الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة المجلد الثاني والثلاثين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، وأفضل صلاته وأزكى تسليمه
على رسوله خاتم النبيين محمد المصطفى، وآله وأصحابه الأصفياء الحُنفاء،
وعلى كل مَن اتَّبع هداهم واقتفى.
أما بعد: فإنني كاشفت قراء المنار بسبب صدور الجزء الأخير من المجلد
الحادي والثلاثين في آخر شهر صفر، واستصرختهم لأداء حقوقه الممطولة منهم،
منقوصًا منها خمسها، فنصفها؛ لئلا تضطرني العسرة والغرامة إلى ترك إصدار
المنار في هذا العام فلم يرسل أحد منهم درهمًا ولا دينارًا، ولم يرجع إلينا وعدًا
ولا اعتذارًا، ولا عجب فإن غيرة جميع العالم الإسلامي على مساعدة الإصلاح
الديني لا تزن غيرة يهودي ولا نصراني واحد، وإنني قد حبست نفسي في هذه
الثلاثة الأشهر على إتمام تاريخ الأستاذ الإمام، لم أكتب فيها غيره، فأنا أجعل
فاتحة تصديره ومقدمته فاتحة للمجلد الثاني والثلاثين، وعسى أن أجد من ثمنه ما
أنفق منه على إصدار المنار، وحسب الماطلين الهاضمين لحقه الخزي والعار، وما
بعده من عذاب النار! ولا نقبل بعد صدور هذا الجزء حقنا إلا تامًّا، لا نعفو منه
شيئًا، ولا نشكو هاضميه إلا إلى الله عز وجل، وكفى بالله وليًّا، وكفى بالله
نصيرًا.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تصدير التاريخ
ببيان كُنْه التجديد والإصلاح الذي نهض به حكيم الشرق والإسلام
وشيخنا الأستاذ الإمام، ووجه الحاجة إليه، ووجوب المحافظة عليه
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ
الْوَارِثِينَ} (القصص: 5) ، {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لَا
نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} (الأعراف: 170) ?، {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (آل عمران:
140) .
جرت سنة الله تعالى في أفراد البشر أن يؤتيهم قوى المشاعر الحسية والمدارك العقلية بالتدريج، حتى يبلغ أحدهم أشده، ويستكمل رشده، ويستقل بنفسه
بالعلم والعمل والتجارب، وجرت سنته في الشعوب والأمم أن يمنح كلاًّ منهم من
هداية الوحي في كل طور من أطوار حياتهم الاجتماعية ما هو مستعد له وصالح
لحاله وزمانه، على مثال سنة التدريج في الأفراد. إلى أن استعد النوع البشري في
جملته ومجموعه لفهم أعلى هداية إلهية لا يحتاج بعدها إلا لاستعمال عقله في
الاهتداء بها، في كل زمان ومكان بحسبهما، فوهبه هداية القرآن وختم النبوة
برسالة محمد عليه الصلاة والسلام.
ولما كان من طباع البشر أن يضعف تأثير الوحي في قلوبهم بطول الأمد على
عهد النبوة، فيفسقوا عن أمر ربهم، ويتأولوا كتبه بأهوائهم، أنعم عليهم بما يحيي
هداية النبوة فيهم، بأن يبعث فيهم بعد عصر النبوة مجددين، وأئمة مصلحين،
يرثون الأنبياء بالدعوة إلى إصلاح ما أفسد الظالمون في الأرض، ويكونون حجج
الله على الخلق، وقد بشرنا نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المصلحين، بأن الله
تعالى يبعث في هذه الأمة على رأس كل مائة سنة مَن يجدد لها أمر دينها؛ ليكونوا
خلفاءه فيما جدده من دين الله تعالى للأمم كلها {لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ
الرُّسُلِ} (النساء: 165) إذا طال عليهم الأمد، فقست قلوبهم، وفسقوا عن أمر
ربهم.
إنما كان المجددون يُبعثون بحسب الحاجة إلى التجديد لما أبلى الناس من لباس
الدين، وهدموا من بنيان العدل بين الناس، فكان الإمام عمر بن عبد العزيز مجددًا
في القرن الثاني لما أبلى قومه بنو أمية وأخلقوا، وما مزقوا بالشقاق وفرَّقوا، وكان
الإمام أحمد بن حنبل مجددًا في القرن الثالث لما أخلق بعض بني العباس من لباس
السنة، ورشاد سلف الأمة، باتباع ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله،
وتحكيم الآراء النظرية في صفات الله وما ورد في عالم الغيب، بالقياس على ما
يتعارض في عالم الشهادة، وكان الشيخ أبو الحسن الأشعري مجددًا في القرن
الرابع بهذا المعنى، وحجة الإسلام أبو حامد الغزالي مجددًا في أواخر القرن
الخامس وأول السادس لما شبرقت نزغات الفلاسفة وزندقة الباطنية، والإمام أبو
محمد علي بن حزم الظاهري في القرن السادس لما سحقت الآراء من فقه النصوص
الشرعية، وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم مجددين في آخر القرن السابع
وأول الثامن لجميع ما مزَّقت البدع الفلسفية والكلامية والتصوفية والإلحادية، من
حلل الكتاب والسُّنة السَّنية، في جميع العلوم والأعمال الدينية، وحسبنا هؤلاء
الأمثال في التجديد الديني العام.
وظهر مجددون آخرون في كل قرن، كان تجديدهم خاصًّا انحصر في قطر
أو شعب، أو موضع كبير أو صغير، كأبي إسحاق الشاطبي صاحب الموافقات
والاعتصام في الأندلس، وولي الله الدهلوي والسيد محمد صديق خان في الهند،
والمولى محمد بن بير علي البركوي في الترك، والشيخ محمد عبد الوهاب في نجد،
والمقبلي والشوكاني وابن الوزير في اليمن.
وهنالك مجددون آخرون للجهاد الحربي بالدفاع عن الإسلام، أو تجديد ملكه
وفتح البلاد له، وإقامة أركان العمران فيه، وهم كثيرون في الشرق والغرب
والوسط، ورجاله معروفون، كبعض خلفاء العباسيين والأمويين، ومنهم من جمع
بين أنواع من التجديد كالسلطان صلاح الدين الأيوبي الذي كسر جيوش الصليبيين
من شعوب الإفرنج المتحدة، وأجلاهم عن البلاد الإسلامية المقدسة وغيرها، وأزال
دولة ملاحدة العبيديين الباطنية من البلاد المصرية، وكذلك فتح الترك لكثير من
ممالك أوربة، عُرف فيها مجد الإسلام.
ضعف الإسلام السياسي وملكه:
ثم اتسع مُلك الإسلام وزالت وحدة أحكامه بانقسام الخلافة إلى خلافتين،
فزوال كل منهما، وكثرت دوله، فتفرقت وحدة أمته السياسية إلى شعوب مختلفة في
الأجناس والأوطان، ووحدة ملته الدينية إلى مذاهب مختلفة في الأصول والفروع،
فتعادَوْا في الدنيا والدين، وتقاتلوا على عصبيات الملوك والسلاطين، فحق عليهم
قول كتاب ربهم: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: 46)
فسلط الله عليهم أعداءهم، فثلوا أكثر عروشهم، وانتزعوا منهم أكثر بلادهم {ذَلِكَ
بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ} (الأنفال: 53){وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117) وكان يظهر في هذه الدول المتفرقة مجددون متفرقون في العلم كما
تقدم، وفي الإدارة والعمران كمحمد علي باشا بمصر، وفي الحرب كالأمير عبد
القادر في الجزائر، ويعقوب بك في تركستان الصينية، وفي السياسة كمصطفى
رشيد باشا، وعالي باشا وفؤاد باشا في الترك وخير الدين باشا في تونس، وفي
إرشاد العامة والبدو للدين والدنيا كالسيد السنوسي.
حال البشر الأخير وما يقتضيه من التجديد:
في أثناء هذا الضعف الإسلامي العام، دخلت الشعوب الإفرنجية في طور
جديد في الفتح والغلب والسياسة والعمران، قوامه العلوم الكونية والفنون
والصناعات والثروة والنظام، وتجدد فيها من آلات الحرب وكراعها، وأسلحة
القتال وعتادها، ما يمكِّن الجند القليل من إبادة جند يفوقه أضعافًا مضاعفة في العدد
والشدة والشجاعة في زمن قصير.
