانيًا) : إن الوهابية لم يدعوا أنهم هو الموحدون وحدهم وأن غيرهم من
جميع المسلمين مشركون كما افترى عليهم هذا الرافضي المتعصب وغيره، بل لم
يدعوا أنهم فرقة أو أهل مذهب مستقل حتى يصفوا أنفسهم بوصف من دون سائر
المسلمين، وإنما يقولون كما يقول غيرهم من العلماء بتوحيد الله الذي دعت إليه
جميع رسله: إن المسلمين قد صدق في بعضهم حديث نبيهم الثابت في الصحاح من
اتباعهم سَنَن من قبلهم من أهل الكتاب في البدع ومخالفة هداية دينهم كما يصدق في
بعض آخر منهم قوله صلى الله عليه وسلم بأنه: (لا تزال طائفة من أمته ظاهرة
على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله) ، ويقولون: إن الذين اتبعوا
سنن من قبلهم هم أهل البدع من الجهمية والروافض وغيرهم، وإن القائمين بأمر
الله هم المحافظون على الاهتداء بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على
الهدْي الذي كان عليه السلف الصالح من قبل ظهور البدع، ومن قاوم البدع منذ
ظهورها من علماء الأمصار، وفي مقدمتهم الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنهم
أجمعين.
(ثالثًا) : إن ما ذكره من العقائد التي زعم أن ابن تيمية وابن عبد الوهاب
وأمثالهم أباحوا لها حِمَى التوحيد وهتكوا ستوره
…
بإثباتهم لله تعالى صفة العلو
والاستواء على العرش إلخ، إنما أثبتوا بها -كسائر أهل السنة - ما أثبته الله تعالى
في كتابه المعصوم، وفي سنة خاتم أنبيائه المعصوم المبينة له، ذلك الكتاب العزيز
الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه خلافًا لغلاة الروافض المارقين عن
الإسلام بزعمهم أن كتاب الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، لم يكتبه كما
نزل إلا عليٌّ كرَّم الله وجهه وأنه كتمه عن المسلمين إلا أئمة أهل بيته، وأنه انتهى
أخيرًا إلى مهدي السرداب، وأنه سيظهر في آخر الزمان وزعم الكثيرين منهم أن
القرآن الذي تواتر بين المسلمين من عهد النبي وخلفائه الراشدين إلى اليوم قد حرَّفه
الصحابة رضوان الله عليهم وكتموا بعضه، وأن عليًّا وسائر أئمة البيت
المعصومين عندهم قد وافقوهم على ذلك ظاهرًا من باب التقية التي لا تنافي
العصمة عندهم، بل يباح بها الكذب وكذا الكفر كاستباحة كتمان القرآن، ولكن منهم
مَن بيَّن الحقيقة سرًّا لبعض أتباعهم فظلوا يتناقلونها إلى أن أذاعها بعضهم وجمع
نصوصها عنهم صاحب كتاب (فصل الخطاب) المطبوع في إيران، بَرَّأَ اللهُ كتابَه
وأهل بيت نبيه من هذا الكفر والضلال.
وأما كونهم يثبتون تلك النصوص بمعانيها الحقيقية بدون تأويل ولكن مع
إثبات التنزيه فهم متبعون في ذلك لسلف الأمة الصالح غير مبتدعين له، وإنما
ابتدع التأويل الجهمية والمعتزلة وأتباعهم من الروافض بشبهة تنزيه الله تعالى عن
التجسيم والتشبيه، وكان أبو الحسن الأشعري من المعتزلة المتأولين ثم رجع عن
أشهر قواعد الاعتزال واتبع فيها أهل السنة، وظل على ما اعتاد من بعض
تأويلات الاعتزال حتى صفا له مذهب أهل السنة من الشوائب ورجع إلى مذهب
السلف كما صرَّح به في آخر كتابه المسمى بالإبانة، ولكن عدوى التأويل المبتدع
سرت إلى كبار النظار من أتباعه فجرى لبعض أساطينهم ما جرى له من رجوعهم
إلى مذهب السلف في أواخر أعمارهم، أو قبل ذلك كما جرى للإمام الجويني
والإمام الغزالي وغيرهما من المتقدمين ولشيخنا الأستاذ الإمام من المتأخرين.
وأما شبهة المبتدعة المتأولين فهي تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه التي
يعبرون عنها في تأويل بعض الصفات بالتجسيم والتحيز وغيرهما من لوازم الأجسام
فبهذه الشبهة عطَّلوا أكثر صفات الله تعالى حتى صارت عندهم في حكم العدم،
والسلف الصالح أعلم منهم بمعاني النصوص، وبما يجب الإيمان به وأشد منهم
تنزيهًا للرب تبارك وتعالى، وقد كاد ذلك يخفى على أهل القرون الوسطى لقصر
هِمَم علماء السنة السلفيين على علوم القرآن والسنة وإعراضهم عن علم الكلام وعلم
الفلسفة المبتدع ونظرياته الجدلية الخلابة، حتى ظهر شيخ الإسلام ابن تيمية فنظر
بعد الإحاطة بعلوم السنة والنقل المروية والمدونة في الكلام والفلسفة والمنطق
وأظهر كثيرًا من فساد نظرياتها وأثبت صحة مذهب السلف من طريق النقل
وطريق العقل جميعًا.
والقاعدة في ذلك أن تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه قد ثبت بدليل العقل
والنصوص القطعية من النقل كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى:
11) وإن السلف يجمعون بين الأمرين: تنزيه الرب سبحانه ووصفه بما وصف
به نفسه من الرحمة والمحبة والرضا والغضب وغير ذلك وعدم التحكم في التفرقة
بين هذه الصفات وصفات العلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام، فيقولون:
إن رحمته تعالى رحمة حقيقية ليست كرحمة البشر كما أن علمه ليس كعلم البشر
وسمعه ليس كسمع البشر وبصره ليس كبصر البشر إلخ، وكذلك يقول السلف في
استوائه تعالى على عرشه: إنه استواء يليق بجلاله وَتَنَزُّهِهِ عن مشابهة خلقه،
ليس كاستواء الملوك على عروشها، ولا نتحكم بعقولنا بتأويل ذلك كزعم من قالوا:
الاستواء بمعنى الاستيلاء مثلا، وستأتي أقوالهم في ذلك.
ذلك بأن مبتدعة التأويل يقيسون الخالق على المخلوق فيزعمون أن المعاني
الحقيقية لتلك الصفات الإلهية تستلزم التشبيه الممنوع عقلاً ونقلاً، فوجب إخراج
الألفاظ الدالة عليها من مدلولها، وحملها على معانٍ مجازية؛ ليتفق العقل مع النقل،
وفاتهم أن تلك المعاني المجازية هي مستعملة في المخلوقات كالمعاني الحقيقية
فالذين أَوَّلُوا رحمة الله تعالى بإحسانه إلى خلقه فاتهم أن الإحسان المستعمل في اللغة
تعبيرًا عن صفات المخلوقين وأعمالهم مُحَال على الله تعالى أيضًا؛ إذ هو عبارة
عن بسط يد بعطاء أو إنقاذ غريق من البحر مثلاً، وهذا لا يكون إلا بحركات
الأعضاء فهو يستلزم التشبيه أيضًا.
كما يلزم ذلك متكلمي الأشعرية الذين وافقوا المعتزلة والجهمية والرافضة في
تأويل ما عدا الصفات الثمانية التي يسمونها صفات المعاني، فإن العلم الذي هو
أبعد هذه الصفات عن الحاجة إلى التأويل عندهم هو عبارة في اللغة المستعملة في
البشر عن انطباع صور المعلومات في ذهن العالم بها، والله تعالى منزه عن ذلك،
وعلمه أزلي ليس صورة ذهنية للمعلومات التي تثبت الحدوث لما عدا ذاته وصفاته
الذاتية سبحانه وتعالى منها، وفي صفات الأفعال خلاف معروف. فوصفه تعالى
بالعلم بمعناه الحقيقي المعروف في لغة البشر يستلزم تشبيهه بالبشر أيضًا، ولذلك
أنكر أئمة النار من المبتدعة جميع صفات الله تعالى وعطلوها عن معانيها، ومنهم
هذا الرافضي وأمثاله. ومذهب سلف الأمة يهدم هذه البدعة وشبهتها من أساسها بما
بيَّنه به شيخ الإسلام ابن تيمية أوضح بيان كما نقلناه عنه وعن غيره مرارًا،
وخلاصته أننا نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم
من صفاته وأفعاله بمعانيها الصحيحة المتبادرة من اللغة مع القول بالتنزيه ككون
محبة الله لأنبيائه وأوليائه ورحمته بعباده ليستا كمحبة المخلوقين ورحمتهم فيما بينهم
كما أن علمه تعالى ليس كعلمهم - فهذا هو اعتقاد المسلمين المؤمنين الذين يتلقون
دينهم من كتاب ربهم ومما صح عن رسوله إليهم صلى الله عليه وسلم إثباتًا ونفيًا
من غير تحكيم للأهواء والبدع بشبهة قياس الخالق على المخلوق والرب على العبد.
ومثل ذلك إثبات صفة العلو والفوقية له تعالى فقد سمى الله تعالى نفسه:
{العَلِيُّ الكَبِيرُ} (الحج: 62) فيقول سلف الأمة الصالح: إن علوه تعالى على
جميع خلقه ليس كعلو رأس الإنسان على جثته ولا علو من في الغرفة على من في
أسفل الدار، كما يقولون مثل ذلك في اسمه الكبير والعظيم أي أنه ليس بمعنى كبر
الأجسام وعظمتها ككون الجبل أكبر من الصخرة مثلاً، وقد شرحنا هذه المسألة عن
طريق العقل والنقل والعلم الكوني مرارًا، وأثبتنا أن العلو الحسي بين الأجسام أمر
نسبي ليس له حقيقة ثابتة، فكيف نستنبط من لوازمه ما نعطل به صفة الله التي
وصف بها نفسه في الآيات والأحاديث الصحيحة التي أخذها السلف الصالح فالتسليم
من غير جدل ولا تعطيل ولا تأويل، وقد سبق إلى ذلك شيخ الإسلام في كتابه
العرش وغيره فبيَّن أن العلو الحقيقي المطلق لا يثبت إلا لله العلي الكبير القاهر
فوق عباده، وما عداه فعلو نسبي، ولا سيما على القول بكروية العالم.
وقد اشتهر في كتب العقائد وعلم الكلام القديمة والحديثة للأشاعرة أن أهل
السنة انقسموا فيما عدا صفات المعاني الذاتية إلى سلف يفوضون حقيقة تلك
الصفات إلى الله تعالى ويرونها كما جاءت في الكتاب والسنة مع تنزيه الرب تعالى
عن الشبيه والمثل، وخلف يؤولونها تأويلاً يوافق قواعد اللغة التي وردت بها،
وقال بعضهم: إن مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم، ولكن المحققين
المنصفين منهم قالوا: إن مذهب السلف هو الأسلم والأعلم والأحكم، بل قال أبو
حامد الغزالي: إن علم الكلام ليس من علوم الدين الأصلية، وإنما هو ضرورة ألجأ
العلماءَ إليها الردُّ على المبتدعة والفلاسفة فيما خالفوا فيه ما جاء في نصوص الدين
القطعية فهو كحرس الحجيج الذي يحرسهم من قطاع الطريق إنما يجب ما وجد
المعتدون على الحجيج، فإذا لم يوجد من يعتدي عليهم يُسْتَغْنَى عن الحرس؛ لأنه
ليس من أركان الحج ولا من واجباته ولا من سننه.
(للكلام بقية فيها بيان نتيجة ما تقدم)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
إصلاح الأزهر وما يتبعه من المعاهد الدينية
تمهيد
كان الأزهر مستدبرًا لطريق النشوء والارتقاء، يمشي القهقرى أو يسير كل
يوم إلى الوراء، وكان ما حاولته الحكومة من تغيير في نظمه وتبديل في إدارته
عبثًا، لم يزده إلا ضعفًا وخللاً، فكبراء الشيوخ الجامدين لم تفدهم أطوار الزمان
المتبدلة مظهرًا لقوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (الرحمن: 29) عبرة ولا
موعظة، بل ظلوا شديدي التعصب لتقاليدهم وخرافاتهم المنفرة عن الإسلام نفسه لا
عن الأزهر وعلمه فقط، وإنما كان يسرهم من تدخل أولي السلطان في إدارتهم
وتصديهم لإصلاحها ما يبذلونه كل مرة من المال الكثير ولا سيما في عهد جلالة
الملك فؤاد الذي كان أشد مِنْ كل مَنْ سبقه في هذا العصر إغداقًا للمال على هذا
المكان وأهله، انتهى الأمر بيأس الحكومة من إصلاح هذا المعهد أو (المعاهد
الدينية) وشعورها أنه كَلٌّ عليها وعلى الأمة، وأن نفقاته السنوية التي زادت على
مائتي ألف جنيه في السنة صارت مغرمًا وصارت ثقلاً على خزينتها وخزينة
الأوقاف.
***
حديث مع سعد باشا في
الأزهر والإصلاح الديني
كلمت سعد باشا في إصلاح الأزهر في عهد زعامته الأخير - بعد أن دانت له
الأمة والحكومة بما كان من سياسة الوفاق والتعاون بين الأحزاب - فقال لي: لا،
لا، إذا كان شيخنا (ويعني الأستاذ الإمام) لم يقدر على إصلاح الأزهر، فماذا
عسى أن أفعل أنا. فلما رأيته يتكلم بوجدان اليأس والألم لم أَحْتَجَّ عليه كعادتي بأن
شيخنا لم يقدر على إصلاح الأزهر؛ لأنه لم يكن بيده من النفوذ الحكومي مثل ما
بيدك؟ لا لأن الإصلاح المطلوب كان مجهولاً عنده أو متعذرًا عليه أو مُحَالاً في
نفسه، بل كل نفوذ ذي سلطان معارضًا له بقدر ما هو موات لك، وإنما قلت له:
حدثني الشيخ رحمه الله أنك كنت وإخوانك تبالغون في لومه على إضاعة أوقاته في
محاولة إصلاح الأزهر وتتمنون عليه لو يشتغل بغير ذلك من خدمة الإسلام
كتصنيف الكتب النافعة مثلاً، وأنكم كنت تظنون في بعض الأوقات أن الأستاذ
رحمه الله قد اقتنع بكلامكم وأنه سيترك من أول غده الاختلاف إلى الأزهر؛ ثم
تجدونه في غده أشد نشاطًا وهمة منه في أمسه، وأن هؤلاء الإخوان تحدثوا إليك مرة
في التعجب من ذلك، وفي الحيرة في تعليله مع ظهور اقتناع الأستاذ بكلامهم
الوجيه المعقول في نفسه فأجبتهم بقولك: وما يدريك لعل الرجل يشعر في وجدانه
بأنه مسخر من الله تعالى لهذا العمل الواجب عليه، حتى يكاد يكون فاقدًا للاختيار
فيه؟ فهل تذكر هذا يا دولة الباشا؟ قال: نعم وهو ما كنت أعتقده ولا أزال أعتقده
إلى الآن.
ثم قلت له: إنني سمعتك مرارًا تقول: إنه لا يرجى نهوض المسلمين إلا
بالإصلاح الديني وفاقًا لما كان يقوله شيخنا الأستاذ الإمام وأستاذ الجميع حكيمنا
السيد جمال الدين وتستدل على ذلك كما كانا يستدلان بأن أوربة لم تتمكن من
النهوض المدني العلمي إلا بعد القيام بالإصلاح الديني الذي دعا إليه لوثر وأقرانه؛
إذ ما دام المسلمون يفهمون الإسلام فهمًا خرافيًّا أو يلبسونه كالفرو مقلوبًا كما قال
سيدنا علي كرم الله وجهه فلا يُرْجَى أن يصلح لهم شأن في علم ولا عمل.
قال: نعم ولا أزال أرى هذا، فالترقي المدني مع المحافظة على الإسلام
يتوقف على الإصلاح الديني الذي تترك به الخرافات والأوهام إلخ.
قلت: إذًا لا بد أن تعمل في سبيل هذا الإصلاح شيئًا ولديك الأزهر والمنار،
فإذا كنت قد يئست من الأزهر، فلماذا لا تساعد المنار وتنشره في مدارس الحكومة
قال: الحق معك في المنار، وأنا آذنك أن تكلم الشمسي (أي علي باشا الشمسي
وزير المعارف) في هذا عن لساني. قلت: ولِمَ لا تكلمه دولتكم؟ قال: هو بعد
ذلك يسألني وأنا أكلمه.
بعد هذا ذهبت إلى دار وزارة المعارف لأكلم الوزير فعلمت أنه في شغل مانع
من مقابلته في ذلك الوقت فكتبت إليه أنني جئت لأقابله وأنني سأعود، ولكنني لم
ألبث أن ندمت على ذلك ورأيته مخالفًا لخلقي وما ربيت عليه من عدم السعي لنفسي،
أو لمصلحة عامة أقوم بها وحدي، وكراهة التملق للكبراء، فلم أعد إليه ولا إلى
سعد باشا، وتلا ذلك مرض سعد باشا الذي اشتد عليه بعد ذلك فسافر إلى مصطافه
ثم عاد وقضى نحبه ولم أزره بعد تلك الجلسة معه في خزانة كتبه من بيت الأمة،
وقد كان مرادي من بدء هذا الحديث ذكر يأس سعد باشا من الأزهر كغيره من
رجال الحكومة في جميع الوزارات السابقة، ثم رأيت من الفائدة أن أنشر سائر
الحديث؛ لأنه مفيد في موضوع الإصلاح الديني المقصود من إصلاح الأزهر،
ففعلت.
***
تدلي الأزهر وارتقاء
المدارس الدنيوية
وأعود إلى ذكر تدلي الأزهر من حيث يعلو ويرتقي غيره من المدارس المدنية،
بل إلى موته وحياة غيره من المعاهد العلمية الدنيوية، كدار العلوم والجامعة
المصرية، وغيرهما من مدارس الأجانب حتى دعاة النصرانية ومدارس الأفراد
التجارية، فإنها في نجاح مستمر بإقبال أولاد المسلمين أنفسهم عليها وبذل أموالهم
لها لنعلمهم ما يرون أو يرى أولياء أمورهم أنه لا بد لهم منه وإن أفسد عليهم دينهم،
فأقول:
إن المرحوم علي باشا مبارك الوزير المسلم المصلح لم ينشئ مدرسة دار
العلوم إلا ليأسه من قيام الأزهر وحده بتخريج من يصلح لتدريس الفنون والعلوم
العربية ومدارس الحكومة على الطريق الفني (البيداجوجي) وكان من أساتيذها في
أول عهدها الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله تعالى.
ثم إن الأستاذ الإمام لم يضع أساس نظام مدرسة القضاء الشرعي لوعد
الحكومة إياه بتفويض أمرها إليه إلا بعد اضطراره إلى ترك الأزهر ويأسه منه
باضطهاد الأمير ومقاومته وجمود شيوخه وتعصبهم وعجزهم.
ثم إن سعد باشا لم يتم النظام للمدرسة ويجعلها تابعة لوزارة المعارف دون
الأزهر إلا لاعتقاده واعتقاد الحكومة معه أن جعلها تابعة للأزهر يجعلها عقيمًا لا
تنتج إلا خِداجًا.
ثم إن الحكومة حاولت سلب الأزهر كل شيء وقرَّر البرلمان جعله تابعًا في
إدارته لرئيس الوزارة تحت إشرافه بعد أن رأت أن أمل جلالة الملك فيه في غير
محله، ثم مات شيخ الأزهر الشيخ أبو الفضل فأمسكت الحكومة عن تعيين خلف له
عدة أشهر لحيرتها فيه وفي شيوخه كما قلنا في الفصل السابق.
***
رياسة المراغي للأزهر وتأثيرها
ثم كان من قضاء الله وقدره أن وقع الاختيار على نوط هذا المنصب بالشيخ
محمد مصطفى المراغي الذي عرفت الحكومة مكانته بسيرته الحسنة في القضاء
الشرعي بعد أن ارتقى إلى أعلى درجاته، وهي رياسة المحكمة الشرعية العليا.
فماذا كان بعد هذا؟
كان أن زال يأس الحكومة المتولد من طول التجارب في إصلاح هذا المعهد،
وزال يأس أهل الذكاء والشعور بالفساد الذي يفتك بالشعب وبالحاجة إلى الصلاح
الذي لا يكون إلا بإصلاح من الأزهريين، ومن سائر طبقات الأمة، وتجدد لمسلمي
مصر ولحكومتها ولرأس الحكومة والأمة جلالة ملكها رجاء في هذا المكان لم يكن
شيئًا مذكورًا.
ثم سرى هذا الرجاء إلى سائر الأقطار الإسلامية فرددت أخبار الأزهر،
وباتت ترقب ما سيكون من الإصلاح بسرور عظيم.
بل شعر الأجانب من أهل البصيرة والتأمل في أمور العالم في أوربة بأن هذه
المدرسة الإسلامية الجامعة ستكون مدرسة علم عصري ودين معقول إصلاحي،
وأن سيكون لها أثر عظيم في الشعب المصري وحكومته، وفي سائر الشعوب
الإسلامية وقد رددت الصحف الأوربية، ولا سيما الإنكليزية منها، هذه الآراء
والأنباء ونشرتها في جميع الأنحاء والأرجاء.
كل هذا وشيوخ الجمود التقليدي من أهل الأزهر لم يشعروا بأي معنى من
معاني الإصلاح الصوري ولا المعنوي الذي شعر به المشرقان والمغربان، وخفق
له الخافقان وإنما شعروا باضطراب وزلزال يتهدد تقاليدهم وخرافاتهم التي بها تقبل
العامة أناملهم، وترضخ لهم من فضول أرزاقها، فطفقوا يتململون ويتبرمون،
ويجهرون بما يهجرون، ويجأرون بما يجرؤون يا مسلمين قد أبيح الاجتهاد، وفتح
باب الكتاب والسنة للعباد وهو الذي أغلق بابه بعد أولئك الأئمة الأفراد، فأمسى
الأزهر عرضة للفساد.
وكتاب الله يصيح بهم، بما يذكرهم سنن الله فيمن قبلهم: {لَا تَجْأَرُوا اليَوْمَ
إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ * قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ *
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ * أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ
الأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُوَلَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} (المؤمنون: 65-69) .
ماذا فعل هذا الشيخ الجديد محمد مصطفى المراغي، وماذا قال الشيخ عليش
بلسان أمثاله، لقد جئت شيئًا إمرًا، لقد جئت شيئًا نكرًا، إنه لم يخرق سفينة
الشريعة الراسية بل أراد تسييرها، فقال:] بسم الله مجراها ومرساها [، وما قتل
نفسا زكية بغير نفس بل نفخ في هذه الأمة ما لو سرى فيها لأحياها، كانت نفس الأمة
ميتة بالجهل والتقليد والخرافات، فأراد إحياءها بآيات القرآن البينات، وما دعا إليه
القرآن من علم كوني وشرعي، ومن عمل ديني ودنيوي، وما بينه به رسول الله
صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة الصالح، وهو ما لا يرجى بغيره صلاح هذه الأمة
كما قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما
صلح به أولها) ، وفتح للأزهر أبواب الرزق والجاه الصحيح الذي يمكنهم من النفع
بعلمهم، وتعميم هداية دينهم.
ولكن ما بال هؤلاء الشيوخ والأمة صلحت أم فسدت؟ علمت أم جهلت؟
حيت أم هلكت، ما داموا يرون في العامة من يقبل اليد ظهرًا أو بطنًا، ويرضخ
لها سرًّا وجهرًا، فكيف حال من له منهم في الأزهر أو في القضاء الشرعي راتب
ينعم به ويربي به أولاده ويعلمهم في المدارس المدنية التي يصف هو وأمثاله أهلها
بالكفر؛ لشعوره بأن الأزهر صار أضيق أبواب الرزق على أكثر الذين يتخرجون
فيه.
نعم إن شيوخ الأزهر الجامدين المعادين للإصلاح يعلمون أن أهله في كل عام
يرذلون ويضيق رزقهم كما يقل احترامهم، ويعدون هذا من استحواذ الكفر والفسوق
والعصيان على جماهير الناس من دونهم، ولكنهم لا يفكرون في سبب هذا الكفر
والفسوق والعصيان، ولا يخطر في بالهم أنه يجب عليهم مقاومته ونشر العلم الذي
يهدي إلى الإيمان والبر والتقوى، ولو فكروا وتأملوا وتدبروا لعرفوا ما عليهم من
التبعة، وما لهم من الشركة في كل ما يشكون منه وفي أسبابه، ولعلموا أن الأمة
مع حكومتها صارت في غنًى عنهم، وعن أزهرهم؛ لأنه أمسى في نظرها عضوًا
أشل، أو عضوًا أثريًّا كما يقال في هذا العصر، وهذا ما كان يعالجه الأستاذ الإمام
بحكمته ويحاول تلافيه بكل ما أوتي من علم وعرفان ونفوذ وعزيمة: كان يحاول
أن يجعل الأزهر عضوًا عاملاً تشعر الأمة والحكومة بالحاجة إليه وعدم الاستغناء
عنه، بل كان يطمع فيما هو فوق ذلك: كان يطمع أن يجعله عضوًا رئيسيًّا في
بنية الأمة الإسلامية لا في بنية الشعب المصري وحده، وإنما تكون به مصر مركز
هذا العضو الرئيس وهذا عين ما يقصد إليه تلميذه الشيخ محمد مصطفى المراغي،
وقد سنح له من الفُرَص وتهيأ له من الأسباب ما لم يكن شيء منه في عهد أستاذه
وأستاذنا الإمام رحمه الله تعالى.
توجهت همة الأستاذ الأكبر - وفقه الله تعالى - من أول وهلة إلى الإصلاح
بقسميه الديني والدنيوي، ومظهريه الصوري والمعنوي، وغايته الرسمية وغير
الرسمية، فطلب من الحكومة أن تنشىء مباني جديدة لإقامة المجاورين ونومهم
وأكلهم وشربهم كأبنية المدارس الأميرية في نظافتها وموافقتها للصحة ومراعاة
كرامة الطلبة في أكلهم وشربهم ونومهم واستحمامهم فوافقته على ذلك كما وافقته
على قبول خريجي الأزهر أساتذة للتعليم في مدارسها ولغير ذلك من وظائف
الحكومة التي كانوا محرومين منها، ففتح لهم أبواب الرزق مع الشرف والكرامة
من طريق العلم والدين كما فتح لهم أبواب خدمة الدين بالوعظ والإرشاد والدعوة إلى
الإسلام بما لم يكونوا مستعدين له من قبل بعلمهم الناقص من كل وجه، ولا
بتربيتهم الفاسدة باقترانها بالوساخة والمهانة والضغط على الأفكار والعقول فهم
يأكلون البصل والكرات وغير ذلك في المسجد أفرادًا وجماعات، وإذا سأل أحد
منهم أستاذه عن شيء يسوءه السؤال عنه ولا سيما إذا كان استشكالاً لما قرَّره سبَّه
وشتمه وربما رماه بالحذاء.
***
شبهة الطاعنين في
إصلاح الأزهر ودحضها
لا يستحي أعداء الإصلاح من هؤلاء الشيوخ وأنصارهم أن يقولوا ما حاصله
أن الأزهر أسس من أول يوم على التقوى والصلاح والتواضع وهضم النفس
والتقشف في المعيشة تدينًا واستعدادًا لخدمة الدين لوجه الله تعالى لا للتمتع بالدنيا،
ويريد الشيخ الجديد أن يربيهم تربية دنيوية كما يتربى الأغنياء والمترفون،
والعظماء المتكبرون، وهذا مخالف لغرض الدين، ولما ينبغي لعلماء الدين
وللمنقطعين لخدمة الدين، ابتغاء مرضاة رب العالمين، وإنما الإسلام دين زهد
وقشف، لا دين عظة وسرف، يدل على ذلك كله هدي السلف.
***
ونقول في دحض شبههم
أولاً: إن الأزهر لم يؤسس على ما ذكروا، بل كان كمسجد الضرار، بنيانه
على شفا جرف هار، فانهار بمؤسسيه في نار جهنم وبئس القرار، فإن الله تعالى
أنقذه من شر الذين أسسوه وكفرهم وضلالهم، وهم باطنية العبيديين الذين كانوا
يستترون بمذهب الشيعة على ما فيه من بدع لم يسلم قطر إسلامي من شرها،
ويخفون الكفر وما يقصدون من هدم الإسلام بدعايتهم التي بيَّن العلامة المقريزي في
خططه المشهورة درجاتها.
ثانيًا: إن الإسلام نفسه ليس دين زهد وقشف، ولا دين سرف في ترف، بل
دين وسط جامع بين حسنتي الدارين وطلب سعادتهما، كما بيَّناه بالتفصيل في
مواضع من المنار ومن التفسير، وقد كان قشف بعض السلف اضطراريًّا وبعضه
اختياريًّا للقدوة، كما كان توسُّع بعضهم في الزينة والطيبات كذلك، وقد قال بعض
الصحابة لفضالة بن عبيد رضي الله عنهما وكان على مصر: ما لي أراك شعثًا
وأنت أمير الأرض؟ قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهانا عن
كثير من الإرفاه) قال: فما لي لا أرى عليك حذاء؟ قال: (كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يأمرنا أن نحتفي أحيانًا) .
فتأمل كيف سأل صحابيًّا عن شعاثة شعره؛ إذ رآه غير مُتَرَجِّل؟ وظاهر أن
السؤال للتعجب، وأن وجه التعجب كونه أميرًا قادرًا على الزينة المحمودة شرعًا،
ومنها ترجيل الشعر ودهنه وتأمل كيف أجابه بما هو الفصل في المسألة، وهو
الاقتصاد في الرفه وعدم الإسراف فيه، يقال: رفه الرجل من باب فتح وأرفه
وترفه واسترفه، إذا استراح وتنعم، وأرفه غيره جعله رافها، وفي (عون المعبود)
شرح سنن أبي داود: قال الحافظ: القيد بالكثير في الحديث إشارة إلى أن الوسط
المعتدل من الإرفاه لا يذم وبذلك يجمع بين الأخبار اهـ.
أقول: وهذا ما عليه أهل العلم بفنون الصحة والاجتماع في هذا العصر، فإن
الإسراف في الرفه يُضْعِف الأجسام والهمم، ويُفْسِد الأفراد والأمم، ومن ذلك عملهم
ببقية الحديث ارتياضًا لا اتباعًا وهو الاحتفاء في بعض الأحيان حتى إنك ترى
أكابر أهل هذه البلاد في مصطاف رأس البر يمشون حفاة وهم من أشد أهل الدنيا
رفاهة.
ثالثًا: إن القشف الاختياري من تربية النفس التي تقوي الجسم والإرادة،
وقلما يوجد في الأزهر من تخطر هذه التربية بباله، والإصلاح الجديد يساعدهم
عليها.
رابعًا: إن المعروف بالاختبار أن أهل الأزهر قد استحوذ عليهم حب المنافع
المادية فهم لا يقلون فيه عن غيرهم، وكل ما طلبه أفرادهم وجماعاتهم من الحكومة
لأزهرهم في السنين الأخيرة يدندن حولها، ولكن هممهم دون همم غيرهم في طلبها.
خامسًا: قد سبق لنا أن طالبنا شيخ الأزهر السابق المرحوم الشيخ أبا الفضل
الجيزاوي بإصلاح الأزهر فقال لنا في سياق حديثه في ذلك: إنه لا يعرف أحدًا من
أهل الأزهر يطلب العلم لوجه الله تعالى، بل كلهم من طلاب الدنيا بعلم الدين،
وقال الأمير عباس حلمي الثاني في أواخر عهده بهذه البلاد: إنني اختبرت علماء
الأزهر مدة ثماني عشرة سنة ثبت لي فيها أنهم طلاب منفعة شخصية من الجراية
والرواتب وكساوي التشريف ما كانوا يطلبون مني غير ذلك.
فإن قيل: إن من المعلوم بالبداهة أن شيخ الأزهر لا يعرف حال جميع طلاب
العلم فيه، ولا العلماء أيضًا، وكذلك الخديوي بالأولى، فمن الجائز أن يكون فيه
من يشتغل بالعلم لوجه الله تعالى، قلنا: نعم، ولكن هؤلاء لا يكونون إن وجدوا في
هذا العهد إلا أفرادًا قليلين، وما يفتحه الإصلاح الجديد من أبواب الرزق لكثير من
الذين يتخرجون في هذا المعهد أو المعاهد لا يكون عثرة في سبيل أولئك الأفراد من
الزهاد، كما أنه لا يمنع أن يوجد فيمن تفتح لهم أبواب الرزق بالعلم من هم أشد
منهم إخلاصًا في طلبه ابتغاء وجه الله تعالى في خدمة الدين وأهله به، فالإخلاص
والزهد من الصفات النفسية الباطنة، فكم من فقير هو أشد رغبة في حطام الدنيا
وحرصًا عليه وطمعًا فيه من الأغنياء، ففقر النفس شر من فقر اليد، وأجدر منه
بما روي من قرب الفقر من الكفر [1] ، وقد رُوي عن الشيخ عبد القادر الجليلي إمام
الصوفية وأحد كبار العلماء في عصره أنه شكا إليه بعض مريديه إقبال الدنيا عليهم
فقال لهم: (أخرجوها من قلوبكم إلى أيديكم فإنها لا تضركم) .
هذا وإن أحمز ما مس شيوخ الأزهر من علم الشيخ المصلح وألذعه هو أخذه
بعض المعلمين من خريجي دار العلوم لتعليم اللغة العربية، وأنكى منه وأنكأ
اختياره واحدًا منهم [2] لدرس الفقه في قسم التخصص، وذلك من إنصافه ومحاولته
إبطال تلك العصبية الأزهرية، وما كان له أن يستهدف لسخط الأزهريين لولا
اعتقاده أنه لا يوجد في خريج المعاهد الدينية من يغني غَنَاء هؤلاء، فكان هذا في
عرفهم طعنًا ضمنيًّا في كفاءتهم وكفايتهم، ولذلك أذاعوا بين الناس أنه يريد أن يعهد
إلى طه حسين الأستاذ في الجامعة المصرية بإلقاء بعض الدروس في الأزهر ليبث
شبهات الكفر والإلحاد فيه، وحاشاه من ذلك، والذين اختارهم للتدريس في الأزهر
من خيار رجال الدين علمًا وأدبًا وعملاً ونحن نراه أشد احتياجًا إلى أساتذة آخرين
للتربية الدينية الروحية العقلية بالعلم والعمل منه إلى هؤلاء وغيره، فهل يجدون له
في الأزهر من يغنيه عن التماس هؤلاء المربين في غير الأزهر؟ لعله يعوزهم أو
يعجزهم إحسابه في هذا.
***
الحاجة إلى التربية العقلية
إننا نرى أن أمر هذه التربية أعظم أركان الإصلاح المطلوب وأعسره، وأنه
إن وجد قد يأتي بغيره من ضروب الإصلاح، وإن غيره لا يأتي به؛ لأن النفس
البشرية إذا صلحت أصلحت كل شيء، وإذا فسدت أفسدت كل شيء، كما جاء في
الحديث الصحيح، ولكن بلفظ القلب الذي يلاحظ في استعماله معنى العقل والوجدان
معًا، وهذه المسألة لا تتجلى إلا بمقال خاص، بل يتسع المجال فيها لعدة مقالات
بل لتصنيف سِفْر كبير.
وغرضي منها الآن أن إصلاح الأزهر الذي يطلبه الشعب المصري ويرقبه
وسائر الشعوب الإسلامية على تفاوتها في الاستعداد والقرب والبعد يتوقف على هذا
الأمر، وإن كان ما طرقه الأستاذ الأكبر من أبواب الإصلاح غير هذا فهو كالجسد
وهذا كالروح له، وإن شئت قلت: إن إصلاح الألسنة والأقلام باللغة الفصحى،
وإصلاح الأفكار بالتعليم البيداجوجي لعلوم الدين والدنيا، هما كأركان الصلاة البدنية
من قيام وركوع وسجود وتلاوة وذكر باللسان، وإن إصلاح القلوب بالتربية الروحية،
والعقول بالتربية الاستقلالية، هما كتدبر القرآن وأذكار الصلاة والاعتبار بها
والخشوع فيها.
فإذا لم يقرن الإصلاح الفني النظامي اللساني البدني فيه بالإصلاح الروحي
العقلي، فإن الأفكار المادية النفعية تستحوذ على المتعلمين في الأزهر، فيكون
المتخرجون فيه كالمتخرجين في المدارس الدنيوية الرسمية التبشيرية والكسبية،
ويكون ذلك قضاء على الدين وأهله، وإذا وجد الإصلاحان كلاهما كان الغلب
والسلطان للأزهر على المدارس الدنيوية ووسيلة إلى الإصلاح الروحي الأخلاقي
فيها ثم في الأمة كلها، فالآن الآن قد دخلت جامعة الأزهر الدينية في طور التنازع
مع الجامعة المصرية المادية أو الدنيوية، فإما أن يتفقا على الجمع بين الحسنتين
لنيل السعادتين، وإما أن تُفْسِد الثانية الأولى، ما كان للأزهر أن يكون غالبًا ولا
منازعًا لو بقي على جموده الأول.
ويحزننا أن منتقدي الإصلاح الجديد لم يعيروا هذا الأمر العظيم شيئًا من
عنايتهم على ما يدعون من غيرتهم على الدين، وإنما أقاموا النكير ودعوا الويل
والثبور أن ذكر الأستاذ الأكبر في مذكرته الإصلاحية الاجتهاد في العلم، أي
الاستقلال في فهم الكتاب والسنة، ومعرفة مدارك الأئمة، وأخذ مسائل الأحكام
بأدلتها، ومراعاة حكمة التشريع فيها، ولماذا؟ لأنهم يحرمون العلم بتحريم الاستدلال
الاستقلالي، ويوجبون الجهل بإيجاب التقليد الذي ذمه الله في كتابه، وصرح الأئمة
المجتهدون بتحريمه وإيجاب الاستقلال في الفهم، والاستدلال في العلم، وكان
المتقدمون يعبرون عن المقلد بالجاهل، ثم وجد من العلماء من أوجب تقليد كل إمام
مجتهد بشرطه، ولكن هؤلاء المتأخرين الجامدين يحرمون أخذ الدين من كتب
المجتهدين أنفسهم، ويوجبون تقليد المؤلفين من أتباع أتباعهم المقلدين لهم؟ بل
يوجبون تقليد طلاب المعاهد الدينية لهم هم، وإنما هم مقلدون للمقلدين لا للمجتهدين،
فجعلوا دون اقتباس نور الشارع عدة حُجُب كما قال الغزالي في مشكاة الأنوار، بل
نصَّبوا أنفسهم للتشريع بدون إذن الله تعالى، فأي طالب أنكر على أستاذ منهم قولاً أو
خرافة قرَّرها في الدرس نبزه بلقب الكفر أو ما يقرب منه عنده، وربما يسعى لطرده
من الأزهر، ولا يمكن أن يبقى ببقاء هذا النوع من التعليم علم ولا دين ولم يعد يقبل
هذا أحد يعرف قيمة نفسه في هذا العصر.
***
ما لا تتم التربية والتعليم
الإصلاحيان بدونه
ألا وإنه لا يتم الجمع بين التربية الدينية الروحية العقلية وبين التعليم الديني
المدني الاستقلالي، وإن وجد أهلهما إلا بمراقبة الطلاب في أعمالهم وأخلاقهم
ومعاشراتهم وباختيار كتب للمطالعة تعين على ذلك، وبإنشاء كتب جديدة لعلوم
النفس والأخلاق والاجتماع والتاريخ، ولا سيما التاريخ الديني والمقارنة بين الأديان
وسائر ما يُسَمى بالعلوم الجديدة تكون هذه الكتب خالية مما يثير الشبهات والشكوك
في الدين وممزوجة بما يوثق عروة الإيمان واليقين.
ولا يتم هذا إلا بتأليف لجنة للتأليف والترجمة وتحضير الدروس يكون بعض
أعضائها من الراسخين في لغات العلم الثلاث الألمانية والإنكليزية والفرنسية
والآخرون من أهل البصيرة والرسوخ في علوم الدين، ولا سيما التفسير والحديث
والأصول وحكمة التشريع، وقد ذاكرنا الأستاذ الأكبر في هذا كله فوجدنا له من
نفسه وعقله المنير خير عطف وتقدير، وأحسن تفكير وتدبير.
وأما إرسال البعثات الأزهرية إلى أوربة الذي أذاعته الجرائد فهو الآن مبتسر،
ويخشى أن إثمه أكبر من نفعه، فإننا نرى أكثر الذين يتعلمون في أوربة يرجعون
إلى بلادهم وهم زنادقة أو فسقة، وإنما تينع ثمرة هذه الفكرة بعد أن يتخرج في
حجر الإصلاح من هذه المعاهد الدينية الأزهرية أفراد كملت تربيتهم الوجدانية
وتعليمهم الاستقلالي الاستدلالي على الوجه الذي أشرنا إليه في هذا المقال، ويكون
غرضهم الأول من الإخصاء في بعض العلوم أو الفنون في هذه المعاهد الاستعداد
التام لخدمة الإسلام ونهضة المسلمين مع المحافظة على هدايته فيهم، ومراعاة
مقوماتهم الملية، ومشخصاتهم القومية، وإن فساد أزهري واحد يعود من أوربة
لأضر على الإسلام والمسلمين من فساد سبعين طالبًا من المدارس الدنيوية، ولا
يخفى شيء من هذا على ألمعية الأستاذ الأكبر شيخ جامع الأزهر.
وأختم هذا المقال بالتذكير بالحاجة إلى إنشاء لجنة في إدارة المعاهد الدينية
للفتوى العامة في كل ما يتعلق بالعقائد الإسلامية وحكم التشريع ودفع الشبهات عن
الدين، وحل عقد المشكلات في كتبه وغير ذلك مما يرى قراؤنا مثاله في فتاوى
المنار، وربما نفصل القول في هذا عند الحاجة، ونسأله تعالى تأييد الأستاذ المراغي
في عمله وتسخير الرجال الصالحين له فيه، وكفّ شر الجامدين والخرافيين عنه إنه
سميع قريب.
_________
(1)
إشارة إلى حديث (كاد الفقر أن يكون كفرًا) وهو ضعيف، في سنده يزيد الرقاشي، وهو متروك.
(2)
هو صديقنا الأستاذ الشيخ أحمد إبراهيم مدرس الشريعة في كلية الحقوق الآن وكان مدرسًا له في مدرسة القضاء الشرعي بعد أن درَّسه في مدرسة الحقوق أيضًا، ولما حضر درسه المرحوم عمر بك لطفي القانوني الشهير وكان وكيل مدرسة الحقوق قال: إنني لم أر في مصر من يضاهي في إلقائه وتحقيقه أكبر علماء الحقوق في أوربة إلا هذا الأستاذ.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الانقلاب المدني الديني في بلاد الأفغان
إننا منذ علمنا بأن أمير الأفغان ثم ملكها أمان الله خان يعتمد على بعض
المتفرنجين والملاحدة من ضباط الترك الاتحاديين، ثم الكماليين في تدريب جيش
له وتعليمه أوجسنا في أنفسنا خيفة على هذا الشعب أن يفتنه في دينه هؤلاء الملاحدة،
وأعظم هذه الخسارة على المسلمين وسائر الشرقيين.
وكنت أتمنى لو يتاح لي لقاء بعض كبار الأفغانيين الذين يترددون بين الشرق
والغرب في هذا البلد الوسط بين الخافقين لأكلمه فيما يجب على قومه وحكومته،
وما ينبغي لهم وما يُخشى عليهم، أقف على رأيه وأطلعه على رأيي في ذلك،
وما زلت أرقب الفرص حتى علمت بأن أحد هؤلاء الرجال العاملين وصل إلى مصر
منصرفًا من بلاد الترك إلى بلاده وهو سلطان أحمد الذي كان سفيرًا للأفغان في
أنقرة فبادرت إلى زيارته في فندق (ناسيونال) وبعد الترحيب به بدأت حديثي معه
بذكر السيد جمال الدين الأفغاني وما له من الفضل في إيقاظ الشرق عامة والمسلمين
خاصة، وتوجه عقولهم وهممهم إلى ما يجب عليهم من الإصلاح الديني والمدني
السياسي في هذا العصر قبل أن تقضي أوربة على ما بقي بأيدهم من سلطان وملك
وتَحُول بينهم وبين كل عمل، ثم انتقلت إلى ذكر ما تجدد لنا من الرجاء في نهضة
الشعب الأفغاني الذي نخصه بمحبة زائدة لانتماء السيد جمال الدين إليه ونرى أنه
أولى بالانتفاع بآرائه، وقاعدتها بناء الإصلاح المدني والسياسي على قواعد الدين
الإسلامي الذي هو أقوى مقومات الشعوب بجمعه بين الهداية والفضائل الروحية
السليمة من الخرافات المفسدة للبشر، وبين طلب السيادة والملك والعمران من
الطرق العلمية والسنن والنواميس الاجتماعية.
وبينت له ههنا أن جماهير المسلمين صاروا يجهلون هذه القواعد فمنهم من
يتعصب للتقاليد الموروثة من القرون الأخيرة التي ضعُف فيها العلم والدين في الأمم
مؤيدًا بنصوص الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح لهما، ومنه كراهتهم للعلوم
والفنون والنظم التي سادت بها حضارة العصر واعتزت دوله، ومنهم من توجه إلى
طلب هذه الحضارة بتقليد أهلها في عاداتهم وأزيائهم وظواهر نظمهم وبعض
قوانينهم، وإن كانت غير ملائمة لهم في مقومات أمتهم ومشخصاتها التي هي مأخذ
تلك القوانين ومستمدها، وبذلك وقع التفرق بين شعوب المسلمين، والانقسام
والتنازع بين أهل كل شعب وجد فيه هذان الفريقان كالترك والمصريين فأضاع كل
منهما ما أضاع من ملكه واستقلاله.
كل فريق من الفريقين اللذين يتألف منهما أكثر كل شعب من المسلمين
مخطئ في فهم معنى الإسلام الديني والمدني فهؤلاء يتوهمون أنه ينافي العلوم
والفنون التي عليها مدار الحضارة والقوة والثروة، فصاروا يطلبون هذا بتركه حتى
انتهى ذلك بزعماء الترك الكماليين إلى تركه، والحرمان من زعامة الشعوب
الإسلامية المالكة لمعظم رقبة الشرق الأدنى والأوسط ولهم سهم كبير في الشرق
الأقصى، وأولئك يتوهمون وهمهم ولكنهم آثروا التقاليد الإسلامية بما أحدثوا فيها
من البدع الخرافية على الحضارة العصرية.
ولا يمكن الجمع بين الفريقين وتوحيد كل شعب إسلامي إلا بقاعدة السيد جمال
الدين الأفغاني في الإصلاح، وهذه القاعدة قد تمكنت من عقلاء المسلمين الجامعين
بين الاستقلال العقلي في فهم الإسلام الصحيح الذي جاء به محمد صلى الله عليه
وسلم، وبين معرفة حال هذا العصر، وما تتوقف عليه السيادة والعزة للشعوب
وحكوماتها فيه، ولكن هؤلاء العارفين بالأمرين متفرقون في كل قطر لما يصيروا
حزبًا واحدًا متعاونًا.
ومن حسن الحظ أن هذا التفرق والانقسام لم يتمكن من الشعب الأفغاني العزيز
فبناء الإصلاح فيه على أساس القواعد الجمالية الأفغانية أسهل من بنائه في قطر
إسلامي آخر، وههنا ذكرت لمحدثي أحوج ما يحتاج إليه شعبهم الآن من الإصلاح
الدنيوي وهو (1) النظام المالي (2) تنمية موارد الثروة الوطنية من الزراعة
والصناعات واستخراج المعادن (3) تنظيم القوى العسكرية.
وقلت له: إن اقتباس الفنون التي يتوقف عليها ترقي الزراعة والصناعة
والعسكرية واجب شرعًا، وليس فيه شيء يعارض تعاليم الإسلام، فيجب عليكم
البدء بذلك، واجتناب الفلسفة والقوانين الأوربية التي تصدم الدين فيعقبها تصادم
رجاله ورجال الحكومة وانقسام الأمة وتعاديها.
