الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
امتناع بعض علماء الصحابة عن التحديث
وجعل الحديث من أصول التشريع
س27 من حضرة الأمير شكيب أرسلان الشهير بلوزان (بسوسرة أوربة)
حضرة الأستاذ الإمام مَفْزَع الإسلام، في المشكلات الجسام، السيد محمد
رشيد رضا أدامه الله لهذه الأمة علمًا هاديًا، آمين.
إن في الجزء الأول من المجلد التاسع والعشرين من المنار بحثًا من أهم ما
جالت فيه أقلام جهابذة الأصوليين هو المتعلق بأحاديث الصحيحين، وما قيل من
أغلاطها، ورواية أبي هريرة والفرق بين أحاديث التشريع وغيرها فقد قرأت هذا
البحث مع وفرة شواغلي مرتين أو ثلاثًا، ولا أزال عطشان إلى هذا المنهل العذب
ومترقبًا صدور الكتاب الجديد الذي وعدتم بإخراجه تحت اسم (يسر الإسلام
وأصول التشريع العام) ، ولقد أخذ بمجامع فؤادي قولكم: (إن صحيح البخاري
أصح كتاب بعد كتاب الله ولكنه ليس معصومًا هو ورواته من الخطأ وليس كل
مرتاب في شيء من روايته كافرًا) .
إني لست بمحدث وليس لي حق أن أبدي وأعيد في الحديث الشريف إلا على
سبيل الاستفادة، ولذلك أرجوكم أن تتفضلوا علينا برأيكم في الروايات الآتية وهي:
في الجزء الثالث من طبقات ابن سعد الكبرى الصفحة 74 عن عامر عن عبد
الله بن الزبير عن أبيه قال: قلت للزبير: ما لي لا أسمعك تُحَدِّث عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كما يُحَدِّث فلان وفلان قال: أما إني لم أفارقه منذ أسلمت،
ولكنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كذب عليَّ فليتبوأ مقعدًا
من النار) .
فظاهر هنا أن الزبير كان يعتقد أنه مهما كانت حافظة الراوي من القوة فلا
يستطيع أن يعيد ما سمعه بدون زيادة أو نقصان، وأنه كان يخشى أن يزيد على
رسول الله أو ينقص من كلامه فتحامى الحديث كله تقريبًا.
وفي صفحة 102 من الجزء المذكور عن السائب بن يزيد أنه صحب سعد بن
أبي وقاص من المدينة إلى مكة قال: فما سمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه
وسلم حديثًا حتى رجع، ثم عن يحيى بن عباد عن شعبة: دخلوا على سعد بن أبي
وقاص فسئل عن شىء فاستعجب فقال: إني أخاف أن أحدثكم واحدًا فتزيدوا المائة.
فهذا صحابي عظيم أيضًا كالزبير وكلاهما من العشرة يعتقد أن الحديث مهما
يكن راويه ثقة يتطرق إليه الزيادة والنقصان.
وفي الصفحة 110 من الجزء المذكور عن عمرو بن ميمون قال: اختلفت
إلى عبد الله بن مسعود سنة ما سمعته فيها يحدث عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم ولا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه حدَّث ذات يوم بحديث
فجرى على لسانه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلاه الكرب حتى رأيت
العرق يَتَحَدَّر عن جبهته ثم قال: إن شاء الله إما فوق ذاك أو قريب من ذاك وإما
دون ذاك.
وفي الصفحة 111 من الجزء الثالث من الطبقات أخبرنا المعلى بن أسد قال
أخبرنا عبد العزيز بن المختار عن منصور الغداني عن الشعبي عن علقمة بن قيس
أن عبد الله بن مسعود كان يقوم قائمًا كل عشية خميس فما سمعته في عشية منها
يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة واحدة قال: فنظرت إليه -
وهو معتمد على عصى- فنظرت إلى العصى تزعزع، قال: أخبرنا مالك بن
إسماعيل قال: أخبرنا إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن عامر عن مسروق عن عبد
الله قال: حدَّث يومًا حديثًا فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم
أرعد وأرعدت ثيابه ثم قال: أو نحو ذا أو أشبه ذا.