واستُحدِث فيه من النظام ما يسهل به على أفراد ممن حذقوه ومردوا عليه أن
يسخِّروا لخدمتهم شعبًا كبيرًا غريبًا عنهم في جنسه ولغته ودينه، كما يسخِّرون
الأنعام الداجنة والسائمة، والحمر الموكفة والخيل المسومة، فيُذلون بالجماعات
المذللة منه الجماعات المتمردة، ويستنزفون ثروته كلها فيجرفونها إلى بلادهم التي
نزحوا منها فاتحين مستعمرين، ويتصرفون في قواه المعنوية وروابطه القومية
والدينية، كما يتصرفون في حرثه ونسله، ولحمه ودمه، وأرضه وماله، وهكذا
يتصرف العلم بالجهل والنظام بالفوضى.
وابتدع فيه من مراكب النقل والتسيار، وآلات رفع الأثقال، وأجهزة تبليغ
الأخبار، ما مهَّد السبل لمبتدعيها ومتخذيها من كل ما أشرنا إليه من الأعمال
الحربية، والتصرفات السياسية، والوسائل الاقتصادية، وصارت المسافة بين
القارة والقارة أقرب من المسافة بين بلد وآخر من مملكة واحدة، وهو ما عُبِّر عنه
في الحديث النبوي بتقارب الزمان.
اتسعت بذلك مسافة الخُلف بين الشعوب في العلم والعمل ووسائلهما، واشتدت
الحاجة إلى تجديد الحياة في المتخلفة منها عن المتقدمة، لا ينهض بمثله أمثال
أولئك المجددين القدماء بالوسائل القديمة وحدها، ولا يطمح إليه صوفي يستمد قوته
من الأموات ويتكل على الكرامات ويغتر بالمنامات، ولا يطمع في تذليل صعابه
واقتحام عقابه غريقٌ في بحار النظريات العقلية، ومغترق الأفكار بنظريات الفلسفة،
ولا يطَّلِع ثناياه، ويجتلي خفاياه، منقطع إلى كتب الشرائع، واستنباط أحكام
الوقائع، ولا يتسامى إليه من تعلم العلوم والفنون العصرية تعليمًا آليًّا ليكون أحد
العمال في دائرة من دوائر الحضارة، أو ديوان من دواوين حكومتها.
إن هذا لبدع من الخطوب الكبرى غير العادي، لا ينبعث إلى تلافيه إلا بدع
من كبراء الرجال غير عادي، أمم قوية بالعلم الجديد والفن الحديد، والسلاح
الشديد، والنظام الدقيق في السياسة والإدارة والمال، والتعاون بتوزيع الأعمال
واستخدام قوى الطبيعة، تستلب مُلك أمم جاهلة، متفرقة متخاذلة مختلة النظام،
مستعبدة للمستبدين، منقادة للخرافيين، وقد قذف في قلوبهم الرعب؛ فكانوا مصداق
قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأَكَلَة
إلى قصعتها [1]، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير؛
ولكن غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن
في قلوبكم الوهن، قال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية
الموت) [2] ، فمَن ذا الذي يضطلع بتجديد حياة هؤلاء الموتى، ويحشرهم من
قبورهم.
ألا إن الرجل الذي ينبعث إلى نفخِ روح الحياة في شعوب هبطت إلى هذه
الدركات من الوهن، وبعْثِها إلى مجاهدة أمم عرجت إلى تلك الدرجات من القوة -
يجب أن يكون ذا روح علوية، أوتيت حظًّا عظيمًا من وراثة النبوة في كمال
الإيمان، وصحة الإلهام، وعلو الهمة، وقوة الإرادة، وصدق العزيمة، وإخلاص
النية، وقوة الفراسة، والزهد في الشهوات البدنية، واحتقار الزينة الخادعة،
والزهد في الجاه الباطل وعدم الخوف من الموت، وأن يكون ذا وقوف على حالة
العصر، وتاريخ الشعوب الديني والسياسي، وسنن الله في الاجتماع، وفصل
الخطاب في الإقناع، وفصاحة اللسان وبلاغة التعبير وقوة التأثير، ثم يكون ما
يحذقه من سائر العلوم مددًا له في عمله.
حكيم الشرق والإسلام:
كذلك كان ذلك الروح العلوي النبوي، الذي تمثل للأفغان في ناسوت بشري
جلس في دروس العلم، فحذق العلوم والفنون القديمة نقليّها وعقليّها في بضع سنين،
وألمَّ بالهند لتلقِّي مبادئ العلوم الأوربية، فوقف على ما شاء منها في زهاء سنتين،
ثم حج في سنة 1273، ومكث في سفره زهاء سنة يتقلب في البلاد الإسلامية
لاكتناه أخلاقها وعقائدها الدينية، واختبار أحوالها الاجتماعية والسياسية.
ثم عاد إلى بلاده فانتظم في سلك حكومتها وهي ممزقة بالفتن الداخلية،
وموبوءة بالدسائس البريطانية، فكاد بتدبيره يخلص الأمر فيها لأميرها محمد أعظم
خان الذي بوَّأه مكان الوزير الأول عنده، لولا ما عارض ذلك من الدسائس
الإنكليزية، التي تمدها القناطير المقنطرة من الجنيهات الإسترلينية، والروبيات
الهندية.
واضطر بفشل أميره إلى هجر وطن ولادته ونشأته، إلى حيث يمكنه
الإصلاح من أوطان أمته، فمرَّ بالهند، فبالغت حكومتها الإنكليزية بالحفاوة في
ضيافته، مع إحاطة عمالها وجواسيسها بمجالسه، ومنع علمائها من الاتصال به،
ولكنه نفخ فيمن لقيه من كبرائها روح الاستقلال، والجرأة على كسر مقاطر
الاستعباد، ثم كان يغذي ذلك الروح بالكتاب وتلقين الأفكار، لِمَن يلقى من رجالها
في مصر وأوربة وسائر البلاد، وبمقالات له في الجرائد نشرناها في المنار،
وناهيك (بالعروة الوثقى) التي كادت تضرم نيران الثورة فيها، وكان موقنًا باستقلالها
من بعده، حتى إنه قال للشيخ عبد الرشيد التتاري: (يا ولد، إنك ستصلي صلاة
الجنازة على القيصرية الروسية، وستحضر تشييع جنازة الإمبراطورية الإنكليزية
في الهند) وقد تمت البشارة الأولى، وظهرت بوادر الثانية في هذه الأعوام.
وأغرب من ذلك أنه حمَّله تقريرًا منه إلى جمعية سياسية سرية في عاصمة
الروسية رئيسها عم القيصر، وقال له: (اذهب بهذه الرسالة وأوصلها إلى
الغراندوق فلان، واعلم أنك إما أن تُقتل، وإما أن تفوز وتغنم) فأوصلها فقام
الغراندوق لها وقعد، ثم أعاده بها إلى بلاد اليونان ليطبعها فيها باللغة الروسية
ويرسلها إليه، وعرض عليه من المال ما شاء، فلم يأخذ إلا القدر الضروري،
ولقي أهوالاً كادت تُذهب بحياته.
جاء هذا السيد مصر فنفخ فيها روح الحكومة النيابية، وألَّف فيها الحزب
الوطني الأول لتقييد سلطان الحكومة الشخصية، وغذَّى تلاميذه ومريديه بعشق
الحرية ووسائلها من العلم والكتابة والخطابة، كما أرشد المسلمين منهم إلى الإصلاح
الديني، والجمع بينه وبين العلم العصري، وكان من أثر هذا ما شرحه هذا الكتاب.
ذهب إلى إيران، فنفخ فيها روح التجديد في السياسة والعمران، فما زال
يفعل فعله فيها بين قيام وقعود، وهبوط وصعود، حتى ظفرت بالحكومة النيابية في
عهد الشاه مظفر خان، وما زالت تنتقل في أطوار التجديد والإصلاح.
ثم انتهى إلى عاصمة الدولة العثمانية، فأنشأ يرشد السلطان لوسائل الاستفادة
من منصب الخلافة الإسلامية، ويجمع له كلمة الشعوب والمذاهب المختلفة، حتى
إنه أقنع كثيرًا من علماء الشيعة المجتهدين بالاعتراف بخلافته وجعلها مناط الوحدة
الجامعة للمسلمين؛ ولكن قرناء السوء خوَّفوا السلطان من النهوض بهذه الجامعة،
فأعرض عنها، وكان السيد مع ذلك يبث هنالك أفكار الإصلاح والتجديد، الجامع
بين الطريف والتليد إلى أن قضى نحبه ولقي ربه، رحمه الله وقدَّس سره.