ثم قلت له: ولا يغرنكم تهور الترك الكماليين، وما يظهر لكم، ولكل من لا
يرى إلا ظواهر الأمور ومشارفها من نجاحهم في نبذ الإسلام ومعاداته، فإن فرضنا
أن ظهارة أمرهم كبطانته وخوافيه كقوادمه، وليس كذلك، فلا يجوز أن ننسى
الفروق بين الشعبين الأفغاني والتركي في تاريخهما وحالتهما الحاضرة والفرق بين
زعمائهما، وذكرته بشيء من هذه الفروق التي بينتها في مقال الجزء الماضي
الخاص بالترك.
ثم قلت له: إنكم وإن اجتنبتم ما ذكرت لا بد أن تلقوا معارضة من علماء
بلادكم من طريق الدين لما يغلب على أولئك العلماء من الجمود على التقليد لكتب
فقه المذهب الحنفي، ولكن هذه المعارضة تكون ضعيفة وإقامة الحجة فيها على
العلماء هينة، وترون من هذا العاجز ومن غير من علماء مصر وغيرها من يدلي
إلى حكومتكم بهذه الحجة التي لا يمكن لعلمائكم دحضها، فإن لم تقبلوا هذه النصيحة
فسترون من الثورات والفتن التي يثيرها الفقهاء في شعبكم الشديد التعصب القوي
البأس ما فيه الخطر العظيم.
هذا أهم ما ذكرته لسلطان أحمد يتخلله بعض حديثه، وقد أكون نقصته بعض
المسائل وزدت بعضها إيضاحًا ولو كتبته عقب لقائه لنصصته على غرّه، وأذكر
من قوله أنه اعترف بتعصب أهل بلاده وشدتهم، وبأنه لا يأمن هو على حياته منهم
بعد وصوله إليهم إذا صرَّح بما يراه ويعتقد، ومنه أن الإصلاح الفني والمالي
والعسكري الذي قلت إنه يكفيهم الآن يستلزم الإصلاح التشريعي.
قلت له: إن الشريعة الإسلامية شريعة يسر وسماحة، وهي تتسع لكل
إصلاح بشرط أن لا يلتزم مذهب واحد من مذاهب فقهائها، وأنه لا يوجد فيها شيء
متفق عليه بين أئمتها يعارض حضارة العصر فيما هو من المنافع والمقاصد
الجوهرية إلا الربا الصريح الذي توسع فيه بعض الفقهاء بأقيستهم الزائدة على
نصوص الشارع، وإن شعبكم غير مضطر في معاملاته إلى الربا، وأما حكومتكم
فاقتراضها بالربا خطر على استقلالها، فالواجب عليها أن تقتصر من العمران على
ما تسمح لها به ثروتها وأن يكون بالتدريج.
ثم إني رغبت إليه أن يعرض هذه الآراء على أميرهم بعد عودته ذاكرًا له
نصيحتنا له بالمحافظة على الإسلام وما فيه من القواعد المعنوية والسياسية ووقاية
الشعب من مفاسد الآراء العصرية الاجتماعية كالبلشفية والفوضوية والإباحية،
وذكرت له أنني رأيت أثناء سياحتي في الهند سنة 1330 (1912) أن مسلميها
يحبون الأفغان ولهم فيهم آمال عظيمة، وكان هذا قبل الاستقلال الصحيح الذي تم
بعد الحرب الكبرى، وأن هذه الحب والأمل مما يجعل الدولة البريطانية تحرص
على مودة دولتهم، وأن إعراضهم عن الإسلام يضيع عليهم كل هذا وما هو أعظم
منه، وقلت: إنني مستعد لبيان كل ما يراه منتقدًا من كلامي فلم ينتقد شيئًا.
ثم وعدني سلطان أحمد أن يبلغ رأيي للملك أمان الله خان ولكنني شككت في
وعده؛ لأنني رأيته لم يناقشني في شيء إلا ما ذكره مختصرًا من الحاجة إلى
التشريع الجديد ثم صار الشك ظنًّا قويًّا لما رأيته اكتفى من رد الزيارة لي بإعطاء
بطاقة الزيارة إلى بواب الدار وهو راكب.
***
محادثة غلام جيلاني سفير
الأفغان في أنقرة
غلام جيلاني خان هذا ركن من أركان الاتفاق بين الترك والأفغان باتباع
هؤلاء لخطوات أولئك بأن يكونوا تلاميذ لهم وعالة عليهم في تنظيم جندهم
وحكومتهم وإنشاء شعبهم إنشاء أوربيًّا جديدًا، وقد تيسر لي الاجتماع به مرارًا في
الحجاز؛ إذ جاءها مندوبًا عن حكومته لحضور المؤتمر الإسلامي العام في موسم
الحج سنة 1344 وقد جاء هو والمندوب التركي متأخرين عن موعد عقد المؤتمر،
وكان المقدر أن يختم المؤتمر قبل يوم عرفة، ولكن كثرة المجادلات التي أثارها
مندوبو جمعية الخلافة من مسلمي الهند اقتضى تأخير بعض جلساته الختامية إلى ما
بعد انتهاء الحج، وبذلك أدرك مندوبو الترك والأفغان هذه الجلسات.
لقيته أول مرة في أصبوحة يوم عرفة؛ إذ اتفق أن بتنا ليلتها في خيام لجنة
الأطباء الصحية؛ لأننا وصلنا إلى عرفات ليلاً، ولم نهتد إلى خيام ضيافة الملك
التي أعدت لأعضاء المؤتمر، وإنما هدانا إلى خيام اللجنة الصحية مصابيحها
العالية القوية النور، بات كل منا في خيمة وفي الصباح أخبروني بأن سفير الأفغان
عندهم فذهبت إلى زيارته، وأحضروا لنا الفطور إلى خيمته، وجلسنا جلسة طويلة
ذكرت له فيها ما في نفسي من أمر دولتهم على النحو الذي ذكرته لسلطان أحمد
بمصر، فوافقني على كل ما قلته وطمأن من قلقي وأمن من فَرَقِي بقوله: إن جلالة
ملكهم معتصم بالإسلام حريص على المحافظة عليه إلخ.
***
السعي لدى جلالة ملك
الأفغان ورجاله بمصر
لما زار جلالة أمان الله خان مصر في أول شتاء العام الماضي قابلته مع
إخواني أعضاء مجلس الرابطة الشرقية وقدمت له بعض مؤلفاتي ومؤلفات الأستاذ
الإمام فقبلها مع الشكر، ثم رغبت إلى زميلي في المؤتمر الإسلامي العام غلام
جيلان خان سفيره لدى الجمهورية التركية - وكان في بطانته - أن يأخذ لي موعدًا
بمقابلة خاصة لأعرض فيها على جلالته رأيي ورأي حزبنا الجمالي الأفغاني في
الإصلاح الذي تحتاج إليه الشعوب الإسلامية في هذا العصر كما حدثته في الحجاز
ولأقدم له تفسيري للقرآن الحكيم الذي يتضمن أقوى الحجج لهذا الإصلاح الديني
المدني السياسي؛ ليطلع عليه كبار علمائهم عسى أن يخفف من جمودهم فوعدني
بذلك مظهرًا للسرور والارتياح فأعطيته أجزاء التفسير مجلدة تجليدًا حسنًا فما زالت
عنده وما زال يمطلني في أخذ الإذن بالزيارة إلى يوم موعد سفر الملك، فلما علمت
بموعد سفره عجلت بكتابة كتاب إلى جلالته، اختصرت فيه ما كنت أريد بسطه له
بالمشافهة، وهذا نصه:
***
نص كتابي لملك الأفغان
بسم الله الرحمن الرحيم
من داعية الإصلاح الإسلامي محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار.
إلى صاحب الجلالة أمان الله خان الملك الأول للأفغان، والمجدِّد فيها لمجد
الإسلام، وفقه الله تعالى لما يحبه ويرضاه.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد فإنني عشقت الشعب الأفغاني منذ
نشأتي العلمية بالتبع لعشق المصلح الأكبر حكيم الإسلام وموقظ الشرق السيد جمال
الدين الحسيني الأفغاني - قدس الله روحه - فقد كنت داعية له في حياته وكنت
(وقتئذ) تلميذًا، ثم اتصلت بخليفته وأعظم مريديه الأستاذ الشيخ محمد عبده
مفتي الديار المصرية - قدس الله روحه - وعملت معه بضع سنين، وما زلت قائمًا
بعده بالدعوة إلى الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي الذي دعيا إليه وجاهدا في
سبيله كما تشهد لي بذلك ترجمتي لهما في تاريخ مستقل وتسعة مجلدات من التفسير
ألفتها على مشربهما وثمانية وعشرون مجلدًا من المنار.
لهذا أعد نفسي من أشد الناس غبطة بقيام جلالتكم بالنهضة الجديدة بالشعب
الأفغاني بعد أن تم له استقلاله المطلق في عهدكم السعيد، ثم من أعظم ساكني مصر
ابتهاجًا برحلتكم هذه إلى أهم بلاد الشرق والغرب بقصد الاختبار لأحوال الممالك
والأمم لتكونوا على بصيرة تامة في إدارة أمر بلادكم وما تحتاج إليه من الإصلاح
مع اتقاء مداحض الزلل الذي يكون شديد الخطر عند الانقلاب.
فبهذا القصد الذي أرشد إليه القرآن يُرْجَى أن تكون رحلتكم عظيمة الفائدة،
وكم من ملك وأمير ساح في الأقطار بغير نية صالحة فازداد غرورًا وفسادًا.
وإنني على عظيم رجائي في نجاحكم ودعائي بتوفيق الله لكم ووقايتكم من
ضرر فصل الشتاء الشديد الوطأة في الشمال شديد الخوف والإشفاق من سريان
عدوى الأفكار المادية إلى بلادكم فتحدث فيها ما أحدثت في غيرها من الشقاق
الداخلي واضطراب الأفكار وفساد الآداب والإسراف في الشهوات وما يقتضيها من
سقوط قوة الأمة المعنوية، التي لا تغني غناءها القوة المادية، بل لا بد لها منهما
كليهما.
ولذلك يعجب عقلاء أوربة وكبار فلاسفتها من ظن مصطفى كمال باشا أنه
يخلق الترك خلقًا جديدًا بإدخال قوانين أوربة فيها، مع أن علماء الاجتماع وعلماء
الحقوق العامة متفقون على أن القانون يجب أن يكون مستنبطًا من روح الأمة
وطباعها وعقائدها وآدابها وتقاليدها، وأن الأمة سليلة التاريخ لا سليلة القانون.
وكانت نفسي تحدثني منذ ثلاث سنين بكتابة تقرير مطول أودعه دحض
الشبهات التي أدخلها الإفرنج بسوء نية في قلوب كثير من الجاهلين بحقيقة الإسلام
من أن الإسلام نفسه هو سبب الضعف والجهل اللذين ألما بالشعوب والدول
الإسلامية بعد أن كانوا بالإسلام نفسه سادة العالم علمًا وحضارة وقوة، وبيان فوائد
الدين المطلق في كل أمة، وهي التي تحمل الأوربيين على بذل الملايين الكثيرة في
سبيل تعزيز دينهم والدعوة إليه ونشره في العالم، وبيان ما تحتاج بلادكم وأمثالها
إلى اقتباسه من علوم أوربة وفنونها وصناعتها، وما هي في غنًى عنه الآن، وما
هو خطر على مقوماتها ومشخصاتها التي كانت بها أمة ممتازة عن أمم الغرب في
دين ولغة وتشريع وأخلاق وعادات أيضًا لأقدم هذا التقرير لجلالتكم.
ولكنني كنت على حد المثل العربي (كمن يقدم رِجلاً ويؤخر أخرى) لأنني
لم أكن واثقًا بأنني أستطيع أن أوصل إلى جلالتكم ما أكتبه وأن يترجم لكم ترجمة
صحيحة وتطلعون عليه.
أما وقد تشرفت بمعرفتكم الآن وقدمت إليكم بعض كتبي الصغيرة المشتملة
على أهم مقاصد الدين الإسلامي وإصلاحه للبشر فتناولتموها بيديكم الكريمتين،
فإنني أرجو أن يكون قد مهد لي لأن أوصل إليكم مرة بعد أخرى ما وصلت إليه من
المعلومات مدة اشتغالي بالدعاية إلى الإصلاح الذي يقتضيه حال هذا العصر.
وإنني أرجو أن يُتَرْجَم لجلالتكم قبل كل شيء (خلاصة السيرة المحمدية)
لأنه على اختصاره جامع لأهم قواعد الإسلام وحجته الكبرى ومزاياه على سائر
الأديان بالأسلوب المقبول لدى عقلاء هذا العصر.
ثم أرجو أن يُتَرْجم لجلالتكم مقدم كتاب (الخلافة أو الإمامة العظمى) ثم ما
تختارون للترجمة منه بعد النظر في فهرسه وإن لم يترجم كله، ثم أن يترجم لكم
مقدمة كتاب (الوحدة الإسلامية) ثم ما شئتم من فصوله ثم رسالة التوحيد لشيخنا
الأستاذ الإمام ولم يؤلف مثلها في الإسلام.
وهنا ذكرت له إهداء مجلدات تفسير القرآن الحكيم التي أرجعها إليَّ غلام
الجيلاني، ثم قلت:
أيها الملك الحازم
إنك قائم بأمر عظيم يتوقف النجاح فيه على علم بأمور كثيرة، ولا سيما عبر
تواريخ الأمم وتاريخ الإسلام وشعوبه خاصة ويحتاج إلى بصيرة نافذة في سنن الله
في الأمم يعين عليها علم الاجتماع، وأول ما يجب عليكم وعلى رجالكم الاعتبار به
وإطالة التفكير في أطواره تاريخ الدولة العثمانية الحديث وتاريخ مصر الحديث،
وأعني بالتاريخ الحديث ما كان منذ مائة سنة ونيف أي منذ شرعت حكوماتهما تقلد
الدول الأوربية على غير بصيرة ولا هدًى فكان هذا التقليد سببًا في ضد ما أريد به
من قوة وثروة واستقلال؛ إذ كان سببًا لانحلال (الإمبراطورية العثمانية) الواسعة،
وسببًا في احتلال الإنكليز لمصر.
ومما يجب التفكير فيها ما بين شعبكم الأفغاني وبين الشعبين التركي
والمصري من الفروق، وأهمها أن كلا منهما قد ذللته حكومته بالتجنيد النظامي أو
بحكم القهر والشدة فصارت قادرة على التحكم فيه كيف شاءت، وشعبكم لم يذلل
كذلك، وإن الأفكار والتقاليد الأوربية قد دخلت فيهما بالتدريج في مدة قرن أو أكثر،
ومع هذا كان ضررها أكبر من نفعها في كل من الأمة والدولة لعدم الجمع بينها
وبين التربية الإسلامية وعدم الاقتصار على ما تحتاج إليه الأمة والدولة كالنظام
المالي والنظام العسكري وفنون الثروة من صناعة وتجارة وزراعة إلخ.
وجملة القول أن نهوضكم بقلب أحوال الشعب الأفغاني يحتاج إلى حكمة دقيقة
وعلوم واسعة وثروة عظيمة وتدريج بطيء في كثير من الأمور، وإنما يجب
التعجيل بما ذكرنا آنفًا في بيان خطأ الترك والمصريين (وهو النظام المالي إلخ) ،
ويجب الحذر التام من حرية الإسراف والفسق والترف وتبرج النساء ومن القوانين
المخالفة لعقائد الأمة وشريعتها الثابتة بالنصوص القطعية - ولا يضر مخالفة بعض
الفقهاء في الأمور الاجتهادية كما بيناه في كتبنا التي معكم- ومن الفلسفة المادية التي
تفضي قطعًا إلى فوضى الأفكار وقبولها للبلشفية وأمثالها وإلى الفتن الكثيرة فإنه لا
واقي للأمة منها إلا الدين القويم، وهذا العاجز مستعد لكل خدمة علمية تحتاجون
إليه للتوفيق بين الحضارة العصرية والدين، والله يهدي من يشاء إلى صراط
مستقيم.
الإمضاء، وكتب في 10 رجب سنة 1346 (3 يناير سنة 1928)
ودعت جلالة الملك أمان الله عند سفره مع المودعين في محطة مصر،
وأعطيت هذا الكتاب لسعادة سفيره غلام جيلاني ورجوته أن يعطيه إياه في المحطة
فوعد بذلك.
وقد لقيت في المحطة صاحب الدولة وزير خارجية حكومة الملك، وهو حموه
والد الملكة ثريا التي ولدت له في دمشق من زوج سورية، وكل منهما يعرف
العربية كالمتعلمين من السوريين والسوريات) فودعته وأظهر كل منا الأسف لعدم
التلاقي بمصر، وذكرت له كتابي للملك ورجوته منه أن يترجمه لجلالته، ثم كتبت
إليه الكتاب الآتي، وأرسلته إليه وهو في الإسكندرية قبل سفرهم منها وهذا نصه:
***
كتابي إلى وزير خارجية الأفغان
بسم الله الرحمن الرحيم
من داعية الإصلاح الإسلامي محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار بمصر.
إلى صاحب الدولة محمود الطرزي خان، وزير خارجية الأفغان، كان الله له
ولنا حيث كنا وكان.
أحييك تحية مباركة طيبة، وقد كنت حريصًا على لقائك والتحدث معك في
النهضة الأفغانية لما سمعت من صديقي السياسي الكبير الأمير شكيب أرسلان
الشهير من الثناء عليك [1] فلم يقدر الله لنا ذلك فكتبت بعض رأيي بالاختصار
لجلالة الملك أمان الله خان، وأعطيت الكتاب لسعادة سفيركم غلام جيلاني عند
الوداع كما أخبرتكم في المحطة راجيًا من دولتكم ترجمته لجلالته، وإنه لأحوج إلى
سماع النصيحة منه إلى سماع مدح التملق والملاطفة، وإن كان حقًّا، فمجال مدح
جلالته ذو سعة.
وعسى أن تترجموا له ما أشرت إليه من مسائل كتبي التي أهديتها إلى جلالته،
ولا سيما كتاب الخلافة بعد أن تطلعوا عليه وكنت عازمًا على إهداء دولتكم نسخًا
أخرى لو لقيتكم.
أيها الوزير الكبير، لا أكتم عنك أنني في أشد الخوف على مستقبل الأفغان
مما أراه من محاولة الطفرة في نهضة جلالته بها حاذيا حذو الترك الكماليين، كما
أعتقد أن التجربة الجديدة التي شرع فيها مصطفى كمال ستكون أخسر من كل
تجربة جديدة اغتر بها الترك من قبل، وأرى جميع العقلاء المحنكين منا ومن
الإفرنج يعتقدون هذا.
فالترك يقلدون أوربة منذ قرن أو أكثر ولم يستطيعوا إلى الآن صنع أسلحة
يستغنون بها من شراء الأسلحة منها فضلاً عن البوارج الحربية بأنواعها والطيارات
والدبابات ولا أقول اختراعها.
وكانوا من عهد السلطان محمود إلى عهد مصطفى كمال كلما قلدوا أوربة في
شيء يتيهون كعادتهم عجبًا، ويظنون أنهم يفوقونها عظمة وبأسًا، جاهلين أن مثلهم
كمثل من يحاول إلباس الضخم الجثة ثوب النحيف، ومن يضع الحمل الثقيل على
البعير الضعيف، فتقليدكم إياهم على خيبة مساعيهم وما بينكم وبينهم من الفروق
التي جعلتكم أبعد عن الاستعداد منهم هو خطر على الأمة والدولة وعلى البيت المالك
أيضًا.
فانصحوا لجلالته بأن لا يغتر بالظواهر في مصر ولا في الترك فمصر لولا
إسراف إسماعيل باشا في التفرنج والمال لاستطاعت أن تملك شطر أفريقية الشرقي
كله، والترك لو ساروا على بصيرة كاليابان لاتسعت سلطنتهم في الشرق والغرب،
ولظلت كما كانت قبل نهضة أوربة أقوى دول الأرض، ولكنها زالت فلم يبق منها
إلا إمارة أقل عددًا وثروة من مصر التي كانت إحدى ولاياتها.
فإن كنتم لا توافقونني على رأيي هذا فأخبروني بشبهتكم لأكشفها لكم بكتابة
طويلة مفصلة، وإلا فاحفظوا قولي هذا وأحفظه أنا إلى أن يصدقه الزمان أو يكذبه،
بل إذا ظللتم على ما يظهر لنا من تقليدكم للترك وتهوكتم فيه، فأنا أنشر هذه
النصائح في المنار وأزيد عليها؛ ليعتبر بها من بعدنا إذا لم تظهر العاقبة في زماننا.
ولولا أنني أعتقد أن هذه النصيحة فرض عليَّ يعاقبني الله على تركه وأنها -
على ذلك - وفاء دين علينا لأستاذ نهضتنا الأكبر السيد جمال الدين الأفغاني (أحسن
الله ثوابه) يجب علينا بعده لوطنه وملك وطنه - لما كلفت نفسي أن أقابل ضيف
بلادنا العزيز بما قد يَمْتَعِض منه ولو على سبيل الاحتمال، بل أرجو أن يقابله
بالقبول والاعتبار.
وجملة القول أن الأمم بأخلاقها ووراثتها، ثم بما تتربى عليه بالتدريج جيلاً
بعد جيل (والعاقبة للمتقين) فنسأله تعالى لنا ولأولياء أمورنا أن يجعلنا منهم آمين.
والسلام عليكم أولاً وآخرًا.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد رشيد رضا
هذا مجمل سعيي لدرء الخطر عن الأفغان، وقد وقع ما توقعته فجلالة أمان
الله خان قد شد أواخي الإخاء بينه وبين فخامة مصطفى كمال باشا في أنقرة وتعاهدا
على ما يسميانه التجديد اللاديني من كل وجه، ولا أملك حرية لنقد أخبار تلك
الرحلة، ونتيجتها أنه لما عاد الملك إلى بلاده كان أول شيء دعا إليه قومه هو حلق
ذقونهم وإلقاء عمائمهم ونزع ملابسهم الوطنية والتزيي بالزي الإفرنجي من البرنيطة
إلى الحذاء وترك النساء للحجاب إلخ، على ما نعلم من تعصبهم لتقاليدهم الدينية
والقومية وفقرهم، وقد نصب الملك نفسه ورجال حكومته قدوة للرجال في ذلك
والملكة ثريا نفسها قدوة للنساء فصارت تحضر المجامع العامة حاسرة سافرة وتودع
التلاميذ الكبار عند سفرهم إلى أوربة والأناضول بتقبيلهم، ثم طفق يرسل ثُلَّة بعد
ثُلَّة من صغار الغلمان والبنات إلى أنقرة ليتولى الكماليون تربيتهم وتعليمهم
وإعدادهم للقيام بما يفعله الترك في بلادهم من التجديد، وقد بلغني من ثقةٍ كان في
أنقرة أن هؤلاء الصغار ولا سيما البنات يعهد بتربيتهن إلى من هنالك من الأسر
الأوربية دون التركية لعلمهم بأن أكثر نساء الترك معتصمات بالإسلام فيخشى أن
يربين البنات عليه.
وقد أظهر الشعب الأفغاني وزعماؤه معارضتهم للملك في مطالبه هذه فحاول
مقاومتهم بالقوة ووردت الأنباء بأنه قتل بعضهم ونفى بعضًا، فاشتعلت نار الثورة
في البلاد، وهذا ما كنا نعتقده وحذرناهم منه (فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد)
فلم يبالوا بنصحنا.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
كنت سمعت هذا الثناء من الأمير شكيب في أوربة منذ بضع سنين ولكنني بعد كتابة هذا الكتاب أخبرت الأمير به، وبكتابي إلى الملك ورغبت إليه في تأييد قولي عندهما إذا لقيهما في أوربة، فكتب إليَّ أن أمله قد خاب في الوزير الطرزي ولن يسعى للقائه.
الكاتب: محمد رشيد رضا
مبرة الدمرداش باشا الكبرى
في الأسبوع الأخير من شهر صفر ثاني شهور هذا العام نوَّهت الصحف
اليومية بما كتبه صاحب السعادة الشيخ عبد الرحيم باشا ابن مصطفى الدمرداش
المثري الشهير إلى الحكومة من تبرعه هو وزوجته الكريمة وكريمته قوت القلوب
هانم بقطعة من الأرض في حي الدمرداش المشهور بجانب شارع الملكة نازلي من
جهة العباسية لأجل أن يُبْنَى فيه مستشفى، وبمبلغ ستين ألف جنيه مصري تستغلها
الحكومة لصرف غلتها السنوية على المستشفى على أن تقوم هي بباقي النفقة إذا لم
تكف هذه الغلة لها.
واشترط في وقف هذا المستشفى أن يكون عامًّا لجميع الأمراض غير المعدية،
وأن يقبل فيه جميع المرضى الفقراء مجانًا على اختلاف جنسياتهم وديانتهم، وأن
يبنى بفنائه مسجد لأداء فريضة الصلوات ويجعل بجانبه ثلاثة ضرائح لدفن
المتبرعين فيها بعد وفاتهم، وأن يقام داخل المستشفى تمثال نصفي لحضرة
صاحب السعادة عبد الرحيم باشا الدمرداش وأن يحتفل سنويًّا بذكرى سعادته في
اليوم الذي يوافق تاريخ الاحتفال بافتتاح المستشفى.
وقد قرَّر مجلس الوزراء في 28 صفر الموافق 14 أغسطس قبول ذلك وشكر
سعادته وأسرته على هذه الهبة الجليلة.
ثم قامت مصلحة المباني الأميرية بتجهيز مشروع البناء وتم ذلك وشرع فعلاً
في التنفيذ وتبلغ مساحة الأرض التي سيقام عليها المستشفى 12. 400 متر مسطح
تقريبًا، ويتكون المشروع من مستشفى يسع حوالي 90 سريرًا، وسيحتوي
المستشفى على الأقسام الآتية:
(1)
الإدارة مع سكن للطبيب المقيم ورئيسة للممرضات بالدور الأول.
(2)
عنبران للمرضى: أحدهما بالدور الأرضي ويخصص للرجال والآخر
بالدور الأول، ويخصص للنساء ويشمل الأخير قسمًا للولادة.
(3)
قسم العمليات يكون فيه غرفة لأشعة إكس.
(4)
قسم للعيادة الخارجية.
(5)
قسم للمطابخ.
(6)
قسم للمغسل.
(7)
قسم للمشرحة.
(8)
قسم للعزل.
(9)
المسجد والمقابر.
وسيكون البناء بحجر الدبش المبيض مع أحزمة من الطوب وميول مغطاة
بالقراميت تكون كرنيشًا بالوجهات العمومية.
الشيخ عبد الرحيم باشا الدمرداش هذا هو شيخ الطريقة الدمرداشية المشهورة،
وكان من أصدقاء شيخنا الأستاذ الإمام وأنصاره وقد عرفناه وعرفنا منذ جئنا
مصر باتصالنا بالأستاذ الإمام والعمل معه في سبيل الإصلاح، وكان من أول
المشتركين في المنار.
قد سبق جميع الذين كانوا يقيمون الموالد المعروفة إلى منع الفسق والفجور
من احتفالاتها بمنعه ذلك من مولد الدمرداش الكبير المشهور بلقب (المحمدي)
ونوَّهنا بعمله هذا في العدد 42 من سنة المنار الأولى الذي صدر في 24 شعبان
سنة 1316 (7 يناير 1899) تحت عنوان (وميض لمع في ظلمات بدع) ويجد
القارئ ذلك في ص 828، 829 من الطبعة الثانية للمجلد الأول.
ومما قلناه في ذلك: وعسى أن يكون الأستاذ الفاضل الشيخ عبد الرحيم خير
قدوة لهم (أي أهل الطريق) في تطهير الطريق من كل البدع، وتحريره على
السنة السنية ولو بالتدريج إلخ.
ونقول الآن: عسى أن يكون قدوة للأغنياء في المبرات والأعمال النافعة
للناس، ونقترح عليه أن يجعل المقابر الثلاث التي ستُبْنَى موافقة لأحكام الشريعة بأن
تكون بمعزل عن المسجد وأن لا يجعل لها مصابيح توقد فيها لما ورد في الأحاديث
الصحيحة من لعن الذين يبنون المساجد على القبور والذين يوقدون عليها السُّرُج،
ونسأله تعالى أن يطيل أعمارهم ويوفقهم لغير ذلك من المبرات، ولا سيما نشر
العلم والإصلاح الديني.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
وظيفتا القضاء والإفتاء وحكم من سُئِلَ فلم يُجِبْ
بسم الله الرحمن الرحيم
س (40 و41) من صاحب الإمضاء في بيروت
حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الأستاذ الجليل
السيد محمد أفندي رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإني أرفع لسيادتكم ما يأتي راجيًا
التكرم بالإجابة عليه:
1 -
هل وظيفة القضاء والإفتاء قديمة في الإسلام أم حديثة فإن فريقًا من الناس
يقول: إنها قديمة، والفريق الآخر يقول: إنها حديثة فما هو القول الصحيح؟
2 -
ما حكم الله تعالى ورسوله في القاضي والمفتي والعالم إذا سُئِلُوا عن
سؤال شرعي ولم يجيبوا عنه مطلقًا سواء كان السؤال تحريريًّا (خطيًّا) أو (شفهيًّا)
تفضلوا بالجواب ولكم الأجر والثواب.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
السائل
…
...
…
...
…
...
…
عبد الحفيظ إبراهيم اللاذقي
(ج) القضاء بين الخصوم من ضروريات الاجتماع التي لا تقوم بدونها
حكومة، ومِن ثَمَّ صار منصبًا يقلد منذ صار للإسلام حكم، وصار له أتباع
يختصمون إلى حكامه، وكان عمال النبي صلى الله عليه وسلم يحكمون بين الناس،
وولى صلى الله عليه وسلم معاذًا على اليمن وأذن له بالحكم باجتهاده فيما ليس فيه
نص من كتاب الله ولا سنة من رسوله، وولاية القضاء معروفة مشهورة في كتب
السنة والفقه فراجع كتاب الأحكام في صحيح البخاري وغيره من كتب السنة والفقة
والتاريخ ومن المشهور في ذلك كتاب عمر رضي الله عنه في القضاء لقاضيه شريح.
وأما الإفتاء فقديم أيضًا، وكان علماء الصحابة يفتون بعد رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ولكن الإفتاء لم يكن في عهد السلف (وظيفة) تُقَلَّد لإفراد معينين
كما نَعرف في دول الإسلام الأخيرة، ولا أذكر الآن أيها كان السابق إلى ذلك.
وأما حكم الله تعالى في العالِم إذا سأله سائل عن شيء من أمر دينه فهو ما
بيَّنه تعالى بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا
تَكْتُمُونَهُ} (آل عمران: 187) فكتمانه العلم بما يجب اعتقاده أو العمل به شرعًا،
وبما يحرم فعله شرعًا محرمٌ على العالم بالحكم، ولا سيما إذا سئل عنه ولم يكن
ثَمَّ عالم آخر يقوم مقامه، وكان السلف الصالح يكرهون السؤال عما لم يقع ولم
يحتج السائل ولا غيره إلى العمل به ولا يرون حرجًا في عدم الجواب عنه، وقد
صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره السؤال، وينهى عنه، فما القول في
السؤال عما لا فائدة فيه أو السؤال عن شئون الدنيا التي لا يتعلق بها حكم شرعي
احتيج إليه للعمل به؟ وفروع هذا الباب كثيرة يضيق وقتنا الآن عن التطويل فيها
فنكتفي بهذا الإجمال الوجيز.
***
بدعة دعاء ليلة نصف شعبان والاحتفال فيها
س42 من صاحب الإمضاء في مجدل عسقلان (فلسطين)
سيدي الفاضل المحترم علامة العصر السيد محمد رشيد رضا أدامه الله آمين،
بعد التحية الوفية، أعرض لقد جرت عادة الناس في هذا البلد بإحياء ليلة النصف
من شعبان في كل سنة قبل صلاة العشاء في المسجد وإنهم يدعون الله (عز شأنه)
بصيغة دعاء نصف شعبان المعلومة التي من جملتها: (اللهم إن كنت كتبتني عندك
في أم الكتاب شقيًّا أو أو إلخ فامح اللهم بفضلك من أم الكتاب شقاوتي إلخ؛ لأنك
قلت وقولك الحق في كتابك المنزل على نبيك المرسل: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ
وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} (الرعد: 39) وذلك بعد صلاة ركعتين بنية طول
العمر وغيرها، وقراءة سورة يس ويكررون العمل ثلاثًا، فهل ورد ذلك عن النبي
صلى الله عليه وسلم أو عن الخلفاء الراشدين أو هو بدعة؟ وهل في ذلك حرج
على الداعي وحرمة؟ وما الذي يجدر بالمسلم لإحياء ليلة النصف من شعبان،
وماذا يناسب من صيغ الدعاء في تلك الليلة؟ أفيدونا مأجورين ولحضرتكم من الله
جزيل الثواب سيدي.
…
...
…
...
…
...
…
... يوسف محمود الشريف
(ج) الاحتفال المعروف بإحياء ليلة نصف شعبان بدعة فصَّلْنا القول فيها
وفي دعائها المعروف في الفتوى الرابعة من فتاوى الجزء السادس عشر من مجلد
المنار السادس، وفي باب الانتقاد على المنار من آخر الجزء 24 من ذلك المجلد،
فراجعهما تجد فيهما كل ما تحتاج إلى معرفته، ومنه أن الله تعالى لم يشرع
للمؤمنين في كتابه ولا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ولا في سنته عملاً
خاصًّا بهذه الليلة، فَيَحْسُن فيها كل ما يحسن في غيرها من عبادة ودعاء بشرط أنه
لا يعتقد فاعله ولا يقول بأنه مشروع فيها وحدها؛ لأنه يكون حينئذ شرعًا لم يأذن
به الله، بل افتراء على الله.
***
بدع خاصة بزيارة سيدنا الحسين رضي الله عنه
س (43- 46) ومنه: حضرة السيد الفاضل العلامة محيي السنة صاحب
المنار حفظه الله آمين.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته وبعد إنني في بلد راجت فيه الخرافات،
وكثر فيه المبتدعون حتى أصبح المنكر بينهم معروفًا والمُنْكِر لخرافاتهم ممقوتًا،
ولا وازع لهم من عقل ولا زاجر من دين، يتبعون أهواءهم، ويصرون على اتباع
المنكر عنادًا وكبرًا، لكن في القوم من إذا أقيم له الدليل على فساد ذلك الابتداع
يرجع إلى الصواب ولا يتبع سبيل المضلين، وإنني لا أجد لإرشاد قومي أنجح من
إرشاد المنار فأرجو أن تتكرموا بالجواب على ما يأتي من الأسئلة بما أتاكم الله من
العلم لأتقدم للقوم بتلك الدرر النفيسة لعلهم يرشدون.
***
الأسئلة
إن المبتدعة أحدثوا (علمًا) جعلوه لسيدنا الحسين رضي الله عنه، واحتفلوا
به في شوارع المدينة، واختلطت النساء بالرجال في الاحتفال بلا تستر رافعات
أصواتهن بأنواع الغناء، وصار الناس يتمسحون بالعلم بقصد التبرك والاحترام،
وترك الغالب من المحتفين الصلوات الخمس المفروضة لهوًا بهذا العلم، وزار
الناس (سيدنا الحسين) في مقامه بجهة عسقلان حافين من حول (العلم) يكبرون،
وأهل الطرق (الدراويش) منهم يطبلون، ويضرب بعضهم بعضًا بالسيوف
إظهارًا لما لهم (بزعمهم) من الأسرار والكرامات، وزعم بعض المنتسبين (للعلم)
أن إحداث هذا العلم للتودد لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، واستدل على هذا
بآية {قُل لَاّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى} (الشورى: 23) فهل ذلك
من المحدثات المنكرة والبدع المنهي عنها؟ وهل -والحالة هذه- يجب على المسلم
درء هذه المفاسد مهما كلَّفه الأمر؟ وماذا يكون جزاء أهل المدينة، ولا سيما العلماء
إذا سكتوا على هذا المنكر؟ وماذا يقال في حق مبتدعيه، وفيمن يرى أن التودد
لأهل البيت المطهرين يكون بمثل تلك الخزعبلات؟ أفيدونا ولكم الشكر والثواب
والله يحفظكم
…
...
…
...
…
...
…
... يوسف محمود الشريف
(ج) كل هذه المذكورات من البدع التي لا تَخْفَى على من له أدنى إلمام
بدين الإسلام، والسكوت عن الإنكار على مرتكبيها حرام، وقوله تعالى: {قُل لَاّ
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى} (الشورى: 23) استثناء منقطع،
ومعنى الآية قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين المعاندين لك: إنني لا أسألكم على
تبليغ دعوتي ربي بتلاوة كتابه أجرًا، ولكنني أسألكم أن تودوني لقرابتي منكم، وما
تعظمون من صلة الأرحام، فلا تؤذوني ولا تصدوني عن تبليغ دعوة ربي، وهذا
معنى ما فسر الآية به ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنه كما بينته بالتفصيل
والروايات من قبل، والروافض يزعمون أن الله تعالى أمر رسوله بهذه الآية أن
يطلب من أمته أجرًا على تبليغ الدين خلافًا لما ورد عنه وعن غيره من النبيين في
الآيات المتعددة، وسرى هذا المعنى الباطل إلى أذهان كثير من أهل السنة كما بيناه
من قبل، وراجع التفاسير المأثورة كتفسير ابن كثير تلق فيها صحة ما قلناه وهو
الموافق لعقيدة الإسلام.
أما درء مفاسد هذه البدع بالفعل فيجب إذا لم يترتب عليه ما هو أكبر منه
إفسادًا، واختلف اجتهاد العلماء في قدر ما يجب احتماله من الأذى في هذه السبيل،
والأصل في هذا حديث (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه،
فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن
الأربعة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وأما حكم السكوت عن إنكار هذه
المنكرات كغيرها حيث تقع فهو أن جميع المسلمين العالمين بذلك يأثمون بترك
الإنكار، ولكن إذا قام بعضهم بما يجب منه سقط الإثم عن الباقين - وأما ما يقال
في مبتدعي ما ذكر إلخ فهو أنهم مبتدعون جاهلون، وشرهم من يتأول لهم ويجعل
هذه البدع القبيحة التي شوهت الإسلام في نظر الأجانب والمستقلين من المسلمين
الذين يصدقون أنها منه، ولا سيما تأويل من جعل لها أصلاً من كتاب الله بتحريف
آية المودة في القربى تبعًا للروافض الذين يلكونها بألسنتهم متبجحين بأنهم هم أهلها
الذين يؤدون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أجرته على تبليغ وحي ربه خلافًا لما
أمره كما أمر من قبله من رسله بأن يبلغوه لأممهم من عدم سؤالهم عليه أجرًا، ومن
حصر سؤال الأجر بكونه من الله وحده كما تراه في سورة يونس وهود والفرقان،
وفي خمس آيات من سورة الشعراء وسبأ وص، فإن مثل هؤلاء المتناولين يكذبون
على الله تعالى بإدخال البدع في دينه وتحريف كلامه بأهوائهم وبمشاركة أنفسهم له
عز وجل في شرع الدين: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) وهل أفسد عوام أقوام الأنبياء وأتباعهم إلا أدعياء العلم بالتأويل
والتحريف لما جاءوا به؟
***
حكم الزوج الذي يدَّعِي خلع زوجته
س 47 من صاحب الإمضاء في بندر النقل (جاوه) تأخر نشرها لمرضنا.
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
حضرة الأستاذ الجليل المحترم صاحب الفضل والفضيلة السيد محمد رشيد
رضا صاحب مجلة المنار الغراء، حفظه الله ونفعنا وجميع المسلمين بعلومه.
بعد التحية اللائقة بمقامكم الشريف وجزيل السلام ورحمة الله وبركاته.
أرفع لفضيلتكم السؤال الآتي راجين التكرم منكم بالإجابة عليه سريعًا ولكم منا
جزيل الشكر، ومن المولى عظيم الثواب والأجر.
وهو: ما حكم من قال: طلقت زوجتي فلانة من عقدي طلقة خلعية بعوض
قدره ربع ربية، وأخرج من جيبه قطعة نقود من ذات ربع ربية، ثم ردها في
الحال إلى جيبه، وقال: استلمت العوض بحضور قاض وشهود، مع أن العوض
خرج من جيبه ورجع إلى جيبه، فهل هذا طلاق خلعي يا حضرة الأستاذ أم غير
خلعي.
فإذا قلتم بأنه غير خلعي، فما الدليل في ذلك من مذهب الإمام الشافعي رضي
الله عنه، وما حكم من أفتى بأنه خلعي، وسبَّب بفتواه حرمان الزوجة من نصيبها
في إرث زوجها.
هذا مع إعلامكم أن الفتوى رفعت إلى الحكومة المستعمرة هنا، والحكومة
أعادت المسألة إلى المفتي هذا، وهو أحد موظفي القضاء بهذا البلد؛ ليتأملها ثانيًا
فأصر على كونها صحيحة، وقد حدثت ضجة بين أهالي الزوجة وورثة الزوج.
والمسألة إلى الآن في يد المحكمة لم يُبَتَّ في أمرها: فالرجاء من فضيلتكم
الجواب الشافي لا زلتم ملجأ للمسلمين، حرِّر في بندر النقل جاوا في 25 ربيع
الأول سنة 1347 (تأخر نشرها لمرضنا) .
…
...
…
...
…
...
…
... عمر بن صالح قوبان
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
باوزبر
(ج) إن قصد الزوج بما ذكره عنه السائل إنشاء خلع بقوله ذاك فهو جاهل،
والخلع لا ينعقد به؛ لأنه لا بد أن يكون باتفاق بينه وبين الزوجة بأن تبذل هي
العوض؛ إذ الأصل في مشروعية الخلع قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ يُقِيمَا حُدُودَ
اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (البقرة: 229) وههنا لم توجد زوجة بذلت
لزوجها شيئًا طلقها في مقابله لا بنفسها ولا بوكيل شرعي عنها، ولا حاجة إلى دليل
غير هذا من مذهب الشافعي ولا غيره من أئمة الفقه، ومن المعلوم أن الشافعية
يُعَرِّفُونَ الخلعَ بمثل ما قاله شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في المنهج: هو فُرْقَة
بعِوَض لجهة زوج وأركانه: ملتزم، وبضع وعوض وصيغة وزوج إلخ، ولهذه
الأركان شروط لا تصح بدونها ولم يوجد في واقعة السؤال إلا زوج ادعى بذل
العوض، فلا حاجة إذًا إلى بيان تلك الشروط، ولكن الظاهر أنه لم يقصد إنشاء
الخلع، بل أخبر بأنه وقع منه أمام قاض وشهود، فإن ثبت هذا وجب تنفيذه، وإذا
كانت القضية قد رفعت إلى المحكمة الشرعية فلا بد أن تطلب المحكمة ذلك القاضي
والشهود الذين ادعى الزوج إيقاع الخلع بحضورهم، وتبني حكمها على ما تقتضيه
شهادتهم (وقد تأخر الجواب عن هذه الفتوى وغيرها بسبب مرضنا) .
***
الأكل في بيت المرابي وشراء أوراق يانصيب
س (48و49) من صاحب الإمضاء في سورابايا (جاوه) .
سيدي المحترم محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار.
ليس لي أمر سوى الدعاء لكم بدوام معاليكم وانتظار ما يرد من نحو ناديكم،
فالذي أرجوه منكم الجواب على هذين السؤالين في مجلتكم المحترمة.
(1)
هل يجوز لمسلم أن يأكل في بيت مسلم مرابيًا (كذا) .
(2)
هل يجوز لكل مسلم أن يشتري أوراق أو ورقة اليانصيب الذي نسميه
هنا (لتري) وهل هو حرام أم حلال أفيدونا، ولكم الأجر والثواب.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... سالم منجي
(ج) أما الأكل في بيت المرابي من كسبه الحرام فلا تفعله إن لم يكن له
كسب سواه، بناء على القول بأن الحرام يتعدى فاعله إلى غيره ممن يعلم أن كسبه
حرام، وأما إذا كان له كسب سواه فيعد الأكل منه من الشبهة التي لا يقطع بحرمتها
والاحتياط بتركها أولى، وفي المسألة مباحث فرعية تختلف باختلاف الزمان
والمكان والأحوال، فمن ذلك مباحث الضرورة وحكم ما إذا طبق الكسب الحرام
الأرض أو قطرًا منها فقد أباح العلماء فيها الأكل من المال الحرام بما يزيد على سد
الرمق الذي أباحوه في حالة الاضطرار كما ذكره الشاطبي في الاعتصام، ونقلنا
عنه في موضوع المصالح المرسلة (ص 848من مجلد المنار الحادي عشر) ولنا
في مسألة أكل الحرام من الربا والقمار وإرثه والعقاب عليه في الآخرة فتوى طويلة.
(س23و24) نشرًا في صفحة 340-344 من مجلد المنار فينبغي أن
تراجعوهما عن سؤالين للوقوف على التفصيل في جواب سؤالكم.
وأما أوراق (اليانصيب) فهي من القمار الذي هو نوع من أنواع الميسر
المحرم، فلا يجوز للمسلم شراؤها، والله أعلم.
***
أي الرجلين خير: من يعمل لأمته أو من يعمل لنفسه؟
(س50) من محمد أفندي جمعة الخياط وتاجر الجوخ في ميناء طرابلس
الشام.
جناب حضرة الأستاذ المعظم وفخر هذا الزمان وبهجته الأوحد السيد رشيد
أفندي رضا الأفخم، بكل احترام ألثم وجهك الطاهر، وأياديكم المباركة، طالبًا منه
تعالى أن يمتع الإسلام بطول حياتكم آمين.
وبعد فإن أحد شبان طرابلس قال قولاً ورفعه إلى سماحتكم فأنكرت عليه ذلك
وبادرت بتحريري هذا مبينًا لسماحتكم قول ذاك الشاب وهو أن الرجل الذي يخدم
أمته، وهو تارك الصلاة خلفه ظهريًّا خير من الرجل الذي لا يخدم ملته، وهو
محافظ على الصلاة مجاهد نفسه، أسترحم تصحيح الخبر على صفحات مجلتكم
لقطع دابر المفسدين، والله من وراء القصد. إن الخبر تقرر من الشاب حتى إلى
بعض العلماء ناسبًا تلك الفتوى إلى سماحتكم مولاي.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد جمعة الزيلع
(ج) لا أذكر أنني كتبت فتوى في هذا الموضوع فأراجعها وكان ينبغي لكم
أن تسألوا المدَّعِي لذلك في أي جزء أو صفحة من أي مجلد من المنار نشرت هذه
الفتوى، وأما الذي أعتقده فهو أن الذي يصلي ويجاهد نفسه أفضل ممن لا يصلي
ولا يجاهد نفسه فإن تارك الصلاة مستحلاًّ لتركها كافر بإجماع المسلمين وفي كفر
تاركها مع الاعتقاد بوجوبها خلاف بين الأئمة، وإن الذي يخدم أمته خير لها ممن لا
يخدمها سواء أصلى أم لم يصل ولكنه إذا كان لا يصلي لا يكون خيرًا لنفسه بل هو
شر لها، وخير منهما من يخدم أمته ويؤدي فرائض دينه.