ومعلوم أن عبد الله بن مسعود كان لا يفارق الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه
كان أتبع له من ظله وأولى الناس بالرواية عنه، وهذا مشربه في الحديث، وقد
ذكرتم في ذلك البحث نهي الإمام عمر عن التحديث.
وجاء في الجزء الخامس من طبقات ابن سعد أيضًا صفحة 140 رواية عن
عبد الله بن العلاء: سألت القاسم بن محمد أن يملي عليَّ أحاديث فقال: إن
الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب فأنشد الناس أن يأتوه بها فلما أتوه بها
أمر بتحريقها، ثم قال: مثناة كمثناة أهل الكتاب قال: فمنعني القاسم بن محمد
يومئذ أن أكتب حديثًا.
وهذا هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق المشار إليه بالبنان بين التابعين
بالفضل والعلم والورع.
فلماذا بعد هذه الدلائل كلها لا يزال علماء الدين يتخذون الصحيحين وغيرهما
من كتب الحديث مراجع في الشرع ويعتقدون أن مجرد توفر الشروط في الصحة
كاف لجعل الحديث ثابتًا لا شبهة فيه كأن سامعيه تلقوه رأسًا من فم رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
أفلا يرون أن ثلاثة من أجلّ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عبد
الله بن مسعود بمكانه من الورع والصدق والعلم بالدين لم يكونوا يحدثون تقريبًا ولم
يكونوا يركنون إلى أنفسهم أن تبدر من ألسنتهم كلمة في سياق حديثهم عن
المصطفى لم يكن صلى الله عليه وسلم قالها.
فلماذا لا نقتدي بهم ولا نزال نجعل صحة الحديث بمجرد توفر الشروط قضية
مسلمة؟
إن هؤلاء الأئمة الذين هم من أجلّ أصحاب رسول الله وألزمهم له، والذين
هم طليعة من نشروا الإسلام وأسسوا بوانيه لم يكن بينهم وبين الرسول واسطة
ولقد وتكاءدهم التحديث عنه خوف الزيادة أو النقصان.
فكيف يجب أن نثق في صحة الأحاديث الواصلة بالأسانيد العديدة المتسلسلة
من عدة قرون ونبني عليها الأحكام، ونقول: هذا حلال وهذا حرام، ومن لم يؤمن
بهذا فقد كفر بالإسلام.
…
...
…
...
…
... لوزان 22 ذي العقدة سنة 1346
…
...
…
...
…
... شكيب أرسلان
(جواب المنار)
إن المروي عن علماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم من اتقاء التحديث، بل
من النهي عنه، وعن كتابة الحديث ومن تحريق ما كتب بعضهم منه أو الأمر
بتحريقه هو أكثر مما ذكر الأمير السائل في المسألة الأولى، وقد بسطنا ذلك في
المجلد التاسع والعاشر والحادي عشر من المنار كما سيأتي، ولو لم يكن في المسألة
إلا ما نقله عن طبقات ابن سعد لكان للمعارضين له أن يقولوا: إن هؤلاء الذين نقل
عنهم ابن سعد ما نقل قد ثبتت روايتهم لكثير من الأحاديث، فعبد الله بن مسعود له
في صحيح البخاري وحده 85 حديثًا على شدة تحرِّي البخاري وصعوبة شرطه في
جامعه الصحيح، ولو لم يرو المحدثون عن ابن مسعود إلا هذا العدد لكان غير
معارض لتحريه في التحديث وقلة روايته فإنه من قدماء الصحابة وأكثرهم سماعًا من
الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن له في سائر كتب السير والمسانيد روايات أخرى
كثيرة وأما الزبير فلم يرو عنه البخاري في صحيحه إلا سبعة أحاديث، وروى فيه
عن سعد بن أبي وقاص عشرين حديثًا، وهذا أدل على ما ذكر من تحاميهم للتحديث،
وإنما كان لداعية قوية لا خوفًا من الخطأ فقط بل لأمر أعظم.