الأستاذ الإمام:
أرأيتك هذا المصلح العظيم، والمجدد الحكيم، إنه لم يظفر في شعب
من الشعوب الإسلامية بمَن يصلح أن يكون خليفة له، ومتممًا لإصلاحه بما يرجى
به دوامه، بعد أن وجه إليه الوجوه، وعلقت بطلبه القلوب، على كثرةٍ من
المصطبغين بصبغته، إلا رجل مصر الشيخ محمد عبده؛ لأن منصب إمامة
الإصلاح والتجديد لا يُرتقَى إليه بوسائل الذكاء والتفكير والتربية والتعليم وحدها، بل
لا بد فيه من الاستعداد الروحي والمواهب الفطرية كما قررنا.
كان الشيخ محمد عبده سليم الفطرة، قُدسي الروح، كبير النفس، وصادف
تربية صوفية نقية، زهَّدته في الشهوات والجاه الدنيوي، وأعدَّته لوراثة هداية
النبوة، فكان زيته في زجاجة نفسه صافيًا، يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار، فمسته
شعلة من روح السيد جمال الدين الأفغاني؛ فاشتعل نورًا على نور {يَهْدِي اللَّهُ
لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (النور: 35) .
اقرأ في الصفحة 25 من هذا الكتاب كيف زار السيد للمرة الأولى هو
وصديقه وأستاذه الشيخ حسن الطويل في خان الخليلي، وكيف كان أول حديثه
معهما السؤال عن تفسير بعض آي القرآن وما يقول العلماء والصوفية فيها، وأنه
بيَّن لهما قصور كل ما قالوه وجاء مِن عنده بخيرٍ منه، وكيف أُعجبا كلاهما بما قال؛
ولكن الشيخ حسنًا ظل على حاله؛ لأنه كان قد بلغ منتهى استعداده، وكان أرقى
علماء الأزهر عقلاً وعلمًا وزهدًا.
وأما الشيخ محمد عبده فكان يشعر بأن كل ما أصابه من حسن تربية الشيخ
درويش، ومن علم الشيخ الطويل والشيخ القصير [3] دون ما تسمو إليه نفسه،
ويتطلع إليه عقله، وتضطلع به همته، وكان يطلبه بما استطاع من الوسائل فلا
يجده؛ ذلك أن روحه كانت مستشرفة للعرفان الذي يصعد بها إلى سماء الوراثة
النبوية في إصلاح البشر، وتجديد أمر الدين الذي بشَّر به المصلح الأعظم صلى
الله عليه وسلم، فاتصل بالسيد جمال الدين من ذلك اليوم حتى اقتبسه منه، وكان
خليفته فيه، لكن من ناحية تربية الأمة التي كان يتمنى قيام السيد بنفسه بها - إذ لا
يثبت إصلاح الحكومات بدونها - لا من ناحية استبدال حكومة مستبدة بغيرها
(راجع ص974) .
تلك الوراثة النبوية التي عبر عنها يوم موت السيد بقوله في رثائه الوجيز
البليغ: (والدي أعطاني حياة يشاركني فيها علي ومحروس [4] ، والسيد جمال
الدين أعطاني حياة أشارك بها محمدًا وإبراهيم وموسى وعيسى صلى الله عليهم
وسلم والأولياء والقديسين، ما رثيته بالشعر لأنني لست بشاعر، ما رثيته بالنثر
لأنني لست الآن بناثر، رثيته بالوجدان والشعور لأنني إنسان أشعر وأفكر) اهـ
بنصه تقريبًا [5] .
هذه الوراثة هي التي أخرج الله تعالى بها محمدًا عبده من خمول تصوفه،
وخمود أزهريته إلى ميادين الجهاد في سبيل التجديد الديني، والإصلاح الاجتماعي
المدني، يخوض غمرات الثورات، وتتقاذفه أمواج الأسفار، وتكافحه فتن الأمراء
المستبدين، وجهالة حملة العمائم الجامدين، من حيث بقي حسن الطويل نديده في
التصوف والفلسفة قابعًا في كسر بيته، راضيًا بخموله وراحة نفسه، وإن في
الصلاة لراحة، وإن في العلم والذكر للذة؛ ولكن ثوابهما قاصر على صاحبهما،
وثواب الجهاد متعد لكل من ينتفع به، والإنسان الكامل من يجمع بينهما.
بهذا الروح العلوي كان يقول له أستاذه السيد جمال الدين، وهو مجاور يلبس
الزعبوط: (قل لي بالله أي أبناء الملوك أنت؟) ذلك السيد الذي كان يخاطب الملوك
المستبدين خطاب الأقران، بل يهدد بعضهم، ويمن على بعض فيقول للسلطان عبد
الحميد: (إنني لأجل أمرك قد عفوت عن شاه إيران) ويقول له السلطان بحق:
(يخاف منك الشاه خوفًا عظيمًا)[6] .
بهذا الروح العلوي كان يشرف من سماء إدارة المطبوعات بالسيطرة
والسلطان على الحكومة المصرية من أعلاها إلى أدناها، فيأمرها وينهاها، منتقدًا
أعمالها، مرشدًا عمالها، يُخطِّئ لغتهم الكتابية فيضطرهم إلى إصلاحها في معاهد
التعليم، ويفند أعمالهم فيقيمهم على صراط العدل المستقيم، بل أزعج بمقالاته في
انتقاد وزارة المعارف ناظرها حتى شكاه إلى رئيس النظار رياض باشا فما أشكاه،
وكلَّم الرئيسُ الشيخَ فأقام له البرهان على وجوب الإصلاح، وأقنعه بإنشاء المجلس
الأعلى المقيد لاستبداد وزيرها في الأعمال، فأنشأه برأيه، وكان هو سكرتير ذلك
المجلس وصاحب التأثير الأكبر فيه.
بهذا الروح العلوي كتب ذلك الكتاب البليغ في سجنه وأعلن فيه عفوه عمن
وشوا به وأساءوا إليه على ما كان من إحسانه إليهم، وجزم بما أعدت له العناية من
المجد، واعدًا بأن سيفعل المعروف، ويغيث الملهوف.. . وكذلك كان.
بهذا الروح العلوي كان هو الرأس المدبر في كل مجلس رسمي عين عضوًا
مرءوسًا فيه، كمجلس إدارة الأزهر، ومجلس الأوقاف الأعلى، ومجلس شورى
القوانين، وتجد إثبات ذلك في بيان أعماله فيها من هذا الكتاب، سافرة الوجه ليس
دونها نقاب.
بل بهذا الروح العلوي كان أميره يكبره ويهابه، ويقول إنه يدخل عليَّ كأنه
فرعون؛ وإنما كان يدخل عليه كدخول موسى عليه السلام على فرعون، متوكئًا
على عصا الحق، داعيًا إلى الإصلاح والخير، ناهيًا عن الاستبداد والبغي، كقوله
له في مجلس تشريف المقابلة الحافل بالعلماء: إن مجلس إدارة الأزهر لا يعرف
لسموكم أمرًا عليه، إلا بهذا القانون الذي بين يديه، دون الأوامر الشفوية التي
يبلغها عنكم من لا يثق به المجلس لمخالفته لقانونكم.
تلك آيات بينات من حياة كل من الروحين على الانفراد، فما رأيك إذا اجتمع
هذا الروح العلوي بذلك الروح الأعلى الذي أذكى سراجه الوهاج، واتحدا في عمل
من الأعمال؟ ذلك ما كان من إصدارهما جريدة العروة الوثقى، التي لا نعرف في
تاريخنا كلامًا بشريًّا أبلغ من مقالاتها في إصابة مواقع الوجدان من النفس،
ومواضع الإقناع من العقل، وتجرئة الضعفاء على الثورة على الأقوياء، والجهاد
لتحرير أمتهم، واستقلال بلادهم.
فإن سألت عن تأثيرها في رعب العظمة البريطانية، وإثارة العالم الإسلامي
والشعوب الشرقية؛ فإنك تجد قصصها مبسوطًا في هذا الكتاب، بما يشبع نهمتك
السياسية من إسهاب، ويروي غلتك الأدبية من إطناب (ص298 و303) .
وإنه ليبسط لك بالروايات الصحيحة، والشواهد الصادقة، كل ما أشرنا إليه
في هذا التصدير من آثار تلك الروح القدسية، وتجديد الإصلاح المنقذ للأمم
والشعوب من رق الفاتحين المستعمرين، وظلم المستبدين القاهرين، وجمود الفقهاء
المقلدين، ودجل المتصوفة الخرافيين، فاطلبه من هذا التاريخ؛ فإنه يقصه عليك
مفصلاً تفصيلاً.