_________
الكاتب: عبد الله محمود شكري
السنة والشيعة
أو الوهابية والرافضة
(3)
نتيجة ما تقدم في إبطال زعم الرافضي
زعم الرافضي العاملي أن ابن تيمية أول من أثبت ما ذكر من صفات الله
تعالى بدون تأويل، وتبعه بعض تلاميذه ثم الوهابية، وأنهم خالفوا في ذلك جميع
المسلمين، وهذا كذب وافتراء وتضليل لعوام أهل السنة، وتمهيد إلى جذبهم إلى
الرفض الذي من أصوله تعطيل صفات الله تعالى بالتأويل وجعله عز وجل كالعدم،
تعالى الله عما يقول المبتدعون علوًّا كبيرًا، فما من صفة من تلك الصفات إلا وهي
منصوصة في القرآن أو في الأحاديث النبوية الصحيحة، ولعل كل قارئ للقرآن
أو سامع له من المسلمين قد قرأ أو سمع قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (الفتح: 10) وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (ص: 75) وزعم الرافضي أن ابن
تيمية يثبت لله تعالى يمينًا وشمالاً، ونصوصه تدل على أنه يتبع نصوص الكتاب
والسنة، وإنما ثبت فيهما لفظ اليدين، ولفظ اليمين في قوله تعالى: {وَالسَّمَوَاتُ
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (الزمر: 67) وثبت في حديث مسلم والنسائي: (
…
وكلتا
يديه يمين) والحديث في إثبات الشمال لا يصح كما بيَّنَه الحافظ ابن حجر في الفتح
والحافظ البيهقي قبله في كتابه (الأسماء والصفات) وكأن الرافضي لم يره وسمع
قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) وما في معناها وقوله تعالى
في الملائكة] يخافون رهم من فوقهم [وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفاًّ صَفاًّ} (الفجر: 22) وقوله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} (البقرة:
186) إلخ، وليعلم القارئ أن ما عزاه هذا الرافضي إلى شيخ الإسلام ابن تيمية
وتلاميذه الأعلام ثم إلى الوهابية مما ليس في القرآن فهو في الأحاديث الصحيحة
كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث البخاري ومسلم وغيرهما: (ينزل ربنا تبارك
وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا) إلخ، وأما الصوت فقد ذكر فيه البخاري عن
ابن مسعود رضي الله عنه: (إذا تكلم الله بوحي سمع أهل السموات شيئًا فإذا فُزِّعَ
عن قلوبهم وسكن الصوت وعرفوا أنه الحق من ربهم ونادوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا:
الحق) . قال البخاري: ويذكر عن جابر بن عبد الله عن عبد الله بن أُنَيْس سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه
من بَعُدَ كما يسمعه من قَرُبَ: أنا الملك أنا الديان) .
أما حديث ابن مسعود فقد رواه البخاري في كتاب التوحيد تعليقًَا موقوفًا عليه،
ووصله البيهقي في الأسماء والصفات وغيره كما فصَّله الحافظ ابن حجر في فتح
الباري، وأما حديث عبد الله بن أُنَيْس (بالتصغير) فذكر الحافظ في شرحه من
فتح الباري مَن أخرجه مسندًا: وروى البخاري بعده بسنده المتصل إلى أبي سعيد
الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله يا آدم
فيقول: لبيك وسعديك: فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى
النار) وذكر الحافظ في شرحه له أن (ينادي) وقع مضبوطًا للأكثر بكسر الدال
وفي رواية أبي ذر بفتحها، أي والثانية تحتمل من التأويل ما لا تحتمل الأولى.
وذكر الحافظ في شرح الحديث الأول تأويل من أوَّله من الأشعرية ثم قال ما
نصه (ص383ج13) : (وهذا حاصل كلام من ينفي الصوت من الأئمة، ويلزم
منه أن الله تعالى لم يُسْمِع أحدًا من ملائكته ورسله كلامه بل ألهمهم إياه، وحاصل
الاحتجاج للنفي الرجوع إلى القياس على أصوات المخلوقين؛ لأنها التي عُهِدَ أنها
ذات مخارج ولا يخفى ما فيه؛ إذ الصوت قد يكون من غير مخارج كما أن الرؤية
قد تكون من غير اتصال أشعة كما سبق، سلمنا لكن نمنع القياس المذكور وصفات
الخالق لا تُقَاس على صفات المخلوق، وإذا ثبت الصوت بهذه الأحاديث الصحيحة
(وكان الحافظ قد بيَّن غير ما في البخاري منها) وجب الإيمان بها؛ ثم إما
التفويض وإما التأويل وبالله التوفيق) اهـ، وظاهر كلامه أنه يختار التفويض
اتباعًا للسلف.
ثم قال الحافظ في شرح حديث أبي سعيد ما نصه (ص 386 ج 13) :
(واختلف أهل الكلام في أن كلام الله تعالى هل هو بحرف وصوت أو لا؟ فقالت
المعتزلة: لا يكون الكلام إلا بحرف وصوت والكلام المنسوب إلى الله تعالى قائم
بالشجرة، وقالت الأشاعرة: كلام الله ليس بحرف ولا صوت وأثبتت الكلام النفسي،
وحقيقته معنًى قائم بنفسه، وإن اختلفت عنه العبارة كالعربية والعجمية،
واختلافها لا يدل على اختلاف المُعَبَّر عنه، والكلام النفسي هو ذلك المُعَبَّر عنه،
وأثبتت الحنابلة أن الله تعالى متكلم بحرف وصوت: أما الحروف فللتصريح بها في
ظاهر القرآن، وأما الصوت فمن منع قال: إن الصوت هو الهواء المنقطع
المسموع من الحنجرة، وأجاب من أثبته بأن الصوت الموصوف بذلك هو المعهود
من الآدميين كالسمع والبصر، وصفات الرب بخلاف ذلك، فلا يلزم المحذور مع
اعتقاد التنزيه وعدم التشبيه، وأن يجوز أن يكون من غير الحنجرة فلا يلزم التشبيه،
وقد قال عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب السنة سألت أبي عن قوم يقولون:
لمَّا كلم الله موسى ولم يتكلم بصوت؟ فقال لي أبي: بل تكلم بصوت، هذه
الأحاديث تروى كما جاءت وذكر حديث ابن مسعود وغيره) اهـ.
فهذه النُّقُول من أحفظ الحفاظ صريحة في أن إثبات هذا الصوت لكلام الله
المُنَزَّه عن مشابهة أصوات الخلق هو مذهب الإمام أحمد بن حنبل وأتباعه، وأن
دعوى الرافضي العاملي أن أول من زقا به هو ابن تيمية وخالفه فيه جميع المسلمين
إلا الوهابية كذب وافتراء ولا يزال جمهور أهل الحديث إلى اليوم يتبعون الإمام أحمد
في هذا، ولا أقول يقلدونه بل يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح من
حديثه فيه كغيره، وأي فرق بين إثبات الكلام وإثبات الصوت، وكل منهما ثابت
للبشر؟ وكذلك السمع والبصر وسائر الصفات، وهل على المؤمن الذي لا يحكم هواه
ولا شبهاته النظرية ولا يقلد رجال مذهبه في عقيدته إلا أن يثبت لله تعالى جميع ما
أثبته له كتابه ورسوله من تنزيه وصفات لم يكن من وسيلة لتبليغها للبشر إلا لغاتهم
التي وضعوها لصفاتهم مع نفي التشبيه والتمثيل؟ على أننا لسنا هنا بصدد ترجيح
مذهب الحنابلة وسائر أئمة السلف بل نحن في صدد تكذيب الرافضي المتعصب في
زعمه أن هذا شيء افتجره ابن تيمية (فحكم علماء المسلمين بكفره) وقلده فيه بعض
تلاميذه، ثم الوهابية وخالفهم سائر المسلمين.
ولا يبعد أن يعني الرافضي بالمسلمين الشيعة وحدهم أو مع من سبقهم في
التأويل من مبتدعة الجهمية والمعتزلة الذين صارت الشيعة عيالاً عليهم في مخالفة
النصوص بالتأويل كما تقدم عن بعض متعصبيهم في تفسير حديث افتراق هذه الأمة
إلى 73 فرقة؛ إذ حاول جعل هذه الفرق كلها من الشيعة؛ ليخرج أهل السنة عن
عداد أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وجملة القول أن ما طعن به الرافضي العاملي على ابن تيمية والوهابية من
إثبات ما ورد في الكتاب والسنة من صفات الله تعالى بدون تأويل هو أصل مذهب
أهل السنة من الصحابة والتابعين وأئمة الأمصار كما ثبت في كتب السنة التي
صُنِّفَت قبل ابن تيمية وفي عصره وبعده، ومنها كتب خاصة في إثبات علو الله
على خلقه، وهذا الرافضي أراد أن يطعن في أهل السنة ويُبْطل عقائدهم، وأن
يَرُوج طعنه عند عوام المسلمين فحصر مذهب السنة في الوهابية، وزعم أنه لا
سلف لهم فيه إلا ابن تيمية وتلاميذه، وأن علماء المسلمين كفروه لقوله بها،
والصحيح أن هؤلاء كانوا أظهر أنصار السنة كل في عصره، وهذا عصر الوهابية
منذ ظهروا إلى اليوم.
وإننا ننقل هنا صفوة ما أورد الحافظ ابن حجر في شرحه للبخاري الذي هو
عمدة المحدثين وجميع أهل السنة من عصره إلى اليوم في مذهب أهل السنة في
صفات الله، وهو ما كتبه في شرح قول البخاري (باب وكان عرشه على الماء)
إلخ، وذلك قوله بعد ذكر كثير من أقوال السلف وغيرهم وأقوال أهل اللغة في معنى
الاستواء على العرش وغيره وهذا نصه: (ص 342 و 343ج 13)
(وقد نقل أبو إسماعيل الهروي في كتاب الفروق بسنده إلى داود بن علي بن خلف
قال: كنا عند أبي عبد الله بن الأعرابي يعني محمد بن زياد اللغوي فقال له رجل:
{الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) فقال: هو على العرش كما أخبر،
قال: يا أبا عبد الله إنما معناه استولى فقال اسكت لا يقال: استولى على الشيء إلا
أن يكون له مُضَادٌّ. ومن طريق محمد بن أحمد بن النضر الأزدي سمعت ابن
الأعرابي يقول أرادني أحمد بن أبي دؤاد أن أجد له في لغة العرب {الرَّحْمَنُ عَلَى
العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) بمعنى استولى فقلت: والله ما أصبت هذا، وقال
غيره: لو كان بمعنى استولى لم يختص بالعرش؛ لأنه غالب على جميع
المخلوقات، ونقل محيي السنة البغوي في تفسيره عن ابن عباس وأكثر المفسرين
أن معناه ارتفع، وقال أبو عبيدة والفراء وغيرهما بنحوه، وأخرج أبو القاسم
اللالكائي في كتاب السنة من طريق الحسن البصري عن أمه عن أم سلمة أنها قالت:
(الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به
كفر) ومن طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه سُئِلَ كيف استوى على العرش؟
فقال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، وعلى الله الرسالة، وعلى
رسوله البلاغ، وعلينا التسليم) ، وأخرج البيهقي بسند جيد عن الأوزاعي قال:
كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله على عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من
صفاته، وأخرج الثعلبي من وجه آخر عن الأوزاعي أنه سئل عن قوله تعالى:
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ} (الأعراف: 54) فقال: هو كما وصف نفسه، وأخرج
البيهقي بسند جيد عن عبد الله بن وهب قال: كنا عند مالك فدخل رجل فقال يا أبا
عبد الله: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) كيف استوى؟ فأطرق
مالك فأخذته الرُّحَضَاء ثم رفع رأسه فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) كما وصف به نفسه، ولا يقال كيف، وكيف عنه مرفوع، وما أراك
إلا صاحب بدعة أخرجوه، ومن طريق يحيى بن يحيى عن مالك نحو المنقول عن
أم سلمة لكن قال فيه: والإقرار به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأخرج البيهقي
من طريق أبي داود الطيالسي قال كان سفيان الثوري وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن
سلمة، وشريك وأبو عوانة لا يحددون ولا يشبهون ويروون هذه الأحاديث ولا يقولون
(كيف) قال أبو داود وهو قولنا، قال البيهقي: وعلى هذا مضى أكابرنا، وأسند
اللالكائي عن محمد بن الحسن الشيباني قال: اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى
المغرب على الإيمان بالقرآن وبالأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم في صفة الرب من غير تشبيه ولا تفسير، فمن فسر شيئًا منها وقال بقول
جهم فقد خرج عما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وفارق الجماعة؛
لأنه وصف الرب بصفة لا شيء، ومن طريق الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعيّ
ومالكا والثوري والليث بن سعد عن الأحاديث التي فيها الصفة فقالوا: (أَمِرُّوهَا كما
جاءت بلا كيف) .
(وأخرج ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن يونس بن عبد الأعلى سمعت
الشافعي يقول: لله أسماء وصفات لا يسع أحدًا ردُّهَا ومن خالف بعد ثبوت الحجة
عليه فقد كفر، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يُدْرَك
بالعقل ولا الرَّوِيَّة والفكر، فنثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن
نفسه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11) وأسند البيهقي بسند صحيح
عن أحمد بن أبي الحواري عن سفيان بن عيينة قال: (كل ما وصف الله به نفسه
في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه) ، ومن طريق أبي بكر الضبعي قال:
مذهب أهل السنة في قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) قال بلا
كيف، والآثار فيه عن السلف كثيرة، وهذه طريقة الشافعي وأحمد بن حنبل وقال
الترمذي في الجامع عقب حديث أبي هريرة في النزول: (وهو على العرش كما
وصف به نفسه في كتابه كذا قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما
يشبهه من الصفات؛ وقال في باب فضل الصدقة: قد ثبتت هذه الروايات فنؤمن
بها ولا نتوهم ولا يقال (كيف) كذا جاء عن مالك وابن عيينة وابن المبارك أنهم
أَمَرُّوهَا بلا كيف، وهذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وأما الجهمية
فأنكروها وقالوا: هذا تشبيه، وقال إسحاق بن راهويه: إنما يكون التشبيه لو قيل
يد كيد وسمع كسمع، وقال في تفسير المائدة قال الأئمة: نؤمن بهذا الحديث من
غير تفسير، منهم الثوري ومالك وابن عيينة وابن المبارك، وقال ابن عبد البر:
أهل السنة مجمعون على الإقرار بهذه الصفات الواردة في الكتاب والسنة ولم يكيفوا
شيئًا منها، وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج [1] فقالوا: من أقر بها فهو مشبه،
فسماهم من أقر بها (معطلة) .
(وقال إمام الحرمين في الرسالة النظامية: اختلفت مسالك العلماء في هذه
الظواهر، فرأى بعضهم تأويلها، والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن
وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها
وتفويض معانيها إلى الله تعالى، والذي نرتضيه رأيًا وندين الله به عقيدة اتباع
سلف الأمة للدليل القاطع على أن إجماع الأمة حجة فلو كان تأويل هذه الظواهر
حتمًا لأوشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم
عصر الصحابة والتابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه
المتبع اهـ.
(وقد تقدم النقل عن أهل العصر الثالث، وهم فقهاء الأمصار كالثوري
والأوزاعي ومالك والليث ومن عاصرهم وكذا من أخذ عنهم من الأئمة فكيف لا
يُوثَق بما اتفق عليه أهل القرون الثلاثة وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة.
فهذا بعض نصوص أئمة أهل السنة من علماء السلف قبل وجود ابن تيمية
بعدة قرون، وإننا ننقل بعض ما قاله ابن تيمية نفسه في العقيدة الحموية نفسها التي
زعم الرافضي أنه خالف فيها جميع المسلمين بإثبات الصفات الواردة بغير تأويل؛
ليظهر للناس مقدار جرأته على الكذب في سبيل إثبات الرفض والتعطيل، ولإزاغة
المسلمين عن الكتاب والسنة بالإفك والتضليل، قال شيخ الإسلام كما في (ص
427 وما بعدها من مجموعة الرسائل الكبرى المطبوعة بمصر) بعد سرد بعض
النصوص وأقوال أهل السنة والمبتدعة فيها ما نصه:
(ثم القول الشامل في جميع هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه
أو وصفه به رسوله وبما وصفه به السابقون الأولون لا يتجاوز القرآن
والحديث) اهـ.
(قال الإمام أحمد رضي الله عنه: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو
وصفه به رسوله لا يتجاوز القرآن والحديث) ، ونعلم أن ما وصف الله به من ذلك
هو حق ليس فيه لغز ولا أحاجي بل معناه يُعْرَف من حيث يعرف مقصود المتكلم
بكلامه وهو سبحانه مع ذلك {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11) في نفسه
المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته ولا في أفعاله وكل ما أوجب نقصًا أو حدوثًا فإن
الله منزه عنه حقيقة، وأنه سبحانه مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه وممتنع عليه
الحدوث لامتناع العدم عليه واستلزام الحدوث سابقة العدم ولافتقار المُحْدَث إلى
مُحْدِث ولوجوب وجوده بنفسه سبحانه وتعالى.
(ومذهب السلف بين التعطيل وبين التمثيل فلا يمثلون صفات الله بصفات
خلقه كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه أو وصفه
به رسوله فيعطلوا أسماءه الحسنى، وصفاته العليا، ويحرفوا الكلم عن مواضعه
ويلحدوا في أسماء الله وآياته، وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل فهو جامع
بين التعطيل والتمثيل) .
(وأما المعطلون فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق
بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات فقد جمعوا بين التمثيل والتعطيل،
مثَّلوا أولاً وعطَّلوا آخرًا، وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته
بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاته، وتعطيل ما يستحقه هو سبحانه من الأسماء
والصفات اللائقة بالله سبحانه وتعالى، فإنه إذا قال القائل: لو كان الله فوق العرش
للزم أن يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساويًا وكل ذلك مُحَال، ونحو ذلك من
الكلام، فإنه لم يفهم من كون الله على العرش إلا ما يثبت لأي جسم كان على أي
جسم كان، وهذا اللازم تابع لهذا المفهوم، أما استواء يليق بجلال ويختص به فلا
يلزمه شيء من اللوازم الثلاثة كما يلزم سائر الأجسام، وصار هذا مثل قول الممثل:
إذا كان للعالم صانع فإما أن يكون جوهرًا أو عرضًا؛ إذ لا يُعْقَل موجود إلا هذان،
أو قوله إذا كان مستويًا على العرش فهو مماثل لاستواء الإنسان على السرير أو
الفلك إذ لا يعلم الاستواء إلا هكذا، فإن كلاهما مثَّل وكلاهما عطَّل حقيقة ما وصف
الله به نفسه، وامتاز الأول بتعطيل كل مسمى للاستواء الحقيقي، وامتاز الثاني
بإثبات استواء هو من خصائص المخلوقين) .
(والقول الفاصل هو ما عليه الأمة الوسط من أن الله مستوٍ على عرشه
استواء يليق بجلاله ويختص به، فكما أنه موصوف بأنه بكل شيء عليم وعلى كل
شيء قدير، وأنه سميع بصير، ونحو ذلك، ولا يجوز أن نثبت للعلم والقدرة
خصائص الأعراض التي لعلم المخلوقين وقدرهم، فكذلك هو سبحانه فوق العرش
ولا نثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق ولوازمها) .
(واعلم أن ليس في العقل الصريح ولا في النقل الصحيح ما يوجب مخالفة
الطريقة السلفية أصلاً، لكن هذا الموضع لا يتسع للجواب عن الشبهات الورادة عن
الحق فمن كان في قلبه شبهة وأحب حلها فذلك سهل يسير) .
(ثم المخالفون للكتاب والسنة وسلف الأمة من المتأولين هذا الباب في أمر
مريج، فإن من ينكر الرؤية يزعم أن العقل يحيلها وأنه مضطر فيها إلى التأويل،
ومن يحيل أن لله علمًا وقدرة، وأن يكون كلامه غير مخلوق ونحو ذلك يقول: إن
العقل أحال ذلك فاضطر إلى التأويل، بل من ينكر حقيقة حشر الأجساد والأكل
والشرب الحقيقي في الجنة يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل،
ومن يزعم أن الله ليس فوق العرش يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى
التأويل.
(ويكفيك دليلاً على فساد قول هؤلاء أنه ليس لواحد منهم قاعدة مستمرة فيما
يحيله العقل، بل منهم مَن يزعم أن العقل جوز أو أوجب ما يدعي الآخر أن العقل
أحاله) .
(يا ليت شعري بأي عقل يوزن الكتاب والسنة فرضي الله عن مالك بن أنس
الإمام حيث قال: (أَوَكُلَّمَا جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى
محمد صلى الله عليه وسلم لجدل هذا؟) وكل من هؤلاء مخصوم بمثل ما خُصِمَ به
الآخر وهو من وجوه:
(أحدها) : بيان أن العقل لا يحيل ذلك.
(والثاني) : أن النصوص الورادة لا تحتمل التأويل.
(والثالث) : أن عامة هذه الأمور قد علم أن الرسول جاء بها بالاضطرار
كما أنه جاء بالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان، فالتأويل الذي يحيلها عن
هذا بمنزلة تأويلات القرامطة والباطنية في الحج والعمرة والصوم والصلاة وسائر
ما جاءت به النبوات، على أن الأساطين من هؤلاء الفحول معترفون بأن العقل لا
سبيل له إلى اليقين في عامة المطالب الإلهية، وإذا كان هكذا فالواجب تلقي علم
ذلك من النبوات على ما هو عليه، ونحن نذكر من ألفاظ السلف بأعيانها وألفاظ من
نقل مذهبهم بحسب ما يحتمله هذا الموضع ما يعلم به مذهبهم) .
ثم شرع بعد هذا في أقوال أئمة السلف في ذلك بنصوصها، وحسبنا الخلاصة
التي نقلناها منها عن شرح البخاري للحافظ ابن حجر، فهي تلقم الرافضي الحجر،
وتبين لأهل السنة ولذي العقل والإخلاص من الشيعة كذبه وافتراءه، وهذا التحقيق
من شيخ الإسلام في مسألة الصفات الجامع بين العقل والنقل يهدم كل شبهات
المبتدعة والمتكلمين المخالفة لها.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
أي: ومثلهم الشيعة فإنهم أخذوا التأويل عن الجهمية والمعتزلة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
عداء رافضة العلويين للمنار والإرشاديين
إلى جناب حضرة العلامة مفتي الأنام وحامل لواء الإسلام وناشر منار التوحيد
وقامع شوكة البدع السيد الحسيب النسيب محمد رشيد رضا لا زال عونًا للحق.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته لا يخفى عليكم أن في جاوة نهضة هي وليدة
أفكاركم التي تنشرونها بالتوالي في المنار، فلا غرابة إذا كان مديرو أزمة هذه
النهضة يغيرون عليكم كما يغيرون على أنفسهم إزاء كل حسود كَنُود يريد إسقاط
مركزكم ونزع ثقة رجالها بكم، فطالما سمعنا ونسمع من أفواه العلويين بجاوة، وهم
غلاة الشيعة أن صاحب المنار في النار ولا يعمل إلا لخويصية نفسه.
وهؤلاء قد خصصوا فئة منهم لنشر الدعاية ضدكم بين عرب حضرموت
والجاويين حتى لو كان أحدنا يمشي في أي حارة كانت حاملاً بيده عددًا من المنار
حالاً يبادر سكان تلك الحارة بقولهم (هذا مناري) وينفرون الناس منا فهم ضدنا
وضد مناركم، ولهم رؤساء وكبراء ومن جملتهم السيد علي بن عبد الرحمن الحبشي
ومحمد بن عبد الرحمن بن شهاب ومحررو حضرموت، ونحن إزاء حركاتهم
الضالة هذه وحبًّا في نصر الحق والحقيقة لا نفتأ نلقي محاضرات في محلات متعددة
لتفهيم العامة (الذين قد وقعوا في الحفرة التي حفروها) مقاصد الدين حتى خفتت
أصواتهم وسكنت حركاتهم، مع عدم التهور في التفهيم، فالمنزلة التي تحصلوا
عليها في قلوب الجاويين والحضارمة أصبحت لا شيء بحماقتهم وتهورهم (فأقبل
بعضهم على بعض يتلاومون) حتى انحلت الرابطة فيما بينهم أنفسهم؛ ولذلك قامت
شرذمة من الذين لهم نوع من العقل تسعى في إقامة جمعية باسم (الرابطة العلوية)
فكأن القوم أرادوا بها استرجاع ما فاتهم من التبجيل والتكريم وإغراء العوام
واستمالتهم بفتح المدارس لهم تعلمهم الصناعات والتجارة وغير ذلك من الأمور
الدنيوية، هذا قولهم في الظاهر وإذا بحثنا للحقيقة، وأرجعنا الأسباب إلى المسببات
أدركنا أن هؤلاء القوم في حيرة عظمية لاسترجاع عظمتهم، ولا يصدقون بعد اليوم
لا سيما بعد ما قال السيد أبو بكر العطاس: إنه يفضل أن يكون الإنجليز حكامًا في
الأراضي المقدسة (الحجاز) على ابن السعود فنرجو من فضيلتكم كما عهدنا فيكم
أن تشدو أزرنا للدفاع عن الحق الذي هو مبدؤكم منذ عشرات السنين، والسلام
عليكم.
…
...
…
...
…
...
…
من عبد السميع منصور الجاوي
(تعليق المنار)
جاءتنا هذه الرسالة منذ سنة فلم نحفل بنشرها؛ لأن شُذَّاذ إخواننا العلويين لا
يزالون في حيرة من نزعتهم الرافضية الجديدة، فهم فيها يعمهون، وفي ريب من
استعادة جاه سيادتهم المفقودة، فهم في ريبهم يترددون، ولدينا رسائل ومسائل
أخرى في شأنهم، ومصنفات مضلة من بعض كتابهم، وأعداد محفوظة من
جريدتهم، لم نشأ أن نفتح باب الانتقاد عليها، إلا ما أنكرناه على ما نشر في هذه
الجريدة (حضرموت) من السعي لإيقاد نار الحرب بين الإمامين الجليلين إمام
السنة الصحيحة عبد العزيز بن سعود ملك الحجاز ونجد، وإمام الشيعة المعتدلة
الزيدية يحيى بن حميد الدين صاحب اليمن، فإن هذه السعاية شر ما صدر عن
متهوريهم، وأشدها خطرًا على أمتهم العربية وملتهم الإسلامية، التي لم يبق في
الأرض حكومة إسلامية تنفذ شريعتها وتقيم حدودها غير حكومات هذين الإمامين
الجليلين، فلذلك يعتقد كل مسلم يغار على الإسلام وكل عربي يغار على مجد
العرب أن تعاديهما وتقاتلهما أعظم جناية على هذه الأمة وهذه الملة يخشى أن تنتهي
باستيلاء الأجانب على مهد الإسلام وعقر دار العرب
…
وإن لم يعقل هذا من قال
من هؤلاء العلويين الأغرار الذين لا يفقهون حتى قال من قال منهم: إنه يفضل
سيادة نصارى الإنكليز على حرم الله وحرم رسوله على حكم ابن السعود المسلم
السني السلفي، ولماذا؟
لأن هذا القائل الغر المسكين يتوهم أن عظمة العلويين وإخضاع عوام
المسلمين لها من طريق الخرافات لأجل نسبهم وحده يمكن بقاؤهما في ظل السيادة
البريطانية التي تحمي في الهند عبادة البقر والقرود وشجر الببل والبيبر وغير ذلك
من معبودات الوثنيين، ولكن لا يمكن بقاؤها ولا بقاء هذه الخرافات في ظل حكم
ابن السعود ولا حيث ينتشر المنار، بل يعتقد هذا الغر الجاهل وأمثاله من
الخرافيين أن انتشار المنار في مسلمي جاوه وخاصة جالية الحضرميين من سكانها
هو الذي زلزل تلك الخرافات، وكان سبب تأليف الجمعيات الإرشادية الإصلاحية
التي يناضلونها العداء.
وتلك الكلمة الملعونة مأثورة عن غير العطاس يرحمه الله بالتوبة والإنابة فقد
نقلها لي بعض الناس عن شيخ كبير من أكبر هؤلاء العلويين العارفين بحال العصر،
ولكنه لا يعلم أن بقاء عظمة شرفاء النسب واستعلائهم على عوام المسلمين بالخرافات
والبدع إذا لم تقض عليهما حكومة ابن السعود بنشر السنة وهدم هياكل البدع فإن
الحرية العصرية ستقضي عليهما، ويخشى أن تقضي على الدين الإسلامي نفسه في
بلاد العرب كلها، وأن محاولة إسقاط دولة ابن السعود بالخرافات الرافضية وافتراء
الكذب حماقة وجنون، فقد أخبرني الثقة الثَّبْت أنه قال أمام هذا الشيخ العلوي الذي هو
من أركان دعاة الرفض: إن ما ينقله الغرة عن سيدنا علي رضي الله عنه من أنه كان
يقول: أنا باعث الأمم، أنا محيي الرمم
…
مما لا يعقل أن يصدر عنه - أو ما هذا
معناه، فقال له الشيخ العلوي: بل هو فوق ذلك! ! أي إن هذا قليل عليه، ولازمه
أن مقامه مقام الربوبية أو هو هو والعياذ بالله تعالى، وسمعته أنا بمصر يقول:
إن حكومة ابن السعود تجلد مَن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم تحت أستار
الكعبة؟ فهذا مثل لغلوهم ولبهتانهم على ابن السعود أربوا فيه على روافض الإمامية
الذين استحسنوا منع حكومة إيران لرعاياها من أداء فريضة الحج وعَدُّوهُ جائزًا شرعًا
بزعمهم أنه لا أمان لهم على حياتهم في الحجاز - وقد تواتر لدى أهل المشرق
والمغرب من حجاج جميع الأقطار وغيرهم أن الأمان الوارف الظلال في الحجاز في
عصر ابن السعود لم يتمتع الحجاز بخير منه في عصر من العصور بل قلما تمتع
بمثله، حتى إن صاحب مجلة العرفان على تعصبه وتتبعه لعثرات ابن السعود
ونشرها، وعلى افترائه فيها قد نشر بعض ما سمعه من حجاج شيعة بلاده عن أمن
البلاد التام وعن حفاوة ملك الحجاز ونجد بمن زاره منهم، ثم ذكر أن بعض الناس
لامه على نشر ذلك وإن كان حقًّا.
وقد سبق لي أن نصحت لهؤلاء العلويين وبينت لهم الوسيلة الوحيدة التي
يمكن أن تحفظ لهم كرامة عنصرهم بالاستحقاق وهو العلم وخدمة الأمة بالدعوة
والقيام بمصالحها العامة كالمدارس والجمعيات العلمية والخيرية مع التخلق بأخلاق
سلفهم الصالحين، والتأسي بجدهم خاتم النبيين، وسيد ولد آدم أجمعين، صلوات
الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين له ولهم إلى يوم الدين، ولا سيما
خلق التواضع والإيثار على النفس، واعترف لي خاصتهم بقيمة هذه النصيحة،
ولكنهم لم يعملوا بها، لما يعوزهم من السعي الحثيث، والعزم البعيث، والمال
الكثير والجهاد الكبير، ولا سيما جهاد النفس، وغير ذلك مما يعسر عليهم الآن
وزعماؤهم على ما نعلم
…
على أن فيهم من أصحاب الدثور وأرباب الجد والنشاط
من يقدرون على تأسيس جمعية تُعْنَى بالقيام بذلك، ولكن زعماءهم رأوا أن هذه
شقة بعيدة، تكبدهم مشقة شديدة، وأن الغلو الرفضي في أجدادهم أقرب منالاً كقول
بعضهم في أحد أئمة آل البيت:
قلامة من ظفر إبهامه
…
تعدل من مثل البخاري مائه
ولكن العقيدة الإسلامية الصحيحة تنافي هذا الغلو وأهله ومن فهم الإسلام
وقول الله تعالى لخاتم أنبيائه: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} (الكهف: 110) إلخ،
يعتقد أن جميع أظافر الصالحين والأنبياء لا تعدل عند الله تعالى أقل رجل مؤمن لا
يشرك به شيئًا، فإن فضائل الأنبياء وغيرهم بأرواحهم وعقولهم وأخلاقهم ومعارفهم
الإلهية التي تترتب عليها أعمالهم الصالحة لا أظافرهم، فما دام علماء هؤلاء
الحضارمة وسادتهم ينشرون فيهم هذه الدعوة ويحاولون تفضيلهم على الناس بهذا
التبجح الباطل المنكر، فلا يزيدهم العالم الإسلامي إلا تحقيرًا وازدراء، بل ذلك مما
يأتي بضد ما يريدون منه بحسب سنة الله تعالى في الخلق، المعبر عنها في عصرنا
بناموس رد الفعل، كما كان الرفض سبب النصب فهم الذين يُجَرِّئُونَ الناس على نقد
أجدادهم أو وضعهم في المواضع التي تليق بعلمهم وعملهم، وبناء التفاضل بينهم وبين
غيرهم على قواعد الشرع الإسلامي، وحينئذ يقولون لهذا الرافضي: إن الإمام محمد
بن إسماعيل البخاري يَرْجُح بمائة ألف من العلويين، بل بالملايين من أمثال هؤلاء
الجاهلين، بل مِن الغَضِّ من كرامته أن يُوزَن بأمثالهم، وإنما يُوزَن بأكبر أئمتهم
فَيَرْجُحُ بالكثيرين منهم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الانتقاد على المنار
عود على بدء
سلام من مصطفى نور الدين إلى كبير المصلحين، وملجأ المسترشدين،
حضرة الأستاذ الفاضل السيد محمد رشيد رضا متَّعَه الله بالصحة والعافية، وبارك
لنا في عمره ونفعنا بعلومه، أما بعد فقد قرأت في المنار الجزء الرابع المجلد التاسع
والعشرين ردَّكم على انتقادي ما جاء بتفسير المنار الآية {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي
فَإِنِّي قَرِيبٌ} (البقرة: 186) وإني قد رأيت في هذا الرد ما يستحق النقد، وقد
كنت أحجمتُ عن أن أعرض على حضرة السيد ما بدا لي انتقاده امتثالا لإنزالكم لي
بأن لا أتجرأ بعد الآن على التخطئة والتصويب والترجيح والتجريح إلخ، ولكنكم
تعلمون أن امرأة انتقدت عمر بن الخطاب في تقدير الصداق وفي ذلك دلالة على أن
للحقير أن ينتقد الكبير لذلك رجَّحت أن أقدم لكم ما هو مُنْتَقَد في نظري.
فمن ذلك قولكم: إن قرب الوجود بالمعنى الذي فسَّره به الأستاذ الإمام أقرب
إلى مذهب السلف إلخ، فأقول: إن تفريع الأستاذ الإمام على هذا المعنى بقوله:
فهو تعالى قريب بذاته من كل شيء يُبْعده عن مذهب السلف؛ لأنه لم يرد في كتاب
الله ولا في حديث متواتر ولا نقل عن جماعة الصحابة إسناد الاستواء إلى الذات
كما قلتم فكذلك لم يرد عما ذكر إسناد القرب إلى الذات، فإن كان إسناد الاستواء إلى
الذات مخالفًا لمذهب السلف لهذه العلة فكذلك إسناد القرب إلى الذات يكون مخالفًا
لمذهب السلف أيضًا حيث إن العلة فيهما واحدة، على أن إسناد الاستواء إلى الذات
تأويل [1] يقربه التنصيص على الاستواء على العرش [2] ، والعلو والفوقية والعروج
والصعود والرفع [3] وغير ذلك مما ورد منه الكثير في الكتاب والأحاديث وآثار
الصحابة والتابعين، وكل هذا لا يخفى على حضرة السيد الفاضل [4] بخلاف إسناد
القرب إلى الذات، ولو على الوجه اللائق بالتنزيه فإنه تأويل يبعده التنصيص
المذكور، وفي نظري واعتقادي أن هذا التنصيص هو الذي حمل الكثيرين من أئمة
الأحاديث والآثار من أهل القرن الثالث والرابع على التفرقة في تأويل الإسناد فأسندوا
الاستواء إلى الذات وأسندوا المعية والقرب إلى العلم، وإني أعذرهم في ذلك لأمرين:
(الأول) التنصيص على الاستواء على العرش وما في معناه كما تقدم (الثاني) أن
الاستواء لا يصح إسناده إلا إلى الذات، أما المعية والقرب فيصح إسنادهما إلى الذات
وإلى غيرها من آثار الصفات كالعلم والسمع والبصر [5] من هذا يتضح أن ما ذهب
إليه الأستاذ الإمام وأيده حضرة السيد - من أن إسناد القرب إلى الذات - مخالف
لمذهب الصدر الأول من السلف ومخالف لكثير من أئمة الأحاديث والآثار من القرن
الثالث والرابع، أما مخالفته لمذهب الصدر الأول من السلف فإنهم لم يؤولوا في
الإسناد بل قالوا: إنه تعالى مستوٍ على عرشه، ولم يقولوا بذاته، وقالوا قريب من
خلقه ولم يقولوا بذاته أو علمه، وأما مخالفته للكثير من أئمة الأحاديث والآثار فلأنهم
فرَّقوا في تأويل الإسناد فأسندوا الاستواء إلى الذات والمعية والقرب إلى العلم لا إلى
الذات كما قال الأستاذ الإمام وهذا الصوفي، فقد اتضح من هذا أن ما ذهب إليه
الأستاذ الإمام وهذا الصوفي من إسناد القرب إلى الذات بعيد من مذهب السلف لا
قريب منه فضلاً عن كونه أقرب [6] .
ومما هو مُنْتَقَد في نظري قولكم: فإن صفات الذات كالعلم لا توجد إلا حيث
توجد الذات أي لا توجد إلا بوجودها لاستحالة انفصالها عنها، فأقول: إن قول
القائل: إن الله معنا بعلمه أو في كل مكان بعلمه لا يقصد به نفس الصفة القائمة
بالذات، فإن العلم بهذا المعنى لا ينفصل عن الذات، بل جميع الصفات بهذا المعنى
كذلك، وإنما المقصود هو أثر الصفة، فمعنى كونه تعالى في كل مكان بعلمه أنه
عالم بكل مكان، وهذا كثير في القرآن أي إطلاق الصفة وإرادة أثرها، فمن ذلك
قوله تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ} (البقرة: 255) قال الجلال: لا
يعلمون شيئًا من معلوماته، ومن ذلك قوله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ
أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} (النساء: 166) قال الجلال: ملتبسًا بعلمه عالما به ومن ذلك قوله
تعالى: {وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَاّ بِعِلْمِهِ} (فصلت: 47) فالعلم في هذا الآيات ليس المراد به الصفة القائمة بالذات بل
المراد أثرها، وهذا يكاد يكون بديهيًّا [7] .
ومن هذا القبيل {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} (لقمان: 11) أي مخلوقه وقوله تعالى:
{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} (التوبة: 6)
أي القرآن لا الصفة القائمة بالذات كما هو ظاهر.
ومما انتقدته على حضرة السيد أنه فهم غير ما أردته من قولي: ثم لا غرابة
ولا بُعْدَ في هذا التفسير الثاني من حيث إسناد قرب الملائكة من المحتضر إلى الله
إلخ، فقد ترتب على ذلك أنكم نسبتم إليَّ أني قد اعتبرت التوفي المسند إلى الله في
الآيات الكثيرة مسندًا إلى الملائكة، والله يعلم أني لم أقصد ذلك [8] وإنما الذي
أقصده أني أقول: إن من الأمور التي تسند إلى الله حقيقة قد تُسْنَد إلى الملائكة
مجازًا، وبالعكس فمن الأول التوفي فإنه قد أسند إلى الله حقيقة في الآيات التي أكثر
من إيرادها حضرة السيد وأسند إلى الملائكة مجازًا.
وأما الثاني وهو العكس فهو القرب في آية: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَاّ
تُبْصِرُونَ} (الواقعة: 85) فإن الإسناد فيها على العكس من الإسناد في التوفي
أعني أن إسناد القرب إلى ضمير الذات مجاز للعلاقة التي بين الله وملائكته [9] في
أمور كثيرة خصوصًا وأن أمورهم غير كسبية، وقد منع من إرادة الحقيقة مانع،
وهو أنه من المسلمات أن نفي الشىء فرع عن صحة حصوله، وقد نفى في هذه
الآية إبصار حاضري المحتضر لذات الله على تفسير هذا الصوفي، فهل يصح
لأحد أن يبصر ذات الله في الدنيا حتى تنفى عن حاضري المحتضر [10] أما إبصار
الملائكة فإنه يصح وقوعه بل هو واقع بالفعل للمحتضر، ولكن لا يبصرهم
حاضرو المحتضر، ومما راجعته من التفاسير في تفسير الآية تفسير ابن جرير
المشهور بأنه تفسير أثري فوجدته يقول: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} (الواقعة: 85)
برسلنا، وأما تفسير الزمخشري الذي ذكره حضرة السيد في هذا الرد فهو
في نظري خير من غيره؛ لأنه مبرأ من اللوازم التي تلزم على غيره [11] .
ومما انتقدته على حضرة السيد حذفه لتفسير آية الحديد وتفسير الحديث من
الرد، فكان اللازم أن يذكر ذلك، فإن وجد فيه خطأ أرشدني إليه [12] .
ومما انتقدته على حضرة السيد إنذاره لي بأن لا أتجرأ بعد الآن على التخطئة
والتصويب إلخ، فكيف يصح هذا، وقد أمر الله تعالى عباده بالنظر وحَثَّ عليه في
كثير من كتابه، ومدح أهل النظر بقوله: {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ
فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (الزمر: 17-18) ألا يُعَدُّ مثل هذا الإنذار حَجْرًا على العقول،
واحتقارًا لعباد الله؟ {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي
قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر: 10) اهـ.
(جواب المنار)
أقول بعد رد التحية بالسلام على صاحب الرسالة، ورحمة الله وبركاته.
(أولاً) : إن حالنا مع أخينا في الله المنتقد الكريم كحالنا مع أخينا المدافع
عن كعب الأحبار ووهب بن منبه المنتقد على شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم،
وكلاهما محب للعلم حريص على تمحيص المسائل التي تشتبه عليه، وكلاهما
يعتمد في انتقاداته على ما يفهمه من المطالعة في الكتب من غير رجوع إلى ما
يتوقف عليه الفهم الصحيح المؤهل لتخطئة العلماء، والترجيح بين أقوالهم من
أوضاع اللغة وقواعد النحو والمعاني والبيان وأصول الفقه؛ بل لعدم العلم التفصيلي
بها، ولذلك يكثران من النقول التي لا حاجة إليها كلها فيما يحبان استبانته والحكم
الصحيح فيه، وقد كان يصعب علينا أن نترك نشر شيء مما يرسلانه إلينا
لإخلاصهما في البحث ومحبتهما للعلم؛ لئلا يسيئا الظن بنا ويتوهما أننا لم ننشر
ذلك لأننا نستكبر عن الاعتراف بما فيه من الحق، ونفضل عليه الإصرار على
الباطل، ولكن جمهور قراء المنار يتبرمون من نشر أمثال هذه الرسائل
المطولة
…
كما ذكرناه في تعليق لنا على رسالة لذلك الأخ الفاضل مع نشرها برمتها،
وقد اضطررنا إلى التصريح بمثل هذا الآن لما يراه القارئ في بقية هذا التعليق.
(ثانيًا) : إن أخانا وصديقنا صاحب هذا الجدل الجديد في تأييد كلامه
السابق قد اتهمنا في أوله بأننا احتقرناه وحكمنا عليه بأن لا يتجرأ على التخطئة
والتصويب والترحيح والتجريح؛ لأنه حقير في نظرنا فلم نره أهلاً لأن ينتقد علينا
أي لما ندعيه من العظمة، وذكر أنه كان أحجم عن الرد علينا ثانية، ولكنه استدل
باعتراض المرأة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأنه (للحقير أن ينتقد
الكبير) فرجَّح الإقدام على الانتقاد!
وفي آخر كلامه عَدَّ هذا مخالفًا لقوله تعالى: {فَبِشِّرْ عِبَادِ} (الزمر: 17)
الآية وحجرًا على العقول واحتقارًا لعباد الله وهذه مطاعن شديدة لم يسبقه إلى لَمْزِنَا
بها الأعداء فضلاً عن مسترشدي الإخوان.
الحق أقول: إن أخانا العزيز المكرم المخطئ في هذا الفهم وآفته فيه عدم
بناء فهمه على قواعد اللغة، وإنني على علمي بقصوره في ذلك لأفضله على كثير
من كبار علمائها وبلغاء منشئيها، وإنما أفضله بدينه وما أظن من إخلاصه لا بعلم
اللغة ولا غيرها، إنني قيدت النصح له بأن لا يتجرأ على ما ذُكِرَ بقولي (بغير
تدقيق وتحقيق وطول بحث وكثرة مراجعة) ولم أجعله مطلقًا، وأين انتقاداته
واعتراضاته من اعتراض تلك الصحابية العربية على عمر بن الخطاب رضي الله
عنه فيما هَمَّ به من منع الناس من التغالي في المهور ذهولاً عن الآية الشريفة التي
ذكرته المرأة بها، فهي قد راجعته مستندة إلى آية صريحة لا تحتمل التأويل وهي
تفهمها حق الفهم؛ لأنها من أهل اللغة الصرحاء الذين يفهمون ما هو أدق منها،
وأحوج إلى المعرفة والفهم، وإنه ليحزنني أن أضطر إلى تذكير أخي السلفي
الفاضل بقصوره هذا؛ دفاعًا عن نفسي وعن الحق، فأنا أعد من أعظم النقائص
احتقار من دونه من الناس في دينه وأدبه وإخلاصه، فكيف أحتقره، وأنا أغتبط
بأُخُوَّتِه، وأتمنى كثرة الإخوان من أمثاله؟ ولعله يرى أن عدم فهمه لكلامي
(بزعمي) هو كعدم فهمي لكلامه في انتقاده كما صرَّح به، فيكون قد تساوينا في
عدم الفهم، وحينئذ لا أحتاج إلى ما ذكرت من الاعتذار له على ذمه لي وقدحه فيَّ،
ولا مطمع في فهم كل منا لكلام الآخر فلا وجه للمناظرة بيننا.
(ثالثًا) إن سبب ردي على رسالته الأولى هو أنني رأيتها جدلاً في مسائل
الصفات الإلهية بما أطال به من الاستدلال الذي رأيته في غير محله لما ذكرته آنفًا
على أن هذا الجدل مذعوم وإن كان مبنيًّا على القواعد اللغوية والعلمية فأردت أن
أشير إلى بعض الخطأ فيه لعله يتجنبه بعد - فرأيته قد ازداد تماديًا فيه بهذه الرسالة،
وقد كدت أقع فيما وقعت فيه أولاً ذهولاً وغفلة مني، فشرعت في الرد على مباحثه
وأدلته الجديدة بالتفصيل، ثم تنبهت فرمجت ما كنت كتبته وألقيته، وهذا الخطأ كثير
جدًّا بحسب فهمي وعلمي، وأعتقد أن نشر ذلك الرد عليه لا يفيد، بل يثير عنده
شبهات وآراء أخرى فهو يضر ولا ينفع، ولا يهمني - وهذا اعتقادي - أن يعتقد
أنني أنا المخطئ أو أنني عجزت عن الرد عليه أو ما شاء من اعتقاد ورأي، وقد
يكون بعض اعتقاده في هذا الشأن حقًّا في الواقع، وإن لم يظهر لي، ثم أشرت في
الحواشي إلى بعض ما رأيت من الخطأ في عبارته بعد كتابة هذا التعليق كله وجمع
حروفه للطبع على سبيل النموذج لا تحقيق المسائل، ولن أعود إلى نشر شيء من
هذا القبيل إن شاء الله تعالى.
(رابعًا) أرى مع هذا أن أذكر من المسائل المتعلقة بهذا الموضوع ما أظن
أنه نافع في نفسه إن لم يكن له فلغيره من القراء فأقول:
(1)
إنني قلت في تعليقي على انتقاده الأول: إن عبارة الأستاذ الإمام
أقرب إلى مذهب السلف من جهة عَيَّنْتُها لا من كل جهة، ولم أقل: إنه عين مذهب
السلف، بل ذكرت أن العمدة في مذهب السلف عندي ما أذكره في آخر ذلك
الجواب، وهذا التعبير معهود من العلماء، فكان ينبغي للأخ المنتقد أن يفند ذلك
الذي ذكرته في آخر الجواب إن رآه منتقدًا أو يعترف بأنه صواب ويستغني به عن
الرجوع إلى الجدل في العبارة للدفاع عن نفسه والانتقام لها على ما فهم أنني
احتقرته به.