عرض للبحاثة المرحوم الدكتور محمد توفيق صدقي ما عرض لبعض
الباحثين قبله وكذا بعده من أن الإسلام هو القرآن وحده، وأن الأحاديث كانت
تشريعًا موقتًا لأهل عصر النبوة بدليل عدم كتابة أهل الصدر الأول من الصحابة لها
كالقرآن وعدم تبليغها للناس وأمرهم بالعمل بها بل بدليل نهي النبي صلى الله عليه
وسلم عن كتابة شيء عنه غير القرآن ونهيه عن كثرة السؤال؛ لئلا تكثر الأحكام
فترهق الأمة من أمر دينها عسرًا ونهي بعض علماء الصحابة عن كتابة الحديث
أيضًا، وأحب الدكتور أن يعرض هذا الرأي على علماء المسلمين ويطالبهم ببيان
الحق فيه فنشرناه له في المجلد التاسع من المنار (ص515) وطالبنا علماء الأزهر
وغيرهم بالرد عليه لبيان الحق في المسألة، وإزالة الشبهات التي تعرض لكثير من
الناس فيها، فرد عليه الشيخ طه البشري من علماء الأزهر وعالم عربي مقيم في
الهند اسمه الشيخ صالح اليافعي ورد هو على ما كتبوه، وقد نشرنا رد العالم
الأزهري في ص 699 - 711، 712 من المجلد التاسع أيضًا ثم رد محمد توفيق
صدقي عليه في ص 906 منه وَقَفَّيْنَا عليه بحكم المنار بين المتناظرين في (ص
925 -
930) منه حكمنا الخلاف حكمًا أذعن له الدكتور محمد توفيق صدقي
وغيره ولم يرد عليه أحد من المتناظرين ولا من غيرهم وسنذكر خلاصته، وأما رد
الأستاذ الشيخ صالح اليافعي فقد نشرناه في عدة أجزاء من المجلد العاشر.
ثم إن صديقنا المرحوم رفيق بك العظم كتب بحثًا موضوعه (التدوين في
الإسلام) وألقاه في نادي المدارس العليا في القاهرة وجمع فيه ما وقف عليه في
كتب التاريخ من كتابة الحديث وغيره، فاقترح علينا بعض قراء المنار نشر ذلك
البحث والتعليق عليه بما يبدو لنا من استدراك أو انتقاد، كما اقترح علينا كل من
الدكتور محمد توفيق صدقي ومناظره الشيخ صالح اليافعي وغيرهم تمحيص كتابة
الحديث التي تجاذبها المتناظران في موضوع بحثه.
فإجابة للاقتراحات نشرت خطبة رفيق بك في الجزء العاشر من مجلد المنار
العاشر، وعلقت عليها أهم ما رأيته منتقدًا فيها، ثم انتقلت إلى مسألة كتابة الحديث
فبدأت بنشر ما جمعه الحافظ ابن عبد البر في كتابه (جامع بيان العلم) من النهي
عن الكتابة وكراهيتها ومن الرخصة فيها، وقد جمع من الروايات ما لم يجمع غيره
فيها. نشرت البابين اللذين أوردهما بحذف أسانيده نقلاً عن مختصره في أربع
ورقات، واستدركت عليه روايات لغيره في النفي والإثبات، ثم عقدت فصلاً
للتعادل والترجيح بين الروايات المتعارضة في الأمر بالكتابة والنهي عنها عند تعذر
الجمع بينها، وذلك في ورقتين أي أربع صفحات من الجزء العاشر من المجلد
العاشر من المنار (راجع كل ذلك في ص 743 - 768 م10) ثم أتممت هذا
البحث بفصل آخر موضوعه (نهي الصحابة ورغبتهم عن الرواية) مع بيان تأويل
العلماء لذلك النهي والحكم فيه نشرته في الجزء التالي أي الحادي عشر (ص
849 -
854 م10) فمن أراد الوقوف على هذا التفصيل كله في المسألة فليراجع
صفحات الجزءين التي بينا أرقامها آنفًا، وفيه الجواب المفصل عما سأل عنه
الأمير شكيب في الموضوع.