فاقرأه أيها الغيور على قومه ووطنه فصلاً فصلاً، وتدبر مقاصد فصوله
مقصدًا مقصدًا، ثم اقرأ في الجزء الثاني له مقالات الإمام الاجتماعية والأدبية،
ولوائحه في إصلاح التربية والتعليم، ورسائله الدينية والأدبية للعلماء والأدباء، ثم
ارجع البصر إلى الجزء الثالث واعتبر بتأثير وفاته في العالم الديني والمدني،
وتأمل إجماع كتاب الأمم والشعوب المختلفة الأجناس والأديان والآراء والأفكار على
تزكيته وتقديسه، أو تدبر مقدمتنا لكل منهما تعلم أنه هو الإمام الذي يجب اتباعه في
تجديد الأمة وإحياء الملة، وإيجاد المدنية الفاضلة، ثم انظر ما اقترحته على مصر
في خاتمة هذا الكتاب لعلك تكون من حزب الدعاة المصلحين، وأنصار التجديد
المستبصرين الذين قال الله فيهم: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي
الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ} (القصص: 5) .
هذا ما توخيت التنويه به من هذا الضرب البديع من التجديد لحياة الشرق
على ما وصفت من التباين بينه وبين الغرب، وما كان من تأثيره الذي يشبه
خوارق العادات، كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الأموات.
المجددون للوثنية والدجل:
ألا وإنه قد نجم في هذين القرنين قَرْنان - أو قُرون - من أدعياء التجديد،
بعضهم في إيران وبعضهم في الهند، وإن هم إلا مُسحاء دجالون، ومتنبئون كذَّابون،
لبَّسوا على الناس لباس الإصلاح الديني، وتمثلوا لهم بالشكل الذي تُصوره تقاليدهم لما
ينتظرون من المسيح والمهدي، وانتحلوا لدعايتهم آيات، واخترقوا لأنفسهم معجزات
، فمنهم من ادعى النبوة، ومنهم من ادعى الألوهية، وقد اتبعهم فئام من المحرومين
من مزايا الإنسان، الكافرين بنعمتي العقل والقرآن، الجاهلين لثبوت نبوة خاتم النبيين
بالعلم والعقل، وإن الله ختم به نزول الوحي، فزادهم رجسًا على رجسهم، وعبودية
للأجانب على عبوديتهم، فكانوا دعاة أو أنصارًا للمعتدين على استقلال بلادهم،
المستبدين لأقوامهم، فوالله لو عمت فتنتهم لاستولى الإنكليز على بلاد فارس كلها،
ولما وجد في الهند من يطالب الإنكليز باستقلال، ولا بحق من الحقوق ولا عمل من
الأعمال.
أليس من مثار العجب الذي جاء بها أبو العجب [7] أن يضع كل من أتباع
هؤلاء الدجالين لأنفسهم نظامًا، ويجمعوا لبث نحلتهم أموالاً، وينفروا للدعوة إليها
خفافًا وثقالاً؟ فيكون لهم في كل وادٍ أثر، وفي كل قطر ذكر، وينضوي إليهم
بعض الملاحدة طمعًا في أموالهم، لا إيمانًا بمسيحهم أو إلههم؟
أو ليس بأوغل من هذا في أعماق العجب، وأولغ في أحشائه أن يتخاذل
العارفون بقدر حكيمي الشرق، وإمامي الإسلام بالحق، عن تأليف حزب لتعميم
إصلاحهما، واستمرار تجديدهما، وأن يكون لجماعتهم نظام يكفل دوام سيرهم
ومال يضمن نجاح سعيهم، ومدارس تربي النابتة على منهاجهم، وأطباء يداوون
أمراض الاجتماع بعلاجهم على استقلال الفكر، وحرية العلم والرأي وهداية الدين،
وتوطين النفس على الجهاد لإعلاء كلمة الحق، وإقامة ميزان العدل لتكون عزيزة
لا تدين لأجنبي معتدٍ، ولا لوطني مستبد؟ .
نعم إن ذلك لعجيب، وإن هذا لأعجب منه، ويشبههما في العجب أن المنتمين
إلى السنة من المسلمين أقل من المبتدعة تعاونًا وتناصرًا وعصبية ودعاية، أفلا
أنبئك بالسبب، الذي ينتاشك من حيرة العجب؟ .
إن حقيقة السنة والجماعة هي حقيقة الإسلام، وإن الإسلام الحق هو دين
توحيد العبودية والربوبية لله وحده، والحرية وعزة النفس تجاه ما سواه، واتباع
رسوله وحده فيما بلَّغه عنه، والعمل بمقتضى الوازع النفسي التابع للعقيدة، والنظام
الاجتماعي الذي تقرره الشريعة، فلا تذل نفس صاحبه بالانقياد لرئيس ديني لا
دنيوي لذاته، ولا لسلطان وراثي أو تقليدي فيما وراء تنفيذ أحكامه.
وأما هذه النحل الباطلة والمذاهب المبتدعة التي أشرنا إلى بعضها فأساسها
العبودية والخضوع لفرد أو جماعة من البشر، يقدس منتحلها أشخاصهم ويرفعهم
على نفسه وعلى سائر الناس وهم منهم، ويوجب طاعتهم عند فريق وعبادتهم عند
آخر، فتكافل هؤلاء يكون تامًّا شاملاً لأنه تعبدي، وعصبيتهم تكون أقوى لأنها
وجدانية لا عقل للأفراد ولا رأي للجمهور فيها.
ويرد علينا ههنا أن العقائد الباطلة والتعاليم الواطئة، خير للجماعات
وللشعوب التي تأخذ بها من العقائد الصحيحة والتعاليم العالية، من حيث جمع الكلمة
ووحدة الأمة، ونرد هذا الإيراد بقولنا: إن العقائد الحق والتعاليم الصحيحة لا يقوم
بها إلا أصحاب العقول النيرة والأفكار المستقلة الذي آمنوا بها عن حجة وإذعان،
وما تنازع هؤلاء مع المخالفين لهم إلا وكان لهم الرجحان، سواء أكان التنازع في
الدين أو في الحكم والسلطان، وبهذا ظهر الإسلام على جميع الأديان.
وهذا الفريق - فريق العقل واستقلال الفكر - قَلَّ في جميع فرق المسلمين ببناء
التعليم فيهم على أساس التقليد الذي يحتم على طالب العلم أن يقبل كل ما يقرره
شيوخه بعنوان مذهبه، وإن لم يكن منه، سواء أعَقَلَه أم لم يعقله، فإن نازعه فيه
حكم بكفره، ولهذا صار أكثر المسلمين يقبلون البدع والخرافات مهما تكن المذاهب
التي ينتمون إليها، إذ ليست المذاهب فيهم إلا عناوين لعصبيات لها رؤساء يطاعون
باسمها، وأكثرهم يجهلون أصولها وقواعدها، ومن تلقى شيئًا منها؛ فإنما هو لفظ
ينقله ولا يعقله، ولا يرجع إليه في فروع علمه ولا عمله، ومن كان غير مستقل الفهم
والعقل في عقيدته، لا يكون مستقل الإرادة في عمله، ومن نتائج هذا الخضوع أن
صاروا خانعين للمستبدين وظهراء للظالمين، وإن كانوا بملتهم كافرين.
وأساس الإصلاح الديني والسياسي الذي قام به وعليه الإسلام دينًا ودولة،
وقامت عليه الدول القوية هو الاستقلال بنوعيه، وهو الذي دعا إليه الحكيمان
المجددان: الأفغاني والمصري، وقد بيَّنه الأستاذ الإمام في رسالة التوحيد، لهذا كان
أنصارهما من رجال الدين هم الأقلين وخصومهما منهم هم الأكثرين، وكان أشد ما
أنكروه عليهما: القول بوجوب الاجتهاد، وتحريم التقليد. ويقابله أن كان أكثر
المعجبين بهما والذين قدروهما قدرهما، هم الذين نبغوا في المدارس المدنية العالية
التي يسير فيها التعليم على منهاج استقلال الفكر، وكذا من تلقى من بعض أهلها
وعاشرهم على استعداد فيه فصار مستقلاًّ، ثلة من المدنيين وقليل من المعممين.
ولو كان ما دعا إليه الحكيمان هو التجديد السياسي والمدني دون الديني لألَّف
له هؤلاء الأنصار حزبًا كبيرًا منظمًا، كما فعل سعد باشا من تلاميذهما بعدهما.