(2)
إنني صرَّحت في صفحة 290 بأنني حملت كلام شيخنا على مذهب
السلف، بل على القرب منه - لأنني علمت من أقواله المسموعة والمكتوبة أنه
يدين الله بمذهب السلف، وإن ما قد يذكره في بعض مكتوباته من تأويل قد يخالفه
فإما سهو منه وإما لعلمه بأن بعض الناس لا يقنعه بحقية الإسلام غيره - وأعترف
أنا بمثل هذا، وقد صرَّحت به في التفسير والمنار غير مرة - وصرَّحت فيها أيضًا
بأنني ذكرت في التفسير أن شيخنا عفا الله عنا وعنه كان يسبق إلى فهمه في بعض
الصفات ما جرى عليه مفسرو الأشعرية من التأويل لما كان من توغله في علم
الكلام - وصرَّحت فيها أيضًا بأن ما حملت عليه كلام ذلك الصوفي هو احتمال في
العبارة أي لا مدلول لفظها المتبادر منه، وصرحت قبلها بأنه من باب تحسين الظن
به كما صرَّحت بأن المعتمد عندي في المسألة ما ذكرته في آخر الرد كما تقدم -
والمراد بهذا وذاك أنني لم أقصد من ذلك البحث إثبات كون كلام الشيخ وكلام ذلك
الصوفي هو عين مذهب السلف، فلماذا نعيد الجدال، وما ذم الشرع من القيل
والقال؟ ألأجل تحسين الظن بعالمين عابدين من المسلمين الميتين علمت من دين
أحدهما وعلمه وتقواه بالاختبار الطويل ما لم أعلم مثله عن غيره ممن عاشرت من
الناس، ولم أعلم من الآخر سوءًا كلا إنما ذنبي الصحيح أنني خطأت المنتقد
بصريح القول لأنني استنكرت دخوله في هذا المأزق الذي أراه ضارًّا، وأستغفر الله
العظيم.
(3)
إن الأصل في إسناد كل صفة أو فعل إلى اسم الجلالة (الله) أو
ضميره أن يكون مستندًا إلى ذاته سبحانه وتعالى وكذلك الإسناد إلى اسمه الرحمن
الذي استعمل في القرآن استعمال اسم الذات، ولكن هنالك فرقًا بين الصفة كرحيم
وقريب ومجيب وسميع وبصير وبين الفعل الحادث كاستوى على العرش ونزل إلى
السماء الدنيا؛ ولذلك انتقد بعض رواة مذهب السلف وأنصاره من المحدثين كالحافظ
الذهبي على من قال: استوى بذاته، وإن كان مذهبًا لبعضهم، وإنما أوَّل بعض
العلماء إسنادًا من ذلك دون إسناد؛ لأنهم رأوا أن ما أولوه يستحيل جعل الإسناد فيه
إلى الذات على ظاهره من حيث إنه يستلزم تشبيهه تعالى بخلقه أو قيام الحوادث
بذاته كما أول بعضهم آيات المعية بأن المراد بها العلم الإلهي، ولكن بعض تلك
الآيات يظهر فيها هذا التأويل دون بعض، فإذا كان ظاهرًا في قوله تعالى: {مَا
يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ
وَلَا أَكْثَرَ إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ القِيَامَةِ} (المجادلة:
7) لأنه افتتح هذه الآية بقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي
الأَرْضِ} (المجادلة: 7) واختتمها بقوله: {إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (المجادلة: 7) - إذا كان هذا التأويل ظاهرًا فيها - فهو لا يظهر في قوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا} (النحل: 128) وهو ظاهر - ولا قوله: {إِلَاّ
تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ
لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (التوبة: 40) ، فإنه لا يظهر في قرينة الحال
أن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد بهذا إعلام صاحبه أبي بكر الصديق رضي
الله عنه أن الله تعالى عالم بخروجهم أو بحالهم في الغار؛ لأنه كان يعلم ذلك - ولا
يظهر هذا من قرينة المقال أيضًا، بل هو يدل بأول الآية وآخرها المتفرع على
الإعلام بالمعية على أن المراد بها أو يلازمها الحفظ والنصر والتأييد فقد قال بعده:
{فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} (التوبة: 40) إلخ، ومثله
قوله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (طه:
46) وأما من ينكر التأويل لهذه الآيات وغيرها من السلف فقد بيَّنا قاعدتهم هنالك
وأعدناها هنا في الرد على الرافضي الذي ذكر بعضه في هذا الجزء وسيأتي باقيه
فيما بعده من النقول الصحيحة فيه.
وحاصله أن ما ذكر من تأويل المعية ومثلها صفة قريب لا ينافي إسنادهما إلى
ذاته تعالى؛ لأن ما ذكر من العلم أو النصر أو إجابة الداعي أو غيرهما هو لازم ما
ذكر لا مدلول نصه، فقوله تعالى:{فَإِنِّي قَرِيبٌ} (البقرة: 186) يدل بلازمه
على أنه قادر على إجابة الداعي كلمح البصر؛ فلذلك قال بعد إسناد صفة القرب
إلى ذاته: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (البقرة: 186) فنجمع بين المعنيين
كما جُمِعَا في الكتاب العزيز، ونقول على قاعدة السلف: إن قربه من الداعين قرب
يليق بذاته وصفاته المخالفة لذوات العباد وصفاتهم، ولو لم يعلل الأستاذ الإمام
القول بقرب الذات بما علَّله به لقلت: إنه عين مذهب السلف، ولم أقل: إنه أقرب
إليه من جهة واحدة ذكرتها.
(4)
إن النقل عن علماء السنة السلفيين في أمثال هذه المسائل مختلفة كما
بيَّنه الحفاظ كشيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه في العقل والنقل وغيره، والحافظ ابن
حجر في الفتح وغيره، وما من فئة أو طائفة من العلماء تنتمي إلى مذهب من
المذاهب الكلامية أو الفقهية أو إلى مذهب السلف على الإطلاق إلا ويوجد في كلام
علمائها الخطأ والصواب، والاختلاف في النفي والإثبات، والتأويل لبعض الأسماء
والصفات، حتى الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وللحافظ ابن الجوزي الحنبلي
مصنف طبع من عهد قريب يرد فيه على كثير من كبار علماء الحنابلة أخذهم
بظواهر كل ما أسند إليه تعالى من صفات وأفعال حادثة ويبرئ الإمام أحمد من
كثير من أقوالهم ويقول: إنه لا يؤيدها نص إلخ، وقد ألف بعض إخواننا من أهل
الحديث في الهند كتابًا في مذهبهم الذي يعبر عنه بمذهب السلف وبمذهب أهل الأثر
جاء فيه كثير من هذه الخلافات وترجيح بعض الأقوال فيها على بعض، مع التعبير
عن صاحب القول المرجوح أو المردود بقول المؤلف من أصحابنا، وعد من
متقدميهم مالك والشافعي وأحمد والبخاري وغيرهم من كبار المحدثين، ومن
علماء القرون الوسطى ابن تيمية وابن القيم، ومن المتأخرين ولي الله الدهلوي
والشوكاني ومحمد بن عبد الوهاب.
(5)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (بيان موافقة صريح المعقول
لصحيح المنقول) في سياق اختلاف كبار العلماء سلفًا وخلفًا في معنى كلام الله
تعالى، وكون كل طائفة يوجد في كلامها الخطأ والصواب ما نصه (ص162ج2) :
(ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة، وإن كان ذلك في المسائل
العلمية، ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمة، وإذا كان الله تعالى يغفر لمن جهل
وجوب الصلاة وتحريم الخمر لكونه بأرض جهل مع كونه لم يطلب العلم، فالفاضل
المجتهد في طلب العلم بحسب ما أدركه في زمانه ومكانه إذا كان مقصوده متابعة
الرسول بحسب إمكانه هو أحق بأن يتقبل الله حسناته، ويثيبه على اجتهاداته، ولا
يؤاخذه بما أخطأه تحقيقه؛ لقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (البقرة: 286) اهـ.
وهذا الكلام من أحسن الحقائق التي قرَّرها شيخ الإسلام قدَّس الله روح ومثله
كلامه في تحامي تكفير أحد من المسلمين بعينه فيما يظهر من مخالفته لبعض
النصوص فإن كانت المخالفة في شيء من أصول العقائد القطعية التي لا تتفق مع
دين الإسلام بضرب من الاجتهاد الذي تُسَوِّغه اللغة والقواعد الشرعية وجب
التصريح بكونها كفرًا مع القول بالاحتمال في حق صاحبها ولا سيما بعد موته ولا
سيما إذا كان متبعًا للشرع بالفعل كما قاله شيخ الإسلام في ابن عربي الذي بيَّن ما
في كلامه في الفصوص من الكفر الصريح، فقد ذكر في كتابه إلى الشيخ عدي بن
مسافر ما له أيضًا من الكلام الموافق للكتاب والسنة ومن العبادات ثم قال: (والله
أعلم بما مات عليه) .
وإنه ليسوؤني أن أرى كثيرًا من المنتحلين لمذهب السلف في هذا العصر
احتقار كثير من كبار علماء المسلمين الأعلام الذين اهتدى بعلمهم كثير من الناس
والطعن فيهم بما يرون في كلامهم من بعض التأويلات المخالفة لجمهور السلف،
وإن كان للتأويل فيها وجوه ظاهرة من لغة القرآن، ولم يصح فيها عنهم إجماع،
وهذا من شهوات الأنفس البشرية الذي علم بالاختبار أن ضرره أكبر من نفعه،
وقد ثبت عندي أن السبب الصحيح لكثرة خصوم شيخي الإسلام الإمام ابن حزم
والإمام ابن تيمية هو شدة انتقادهما لبعض الأئمة السابقين، وقد حُرِمَ ألوف كثيرة
من أهل كل عصر من علمهما الواسع لهذا السبب كما نبهنا عليه في ذكر سبب
انتقاض أبي حيان على الثاني بسبب طعنه الشديد في سيبويه كقوله: (فشر) ولما
تنزه قلم ابن القيم عن مثل هذه الشدة كان كلامه مقبولاً عن جميع العلماء حتى فيما
اقتبسه من نور علم أستاذه ابن تيمية رحمهم الله وعفا عنا وعنهم.
والعبرة في الدين بالتوحيد الخالص والتسليم بحقية النصوص ظاهرًا وباطنًا
وبالاهتداء بالعمل، وهذا هو الركن الأعظم في هدي السلف، فقد كرهوا المجادلة
في العقائد وآيات الصفات وأحاديثها ولو بحسن النية، ولكن المبتدعة خالفوهم،
فاضطر بعض علماء السنة إلى الرد عليهم وكرهه بعض، ولا ينبغي أن يكون مثل
هذا بين أهل السنة المهتدين بسيرة السلف فيما بينهم، بل الذي يليق بهم بيان
معانيها بالاختصار مع التذكير بالتنزيه القاطع لطريق التشبيه {وَاللَّهُ يَهْدِي مَن
يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (البقرة: 213) .
(كتب هذا التعليق للجزء الخامس عقب عودتنا إلى التحرير وتأخر إلى هذا
الجزء لكثرة المواد المهمة) .
_________
(1)
إن جعله تأويلاً ينافي كونه مذهبًا للسلف وينافي الأصل في الإسناد كما سنبينه، وإنما التأويل ضده بل نقيضه وهو منع إسناده إلى الذات بحجة أنه فعل حادث بيَّن النص أنه كان بعد خلق السموات والأرض الذي هو حادث أيضًا، وهنالك مذهب ثالث وهو الوقف وعليه من أنكر من أنصار مذهب السلف تصريح بعضهم بإسناده إلى الذات.
(2)
هذا تعليل للشيء بنفسه وهو لا يصح ولو صح لقيل مثله في الاستدلال على صحة تأويل المفسرين لقوله تعالى: [وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ](الأنعام: 18) بقوله تعالى حكاية عن فرعون:
[وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ](الأعراف: 127) من حيث استعمال هذا اللفظ بمعنى الفوقية المعنوية في كلام الله تعالى المعبر عن معنى قول مخلوق من مخلوقاته، فهل يوافقهم المنتقد على ذلك.
(3)
العلو مصدر اشتق منه اسم الله (العلي) كالعظيم والكبير وقد وردت صفات لله تعالى لا أفعالاً حادثة كالاستواء على العرش وأما الفوقية فقد أولها بعض السلف والخلف وحقَّقْنَا الفرق بينهما في تفسير
[وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ](الأنعام: 18) فيُرَاجع في ص 336 من جزء التفسير السابع، وأما العُرُوج والصعود فقد أسندا إلى الحوادث لا إلى الله تعالى، وأما إسناد رفع العمل إليه تعالى فهو إسناد فعل حادث كالاستواء لا إسناد صفة، ولكنه يدل هو وما قبله على صفة العلو الثابتة بمثل قوله:
[وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ](سبأ: 23) .
(4)
أما ما ورد فلا يخفى علينا ولا على أحد ممن قرأ النصوص، وأما فهم أخينا المنتقد له فهو مما يخفى علينا وجه صحته فنحن مختلفان في الفهم لا في العلم بوجود النص.
(5)
الأمر فيما ذكره من نظره واعتقاده ومن استدلاله عليهما بالضد فالدعوى باطة كما علم من الحاشية السابقة ويتضح مما سيأتي.
(6)
يرى القارئ تحقيق هذا التقريب في المسألة في ص 615 و616.
(7)
هذا الذي أول العبارة به يعبر عنه بلغة العلم باستعمال المصدر بمعنى اسم المفعول أو بالحاصل بالمصدر لا بأثر الصفة الذي افتجره، وما فرَّعه على هذه القاعدة باطل وتفسيره له غير صحيح وما ذكره من تفسير الجلال محتجًّا به غير صحيح أيضًا فليس معنى عدم إحاطة العباد بشيء من علمه تعالى أنهم لا يعلمون شيئًا من معلوماته فإن كل ما يعلمونه علمًا صحيحًا فهو من معلوماته، وليراجع المنتقد تفسيره في ابن كثير والبغوي وغيرها، ثم إن ما قاله لا يصح في تفسير [إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا] (التوبة: 40) إذ يكون معنا بمعلومه وسيأتي تفسير هذه المعية.
(8)
إنني ما تكلمت عن قصده من العبارة بل عما يدل عليه منطوقها ومفهومها ومثله ما تقدم من قصده في كون الله في كل ما كان بعلمه، ولا يمكنني أن أعرف قصده لعدم التزامه القواعد فلم يبق إلا الاطلاع على ما في نفسه من الفهم وأنَّى لي به؟ .
(9)
هذا تعبير غريب لا نعرفه عن أحد من المسلمين سلفهم ولا خلفهم.
(10)
لا يجهل المنتقد أن السلف والخلف من أهل السنة متفقون على جواز رؤية الرب تعالى في الدنيا عقلاً، ولو كانت محالاً لما طلبها الكليم عليه السلام كما قالوا: وإنما يمنع الجمهور وقوعها فيها فعلاً؛ لعدم ثبوتها نقلاً، ومنهم قال: إن نبينا صلى الله عليه وسلم رأي ربه ليلة المعراج فإمكان الرؤية متفق عليه، وهو كاف في صحة نفيها عن حاضري المحتضر، ولا يشترط فيه صحة حصولها كما زعم، وتعبير القرآن لا يقيد باصطلاحات العلماء بل يجب أن تتقيد هي به فالآية على فهم ذلك الصوفي حجة لقول أهل السنة بجواز رؤيته تعالى، ولو في الدنيا ويمكن أن يقال حينئذ:
[وَلَكِن لَاّ تُبْصِرُونَ](الواقعة: 85) لأن الإبصار خاص بالآخرة، وماذا يقول المنتقد في نفي الظلم عن الله تعالى على القاعدة التي وضع الصحة فيها موضع الإمكان، وقال: إنها من المسلمات؟ .
(11)
ما قاله ابن جرير الأثري تأويل بعيد من اللغة، وعن مذهب السلف وإن كان هو منهم، وحسبنا حجة على منتقدنا أنه فضَّل عليه وعلى غيره قول الزمخشري من أئمة مبتدعة التأويل.
(12)
هذا ما لا يمكنني التزامه فإن شرحه يطول، ويقتضي أن يجعل المنار مصححًا للغات المراسلين وأفهامهم، على أنني لا ثقة لي بفهمه لمرادي من الإرشاد ولا لقبوله له؛ لأنه مناظر جدلي، وإن
قال: إنه مسترشد من باب إظهار الأدب والتواضع، وهذه الرسالة دليل على ذلك، وإنني لم أخطئ بعد ذكر آية الحديد وإنما أخطأت بذكر غيرها مما استدل به على مراده وترتب عليه هذا الجدال، وكان ينبغي أن أكتفي بأصل دعواه مع الجواب عليه.
الكاتب: محمد رشيد رضا
مجلة الرابطة الشرقية
ودعاية التجديد الإلحادية واللادينية ودعاته
نشرت جمعية الرابطة الشرقية في 17 صفر في هذا العام (إعلانًا) للمجلة
التي قررت إنشاءها نشرناه لها في الجزء الخامس من المنار الذي صدر في سلخ
ربيع الأول، وإذا كان آخر كلمة في الإعلان أن لجنة المجلة هي: (الرئيس السيد
عبد الحميد البكري مدير المجلة: أحمد شفيق باشا المشرف على التحرير، الأستاذ
علي عبد الرازق) قَفَّيْنَا عليه بقولنا:
(نحمد الله أن آن إصدار هذه المجلة التي قررنا إصدارها من أول العهد
بإنشاء الجمعية (وفي الأصل المجلة وهو غلط بالطبع) ولكن نخشى أن يظهر فيها
شيء من شذوذ المراقب الذي يسوء جميع المسلمين كدفاعه عن الترك، وثنائه على
خطة حكومتهم في نبذ الإسلام وراء ظهورهم، ومحاولة إزالة كل أثر له في شعبهم،
ولكن الرجاء في سماحة الرئيس وسعادة الوكيل أن يحولا دون ذلك فالمراقب لا بد
له من مراقبة) اهـ.
نشرنا هذا التنبيه والتحذير راجين أن يكون حائلاً دون ما نخشى ونحذر على
مجلة جمعيتنا من تأييد الدعاية الإلحادية الجديدة التي قد توجب علينا أن نؤذن مجلة
جمعيتنا بالحرب (كما حذرنا الأفغان ووزيره الأكبر من تقليد الترك الكماليين في
حكومتهم اللادينية وأنذرنا الوزير سوء عاقبة هذا التقليد في بلادهم لئلا نضطر إلى
عدائهم، ونحن نحب أن نكون من أنصارهم، كما يجب علينا لكل شعب إسلامي ولا
سيما قوم أستاذنا الأكبر في السياسة الإسلامية والشرقية السيد جمال الدين الأفغاني
رحمه الله تعالى) ويسوءنا أن وقع ما كنا نتوقع في مجلتنا وفي شعب أستاذنا.
صدر العدد الأول من مجلة الرابطة الشرقية، فإذا هي مجلة لا دينية تؤيد ما
يسميه ملاحدة هذا العصر بالتجديد اللاديني وتحرير المرأة المسلمة، وتدافع عن
الترك والفرس والأفغان فيما يحاولونه من تجديد يهدم الإسلام، على احتراس قليل
في التعبير هو أقرب إلى الدفاع عن مصطفى كمال وأمان الله خان منه إلى الهجوم
عليهما، وينبئ عن الخشية عليهما من الفشل لا عن تمنيه لهما، وإذا بنا نرى فيه
مقالة للدكتور طه حسين الذي اشتهر بالطعن في الإسلام وتكذيب القرآن (العظيم
المجيد الكريم الحكيم) وخلاصة لبحثه الجهلي السخيف في ضمير الغائب واستعماله،
اسم إشارة في القرآن الكريم، ومقالة أخرى لأستاذه الدكتور منصور فهمي داعية
التجديد من ناحية الفلسفة في باب خاص به عنوانه (صفحات شرقية) ومقالة
للأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق شقيق الأستاذ علي عبد الرازق رئيس تحرير
المجلة، فإذا كان هذان الأستاذان يساعدان المجلة في تحريرها؛ لأنهما عضوان في
مجلس إدارتها، فما بال الدكتور طه حسين، وما الذي وضع اسمه في العدد الأول
في مقالين اثنين على اشتهاره بين مسلمي مصر وغيرها بالطعن في الإسلام؟
بعد صدور هذا العدد بأيام جاءني كتاب من بعض أهل العلم الإسلامي الداعي
إلى الإصلاح يقول فيه ما معناه: إن أهل الغيرة الإسلامية المحبين للمنار وصاحبه
المحسنين للظن به ينتظرون أن ينشر في الجرائد اليومية أنه خرج من جمعية
الرابطة الشرقية وتبرأ منها بعد أن ظهرت خطتها اللادينية في مجلتها، ثم تكلم
معي بعض أعضائها في وجوب تلافي هذا الأمر وتداركه.
ثم ظهر العدد الثاني من المجلة فإذا هو أصرح من العدد الأول فيما ذكر،
وإذا بنا نرى من محرريه الدكتور طه حسين الذي تعبر عنه المجلة بكلمة (صديقنا)
وأستاذه وسلامة موسى عدو الأديان كافة والإسلام خاصة، وعدو الآداب والفضائل
الروحية، وعدو الرابطة الشرقية من وطنية وجنسية ولغوية، وداعية الكفر والوقاحة
والتهتك اللذين يعبر عنهما بالأدب المكشوف، ويرجحه على ضده من الصيانة
والحياء الذي يسميه الأدب المستور، والدكتور هيكل بك رئيس تحرير جريدة
السياسة داعية الثقافة اللادينية، والأستاذ أحمد أمين أحد أركانها، فمن ذا الذي جعل
هذه المجلة ميدانًا لسباق أشهر فرسان الإلحادية وجعلها لسان حالهم ومقالهم؟
وإذا بنا نرى من موضوعات هذا العدد مقالة وجيزة عنوانها (البرنيطة في
بلاد الشرق) بدأها الكاتب ولعله المشرف على تحريرها بقوله: (من غريب
المصادفات أن يتفق زعماء النهضة في بلاد الإسلام: تركيا وفارس وأفغانستان
على إلزام أممهم قهرًا بلبس البرنيطة رغم العقيدة الفاشية في تلك الأمم عن البرنيطة
من أنها شعار نصراني خاص لا يرضى به إلا مسلم خارج عن دينه) إلخ.
ثم قال في أواخرها: (الحق أننا لا نزال عند رأينا في أمر البرنيطة من أنها
أهون شأنًا من أن يختلف فيها اثنان، أو ينتطح فيها عنزان، وخطأ الدعاة إليها
والمعارضين لها في تعظيم أمرها) .
***
تنويه مجلة الرابطة الشرقية
بإلحاد الكماليين
وإذا بنا نرى من موضوعاته مقالة أخرى في تعظيم شأن النهضة التركية في
المعارف وغيرها، ولا سيما نشر التعليم العام بالحروف اللاتينية الناسخة للحروف
العربية، وزعم الكاتب أن هذا الانقلاب العلمي الأخير في تركيا ليس له نظير في
تاريخ البشر؛ لأنه جعل المدن والقرى في جميع المملكة مدرسة كبرى (غرف
فُصُلوها الأندية والمقاهي والمساجد
…
) ثم نَوَّهَ بعظمة الغازي مصطفى كمال الذي
هو الأستاذ الأكبر لهذه المدرسة العامة الشاملة لجميع أفراد الأمة التركية!
أيظن الكاتب الذي جُنَّ في الدعاية الكمالية فعظم ما ليس بعظيم، أن الناس
كلهم مجانين يأخذون هذا التنويه الجنوني بالتسليم، بعيشك أيها القارئ ألم يكن
صاحب المنار فيما توقعه من مصطفى كمال وأمان الله خان ثم من الرابطة الشرقية
غيدرًا [1] وداعيًا إلى الرشد لِمَ لَمْ يزدهم دعاؤه إلا فرارًا؟
***
خداع طه حسين للأزهريين
بترك الدنيا للملحدين
وإذا بنا نرى من موضوعاته مقالة للدكتور طه حسين حاول فيها إقناع الأستاذ
الأكبر شيخ الجامع الأزهر بأن يجعل التعليم فيه وفي سائر المعاهد الدينية موجهًا
إلى الدعوة والإرشاد دون القضاء الشرعي والتعليم في المدارس وغير ذلك من
أعمال الحكومة والمصالح الدنيوية اللادينية تبعًا لمذهب التجديد القاضي بفصل أمر
الدين عن أمور الدنيا خلافًا للإسلام.
ونرى من المناسب أن ننتقل على سبيل الاستطراد من سرد المباحث التي
تسمى التجديدية، وكتابها في مجلة الرابطة الشرقية، إلى ذكر شيء جديد في مقال
الدكتور طه حسين، وهو أنه يذكر الله تعالى في هذه المقالة ويسمي الإسلام دين الله
والقرآن كلام الله، فقد قال في آخر هذه المقالة:
(ألا إن سبيل الأزهر إلى الخير واضحة إن أراد أن يسعى إلى الخير حقًّا
فليخرج لنا وعاظًا مرشدين خليقين بهذا اللقب، وليخرج لنا دعاة إلى دين الله وذادة
عنه وحماة له، وليدع الدنيا وأعراضها للذين تعنيهم أعراض هذه الحياة الدنيا، فقد
صدق الله تعالى حين قال:] وَاضْرِبْ لَهُم [2 {مَّثَلَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ
السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} (الكهف: 45)
فليدع الأزهر هذا الهشيم الذي تذوره الرياح، وليدع الأزهر هذا الزبد الذي يذهب
جفاء) .
ونقول: الظاهر أن هذا التصريح الجديد في هذه المقالة يقصد به التأثير
وإقناع شيخ الأزهر ورجال الإصلاح بهذه النصيحة الخادعة وإيهامهم أنها مقتضى
كلام الله تعالى، وشيخ الأزهر وعلماء الأزهر يعلمون أن الإسلام جمع لأهله بين
مصالح الدنيا والآخرة، وأن هذا المثل الذي ذكرهم به الدكتور ليس معارضًا لقوله
تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (البقرة: 29) وقوله: {قُلْ
مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي
الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ} (الأعراف: 32) وأمثال ذلك من الآيات التي
ترشد المسلمين إلى جميع الكائنات، والآيات التي وعدهم الله بها بأن يجعلهم خلفاء
الأرض ويمكن لهم فيها السلطان والمجد وإنما ذلك مثل لتصغير متاع الحياة الدنيا
بالنسبة إلى سعادة الآخرة؛ لئلا يشغلهم الغرض الأدنى عن الغرض الأعلى، وقد
أرشدهم إلى الجمع بينهما، وعلمهم أن يدعوه بقوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً
وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} (البقرة: 201) ومن المعلوم من تاريخ الإسلام بالضرورة،
ومن تعاليمه بالنصوص المتفق عليها بين الأئمة أن خلفاء المسلمين وقضاتهم
وحكامهم يجب أن يكونوا من أعلم علمائهم المستقلين، ومن أشدهم إقامة للعدل
واعتصامًا بعدالة الدين، وهم يحفظون من كلام سلفهم: الدنيا مزرعة الآخرة، وقد
بيَّنا هذا بالتفصيل في مواضع من التفسير والمنار فلا محل لبسطه هنا.
وقد غالط الدكتور طه حسين الأزهريين فيما ضربه لهم من الأمثال الدنيوية
كهذا المثل الديني؛ إذ ذكر لهم المدارس الدينية لدعاة النصرانية، وهذا حجة عليه
فإن هذه المدارس تلقن طلابها جميع علوم الدنيا، ودعاة النصرانية المتخرجون فيها
منهم الأطباء وأساتذة العلوم والفنون الرياضية والطبيعة وغيرها، فلماذا يحاول
إقناع متخرجي الأزهر وسائر المعاهد الدينية، بترك تعليم المدارس المدنية
والقضائية وغير ذلك من مصالح الدنيا لكليات جامعته المصرية المدنية، والرضى
بأن تكون سيادة الدنيا ومجدها وقفًا على الملحدين، ولماذا تنشر لهم مجلة الرابطة
الشرقية هذا الغش والخداع للمسلمين؟ فيا ليت شعري هل يرى رئيس الجمعية
ووكيلها ما يراه زميلهما المشرف على تحرير مجلتها من أن الإسلام دين روحاني
محض لا حكومة له ولا شريعة يجب على أهلها التزامها، وهل يريان ما يرى
صديقه طه حسين من جعل غاية التعليم الديني الوعظ والدعوة وحصر أعمال
الحكومة المصرية الإسلامية في خريجي المدارس اللادينية؟ الذي كنا نعرفه عنهما
غير هذا.
ويلي مقالَ الدكتور طه حسين مقالٌ لأستاذه الدكتور منصور فهمي تابع لما
كتبه في العدد الأول، وغايته التنويه بتعظيم شأن مصطفى كمال فيما تراءى له
ولسائر دعاة التجديد اللاديني من نجاحه فيما يسمونه إصلاحًا، وإن لم يصرح
باسمه ولا باسم المقتدين به ملك الأفغان وشاه إيران يعبر عنهم (برجال الشرق
الحاليين ومصلحيه) .
***
دعاية سلامة موسى إلى
الإلحاد وهدم الإسلام
وإذا بنا نرى من موضوعاته دعاية سلامة موسى المسرف في الإلحاد إلى
رأيه في مقالة عنوانها (الشرق والغرب) وهي تتضمن تخطئة جمعية الرابطة
الشرقية في سعيها للتعارف والتعاون بين شعوب الشرق من أدناها إلى أقصاها إذ
يقول: إننا نحن المصريين والسوريين والعراقيين نَمُتُّ بجملة صلات من النسب
إلى أوربا ولا نَمُتُّ بأي صلة إلى اليابان والصين، ونحن من حيث السلالة
البشرية ننتمي نحن والإنجليز إلى (أم واحدة) ونحن من حيث الدين يشترك كثير
منا وأوربة في المسيحية، والمسلمون هم أقرب الملل في العالم إلى المسيحية) .
وغرض سلامة موسى أفندي من هذا البحث في مقالته إقناع قراء مجلة
الرابطة الشرقية وتقريب بعض آخر من رأيه المشهور عنه، وهو وجوب إندغامنا
في الأمة الإنكليزية، ولو كان هذا المقام مقام المناقشة والمناظرة لأثبت له أن
النصرانية الحاضرة نصرانية التثليث هي أقرب إلى البوذية منها إلى الإسلام ولكن
دين المسيح دين التوحيد الخالص هو عين دين محمد عليهما الصلاة والسلام الذي
جاء في إنجيل يوحنا منه قول عيسى في مناجاة ربه (17: 3) (وهذه هي الحياة
الأبدية أن يعرفوك أنك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته) .
ويدعو الأستاذ سلامة موسى في مقاله هذا إلى هدم الأديان عامة والإسلام
خاصة، كما يدعو إلى ما ذكر من السياسة القومية، فقد زعم فيه أن أسخف ما
سمعه عن الفرق بين الشرق والغرب أن الأول روحي والثاني مادي (وإن مما
يزيده عجبًا واستغرابًا لهذا القول الاستدلال عليه بنشوء الأديان في الشرق (قال) :
مع أنهم لو تَبَصَّرُوا قليلاً في القرآن والإنجيل والتوراة لوجدوا أن جميع الأنبياء في
هذه الكتب الثلاثة كان همهم الأكبر هو الإصلاح الاقتصادي الذي هو هم أوربا الآن)
ونقول: هذا من الإفك والبهتان الذي يفنِّده فيه جميع أهل هذه الأديان.
ثم إنه انتقل إلى الدعوة إلى تقليد أوربة بطفرة سريعة على رأي صديقه
الأستاذ علي عبد الرازق رئيس تحرير مجلة الرابطة الشرقية ومدير سياستها
الحقيقي وقال:
(مثال ذلك أنه يجب علينا أن نساوي بين الرجل والمرأة، ولكن أساس هذه
المساواة هو الاقتصاد فلا معنى لأن تُعْطَى المرأة حق الانتخاب والتصويت والسفور
والتعليم ولا يكون لها في الميراث سوى نصف الرجل، بل يجب أن نفصل الدين
عن الدولة ونجعل المرأة مساوية في المواريث للرجل بلا أدنى فرق.
ثم يجب أن نجعل التعليم العام وسيلة لتخريج رجال متمدنين ومتمدينين فقط،
وربما كان اللباس الأوربي أي القبعة (يعني البرنيطة) والبنطلون مما يجلب
عطف الأمم الأوربية علينا ويجعلنا ننظر إلى أنفسنا نظرًا غربيًّا، فلو جعلناه إلزاميًّا
لجميع الأفراد لكان فيه فائدة كبرى في الإسراع في اتخاذ الحضارة الغربية) .
هذا آخر مقال هذا الداعية إلى هدم الأديان ولا سيما الإسلام وهدم الوطنيات
والاندغام في الأوربيين بسرعة سيف مصطفى كمال وقوانينه ومحاكمه الاستقلالية
التي تحكم على الممتنع من لبس البرنيطة تدينًا بالقتل فهنيئًا لجمعية الرابطة الشرقية
بهذه المجلة وكتابها.
وقد كان دعا إلى مثل ما دعا إليه في شأن المساواة بين المرأة والرجل في
الميراث وغيره في محاضرة أو خطبة استفرغها في نادي جمعية الشبان المسيحيين،
ثم كتب إلى هدى شعراوي هانم رئيسة جمعية النهضة النسوية بمصر يدعوها إلى
مطالبة الحكومة بتقرير هذه المساواة فردت عليه بأن ما تطلبه جمعيتها من الإصلاح
لا يدخل فيه الخروج عن دين الإسلام وترك أحكام الشريعة، بل هو في دائرة
حدودها، ورد عليه كثيرٌ من كُتَّاب المسلمين مبينين عدل الإسلام وفضله على
جميع الشرائع في الإرث وغيره، ولكن مجلة الرابطة تعيد له نشر هذه الدعاية.
وللدكتور منصور فهمي تعليق على هذا المقال بدأه بإجلال أخيه سلامة موسى
والإشارة بما له من المنزلة الرفيعة في نفسه ثم داعبه مداعبة في بعض عباراته.
***
دعاية الأستاذ أحمد
أمين إلى التفرنج
ويلي هذا مقالان قالت المجلة إنهما (يتصلان بالموضوع اتصالاً شديدًا)
أحدهما عنوانه (وحدة العالم) وهو للأستاذ أحمد أمين من أركان الدعاية اللادينية
جزم فيه بأن الشرق لا يمكن أن يكون له مدنية خاصة به، وأن العالم الشرقي كله
سائر إلى المدنية الغربية، ولا يستطيع أن يتجه إلى غير ذلك وأنه (يجب أن يكون
عمل المصلحين محصورًا في دفع هممهم إلى الأخذ بأوفر حظ من المدنية الغربية
وخير طريق لذلك تهيئة نفوس الأمة لهذا الاقتباس) إلخ.
***
رأي هيكل بك في
الحاجة إلى دين جديد
والمقال الثاني عنوانه (حضارة الشرق متى تُبْعَث من جديد لتضيء ظلام
المدنية الغربية) ، وهو للدكتور محمد حسين هيكل بك مدير مجلة السياسة مبتدعة
الثقافة اللادينية، ولسان حال حزب التجديد اللاديني، ولكن مقاله هذا فيه من سعة
العلم بحال أوربة والشرق ما ليس في شيء من تلك المقالات؛ إذ نظر إلى ما في
أوربة من فساد الأخلاق والآداب وخطر المدنية المادية، وعلم ما لم يعلم سائر
أولئك الكتاب أو خبر بما لم يخبر به أحد منهم من حاجة أوربة نفسها إلى إصلاح
روحي لا يمكن أن يكون إلا بهداية دينية، وإن الشرق هو الجدير بأن يكون مشرق
هذه الهداية التي لا يُرْجَى صلاح الغرب بدونها، فهو يقدح زند هذا الرجاء فيه؟
سبق للدكتور هيكل مقال في هذا الموضوع نشره في الهلال وتمنى فيه لو
يُبْعَث نبي جديد في مصر من أهلها يتحقق بما يأتي به من وحي الدين هذا الرجاء
في إصلاح الغرب والشرق، وفاته أن هذا النبي الذي قوي توجه العقول إلى
الحاجة إليه قد وجد وجاء بكل ما يُرْجَى في هذا الأمر، ولكن الذين يدعون اتباعه
قد شوهوا هدايته بما ابتدعوه فيها، وإنها لو ظهرت نقية من هذه البدع والخرافات
بدعاية حكيمة معقولة لأدت هذه الوظيفة المرجوة على أكمل وجه.
هذا النبي المطلوب لإصلاح فساد المدنية الغربية هو محمد رسول الله وخاتم
النبيين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، كما بيَّنا في مواضع من المنار في
السنين الماضية وبيَّنا أن أول من اهتدى إلى حاجة أوربة إلى هدايته في هذا العصر
هو حكيم الشرق السيد جمال الدين الأفغاني رحمه الله تعالى، وأنه كان كثيرًا ما
يقول: لا حجاب يحول بين أوربة وبين دين القرآن إلا نحن فإنهم ينظرون إلينا من
خلال القرآن هكذا ويرفع يديه مُفَرِّجًا بين أصابعهما فيجدون وراءه أقوامًا غلب
عليهم الجهل والكسل والتواكل والخرافات فيلقونه قائلين: لو كان كتاب إصلاح
لصلح به مُتَّبِعُوه، فإذا أردنا أن نقنعهم بحقية الإسلام وإصلاحه وجب أن نقنعهم قبل
ذلك بأننا لسنا مسلمين.
ويليه في ذلك الأستاذ الإمام وقد نقلنا عنه مرارًا أنه قال في درسه العام في
الأزهر: إنني اعتقدت منذ عشرين سنة عقيدة تزداد رسوخًا في نفسي سنة بعد
أخرى بقدر ما أزداد علمًا واختبارًا لحالة العالم المدني، وهو أن أوربة لا تجد لها
منقذًا من فوضى الأفكار المادية وفساد الأخلاق إلا بالإسلام الصحيح، وأنها ستنتهي
إلى الاهتداء به في يوم من الأيام وربما صار المسلمون المقلدون الجامدون يأخذون
الإسلام عن علمائها (أو قال ما هذا معناه، وربما أكون قد ذكرته من قبل بلفظه أو
بما هو أقرب من هذا إلى لفظه ولكن المعنى لم يتغير) وأقول: إن تجديد الثقافة
والحضارة السليمة من الرذائل يظهران على أكمل وجوههما بتجديد الإسلام،
ويكون هؤلاء المجددون له مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث
لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدِّد لها دينها) رواه أبو داود والحاكم
والبيهقي في (المعرفة) من حديث أبي هريرة ووضع له السيوطي في الجامع
الصغير علامة الصحيح، وحينئذ نرى هؤلاء الدعاة إلى التجديد الأعمى يؤمنون
بآية التجديد المبصرة ويكونون من السابقين إلى الإسلام الذي يجهلونه ويحتقرون
أهله.
***
مختارات مجلة الرابطة
الطاعنة في الإسلام
ومما اختارته المجلة أو مراقبها لهذا العدد الثاني من الاقتباس والترجمة في
مقال في (مسيلمة الكذاب) مخالفة في سَدَاها ولُحْمَتها لما عند المسلمين، يسمي
صاحبها مسيلمة نبيًّا كما يُسَمَّى محمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا، يعني أن كلا منهما
كان نبيًّا لقومه، ويسند إلى الأخبار الإسلامية التعبير عنه بمسيلمة الكذاب كأنه أو
لأنه مخالف لهم في هذا الوصف، فما كان أغنى قراء هذه المجلة عن هذه المباحث
في أوائل أعدادها! !
ومنها ما ترجمه الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق من محاضرات لطلاب
المدرسة الحرة في باريس في الإسلام من الطعن على هذا الدين القويم وهي خمس
محاضرات جمعها كتاب اسمه (الإسلام والسياسة الحاضرة) ولم يرد الأستاذ على
شيء مما فيها من الطعن في الإسلام والمسلمين ولا أشار إلى شيء مما فيها من
الخطأ، ولكنه قال فيما بيَّنه من غرضه بعد تلخيصها: (وليس من غرضنا أن
نناقش في رأي، ولا أن ندل على خطأ أو تناقض، وثَمَّ لمن أراد موضع للمناقشة
وبيان التهافت، إنما نريد أن ننقل إلى أهل الشرق تصور الغربيين لهم وحكمهم
عليهم) .
أقول: إننا في حاجة إلى العلم بما يقول فينا أهل الغرب من خير وشر وحق
وباطل لا من الطعن فقط، وفي حاجة إلى تمحيص أهل العلم والرأي لما يُكْتَب عنا،
والفصل بين الحق والباطل من أقوالهم، والأستاذ المترجم يعلم أن أكثر قراء
مجلة الرابطة الشرقية من المسلمين ليس لهم من المعارف الإسلامية ما يقدرون به
على المناقشة وبيان الخطأ والتناقض، وأن الطعن في دينهم مما يضرهم قراءته،
ويا ليت شِعْرِِي هل تقبل مجلة الرابطة الشرقية هذه المناقشات إذا كتبها إليها بعض
المسلمين أم تعتذر عنها بأنها مما تبرأت منه في بيان خطتها في العدد الأول.
هذا بعض ما أنكرنا في هذا العدد الواحد من مجلة الرابطة الشرقية ورآه
الناس واستنكروه مثلنا، وكان أشدهم استنكارًا له المسلمون ولا سيما رجال الدين
ورجال السياسة منهم، وقد كتب إليَّ عالم سوري عصري كبير في فلسطين يقول
ما خلاصته: إنه ظهر للعامي والخاصي أن مجلة الرابطة الشرقية مجلة إلحادية أو
لا دينية على مذهب زعنفة دعاة التجديد المعادين للإسلام، وإنه يجب عليك
الخروج من جمعيتها حفظًا لمقامك الديني إلا أن تكون ساعيًا لمنعها في الاستمرار
على هذا الطريق ذي العِوَج
…
وقال لي كاتب من أشهر الكتاب السياسيين: يظهر
أن مجلة الرابطة الشرقية مشايعة لجريدة السياسة ومجلة الهلال في نزعة التجديد
اللاديني
…
إلخ.
على أن جريدة السياسة اعتدلت في خطتها بعض الاعتدال وقد نشر فيها عدة
مقالات في استنكار خطة الكماليين في استبدال الحروف العربية، وتنكر على ملك
الأفغان اتباعه لخطواتهم على أنها تسميها إصلاحًا، وتخشى عليه من الفشل بعدم
مراعاة ما عليه قومه من عقائد وتقاليد قديمة، ثم إنها مع ذلك تنصر الأستاذ الأكبر
الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر فيما نهض به من أمر الإصلاح
الإسلامي نصرًا لم نر فيما قرأناه منه شائبة من دسيسة الدكتور طه حسين التي
نشرها في مجلة الرابطة الشرقية، ولا من شذوذ رئيس تحريرها الأستاذ علي عبد
الرازق الذي بسطه في مجلة الهلال.
إنني قد اضطررت إلى هذا التطويل في نقد مجلة جمعية كنت من أوائل
المؤسسين لها والواضعين لقانونها؛ لأنها تنكبت في مجلتها ذلك الطريق الذي سرنا
عليه فيها، وقد كنت أوجزت في النصيحة بما ذكرتها في التعليق على إعلان
المجلة ثم بما نصحت بلساني فلما لم ينفع النصح المختصر الخفي، اضطررت إلى
هذا الإنكار الصريح الجلي، وإلى نشره في المنار، فعسى أن لا أحتاج إلى مثله
بعدُ، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
الغيدار الذي يسيء الظن فيصيب.
(2)
غلط الدكتور في أول الآية فجعله (إنما مثل الحياة) وصوابه ما ذكرنا.
الكاتب: محمد رشيد رضا
المؤتمر الإسلامي العام بالقدس
عقد المؤتمر الإسلامي بالقدس الشريف في الشهر الماضي للنظر في مسألة
اعتداء اليهود على جدار حرم المسجد الأقصى المعروف بالبراق، وبعد قتل المسألة
من كل وجهة وضع قرارات بلغها للصحف ومنها المنار هذا نصها.
25-
5-47 و7-11-28
نقدم لحضرتكم صورة عن التقرير الذي قدَّمه المؤتمر الإسلامي العام لفخامة
المندوب السامي بفلسطين، وهو يتضمن القسم المختص بحكومة فلسطين من
مقررات ذلك المؤتمر المنعقد بالقدس من أجل مطامع اليهود في البراق الإسلامي
البحت وما يحيط به من الأوقاف.
ونضم إليه المقرَّرات التي لم تُرْفَع إلى الحكومة وهي:
(1)
تأليف جمعية إسلامية كبيرة تُدْعَى (جمعية حراسة المسجد الأقصى
والأماكن الإسلامية المقدسة) ومركزها العام القدس فلسطين، ولها فروع في جميع
أنحاء العالم الإسلامي وفي المهاجر التي فيها جاليات إسلامية، وغايتها حراسة
الأماكن الإسلامية المقدسة وحمايتها من أي عدوان يقع على أي جزء منها بالطرق
المشروعة والاهتمام بشأنها، وأن يوضع لهذه الجمعية قانون وأنظمة خاصة تضمن
لها الحياة والنمو.
(ب) توكيل الوفد السوري في جنيف باتخاذ التدابير اللازمة لصيانة حقوق
المسلمين في الأماكن المقدسة الإسلامية أمام عصبة الأمم والرأي العام الغربي.
(ج) نشر نداء إلى الوطنيين في أن يحرصوا على أراضيهم وعدم بيعها
لليهود، وأن يؤازروا الشركات المساهمة التي شكلها الوطنيون لشراء الأراضي.
(د) نشر بيان مفصل للرأي العام في العالم في الشرق والغرب في قدسية
البراق الشريف عند المسلمين وحقهم الثابت فيه وفيما يمكن أن ينجم من توالي
اعتداء اليهود عليه من الاضطراب الديني في البلاد المقدسة.
(هـ) تأليف لجنة تضم إلى لجنة الدفاع عن البراق الشريف لوضع قانون
جمعية الحراسة المذكورة ولتنفيذ مقررات المؤتمر.
هذا وقد تألف الوفد المذكور بالقرار السادس وقابل في اليوم الثاني لانعقاد
المؤتمر فخامة المندوب السامي وبلغه طلبات المؤتمر فوعد فخامته في أن ينظر في
هذه الطلبات وأن يهتم بها الاهتمام الكافي.
سكرتير الجمعية
ونرسل إليكم أيضًا صورة البرقية التي أرسلها المؤتمر لجمعية الأمم
***
فخامة المندوب السامي المعظم
دوائر الحكومة - القدس
إن المؤتمر الإسلامي العام المنعقد بالقدس بعد ظهر الخميس الواقع في 18
جمادى الأولى سنة 1347 الموافق 1 تشرين سنة 1928، الممثل لمسلمي فلسطين
بجميع طبقاتهم وهيئاتهم وجمعياتهم وأنديتهم الإسلامية، المشترك فيه اشتراكًا
رسميًّا الوفود الممثلة لمسلمي سوريا ولبنان الكبير وشرق الأردن وللقبائل والعشائر
العربية في فلسطين والشرق العربي، والمعزَّز بجمعيات الشبان المسلمين بمصر،
والمؤازر بالرأي العام الإسلامي في الداخل والخارج، والذي اجتمع للبحث
والمشورة واتخاذ الوسائل والتدابير الضرورية في صد الخطر اليهودي عن مكان
البراق النبوي الشريف، وصيانة حقوق المسلمين في أماكنهم الإسلامية المقدسة قد
قرَّر بالإجماع المقررات التي توجبها عليه وعلى المسلمين جميعًا خطورة تلك الحالة
العاجلة، وإن سكرتيرية هذا المؤتمر تتشرف عملاً بقراره أن ترفع لفخامتكم القسم
الذي يختص بالحكومة من هذه المقررات، ونرجو أن تتفضلوا برفعها إلى حكومة
لندن وعصبة الأمم، والمقرَّرات هي:
أولاً: يعلن المؤتمر بالإجماع أن مكان البراق الشريف الذي هو جزء من
المسجد الأقصى المبارك هو مكان إسلامي مقدس بنص القرآن الكريم، وأنه هو
وما حوله وما يحيط به من الأوقاف المتراصة من جميع جهاته على مسافة واسعة
مِلْك خاص بالمسلمين، وأن كل زعم لليهود فيه باطل لا يستند إلى أي حق، وأنه
ليس لهم هناك أكثر من المجيء إلى ذلك المكان والوقوف أمامه وقوفًا عاديًا، مثل
غيرهم مجردًا عن العبادة والصلاة ورفع الأصوات وإظهار المقالات كما هو ثابت
بالوثائق الرسمية التي بيد السلطات الإسلامية المتعاقبة، والمعروفة حق المعرفة
لدى الحكومة المحلية التي اعترفت بذلك اعترافًا صريحًا للسلطات الرسمية
الإسلامية، واعترافًا فعليًّا بتصديها بنفسها لمنع ما يحاول اليهود إحداثه في ذلك من
حق لهم بوضع أدوات متنوعة، وبرفعها ذلك مباشرة كما حدث في الحادث الأول
سنة 1925، وفي الحادث الأخير في شهر أيلول سنة 1928 وعليه فقد قرَّر
المؤتمر بالإجماع:
(أ) أن يحتج بكل قوة على أي عمل أو محاولة ترمي إلى إحداث أي حق
لليهود في مكان البراق الشريف المقدس، ويستنكر هذا كله أشد الاستنكار كما أنه
يحتج على كل تساهل أو تغاض أو تأجيل يمكن أن يبدو من الحكومة في هذا السبيل.