ولا بأس بأن نقول فيه كلمة مجملة لمن لا يتيسر له تلك المراجعة: إن دين
الإسلام هو القرآن كتاب الله تعالى وما بيَّنه به رسوله صلى الله عليه وسلم من فعل
وقول صار سنة متبعة بالعمل أو التبليغ العام في الدعوة إلى الإسلام وبيانه للناس
من أصحابه رضي الله عنهم، وأما الأحاديث التي لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم
بتبليغها ولا عني خلفاؤه وعلماء أصحابه بتبليغها للناس على أنها من دينهم ولم
تصر سنة متبعة بعمل جمهورهم بها إما لأن الحديث منها كان خاصًّا بمن خوطب
به من تشديد أو تخفيف اقتضته حاله أو لأنه لم يقصد به التشريع أو لغير ذلك ثم
رواها التابعون عن أفراد منهم روايات آحادية لم تتواتر فهي لا تعد تشريعًا عامًّا
لبيان دين الإسلام بحيث يجب على الأمة وأئمتها تبليغه والأخذ به.
على أن فيما صح منها لنقاد الرواية وبعض ما صح متنه ولم يصل سنده إلى
درجة الصحيح، ولم يسقط إلى حد الموضوع أو الواهي من الهداية والحكم ما لا
يسع من بلغه من المسلمين إلا أن يهتدي به.
وإنني ألخص بعض المسائل مما كتبته في المجلد العاشر أي منذ اثنتين
وعشرين سنة على سبيل النموذج والإيضاح لهذه الخلاصة (ص 66 - 768) .
قلت هنالك: إن أصح ما ورد في المنع من كتابة الحديث ما رواه أحمد في
مسنده ومسلم في صحيحه وابن عبد البر في كتاب العلم وغيرها عن أبي سعيد
الخدري مرفوعًا (لا تكتبوا عني شيئًا إلا القرآن فمن كتب عني غير القرآن
فليمحه) .
وإن أصح ما روي في الإذن به حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما
مرفوعًا (اكتبوا لأبي شاه) وقد بينت أنه لا يعارض حديث أبي سعيد وما في معناه
على قاعدتنا التي مدارها على أن نهيه صلى الله عليه وسلم عن كتابة حديثه مُرَاد
به أن لا يتخذ دينًا عامًّا كالقرآن، وذلك أن ما أمر بكتابته لأبي شاه هو خطبة
خطبها صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة موضوعها تحريم مكة ولقطة الحرم، وهذا
من بيانه صلى الله عليه وسلم للقرآن الذي صرَّح به يوم الفتح، وصرح به في
حجة الوداع، وأمر بتبليغه فهو خاص مستثنًى من النهي العام، وقد صرَّح البخاري
في باب اللقطة من صحيحه بأن أبا شاه اليمني طلب أن تكتب له الخطبة المذكورة
فأمر صلى الله عليه وسلم بإجابة طلبه، وقد قلت هنالك:
(ولو فرضنا أن بين أحاديث النهي عن الكتابة والإذن بها تعارضًا يصح أن
يكون به أحدها ناسخًا للآخر لكان لنا أن نستدل على كون النهي هو المتأخر بأمرين:
أحدهما استدلال من روي عنهم من الصحابة الامتناع عن الكتابة، ومنعها بالنهي
عنها، وذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وثانيهما عدم تدوين الصحابة
الحديث ونشره ولو دونوا ونشروا لتواتر ما دونوه.