ولو دعا الأستاذ الإمام إلى نهضة دينية تقليدية صوفية لوجد من الأزهريين
وأهل الطرق من يؤسس له عصبية قوية يتبعها الألوف وألوف الألوف في زمن
قريب، ولا سيما إذا أباح لنفسه أن يظهر لهم تعبده الخفي، ومعرفته بأسرار
التصوف، وغير ذلك من خصائصه الروحانية، التي كان يعتقد وجوب كتمانها
لأنها غير طبيعية، فإظهارها للمقيدين بالسنة الطبيعية فتنة لهم، وفيها كثير مما يُعَدُّ
من الكرامات عندهم، وقد نقلت هذا عنه في بيان رأيه في التصوف والصوفية.
بيد أن كلاًّ منهما حكيم عاقل، وأن السيد جمال الدين رجل دين، وإن غلبت
عليه السياسة، والشيخ محمد عبده رجل سياسة وإن غلب عليه الدين، بل هو
أقرب من أستاذه إلى الموقف الوسط بين رجال الدين والدنيا من المرتقين فيهما،
فقد كان في الأزهر لا يعلو قولَه قولٌ، ولا يغلب رأيَه رأيٌ. وكذلك كان بين
الراقين من رجال الدنيا كالوزراء والقضاة والمحامين والأدباء والمنشئين، بل كان
كذلك بين علماء الإفرنج وساستهم، وترى نموذجًا من شهادات الجميع له في هذا
التاريخ.
_________
(1)
تداعى - بفتح الدال - أصله تتداعى، أي يدعو بعضها بعضًا، والأكلة - بفتحتين - جمع آكل.
(2)
رواه أبو داود والبيهقي في دلائل النبوة من حديث ثوبان رضي الله عنه.
(3)
المراد بالشيخ القصير: أحمد الرفاعي، القصير القامة، وكان أصلب الأزهريين جمودًا، كما كان الشيخ الطويل أشدهم استقلالاً.
(4)
هما أخواه اللذان يشتغلان بالزراعة.
(5)
كنت كتبت العبارة من مذكرة له، وفقدت المكتوب وبقي المحفوظ.
(6)
هذا لفظ السيد في ترجمة لفظ السلطان، سمعه منه كثيرون في الآستانة.
(7)
أبو العجب الشعوذي، وكل من يأتي بالأعاجيب.
الكاتب: محمد رشيد رضا
خلاصة الخلاصة
في وجوب الجمع بين التجديدين الديني والمدني
وحزب الإصلاح المعتدل الذي يقوم به
وخلاصة ما أريد عرضه على قراء هذا التاريخ في هذا التصدير أن إصلاح
الأمة الإسلامية في أي شعب من شعوبها لن يكون إلا بالجمع بين التجديد الديني
والدنيوي، هذا ما صرَّح به الحكيمان وجريا عليه بالعمل، وصرَّح لي به سعد باشا
زغلول وقد نقلته عنه في المنار، بل هذا ما يعتقده أهل الرأي الناضج من غير
المسلمين، وقد صرَّح به الكثيرون منهم قولاً وكتابة، كما يراه القارئ فيما كتبه
بعضهم في تأبينهم الأستاذ الإمام وترجمتهم له من الجزء الثالث، وذكرت كلمات
منها في الشهادات المعدودة لأشهرهم قبل خاتمة هذا الجزء.
فالجهاد الذي يخوض غمراته دعاة الاستقلال السياسي والإصلاح المدني لا يتم
لهم النصر فيه، ولا يتسق أمره وتثبت بوانيه، إلا بالتعاون والتظاهر مع دعاة
الإصلاح الديني، وقد كثر جنده المستقلون في فهم الإسلام في الأزهر وغيره من
القطر المصري، وفي سائر الأقطار الإسلامية، وهم منذ سنين يفكرون في تكوين
وحدتهم وتنظيم حزبهم، فإذا وجدوا من زعماء الأحزاب المدنية رغبة في الاتحاد
بهم والتعاون معهم، ظهر لهؤلاء من قوتهم في الرأي، وتأثيرهم في الشعب
بألسنتهم الخاطبة وأقلامهم الكاتبة، ما لم يكونوا يحتسبون.
وأختصر في هذا الموضوع هنا لأنني قد وفَّيته حقه في خاتمة الكتاب بما ليس
وراءه مزيد، إلا إذا ظهر الاستعداد له وانتقل إلى حيز التنفيذ.
{وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (آل عمران: 101) .
وكتبه محمد رشيد رضا في سلخ جمادى الأولى سنة 1350.
* * *
المواد المهمة
التي اعتمدنا عليها في كتابة هذا التاريخ
1-
ما كان شرع فيه الأستاذ الإمام من ترجمة نفسه بخطه.
2-
مذكرة بتاريخ حياته كتبها لي لأجعلها أصلاً لخلاصة لتاريخه طلبت منه.
3-
ما كتبه من تاريخ الثورة العرابية ومذكراته الوجيزة فيها.
4-
مجموعة خطية له، فيها بعض المستندات في عمله مع السيد جمال الدين
في تأسيس جمعية العروة الوثقى السرية ونظامها، وبعض المكاتبات بينه وبين
أعضائها.
5-
مسودات مقالات ومكتوبات وتقارير كان يعطيني إياها لتبييضها، أو
بسطها ونشرها في الجرائد أو إرسالها لبعض الناس، ومنها ما هو خاص بالأزهر.
6-
مؤلفاته كلها وما اقتبسته من تفسيره ودروسه في الأزهر.
7-
جملة من المكتوبات والرسائل والقصائد التي كانت تُرسل إليه وحفظها
عنده.
8-
مجموعة فيها حِكم مقتبسة منثورة بخط السيد جمال الدين وخطه ومقالات
له.
9-
مقالاته الإصلاحية في جريدة الوقائع المصرية.
10-
مجموعة العروة الوثقى برمتها بخطي وخط بعض إخواني.
11-
قوانين الأزهر ولوائح التعليم فيه ومحفوظات أخرى في شأنه.
12-
كتاب أعمال مجلس إدارة الأزهر.
13-
تقرير محمد بك أبو شادي في مسألة فتوى طعام أهل الكتاب.
14-
إرشاد الأمة الإسلامية إلى أقوال الأئمة في الفتوى الترانسفالية لجماعة
من أكابر علماء الأزهر.
15-
مجموعة مجلدات المنار وما فيها من المقالات والآراء له وعنه وفي
شأنه.
16-
عدة أجزاء من مجلة ضياء الخافقين، فيها مقالات للسيد جمال الدين.
17-
مجموعات المجلات والجرائد المصرية التي نشرت ترجمة السيد
وترجمته.
18-
كتاب الدفاع عن العرابيين لمحاميهم مستر برودلي.
19-
ما كتبه لي أصدقاؤنا من تلاميذه ومريديه عن سيرته في سورية بعد
النفي، ورحلته إلى السودان وفي مدحه والدفاع عنه.
20-
مذكراتي الخاصة ومكتوباته لي، وما اقتبسته واستفدته من معاشرته 8
سنين.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
{رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي
الآخِرِين} (الشعراء: 83) ، {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً
وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف: 101) .
فلك الحمد أن جعلت سِير الأولين عبرة للآخرين، ومننت على عبادك بمن
بعثته في الأميين، يتلو عليهم آياتك ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من
قبل لفي ضلال مبين، محمد خاتم النبيين، ورحمتك العامة للعالمين، فَصَلِّ وسلم
اللهم عليه وعلى آله وصحبه، والمجددين لهديه وإصلاحه من بعده، حتى ترث
الأرض ومن عليها، وأنت خير الوارثين.
أما بعد، فيقول محمد رشيد رضا صاحب المنار: إن مصر لن تنسى ذكر
الحكيمين المجددين، والإمامين المصلحين، السيد جمال الدين الأفغاني، والشيخ
محمد عبده المصري، فطلاب الإصلاح الديني والإصلاح المدني والإصلاح
السياسي، لا يفتئون يشيدون باسميهما على أعواد المنابر، وفي أعمدة المجلات
والجرائد، ولا يزالون يجعلونهما مضرب الأمثال، ويتناقلون ما يُؤثر عنهما من
حكم الأقوال، وجلائل الأعمال، بل ذكرهما الحميد معروف في سائر الشرق، غير
مجهول في عالم الغرب، وإن لقب (حكيم الشرق) ولقب (الأستاذ الإمام) لاصقان
بهما، ومُغنِيان عن تسميتهما.
وقد أجمع العارفون والمدونون للتاريخ الحديث على أنهما مصدر هذه النهضة
العصرية في مصر والأفغان وإيران والهند، وهم يشعرون بالحاجة إلى وضع
تاريخ لهما يدون سيرتهما، ويفصِّل أعمالهما الإصلاحية، ويرون أن ما كتب في
الصحف عند وفاة كل منهما، وما ينشر فيها أحيانًا من التنويه بإصلاحهما نَزْرٌ
يسير من أعمالهما وآرائهما النافعة. وعجب بعض المفكرين أن رأوا بعض الإفرنج
يكتب في تاريخهما ما لم يكتب مثله أولادهما وأحفادهما من دعاة الإصلاح والتجديد.