(ب) أن يطلب من الحكومة منع اليهود حالاً منعًا باتًّا مستمرًّا من وضع أية
أداة من أدوات الجلوس والإنارة والعبادة والقراءة وضعًا موقتًا أو دائمًا في ذلك
المكان في أية حالة من الأحوال وأي ظرف من الظروف، وأن تمنعهم أيضًا من
رفع الأصوات وإظهار المقالات بحيث يكون المنع في كل هذا متكفلاً لأن لا يضطر
المسلمون إلي أن يباشروا منعه ورفعه بأنفسهم مهما كلفهم الأمر؛ دفاعًا عن هذا
المكان الإسلامي المحض المقدس، وعن حقوقهم الثابتة لهم فيه مدة ثلاثة عشر قرنًا.
(ج) أن يلقى تبعة ما قد ينتج من إقدام المسلمين على الدفاع عن البراق
الشريف بأنفسهم على الحكومة إذا توانت هي في منع أي اعتداء يصدر من اليهود؛
لأنها متكلفة بحفظ الأمن، ومطالبة بالمحافظة على الأماكن الدينية الإسلامية من كل
اعتداء.
ثانيًا: يعلن المؤتمر بالإجماع أن محاولة اليهود إحداث الاعتداء على البراق
الشريف؛ ليتخذوا من ذلك سببًا في إيجاد مشكلة بينهم وبين المسلمين وليقحموا هذه
المشكلة في جملة الخلافات حول الأماكن المقدسة بفلسطين، هي محاولة باطلة
مستنكرة مجردة عن كل حق أو سبب إلا سبب الطمع في الاستيلاء على مقدسات
المسلمين، فالمؤتمر يقرِّر بالإجماع أن يحتج على هذا أشد الاحتجاج، ويطلب من
الحكومة باسم جميع المسلمين أن تحسم هذه المحاولة؛ لأن البراق الشريف - الجدار
الغربي للمسجد الأقصى المبارك - هو من الأماكن الإسلامية المقدسة المحضة
المكفولة الحصانة بالنص الصريح الواضح الذي جاء في الشق الأخير من المادة
الثالثة عشرة من صك الانتداب، ولا ينازع المسلمين فيه منازع شأن جميع الأماكن
الإسلامية المقدسة.
ثالثًا: قرَّر المؤتمر أن من واجبه الديني إزاء هذه الحالة الخطرة أن يعلن
للعالم قاطبة ما يلي: لما كان اليهود يوالون اعتداءهم على البراق الشريف، وكان
البراق الشريف قطعة لا تتجزأ من المسجد الأقصى، وكان المسجد الأقصى وهو
أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين مسجد العالم الإسلامي كافة، وكان مسلمو
فلسطين بالنيابة عن المسلمين سَدَنة هذا المسجد المبارك وحُرَّاس مكان البراق
المختص بإسراء نبيهم صلى الله عليه وسلم ولما كان توالي اعتداء اليهود هذا هو
بحقيقته الظاهرة والمقصودة تحديًا للمسلمين فيما هو من أعز مقدساتهم الواقعة في
أوسط بقاع العالم الإسلامي، وكان ذلك ينتج بطبيعة الحالة الاضطراب الديني
الشديد لا في فلسطين خاصة، ولا في الأقطار الإسلامية المجاورة فحسب، بل في
العالم الإسلامي كله لما كان ذلك، وكان مسلمو فلسطين مفروضًا عليهم بحكم كونهم
سدنة المسجد الأقصى أن يستصرخوا العالم الإسلامي لرفع هذا الجَوْر، وصد هذا
الخطر، فإن هذا المؤتمر يقرر إصدار نداء إلى العالم الإسلامي بذلك، وأن يبلغ
الحكومة المحلية وحكومة لندن، وعصبة الأمم، والدول الأجنبية بواسطة قناصلها،
وأن يعلن الرأي العام في الشرق والغرب أن اعتداء اليهود وتكرره على البراق
الشريف الجدار الغربي للمسجد الأقصى وعدم مبادرة الحكومة إلى قمعه بحزم،
يؤدي بطبيعة الحال إلى أحداث خطيرة في الأقطار الإسلامية يكون فيها المسلمون
مدافعين عن أعظم خطر نزل في القرون العثمانية الأخيرة بما هو من أعز مقدساتهم،
وهم يُشْهِدون دول الأرض وشعوبها على هذا الاعتداء الذي سيكون له تبعات
كبرى.
رابعًا: يقرِّر المؤتمر أن القانون الذي سنَّتْه حكومة فلسطين سنة 1924 باسم
قانون نزع الملكية قد تضمن في جملة مواده مواطن كثيرة دعت لتخوف المسلمين -
بالنسبة لظروف فلسطين الخاصة- على أوقافهم وأماكنهم الدينية، ولما كانت
المواطن الداعية للتخوف من هذا القانون يعلم المسلمون أنها من آثار المساعي
اليهودية توطئة للوصول إلى كثير من غاياتهم بالاستيلاء على أوقاف ومبان إسلامية
مكفولة الحصانة بموجب نص الشق الثاني من المادة الثالثة عشرة من صك الانتداب
ولما كانت الهيئات الإسلامية الرسمية قد احتجَّت للحكومة مرارًا باسم جميع
المسلمين على هذا القانون منذ صدوره، طالبة إزالة مواطن التخوف منه، التي
أخذت تتحقق بالفعل، ومن ذلك قيام اليهود الآن يطلبون استملاك مكان الوقف
الإسلامي المحض الذي فيه البراق الشريف، مستندين على هذا القانون: لما كان
ذلك، فالمؤتمر يطلب من الحكومة رفع مواطن التخوف من هذا القانون تأمينًا
للمسلمين على أماكنهم الدينية المقدسة وأوقافهم، ويرى أن لا سبيل إلى ذلك إلا
برفع ما جاء في ذلك القانون من أسباب هذا التخوف، أو بإعلان رسمي من
الحكومة أن هذا القانون لا يشمل الأماكن الدينية الإسلامية، وبأن أوقاف المسلمين
لا تنزع ملكيتها لأغراض طائفية أجنبية، ولا تنزع إلا بطريق الاستبدال الشرعي
بواسطة المحاكم الشرعية الإسلامية وفقًا للشرع الإسلامي الشريف.
خامسًا: لما كان النائب العام في حكومة فلسطين (المستر نورمان بنتويش)
زعيمًا صهيونيًّا قُحًّا بآرائه وأعماله ومؤلفاته، وكان مركز النائب العام في حكومة
فلسطين عاملاً أكبر في التشريع والتقنين، فإن المسلمين في فلسطين يرون في
وجود هذا الرجل في هذا المركز التشريعي النافذ مبعث الخطر على أعظم مصالحهم
وهم الأكثرية المطلقة في البلاد، وقد سبق لهم أن احتجوا على وجوده، يشغل في
حكومة فلسطين منذ الاحتلال وظيفة عالية، من شأنها أن تمهد كثيرًا للمقاصد
اليهودية والصهيونية، فالمؤتمر يطلب باسم المسلمين من الحكومة إقصاء المستر
بنتويش عن المركز التشريعي النافذ الذي يشغله في حكومة فلسطين، ويقرر
الاحتجاج على بقاء المذكور في مركزه هذا، ويرى من الظلم على المسلمين أن
يشغل هذا المركز زعيم صهيوني كالمستر بنتويش الساعي لتحقيق المطامع
الصهيونية، الماسة مساسًا ضارًّا بحقوق المسلمين الدينية في أماكنهم المقدسة.
سادسًا: يقرر المؤتمر أنه بالنظر إلى تفاقم الحالة واشتداد هياج المسلمين أن
يوفد إلى فخامة المندوب السامي وفدًا مستعجلاً يطلب منه باسم المؤتمر أن تصدر
الحكومة بأقرب وقت تصريحًا رسميًّا تعلن فيه صيانة البراق الشريف وسائر
الأماكن الإسلامية المقدسة من كل اعتداء يسعى اليهود لتحقيقه بأية وسيلة أو إحداث
أي شيء جديد فيه؛ إزالة لمخاوف المسلمين وتطمينًا لهم، ويبين الوفد للحكومة
خلاصة القسم المتعلق بها من مقررات المؤتمر ريثما تبلغ إليها هذه المقررات خطيًّا
بصفة رسمية بوقت قريب.
سابعًا: يقرر المؤتمر أن تبلغ رسميًّا حكومة فلسطين هذه المقررات المذكورة،
ويطلب منها أن تقدمها إلى حكومة لندن وإلى عصبة الأمم.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
سكرتير المؤتمر
…
24جمادى الأولى 1347 الموافق (7 تشرين الثاني 1928)
(المنار)
إن حكومة فلسطين قد بلَّغت وزارة المستعمرات في لندن هذا، وكل ما علمته
في مسألة الخلاف من الجانبين، وكان ذلك موضوع مناقشات في البرلمان
البريطاني وأخيرًا أصدرت حكومة لندن (كتابًا أبيض) في المسألة اعترفت بأن
الحق للمسلمين فيها، وكفى الله المؤمنين القتال في هذه المعركة، وعليهم أن
يستعدوا لغيرها، وربما كان ما بعده أشد هولاً مما قبلها.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
وفاة العلامة الجليل الشيخ سليم البخاري
جاء في جريدة (العهد الجديد) البيروتية الغرَّاء لمراسلها في دمشق بتاريخ
25 تشرين أول سنة 1928 ما نصه:
طويت صباح أمس صفحة ماجدة وضَّاءة من صفحات العلم والوطنية
والإخلاص بوفاة سماحة العلامة الجليل الشيخ سليم أفندي البخاري والد الشهيد
البطل المرحوم جلال الدين البخاري وصاحب المعالي الوطني الكريم نصوحي بك
البخاري وزير الزراعة والتجارة ووزير المعارف سابقًا، فكان لِمَنْعَاهُ رنَّةُ حزنٍ
أليمةٍ في البلاد السورية جمعاء التي بادرت للصلاة على روحه الطاهرة الكريمة
صلاة الغائب.
والشيخ سليم أفندي البخاري علامة جليل من كبار علماء المسلمين، له ولعه
الشديد بجمع آثار السلف الصالح واقتفاء أثر المخطوطات النادرة، والحرص عليها
حرص البخيل على درهمه، كما أنه كان مثال النزاهة والعفة وطهارة اليد والذيل
وصورة الأخلاق الفاضلة الكريمة، وهو أحد أركان النهضتين الوطنية والعلمية
والنافخ في بوق التجديد، والعالم الفذ على استئصال شأفة البدع والخرافات، وقطع
السبيل على المرتزقة من رجال المشيخة الأغرار، حتى إنه رحمه الله سن قانونًا
خاصًّا للتدريس في المساجد إبَّان وجوده في رئاسة العلماء حظر فيه القيام بالنصح
والإرشاد وإلقاء الدروس الدينية في المساجد على غير العلماء المعروفين المشهود
لهم برسوخ قدمهم في علوم الدين، ولكن هذا القانون قد درست معالمه وألقي في
سلة المهملات بعد أن غادر سماحته منصب رئاسة العلماء مستقيلاً إثر ما جرى من
تدخل في شئون الدين يوم أعلنت خلافة جلالة الحسين بن علي ملك الحجاز السابق
فآثر رحمه الله اعتزال المنصب على أن يُقِرَّ هذا التدخل ويحول بين المسلمين وبين
المبايعة كما أنه رحمه الله بايع وأمضى صك البيعة، وهذا دليل ناهض وحجة
دامغة على مقدار صلابة سماحته في مبدئه.
وفوق هذا كله فلقد كان رحمه الله لغويًّا كبيرًا وعالمًا جليلاً في الأدب والمنطق
والفلسفة الإسلامية، ومن أشد الناقمين على البدع والخرافات والداعي إلى اجتثاثها
من أصولها؛ لتتنزه تعاليم الإسلام عما يحسبه الأغرار من الدين وما هو منه في
شيء.
وكان مجلسه رحمه الله مجلس علم وأدب ويأبى أن يذكر في حضرته اللسان
بسوء، وهو من أصحاب المغفور له العلامة الكبير الشيخ طاهر الجزائري.
وما ذاع النبأ في المدينة حتى تهافت الكبراء والوجهاء والعلماء والشباب
والأساتذة إلى المنزل يواسون معالي نجله الكريم الأستاذ نصوحي بك البخاري
وأخوانه، وعندما عرض جثمان الكريم على المغتسل دخل إلى الغرفة التي تجري
فيها مراسم الاغتسال سماحة العلامة الجليل المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين أفندي
الحسني فودَّعه وداعًا حارًّا استهل الدموع المدرارة وأثار العبرات الحارة.
وبعد أن تمت مراسم الاغتسال سارت الجنازة تتقدمها جنود الدرك ورجال
الشرطة وجلاوزة البلدية فالعلماء يتقدمهم سماحة المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين
الحسني فجثمان الراحل الكريم فمعالي نجله نصوحي بك وإخوانه فالكبراء والعظماء
من رجال الوطنية والوجاهة والعلم ورئيس الوزراء الشيخ تاج الدين أفندي الحسني
ووزير المعارف الأستاذ محمد بك كرد علي ومعتمد الدولة العربية ورجال الصحافة
والمحاماة والأطباء والموظفون وطلاب الجامعة السورية والمعاهد العلمية الكبرى
وتلاميذ المدارس الأميرية والرسمية حتى بلغوا الجامع الأموي الكبير حيث صلى
على الجثمان الكريم سماحة الأستاذ الشيخ بدر الدين وقبل الصلاة عاد رئيس
الوزراء ووزير المعارف، ومن ثم سار موكب الجنازة بنظامه إلى مقبرة الدحداح
حيث ووري الجثمان الكريم، وقد كانت الجنازة منقطعة النظير تدل على ما للأستاذ
الفقيد من منزلة سامية في النفوس، وقد رافق الجنازة على عجزه وكبر سنه سماحة
المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين أفندي الحسني حتى المقبرة، رحمه الله رحمة
واسعة وألهم الأمة المفجوعة بفقده وذويه الصبر وجزاهم الأجر، وإننا نتقدم لمعالي
نجله الأستاذ نصوحي بك ولإخوانه الأكارم وذويه الأفاضل بواجبات التعزية، سقى
الله جسده الطاهر وثراه الطيب صيب الرضوان اهـ.
(المنار)
كان الأستاذ الكبير الشيخ سليم البخاري رحمه الله تعالى من أفراد علماء
سورية العاملين المستقلين، وعلمًا من أعلام رجالها المصلحين، الجامعين بين علوم
الدين النقية من البدع والخرافات وبين الإلمام بعلوم العصر الكونية والعقلية،
وحاجات المسلمين فيه من مدنية وسياسية، سلفي العقيدة مهذب الأخلاق غيورًا على
الدين، نصوحًا للمسلمين، واسطة العقد بين المدنيين والدينيين، عرفته في دمشق
عند زيارتي لها عقب إعلان الدستور العثماني سنة 1326 (1908) ثم تلاقينا في
الآستانة في السنة التالية ثم في دمشق سنة 1338 وكنا متفقين في الرأي في كل ما
بحثنا فيه، ومن أهمه موافقة الأستاذ الإمام رحمه الله في آرائه الإصلاحية،
والإعجاب بمواهبه العلمية، ولكن بلغنا عنه في العهد الأخير رأي شاذ وافق فيه
بعض خصوم الشريعة الغراء والسلطان الإسلامي، ولا ندري سبب ذلك ومنزلته من
الصحة، وإننا نقترح على المجمع العلمي بدمشق أن يترجمه في مجلته ترجمة حافلة
تليق به.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الحكومات اللادينية للشعوب الإسلامية الأعجمية
وعواقبها في الترك والفرس والأفغان
قوي حزب الملاحدة في الشعب التركي فسنحت له الفرص بما كان من أطوار
الانقلاب بعد حرب الأمم الكبرى فأسس حكومة لا دينية أعلنت الانسلاخ من دين
الإسلام وجهرت بمقاومته ومحاولة محوه من بلاد الشعب التركي، وسمعنا منذ
بضع سنين ونحن في أوربة أن الزعيم الأكبر لها يمهد السبيل لتنصير هذا الشعب
على المذهب البروتستانتي إذا كانت الحكومة الإنكليزية تبذل له ثمن ذلك معاملة
الحكومة التركية معاملة الدول الأوربية الكبرى، وحينئذ ينقض عهد الحكومة
الروسية الشيوعية وينفض عنه غمراتها، وكان لها ولأفراد من شعبها التأثير الأكبر
في هذا الاتحاد.
ولما شعر هذا الزعيم ورجاله أنهم خسروا بترك الإسلام زعامة الحكومة
التركية للشعوب الإسلامية كلها، وأن دولتهم صارت دون ولاية واحدة من الولايات
التي كانت تحت سيادة الدولة العثمانية (التي يحتقرونها اليوم) عددًا وعلمًا وثروة
وهي ولاية مصر، أنشئوا يبثون في جميع الشعوب الإسلامية دعوة الإلحاد؛
ليكونوا سادة لها في عهد الكفر كما كانوا سادة في عهد الإسلام، فراجت دعايتهم في
ملاحدة الأفغان وإيران، وخابت وفشلت وخسرت في جميع البلاد العربية، حتى
مصر التي كثر فيها الملاحدة وانتشرت دعاية الإلحاد، ولا يستبعد العالم بغرور
الترك أن يكون الكماليون طامعين في السيادة العسكرية على الأفغان وفارس بعد
انسلاخهما من الدين الإسلامي بدعايتهم والاستعانة عليهم بملوكهم وبعض كبرائهم.
وقد كان غرور الملك أمان الله خان بدعاية الكماليين غريبًا فلم يؤثر فيه
إنذارنا له سوء عاقبة تقليدهم منذ سنة فثار عليه شعبه ثورة لا يعرف قيمة خطرها
إلا من عرف شدة شكيمة هذا الشعب العزيز النفس الشديد البأس وقوة العصبية
الإسلامية فيه، فالآن قد علم أمان الله خان وزوجه ثريا ووالدها وزيره الأكبر
محمود الطرزي خان أننا كنا أعلم منهم بأنفسهم وبحال شعبهم إذ أنذرناهم أن هذه
الخطة ستكون خطرًا على حكومتهم، وعلى بيت المالك أيضًا كما تقدم بيانه في
الجزء الماضي.
وقد نجمت قرون الثورة في الإقليم العربي من مملكة إيران ثم في بعض
الأقاليم العجمية، ولكنها دون الثورة الأفغانية في قوة سَوْرَتها واستعدادها لما بين
الشعبين من الفوارق على أنها لا تزال في سن الطفولية، وأما الترك فلا يزالون
يأتمرون سرًّا باغتيال رئيسهم وتواترت البرقيات في هذا الشهر بنبأ جديد منها
والآجال مقدَّرة عند الله تعالى، ومن أعجب العجائب وأغرب الغرائب أن يرضى
ملك الأفغان وشاه إيران بتقليد مصطفى كمال باشا في إكراه شعوبهما على لبس
البرنيطة واستبدال الزي الإفرنجي بالزي الوطني القومي المعدود عند الجميع من
مشخصات الشعوب الإسلامية وفي تفرنج النساء وتبرجهن على ما فيه من المفاسد
الدينية والاجتماعية والاقتصادية.
وأعجب من هذا وأغرب أن بعض كُتَّاب الصحف التي تسمى إسلامية تعبر
عن هذه المفاسد بكلمة (الإصلاحات) تبعًا لبعض كتاب الإفرنج وتلاميذهم من
النصارى والزنادقة، وأعجب من هذا وذاك وأغرب أن بعض المسلمين الأغرار قد
أظهروا تمنيهم لنجاح الشاهين بمثل ما يزعمون من نجاح مصطفى كمال باشا،
والحق أن هذا حكم مُبْتَسَرٌ، وما هي إلا كما قلنا تجربة هي أقرب إلى الخطر منها
إلى الظفر.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
المطبوعات الجديدة
(حوليات مصر السياسية)
تقول العرب: الدهر بالناس دواري أي يدور بهم من حال إلى حال،
وينتقلون فيه من طَوْر إلى طَوْر، وقد كان لمصر من هذا الانتقال في قرن واحد ما
لم يكن مثله لقطر آخر، فقد انتقلت في عهد محمد علي الكبير من حكم استبدادي
مُخْتَل مُعْتَل إلى حكم استبدادي عمراني منظم، مداره على قطب الثروة والقوة، ثم
انتقلت في عهد حفيده إسماعيل باشا إلى طَوْر التفرنج والتمتع بالثروة والزينة
بالإسراف الذي أعقب الفقر والإفلاس فالاحتلال الإنكليزي، ثم انتقلت بالاحتلال
إلى حكم أجنبي اقتصادي يراد به سلب استقلال البلاد، وإفساد جميع مقومات
الشعب، ثم انتقلت أخيرًا إلى استقلال مقيد بقيود تحول دون حرية الأمة وحكومتها.
وقد كان لكل طور من هذه الأطوار تأثير خاص في أخلاق الشعب وعقائده
وعاداته يجب على العلماء من المؤرخين وغيرهم تدوين أحداثه وبيان تأثيرها فيه،
فإن ما تنشره الجرائد من ذلك غير كافٍ لتعريف الشعب بماضيه وحاضره، وما
لهما من التأثير في مستقبله، وإن كانت تقرع منه كل باب، وتخوض كل عباب،
فإن أصحابها مختلفو الآراء والأهواء بالتبع لاختلاف الأديان والأحزاب والمَنَازِع
والمنافع، وقد عني مؤرخو مصر السابقون بما لم يعن بمثله غيرهم من الذين كتبوا
تواريخ سائر الأقطار الغربية والشرقية في القرون الماضية، ولكن مؤرخي هذا
العصر قد قصروا في أداء ما يقدرون عليه من ذلك، وهم أقدر من مؤرخي العصور
الخالية على التأليف فيه حتى كان تقصيرهم مثار العجب.
بيد أنه ظهر في السنين الأخيرة تواريخ مختصرة لبعض شئون مصر (منها)
تاريخ السودان وهو جزء صغير لداود بك بركات رئيس تحرير الأهرام، ومنها
تاريخ خاص بإسماعيل باشا فيه محاباة ظاهرة لأنه كتب لنيل جائزة من جلالة الملك
(ومنها) تاريخ فتح مصر الحديث أو نابليون بونابرت في مصر لأحمد حافظ بك
عوض صاحب جريدة كوكب الشرق، وسنفرد له تقريظًا خاصًّا ما أخرناه إلا لأجل
العناية به ريثما نتمكن من تصفحه أو مطالعته، ثم ظهر في هاتين السنتين
الأخيرتين خمسة أسفار كبار من تاريخ مصر السياسي باسم (حوليات مصر
السياسية) من تصنيف صديقنا العالم الفاضل المؤرخ النزيه أحمد شفيق باشا
المتخرج في مدرسة العلوم السياسية بباريس الذي كان آخر ما تولاه من أعمال
الحكومة رياسة الديوان الخديوي فإدارة الأوقاف العامة قبل أن تسمى وزارة، فوفى
بهذا الكتاب مبلغًا كبيرًا من دين مصر على علمائها القادرين على تدوين تاريخها من
وجوهه السياسية والاجتماعية والعلمية والأدبية وغيرها، والحوليات جمع حولي
نسبة إلى الحول بمعنى العام والمراد بها حوادث السنين.
وقد طبع الجزء الأول منه (وهو تمهيد للمقصد منها) بمطبعة مؤلفه بمصر
سنة 1345هـ (1926) فبلغت صفحاته 872 من حجم المنار، ولكن الصفحة
منها 19 سطرًا، ويليه ملحق في قرار الجمعية التشريعية ببطلان الحماية
البريطانية واستقلال مصر والسودان، وهو يحتوي تاريخ مصر السياسي من أول
عهد محمد علي باشا إلى انقلاب عام 1914 الذي حدثت فيه حرب المدنية العامة،
وأعلنت إنكلترة فيه حمايتها على مصر.
ثم طبع الجزء الثاني منه (وهو من التمهيد أيضًا) في سنة 1346، 1927 م
فبلغت صفحاته 799 ويليه ملحق في تقرير لجنة ملنر البريطانية المنتدبة لمصر
وصفحاته 128 ويحتوي هذا الجزء على حوادث مصر منذ تولى العمل لها الوفد
المصري إلى عهد نجاح ثروت باشا مع اللورد ألنبي في إلغاء الحماية على مصر،
وإعلان استقلالها المقيد فيما يسمى تصريح 27 فبراير سنة 1922.
ثم طبع الجزء الثالث المتمم للتمهيد في سنة 1346، 1928 وصفحاته 735
وهو يدخل في بابين: (الأول) في إعلان تصريح 28 فبراير وما يتعلق به من
الأحداث والأخبار والآراء في إنكلترة ومصر والشُّرُوع في تنفيذه، وفيه فصل
خاص موضوعه (ثروت باشا والرأي العام) والباب الثاني في حوادث (تحضير
الدستور) لمصر، وموضوعه (اللورد ألنبي السودان - والجرائم السياسية
واحتجاج الحكومة الإنكليزية عليها - مشكلة تعويض الموظفين الأجانب المُقَالِينَ من
الخدمة - القبض على أعضاء الوفد ومحاكمتهم - مصر ومؤتمر لوزان) .
ويلي هذه الأجزاء الثلاثة التمهيدية للحوليات المقصد من الحوليات مرتبة على
السنين، وقد طبع منها حولية سنة 1924 في جزء بلغت صفحاته الأصلية 604
صفحات، وهي تدخل في ثلاثة أبواب في كل منها بضعة فصول ثم حولية سنة
1925 في جزء بلغت صفحاته الأصلية 1104 وفيه 12 بابًا في كل منها عدة
فصول، وهو آخر ما تم طبعه في هذا العام، وستليه حولية سنة 1926 وما بعدها،
ونسأل الله أن يطيل عمر صديقنا المؤلف له أعوامًا وأحوالاً كثيرة يدون لها أهم
تاريخها.
وجملة القول في هذا التاريخ الحافل الري أنه دائرة معارف لتاريخ مصر
الحديث يغني مقتنيه عن مجموعات الجرائد المصرية اليومية في هذه السنين؛ لأنه
جامع لزبدة ما نشر فيها مُبَوَّبَة مُرَتَّبَة، ونقترح عليه أن يضع لكل جزء منه فهارس
للمسائل والأحداث وللأعلام مرتبة على حروف المعجم لأجل تسهيل المراجعة فيه.
وثمن الجزء الأول من هذا الكتاب خمسون قرشًا مصريًّا وثمن كل جزء من
الأربعة الأخرى ثلاثون قرشًا، ثمن الأسفار الخمسة غير مجلدة 170 قرشًا، وهو
غني بنفسه عن الترغيب فيه ويطلب من مؤلفه ومن مكتبة المنار بمصر.
***
(دفع شبهة التشبيه والرد على المجسمة)
عُني بطبع هذا الكتاب ونشره الشاب الفاضل الناشئ في رياض العلم والكتب
الدينية المفيدة حسام أفندي القدسي وبيَّن سبب ذلك في مقدمته للطبع قال فيها:
(أما بعد فهذا كتاب لابن الجوزي حجبه عنا هذه البرهة - بل عن كثير من
أهل الأخصاء في معرفة المؤلفات العربية - فئة من أشياع الذين رد عليهم المصنف
عملت على محو اسمه ورسمه، قد حملني على طبعه انتشار كتب المشبهة
مخطوطها ومطبوعها في الناس، واشتغال بعض المؤلفين بالدعوة إلى التشبيه حتى
اليوم، والحرص على نشر تصانيف ابن الجوزي النافعة، وكتب الردود المانعة
اهـ بنصه
ونقول: إننا على وقوفنا على الحركة الدينية ونشر الكتب فيها لم نفهم مراد
ناشر الكتاب من قوله هذا، فمَنْ هؤلاء الذين حجبوا عنه هذا الكتاب هذه البرهة؟
وما مراده بها؟ ومتى كان هذا الكتاب مشهورًا قبلها ولم نر له اسمًا في كشف
الظنون ولا في سرد مؤلفات ابن الجوزي المشهورة في ترجمة الحافظ الذهبي في
تذكرة الحفاظ وغيره من مترجميه؟
ثم لا ندري من يعني الناشر بقوله (واشتغال بعض المؤلفين بالدعوة إلى
التشبيه) إلخ، ولكننا علمنا مما نشره من الكتب ولم نر فيها من كتب ابن الجوزي
(النافعة ولا المانعة) شيئًا من التفاسير ولا الحديث ولا الفقه، بل هو يتلقف من
أستاذ له تعليقات على هذه الكتب غرضه منها الرد على أهل الحديث ومذهبهم في
الاتباع واقتفاء أثر السلف فيه وتفضيل مذاهب المتكلمين أو مبتدعة المتأولين وأهل
الرأي عليها.
ومن الغريب أن موضوع هذا الكتاب الرد على علماء مذهب مؤلفه (الحنابلة)
ممن يسميهم المجسمة كمتعصبي المتكلمين من الجهمية المعتزلة والشيعة والأشعرية
وغيرهم، ونحن لا ننكر أنه كان في الحنابلة وغيرهم غلاة في الأخذ بظواهر
النصوص والتعبير عنها باصطلاحات لم تَرِدْ في الكتاب ولا في السنة كما هو شأن
الغلاة من أهل كل مَهَبٍّ، ولكن جمهور علماء الحنابلة أشد علماء الإسلام محافظة على
النصوص واتباع هدي السلف الصالح.
وقد جاء بعد ابن الجوزي منهم من قام خير قيام بترجيح مذهبهم على مذاهب
المتكلمين والقياسيين بالحجج النقلية والعقلية جميعًا كالشيخ تقي الدين ابن تيمية
وتلميذه ابن القيم، ولذلك يُعْنَى أستاذ الناشر ومعلق حواشي مطبوعاته الشيخ محمد
زاهد الكوثري الحنفي بالنيل منهما والطعن عليهما، وقد بلغت صفحات هذا الكتاب
84 صفحة من قطع متوسط يقرب من حجم المنار مع فهارسه وثمن النسخة من
الورق الجدي منه أربعة قروش ومن الورق العادي ثلاثة قروش مصرية.
***
(شروط الأئمة الخمسة)
تأليف الحافظ الحازمي طبع مطبعة الترقي بدمشق سنة 1346
موضوع هذه الرسالة شروط الشيخين البخاري ومسلم في صحيحهما
وأصحاب السنن الثلاثة: أبي داود والترمذي والنسائي في سننهم، نشرها القدسي
الفاضل مع تعليقاته في حواشيها للأستاذ الشيخ محمد زاهد الكوثري أكثرها مفيد
على ما فيها من الغمز الأدبي في جماعة المحدثين وتعظيم شأن جماعة الحنفية في
الحديث بما لم يعرف عن أحد من متعصبيهم من قبل فيما نعلم.
وقد بلغت صفحات هذه الرسالة زهاء ستين صفحة من قطع دفع شبهة التشبيه،
وثمن النسخة منها ثلاثة قروش.
***
(جريدة الشورى)
في السنة الماضية هنَّأَْنَا جريدة الشورى بدخولها في السنة الرابعة مُوَفَّقَة في
خدمتها القومية الوطنية، ولما أتمت هذه السنة ودخلت في السنة الخامسة أقام لها
جماعة من حملة الأقلام ومحرري الصحف السياسية والمجلات العلمية حفلة أدبية
في الفندق الأهلي (ناشونال) دعوا إليه جمهورًا من العلماء والكتاب ومحرري
الجرائد فاجتمعوا على مائدة الشاي والحلوى يتبارون في الخطب المؤثرة وينشدون
القصائد البليغة في إطراء جريدة الشورى في خدمتها الصادقة، وما كان لها من
التأثير العظيم في أنفس دول الاستعمار القاهرة لأمتهم أمة صاحب الشورى العربية
ولوطنه الفلسطيني السوري حتى إن كلا من دولتي إنكلترة وفرنسة قد منعت دخول
الشورى إلى كل بلد لهم عليه سلطان، وهذا مما يهنأ به زميلنا الفاضل المخلص
محمد علي أفندي الطاهر بما يُحْمَد به ويعلي من قدره ويعد أبلغ تقريظ لصحيفته.
كما نهنئه باحتفال إخوانه من الكتاب ببلوغ جريدته السنة الخامسة وهو ما لم
يسبق مثله لغيره فيما نعلم، وكما نهنئه باشتراك الأقطار العربية في هذا الاحتفال
النادر بجريدته، وجاءت البرقيات والرسائل من أشهر الكتاب وكبار رجالات
العرب له وللجنة مهنئين حامدين مثنين، وفي مقدمتهم نصيرها أمير الكُتَّاب
والأدباء والسياسيين مُدْرِه العرب الأمير شكيب أرسلان.
ولكن علمنا أن أكثر قراء جريدته حتى في وطنه لم يقوموا له بحقها المالي
عليهم، وهو أداء الاشتراك السنوي، وكان أقل ما يجب عليهم أن يؤدوا هذا الحق
تامًّا في أول كل سنة، وأن يزيد أغنياؤهم عليه استمرار الأداء بعد منع الجريدة من
دخول البلاد، وأن يشتركوا بنسخ كثيرة منها يجعلونها هدايا لمن يثقل عليهم
الاشتراك في الصحف من فقراء طلاب العلم وغيرهم، بل أقول: إنه كان يجب
عليهم وجوبًا قوميًّا وطنيًّا سياسيًّا أن يتبرعوا له بنفقة المجلة أو بشراء مطبعة لها،
فإن أكثرهم يعلمون أنه كان يرتزق من التجارة، وقد تركها لهذه الخدمة الوطنية
التي لا تسمن ولا تغني من جوع لمن وقف مثل موقفه السياسي وترفَّع عن الطعن أو
التملق للأغنياء المجرمين الذين لا يبذلون المال إلا لفداء أعراضهم أو قضاء
أغراضهم، فعسى أن يتذكر هذا أهل النجدة والمروءة منهم {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَاّ مَن
يُنِيبُ} (غافر: 13) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
الإيمان بملك الموت دون اسم عزرائيل
س51 من صاحب الإمضاء الإمام المرشد في جزيرة (سمبس برنيو - جاوه)
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة مولاي الأستاذ المصلح العظيم محمد رشيد رضا صاحب المنار،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فقد قرأت في الجزء الأول من مجلد المنار التاسع والعشرين الأسئلة
من أحاديث الصحيحين وأجوبة المنار عنها، منها السؤال عن حديث الذباب الذي
تكلم عليه الدكتور محمد توفيق صدقي كما نقله السائل وجواب المنار عنه، وبسببه
زعم أنه كافر - إذا كان مثل هذا الحديث كفر به من لم يأخذ به كالدكتور صدقي،
فماذا يقول الأستاذ الأكبر في قوله: ونحن إذا سمعنا قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ
المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} (السجدة: 11) لا يتعين عندنا أن نفهم منها ما يفهمون،
فعزرائيل لم يرد ذكر اسمه في القرآن ولا في سنة صحيحة، وإنما هو اسم مشهور
عند اليهود كانوا يسمون به بعض الناس، وله عندهم عدة صيغ أخرى ولذلك لا
نؤمن بوجوده اهـ نقلا من المنار من المجلد 18.
وإني أرى أن عدم إيمان الدكتور بوجود عزرائيل أشد تأثيرًا في سوء الظن
باعتقاده وإيمانه خصوصًا عند الناس الذين يقل عندهم علوم الدين من عدم أخذه
بحديث الذباب وعدم العمل به، وفي كتاب كلمة التوحيد للأستاذ العلامة الشيخ
حسين والي ما نصه: والذي يجب معرفته تفصيلا جبريل وميكائيل وإسرافيل
وعزرائيل ورضوان ومالك ورقيب وعتيد فيكفر منكر أحدهم دون غيره، هكذا
قالوا اهـ.
وعليه فمن تمسك بهذا القول فلا يخاف أن يكفِّر محمد توفيق صدقي رحمه الله
تعالى لإنكاره وجود عزرائيل الذي اعتقده المسلمون، وإن كان في المسألة خلاف
يفهم من صيغة التبري التي أتى بها الأستاذ، أما أنا فإني أعتقد أن الدكتور محمد
توفيق صدقي رحمه الله تعالى من أخلص المسلمين إسلامًا، ومن أقوى المؤمنين
إيمانًا؛ لما رأيته من مقالاته الدينية (الإسلامية) التي نشرها في المنار وبعض
دروسه الصحية التي ألقاها رحمه الله تعالى في مدرسة دار الدعوة والإرشاد بمصر
وكنت يومئذ من تلامذتها، هذا والمرجو من فضل مولاي الأستاذ أن يبين لنا
وللناس أجمعين هذه المسألة بيانًا شافيًا كعادته الحسنة ودأبه الجميل، وأسأله تعالى
أن يثيبه الثواب الجزيل.
…
...
…
...
…
...
…
... محمد بسيوني عمران
(ج) الإيمان بالملائكة هو الركن الثاني من أركان الإيمان فيجب الإيمان
بهم إجمالاً، وبمن وردت النصوص بأسمائهم أو صفاتهم تفصيلاً، ومنهم ملك
الموت إذا كانت النصوص قطعية الرواية والدلالة، وأما تسمية ملك الموت
بعزرائيل وما أوهمه كلام بعضهم من وجوب الإيمان بهذا الاسم له فغير صحيح فإن
اسم عزرائيل لم يرد في القرآن كاسم جبريل وميكال وهو ميكائيل ومالك، ولا في
الأحاديث الصحيحة المرفوعة كاسم إسرافيل، وأنا الذي أخبرت الدكتور صدقي
بهذا إذ سألني عنه، وقد أشار إلى هذا صديقنا الأستاذ الشيخ حسين والي بقوله:
هكذا قالوا كما فهم السائل، ولا أذكر أنني رأيت اسم عزرائيل في شيء من دواوين
السنة ولا في تفسير غريبها إلا في أثر رواه ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ في كتاب
العظمة لا يُحْتَجُّ به ولا يثبت بمثله فرع في أحكام الطهارة والنجاسة، فهل تثبت به
عقيدة يكفر منكرها؟ وذكر الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم
مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} (السجدة: 11) أنه جاء في بعض الآثار أن اسم ملك
الموت عزرائيل، فهل يعني هذا الأثر أو غيره؟ الله أعلم، والدكتور صدقي إنما
أنكر اسم عزرائيل ولم ينكر ملك الموت، ولكن كان له رأي شاذ في فهم بعض
أصناف الملائكة قد أنكرناه عليه عند ذكره في المقالة التي أشار إليها السائل،
وأرجو أن يكون قد رجع عنه كما رجع عن كثير من آرائه التي أنكرتها عليه
بالحجة والبرهان، ومن كفَّره بإنكاره صحة حديث الذباب للإشكال في معناه فهو
جاهل بأصول الإيمان، ويا ليت له مثل علمه وعمله بالإسلام، وهو لم ينفرد بهذا
فقد رد كثير من العلماء بعض ما صح سنده لما دون هذا الإشكال في متنه.
وجملة القول أنه لا يجب على مسلم أن يؤمن بأن ملك الموت يسمى عزرائيل
ولا إثم على مؤمن ينكر هذا الاسم بل الأصل في مثله أن يتوقف فيه إلى أن يثبت
بنقل صحيح عن المعصوم وهذا ما لم نقف عليه، ولا أن يؤمن بأن لله ملكين اسم
أحدهما رقيب واسم الآخر عتيد، وإنما ورد هذان اللفظان في سورة ق صفتين لا
اسمين، والخوف على دين من يوجب على الناس الإيمان بما لم يوجبه الله عليهم
بنص قطعي أقوى من الخوف على دين من أنكر ذلك؛ لأنه الموجب بدون علم قد
نصب نفسه منصب التشريع وافترى على الله، فكيف إذا كفر من ينكر ما لم يثبت
بدليل ظني؟ فما كل ما وجب الإيمان به يكفر منكره بل منه ما يعذر جاهله
والمتأول له.
***
أهم ما يجب على مسلمي الأعاجم من اللغة العربية
س (52 و53) ومنه أيضًا:
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة مولاي الأستاذ المصلح العظيم السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة
المنار الغراء أدام الله النفع بعلومه آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فالمرجو من فضلكم الجواب عن الأسئلة الآتية: قال الإمام أبو عبد الله محمد
بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى في رسالته في أصول الفقه ما نصه: فعلى كل
مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده حتى يشهد به أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله ويتلو به كتاب الله تعالى ويتعلق بالذكر فيما
افترض عليه من التكبير وأُمِرَ به من التسبيح والتشهد وغير ذلك، وما ازداد من
العلم باللسان الذي جعله الله لسان من ختم به نبوته، وأنزل به آخر كتبه كان خيرًا
له، كما عليه أن يتعلم الصلاة والذكر فيها ويأتي البيت وما أمر بإتيانه ويتوجه لما
وُجِّهَ له ويكون تبعًا فيما افترض عليه وندب إليه لا متبوعًا اهـ ص9.
1-
فعلى قوله رحمه الله تعالى ما تقولون في الأعاجم الذين لا يعرفون شيئًا
من لسان العرب الذي هو لسان دينهم، والذي نزل به كتاب الله على نبيه محمد
صلى الله عليه وسلم حتى معنى كلمتي الشهادة لم يعرفوه، ولا تجد في كل بلد من
بلاد جاوة من يعرف اللغة العربية إلا قليلاً جدًّا، وإني لا أظن أنه يوجد في الألف
أو الألوف واحد يعرفها ولو معرفة قليلة، وإنهم يقرءون القرآن وغيره من الذكر
والدعاء بغير فهم، فهل أثموا بترك تعلمها أم لا؟
2-
إذا كان في ترجمة القرآن مفاسد ومضار تقتضي عدم جواز ترجمته كله
كما قررتم في المنار والتفسير، فهل يجوز ترجمة بعضه بمثل اللغة الملاوية أم لا؟
فإني رأيت بعض الآيات يمكن ترجمته بالملاوية وتؤدي معناه الأصلي، وأكثرها
يتعسر ترجمته بل تتعذر إلا بتكلف، فإن لغتنا لا تؤدي معنى القرآن حرفًا بحرف
كلمة بكلمة إلا في النَّزْر اليسير منه، ومع ذلك يستحيل أن تكون الترجمة مؤثرة في
القلوب تأثير الأصل، فإن أسلوب اللغة العربية ليس كأسلوب سائر اللغات فكيف
أسلوب القرآن العربي المبين الذي هو أعلى الكلام فصاحة وبلاغة، المنزل على
أفصح العرب والعجم محمد صلى الله عليه وسلم، وإن لم تجز ترجمة شيء منه
فكيف السبيل إلى إفهام الناس الذين لا يعرفون اللغة العربية كلام الله تعالى كالفاتحة،
أو إقامة الحجة بآية أو آيات من القرآن على من لم يعرف اللغة العربية على
مسألة من المسائل الدينية أو غيرها؟ وهل يبين لهم تفسيره فقط أو يترجم هو
وتفسيره؟ هذا وتفضلوا بالجواب ولكم جزيل الشكر والثواب.
…
...
…
...
…
...
…
... محمد بسيوني عمران
(ج) قد بيَّنا كل ما يتعلق بهذه المسألة في فتاوى المنار ثم فصَّلناه تفصيلاً
في التحقيق الذي نشرناه في الجزء التاسع من التفسير بما يغني عن إعادته هنا،
ولكننا نوجز فيما يتعلق بهذا الاستفتاء فنقول:
إن مسلمي الأعاجم يأثمون إلا لم يتعلموا من اللغة العربية ما لا بد منه لإقامة
دينهم ومن أهمه الفاتحة وأذكار الصلاة، والترجمة الحرفية لا تفي بفهم ذلك ولا
يتحقق بها ما فرضه الله تعالى من تدبر القرآن، بل لا بد من تفسير ذلك تفسيرًا
يعرف به المراد منه كتفسير ملخص معاني الفاتحة الذي بيَّناه في تفسيرها من جزء
التفسير الأول مبينين به ما يطلب من المصلي تدبره عند قراءتها (ص 103ج1)
وكذلك يفسر لمتعلم دينه منهم أذكار الصلاة كالتكبير والتسبيح والتشهد والصلاة
والدعاء بعده وبعض السور القصيرة التي تقرأ بعد الفاتحة والأدعية المأثورة بعد
الصلاة وهي مستحبة لا واجبة، ومن أراد الحج تُفَسَّر له ألفاظ التلبية بعد حفظها،
وغير ذلك كما نص عليه الإمام الشافعي رضي الله عنه.
وإننا نرى الذين يقتصرون في التفسير على المعاني الحرفية أو الاصطلاحية
من الأذكار والآيات من العارفين بالعربية ومن العلماء المؤلفين أيضًا يخطئون في
بيان ذلك حتى كثر الخطأ في تفسير كلمة التوحيد التي هي أساس الإسلام وعنوانه
ومدخله وفي معنى لفظ التوحيد الشرعي أيضًا، فهذا الشيخ محسن العاملي الشيعي
يفسر التوحيد الذي هو الأصل الأول من أصول الإسلام بقوله: هو الاعتراف
بوجود الخالق وأنه واحد لا شريك له (كما ترى في كتابه الدر الثمين فيما يجب
معرفته على المسلمين) ، وهو تفسير قاصر ناقص لا ينفي جميع أنواع الشرك ولا
سيما عبادة غير الله تعالى بالدعاء لجلب النفع ودفع الضر من غير طريق الأسباب
العامة، وهو الشرك الأعظم الذي كان فاشيًا في أقوام الرسل من نوح إلى محمد
صلوات الله وسلامه عليهم فقد كان أولئك المشركون أو أكثرهم يعترفون بوجود
الخالق سبحانه وبأنه واحد لا شريك له في الخلق والتقدير، ولكنهم كانوا يتقربون
إليه بدعاء غيره من الملائكة والصالحين، وبما يذكر بالموتى منهم من تماثيلهم
وقبورهم، وبغير ذلك مما هو منصوص في القرآن العظيم والآثار والتاريخ، وهذا
الرافضي وأمثاله يبيحون عبادة أئمة أهل البيت وغيرهم بالدعاء والتضرع وغيره
كما صرَّح به في كتابه كشف الارتياب، ولكنه لا يسمي ذلك عبادة، وقد فصَّلنا هذا
من قبل مرارًا فلا نعيده، ولا عجب في جهل مثل هذا الرافضي وأخطائه وهو مقلد
لقومه حتى في عقيدته فالإمام الرازي قد أخطأ؛ إذ ظن أن معنى الرب الخالق
والإله المعبود واحد كما بيَّناه في التفسير (ص111ج9) فلا بد من تفسير
الشهادتين وغيرهما للأعاجم بما يبين المعنى أتم التبيين.
***
احتفال المولد بدعة وحكم حضوره والامتناع منه
س54 من صاحب الإمضاء في (بتاوي - جاوه) .
إلى حضرة صاحب الفضيلة العلامة الإمام ومرجع العلماء الأعلام السيد محمد
رشيد رضا حفظه الله آمين.