(فعزيمة علي رضي الله عنه على من عنده كتاب أن يمحوه وقول أبي سعيد
الخدري رضي الله عنه: (تريدون أن تجعلوها مصاحف) وقول عمر بن الخطاب
عند الفكر في كتابة الأحاديث أو بعد الكتابة: (لا كتاب مع كتاب الله) وفي
الرواية الأولى - وقوله في الرواية الثانية بعد الاستشارة في كتابتها: (والله إني لا
أشوب كتاب الله بشيء أبدًا) وقول ابن عباس: (كنا نكتب العلم ولا نُكْتبه) أي لا
نأذن لأحد أن يكتبه عنا ونهيه في الرواية الأخرى عن الكتابة، وقوله الذي تقدم في
ذلك - ومحو زيد بن ثابت للصحيفة ثم إحراقها وتذكيره بالله من يعلم أنه يوجد
صحيفة أخرى في موضع آخر، ولو بعيدًا أن يخبره بها ليسعى إليها ويحرقها،
وقوله الذي تقدم في ذلك - وقول سعيد بن جبير عن ابن عمر: إنه لو كان يعلم بأنه
يكتب عنه لكان ذلك فاصلاً بينهما - ومحو عبد الله بن مسعود للصحيفة التي جاءه
بها عبد الرحمن بن الأسود وعلقمة وقوله عند ذلك: (إن هذه القلوب أوعية
فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره) كل هذا الذي أورده ابن عبد البر وأمثاله مما
رواه غيره كإحراق أبي بكر لما كتبه وعدم وصول شيء من صحف الصحابة إلى
التابعين وكون التابعين لم يدونوا الحديث لنشره إلا بأمر الأمراء - يؤيد ما ورد من
أنهم كانوا يكتبون الشيء لأجل حفظه ثم يمحونه.
(وإذا أضفت إلى هذا ما ورد في عدم رغبة كبار الصحابة في التحديث؛
بل في رغبتهم عنه، بل في نهيهم عنه قوي عندك ترجيح كونهم لم يريدوا أن
يجعلوا الأحاديث (كلها) دينًا عامًّا دائمًا كالقرآن، ولو كانوا فهموا عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه يريد ذلك لكتبوا ولأمروا بالكتابة ولجمع الراشدون ما كتب
وضبطوا ما وثقوا به وأرسلوه إلى عمالهم ليبلغوه ويعملوا به ولم يكتفوا بالقرآن
والسنة المتبعة المعروفة للجمهور بجريان العمل بها، وبهذا يسقط قول من قال: إن
الصحابة كانوا يكتفون في نشر الحديث بالرواية.
وإذا أضفت إلى ذلك كله حكم عمر بن الخطاب على أعين الصحابة بما
يخالف بعض تلك الأحاديث ثم ما جرى عليه علماء الأمصار في القرن الأول
والثاني من اكتفاء الواحد منهم كأبي حنيفة بما بلغه ووثق به من الحديث، وإن قل
وعدم تعنيه في جمع غيره إليه؛ ليفهم دينه ويبين أحكامه قوي عندك ذلك الترجيح.
بل نجد الفقهاء بعد اتفاقهم على جعل الأحاديث أصلاً من أصول الأحكام
الشرعية وبعد تدوين الحفاظ لها في الدواوين وبيان ما يُحْتَج به وما لا يحتج به لم
يجتمعوا على تحرير الصحيح والاتفاق على العمل به، فهذه كتب الفقه في المذاهب
المتبعة ولا سيما كتب الحنفية فالمالكية فالشافعية فيها مئات من المسائل المخالفة
للأحاديث المتفق على صحتها، ولا يُعَدُّ أحد منهم مخالفًا لأصول الدين.
وقد أورد ابن القيم في إعلام الموقعين شواهد كثيرة جدًّا من رد الفقهاء
للأحاديث الصحيحة عملاً بالقياس أو لغير ذلك، ومن أغربها أخذهم ببعض الحديث
الواحد دون باقيه، وقد أورد لهذا أكثر من ستين شاهدًا (فلتراجع في ج 14و 15و
16 من مجلد المنار السادس) وسنورد في الجزء الآتي شيئًا مما ورد في نهي
الصحابة عن الرواية، وفي عملهم بالحديث كيف كان، فقد أطلنا الآن) اهـ.