وينحون بأشد اللائمة على المصريين منهم عامة، وعلى صاحب المنار
خاصة! إذ كان أخص مريدي الأستاذ الإمام وناشر علمه وحكمته، والمدافع عن
إصلاحه في عهده ومن بعده، وقد وعد بكتابة تاريخ له عقب وفاته، فنشر سفرًا
جمع فيه أكثر منشآته القلمية، وجزءًا جمع فيه أهم ما قيل وما كتب في تأبينه
ورثائه، وسماهما (الجزء الثاني والثالث من تاريخ الأستاذ الإمام) وقد مرَّ ربع قرن
ونيف ولم يصدر الجزء الأول الذي هو التاريخ الحقيقي.
أشهد أن لوم اللائمين لمصر على هذا التقصير حق، وإنني بما يخصني من
التثريب علي لأجله - وهو أكبره - أحق، ورب لائم مليم، ورب ملوم معذور،
وها أنذا ألخص عذري بعد أن اعترفت بتقصيري، وبرئت من ذنبي بإنجاز وعدي.
توفي الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى في إثر معارك من جهاده في الإصلاح ما
صلي نارها معه غيري، وحملت ما تصديت له من الضرر، غير متململ ولا
ضَجِر، وأما ما لذع قلبي من نار فقده فهو الذي لم يكن لي بحمله حول ولا قوة إلا
بالله العلي العظيم، ثم كنت مهددًا بعده بالنفي من هذه البلاد كما هُددت في آخر
عهده، وقد وطَّنت نفسي على النفي وعزمت على السفر إلى الهند، ولم أتحول عن
خطتي قيد شعرة.
أعلنت عزمي على كتابة تاريخ للأستاذ الإمام فلم ألبث أن بُلِّغت عن الأستاذ
الشيخ عبد الكريم سلمان أن أصدقاءه قد قرروا تأليف تاريخه بالتعاون بينهم وهم به
أولى، فقلت للمُبَلِّغ: إن تأليف تاريخين لهذا الإمام الكبير ليس بكثير ولا كبير
فليكتبوا ما عندهم ولأكتب ما عندي.
ثم أرسل إليَّ عميد حزبه المدني وأقوى أركانه سعد باشا زغلول، وكان عاد مع
شقيقه أحمد فتحي باشا من أوربة، فجئته فبلَّغني أنه هو وإخوانه من مريدي الإمام
وأصدقائه يرون أن أتولى كتابة تاريخه، وأن يساعدوني بما لديهم من المواد
والمعلومات، ثم يساعدوني على طبعه ونشره بالمال، بشرط أن أطلعهم على عملي
وأستشيرهم فيه؛ فإن كثيرًا من سيرته رحمه الله كانوا يُعَدَّون متكافلين معه فيه،
ويُعَدَّون من بعده مسئولين عنه.
فأجبته أنني لست إلا واحدًا منكم، بل أنا أصغركم، ولا أستغني عن
مساعدتكم ومشاورتكم، ولا أحب الخروج عما ترونه من مصلحتكم. وفي إثر ذلك
اجتمع بدعوة منه: الشيخ عبد الكريم سلمان وحسن باشا عاصم ومحمد بك راسم
وقاسم بك أمين والشيخ عبد الرحيم الدمرداش باشا، وقرروا ندب أحدهم - أحمد فتحي
باشا زغلول - ليكون نائبًا عنهم في التعاون والتشاور معي في العمل، وبلَّغوا حمودة
بك عبده ذلك، وأنه يرضيهم أن يعطيني ما عنده من مواد هذا التاريخ؛ وإنما
اختاروه لذلك لأنه أنشطهم وأقدرهم عليه وأكثرهم مودة وزيارة لي، وطلاقة في
حرية الكلام معي، وكان هو المتصل من جماعتهم بسمو الخديو، ومحيطًا بسياسته
وسياسة الإنكليز في الأمور علمًا، وهما الجانبان اللذان يحسب لرضاهما وسخطهما
كل حساب.
وكان كل ما قدمه لي من المساعدة نسخ مقالات الأستاذ الإمام الإصلاحية من
جريدة الوقائع المصرية الرسمية، إذ كان يقتني مجموعتها، وكان أول ما شاورته
فيه مقالات جريدة العروة الوثقى وكانت كلها منسوخة عندي، فأما ما كان منها
خاصًّا بالسياسة ومسألة مصر والسودان وتهييج العالم الإسلامي والهند على الدولة
الإنكليزية - فقد وافقته على تركه وعدم نشر شيء منه في منشآته؛ لأن الحرية في
مصر لا تتسع لنشره، وقد كانت العروة الوثقى ممنوعة من مصر والسودان والهند
لأجلها، وقد نشرت أهمها في هذا الجزء، وأعطاني حمودة بك بعض المواد ومن
أهمها ما كتبه الأستاذ من تاريخ الثورة العرابية.
وأما المقالات الإصلاحية العامة التي بث الحكيمان فيها الدعوة إلى جمع كلمة
المسلمين وإصلاح ذات بينهم، والتعاون على إحياء مدنيتهم بما تقتضيه وسائل هذا
العصر - فقد اتفقنا على نشر أكثرها، وترك ما تعده إنكلترة تحريضًا عليها منها؛
ولكنه أشار أيضًا بحذف جمل من بعض المقالات ما وافقته عليه إلا كارهًا، وأيقنت
أنني لا يمكنني أن أكتب هذا التاريخ تحت مراقبته والتقيد بمشاورته بالحرية التي
أريدها، وقد ساعدتني اللجنة بمبلغ من المال أعطيتها في مقابله مئات من النسخ
وزَّعها أعضاؤها بالمجان، وبِيعَ بعضها بثمن بخس.
فهذا ما حملني على التعجيل بجزء التأبين والرثاء والتعازي، ثم بجزء
المنشآت، والتسويف بجزء الترجمة، ثم التطويل في فصول تربية الأستاذ الإمام
وتعليمه منه بذكر ذلك الاستطراد الطويل في الكلام على حقيقة التصوف وما يوافق
الكتاب والسنة وما يخالفهما منه.
واتفقنا على جعل ترجمة المنار للأستاذ الإمام هي الأصل لجزء الترجمة في
مواده مع بسطها والتوسع فيها، وقد قرأه هو ورتَّبه وأشار بالحبر الأحمر إلى حذف
بعض المسائل منها لمخالفتها لمقتضى الحال أو سياسة الوقت.
وفي أثناء ذلك استقال لورد كرومر العميد البريطاني وخلفه السر ألدون
غورست صديق سمو الخديو، وكان ذلك في أوائل سنة 1325 قبل أن تتم على
وفاة الإمام سنتان، فكبر نفوذ سموه في الحكومة وضاقت بكبره سعة الحرية علينا،
وأعيد في عهده العمل بقانون المطبوعات، فاقتنع أحمد فتحي باشا نفسه بأن كتابة
تاريخ الأستاذ الإمام كتابة حرة مفيدة صار متعذرًا، فاتفقنا على الوقوف عند ما كان
قد تم منه، وهو إلى 232 صفحة، وهو المقدار الذي أطلعت عليه الشيخ عبد
الكريم سلمان إذ رأيته شاكًّا في بدئي بطبع الكتاب، فاعترف بأنه لا يمكن نشره.
وجملة القول: إن طبع هذا الجزء كان يسوء الخديو عباسًا، وإن لم ينشر فيه
ما كان من مقاومته للإمام في إصلاح الأزهر والمحاكم الشرعية والأوقاف حتى
المساجد؛ فإن نشر هذا فيه كما يراه القارئ هنا فإنه كان يبذل كل قواه في عقاب
مؤلفه، وما كان أحمد فتحي باشا ليرضى بذلك، ولا سعد باشا أيضًا، ومكانهما في
حكومة جنابه مكانهما.
وما انتهى عهد سموه إلا بسبب الحرب الكبرى التي جعلت الحكومة
الإنجليزية مصر في أثنائها خاضعة لأحكامها العسكرية وأعلنت حمايتها عليها،
واشتدت مراقبتها العسكرية ومراقبة الحكومة المحلية بأمرها على المطبوعات،
واستمرت هذه المراقبة الشديدة إلى ما بعد الحرب بزمن طويل.