سلامًا واحترامًا، وبعد أرفع لفضيلتكم ما يأتي راجيًا التكرم بالإجابة عليه
على صفحات المنار المنير، ولكم الفضل علينا والثواب من الله، وهو:
هل يجوز للإنسان حضور حفل مولد النبي صلى الله عليه وسلم؟ وإذا لم
يحضر هل يُعَدُّ كفرًا؟ ومن لم يقم أثناء قراءة المولد أي عند سماع قول: (مرحبًا
بالنبي إلخ) هل يعد كافرًا أيضًا؟ لأن العلويين في جاوه عندنا يعقدون كل سنة
حفلات كثيرة وفي أماكن متعددة، وأوقات مخصوصة، يذبحون لها الذبائح وتشد
لها الرحال من أماكن بعيدة، ويلقنون الناس في أثناء الحفلات أن من لم يحضر
المولد ومن لم يقم عند سماعه (مرحبًا) إلخ فهو كافر، وإذا سأله سائل هل هذا
أمر من الله ورسوله؟ أجابوه بقولهم: أنت كافر، اسكت، لا تنازعنا في هذا؛ لأنا
أحفاد النبي صلى الله عليه وسلم، أفتونا مأجورين وأبقاكم الله عونًا للحق.
وقد عرفناكم سابقًا في كتاب أرسلناه لكم ببعض أعمال العلويين، وما يشيعونه
ضدنا وضدكم وضد مناركم، ونحن نغار عليكم وعلى مناركم كما نغار على أنفسنا؛
لأن في جاوه حركة مباركة، ولا شك هي وليدة أفكاركم المتواترة في المنار،
نرجوكم أن تشدوا أزرنا كما هو رجاؤنا فيكم والسلام.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... من المخلص
…
...
…
...
…
...
…
عبد السميع بن منصور الجاوي
(ج) سئل الحافظ ابن حجر عن الاحتفال بالمولد النبوي هل هو بدعة أم له
أصل؟ فأجاب بقوله: أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح
من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها فمن جرَّد عمله
في المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة، ومن لا فلا.
وأقول: إن الحافظ رحمه الله تعالى حجة في النقل فقد كان أحفظ حفاظ السنة
والآثار، ولكنه لم يؤت ما أوتي الأئمة المجتهدون من قوة الاستنباط، فحسبنا من
فتواه ما تعلق بالنقل وهو أن عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من سلف الأمة
الصالح من أهل القرون الثلاثة التي هي خير القرون بشهادة الصادق المصدوق
صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، ومن زعم بأنه يأتي في هذا الدين بخير مما
جاء به رسوله الله صلى الله عليه وسلم وجرى عليه ناقلو سنته بالعمل فقد زعم أنه
صلى الله عليه وسلم لم يُؤَدِّ رسالة ربه كما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى، وقد
أحسن صاحب عقيدة الجوهرة في قوله:
وكل خير في اتباع من سلف
…
وكل شر في ابتداع من خلف
وأما قول الحافظ: إن من عمل فيه المحاسن وتجنب ضدها كان عمله بدعة
حسنة، ومن لا فلا، ففيه نظر ويعني بالمحاسن قراءة القرآن وشيء من سيرة
النبي صلى الله عليه وسلم في بدء أمره من ولادته وتربيته وبعثته والصدقات،
وهي مشروعة لا تعد من البدع، وإنما البدعة فيها جعل هذا الاجتماع المخصوص
بالهيئة المخصوصة والوقت المخصوص، وجعله من قبيل شعائر الإسلام التي لا
تثبت إلا بنص الشارع بحيث يظن العوام والجاهلون بالسنن أنه من أعمال القرب
المطلوبة شرعًا، وهو بهذه القيود بدعة سيئة وجناية على دين الله تعالى وزيادة فيه
تُعَدُّ من شرع ما لم يأذن به الله، ومن الافتراء على الله والقول في دينه بغير علم،
فكيف إذا وصل الجهل بالناس إلى تكفير تاركه كأنه من قواعد العقائد المعلومة من
الدين بالضرورة؟ أليس يُعَدُّ في هذه الحال وبين هؤلاء الجهال من أكبر كبائر البدع
التي قد تقوم الأدلة على كونها من الكفر بشرطه فإن الزيادة في ضروريات الدين
القطعية وشعائره كالنقص منها يخرجه عن كونه هو الدين الذي جاء به خاتم النبيين
عن الله تعالى القائل فيه {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) فهو تشريع
ظاهر مخالف لنص إكمال الدين وناقض له، ويقتضي أن مسلمي الصدر الأول كان
دينهم ناقصًا أو كفارًا، وقد ورد أن أبا بكر وعمر وابن عباس رضي الله عنهم
قد تركوا التضحية في عيد النحر؛ لئلا يظن الناس أنها واجبة كما ذكره الإمام
الشاطبي في الاعتصام (ص276ج2) وغيره أفلا يجب بالأولى ترك حضور هذه
الحفلات المولدية، وإن خلت من القبائح واشتملت على المحاسن؛ لئلا يظن العوام
أنها من الفرائض التي يأثم فاعلها أو يكفر كما يقول بعض مبتدعة العلويين الجاهلين
المذكورين في السؤال. فكيف إذا كانت مشتملة على بدع ومفاسد أخرى كالكذب
على رسوله الله صلى الله عليه وسلم في سيرته وأقواله وأفعاله كما هو المعهود في
أكثر القصص المولدية التي اعتيد التغني بها في هذه الحفلات؟
وأما القيام عند ذكر وضع أمه له صلى الله عليه وسلم وإنشاد بعض الشعر أو
الأغاني في ذلك فهو من جملة هذه البدع وقد صرَّح بذلك الفقيه ابن حجر المكي
الشافعي الذي يعتمد هؤلاء العلويون على كتبه في دينهم، فقال عند ذكر الإنكار على
من يقوم عند قراءة {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} (النحل: 1) لما ورد في ذلك
بسبب قد زال ما نصه: ونظير ذلك فعل كثير عند ذكر مولده صلى الله عليه وسلم
ووضع أمه له من القيام، وهو أيضًا بدعة لم يرد فيه شيء على أن العوام إنما
يفعلون ذلك تعظيمًا له صلى الله عليه وسلم فالعوام معذورون لذلك بخلاف الخواص.
اهـ من الفتاوى الحديثية ص60.
وإنما يصح قول الحافظ ابن حجر في كون حفلة المولد بدعة حسنة بشرط
خلوها من المساوئ والمعاصي المعتادة فيها إذا كان القائمون بها لا يعدونها من
القرب الثابتة في الشرع بحيث يكفر تاركها أو يأثم أو يُعَدُّ مرتكبًا للكراهة الشرعية،
فإن البدعة التي تعتريها الأحكام الخمسة، ويقال: إن منها حسنة وسيئة هي البدع
في العادات، وأما البدع في الدين فلا تكون إلا سيئة كما صرَّح به المحققون،
وذكر ذلك الفقيه ابن حجر الهيتمي المكي في موضوعين من الفتاوى الحديثية، وقد
سبق تحقيق هذا البحث في مقدمة كتابنا (ذكرى المولد النبوي) فلا نطيل فيه هنا
فمن شاء التفصيل فليراجعه، ومن عنده المجلد الثامن عشر من المنار يجد هذه
المقدمة فيه صلى الله عليه وسلم.
وأما ادعاء هؤلاء العلويين الجاهلين بأنه يجب الأخذ بقولهم هذا كفر وهذا
إيمان، ومن فعل كذا فقد كفر، وتعليلهم ذلك بأنهم أحفاد الرسول صلى الله عليه
وسلم فهو أقبح الجهل بحقيقة هذا الدين، وصاحبه أدنى إلى الكفر من تارك حضور
بدعة المولد، لأنه ادعاء لحق التشريع في العقائد والعبادات لكل من هو علوي
فاطمي، ولم يقل بهذا أحد من المسلمين حتى غلاة الشيعة الذين يقولون بعصمة
بعض أئمة آل البيت لا كلهم فكيف بجهلة عوامهم فإنهم إنما يقولون بعصمتهم من
الكذب في نقل نصوص الدين ومن المعاصي إلخ، ولكن لم نر لأحد منهم دعوى
مثل هذا للأئمة فضلاً عن هؤلاء العوام الجاهلين بضروريات الدين، ولو جعل لكل
فاطمي أو لبعضهم هذا الحق في التشريع لزال هذا الدين من الوجود إن وجد من
يقبله ويدين به.
وقد نشرنا رسالة أخينا السائل التي أشار إليها في الجزء الماضي مع التعليق
عليها بما نرى أنه نصيحة لإخواننا العلويين المضطربين الذين يظنون أنهم
يحافظون على ما بقي لهم من الجاه عند عوام المسلمين ويستردون ما فقدوا منه
بالغلو في آبائهم وأجدادهم ونشر الخرافات والبدع التي ابتدعها غلاة الروافض
وغيرهم، وهو مخطئون في هذا الظن وآثمون، ولو عرفوا حقيقة حال زمانهم
لأيقنوا بأنهم يهدمون بهذا الغلو والابتداع ما بقي لهم من ذلك، ومن عقلائهم وأهل
الخير فيهم من يعلم هذا علم اليقين فعسى أن يكثروا ويكون لهم الرأي الراجح في
هداية الغلاة المغرورين.
وأما صاحب المنار فلا يبالي ما ينشرون من الطعن فيه والافتراء عليه؛ لأنه
يعمل عمله ويبذل نصحه للمسلمين ابتغاء مرضاة الله تعالى فسواء عنده أمدحوا أم
ذموا، ولو كان عمله للمال أو الجاه لداراهم أو لسكت عنهم ابتغاء كثرة الكسب أو
زيادة الجاه عند من يقبل كلامهم من الجاهلين، وكذلك يجب أن يكون رجال جمعية
الإرشاد.
وقد ظهرت في هذه الآونة دعاية جديدة للرفض وهدم السنة من بعض علماء
الشيعة في سورية وكل واحد من دعاتها ينوه بما اشتهر من غلو بعض علوية
الحضارمة في علي عليه السلام والرضوان، ولكن هؤلاء العلويين على نزعة
الرفض عندهم لا يزال يتلقون دينهم من كتب الشافعية، وسيُقْضَى على غلاة
الرفض في سورية قبل أن يقدروا على تحويل علويي حضرموت وجاوه إلى بدعهم،
فطبع هذا العصر لا يهضم الغلو في عباد الله المكرمين، ولا الخرافات والدَّجَل
لصدورها عن العلويين، بل كان هذا الغلو هو سبب وجود النواصب بمقتضى سنة
الله في الخلق، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
***
أسئلة من الزبداني - بقرب دمشق - سورية (تأخرت)
س (55 - 57) من صاحب الإمضاء:
بسم الله وحده والحمد لله وحده
سيدي الهمام العالم العلامة المقدام الأستاذ الإمام السيد أبو محمد شفيع محمد
رشيد رضا المفخم زِيدَ علاه.
السلام عليكم ورحمته ورضوانه وبركاته.
(1)
نعرض لجنابكم أنه هبط لديارنا من العراق شيخ من أهل الفضل بعلوم
الدين الحنيف فقام يدرس بالجوامع وفي الاجتماعات ويحض الناس على التمسك
بتعاليم الدين الشريف ومن جملة ما نصحنا قوله لنا: (لا يجوز صلاة السنة لما
فاته صلاة الفرض، بل الأجمل ترك صلاة السنة في كل وقت من أوقات الصلوات
الخمسة، والقيام بصلاة الفرض أو الفروض الفائتة بالترتيب إلى أن تعلم علم اليقين
أنك قضيت ما عليك من الفروض) فاشتد الخلاف بين الناس فمنهم من أطاعه
وترك السنة، ومنهم من تمسك وعليه جئنا نستفتي من بحر علمكم؛ لنعمل بما
تشيرون علينا به، أدامكم الله للمتقين إمامًا مولاي.
2-
سيدي معلوم لجنابكم أن كل من يقرأ القرآن الكريم بإيمان وبإمعان
وبصيرة يجد في نفسه تأثيرًا عميقًا حتى إنه ليبكي على حال أبناء آدم، والأخص
منهم صاحب هذا الكتاب، ومن جملة هذه الآيات المؤثرة قوله تعالى في سورة
السجدة: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} (السجدة: 15) وأمثال هذه الآية الشريفة كثير في كتاب الله
العزيز، فهل يلزم السجود عند قراءة أمثال هذه الآيات البينات أو حين التذكر في
آياته تعالى
…
إلخ؟ وهل السجود يم الكعبة الشريفة؟ وإذا كنا في تلاوة القرآن
الكريم وقرأنا آية مثل ما قدمنا أيلزم ترك المصحف الشريف ونسجد لله تعالى؟
أفتونا مأجورين من رب العالمين، سيدي.
3 -
{فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: 185)
…
سيدي ما معنى
مشاهد الشهر؟ فإن كان بالبصر نشاهد أهلة رمضان
…
فهذا مما يدعنا نتساءل
لعله يصير يسكن القطب الذي ليله نصف سنة ونهاره مثله تنعدم رؤية الشهر بعين
رأسنا
…
وإذا كان معنى شهد بعين العقل وعين البصيرة فهل يجوز نشهد بدون أن
تنظر أبصارنا؟ نرجو الإجابة على ما تقدم والله ربنا يحفظكم ولا يحرمنا علمكم
العظيم.
…
...
…
...
…
...
…
محبكم بالغيب المخلص
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... أحمد الباقوني
أجوبة هذه الأسئلة
ترك النفل لمن فاتته صلاة مكتوبة حتى يقضيها
ما ذكره لكم الشيخ العراقي من تقدم قضاء الصلاة المفروضة لمن فاتته على
صلاة السنن الرواتب وغيرها إلى أن يتم قضاؤها صواب.
***
سجود التلاوة
ثبت في بعض الأحاديث الصحيحة والحسنة أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يسجد عند تلاوة بعض الآيات التي ذكر فيها السجود بصيغة الأمر أو الخبر
الدال على الترغيب فيه، وقد اتفق جمهور علماء السلف وأئمة الأمصار على ثلاث
عشرة آية منها:
(1)
أولها آخر سورة الأعراف.
(2)
الآية 15 من سورة الرعد.
(3)
الآية 49 من سورة النحل ولكن ورد السجود عند قراءة الآية 50 التي
بعدها وآخرها {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (النحل: 50) .
(4)
الآيات 107 إلى 109 من سورة الإسراء التي تسمى سورة بني
إسرائيل أيضًا، والسجود عند قوله تعالى:{وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} (الإسراء:
109) .
(5)
الآية 58 من سورة مريم.
(6)
الآية 18 من سورة الحج.
(7)
الآية 60 من سورة الفرقان.
(8)
الآية 25 من سورة النمل والسجود عقب تلاوة الآية 26 التي بعدها.
(9)
الآية 15من سورة (الم السجدة) وهي التي ذكرها السائل.
(10)
الآية 37 من سورة فصلت (وتسمى حم السجدة) أيضًا، والسجود
عقب تلاوة الآية 38 التي بعدها وآخرها {وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} (فصلت: 38) .
(11)
آخر سورة النجم.
(12)
الآية 21 من سورة الانشقاق، وقال بعض العلماء: إن السجود عند
آخر السورة.
(13)
آخر سورة العلق، فيُسَنُّ السجود عقب تلاوة الآيات في الصلاة
وغيرها.
واختلفوا في السجدة الثانية من سورة الحج عقب تلاوة الآية 77 فأثبتها
الشافعي وأحمد والجمهور ونفاها أبو حنيفة ومالك وقال الشافعي: إنها سجدة شكر
لا سجدة تلاوة لورود الحديث بذلك، ولا يشرع السجود عند تلاوة شيء من القرآن
غير هذه الآيات الخمس عشرة.
وسجود التلاوة عند قراء هذه الآيات أو سماعها مندوب عند الجمهور وواجب
عند أبي حنيفة، ويدل على الندب ترك النبي صلى الله عليه وسلم له في بعض
الأوقات لبيان الجواز. وشروطه شروط الصلاة من الطهارة واستقبال القبلة وإذا لم
يسجد القارئ لآية السجدة لا يسجد السامع، كما أن المصلي في الجماعة لا يسجد
إلا مع إمامه، وأما إذا سجد المنفرد فيُسَنُّ له السجود، وسجود مستمع القرآن عن
قصد آكد من سجود من سمعه بغير قصد كما نص عليه الشافعي.
***
صيام شهر رمضان على من شهده
شهود الشهر حضوره والبلاد التي ليس فيها شهور كالقطبين وما يقرب منها لا
يجب عليهم شهر رمضان بعينه لعدم وجوده عندهم، وإنما يجب عليهم صيام مثله
بالتقدير، وكذلك يقدرون للصلوات الخمس، وقد بيَّن ذلك الفقهاء، وذكرناه في
تفسير هذه الآية {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: 185) فراجع
تفسيرها في 173 و 174 من جزء التفسير الثاني.
_________
(1)
(راجع ص 440 ج 8) .
الكاتب: محمد رشيد رضا
مقدمة رسائل السنة والشيعة
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) ،
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ
الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلَا
تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ
فَرِحُونَ} (الروم: 30-32) .
بَرَّأَ اللهُ ورسولَه محمدًا خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم من الذين فرقوا دينهم
وكانوا شيعًا ونهى عباده المؤمنين من هذه الأمة المحمدية وحذَّرهم أن يكونوا من
المشركين الذين فرَّقوا دينهم وكانوا شيعًا، ولكن التفرق في الدين إلى الشيع
والأحزاب كالتفرق في السياسة سنة من سنن الاجتماع تابعة لدأبهم في الاتباع
والابتداع.
***
تاريخ التشيع ومذاهب الشيعة
كان التشيع للخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه مبدأ تفرق هذه
الأمة المحمدية في دينها وفي سياستها، وكان مبتدع أصوله يهودي اسمه عبد الله بن
سبأ أظهر الإسلام خداعًا للمسلمين ودعا إلى الغلو في علي كرَّم الله وجه لأجل
تفريق هذه الأمة وإفساد دينها ودنياها عليها كما فعل أمثاله في النصرانية قديمًا
وحديثًا، وسبب ذلك ما كان من العداوة والقتال بين قومه اليهود وبين النبي صلوات
الله وسلامه عليه وكانوا هم المعتدين فيه، وقد انتهى ذلك بنصر الله تعالى لرسوله
عليهم وإخراجهم من جواره في مدينته ودار هجرته، ثم أجلى عمر بن الخطاب
الخليفة الثاني بعده من بقي منهم في أرض الحجاز.
ابتدع هذا اليهودي بدعته، وأعانه عليها آخرون من أهل ملته، أظهروا
الإسلام نفاقًا ليقبل المسلمون أقوالهم الخادعة، ومنها وضع الأحاديث وغش رواة
التفسير بالخرافات الإسرائيلية وغير ذلك.
بيد أن العداوة بين المسلمين واليهود لم تطل عليها الأمد؛ لأن اليهود كانوا
مظلومين مُضطهدين في وطنهم القديم في البلاد المقدسة وما جاورها، وفي البلاد
التي تفرقوا فيها، فلما فتح المسلمون الأمصار في الشرق والغرب رفعوا عنهم الظلم
الذي أرهقهم من نصارى الروم والقوط وعاملوهم بالعدل والرحمة كالمسلمين
وغيرهم فكفوا عن الكيد لهم وفضلوا سلطانهم على كل سلطان.
ولكن بدعة التشيع كانت قد سرت وانتشرت في المسلمين بالدعاية السرية،
وكانت أقوى الأسباب في العداوة السياسية بين كبراء الصحابة رضي الله عنهم بما
كان مما يسمى في عرف هذا العصر بسوء التفاهم وحسن النية، ومن راجع أخبار
واقعة الجمل في تاريخ ابن الأثير مثلاً يرى مبلغ تأثير إفساد السبئيين لذات البَيْن،
وحَيْلُولَتهم بالمكر والفساد دون ما كاد يقع من الصلح [1] .
لولا أن خلف زنادقة الفرس هؤلاء السبئيين، في إدارة دعاية التفريق بين
المسلمين، بالتشيع والغلو في علي وأولاده وأحفاده الطاهرين رضي الله عنهم لزال
خطرها بعد ترك اليهود لزعامتها السرية، ولكن الخليفتين الجليلين أبا بكر وعمر
رضي الله عنه حاربا الفرس وتم للثاني فتح جُلّ بلادهم وثَلُّ عرش كسرى والقضاء
على ديانتهم المجوسية، فأحفظ ذلك قلوب أمرائهم وزعمائهم من رجال الدين والدنيا،
وليس لذي العجز عن الثأر بالقوة الحربية إلا المكايد السرية، فتولى مهرة رجال
الفرس أمرها وكانوا أجدر بها وأهلها، فمنهم من تولى السعي لإفساد دين العرب
الذي انتصروا بتعاليمه وجمعه لكلمتهم على الفرس وغيرهم، ومنهم من تولى
السعي للإفساد السياسي بتحويل الخلافة إلى العلويين، ولما لم يجدوا منهم لزهدهم
في الدنيا من يواتيهم على كل عمل ولو غير مشروع في الدين حولوها إلى
العباسيين، ثم صاروا يكيدون للعباسيين بما كان أغرب طرقهم فيه ما قام به
البرامكة من جعل جميع إدارة ملك الرشيد الواسع وسياستهم في أيديهم، حتى تنبَّه
لذلك فبطش بطشته الكبرى بهم، وكانوا قد ملكوا عليه سويداء قلبه، مع قبضهم
على أزمة ملكه، وكان أذكى من فطن لدسائس البرامكة وإلحاد الشيعة الباطنية
ووقف على كثير من دقائقه العلامة المحقق القاضي أبو بكر بن العربي الأندلسي
كما نوَّه به في رحلته وفي كتاب العواصم والقواصم، ويليه حكيم الإسلام ابن
خلدون فقد أشار إليه في مقدمة تاريخه.
كان من تعليم غلاة الشيعة بدعة عصمة الأئمة الذين استخدموا أسماءهم
وشهرتهم لترويج سياستهم، وبدعة تحريف القرآن والنقص منه بفريتهم ثم البدع
المتعلقة بالقائم المنتظر محمد المهدي وكونه هو الذي يظهر القرآن التام الصحيح
الذي يزعمون أن عليًّا كتبه بيده بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وفتحهم أبواب
التأويلات لنصوصه بما لا يتفق مع شيء من قواعد اللغة، فكان قدوة سيئة لجميع
المبتدعة، دع قول بعضهم بألوهية بعض أئمة أهل البيت الموروثة عند الإسماعيلية
وغير الموروثة عند غيرهم من الباطنية، ثم دع كون غايتهم بعد الوصول إلى آخر
درجات الدعوة الكفر الصريح كما تراه مبسوطًا في خطط المقريزي وغيره.
وأهم ما يجب بيانه في هذه المقدمة أنه كان بين من أطلق عليهم لَقَبُ الشيعة
أو وَصْفُ التشيع على اختلاف تعاليمهم وعقائدهم الظاهرة والباطنة أناس من أهل
السنة والجماعة وكانوا يرون أن عليًّا رضي الله عنه أحق بالخلافة من غيره،
ومنهم من يرى أنه أفضل من سائر الصحابة أو يفضله على من دون الشيخين،
ويرون أنه أحق بالخلافة من عثمان لا من أبي بكر وعمر، ولكن لم يقل أحد من
هؤلاء ببطلان خلافة الثلاثة، وكان عدد هؤلاء قليلاً من السلف والخلف، ولكن
السواد الأعظم من أهل السنة سلفهم وخلفهم يعتقدون أن معاوية كان باغيًا على
الإمام الحق أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه، وإن قدر بدهائه وسياسته على تأليف
قوة عظيمة له، ولكن الجمهور تأولوا له بأنه كان مجتهدًا أخطأ في اجتهاده.
والغرض من ذكر هذا أن اسم الشيعة كان يطلق على بعض أهل السنة
والجماعة وعلى كثير من المبتدعة الذين حافظوا على أركان الإسلام الخمسة،
وعلى فرق زنادقة الباطنية حتى إن بعض كبراء علماء الإمامية حاول جعل فرقة
الشيعة 73 فرقة وفسر بذلك الحديث الذي ورد بافتراق هذه الأمة إليها ليخرج أهل
السنة والجماعة التي هي السواد الأعظم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد انقسم الشيعة الذين يحافظون على أركان الإسلام إلى غلاة أطلق عليهم
اسم الرافضة، وإلى معتدلين وهو الذي خص أكثرهم باسم الزيدية لاتباعهم للإمام
زيد بن علي رضي الله عنه الذي أبى على الغلاة البراءة من أبي بكر وعمر رضي
الله عنهما فرفضوه ويوجد معتدلون في غيرهم أيضًا.
ومن الغريب أن يشتبه أمر زنادقة الباطنية على كثير من مسلمي الشيعة حتى
أهل العلم والذكاء منهم كالشريف الراضي المشهور باعتداله في شيعيته الذي قال:
ألبس الذل في ديار الأعادي
…
وبمصر الخليفة العلوي
من أبوه أبي ومولاه مولاي
…
إذا ضامني البعيد القصيّ
لف عرقي بعرقه سيد الناس
…
جميعًا محمد وعلي
إن ذلي بذلك الجو عز
…
وأوامي بذلك النقع ريّ
فالمراد بالأعادي عنده الخلفاء العباسيون أبناء عمومته وكان الخليفة العباسي
يعامله معاملة الأقران حتى إنه كان يفتخر عليه مخاطبًا له بمثل الأبيات التي أنشدها
الخليفة القادر بالله في آخر قصيدة يمدحه بها:
مهلاً أمير المؤمنين فإننا
…
في دوحة العلياء لا نتفرق
ما بيننا يوم الفخار تفاوت
…
أبدًا كلانا في المفاخر معرق
إلا الخلافة ميزتك فإنني
…
أنا عاطل منها وأنت مطوّق
فلهذا الاختلاط ترى في تراجم المحدثين والعلماء والأدباء والشعراء أسماء
رجال كثيرين وصفوا بالتشيع؛ إذ كان هذا الوصف يطلق كثيرًا على من عرفوا
بالمبالغة في حب آل البيت النبوي عليهم السلام ومدحهم وذم الظالمين لهم، وإن لم
يكن أحد منهم على مذهب أحد من الشيعة المعتدلين كالزيدية ولا روافض الإمامية،
فضلاً عن كونهم من زنادقة الباطنية، بل منهم المجتهد المستقل والمنسوب لأحد
مذاهب أهل السنة.
والشيعة الإمامية منهم معتدلون قريبون من الزيدية، ومنهم غلاة قريبون من
الباطنية، وهم الذين لقحوا ببعض تعاليمهم الإلحادية، كالقول بتحريف القرآن
وكتمان بعض آياته، وأغربها في زعمهم سورة خاصة بأهل البيت يتناقلونها بينهم
حتى كتب إلينا سائح سني مرة أنه سمع بعض خطبائهم في بلد من بلاد إيران
يقرؤها يوم الجمعة على المنبر وقد نقلها عنهم بعض دعاة النصرانية (المبشرين) .
فهؤلاء الإمامية الاثني عشرية ويلقبون بالجعفرية درجات، وينقسم جمهورهم
إلى أصوليين وإخباريين، فالأصوليون هم الذين يعرضون ما يروى من أخبار
الأئمة على أصول وضعها المتقدمون فينقلون منها ما وافقها ويردون ما خالفها،
والإخباريون هم الذين يتلقون جميع تلك الأخبار بالقبول، وإن خالفت المعقول،
وما عند أهل السنة والجماعة من المنقول، وهدمت الفروع مع الأصول، وحدث
في المتأخرين منهم مذاهب أخرى كالكشفية، ولهم في الدين فلسفة غريبة، ويرد
عليهم الشهاب الآلوسي في تفسيره (روح المعاني) .
ولهذا الاستعداد في الإمامية للغلو وقرب الكثيرين منهم من زندقة الباطنية
ظهرت منهم وراجت فيهم بدعة البابية ثم البهائية الذين يقولون بألوهية البهاء ونسخه
لدين الإسلام وإبطاله لجميع مذاهبه.
وقد نقل الإمام (المقبلي) في العلم الشامخ عن بعض العلماء أنه قال:
ائتني بزيدي صغير أُخْرِج لك منه رافضيًّا كبيرًا، وائتني برافضي صغير
أخرج لك منه زنديقًا كبيرًا، قال: يريد أن مذهب الزيدية يجر إلى الرفض،
والرفض يجر إلى الزندقة اهـ ، والمقبلي سلم هذا في أفراد من الزيدية رد عليهم
لا في جملتهم.
***
سعينا للتأليف بين أهل السنة والشيعة
كان من قواعد الإصلاح التي وضعها حكيم الإسلام في هذا العصر وموقظ
الشرق السيد جمال الدين الأفغاني رحمه الله تعالى وجوب السعي لجميع المسلمين
والتأليف بين فِرَقهم التي يجمعها الإيمان بالقرآن المجيد المعصوم ورسالة محمد خاتم
النبيين صلى الله عليه وسلم، والاستعانة على ذلك بالسياسة التي كانت السبب
الأول لهذا التفرق الذي ألبس بعد ذلك لباس الدين، ولكن كما يلبس الفرو مقلوبًا [2]
فكانت سبب ضعف جميع الفرق، ومن أهم أسباب ضعفهم وسلب الأجانب لملكهم.
ولا أعرف أحدًا عُني بعد السيد المصلح رحمه الله بهذا السعي كما عُنِيَ به
هذا العاجز (منشئ المنار) في أسفاره ومقامه في هذه البلاد الحرة أدام الله عمرانها،
وأتم لها استقلالها، وفي المنار كثير من الدلائل والشواهد على هذا، منها تقريظ له
من أحد علماء الشيعة الفضلاء في سورية نشر في الجزء الثاني من مجلده السابع الذي
صدر في 16المحرم سنة 1322 ص 66 - 68 كتم اسمه في ذلك الوقت لتشديد
الدولة في منع المنار من بلادها وعقاب من يوجد عنده، ومما قال في المنار:
***
أقوال العلماء الشيعة وساستهم في المنار وصاحبه
حسنة هذه الأيام، ونتيجة سعد هذا الدور (منار الإسلام) بل الساطع في
كافة الأنام، والماحي بلألائه حنادس الظلام، ولا بدع إذا انبثق من فرع زيتونة
يكاد زيتها يضيء ولو لم يمسسه نار، وغصن شجرة أصلها ثابت وفرعها في
السماء، ومن طابت أرومته، وزكت جرثومته فهو الجدير بأن يحلو جناه، وتعرب
عن طيب أصله أقواله وسجاياه.
(ومما استعذبته منه وكله عذب سائغ، تأليفكم بين فرق الإسلام ورفع
الوحشة التي نشأت عليها أحداث الأمة في الأعصر الأواخر وفشت بين العامة
والخاصة حتى فتت في عضد الاجتماع وحلت عرى الارتباط) إلخ.
ثم قال في آخره: (وحقيق بحملة العلم في كل قطر أن ترفع أيدي الابتهال
إلى ذي العزة والجلال بالدعاء لكم بدوام التأييد والمجد، والتوفيق لنصر الدين
وإيضاح الحق ودَحْض الباطل وإرشاد الضال، وجمع الكلمة وإحكام الألفة بين
المسلمين إنه على ذلك قدير بالإجابة جدير، آمين آمين) .
ولما أعلن الشاه مظفر الدين حكومة الشورى النيابية في إيران نوَّهْنَا بعمله في
(م7، 8 من المنار) وفضلناه بها على سائر ملوك المسلمين، وإن عارض ذلك
بعض علمائهم المتعصبين الجامدين، إذ بيَّنا أن حكومة الشورى هي حكومة القرآن،
فإذا نفذتها حكومة إيران تكون هي الحكومة الإسلامية الوحيدة.
ثم نشرنا في ج12م9 رسالة جاءتنا من طهران فيما كان من تأثير ما كتبه
المنار في تلك العاصمة ذكر فيها مرسلها أن الجرائد الفارسية ترجمت مقالتنا
(الشورى في بلاد إيران) فاعترض عليها سفير الدولة العثمانية الأمير شمس الدين
بك وكتب بذلك إلى وزير الخارجية (علاء السلطنة) كتابًا أغلظ فيه، وزعم أن ما
نقلته الجرائد عن المنار أسباب يلقيها أعداء الدولة لإيقاع النفاق بين الدولتين،
وإحداث الشقاق بين الفريقين إلخ، وذكر أن وزير خارجية إيران أجاب السفير
التركي بأن كاتب المقالة ليس من رعيتهم حتى يؤاخذوه
…
إلخ.
ومما قاله صاحب هذه الرسالة في أولها: إن أول من ترجم مقالة المنار هو
ذكاء الملك في جريدته (تربيت) فنبه علماء الفرس وسواسهم وذكر لهم بعد
الترجمة (أن منزلة ومقام حضرة حكيم الإسلام وفيلسوفه السيد محمد رشيد رضا
عند جميع أهل الأقطار من المسلمين وخصوصًا العرب الكرام بمنزلة مائة عالم
مجتهد من أهل التشيع، فاغتنموا الفرص وفكروا أيها السواس في مقالة هذا الحبر
واقرءوها على المنابر وفي المعابر) .
وذكر صاحب الرسالة أن صاحب جريدة (مجلس) نقل الترجمة وما قالته
جريدة (تربيت) في جريدته، وإنها جريدة يقرؤها في طهران وسائر إيران الكبير
والصغير والذكر والأنثى، وإن مديرها السيد محمد صادق نجل السيد محمد
الطباطبائي المجتهد الشهير.
وذكر أيضًا أنه حضر في إثر ذلك مجلسًا غاصًّا بطلاب العلوم الدينية في
طهران فتذاكروا في المسألة وما جرى بين السفير التركي ووزير خارجيتهم فقام
أحدهم خطيبًا فحمد الله وأثنى عليه وكان مما قاله:
(انفتحت علينا أوربة وأتانا أهلها من كل حَدَب ينسلون: هذا تاجر وهذا
سائح وهذا حكيم والآخر داعٍ إلى دينه والقصد من الكل ابتلاعنا معاشر أهل الإسلام،
فإن تيقظتم وإلا فأنتم صبوحهم ونحن غبوقهم لا سمح الله بذلك.
أيها الترك! تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به
شيئًا، ولا نتخذ المستبدين أربابًا من دون الله طاعتهم كطاعته ومعصيتهم كمعصيته،
بل نجادلهم بالسيف والسنان، والقلب واللسان، فإن توليتم فنشهدكم بأنا مسلمون
ونبرأ إلى الله من المستبدين الخائنين، ومستمسكون بقوله عز من قائل في وصف
المؤمنين: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) وهم الذين قال فيهم:
{الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا
عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: 41) .
هذا مثال مما كنا ندعو إليه ونسعى له سعيه من جمع كلمة المسلمين، وتأييد
المحسنين منهم وتفنيد المسيئين، ولا تزال كذلك إن شاء الله تعالى حتى يأتينا اليقين،
ولكن هذا الذي أرضى عنا جماعة المسلمين المنصفين، قد أغضب علينا
المتعصبين المفرقين، وإنما اشتد علينا غضبهم في هذه السنين، بعد أن أظهر الله
تعالى دولة السنة باستيلاء إمامها عبد العزيز آل سعود على مهد الإسلام، وقيامه
بإحياء السنن، وهدم مباني البدع، فأيدناه ودافعنا عنه كما يجب علينا شرعًا، وكما
شرعنا من قبل في تأييد دولة الشاه مظفر الدين الشيعية فيما كنا ندعو إليه الدولة
العثمانية، من إقامة حكومة الشورى الإسلامية، على ما بين الحكومتين من البَوْن
البَيِّن، وما بين الشعبين من الفرقان المبين وليس بهين، فكان خصومنا في تأييد
دولة السنة فريقين: دعاة الإلحاد وغلاة الروافض.
***
تعصب صاحب مجلة العرفان
للشيعة مجلة عربية اسمها (العرفان) كنا نَعُدُّ صاحبها من المعتدلين ونحسبه
من أصدقائنا وأعواننا على جمع كلمة المسلمين، على ما نرى من احتذائه في تأييد
مذهبه وأهل فرقته الإمامية، حذو مجلة المشرق اليسوعية في تأييد الكاثوليكية،
وقد كان كتب إلينا في 30 رمضان سنة 1927 رسالة ينكر فيها ما عزوناه إلى
الشيعة من إباحة الجمع بين تسع نسوة، واستطرد فيها إلى الطعن في رسالة عالم
من ثقات العلماء أرسلها إلينا من بغداد ذكر فيها بثَّ الشيعة لمذهبهم في بدو العراق،
وهي الرسالة التي ذكرت في الفصل الأول من مقصد رسالتنا هذه، ولكنه على
شدة لهجته في الإنكار، لم يكن قد بلغ من شدة التعصب ما بلغه في هذه الأعوام،
بل كان متحليًا بشيء يعتد به من الأدب والإنصاف، فقد افتتح رسالته بقوله:
(كتابي إلى مولاي الأستاذ الحكيم، بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
كتاب معجب بما له من الأيادي البيضاء في إصلاح الأمة ورفع (منار) الإسلام
وإرشاد المسلمين إلى الطريق الأقوم والصراط السوي، بيد أني أعتقد أنه لا بد
لجواد أن يكبو، وللصارم أن ينبو) .
ثم ذكر المسألة التي أنكرها، وأحسن ما قاله في هذه الرسالة إنكاره نقل
المخالف في المذهب، ووجوب أخذ أقوال كل طائفة من كتبها دون كتب المخالفين
لها، وقوله في ذلك.
فإني رأيت كثيرًا ما ينسب السنة إلى الشيعة ما يتبرءون منه وما لم يوجد في
كتبهم المعتبرة، وكذلك يفعل علماء الشيعة، وخذ لذلك مثالاً ما ينسبه أكثر المسلمين
إلى الوهابية من المقالات الشنيعة والاعتقادات الفاسدة، ولو راجعنا كتبهم لألفيناهم
يتبرءون منها ولم يكن علاقتهم بها إلا كقول الشاعر:
إنما أنت من سليمى كواو
…
ألحقت في الهجاء ظلمًا بعمرو
ثم استطرد بمناسبة الخطأ في النقل إلى الإنكار على رسالة ذلك العالم السائح
التي أرسلها إلينا من بغداد، وذكر ما نشره من الرد عليها في مجلته العرفان.
وقد نشرت رسالته هذه في (ج11م12 من المنار) مع تعليق بدأته بالشكر له
على بيانه وذكرت فيه شدة كراهتي لعصبية المذاهب وختمتها بأن نشري لرسالة
ذلك العالم السائح من باب النقل، وإن الناقل عدل ثقة عندي، ولكنه قد يخطئ
ويصدق بعض الروايات الباطلة.
فهكذا كنا وكان زميلنا وصديقنا من قبل صاحب مجلة العرفان المفيدة على
عصبيتها في بث العلم والأدب، وهذا ما كان يصرح به من افتراء الناس على
الوهابية وكذبهم في الطعن عليهم.
ثم اشتدت حماسة الرجل وغلا في الرفض فصار يطعن فينا كلما سنحت له
فرصة ولا سيما بعد ظهور دولة السنة التي يلقبها هو وأمثاله بالوهابية ويجعلون
الوهابية (أي السنة) مما لا يتفق مع الإسلام في عقائده ولا في أحكامه ويقر ما
كان أنكره من الطعن فيهم وبرأهم منه.
***
زعيم الرافضة وعدو السنة
ثم انتهى أمره بالتنويه بالكتاب الجديد الذي لفَّقَه أشد علماء الروافض في هذا
العصر تعصبًا وطعنًا في عقائد أهل السنة، وخداع عوامهم بما يبث من الدعوة إلى
الرفض وما فيه من الخرافات والبدع، وهو الشيخ الملا السيد محسن أمين العاملي.
أظهر ملاحدة الترك معاداة الإسلام والبراءة منه والطعن فيه وإجبار قومهم
على الارتداد عنه فلم يظهر من هذا الشيخ العاملي أدنى غيرة عليه ولا أقل دفاع
عنه.
وظهر من ملاحدة إيران الشيعية وملاحدة الأفغان السنية بوادر الاقتداء
بملاحدة الترك في شر ما عادوا به الإسلام وسعوا في هدمه، فلم نسمع عنه ولم
نقرأ له كلمة إنكار ولا نصيحة لهؤلاء المغرورين الأغرار بأن يدعو لهذه الشعوب
حريتها في دينها، وكذلك صاحب المجلة التي تنشر له دعوته وتنوه بكتابه (الشيخ
عارف الزين) .
بل فشا الكفر البواح، والفسق الصراح، وتهتك النساء وذهاب الأعراض
أدراج الرياح، وكثر دعاتهما في سائر الأقطار الإسلامية، إلا نجد والحجاز
واليمن، ولم نر منهم غيرة على الدين، ولا على أعراض المسلمين، وإنما ظهرت
غيرتهما على الدين بل الرفض المبين لَمَّا أيد الله إمام السنة في هذا العصر
(عبد العزيز آل سعود) ورأيا أن السنة تنفذ بالفعل وهياكل البدعة تُهْدَم في مهد
الإسلام، فإن أكثر البدع والخرافات إنما جاءت من غلاة الشيعة وهم حُمَاتها ودُعَاتها
وهي مرتزق زعمائها، وعليها مدار جاههم العريض، ومنهم سرت عدواها إلى طرق
الصوفية الذين ينتسبون كلهم إلى آل البيت بالباطل إلا طريقتين من الطرق المشهورة
وهي المَوْلَوِيَّة التي أيدها الترك مباراة للروافض، والطريقة النقشبندية الخفية التي
ليس لها تقاليد ولا مظاهر بدعية، وإنما ينكر عليها المعتصمون بهَدْي السلف مسألة
الرابطة والتزام الذكر غير المأثور.
***
سعينا للتأليف بين الوهابية والشيعة
اَمَا والله إنني لم أكن أرى في طريق الدعوة إلى التأليف بين المسلمين عقبة
يعسر اقتحامها إلا التقريب بين الشيعة ولا سيما غلاة الإمامية وأهل السنة السلفيين
الملقبين بالوهابية، وقد جرى بيني وبين جلالة الملك فيصل حديث طويل في هذه
المسألة لما كنا في دمشق، وكان أهم غرض لي في مقابلته المعروفة بمصر سؤاله
عن مبلغ خبرته في ذلك، وأما البحث في هذا بيني وبين أصحابي من عقلاء
الشيعة والسنة في مصر وسورية وغيرهما فكثير، ومن ذلك ما كان من سعيي
للتأليف بين الفريقين عندما سافر سفير دولة إيران السابق إلى مكة المكرمة للقاء ابن
السعود وقد زودته بكتاب إليه في ذلك وحمل هو إليَّ من ابن السعود كتابًا بل كتبًا
أخرى تتعلق بالمؤتمر الإسلامي العام، ولكن هذا السعي لم يثمر الثمرة المَرْجُوَّة،
كما أثمر من قبله السعي إلى التأليف بين الإمامين الجليلين يحيى وعبد العزيز
أحياهما الله وأعز بهما الإسلام والعرب.
ذلك بأنه ليس بين مذهب الزيدية ومذهب السنة من البُعْد كما بين الروافض
وأهل السنة، وقد كتبت إلى كل من الإمامين أدعوه إلى الاتفاق مع الآخر قبل فتح
الحجاز بسنين، فأجاب كل منهما إلى ذلك بالارتياح والقبول، ودارت بينهما
المكاتبات الودية في ذلك على ما طرأ من أسباب الخلاف، وما كان من سعي أهل
الفساد لإلقاء العداوة والبغضاء بينهما وإغراء كل منهما بقتال الآخر، ونسأل الله
تعالى أن يتم النعمة بنجاح ما نسعى له ويسعى له غيرنا من عقلاء المسلمين وأهل
الغيرة منهم بعقد المحالفة التي تكون أقوى الوسائل لحفظ جزيرة العرب من التعدي
على استقلالها، ولبلوغها أقصى ما هي مستعدة له من العمران وإحياء حضارة
الإسلام.
ولما رأيت ما رأيت من سوء أمر مؤتمر النجف لشيعة العراق، ومن أمارات
نشر الإلحاد في إيران والأفغان، ومن تجديد الشيخ العاملي في تواليفه والشيخ
عارف الزين في مجلته الطعن في السنة وتنفير المسلمين من دولتها الوحيدة في
إقامتها ونصرها، ومن بث الرفض والخرافات بين المسلمين، رأيت من الواجب
عليَّ أن أظهر للمسلمين ما يخفى على جمهورهم من الحقائق التي لم يكن العاملي
ولا الزين يعلمان بوقوفي عليها لعلهما يفيئان إلى أمر الله، فكتبت الفصول التالية
بهذه النية و (إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى) .
وكنت عند البدء بالكتابة عقب اطلاعي على كتاب العاملي الجديد وما فيه
الطعن الباطل في السنة باسم الوهابية، وفي شيخ الإسلام المصلح الكبير ابن تيمية،
ومن تشريفي بطعنه فيَّ وبهتانه عليَّ، كنت عند البدء بذلك عازمًا على
الاختصار، والاكتفاء بما ينشر في المنار، ثم جاءتني مجلة العرفان، فإذا هي بعد
اطلاعها على الفصل الأول في المنار قد أسرفت في البهتان، والبغي والعدوان،
والشتم والسب والكذب والإفك فرأيت من الواجب في نصر السنة ودفع البدعة، أن
أتوسع في الكتابة، ونشر ما أكتبه في رسالة أو رسائل مستقلة.
ثم جاءتني بعد ذلك جريدة أم القرى حاملة تفصيل ذلك النبأ العظيم، نبأ عقد
المؤتمر الإسلامي في الرياض عاصمة نجد، الذي هو الحجة الكبرى على انفراد
حكومة ابن السعود بإحياء حكومة الخلفاء الراشدين في الأرض، فشحذ ذلك غرار
عزمي على نصرها وشد أزرها، ومجاهدة أعداء الله ورسوله من الطاعنين فيها،
وفي هذا العصر الذي نرى الحكومات الأعجمية تفضل شرائع أعدائهما على
شريعتهما، وفسادهم على إصلاحها والإلحاد على دين الله وهو الإسلام، والعصبية
العمية على الوحدة وجماعة ملة محمد عليه الصلاة والسلام.
وإنني أعتقد اعتقادًا جازمًا بما تيسر لي من الاختبار الطويل بأن هذه
الخرافات والبدع التي كان التشيع مثارها الأعظم ستقضي على الإسلام إن لم يقض
المصلحون عليها، وإن سيرة ملاحدة الترك في الصد عنه برهان على ذلك فإنهم
يصورون لعامة أهل بلادهم تلك الخرافات الفاشية في الأولياء والصالحين بأقبح
الصور المنفرة، ومن ذلك أنهم نبشوا بعض قبورهم وأروا الناس بأعينهم رميم
عظامهم، وعجزهم على الدفاع عن أنفسهم وعن مراقدهم
…
وطالما صرَّح المنار
بإثبات فنائهم وأكل الأرض لأجسادهم وشرك الذين يدعونهم كما يدعون الله تعالى
لجلب النفع لهم ورفع الضر عنهم.
وإنني أدعو عقلاء المسلمين كافةً، والمخلصين في إسلامهم من عقلاء الشيعة
المعتدلين خاصةً أن ينهضوا معنا نهضة جريئة لإحياء عقيدة التوحيد الخالص،
والقضاء على عبادة الميتين، من أئمة أهل البيت الطاهرين، ومن سائر الأولياء
الصالحين، وعن التمسك بما يدعيه فقهاء الشيعة الجامدين، من تلقي الدين والفتوى
من سرداب سامرا حيث اختبأ المهدي المنتظر فإن هذا التشريع لا يقبله أحد من
عقلاء البشر، ومن بيَّن لي أنني على خطأ فيما دعوت إليه بالدليل فإنني أرجع إلى
قوله من قريب {إِنْ أُرِيدُ إِلَاّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَاّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88) .
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
راجع ص 95، 96، 103 من الجزء الثالث، وفي هذه الصفحة أنهم طعنوا على عليٍّ وهم الدعاة إلى القول بألوهيته.
(2)
هذا التشبيه مروي عن أمير المؤمنين علي كرَّم الله وجهه.