ثم إننا وافينا بهذا الوعد في مقال نشرناه في ص 849 - 854 من المجلد
العاشر نفسه عنوانه (نهي الصحابة ورغبتهم عن الرواية) ذكرنا فيه أهم الروايات
التي أوردها الحافظ ابن عبد البر وغيره، وما ذكروه من الروايات المعارضة لها
في الظاهر دون الواقع، وما ذكروه من الترجيح مع نقده، وحاصل جمعنا بينها أن
السنة بالمعنى المعروف في عصر الصحابة هي التي كانت تعد من الدين وكانوا
يأمرون باتباعها والمحافظة عليها ثم ختمنا هذا المقال بقولنا:
(وليعلم القارئ أن هذا البحث الأصولي بمعزل عن مسألة اهتداء المسلم بما
يصح عنده من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم فتلك الأقوال هي ينابيع الحكم،
ومصابيح الظلم، وجوامع الكلم، ومفخر الأمة على جميع الأمم، بل إن في الأحاديث
التي لم تصح أسانيدها من البدائع، والحكم الروائع، والكلم الجوامع، ما تتقاصر عن
مثله أعناق العلماء، وتكبوا في غاياته فرسان الحكماء، ولا تبلغ بعض مداه قرائح
البلغاء، ولا غرو فإن من الأحاديث ما صحت متونه، ولم تصح أسانيده، كما أن
منها ما أشكلت متونه، وإن سلم من الطعن رواته، وأنًَّى لغيرنا ببعض ما عندنا من
الأسانيد لأقوال حكمائهم، أو لكتب أنبيائهم، فنحن يسهل علينا من التمحيص
والتحقيق ما لا يسهل على غيرنا فليتدبر المتدبرون، وليعمل العاملون) اهـ.
فعلم مما تقدم كله أن ما ذكره الأمير من روايات في تحامي بعض كبار علماء
الصحابة التحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يصح أن يجعل دليلاًَ على
صحة ما استشكله من جعل العلماء كتب الحديث ولا سيما الصحيحين مراجع في
الشرع بل ناهيك بما ذكر في هذه الروايات من تهيب أولئك الصحابة للتحديث
وتعليله بخوفهم من الخطأ في أداء الحديث أن يدخلوا في عموم من يتناولهم وعيد
قوله صلى الله عليه وسلم: (من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) وهو
متواتر عنه صلى الله عليه وسلم بلفظه، ومن رواته الزبير وسعد بن أبي وقاص
وابن مسعود رضي الله عنهم وورد بحذف كلمة (متعمدًا) فإن هذا يصح أن يجعل
دليلاً على أن قلة تحديثهم ليس لاعتقادهم أن أحاديث الآحاد القولية ليست من أصول
الشرع وأدلته، بل من ورعهم وتحريهم نقل الحديث بلفظه، وقد صح عنهم أنهم
حدثوا في روايات أقوى من هذه الروايات التي ذكرها ابن سعد في طبقاته كما تقدم
ولكن الجمهور قد جوَّزوا بعدهم روايته بالمعنى فكان مثار مشكلات كثيرة.
وإنما يتجه استشكاله إذا بناه على تلك الروايات التي أوردناها في المجلد
العاشر من المنار، وأشرنا إليها آنفًا، وقد أجاب العلماء عنها بأجوبة بيَّنا هنالك ما
فيها من ضعف وذكرنا هنا نموذجًا منه، وفيما ذكره من الروايات أن بعض
الصحابة كان يخاف أن يحدث من يحضره من التابعين فيزيدوا في حديثه ما ليس
منه ولو سوء الفهم.