وإنما سنحت الفرصة الأولى لإصدار الكتاب في العهد الأخير لسعد باشا في
زعامة الأمة ورياسة الحكومة واستقرار نفوذه في البلاد أي في سنة 1345 هـ، إذ
لم يبق للإنكليز من النفوذ القوي في هذا العهد ما يخشى أن يمكِّنهم من حمل
الحكومة على مصادرته، على أن ثورة مصر قد انتهت ولم يعد ما في الكتاب من
التحريض السابق يضيق على حريتهم، بيد أنه قد عاقني عن افتراص هذه السانحة
بالسرعة عدة عوائق؛ منها أنني كنت انتقلت من الدار التي طبعت فيها القسم الأول
من التاريخ إلى دار أخرى، وتعذر وضع كل نوع من المطبوعات الكثيرة وحده،
فلم نقدر على العثور على المطبوع من التاريخ إلا بعد الانتقال إلى دار المنار
الجديدة ووضع كل كتاب من مطبوعاتنا في محل خاص به، وإنما تم بعد وفاة سعد
رحمه الله تعالى، وقد وجدنا بعض المطبوع تالفًا وبعضه قد فُقد، فاضطررنا إلى
إعادة طبع أكثرها.
وشرعت في إتمام الكتاب في أواخر سنة 1348، وعرض لي موانع عن
المضي فيه مدة سنة، وعدت إليه في أواخر سنة 1349، وكنت أقدِّره بثمانين
كراسة (ملزمة) أو مائة، ثم كنت كلما شرعت في مقاصد فصل من الفصول
أتذكر من مواده ومسائله ما كنت ذاهلاً عنه حتى بلغ ما يراه القارئ، وقد صبرت
نفسي وحبستها على كتابة ثلثه الأخير أربعة أشهر من هذا العام (1350) لا
أشرك به عملاً آخر حتى تم طبعه في هذه الأيام، وبقي كثير من المواد والمستندات
من تاريخه وتاريخ السيد جمال الدين ضاق عنها هذا الجزء فوعدت بإثباتها في
جزء الذيل الذي أضعه له إن شاء الله.
كيف كُتب هذا التاريخ:
كُتب هذا التاريخ في أثناء سنين كثيرة وفترات بعيدة، وأوقات يختلف فيها
الفكر والشعور باختلاف الأحوال، والأناة، والاستعجال، ولم تكن مواده مجموعة
مرتبة؛ وإنما جريت في ترتيب أكثرها على ما كتبته في المنار عقب وفاة الأستاذ
الإمام من ترجمته، ومنها ما ليس له ذكر في تلك الترجمة، ومن ثم يجد القارئ فيه
تكرارًا لبعض المسائل عن سهو أو عمد، وربما تختلف فيه العبارة في المسألة
الواحدة بعض الاختلاف في اللفظ كاختلاف الورق، ولا سيما المسائل التي اعتمدت
في كتابتها على حفظي، وأرجو أن لا يكون فيها شيء من التناقض؛ فإنني بفضل
الله تعالى قوي الذاكرة للمعاني.
ولولا أن طال هذا الجزء حتى صار يثقل حمله، وعطلت أهم أعمالي لأجل
إتمامه، مع سوء الحال، وقلة المال - لوضعت له خلاصة كلية ألخص فيها مقدمات
كل مقصد من مقاصد فصوله ونتيجته، وأبيِّن مواضع العبرة فيه على نحو ما
ذكرته في أثنائه لبعضها، كأن أعد ما كان عليه الأزهر قبل تصدي الإمام لإصلاحه
من الصفات والأحوال واحدة واحدة، وأعد ما كان عليه شيوخه وطلابه من
الصفات والعادات والأعمال صفة صفة وعادة عادة وعملاً عملاً، ثم أبيِّن ما كان
من تغيير الإصلاح لبعض ما ذكر، وأعد فوائده واحدة بعد واحدة، ومثله أن
ألخص آراءه في التربية والتعليم، فأعد المفاسد التي ذكرها في لوائح إصلاح
التعليم في الدولة العثمانية وفي مصر، وما ذكره منها في خطبه في احتفالات
مدارس الجمعية الخيرية، ثم أعد ما ذكره في تلك المواضع وغيرها من قواعد
الإصلاح كلها وهي التي أدعو إليها، ولكنت أفعل هذا في كل فصل بل كل مقصد،
وإذًا لكانت الفائدة أتم والنفع أعم، وإذ تعذر علي كتابة هذا فإنني أوجه همة
الراغبين في مثله أن يتولوه لأنفسهم بأنفسهم، ومن لا يعنيه ذلك فلا يهتم لقراءته،
وعسى أن أوفق لهذا في الذيل الذي أرجو أن يكون هو المكمل له.
وقد جريت على سنن علمائنا المتقدمين من رواة الآثار - المحدثين
والمؤرخين - في بيان آراء الأستاذ الإمام وعاداته وشمائله وأخلاقه بالصراحة
والحرية والصدق، ومنها ما هو منتقد عندي على ما كان بيننا من الاتفاق، الذي يندر
أن يوجد مثله بين اثنين من الناس، وأنا أعلم أن منها ما يكون منتقدًا في نظر غيري
وإن كان صوابًا عندي، ومنها ما ينتقد عليَّ نشره لأن مثله غير معتاد، أو لأنه من
مبالغاته التي ربما كان يقصد بها التأثير الخاص، ككلمته في تحريف الفقهاء، وهذا
نادر.
ومن أنعم النظر في فوائد هذا الاستقصاء رأى أن أهمها تمثيل حقيقة الرجل
من كل ناحية كي يحيط القارئ به خبرًا، ويحكم عليه حكمًا صحيحًا؛ فإن الذين
يترجمون الرجال بذكر محاسنهم ومناقبهم، وإخفاء هناتهم ومثالبهم؛ إنما هم شعراء
مداحون، لا مؤرخون حقيقيون.
فإذا رأى القارئ أنني على إعجابي بسعة علومه ورسوخه في معارفه التي
كان بها جديرًا بلقب الأستاذ الإمام، الذي قبله وأجازه الرأي العام - أُثبت أنه كان
مقصرًا في علوم الحديث من حيث الرواية والحفظ والجرح والتعديل كغيره من
علماء الأزهر، وإنني على إعجابي بأخلاقه التي كان بها حقيقًا بزعامة الإصلاح
والتجديد للأمة والملة، صرحت بأنه كان كأستاذه لا يخلو من الحدة، ومما يقابلها
من الضعف بشدة الرحمة والمبالغة في الورع، المغريتين لصاحبهما بإيثارهما على
المصلحة العامة، وإنني على إعجابي بقوة تدينه وحسن تعبده ومحافظته على تهجده،
صرحت بأنه كان يجمع بين الصلاتين في الحضر أحيانًا ترخصًا اجتهاديًّا خالف
فيه المذاهب الأربعة؛ ولكنه وافق حديثًا صحيحًا أخذ به غيرهم من الأئمة.
إذا رأى القارئ هذا وذاك أيقن أنني لم أكن محابيًا له في هذا التاريخ، ولا
سالكًا فيه مسلك الشعراء، ولا أنصار المذاهب وزعماء السياسة الذين يصورون
أئمتهم وزعماءهم صورًا مكبرة مزينة مجملة بما يظهر محاسنهم ويخفي مساويهم،
أو يبدل سيئاتهم حسنات، وعلم أن كل ما انتقد على الأستاذ يصح أن يقال فيه:
(حسنات الأبرار سيئات المقربين) وإنني - وأيم الحق - لم أطلع له على عمل ينافي
العفة والنزاهة ولا الورع والشرف، ولا هفوة تدل على كامن من حقد أو حسد،
فهو أكمل من عرفت من البشر، ومن اطلع على دخائل كثير من المشهورين بالعلم
والتقوى، أو الحكمة والفلسفة، أو تاريخهم الصحيح - رأى كثيرًا من العُجَر والبُجَر،
فما قولكم في زعماء السياسة وعشاق الرياسة؟
ولقد كنت داعية لزعامته وإمامته؛ وإنما كانت دعاية صدق ودين، وجهاد
وجلاد، لزعامة تجديد وإصلاح، لا زعامة رياسة وجاه، ومناصب ومال، وهل
يتوسل العاقل المتدين إلى الحق بالباطل، وإلى الإصلاح بالكذب الذي مطية كل
إفساد، فيتعجل لنفسه الإجرام نقدًا، لأجل ما يرجو لغيره من الإصلاح نسيئًا؟ وقد
سُئل الأستاذ الإمام: أترجو أن تجني ثمر إصلاحك في حياتك؟ قال: (أستبعد هذا
ولا أظنه، وحسبي أن يتم فيجنيه مَن بعدي) .