الكاتب: شكيب أرسلان
كتاب العالم الإسلامي في الأملاك الفرنسوية
تحت هذا العنوان قد ظهر مؤخرًا كتاب جدير بالمطالعة، حقيق بأن يتنبه له
المسلمون المفكرون؛ لا لأنه من الكتب التي تَذُبُّ عن حقائقهم وتناشد الأمم الأوربية
إنصافهم؛ بل لأنه بالعكس من ذلك يتضمن من السموم بحق الإسلام والمسلمين ما
ندر أن عثرت به في كتاب آخر مع أني طالعت في هذا الباب ما يفوق الإحصاء.
يمتاز هذا الكتاب عن غيره بأنه يضع هذه السموم في قالب غير خشن وكثيرًا
ما يريد إنصاف الإسلام في توافه الأمور، ويمتدح من أوضاعه ما ليس في
الاعتراف به كبير جدًّا، حتى إذا وصل البحث إلى المسائل الأساسية أظهر المؤلف
كل ما في قلبه من العدوان وذهب في التحامل أبعد المذاهب، وقد أخطرت ببالي
خطته هذه نكتة وقعت عندنا في جبل لبنان وهي: أن بقالاً شكا إلى مدير إحدى
النواحي أحد الأهالي الذين يبتاعون من دكانه أنه أصبح مديونًا له بمبلغ غير قليل،
وأنه يلويه بدينه، وقد طالبه به مرارًا ولا يزال يماطله، فاستدعى المدير ذلك
الرجل المديون وسأله عن سبب ليانه بدين البقال فأنكر هذا وقال له: إني حاضر
لمحاسبته وستراني دافعًا له كل ما يثبت له في ذمتي، فأمر المدير البقال أن يأتي
بدفتره فجاء ومعه دفتره وبدأوا بالحساب أمام المدير، فكان المديون وهو رجل فقير
كلما قرئت عليه نبذة من قبيل: بعشر بارات ملح، وبخمس بارات بهار وبعشرين
بارة ينسون، يهتف هذا عندي: أو يقول من عيني هذه وعيني هذه أنا لا أفر من
الحق، فإذا وصل البقال إلى النفذات المهمة بثلاثين قرشًا طحين، بعشرين قرشًا
صابون، بخمسة عشر قرشًا أرزًا إلخ، صاح اذكر الله يا هذا أنا متى اشتريت منك
هذا؟ وأخذ يناكر ويجادل، وقد يقسم أنه لا علم له بهذه النفذات، والحاصل أنه لا
يعترف إلا بما ثمنه زهيد لا يستحق أن يتكلف البقال مشقة الشكوى والأخذ والرد
من أجله.
ومن قرأ هذا الكتاب عرف أنه على هذا النمط لا يعترف بفضل الإسلام إلا
فيما لا طائل تحته، وأنه يحاول غمط محاسنه الجوهرية.
ومؤلفه ضابط فرنسي اسمه جول سيكار Sicarsd jules مترجم أول في
الجيش الإفرنسي، وقد أهداه إلي المسيو ستيغ الذي كان المشرف العام على
السلطنة المغربية، واستعفي منذ أيام قلائل، وأصل الكتاب عبارة عن دليل اقترحه
قائد الجيش الفرنسوي الذي يحتل بلاد الرين من ألمانية لأجل العمل به في إدارة
التوابير الفرنسوية التي فيها جنود مغاربة فأنت ترى أنه كتاب رسمي حكومي معتمد
على أقواله وآرائه في معاملة العساكر المسلمين الذين في الجيوش الفرنسوية وليس
بكتاب راهب ولا قسيس غير مسئول ولا بتأليف مبشر جَوَّابٍ في الأقطار كلما
ذكرت تهوره لقومه أجابوك: هذا مبشر موسوس مهوس في أمور الدين ونحن لا
نبالي كلام هؤلاء المبشرين.
ولقد كنت اطلعت على هذا الكتاب منذ أشهر ولما لم يكن عندي متسع من
الوقت للرد على جميع ما فيه من مواضع الاعتداء على الإسلام اكتفيت بوضع
علامات على أهمها، ووعدت نفسي بمراجعة هذا العمل في وقت مناسب، ولا
أعني أني أصبحت اليوم ذا ندحة كافية من الوقت لإعطاء هذا الرد حقه، ولكني
رأيت أنه لا بد من أن ننبه المسلمين إلى ما في هذا السفر الخبيث من الأباطيل
المدسوسة على شكل دس السم في الدسم، وسبق أني نبهت إخواننا المغاربة إلى
ذلك في رسالة بعثت بها إلى جريدة (وادي مزاب) الصادرة في الجزائر والتي هي
من الجرائد الفاضلة وضربت مثلا على تحامل المسيو سيكار هذا بما نقله إلى كتابه
عن مؤلف آخر اسمه (ديولافوي) Dieulafoy في حق الرسول صلى الله عليه
وسلم وهو قوله:
(كان يستأكله طمع هائج وشوق لاعج إلى التمتع بجميع الخيرات التي يمكن
الحصول عليها بواسطة الحظ والقوة ولقد وضع تحت تصرف شهواته قوة عقلية
نادرة المثال وثباتًا لا يتزعزع) .
فقلت في الرد عليه: لم نعلم ما الخيرات الدنيوية التي قصدها النبي صلى الله
عليه وسلم وجاهد من أجلها، وما تلك الشهوات التي استخدم السلطان في سبيلها.
الحق أن الرسول عليه السلام لم يكن عنده طمع هائج إلا في نشر كلمة
التوحيد، ولا شوق لاعج إلا إلى استئصال عبادة الأوثان وكسر هاتيك الأصنام في
جزيرة العرب وغيرها، ولم يقصد من وراء قوته ملكًا ولا إمارة لنفسه كما يعلم كل
أحد، ولا بسطة في المال والعقار؛ لأنه عاش فقيرًا ومات فقيرًا، وطالما وجد
مديونًا بشيء ليس بذي بال، مع أنه وجد بين صحابته الموسرون الكبار كعثمان
وطلحة والزبير وغيرهم ممن كانوا يفدونه بحياتهم فكيف كانوا لا يفدونه بمالهم لو
رضي هو بذلك لنفسه، وإنما كان يستجيدهم البذل في تجهيز بعوث المسلمين
والمصالح العامة.
وأما إنه تزوج بكثير من النساء مما لا يزال يتقعر به بعض الأوربيين فهذه
سنة الأنبياء ولقد تزوج أنبياء بني إسرائيل أكثر منه ولا يزالون أنبياء في نظر هؤلاء
المنتقدين المصدقين بالتوراة، وأغرب من هذا أن داود مروية عنه في التوراة حادثة
(أوريا) وأنه أحب امرأة وقتل لها بعلها وهو برغم هذا معدود من الأنبياء [1] فنبي
الإسلام كان يأمر بالزواج والإكثار منه ويكره التبتل وينهى عن الرهبانية ويقول:
(تزاوجوا [2] تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة) أو نحو ذلك.
وهذه هي القاعدة العصرية بعينها فاليوم الأوربيون مجمعون على أن أحسن
الأمم مستقبلاً أكثرها نسلاً فيكون الرسول صلى الله عليه وسلم هو قدوتهم في هذا
الرأي، ولعمري متى كان الزواج حلالاً بل كان من السنن الإلهية التي لا يعمر
الكون إلا بها، فما معنى انتقاده من جهة الكثرة؟ وما معنى الافتخار بالتبتل وقطع
النسل الذي كان ينبغي أن يعيش ليسبح بحمد الله ويزيد في عمارة الأرض، ولقد
ثبت زائدًا إلى ذلك بتقارير الأطباء من الأوربيين بعد الاطلاع على الحوادث الكثيرة
من المستشفيات وغيرها أن التبتل يورث أمراضًا كثيرة وأن المتبتلين المخالفين
لمقتضى الطبيعة البشرية يضطرون إلى ممارسة أمور يُسْتَغْنَى عن ذكرها بالإشارة
إليها من طرف خفي
…
وإنها قد تقع مع أشد الناس تدينًا وترهبًا، وإن من هؤلاء
من يريد التخلص من أزمة الاتعاظ هذه فيخصي نفسه، فهل على هذه الحالة يأسف
دعاة التبتل ومنتقدو الزواج الذي أحله الله أم على الزنا وغيره من الممارسات
الشائنة المضرة بالعقل والبدن التي يدعو إليها الاكتفاء بالمرأة الواحدة التي إذا
تجاوزت الستين وأحيانًا الخمسين وأصبحت من الكبر بحيث لا يهفو إليها قلب
زوجها تعرض زوجها لكبيرة الفاحشة وللتجاوز على حرم الغير.
وانتقدوا الرسول صلى الله عليه وسلم من جهة القتل وسفك الدماء ونسبوا إليه
القسوة [3] وأخذ بعض المستشرقين يبحثون عن وقائع الإسلام الأولى وغزوات
النبي وأصحابه ليستخرجوا منها أدلة على دعواهم، وجواب هذا كالجواب الأول
وهو أن النبي قاتل من أجل إبطال الشرك ورحض العقول من عبادة الأحجار
والتماثيل من العجين والسجود للشمس والنار
…
إلخ، وهذه هي المعرات التي
تهوي بالنوع الإنساني إلى الدرك الأسفل، ولم يكن ليستغني عن إرهاف الحد في
سبيل التوحيد ولو كان قادرًا أن يستغني عن شهر السيف لكان أحب شيء إليه،
ولو أن الوعظ وحده كان جازيًا ما لجأ صلى الله عليه وسلم إلى السيف، هذا إلى
أنهم كانوا قد أهانوه وأخرجوه وحاولوا قتله وقتل دعاية التوحيد معه، وهذا أمر قد
سبقه إليه موسى عليه السلام، وأنبياء بني إسرئيل ولم يخرجهم ذلك عن كونهم
أنبياء حتى في نظر هؤلاء المنتقدين، وكذلك غنم أموال الأعداء واسترقاق بعضهم
بعد الغلبة عليهم كان ذلك من أوضاع تلك القرون وكان القتال بدونه متعذرًا، ولقد
جاء في التوراة من هذه الوقائع ما هو أعظم من هذا بكثير، ولعمري لماذا لا
ينتقدون أعمال أنبياء بني إسرائيل الجارية بأمر الله تعالى ثم لماذا لا ينتقدون كلثين
أحد مؤسسي البروتستانتية الذي ثبت أنه أحرق أناسًا بالنار، ثم لماذا لا يفكرون في
الغنائم التي تتقاسمها الدول الأوربية اليوم من أموال العدو وأملاكه، وهي ما
يطلقون عليه اسم الغرامة الحربية، وهو لا يفترق في شيء عن تلك الغنائم إلا من
جهة القلة والكثرة، فالغنائم التي كان يقسمها الرسول على المجاهدين في سبيل الله
كانت بعض أباعر وشياه وأوقار من حنطة أو شعير مما لا يقطع شأفة قوم ولا يقسم
ظهر أمة، ومما يعتاض منه ويسهل تجديده، ولكن دعاة المدنية الأدعياء اليوم
يضربون الغرامات التي تدكدك الجبال فكيف الرجال ويسترقون الأمم لا الأفراد
ويضمون كل ذلك إلى خزائنهم لينالوا به السعة والثروة ورفاهية العيش، والرسول
صلى الله عليه وسلم لم ينشد في مغازيه كلها ثروة ولا رفاهية معيشة ولا قصد
بفتوحاته عزًّا ولا سلطانًا، وإنما كان عزه وسلطانه تلقين شهادة لا إله إلا الله وأينما
عرف بصنم في الجاهلية أمر بكسره.
فمن هنا تعرف مقدار تحامل (سيكار) و (دولافوي) وأضرابهما على محمد
صلى الله عليه وسلم وما يرمونه به مما البراهين ساطعة كالشمس على بطلانه،
ولم يكن الرسول قاسي القلب ولا تشدد إلا عندما كان الإسلام في ضعف وفي مقام
المقابلة بالمثل، وأما في الحقيقة فلقد كان رءوفًا رحيمًا، وفينا أمينًا برًّا، وعندما
أرسل عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل في سرية أقعده بين يديه وعمَّمه بيده،
وقال: (اغز باسم الله وفي سبيل الله فقاتل من كفر بالله ولا تغلّ ولا تغدر ولا
تقتل وليدًا) وعندما سار أسامة لغزو الشام قال له أبو بكر ما يلي:
(ولا تخونوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلاً ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأةً
ولا تعزقوا نخلاً ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرةً مثمرةً ولا تذبحوا شاةً ولا بقرةً ولا
بعيرًا إلا للأكل، وإذا مررتم بقوم فرَّغوا أنفسهم إلى الصوامع فدعوهم وما فرَّغوا
أنفسهم له، وإذا قدم لكم الطعام فاذكروا اسم الله عليه، يا أسامة اصنع ما أمرك به
رسول الله ببلاد قضاعة ولا تترك من أمره شيئًا) .
فأبو بكر رضي الله عنه إنما كان يلقن أسامة وصايا رسول الله نفسه وهذه
الوصايا هي أعلى جدًّا من وصايا الأمم الأوربية (المتمدينة) التي تجيز قتل
الأطفال والنساء والعاجزين بالطيارات، وتصب من السماء عليهم القناطير وألوف
القناطير من الديناميت بدون تأمل فيما يهلك بها من المخلوقات، التي يأنف الشهم
الكريم أن يقذف عليها بحصاة.
وأما عدم قطع النخيل، وما شاكله وهو محرَّر أيضًا في الشريعة الإسلامية
مع منع هدم البيوت ومنع قتل الأنعام في بلاد العدو ومنع قتل المُدْبِر فقابِلْه بما عمله
الأوربيون في الحرب العامة بعضهم ببعض من حرق وقطع وحطم ونسف عمران
وخنق بالغاز وغيره.
وأما ترك الرهبان يتعبدون في صوامعهم فقابِلْه بما جرى في الحرب العامة
من الاعتداء على الرهبان والراهبات وسل الفاتيكان عن الذي حل بالراهبات
…
في بلاد لا نريد أن نسميها وأغرب شيء فيه أنه ثبت كون الفاعلين بالراهبات لم
يكونوا من جنود الأعداء بل من جنود تلك البلاد نفسها.
وبعد هذا لا يستحي سيكار وديولافوي ولامنس اليسوعي وهو من المؤلفين
الذين يستشهد بهم صاحب كتاب (العالم الإسلامي في الأملاك الفرنسوية) وكثير
من هذه الطبقة من التشنيع بشريعة الإسلام ومحاولة التجريس بمؤسسيها.
وإني مضطر إلى الإمساك بعنان القلم عن الخوض في جميع ما خاضوا فيه
من المسائل التي تعرضوا فيها لعقيدة الإسلام ولسيرة رجاله إذ كان الأخذ والرد لا
بد من أن يجرا البحث إلى ما يمس عقائد الملة التي ينتمون إليها، ولست ممن
يرغب في هذا الشأن ولا ممن يرونه ضروريًّا، بل مذهبي في هذا المقام مجرد
الدفاع بدون تعرض إلى عقيدة أهل الكتاب في عرض الجدال، فإن ذلك يُوغِر
الصدور ولا يخفف من الشنآن، وإنما يقدر الكاتب أن يخوض في سيرة الأقوام التي
ينتمي إليها أولئك المفترون وبين مسافة الخلف بين أقوالهم وأفعالهم، وبهذا كفاية.
وكذلك يستحب تنبيه المسلمين على دسائس هؤلاء في البلاد التي يستعمرونها
ويحاولون تحويل عقائد أهلها بمختلف الأساليب ونقل ما ينشرونه بحق الإسلام
وتقدمه وتأخره وامتداده وتقلصه ونهوضه وعثاره حتى يعلم المسلمون من أين يأتيهم
العدو، ومن هذا القبيل فصلٌ عَقَدَه صاحب هذا الكتاب على (التدرج) العصري
الذي وقع في الإسلام، وأدار أكثر الكلام فيه على الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده
رحمه الله والأستاذ الحجة السيد رشيد رضا أبقاه الله، وسنترجم هذا الفصل في
الجزء الثاني من المنار، ونعقب عليه بما يلزم إن شاء الله تعالى.
لوزان في 14 يناير 1929
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... شكيب أرسلان
_________
(1)
المنار: ساق أمير البيان هذا بطريق الإلزام لأولئك المعترضين من المؤمنين بأسفار العهد العتيق، والإلزام يكون بما يعتقد الخصم، وإن لم يعتقده المستدل به ونحن المسلمين لا نؤمن بما يروونه من قصة أوريا بنصوصها عندهم.
(2)
لفظ الرواية تناكحوا فذكره بالمعنى للسبب المعروف، والحديث رواه عبد الرزاق عن سعيد بن أبي هلال مرسلاً.
(3)
المنار: تواترت الروايات بأنه صلى الله عليه وسلم كان أرحم الناس وأشجعهم وأن غزواته كلها كانت دفاعًا ولم يقتل بيده إلا واحدًا وصل إليه يريد قتله فسبقه صلى الله عليه وسلم.
الكاتب: محمد رشيد رضا
تطور الاعتقاد بألوهية المسيح
قد سبق لنا نشر بعض مباحث بعض رجال الكنيسة الإنكليكانية في هذه العقيدة
التقليدية، وجزم بعضهم بأن المسيح عليه السلام ما ادعى الألوهية قط، والآن قد
جاءنا من بعض قراء الجرائد الإفرنسية اللغة في هذا الموضوع ما يأتي:
إن جريدة (جورنال دوجنيف) التي تصدر في جنيف هي من الجرائد
المشهورة بالتعصب للمسيحية البروتستانتية حتى لا تُقَاس بها جريدة أخرى في هذا
الباب إلا إذا كانت جريدة (غارت دولوزان) وإنما كانت الأولى أعلى مقامًا بين
الجرائد.
وكلتا هاتين الجريدتين لا تدع فرصة نتحامل فيها على الإسلام إلا توردتها مع
هذا ليتأمل القارئ المقالة التي نشرتها جريدة (جورنال دوجنيف) في تاريخ الأحد
27 يناير سنة 1929 الحاضرة تحت عنوان (ألوهية يسوع المسيح) قالت: (إن
مشكلة طبيعة المسيح هي قديمة بمقدار قدم المسيحية، فمنذ القرون الأولى للكنيسة
ثارت على هذه المسألة المجادلات الكبرى اللاهوتية (أي الكلامية) واختلفت
المجامع وأحدثت أعظم الانشقاقات التي عرفتها الكنيسة في صدر النصرانية.
ولا تزال هذه المسألة كما كانت منذ عشرين قرنًا شغلاً شاغلاً لأفكار المتدينين،
ولا تزال الكنائس كلها كاثوليكية كانت أم بروتستانتية تدين بألوهية المسيح،
وتبني على هذه المقدمة جميع علم اللاهوت المسيحي.
على أنه إذا كان المسيح إلهًا تكون إذًا المسيحية عابدة إلهين، ولا تكون حينئذ
ديانة توحيد، وهذا هو الاعتراض العظيم الذي يوجهه عليها المسلمون، فالاعتقاد
بألوهية المسيح يستلزم نظرية عقلية فيما يتعلق بعلاقات الأب والابن، ونرجع
حينئذ إلى المجادلات الأولى، فهل يا ترى تقررت هذه النظرية بشكل جازم إلى
الأبد بموجب قرارات المجامع؟ الجواب: نعم هكذا تقول الكنيسة الأرثوذكسية،
وهل يحكم بذلك البابا بصورة معصومة من الغلط؟ الجواب: هذا هو قول الكنيسة
الرومانية.
فما مركز البروتستانتية في هذه المسألة الجلى؟ كم هم البروتستانتيون الذين
يعلمون هذا جيدًا؟ لا شك أن هذه المسألة قد تلونت وتحولت، وأنه لا يوجد
بروتستانتي معتصم بدينه يقدر أن يعطي على هذه المسألة جوابًا قاطعًا غير قابل
للتغيير، فالإيمان يستند إلى التوراة وإلى أعمال الرسل والتاريخ، ومقرَّرات
المجامع هي عناصر مهمة يتكون منها الإيمان، ولكن الإيمان هو قبل كل شيء
مسألة شخصية، ويجب أن يطبق على احتياج الأشخاص أي على احتياج أهل
أوربة.
فهذا التأليف بين الضرورات المقارنة للحقائق الأبدية والاحتياجات الروحية
المتحولة هو من أشد المسائل إشكالاً في اللاهوت البروتستانتي.
فالأستاذ أوغست لومتر LEMAITRE AUGUST الذي سيحاضر مساء
الأربعاء 30 يناير بدعوة جمعية أصدقاء الفكرة البروتستانتية فيتكلم عن هذه
المعضلة المحزنة هو ضد الإفراط في الفكرة العصرية المحتقرة للسلام، كما أنه
ضد الجمود السهل والرجوع إلى الصيغ القديمة، فكيفية البحث في جوهر الإله
وكيفية فهم كُنْه المسيح كما هو في التاريخ تتحولان بمرور الأعصار، فمن الجائز
أن العلاقة بين المسيح والإله لا يقال عنها كلمة جازمة الآن، ولا في وقت من
أوقات التاريخ، ويحسن المصير إلى تعديل دساتير الإيمان عصرًا بعد عصر مع
مراعاة التقليد تمامًا لكن مع إرادة تامة بتسهيل المناسبات الحقيقية بين هذا التقليد
والعصر الحالي.
وإن شخصية الأستاذ لومتر الذي يدرس الديانة في معهد اللاهوت كفيلة
لسامعي محاضرته بساعة تتجلى فيها الآراء الدينية الصائبة والأفكار العقلية العالية
اهـ. مترجمًا بالحرف.
والحقيقة أن هذه الجمل المبهمة التي تحاول بها الجريدة والمحاضر المذكور
تسهيل الانتقال من طور إلى طور لا يمكنها أن تغير جوهر الموضوع، فالعصر
الحاضر أصبح برقيّ العلم وانتشار المعرفة لا يمتزج بوجه من الوجوه مع القول
بألوهية المسيح
…
وإن كثيرًا من الأوربيين قد نفضوا أيديهم من الدين المسيحي
بتاتًا بسبب هذه العقيدة.
فكثير من المسيحيين البروتستانتيين يقصدون إلى دعم المسيحية العصرية
بالاعتقادات المعقولة خوفًا على الدين المسيحي من الانهيار التام، وقد بدأوا في
إنكلترة حتى بين الأساقفة والقسوس يبحثون في إلغاء القول بألوهية سيدنا عيسى
عليه السلام، وطالعنا في مجلاتهم الدينية كلامًا صريحًا في ذلك.
وهنا الأستاذ لومتر وجريدة جورنال دوجنيف يريدان أن يقولا: إنه إذا كانت
بعض الأعصر الغابرة قد تلقت عقيدة تأليه المسيح بالقبول - لعوامل سياسية، وقد
كان تقرير هذه العقيدة في المجامع بأكثرية الآراء على حين أن الأكثرية لا شأن لها
في أمور عقلية فلسفية كهذه - فالعصر الحالي لا يقدر أن يقبلها ولذلك كان يجب أن
يكون لكل عصر مسيح حَرِيٌّ به لائق بدرجة مداركه.
ونحن نقول لهما: لولا الملوك والسياسة كانت الأعصر السالفة أخذت بقول
آريوس أيضًا، وآمنت بأن المسيح رسول الله كما يعتقد المسلمون.
وستتغلب هذه العقيدة في أوربة وأمريكا بالتدريج وتقبلها الكنائس بصورة
رسمية.
(المنار)
وحينئذ يعلم هؤلاء وغيرهم أن القرآن قد بيَّن على لسان محمد النبي الأمي
صلى الله عليه وسلم ما خفي على أهل الكتاب من حقيقة دين المسيح، وأصله الذي
هو التوحيد وكونه كان نبيًّا رسولاً، وما غشي هذه العقيدة من تحريف وتبديل،
وتأويل وتحويل، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: 53) .
على أن المستقلين في الفهم والمحققين في العلم من رجال الكنائس كلها
يعلمون أن ما جاء بالإسلام من تصحيح العقائد المسيحية في التوحيد ونبوة المسيح
عليه السلام هو الحق، وأن عقيدة التثليث والعشاء الرباني لا يقبلهما عقل، ولم
يتواتر بهما عنه نقل، ولكنهم يخشون أن يصرِّحوا بذلك فتنفصم عُرَى الكنيسة
وتنحل كل جامعة نصرانية، ويصير جميع النصارى أحرارًا في اعتقادهم فيدخل
الباحثون منهم في الإسلام أفواجًا، وقد نقلنا أصل هذه المسألة عن لاهوتي كاثوليكي
كبير في سورية طردته الكنيسة البابوية من رعيتها لحرية رأيه وعلمه في الدين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
المؤتمر النجدي الشوري العام
ومثال ديمقراطية الإسلام
(ننقل تفصيل هذا النبأ العظيم عن العدد 208 من جريدة (أم القرى)
الغراء ثم نُقَفِّي عليه ببيان ما فيه من الفوائد والعبر) قالت الجريدة:
عوامل الاجتماع
لقد علم القاصي والداني ما كان من نقض العراق لعهودنا واختراقها لحرمة
استقلالنا، وامتهانها لمبادئ الحقوق المتبادلة بين الجوار، ونصبها لحبائل الشر
بإقامة حصون بصيه والشبكة والسلمان، وعزمها على إتمام ذلك بسلسلة من
حصون تطوق بها نجدًا في أراضٍ هي ملك نجد وأهله من قبل ومن بعد، وإنما
ظروف قاهرة مجبرة حكمت بالتنازل عن تلك الأراضي بالكره للعراق على أن تبقى
مرتعًا للجميع فاتخذتها حكومة العراق قاعدة لحصون ومعاقل تريد بها في الظاهر
حفظ الأمن في دارها وفي الباطن والحقيقة ليس لها منها غرض غير جعلها مركزًا
لمهاجمة نجد ومنع أهل نجد من ارتياد مراتعهم ومياههم كما نص على ذلك في بنود
عهدية صريحة لا تحتمل تأويلاً ولا تضليلاً.
غضب لذلك أهل نجد في العام المنصرم غضبتهم، وظهرت بوادر غيظهم
ونقمتهم ببضع غزوات قام بها بعضهم واجتمع منهم لغزو العراق كله دفاعًا عن
بلادهم الذين ظنوا أن الاعتداء على الآمنين من أهل نجد في عقر دارهم مما يُسَكِّن
جأش الغاضبين من نقض العراق لعهده في بناية تلك الحصون، فكان جوابهم أن
غلت مراجل القلوب، وانكشف الغطاء عما في الصدور، من أن هذه النفوس
العربية المنحدرة من أصلاب الشم الأشاوس، أباة الضيم من العرب الخالدين
بمآثرهم وأخلاقهم لن تقر على ضيم، ولن ترضى بالدَّنِيَّة، وأنه لا سبيل إلى
صبرها على انتقاص شيء من كرامتها، أو خفر مثال حبة من خردل من ذمتها،
فهبت تلك الهبة التي علم الناس بعض أخبارها، ولم يكن من جلالة الملك في تلك
الأيام الرهيبة التي عزم فيها أهل نجد على أن يبيعوا الدماء فيها بثمن بخس
ويهدروها بغير حساب إلا أن يشد بيديه على تلك النفوس الجامحة فيكبح جماحها
ويرد عصيها ويوقف سيلها بعزمه وحزمه، وقد استعمل في ذلك أسلوب الإقناع
فوعد الذين طارت حلومهم أنه سيوصل نجدًا إلى حقها بطريق السلم والسكينة،
فأطاع الناس أمره، وأمسكوا على أنفسهم يستنجزونه وعده، وينظرون ما تأتي به
المفاوضات.
ترك جلالة الملك نجدًا تغلي مراجلها ويمم الحجاز حيث وصل إليه المندوب
المفوض البريطاني ومستشاروه من موظفي العراق، وكان حوار وأحاديث انتهت
بما علم الناس من إصرار الفريق الثاني المفاوض على استبقاء ما بني من قلاع
وحصون وزاد في حراجة الموقف أنه والمفاوضون يتفاوضون كانت سيارات من
في العراق تجوس خلال الديار النجدية والطيارت تصب العذاب على الآمنين
المطمئنين في (لينا) و (جالها) وما والاها من ديارنا النجدية، وكان من جراء
إصرار المسئولين في العراق على ذلك الموقف أن أعلن كل من الفريقين المتفاوضين
صاحبه أننا وصلنا للفشل من مفاوضتنا، ولم ننجح وانقطع حبل البحث على (لا
شيء) .
***
النفس العالية
إن القلب العظيم الذي يشعر بمسئولية عظيمة أمام ربه ثم أمام ضميره الحي
الذي امتلأ شرفًا وشهامة وشجاعة ونبلاً لا يستصغر الموقف الذي وراء انقطاع
المفاوضات على ذلك الشكل وبلاده وشعبه ومحارمه موضوعة على كفه ينظر إليها
ليحميها والخطر يداهم هذا الحمى، أيوقد النار ويضرب القلوب بالحديد حتى تنال
تلك النفوس إحدى الحسنيين، أم يغمض العين على قذى، وذلك ليس من دأبه ولا
شيمته؟ النفوس جامحة، والقلوب طائرة، والأهواء متضاربة، والخصم مُصِرٌّ
على نكثه ونقضه، أيطلق للجواد العنان؟ وإذا أطلقه أين يصل بالجواد المدى؟
ومن يردي إذا عدا؟
***
كتاب الدعوة
إن قوة الإيمان في النفس العالية الكبيرة لتجسم لصاحبها المخاطر وتكثر لديها
المحاذير، أما هذا المواقف وأمام هذه المخاطر العظيمة لم ير جلالة ملك الحجاز
ونجد، وملحقاتها عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل إلا أن يرى السير محفوفًا
بمخاطر لا يريد تحمل مسئوليتها بنفسه، بل رأى أن يكون واحدًا من أفراد شعبه
يتحمل من المسئولية ما يتحمله أدناهم؛ لأن خشيته من ربه وخوفه من عقابه لم
تحمله على تحمل ما يبصر من مستقبل الحوادث، لذلك لما وصل إلى نجد بعث لكافة
أهل نجد بكتاب (يستقيله ببيعتهم ويدعوهم للاجتماع لانتخاب (ولي الأمر) لهم
يسير بهم حسبما يُجْمِعُون عليه أمرهم في الخطة التي يرونها، وإن عبد العزيز بن
عبد الرحمن الفيصل واحد من أولئك الجمع من العرب المسلمين يرى في (ولي
الأمر أو الإمام) ما تراه الجماعة) .
***
تأثير الكتاب
صارت النجائب بصور من الكتاب الرهيب شرقًا ومغربًا وجنوبًا وشمالاً،
تخبر البادية والحاضرة، حتى جاب النبأ نجدًا بكامله في أقل من شهر فضجت نجد
للهول، ولم يكن ما أصابها من سماع ذلك النبأ من ألم وحزن ليوازيه حزن أو ألم
لحادث من حوادث الزمان؛ إذ إنهم يعلمون أن الله بعبد العزيز قد أعطاهم كل ما
يتمتعون به من استقلال وبلاد وأمن وراحة، وكانوا قبله شيعًا وقبائل يعدو بعضهم
على بعض ويتخطفهم الناس من كل مكان، فمهما فقدوا فهم يرجون من الله أن يرده
لهم بفضله ثم بسعي عبد العزيز، ولكنهم إن ترك عبد العزيز أمرهم ضاعت ريحهم
وفقدوا كل شيء.
سمع الناس النبأ فأصابتهم السكرة منه ثم أخذوا يشدون الرحال للرياض
وقلوبهم تطير فزعًا، وقدم أكثرهم النجائب أمامه تنهب الأرض نهبًا؛ لتخبر من
في الرياض أن النفوس طارت خوفًا وفرقًا لنبأ الأنباء، وإننا قادمون طائعين راجين
مستغفرين، ولو أن المجال يتسع لنشر ما ورد من الكتب من جميع أنحاء نجد لرأى
الناس حقيقة الروعة التي أصابت النجديين من ذلك الخبر العظيم.
لقد حاسب كل من تلقى الدعوة العامة نفسه وحادثها في سره ماذا لعل الإمام
نقد عليَّ شيئًا؟ أو تأثر من عمل حتى عزم على ما عزم عليه، أو لعله متألم من
أحد، حيرة ودهشة تدع الحليم حيران وكيف لا يحتار الحليم، ولو سمع أهل نجد
هذا النبأ في أحلامهم لنهضوا منه فزعين؟ فكيف بهم وهو يسمعونه مستيقظين.
سارت نجد إلى سيدها، وكل واحد من رجالها قد وطَّن العزيمة في قلبه أنه
إن كان ما أغضب الإمام عمل من أعمالي فإني أستغفر الله وأتوب إليه وإنني طائع
مستسلم، وإن كان ما أغضبه عمل قريب أو بعيد فهذه النفوس والأموال والعيلات
كلها تفدي دونه، ذلك هو الشعور العام الذي استولى على جميع من وفد إلى الرياض
في هذا الاجتماع العظيم.
***
قبيل المؤتمر
وصل الناس للرياض وفدًا وفدًا، وكان كل وفد حين يقابل الإمام يقص له ما
كان للخبر من وقع أليم لديه، وكانت دموع الكثيرين تسبق ألسنتهم، إذ ما كانوا
يظنون أن سيسمعوا تخلي إمامهم عنهم، وكان الإمام يطمئنهم بأنه على كل حال
نازل على رأي الجماعة في هذا الأمر، وقد بلغ ببعضهم أن أرسل الكتاب معلنًا
السمع والطاعة، ولكنه غلظ الأيمان بأنه لا يحضر مجلسًا يذكر فيه خبر تنازل
الإمام عن إمامته، ولم يكن سعي المؤتمرين في مجالسهم الخاصة قبيل المؤتمر
ليتناول معالجة شيء أهم من هذا الأمر حتى تمكنوا في النتيجة من حمل جلالة
الملك على عدوله عن رأيه في هذه القضية، ثم نظرًا لأن موعد اجتماع المؤتمر
كان في منتصف ربيع الثاني وتأجل إلى منتصف جمادى الأولى ربما تصل بقية
الوفود فقد كان لدى الوفود التي وصلت الرياض متسع في الوقت لدرس المواضيع
التي يمكن أن تكون موضوع المناقشة في المؤتمر، وقد عقد لذلك مجالس متعددة
خاصة وتبادل أكثر الزعماء الرأي مع جلالته في كثير من الشئون الداخلية
والخارجية حتى أصبح هناك رأي عام متحد في مواضيع البحث ونضوج في
الأفكار توفر من أوقات المناقشات داخل المؤتمر، ولم يدخل الناس المؤتمر حتى
كادوا يكونون مجتمعين على قرار واحد سواء في الأمراء أو العلماء أو الزعماء أو
القادة.
وإن العربي الناظر لهذه الاجتماعات والسامع لتلك المحاورات لتأخذه أريحية
ويخامره سرور لهذا التبادل الذي يراه في التطور الفكري في قلب هذه الجزيرة
العربية؛ إذ يرى أن أولئك البُدَاة الحُفَاة الذين لم يكن الرجل منهم يدرك وينظر لأبعد
من الوصول لشهواته البدنية من مأكل ونكاح أخذت تبدو عليه علائم الجد والنشاط
للبحث والتفكير بحماسة واهتمام في أمور دينية لها علاقة عظيمة بأمور الاجتماع
والعمران والسياسة ويناقش كل موضوع بما فطر عليه من ذكاء وفطنة فتسمع كلامًا
جميلاً وقولاً سديدًا.
***
لغة المؤتمر
ومما هو جدير بالذكر قبل رواية ما كان في المؤتمر أن أذكر شيئًا عن اللغة
التي كان يتكلم بها المؤتمرون فهي بالضرورة اللغة العربية، ولكني شهدت كثيرًا
من المؤتمرات والمجتمعات في حواضر المدن من مصر وسوريا، وفي تلك
المؤتمرات خلاصة المتعلمين في تلك الأمصار، ويمكنني أن أقول: ولست بمسرف
ولا جانف أن من كانوا يتكلمون في مؤتمر الرياض كانوا أفصح لسانًا وأقوى بيانًا،
وإنك لتسمع للفظ العربي الفصيح رنة في الأذن تسترعي السمع أكثر من ذلك اللفظ
الذي كان يتداول في مؤتمرات الأمصار في اللفظ العامي الساقط الذي ينبو عنه سمع
الأديب الذي مارست حافظته القول العربي الرصين من أقوال العرب الأولين وكان
يعجبني من بعضهم؛ إذ كان يرتجل الأسجاع الرصينة التي لا أثر فيها للتكلف ولا
يخامر السامع ريب في أنها مرتجلة، ولم تكن أعدت لتقال، وقد يكون ملقيها ممن لم
يحسن القراءة والكتابة، وإن آسف في هذا المؤتمر فلأني لم أوفق لأن أنقل أقوال
القائلين بألفاظها، ولكني كنت أقيد المعاني وأعد القراء بأني لم أهمل معنى ذكر في
ذلك الاجتماع إلا نقلته لهم.
***
نظام المؤتمر
لقد كان الوافدون يعدون بالألوف، ولذلك كان من المتعذر أن يدعى الجميع
للحضور والاشتراك في الكلام فاختير من بين هذه الجموع العلماء والأمراء
والرؤساء والقادة فبلغ عددهم الثمانمائة أو يزيدون، وقد عرضت أسماؤهم بقائمة
خاصة على جلالة الملك، فأمر بدعوتهم فردًا فردًا، وأخبروا أن موعد الاجتماع
سيكون الساعة الثانية من صباح يوم الإثنين الواقع في 22 جمادى الأولى، وقد
أعدت غرف انتظار خاصة يجمع كل فريق من المؤتمرين فيها حتى يتكامل عددهم
فخصصت غرفة لانتظار العلماء وغرفة أخرى لانتظار أمراء الحاضرة ورؤسائهم
وغرفة لانتظار رؤساء الهجر من القبائل، وعُيِّن لكل غرفة من هذه الغرف خدم
ومستقبلون يتلقون الوافدين ويجلسونهم في أماكنهم، وقبيل الوقت المضروب
بنصف ساعة تقريبًا شرف جلالة الملك مكان المؤتمر وجلس في مجلسه المُعَدّ له
وكان حوله أصحاب السمو الأمراء من رجال العائلة المالكة وجلسوا بين يديه
يتحدث إليهم ببعض الشئون، ولما لم يبق للموعد غير دقائق معدودات أمر بصاحب
الضيوف إبراهيم بن جميعه، فحضر وسأله هل تكامل جميع المدعوين فأخبر
بأسماء بعض من تأخر، فأمر بتأخير الاجتماع بضع دقائق حتى وصل الخبر
لجلالته باستكمال عدد المجتمعين، فنادى ببعض رجال حاشيته وعين مواقع كل
فريق من المؤتمرين فجعل العلماء في الصف الأول عن يمينه وشماله وكان الشيخ
عبد الله بن بليهد والشيخ عمر سليم والشيخ العنقري عن يساره، وتبعهم بقية العلماء
عن اليمين والشمال، فلما استقر بعلماء المجلس نودي أهل حواضر المدن فجلسوا
بعد العلماء عن اليمين والشمال فملأ الجميع محيط الرواق من جوانبه الأربع ثم
نودي برؤساء الهجر من قبائل العرب فدخلوا هجرة هجرة وقبيلة قبيلة وجلسوا صفًّا
صفًّا مقبلين على جلالة الملك بوجوههم وقد احتمل هذا الترتيب وعمله ما يقرب من
15 دقيقة إلى أن غصَّ المكان بالمدعوين.
***
مكان المؤتمر
لم يكن المؤتمر الذي اجتمع فيه المؤتمرون ذا أبهة وفخار، ولكنه كان يمثل
البساطة العربية والديموقراطية الإسلامية العربية التي يتساوى فيها الكبير والصغير
لقد كان المجتمعون كما يرى القارئ لا يقل عددهم عن ثمانمائة مندوب بين أمير
وعالم ورئيس، وإيجاد مكان فسيح في بلد مثل الرياض يسع مثل هذا العدد الوفير
ليس من الهينات لذلك أمر جلالة الملك أن يختار للمؤتمر أكبر مكان يوجد في قصر
جلالته فاختير لذلك رواق في بيته الكبير من قصره تبلغ مساحته 238 مترًا مربعًا
وقد فرشت أرض الرواق بسجاد جميل وبُسُط أنيقة وصُفَّت المساند على الأطراف
ولم يتميز مقعد جلالة الملك في ذلك المؤتمر الحافل بغير وسادة وضعت عن يمينه
كان يسند يده إليها في بعض الأحيان، وكان الرواق مكشوفًا للسماء فنصبت في
مشرق الشمس منه بعض أقمشة من (الشراع) لصد الشمس عن المجتمعين، وقد
فرشت بعض الأروقة التي حول الرواق الكبير بالسجاد أيضًا لجلوس المستمعين
فيها كما أعد في الطابق العلوي مقاعد لبعض المستمعين الذين لا يشتركون في
أحاديث المؤتمر.
***
أحاديث المؤتمر
فلما استقر بالوافدين المجلس وأخذ كلٌّ مكانه أمر جلالة الملك بالقهوة فأديرت
على الحاضرين ولم تمر إلا هنيهة حتى تناول الجميع القهوة ثم أقبل جلالته على
الجالسين فحمد الله ثم قال ما خلاصته:
خطاب جلالة الملك
(أيها الإخوان: تعملون عظم المنة التي مَنَّ الله بها علينا بدين الإسلام؛ إذ
جمعنا به بعد الفُرْقَة، وأعزنا به بعد الذِّلَة، واذكروا قوله سبحانه: {وَقُلِ اعْمَلُوا
فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} (التوبة: 105) إن شفقتي عليكم وعلى ما مَنَّ الله به علينا
وخوفي من تحذيره سبحانه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا
بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) كل هذا دعاني لأن أجمعكم في هذا المكان لتتذكروا أولا
ما أنعم الله به علينا فنرى ما يجب عمله لشكران هذه النعمة، وثانيًا لأمر بدا في
نفسي وهو أنني خشيت أن يكون في صدر أحد شيء يشكوه مني أو من أحد نوابي
وأمرائي بإساءة كانت عليه أو بمنعه حقًّا من حقوقه، فأردت أن أعرف ذلك منكم
لأخرج أمام الله بمعذرة من ذلك وأكون قد أديت ما عليَّ من واجب، وثالثًا لأسألكم
عما في خواطركم وما لديكم من الآراء مما ترونه يصلحكم في أمر دينكم ودنياكم.
إن القوة لله وحده وكلكم يذكر أنني يوم خرجت عليكم كنتم فِرَقًا وأحزابًا يقتل
بعضكم بعضًا وجميع من ولاه الله أمركم من عربي أو أجنبي كانوا يدسون لكم
الدسائس لتفريق كلمتكم وإنقاص قوتكم لذهاب أمركم، ويوم خرجت كنت محل
الضعف وليس لي من عَضُد ومساعد إلا الله وحده ولا أملك من القوة غير أربعين
رجلاً تعلمونهم، ولا أريد أن أقُصّ عليكم ما مَنَّ الله به عليَّ من فتوح ولا بما فعلت
من أعمال معكم كانت لخيركم؛ لأن تاريخ ذلك منقوش في صدر كل واحد منكم،
وأنتم تعلمونها جميعًا وكما قيل (السيرة تبين السريرة) إنني لم أجمعكم اليوم في
هذا المكان خوفًا أو رهبًا من أحد منكم فقد كنت وحدي من قبل وليس لي مساعد إلا
الله فما باليت بالجموع، والله هو نصرتي، وإنما جمعتكم هنا في هذا المكان لأمر
واحد ولا أجيز لأحد أن يتكلم هنا في غيره، ذلك هو النظر في أمر شخصي،
وحدي فينبغي أن تجتنبوا في هذا المجلس الشذوذ عن هذا الموضوع، ولا أبيح
لأحد أن يخاصم في المجلس أحدًا في رأيه ولو أخطأ فالجميع أحرار فيما يتكلمون به
في هذا الموضوع، أما الأشياء الخارجة عن هذا فسأعين لكم اجتماعات خاصة
وعامة في غير هذا الاجتماع العلني ننظر فيها بجميع الشئون التي ينبغي النظر فيها
من سائر شؤوننا.
أريد منكم أن تنظروا أولاً، فيمن يتولى أمركم غيري، وهؤلاء أفراد العائلة
أمامكم فاختاروا واحدًا منهم، ومن اتفقتم عليه فأنا أقره وأساعده، وأحب أن تكونوا
على يقين بأنني لم أقل هذا القول استخبارًا أو استمزاجًا؛ لأنني ولله الحمد لا أرى
لأحد منكم مِنَّة عليَّ في مقامي هذا، بل المنة لله وحده، ولست في شيء من مواقف
الضعف حتى أترك الأمر لمنازع بقوة، سواء كان المنازع ضعيفًا أو قويًّا، وسواء
كنت في كثرة أو قلة وما يحملني على هذا القول في هذا الموقف الذي لا فضل لأحد
في وقوفي فيه إلا الله وحده الذي نصرني وأيدني إلا أمران: الأول محبة لراحتي في
ديني ودنياي، والثاني أني أعوذ بالله أن أتولى قومًا وهم لي كارهون، فإن
أجبتموني إلى هذا فذلك مطلبي ولكم أمان الله أنه من يتكلم في هذا فهو آمن ولا
أعاتبه لا عاجلاً ولا آجلاً، فإن قبلتم طلبي هذا فالحمد لله، وإن كنتم لا تزالون
مصرين على ما كلمتموني به على أثر دعوتي لكم فإني أبرأ إلى الله أن أخالف أمر
الشرع في اتباع ما تجمعون عليه مما يؤيد شرع الله) .
(أصوات: كلنا مُصِرُّون على آرائنا ولا نريد بك بديلاً)
(فإذا لم يحصل ذلك منكم أن تبحثوا أمر آخر، ذلك هو شخصي وأعمالي
فمن كان له عليَّ أنا يا عبد العزيز شكوى أو حق أو انتقاد في أمر دين أو دنيا
فليبينه، ولكل من أراد الكلام عهد الله وميثاقه وأمانه أنه حر في كل نقد، يبينه وأنه
لا مسئولية عليه، وإني لا أبيح إنسانًا [1] من العلماء أو من غيرهم أن يكتم شيئًا من
النقد في صدره، وكل من كان عنده شيء فليبينه ولكم عليَّ أن كل نقد تذكرونه فما
كان واقعًا أقررت به وبينت سببه وأحلت حكمه للشرع يحكم فيه، وما كان غير بيِّن
هو عندكم من قبيل الظنون فلكم عليَّ عهد الله وميثاقه أنني أبينه ولا أكتم عليكم منه
شيئًا، وأما الذي تظنونه مما لم يقع فأنا أنفيه لكم وأحكم في كل ما تقدم شرع الله فما
أثبتَه أثبتُه وما نفاه نفيتُه.
لذلك فأنتم [2] أيها الجماعة أَبْدُوا ما بدا لكم بما سمعتموه وبما يقول الناس من
نقد وَلِيّ أمركم أو من نقد موظفيه المسئول عنهم، وأنتم أيها العلماء اذكروا أن الله
سيوقفكم يوم المعرض [3] وستسألون عما سُئِلْتُم عنه اليوم، وعما ائتمنكم عليه
المسلمون فأبدوا الحق في كل ما تسألون عنه ولا تبالوا بكبير ولا صغير وبيِّنوا ما
أوجب الله للرعية على الراعي، وما أوجب للراعي على الرعية في أمر الدين
والدنيا، وما تجب فيه طاعة ولي الأمر وما تجب فيه معصيته، وإياكم وكتمان ما
في صدروركم في أمر من الأمور التي تسألون عنها فمن كتم ما في صدره فالله
حسبه [4] يوم القيامة، ولكل من تكلم بالحق منكم عهد الله وميثاقه أنني لا أعاتبه
وأكون ممنونًا منه، وأني أنفذ قوله الذي يُجْمِع عليه العلماء، والقول الذي يقع
الخلاف بينكم فيه أنتم أيها العلماء فإني أعمل فيه عمل السلف الصالح؛ إذ أقبل منه ما
كان أقرب إلى الدليل من كتاب الله وسنة رسوله أو قول لأحد العلماء الأعلام المعتمد
عليهم عند أهل السنة والجماعة، إياكم أيها العلماء أن تكتموا شيئًا من الحق
تبتغون بذلك مرضاة وجهي فمن كتم أمرًا يعتقد أنه يخالف الشرع فعليه من الله اللعنة،
أظهروا الحق وبينوه وتكلموا بما عندكم) .