ولكن وجد من الصحابة من كان لا يتحامى التحديث كهؤلاء، بل وجد فيهم
من تفرغ له وجعله كل همه من حياته كأبي هريرة الذي كان أقل ما يروي من
سماعه وأكثره عن غيره من الصحابة وعن التابعين أيضًا حتى عن كعب الأحبار
وكان مع ذلك قلما يذكر سماعًا، فأكثر ما روي عنه عنعنة كانت مصدر مشكلات
كثيرة، وإن لم يتعمد التدليس فيها، كل هذا وقع ولم يشدد الخلفاء بعد عمر رضي
الله عنه بكتابة السنن لأجل ضبطها والتمييز بينها، ثم تصدَّى الحُفَّاظ الجامعون لها
في المسانيد والسنن للتمييز بين صحيحها وسقيمها، وما يحتج به، وما لا يحتج به
منها، وتوقف ذلك على كتابة تواريخ الرواة ونصب ميزان الجرح والتعديل للحكم
عليها فكان ذلك منجاة من أكثر مشكلات تلك الفوضى.
ومع هذا كله لم يوجب أحد من علماء المسلمين العمل بكتاب من الكتب
المُؤلفة في الحديث بل طلب بعض الخلفاء من الإمام مالك أن ينشر له كتابه الموطأ
في الأقطار ويحمل المسلمين على العمل به، فامتنع مالك من ذلك على شدة تحريه
في جميع روايات الموطأ ومواطأة جُلّ علماء المدينة له عليه، وإنما كان الصحابة
والتابعون متفقين على أنه يجب على المسلمين أن يأخذوا دينهم من كتاب الله في
المرتبة الأولى ثم من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يعنون بالسنة
الطريقة المأثورة عنه صلى الله عليه وسلم بالعمل لا الروايات النادرة التي لم يكن
يعرفها إلا رواتها من الآحاد، وهذا أمر قطعي لا خلاف فيه، ثم صار علماء
الأمصار يطلقون اسم السنة على كل ما روي في شأن الرسول صلى الله عليه وسلم
من قول وعمل وتقرير وصفة، وقرَّروا أن كل ما ثبت من ذلك متعلقًا بالتشريع فهو
من دلائل هذا الدين وشرعه، وإنما يخرج من ذلك ما كان من أمور العادات وشئون
الدنيا كالزراعة والصناعة والأكل والشرب مما لم يحرم بالنص، فأفعاله صلى الله
عليه وسلم فيها تدل على الإباحة ويطلقون على الأمر فيها لقب الإرشاد كما فصَّلناه
في كتاب (يسر الإسلام
…
) وغيره.
ثم كان من هدي علماء الأمصار في عصر الرواية أن يهتدي كل منهم بما
يصح عنده من أحاديث الآحاد، وإن لم تصر سنة متبعة بالعمل بحسب فهمه
واجتهاده، ولا يعد من لم يبلغه ذلك أو من لم يصح عنده ناقصًا في دينه أو مقصرًا
فيه ولا يعدون اجتهادهم في تصحيح الحديث، وفي كونه مما يحتج به تشريعًا عامًّا
إلا أن بعض الذين وقفوا حياتهم على رواية الأحاديث كانوا يعيبون المقلين من
الرواية والآخذين بالرأي والقياس ويسمونهم أهل الرأي، ولكنهم لا يعدونهم ضالين
كالمبتدعة، فإمامهم الأعظم أبو حنيفة معدود من أئمة أهل السنة ولم يعبأ جمهور
علماء الملة بما روى الخطيب وغيره من الطعن فيه، وصاحبه أبو يوسف معدود
من أئمتهم أيضًا، وكان قاضي هارون الرشيد ومفتيه، ولم ينكر ذلك أحد من أئمة
عصره، وأما صاحبه الآخر محمد بن الحسن فاشتغل بالحديث أكثر من صاحبيه،
وتلقى المؤطأ عن الإمام مالك، ولقي الشافعي وأحمد واطلعا منه على فقه أبي حنيفة
فسرت إليهما عدوى التوسع في القياس بعد أن قال أحمد: سألت الشافعي فقال: هو
كلحم الميتة يلجأ إليه عند الضرورة، ولم يكن لهما ولا لغيرهما مندوحة عن القياس
والرأي بعد التصدي للفتوى العامة في عصر كثرت فيه أسئلة الناس ومشكلاتهم
الدينية وقضاياهم المدنية والجزائية باتساع دائرة الحضارة وكثرة أسباب المعايش
والأعمال.
ومن المعلوم أن بعض أئمة فقهاء الحديث أنكروا حجية القياس مطلقًا، وخص
الإنكار بعضهم بغير الجلي أو بالخفي منه، أو ما كان علته غير منصوصة،
وخصَّه المحققون من القائلين بغير به العبادات، وأما التعبدي منها، وما يتعلق
بعالم الغيب فلا وجه للقياس فيه مطلقًا، ولكن المتأخرين من المصنفين المقلدين
يدخلون فيها القياس، وهم ليسوا منه أهله، وصار كلامهم مسلمًا عند العامة كقول
بعضهم بجواز وضع الستور على القبور قياسًا على الكعبة، وجواز تقبيل الحجارة
وغيرها مما يُوضع على قبور الصالحين قياسًا على الحجر الأسود، دع تقبيل
مفاتيح الكعبة وغيرها، وقياس حياة الشهداء وغيرهم في البرزخ من عالم الغيب
على حياة الدنيا واستنباطهم من ذلك جواز قضائهم حاجات الذين يدعونهم من دون
الله ومع الله فيما لا يقدر عليه إلا الله بل يقولون بوقوعها، وإن كان هذا شركًا،
ويدخلون ذلك كله في باب القُرْبَة والتعبد وهو تشريع لم يأذن به الله ولا يرتضيه
أئمة الدين.
وقد أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه حين أرسله إلى
اليمن أن يجتهد رأيه في الحكم؛ إذا عرضت له قضايا لا يجد فيها نصًّا في القرآن
ولا سنة من أحكام الرسول التي جرى عليها العمل في عهده، ولكن الفقهاء توسعوا
في هذا الإذن فجعلوا أحاديث الآحاد حتى الشاذ والمفرد والمرسل، وكذا الضعيف
غير الواهي منها في حكم السنة المتبعة على خلاف بينهم في ذلك، واصطلحوا
على تسمية ذلك كله سنة، وجعل أكثرهم اجتهاد الرأي عامًّا في العبادات
والمعاملات الشخصية لا خاصًّا بالقضاء كمورده، كما جعلوا الإجماع الاصطلاحي
في كل عصر حجة شرعية، وما ثبت عندهم بذلك دينًا على إنكار بعض أئمة
الهدى كالإمام أحمد لما عدا إجماع الصحابة، ووافقه بعض علماء الأصول على
عدم إمكان العلم بهذا الإجماع إن وقع مع الشك في إمكان وقوعه، عادة، ولكن
بعض المتأخرين حتى من الحنابلة جعلوا اتفاق الأئمة الأربعة حجة.
فكان ذلك له سببًا لكثرة التكاليف والتشديد في الدين، ولا سيما جعل كل ما
كتب في الفقه دينًا يجب على الأمة اتباعه، وأما الأئمة فلم يطالبوا الأمة إلا بما ثبت
قطعيًّا، وأما ما فيه مجال للاجتهاد من دليل ومدلول، فلم يكلفوا به إلا من ثبت
عنده وحرموا تقليدهم فيما ثبت من اجتهادهم، وقد فصَّلنا كل هذا في مواضع من
المنار والتفسير فكثرت بذلك أحكام العبادات والحلال والحرام وسائر المعاملات
بعدهم على خلاف ما كان يريد الرسول صلى الله عليه وسلم كما شرحنا ذلك في
بحث يسر الإسلام الذي نشر في كتاب مستقل، فعلى من أراد الإحاطة بالبحث مع
جميع أطرافه مراجعة الكتابين أيضًا.
وأما ما بالغ فيه بعض المؤلفين من عد أحاديث الصحيحين ولا سيما البخاري
قطعية فقد بيَّنا خطأه فيها ونقلنا عن علماء هذا الشأن ما يؤيد كلامنا، وسنعود إليه
عند دفع بعض مشكلات هذه الروايات كما تقدم لنا في مشكلات أشراط الساعة ولا
سيما أحاديث الدجال والمهدي، وحسبنا هذا الآن.
_________