***
كلام العلماء
ثم تكلم بعض العلماء وخلاصة ما قالوا: إنا نبرأ إلى الله أن نكتم ما ظهر لنا
من الحق، أو أن تأخذنا في الله لومة لائم، وحاشا لله فما علمنا أنه منذ ولاك الله
أمرنا أننا نصحناك في أمر من الأمور وخالفتنا فيه، ونبرأ إلى الله أن نكون قد
رأينا في عملك عملاً يخالف الشرع وسكتنا عنه، اللهم إلا أن يكون في بعض أمور
يجب علينا أن ننصحك عنها فقط لا يجوز لنا الخروج عليك من أجلها، كما أنه لا
يجوز للرعية الخروج عليك فيها؛ ذلك لأنه ما معصوم إلا محمد صلى الله عليه
وسلم فهو المعصوم من الخطأ والذنوب، أما الأمر الذي يوجب مخالفتك أو يوجب
حضّ الرعية على مخالفتك فيه فيأبى الله، ووالله إننا ما رأينا ما يوجبه فيك وسكتنا
عنه، ولا علمنا من سيرتك وأعمالك إلا حرصك على إقامة شعائر الإسلام واتباع
ما أمر الله به ورسوله في أعمالك.
***
كلام رجال الؤتمر
(إنه كما يرى القراء أن المجتمعين كانوا حول الثمانمائة نفر وإذا كان كل
إنسان سيتكلم فسيضيع الوقت بغير الوصول إلى نتيجة، وحيث إن الموضوع
محصور ومعلوم ما بخاطر كل فريق من الناس فقد ناب عن الحاضرين بالتعبير
عما في نفوسهم فريق من كبار الحاضرين منهم الدويش من أمراء مطير والبهيمة
والفرم والذويبي وابن بخيت من رؤساء حرب وابن ربيعان من رؤساء عتيبة وابن
عمر وابن خشر من رؤساء قحطان.
وقد تكلم هؤلاء بعد أن استأذنوا الإمام بالكلام واستأذنوا الإخوان بالتعبير عن
آرائهم، وكان خلاصة ما قالوه ينحصر فيما يأتي:
يا عبد العزيز: ما يخفاك أننا كنا بالأول بادية نعمل جميع الأعمال المخالفة
للشرع والسمت والشرف وكنا نَعْمَه في طغياننا، فلما مَنَّ الله علينا بهدايتنا للرجوع
إلى هذا الدين كان بفضل الله ثم بسعي آبائك وأجدادك في أول الأمر، وفي الأيام
الأخيرة كانت هدايتنا بفضل الله ثم بمساعيك، فقد تركنا عشائرنا وأموالنا وهاجرنا
لوجه الله، ولا نبتغي إلا مرضاته ووقفنا أموالنا وأنفسنا للجهاد في سبيل الله، لا
نريد بذلك عرضًا من أعراض الدنيا وما نريد إلا أن تكون كلمة الله هي العليا ودينه
الظاهر، وأن يكون رأسنا في هذا الأمر أنت ثم أحد أولادك وأحفادك، وأعمالنا ما
تخفى عليك ونبرأ إلى الله أن نعتدي في القول عليك وما نقول إلا جزاك الله عنا
خيرَ الجزاء، لقد علمتنا ما يجب علينا في ديننا فأعنتنا على هجرتنا، وبنيت لنا
المساجد وقدمت لنا العلماء، وأشركتنا في بيت المال، ورحمت ضعيفنا ووقرت
كبيرنا، ونبرأ إلى الله أن ننازعك الأمر أو أن نترك من ينازعك ما أقمت فينا
الصلاة، وما زلت لم تفعل كفرًا بواحًا معنا من الله عليه برهان، وإننا نسمع
ونطيع ما دمت فينا كذلك ولو ضربت الظهر وأخذت المال، نبرأ إلى الله أن نركن
إليك لدنيا لديك كما نبرأ إليه إن شاء الله أن تكون من قال فيهم: {وَمِنْهُم مَّن
يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} (التوبة: 58) فأنت جزاك الله عنا خيرًا لم تقصر علينا في شيء، فهؤلاء طلبة
العلم الذين أقمتهم فينا نسألهم ما يعرض لنا في أمر ديننا، وما قصروا فيه رجعنا
لأكابر علمائنا الأعلام فاستفتيناهم وأجابونا، وامتثلنا أمر الله، أما وقد ألححت علينا
في القول، فإن كان هناك إشكال لدينا ففي بعض أمور نسردها أمامك وأمام العلماء؛
لأن لبعض الناس في بعضها شبهًا وبعضها في نفوس الناس من أمرها الشيء
الكثير، ونحن نعرضها على مسامع الجميع إذا سمحت بذكرها، فقال جلالة الملك:
كل ما بدا لكم في أمر أعمالي فلا تكتموا منه شيئًا وقولوه:
فقالوا: أولاً مسألتان واحدة منها سأل عنها بعض الإخوان وأجيب عنها وقنع
بها وبعضهم لا يزال يذكرها ولا بد من سماع قول العلماء فيها لينتهي مشكلها على
وجه صريح تلك هي مسألة (الإتيال) فإنه يقال: إنها سحر ولا يخفى حكم السحر
والسحرة في الإسلام، وأما المسألة الثانية فهي: من الواجبات ونخشى أنك إن لم
تقم بها كما يجب نخاف أن يسلط الله علينا أَعْدَاءَنَا بسبب تركنا لها، وهي المرادة
بقوله تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ
فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ
عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: 40-41) تلك هي تعاليم الدين على وجهه الصحيح فإنا
رأيناك في الأطراف التي توليتها قد منعت أهلها من السرق والنهب وأخذت منهم
الزكاة، ولكننا لم نعلم أنك أرسلت إليهم من يعلمهم أمر دينهم، ونحن نخشى من
سخط الله عليك وعلى علمائنا إن كان في هذا الأمر تهاون.
هذا أولاً، وثانيًا هنا أمر عفنا فيه الأموال والأرواح والبنين وليس لنا من
مقصد فيه إلا مخافة أن يلحقنا في ديننا منه حرج ولا يمكن أن نأمن على أوطاننا
منه ولا تستقيم لنا حياة بوجوده أو وجود أمثاله، وفيه كل الخطر على أوطاننا بل
الخطر منه على رأسك أنت بنفسك يا عبد العزيز، ونحن نتمنى أن يقبض الله
أرواحنا ولا نرى فيك أو في عائلتك ما يسوؤنا، وأنت وحدك المقصود في ذلك من
دون سائر الناس، إننا نحن الرعية إذا أصاب هذه البلاد ضرر فالطيب في دينه
يأوي إلى الكهوف والجبال والخائب يكون كما كان في السابق، ذلك هو الأمر الذي
أمرضنا من زمن ووضع في أكبادنا غصة ولا نستطيع الصبر عليه، وهو أمر
يستوي في التأثر منه يا عبد العزيز الكبير والصغير والأمير والوضيع حتى النساء
في خدورهن، وفي جميع الناس تأثر منه حمية دينية وطنية: تلك هي القصور،
القصور التي قدمها وبناها أعداؤنا في أوطان هي أوطاننا ومراتعنا فماذا يريدون
منها غير الاعتداء علينا؟
إنك تعلم أن البادية كلها باديتنا نحن أهل نجد وتذكر احتجاجنا عليك يوم
جعلت لهم حدودًا في البادية بغير حق، وهل يجوز لك دينك وضع تلك الحدود لهم
في بلادنا؟ فأجبتنا إذ ذاك أن تحديد الحدود ليس معناه تملكًا لهم وإنما الحدود لأجل
بعض المنازعات التي قد تقع بين البادية، وأننا أحرار في مراعينا حيث نشاء من
هذه البادية، وأخبرتنا أنه بناء على معاهدتك معهم في العقير أنهم لا يبنون في تلك
الأراضي أبنية ولا يعملون معسكرات لا على الآبار ولا على المياه فالصبر على
هذه لا يقنعنا فيه غير أمرين: أولا أن تحكم الشريعة في أننا إذا سكتنا وتركنا هذه
المسألة فليس علينا حرج من قبل الله، ولو كان في سكوتنا ضرر على الإسلام
والمسلمين: والثاني أن تقسم لنا أنت بالله أنه لا يوجد علينا من هذه القصور ضرر
في ديننا ولا في أوطاننا لا في العاجل ولا في الآجل، وبغير ذلك فلا والله ما
نتركها قائمة وفينا عرق ينبض أو في أحد منا نسمة من حياة، فكوننا نموت أو نقتل
عن بكرة أبينا هو أفضل بكثير من أن نرى الخطر على ديننا وأوطاننا ونرضى به؛
إن هذا أمر لا يمكن يا عبد العزيز أن نتحول عنه.
وهناك مسألة في خواطرنا غير هذه ونحب أن نبديها لك لتبرأ ذمتنا منها، إننا
لا نريد أن نعترض في أمر من أمور السياسية، ونحن واثقون بالله ثم بك في هذا
الأمر، وعلى كل حال علينا السمع والطاعة لك في الأمر الذي نبديه، ذلك هو منع
الناس من الجهاد وعدم السماح به لتكون كلمة الله هي العليا ودينه هو الظاهر، فهذه
مسألة نذكرك بها لتعلم أنه لو تلفت النفوس ونفدت الأموال فليس ذلك بشيء بجانب الله
من الجزاء للمجاهدين في سبيله، وعلى كل حال فنحن نسمع ونطيع لك فيما تأمرنا به
في هذا.
وأما مسألة القصور فو الله ما يرضى ببقائها ويقرها إلا إنسان (يقر محرمه
على الفساد) يا عبد العزيز أدبك وقتلك لنا وغضبك كله أهون من غضب الله،
وأن تهتك محارمنا ونحن ننظر، فاتق الله في أمرنا وأمرك، ومحارمنا ومحارمك،
واتق الله في أوطاننا، هذا الذي عندنا أبديناه ولم نُخْفِ في صدورنا شيئًا.
ولما فرغ المتكلمون ووصلوا لهذا الحد، وأنصت المجلس قليلاً نادى جلالة
الملك في الحاضرين هل أحد عنده شيء يقال في أعمالي أو عليَّ غير هذا؟ فما
أجاب أحد، ثم كرَّر السؤال ثانيًا وثالثًا فأجابوا ليس لدينا شيء غير ما تقدم.
فالتفت جلالة الملك إلى العلماء وقال: ليتكلم العلماء بما عندهم في شبهة
البعض بمسألة (الإتيال) أولا، فتلا أحدهم فتوى للعلماء في شأنها وخلاصة ما
جاء فيها: إننا لم نعلم دليلاً في تحريمها من كتاب أو سنة ولا من أقوال أحد من
العلماء ولا من أخبار من رواها من الثقاة، ونبرأ إلى الله أن نقول شيئًا بتحريمها
وإن من يقول بتحريمها مفترٍ على الله الكذب ونبرأ إلى الله من حاله:
فقال جلالة الملك أما مسألة الأمر بالمعروف وتعليم الناس دينهم فإننا قد عَيَّنَّا
في جميع البلدان التي توليناها دعاة إلى الله ما عدا بعض عربان في شمال الحجاز
وما عدا العرب الذين قضى الله عليهم هذه الأيام (يعني قبيلة بني مالك جماعة بن
فاضل) فهؤلاء أسعى اليوم في إرسال الدعاة لهم، وإذا كان المشايخ يعلمون
تقصيرًا في هذا السبيل فليخبروني، وأنا أنفذ ما يقولون.
فقال العلماء: إن أمر الرعايا بإقامة دين الإسلام ونفي ضده واجب وأبدى من
كل شيء، وهو من الفرائض التي أوجبها الله على الناس عامة، وعلى ولاة
الأمور خاصة، والذي نعلمه من الإمام أنه مهتم بهذا الأمر، وهو عامل فيه بكل
جهده.
فقال جلالة الملك: أما مسألة القصور فإن القوم يدعون أنكم أنتم الذين بدأتموهم
بالعدوان وذلك بقتل السرية التي أرسلها الدويش لأهل بصيه، ثم غزوات الدويش التي
تبعتها في حين إنني أنا يا ابن السعود ما قمت بذلك، وأنتم يا أهل نجد ما حميتم ذمة
ولي أمركم، وإنهم يزعمون أن هذه القصور ما بنيت إلا مخافة من الخطر منكم:
(الإخوان: نعم إنا نبرأ إلى الله من عمل الدويش وتعلم أننا قاطعنا الدويش
ومن غزا معه، وحرمنا ما حرم مشايخنا من كسبهم ونذكر أننا أتينا إليك وأخبرناك
أننا على استعداد لمهاجمة الدويش ومجازاته ولكن بضمانة شرطين: الأول أن يهدم
القصور المحدثة التي لا نرى لنا حياة بوجودها، والثاني أن يتعهدوا بأنهم لا
يحولون بيننا وبين من نؤدبه كما فعلوا مع جماعة يوسف السعدون، ولم تجبنا إلى
ذلك إلا بعد أشهر حيث أخبرتنا أنهم يقولون بأنهم لا يأوون الدويش إذا فر إليهم،
ولكن القلاع ما زالت قائمة وهو يزيدونها تحصينًا، وما دامت هذه القلاع موجودة
فنقول لك بالصراحة: إن ديننا وحياتنا على خطر، وهم الذين بدأونا بالشر وليس
نحن الذين بدأناهم.
فقال العلماء: إن مسألة القصور وإحداثها أمر نبرأ إلى الله منه ونشهد الله أن
ضررها على الإسلام عامة وعلى العرب خاصة وعلى أهل نجد بصورة أخص
عظيم جدًّا، وما نراها إلا عدوًا نازلاً بساحتنا، وإنه ليس لك يا عبد العزيز إلا أن
تجتهد في إزالتها فإذا أزيلت فأمر الصلح والسياسة إليك وليس لنا، ولا لأحد من
الرعية أن يتداخل فيه، إلا في صلح يُخِلُّ على المسلمين في دينهم أو وطنهم، وأما
مسألة القصور خاصة فإن كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله
ويرضى بهذه القصور فنبرأ إلى الله من حاله، ونقول: إن العمل لإزالة هذه
القصور ليس جهادًا بل هو دفاع عن الدين والمحارم.
فقال الإخوان: لقد سمعت يا عبد العزيز ما قاله العلماء فنسألك بالله ما تقول
في هذه القصور.
فقال جلالة الملك: أقول: إن ما قاله علماء المسلمين في هذا الأمر حق،
وهذا الذي أدين به، وإن ضرر هذه القصور علينا ظاهر وباطن، وأبرأ إلى الله أن
أقول غير هذا، وإن ضررها الدنيوي في العاجل والآجل، ولكن أمر هذه القضية
وإنهاءها ومسألة الجهاد أحب أن يكون الحديث فيها في غير هذا المجلس وأريد أن
تنتخبوا من بينكم مقدار خمسين رجلا أجتمع معهم، وأبين لهم جميع ما عندي في
هذه المسألة لنقرر ما يختاره الله لنا، وأما الذي أقوله على ملئكم ويسمعه صغيركم
وكبيركم أني لا أرى لنا حياة كاملة إلا في صلح يثبت حقوقنا كاملة في دفاع عن
حقوقنا لنصل منه أما للظفر أو نموت مدافعين عن حمانا وأوطاننا هذا الذي أدين الله
به وهذا الذي أعاهدكم عليه.
وكانت دموع الخشوع والإخلاص تسيل على الخدود، ثم قام المجتمعون
جماعة جماعة يجددون البيعة لإمامهم، وهم يقولون: نبايعك يا عبد العزيز على
السمع والطاعة، وأن نقاتل من تشاء عن يمينك وشمالك، ولو دفعتنا إلى البحر
لقطعناه وإنا نبايعك على أن نقاتل من ينازعك ونعادي من عاداك ونقوم معك ما
أقمت فينا هذه الشريعة الطاهرة.
وقد جلس جلالة الملك ما يقرب من الساعة والوفود تتقدم إليه وفدًا وفدًا تبايعه
على ذلك وبين يديه أكبر أنجاله سمو الأمير سعود يقدم الناس إلى أبيه ويرتبهم.
***
المائدة
ولما انتهت البيعة أمر بجفان الطعام وكانت مهيئة فجيء بها وجلس الناس
حولها حِلَقًا حِلَقًا، وجلس جلالة الملك في إحدى تلك الحلقات يأكل مع رجال
المؤتمر من تلك الجفان المترعات وهو يؤانسهم بأحاديثه إلى أن فرغوا من طعامهم
وانصرفوا.
***
الاجتماعات التي تلت المؤتمر
وفي المساء علمنا أن خمسين من الجمع اختلوا بجلالة الملك ودام اجتماعهم
من الساعة الثانية إلى الساعة السادسة ليلاً، وكانت أحاديث لم ينتشر شيء من
أخبارها، ولكن الذي علمناه أن الجميع خرجوا متفقين على خطة واحدة ورأي واحد.
وعلمنا أنه عقب ذلك اجتماعات خصوصية تعددت غير مرة وجميع ما دار
في تلك الاجتماعات من أبحاث وما اتُّخِذَ من مقرَّرَات لم ينتشر شيء منه أيضًا اهـ.
(المنار)
سننشر تعليقنا على هذا المؤتمر التاريخي في الجزء التالي إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
قال في المصباح: أباح الرجل ماله - أذن له في الأخذ والترك وجعله مطلق الطرفين اهـ فأباح يتعدى بنفسه إلى مفعولين.
(2)
هذا الاستعمال من لغة الجرائد فشا في الأمصار وما أظن أن عداوة وصلت إلى نجد من طريق الحجاز ولعله من ناقل الخطاب عبر عنه بالمعنى فزاد فيه كلمة (لذلك) ولا حاجة إليها وما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها.
(3)
كذا في الأصل ولعلها العرض مأخوذ من قوله تعالى: [يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ](الحاقة: 18) .
(4)
لعل أصلها حسيبه فالحسيب المحاسب، والحسب الكافي للمرء ما أهمه وما طلبه.
الكاتب: محمد رشيد رضا
اقتراح على علماء التفسير ومدرسيه في الأزهر
قد نشرنا في ص (280 - 291) من جزء المنار الرابع انتقادًا على تفسير
آية من جزء التفسير الثالث مع الجواب عنه، وقد جاءنا في أثناء تحرير هذا
الجزء رد من المنتقد على ذلك الجواب مؤلف من 22 ورقة كبيرة يظهر أنه ألفها
انتصارًا لنفسه ونقحها من عهد نشر ذلك الجزء من عدة أشهر، إن وقتنا أثمن
وأغلى في اعتقادنا من أن يضاع في نقحها من قراءة الجدل والمراء في العبارات
والرد عليها، وصفحات المنار أثمن وأغلى عند قرائه من أن تنشر فيه أمثال هذه
المناقشات كما صرَّحنا بهذا مرارًا، كان آخرها في الجزء الثامن، لذلك لم نقرأ هذا
الرد الطويل؛ بل نظرنا في أوائل الكلام من بعض أوراقه في أثناء وجودنا في
خارج مكتبنا لقضاء بعض الحاج، ورأينا فيما قرأنا منه على قلته ما لا يكفي في
الرد عليه وتفنيده إلا عدة كراسات أو جزء كامل من المنار، وذلك يقتضي استمرار
الجدل والمراء من صاحبه والانتقال منه من مسألة إلى أخرى انتصارًا للنفس
وانتقامًا لها.
وإذا كان ذلك كذلك رأينا أن نقترح على علماء التفسير ومدرسيه في الأزهر
الشريف الذين يطلعون على المنار وتفسيره أن يراجعوا الانتقاد المذكور والرد عليه
في الجزء الرابع ويبينوا حكمهم فيهما، فإن حكموا بأن عبارتنا في تفسير تلك الآية
نص قطعي في أن قتل الأنبياء قد يكون بحق، وأنها كفر صريح كما زعم المنتقد
فإننا نستغفر الله تعالى ونعترف بأننا أخطأنا في التعبير خطأ لا يعدو ضعف التحرير،
وإن كان المُنْتَقِد بل المُشَنِّع إن لم نقل المكفِّر لنا أو الحاكم علينا بأننا لا نميز بين
الكفر والإيمان - هو المخطئ إما بجهله بمدلولات الكلام وهو أهون الشَّرَّيْنِ، وإما
بسوء قصده في انتقاده - فله الخيار فيما يفعل.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الشيخ عبد العزيز شاويش بك
وفاته وشيء من ترجمته
إن العالم الإسلامي قد خسر اليوم بفقد الشيخ عبد العزيز شاويش رجلاً من
أركان حزب الإصلاح المعتدل الذي هو وسط بين المسلمين الجامدين الخرافيين
والمسلمين الجغرافيين الملحدين، لا عزاء عن فقده إلا بما رأينا من إكبار الأمة
لفقده.
يموت في كل يوم كثير من الأغنياء والوجهاء والحكام وأصحاب الألقاب
الرسمية فلا ينشر في الصحف شيء من خبر موتهم وتشييع جنائزهم إلا ما يرسل
إليها من أوليائهم وأقاربهم، ومنها من تذكر له عملاً نافعًا، وتعد فقده خسارًا بَيِّنًا،
ومنها من تصف الاحتفال بجنازته وكثرة من عز من أقاربه، تزلفًا إليهم، أو لمكانة
له أو لهم عند من يكتب ذلك، وقد توفي الشيخ عبد العزيز شاويش في منتصف هذا
الشهر فكان لخطبه من الهزة والاضطراب في البلاد، ما لم يعهد له نظير إلا في
بعض الأفراد، أبَّنَتْه الجرائد على اختلاف سياستها ومشاربها، وأطراه كثير من
الكتاب والأدباء، ورثاه كثير من الشعراء، وبكاه كثير من الأفراد والجماعات،
وعطف جلالة الملك على أولاده فتبرع لهم بألف جنيه وراتب شهري، وقررت
حكومته التبرع لهم بخمسة آلاف جنيه وتعلميهم في المدارس مجانًا؛ لأنهم لا يستحقون
عليها شيئًا من راتب والدهم باسم المعاش ولا غيره لحداثة عهده في خدمتها وقصر
مدتها، وقلما رأينا مثل هذه العناية بأولاد أحد من مستخدميها حتى من كانوا من
أحزاب وزارتها على ما عهد من أكثر وزرائها من محاباة أنصارهم ورجال أحزابهم،
وإنما كان رحمه الله من رجال الحزب الوطني المعارض لكل وزارة والمقرَّر لديه عدم
التصدي لخدمة حكومة بلاده ما دام للاحتلال الأجنبي نفوذ فيها.
لماذا كان لموت هذا الرجل هذا الإكبار الذي حزن قلوب الشعب، وأطلق
ألسنته بالرثاء، وبسط يد حكومته بالعطاء؟ إنما كان كذلك؛ لأن من فقدوه كان
كبيرًا في نفسه، وإن لم يكن كبيرًا في وظيفته، عاليًا في همته، وإن لم يكن عاليًا
في ثروته، وكان يوجه كل ما أوتي من كبر نفس وعلو همة إلى خدمة الأمة والملة
بجرأة جنان، وذلافة لسان، وقوة إيمان، وقلم سيال، وهمة لا تعرف الكلال، وقد
أوتي جميع المواهب التي يكبر بهما التأثير في أنفس الأفراد والجماعات من حسن
صورة وطلاقة وجه، وفصاحة نطق، وجرس صوت، وحسن أداء، وغزارة مادة،
وكان خطيبًا مفوَّهًا، وكاتبًا مدرها، وداعية مؤثرًا.
جاور في الأزهر وانتقل منه إلى دار العلوم، ومنها إلى كلية أكسفورد في
إنكلترة، ولما عاد منها اتصل بشيخنا الأستاذ الإمام، فتلقح ذهنه بأفكاره، واقتبست
بصيرته من أنواره، وكنت أنا الذي قدمته إليه وذكرت له ذكاءه وغيرته وطموحه
وهمته، وجمعه بين التعليمين الإسلامي والأوربي
…
قال: وماذا حذق من العلم
في إنكلترا وبأي شُعَبِهِ كان يُعْنَى؟ قلت: إنه عاد حديثًا، ولما نرو في ذلك عنه
حديثًا، قال: سله كم سنة مكث في الأزهر، فإن كان أطال فيه المكث، فقد فَقَدَ
الاستعداد للعلم، وما أراه حصَّل شيئًا ذا قيمة، فذكرت هذا للشيخ عبد العزيز
(رحمهما الله تعالى) فأغرب واستغرب، وذكر أنه لم يمكث في الأزهر طويلاً.
عينته الحكومة مساعدًا للتفتيش في نظارة المعارف، ورقاه سعد زغلول باشا
في عهد وزارته للمعارف مرة بعد مرة بما يزيد على ما يبيحه له القانون إلا بقرار
من مجلس النظار فاستصدر القرار بعد القرار بذلك، ولكن تلك النفس الطموح
الجموح أو الوثابة الثائرة كما يقول كتاب العصر قد استصغرت الترقي الاستثنائي
واحتقرت كل ما يُرْجَى من ورائه، وكان مَيَّالاً إلى السياسة فاتفق له أن زار مع
زميله وصديقه الشيخ محمد مهدي المشهور مصطفى كامل باشا (رحمهم الله تعالى)
في إدارة جريدة اللواء، وشاهد ما كان ثَمَّ من إقبال الوجهاء والكبراء، فلما خرجا
قال للشيخ مهدي إننا كالموتى مدفونون في نظارة المعارف، ونحن أقدر على خدمة
البلاد بالصحف وغيرها، وكان من تأثير تلك الزيارة في نفسه أن أَعْقَبَهَا زيارات
انجلت عن استقالة الشيخ شاويش من وزارة المعارف وانتظامه في سلك محرري
جريدة اللواء، وكان فيها أشد حماسة في نقد الحكومة المصرية والاحتلال من سائر
المحررين، ومن أشهر ما كتبه فيها مقالات في وزارة المعارف ووزيرها سعد باشا
زغلول عنوانها: (ما هكذا يا سعد تُورَدُ الإبل) وهو مثل قبله (أوردها سعد وسعد
مشتمل) .
ههنا أذكر أنني كنت أمدح الشيخ عبد العزيز لسعد باشا بالغيرة الوطنية
والإخلاص ليعنى بجعله من رجاله وأنصاره فقال لي مرة: أين ما كنت تصف
وتقول في هذا الرجل؟ قلت: إنني أعتقد مع هذا كله أنه مخلص فيه، وأن
الإخلاص اضطره إلى ما يسوءك على إحسانك إليه أو ما هذا معناه - فقال ما
خلاصته:
أنا لا أنكر أن في وزارتي ما ينتقد حتى عندي، وإنما أبذل جهدي، وليس
الأمر كله بيدي، ولو لم يقل في الشيخ شاويش إلا ما يعتقده لما كان لي أن أطعن
فيما تصف من إخلاصه (ولكنه كذب عليَّ، والكذب والإخلاص ضدان لا يجتمعان)
هذا إجمال ما دفع به وزير المعارف عن نفسه يومئذ.
إنني لم أذكر هذه الكلمة لسعد كتلك الكلمة التي نقلتها عن الأستاذ الإمام؛
لأنهما مما يؤثر عن أمثال هذين الرجلين العظيمين فقط؛ بل لأستدل به على أن
سعد باشا كان يقدر الرجل قدره بعد ما كان من إساءته إليه ولو حقد عليه لما رضي
في العهد الأخير بتوظيفه في وزارة المعارف وأمر الحكومة كلها بيده.
صار الشيخ شاويش ركنًا من أركان الحزب الوطني وأشد محرر جرائده
اللواء فالمعلم فالشعب حماسة في مشربه، ولكنه لم يقف قلمه على السياسة وحدها
فيها، بل أنشأ مجلة باسم (الهداية) غرضها الإصلاح الديني كالمنار، وكان ينشر
تفسيرًا عصريًّا للقرآن المجيد، ويطرق سائر أبواب الإصلاح الإسلامي المدني،
وكان الفرق بين خطتي المجلتين أن إحداهما كانت أشد التزامًا للنصوص والأخرى
أشد عناية بالمصلحة.
ثم إنه اتصل من طريق الحزب الوطني بجمعية الاتحاد والترقي التركية
وتطوع لخدمة الدولة العثمانية تحت لوائها، وقاوم مشروع الدعوة والإرشاد
بإغرائها، كما جاهد في مقاومة الحركة العربية التي حدثت تجاه العصبية
الطورانية التركية، وبها صرنا على طرفي نقيض، وشرح هذا لا يليق هنا، ثم
التقينا في برلين وتصالحنا بسعي صديق الجميع الأمير شكيب أرسلان، وبعد أن
عاد إلى مصر نشرت له في المنار تلك المقالة التي كتبها في مفاسد مقاومة الترك
الكماليين للدين؛ لأنه رجع فيها إلى رأينا في ملاحدة الترك وعداوتهم للإسلام،
وللعرب وقوم خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام.
عاد الأستاذ رحمه الله تعالى إلى مصر بعد غربة طويلة قاسى فيها شدائد
عظيمة في أثناء الحرب وبعدها متنقلا بين الآستانة وسورية والمدينة المنورة،
واشتغل بالتدريس في المدرسة الإصلاحية التي أسسها الاتحاديون في القدس
الشريف وهي مدرسة دينية مدنية، كان لهم فيها أغراض سياسية، ثم عاد إلى
الآستانة، وتنقل بعد انكسار الدولة في أوربة إلى أن ألقى عصا التسيار في ألمانية
فكان يشتغل فيها بإرشاد المصريين من طلاب المدارس ولا سيما المنتمين إلى
الحزب الوطني، ولما ظهر سعد باشا بحركته الجديدة في الوفد المصري كان السواد
الأعظم من أولئك الطلبة في ألمانية، وكذا في سائر أوربة مشايعين له وضعف نفوذ
الفقيد فيهم وقد كان هذا نافعًا له؛ لأنه صرف كل همته إلى المطالعة والاستزادة من
العلم فاستفاد كثيرًا؛ ولما عاد إلى مصر بعد ذلك كله عاد باستعداد عظيم لخدمة
الأمة بعلمه الواسع واختياره الدقيق، فتصدى للدخول في مجلس النواب المصري
بأن رشَّح نفسه للانتخاب في الإسكندرية بمساعدة الحزب الوطني فلم ينجح
لمعارضة مرشح الوفد السعدي له، ثم إن الحكومة عينته بعد ذلك رئيسًا لإدارة
التعليم الأوليّ في وزارة المعارف فنهض بها نهضة عظيمة، وكان هو المدير
الوحيد الضليع بالجمع بين أحدث خطط التعليم النظامي الأوربي مع مراعاة التربية
الدينية والعقائد الإسلامية.
ولكن طموحه وعلو همته أبى عليه الاكتفاء بهذه الخدمة الجليلة فكنت تراه
يساعد الجمعيات الإسلامية المتعددة كجمعيات المواساة الإسلامية ومكارم الأخلاق
والشبان المسلمين وكان قد أصيب منذ سنين بضعف في القلب أقعده عن الوصول
إلى كل ما يطمح له ويرمي إليه، ويقال: إنه كان مع هذا كله ينوي إعادة إصدار
مجلته غير مُبَال بنصح الأطباء له، فانتهى ذلك بقضاء القلب الروحي على القلب
الجسدي، وتوفي في وقت اشتدت حاجة أمته فيه إلى خدمته لها في دينها ودنياها
فرحمه الله تعالى وأحسن عزاءها فيه وعزاء أهله وولده وحزبه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
المجالس الملية
لماذا لا نتمتع في بلادنا بعد انتقال السلطان فيها إلى غيرنا
بمثل ما متعنا به غيرنا في عهد سلطاننا؟
سمحت الحكومات الإسلامية في بلادها لغير المسلمين بأن يستقلوا بأمورهم
الدينية وما يتعلق بها من مصالحهم الملية، ويتصرفوا فيها بحريتهم فكانت إدارة
كنائسهم وبِيَعِهم وأديارهم وما لها من الأوقاف الواسعة في أيديهم، وكان رؤساؤهم
الدينيون يتولون إقامة عباداتهم وشعائرهم والحكم بينهم في أمورهم الشخصية من
زواج ونفقة زوجية وحضانة وإرث وغير ذلك لا تنازعهم الحكومات الإسلامية في
شيء منها، ولكنهم إذا تحاكموا إليها في شيء تحكم بينهم بما تحكم بين المسلمين
سواء، والأصل في ذلك قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم عندما أراد اليهود
أن يتحاكموا إليه: {فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ
شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (المائدة: 42) .
ولما انتقل الحكم في بعض البلاد الإسلامية إلى الدول الإفرنجية لم يعاملوا
المسلمين فيهم بمثل ما كانوا يعاملون به أقوامهم ولا اليهود والنصارى وغيرهم من
أهل هذه البلاد، بل وضعوا عليهم سيطرة بعضها ثقيل وبعضها دونه، فهي تختلف
باختلاف أشكال تلك الحكومات وصفة الاستيلاء عليها وبحسب درجة أولئك
المسلمين في معرفة حقوقهم ومصالحهم وفي تعاونهم واتحادهم على المطالبة بها
والقيام بشئونها، حتى إن بعض تلك الحكومات استولت على أوقاف المسلمين كلها
في بعض الأقطار، ولم تُبْقِ لهم تصرفًا في شيء منها لا صورة ولا حقيقة، وهي
تمد السبيل إلى مثل ذلك في قطر آخر.
فهذه الحكومة البريطانية التي هي أدهى الحكومات الاستعمارية وأدقها حكمة
وأشدها حرصًا على حسن الصيت والتبجح بعدم التعصب لم تنصف المسلمين في
الهند في أوقافهم ولا أحكامهم الشخصية، ولكنها أنصفتهم في فلسطين وحدها
بالسماح لهم بإدارة محاكمهم الشرعية وأوقافهم الخيرية وتعليمهم الديني فناطوا ذلك
بمجلسهم الملي الذي أسسوه برضاها وسموه (المجلس الإسلامي الأعلى) فقام به
قيامًا لا نعلم له نظيرًا في قطر إسلامي آخر، وكان الفضل الأكبر في هذا لرئيس
هذا المجلس الحازم الشجاع السيد محمد أمين الحسيني الذي يجدر بفلسطين أن
تفتخر به على جيرانها، وحسبه منقبةً ما قام به من جمع المال العظيم لعمارة
المسجد الأقصى، ولدينا من العلم بما تفعل الحماية الفرنسية في المغرب الأقصى
من التصرف في أوقاف المسملين ومراقبة أمورهم الشرعية والدينية ما يخشى أن
تكون عاقبتهم فيه شرًّا من عاقبة مسلمي الجزائر لا تونس فقط! !
***
المجلس الملي
الإسلامي في بيروت
وقد فكر مسلمو بيروت عقب الاحتلال الأوربي لسورية بعد الحرب الكبرى
في إنشاء مجلس ملي؛ إذ كلف وجهاؤهم المرحوم أحمد مختار بك بيهم وغيره
بإقناعي بأن أتولى إدارة شئونهم الدينية كلها إما بتفويضهم ذلك إليَّ شخصيًّا، وإما
بالاستعانة بمجلس ملي بعد أن اقترحت عليهم هذا المشروع، وذكرت لهم مجلس
القبط الملي بمصر، ولكنني اعتذرت عن قبول ذلك، وكان ذلك في أثناء إلمامي
بسورية في أواخر سنة 1918 ومما رغَّبَنِي فيه أحمد مختار مع بعض أصدقائه أن
المسلمين يتعهدون لي بأداء زكاة أموالهم لأصرفها في مصالحهم بما أراه.
ومن الغريب أن بعض رجال فرنسة المحتلة عرض عليَّ وقتئذ من قبل
المندوب السامي الأول (جورج بيكو) أن أنقل مركزي من مصر إلى بيروت؛
لأكون زعيمًا للمسلمين فيها، وأنه - أي المندوب السامي- يعدني بأن حكومته
تعترف لي بما يراه المسلمون من إمامة وزعامة لهم وتسهل لي عملي في إصلاح
شئونهم الدينية والأدبية.
ولم تزل أمنية المجلس الملي تجول في أنفس مسلمي بيروت حتى حققها الله
في هذه السنة فوضعوا له نظامًا وانتخبوا له أعضاء من خيرة الشبان المعروفين
بالغيرة والنشاط فسررنا بذلك جد السرور ويا حبذا لو كان معهم بعض فضلاء
الشيوخ وتمنينا لو يتبعهم فيه مسلمو طرابلس وسائر الأمصار، فيؤسسون فيها
مجالس ملية كهذا المجلس؛ ثم يؤلفون في سورية وملحقاتها ولبنان بينها،
فيجعلون لها مجلسًا كليًّا جامعًا يسمونه المجلس الإسلامي الأعلى للمصالح الملية
ترجع إليه المجالس الموضعية في الشئون العامة المشتركة كالتعليم الديني والإدارة
العامة للمحاكم الشرعية وما يخص ذلك من ريع الأوقاف مع مراعاة الأحكام
الشرعية فيها، وفي شروط الواقفين التي لا تنافي الشرع.
وقد اتفق في هذه الأيام أن بعض رجال حكومة لبنان الكبير اقترح عليها سلب
المحاكم الشرعية الحكم في قضايا غير المسلمين فسَنَحَتْ للمسلمين فرصة المطالبة
بجعل هذه المحاكم تحت إدارة المسلمين ورفع سلطة وزارة الحقانية اللبنانية عنها
وجعلها كمحاكم البطركيات لطوائف النصارى التي تحكم بين أبناء كل طائفة في
أمورهم الشخصية، فإن حكومة لبنان غير إسلامية وقد راعت السلطة الفرنسية فيما
ألحقته بلبنان من البلاد السورية أن يبقى أكثر أهله من النصارى؛ لتكون لهم
السلطة العالية، فليس من العدل والمساواة ولا الإنصاف في شيء أن تكون
محاكمهم الملية وأوقافهم غير تابعة لإدارة الحكومة التي تعد مسيحية، وتكون محاكم
المسلمين وحدها وأوقافها هي التابعة لهذه الحكومة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
التبرع الملكي في مصر لترميم المسجد الأقصى
زار مصر في هذا الشهر صاحب السماحة الأستاذ المصلح السيد محمد أمين
الحسيني مفتي القدس الشريف ورئيس المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى لفلسطين
وتشرَّفَ بمقابلة صاحب الجلالة الملك المعظم بقصر عابدين فنال من عطفه الملكي
ما ملأ قلبه غبطة وأنطق لسانه بالشكر، وقد عرض على مسمعه ترميم المسجد
الأقصى وإصلاحه ورفع إلى جلالته رسوم المسجد وقبة الصخرة وفيها ما تم ترميمه،
وما بقي وغير ذلك من الرسوم فتفضل جلالته بخمسة آلاف جنيه مصري
للمساعدة على الإكمال، فكان لهذا التبرع الملكي أحسن تأثير في قلوب المسلمين
عامة ومسلمي فلسطين خاصة، ونوَّهَت بذلك جميع صحف القطرين ناشرة
للبرقيات والرسائل الكثيرة في الثناء على مكارم جلالته والدعاء بطول بقائه مؤيدًا
للإسلام عامرًا لمساجده ومعاهده الدينية والخيرية والعلمية.
وقد زاد في قيمة هذا النَّوَال من ملك مصر في هذا العصر ما يراه المسلمون
من بعض ملوك أعاجم المسلمين ورؤساء حكوماتهم من نبذ هداية الإسلام وشريعته
وراء ظهورهم وإباحة الارتداد عنه لشعوبهم، بل إكراههم على ترك مقوماته
ومشخصاته بالتدريج حتى لغة القرآن والسنة وحروفها العربية المُذَكِّرَة بها.
وقد توجهت همة السيد الحسيني إلى استنداء أكُف أمراء البيت العلوي المالك
ونبلائهم وغيرهم من أغنياء هذا القطر الإسلامي الذي هو أرقى الأقطار الإسلامية
ثروة وحضارة وكرمًا بالتبرع لإحياء هذا المعهد الإسلامي العربي الذي هو أعظم
آثار الحضارة العربية وأفخم المعاهد الإسلامية، والمرجو أن يجودوا بما قدر لإتمام
العمارة وهو ثلاثون ألف جنيه، وما ذلك على ثروتهم وكرمهم بكثير، وحينئذ نقول:
إنهم ما قصروا في التبرع له أولاً، إلا ليكون لهم فضل الإتمام والإكمال آخرًا.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الإلحاد ودعاته في مجلة الرابطة الشرقية
والأستاذ أحمد أمين
راجعني تلميذ لي في عدِّي الأستاذ أحمد أمين من أركان دعاة الإلحاد الذي
سقط من قلمي في انتقادي على مجلة الرابطة قائلاً: إنه لم يعرف عنه هذا وليس
في مقاله في تلك المجلة شيء صريح فيه، وذكَّرني بأنه هو المتخرج في مدرسة
القضاء الشرعي الذي كان قاضيًا شرعيًّا فاعترفت له آسفًا بأنني أخطأت في عده
من أركانهم؛ لأنه اشتبه عليَّ بكاتب آخر كتب مقالات إلحادية كثيرة في جريدة
السياسة، ولكنني لا أراني مخطئًا في نظم مقالته التي نشرتها له تلك المجلة في
سلك سائر مقالاتها التي تؤيد دعاية ما أَعْنِيه بكلمة الإلحاد، على أنني جعلت عنوانها
(الدعوة إلى التفرنج) ورأيت من الواجب عليَّ الآن أن أفسر في المنار ما أعنيه
بكلمة الإلحاد التي يشتمل عمومها على تلك المقالة، فقد علمت أن بعض الناس
يفهمونها مرادفة لكلمة الكفر والتعطيل، والصواب أنها أعم من ذلك لغة وشرعًا كما
بينته بالتفصيل في تفسير قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا
الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف: 180) إذ قلت
في أوله ما نصه:
وأما الإلحاد فمعناه العام الميل والازْوِرَار عن الوسط حسًّا أو معنًى، والأول
هو الأصل فيه كأمثاله وبعد ذكر الألفاظ والجمل المستعملة من هذه المادة قلت:
ولما كان (خيار الأمور أوساطها) كان الانحراف عن الوسط مذمومًا، ومنه
أخذ التعبير عن الكفر بالتعطيل والشك في الله تعالى بالإلحاد، ويسمى ذووه
الملاحدة والملحدين، ثم نقلت ما قاله الراغب في مفردات القرآن تفسيرًا لهذه المادة
ومنه:
ألحد فلان: مال عن الحق، والإلحاد ضربان: إلحاد إلى الشرك بالله،
وإلحاد إلى الشرك بالأسباب، فالأول ينافي الإيمان ويبطله، والثاني يوهن عُرَاه
ولا يبطله إلخ، ثم بيَّنْتُ أن الإلحاد في أسمائه تعالى سبعة أنواع (راجع ص
440 -
448 ج9 تفسير) .
فأنا أعني بالإلحاد في كل ما أرد به على الملاحدة المعنى العام الذي يشمل الكفر
المُخْرِج من الملة وغير المُخْرِج منها وما ليس بكفر مما يضعف الإيمان ويوهن
روابط الإسلام اللغوية والاجتماعية كالثقافة اللادينية التي كانت تدعو إليها جريدة
السياسة وغيرها، وكثير مما يسميه جماعة الكتاب اللادينيين بالتجديد كأزياء
الرجال والنساء الإفرنجية التي جعلها مصطفى كمال باشا ومريده أمان الله خان من
أركان الإصلاح لما يقصد بها من إنساء المسلمين جميع ماضيهم، ومن أركانها
استبدال الحروف اللاتينية بالعربية وغير ذلك من الميل عن الوسط إلى إفراط أو
تفريط في الشئون الإسلامية، وليس منها تجديد الصناعات والفنون العسكرية
والمالية والتجارية وأمثال ذلك مما يزيد قوة الأمة وثروتها بل هذا واجب شرعًا.
ويرى القراء في عناوين مقالنا في الإنكار على مجلة الرابطة ما يدل على هذا
التقسيم للآراء الإلحادية ولا سيما التفرقة بين دعاية سلامة موسى إلى هدم الإسلام
ودعاية أحمد أمين إلى التفرنج، فثبت من كل ما تقدم أننا لا نعد كل ما ننتقده من
التجديد المدني إلحادًا، ولا كل إلحاد وتفرنج كفرًا يخرج به صاحبه من الملة.
هذا وإن مقالة المنار في الإنكار على مجلة الرابطة الشرقية قد كان لها وقع
عظيم في نفوس المسلمين هنا، وربما كان وقعها أعظم في سائر الأقطار الإسلامية
التي لم يوجد فيها من حرية الإلحاد مثل ما هو معهود في مصر.
نشرتها جريدة كوكب الشرق اليومية التي يقال: إنها الآن أوسع صحف
القطر انتشار، ونشرتها صحيفة الفتح الأسبوعية، وقد جرى حديث بين أحد
محرري الكوكب وصاحب السعادة أحمد شفيق باشا في موضوع المقالة كانت فيه
أجوبة سعادته للمحرر مُشْعِرَة برضاه عن تلك المقالات التي انتقدناها على المجلة إلا
مقالة سلامة أفندي موسى فقد اعتذر عنها بحرية النشر
…
فكان ذلك موجبًا لمزيد
استياء المسلمين كما بينته مجلة الفتح، وجرى بيننا وبين سعادته وسماحة الرئيس
في المسألة ما لا ينبغي لنا أن ننشره؛ لأنه من أمانة المجالس ثم جرى حديث آخر
في جلسة مجلس إدارة الرابطة الأخيرة، وقد علم من كل هذه الأحاديث أن هيئة
تحرير مجلة الرابطة ستبين رأيها في انتقاد مجلة المنار لها بما يصح أن يبنى عليه
رأي مجلس الإدارة فيها وكذا الرأي الإسلامي العام بالأولى، فعسى أن يوفق صاحبا
السماحة والسعادة الرئيس والوكيل إلى انتياش المجلة من الورطة التي نشبت فيها
بشذوذ الأستاذ رئيس التحرير الذي لم يعرفا كُنْهَه من قبل، وإن ما نعهده فيهما من
الحنكة والحلم والروية جدير بأن ينتصر على ما عنده من الشرة والحدة والإصرار،
وقد بلغنا أنه يستعد للانتقام منا بنقد التفسير وغير التفسير من الآثار والمطبوعات،
وما نقده بالذي يخيفنا ونحن نعرض كل ما نكتبه للنقد وننشر ما يرسل إلينا منه،
وإن كان تجهيلاً وتضليلاً، حتى لامنا خيار قراء المنار على إضاعة أوقاتنا
وأوقاتهم في ذلك، وإنما نحسب حسابًا لما عسى أن يكون لإطلاق العنان له في
مجلة الرابطة من تأثير سَيِّئٍ في جمعية الرابطة وتأثير أسوأ في جميع المسلمين،
وإنا للجزء الثالث منها لمنتظرون.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الهداية الإسلامية
مجلة إسلامية علمية أدبية تصدرها جمعية الهداية الإسلامية ويحرِّرها نخبة من
أعضائها مديرها رئيس الجمعية (محمد الخضر الحسين) ألا وهو صديقنا الشيخ
الأستاذ التونسي الزيتوني الأزهري العالم الفاضل الكاتب الخطيب المتفنن، فنعمت
الجمعية ونعم المدير، ورئيس التحرير، والمجلة تصدر في كل شهر، مؤلفة من ست
كراسات (48صفحة) مع الوعد بأن ستصدر مرتين في الشهر، وقيمة الاشتراك
السنوي فيها ثلاثون قرشًا في القطر المصري، وأربعون قرشًا في سائر الأقطار،
ولطلاب العلم عشرون قرشًا، فنحث المسلمين على قراءتها؛ لأنها من المجلات التي
نعتقد فيها تحامي خلط الخرافات والبدع بالشرع والتوسل لخدمة الإسلام بما
يخالف دين الإسلام كما نرى في كثير من الصحف الإسلامية أو المسلمية.
_________