وجملة القول: إن هذا الرجل أكمل من عرفت من البشر دينًا وأدبًا ونفسًا
وعقلاً وخلقًا وعلمًا وعملاً وصدقًا وإخلاصًا، وإن من مناقبه ما ليس له فيه ند ولا
ضريب، وإنه لهو السري الأحوذي العبقري الحقيق بلقب (المثل الأعلى) من
ورثة الأنبياء في هذا العصر وإن لم أطلقه عليه لأنه على إطلاقه خاص بالله في
نص كتابه، وقد ابتذله الناس في الخطب والجرائد حتى خرج عن معناه.
صنوف قراء هذا التاريخ:
ألا وإن قراء هذا التاريخ صنوف: فمنهم طلاب الإصلاح والتجديد النافع
للأمة، مع المحافظة على مقوماتها، ومشخصاتها التي تمت بها حقيقتها وامتازت من
غيرها، وهؤلاء يشكرون لي عملي ويرون أنني أحسنت فيه وأصبت، ويعفون عما
عساني أخطأت فيه أو قصَّرت، ويساعدونني على نشر الكتاب؛ لأنه خير عون على
إثارة الهمم، وتقوية الأمل، والتنشيط على العمل، بل هؤلاء منا، من عرفنا منهم
ومن لم يعرفنا.
ويليهم المستعدون للإصلاح بسلامة فطرتهم وحسن نيتهم؛ ولكنهم غافلون
عنه لفقد الباعث والمنبه، وسيجدون في هذا التاريخ أقوى دعاية، وأوضح هداية،
فلا يلبث قارئه أن يكون منا وينصرنا بقدر ما أوتي من همة واستطاعة.
ومنهم دعاة النهضة المدنية الوطنية اللادينية، وسيجد المخلصون منهم أن
أمامنا إمام لهم في جانب من جانبي إصلاحه، وأن الجانب الآخر ينفعهم ولا
يضرهم، فإن الجامدين في التقاليد الدينية والخرافيين فيها هم أعداء التجديد المدني،
فإذا صلحوا التقوا معهم في تعزيز النهضة الوطنية وتعاونوا معهم عليها، ما لم
يكونوا دعاة للإلحاد لذاته، وقد كان المعاصرون منهم للحكيم الأفغاني والإمام
المصري يدينون لزعامتهما، وإن لم يكونوا من مريديهما والمقتبسين منهما مباشرة،
بل كان المخلص منهم لقومه ووطنه يعترف بفائدة إصلاحهما الديني وضرورته
لإكمال النهضة المدنية، والرابطة الوطنية، كما ترى في تأبين أحرار النصارى
وملاحدة المسلمين للأستاذ الإمام.
وأما الجامدون المصرون على التقاليد والخرافات، المطبوع على قلوبهم بما
مردوا عليه من الخطيئات، فقد يوجد فيهم من يلتمس لنا العثرات، ويبدل حسناتنا
سيئات، ويكبر الصغير من الهفوات. ولا خوف على أنصارنا منهم فالحق يدمغ
الباطل والنور يطرد الظلمات؛ وإنما ضررهم محصور في مقلدتهم من العوام
الجاهلين الخرافيين، يصدونهم عن قراءة كتبنا، وما قرأها أحد وفهمها إلا واتبعنا.
ومن دون هذه الصنوف والطبقات صنف الملاحدة والزنادقة، ودعاة الإباحة
المطلقة، وصنف أجراء الأجانب وأعوانهم، وصنف المتملقين للظلمة المفسدين،
وهؤلاء تحوت أدنياء لا يرجعون عن غيهم إلا إذا صار للإصلاح دولة قوية غنية
تستصلح هؤلاء بالرزق، وتكبح شر أولئك بالقوة، وأما نحن فإذا خاطبونا قلنا
سلامًا. وإذا مررنا بلغوهم مررنا كرامًا، ونسأله تعالى أن يجعلنا معهم ممن قال
فيهم: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ
أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنفِقُونَ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا
نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ} (القصص: 53 - 56) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
أسئلة من عالم راخو فتسا برزرين
في يوغوسلافية - أوربة
(تأخرت سهوًا وقد سبق لنا بيان أكثرها)
(س1 - 10) من الفقير العاجز يحيى سلامي ألاييكي إلى السيد الجليل
ملجأ الباحثين، وملاذ الناقدين، مفتي الأنام، شيخ مشايخ الإسلام، الشيخ محمد
رشيد رضا صاحب مجلة المنار الأغر الأعلى الإسلامي بمصر.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فقد أتيح لي أن أسأل حضرتكم عن
حقيقة المسائل الآتي ذكرها، وأسترشد بدلالتكم وإرشادكم إلى صحيح الجواب الذي
هو هدي القرآن والسنة النبوية.
1-
ما معنى قول الله عز وجل في حق إدريس عليه السلام: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً
عَلِياًّ} (مريم: 57) الآية؟ هل إدريس في قيد الحياة أم لا؟
2-
أكان معراج نبينا صلى الله عليه وسلم إلى السموات وإلى ما شاء الله
جسمانيًّا أم لا؟ وما معنى {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَتِي أَرَيْنَاكَ} (الإسراء: 60) ؟
3-
هل كان الطوفان على قوم نوح عليه السلام فقط أو لجميع العالم؟ وما
معنى قوله تعالى: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيِّ} (هود: 44) ؟
4-
ما هي حقيقة طير الأبابيل الواردة في سورة الفيل؟
5-
هل جملة (من زار قبري وجبت له شفاعتي) حديث صحيح أم لا؟
6-
(القناعة كنز لا يفنى) هل هي من الأحاديث الصحيحة الواردة، وما
معنى القناعة، أيمكن أن يكون مفهومها الاقتصاد بتعبير هذا العصر؟
7-
أتأكل الأرض أجساد الأنبياء والأولياء وحفاظ القرآن الكريم، أم لا كما
هو مشهور عند العامة بعدم أكلها، وقد روى الفقيه أبو الليث السمرقندي في كتابه
(تنبيه الغافلين) في باب فضل الجمعة حديثًا مسندًا بهذا الشأن؟
8-
كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة، والخلفاء الراشدون
بعده، والأصحاب والتابعون رضوان الله عليهم؟
9-
رجل رضع ثدي امرأته ما حكمه في الشرع هل تحل له أم لا؟
10-
(الجعة) ما حكمها في الشريعة السمحة؟
…
...
…
...
…
...
…
...
…
راخو فتسا
…
...
…
...
…
...
…
...
…
(يوغوسلافيا)
أجوبة المنار
(1)
رفع إدريس عليه السلام:
قال الحافظ البغوي في تفسير: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِياًّ} (مريم: 57) قيل:
هي الجنة، وقيل: هي الرفعة بعلو الرتبة في الدنيا، وقيل: إنه رُفع إلى السماء
الرابعة، وروى أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه رأى إدريس في السماء الرابعة ليلة المعراج اهـ. وذكر بعد هذا عن
كعب الأحبار قصة إسرائيلية في رفعه وسببه، وهي من قصصه الخرافية، وممن
رواها عنه ابن عباس رضي الله عنهما، فلا يعتد بها. قال العماد ابن كثير بعد
إيرادها في تفسيره: (هذا من أخبار كعب الأحبار الإسرائيليات، وفي بعضه نكارة،
والله أعلم، وعزاه إليه الحافظ ابن حجر في الفتح أيضًا.
والقول الأول، وهو تفسير المكان العلي بالجنة، مروي عن الحسن البصري،
وهو لا يعارض بحديث المعراج فإن الأنبياء الذين رآهم النبي صلى الله عليه وسلم
في ليلة المعراج قد ماتوا في أزمنتهم ودفنوا، إلا ما ورد في عيسى عليهم السلام،
وقد ورد أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى موسى في تلك الليلة في قبره
بالكثيب الأحمر من فلسطين، فهذه أمور روحانية غيبية لا نعلم كنهها، وقد قال الله
تعالى في الرسل عليهم السلام: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} (البقرة: 253)
والظاهر أن إدريس مات في الدنيا كغيره، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وكون
إدريس رفع وهو حي لم يثبت من طريق مرفوعة قوية.
(2)
المعراج جسماني أم روحاني:
الخلاف في هذه المسألة مشهور يذكرونه في القصة التي يقرءونها في الاحتفال
الذي يجتمع له الناس في ليلة 27 رجب من كل عام، والروايات فيه متعارضة
متناقضة، والجمهور على أنه بالروح والجسد؛ لأن الإنسان روح في جسد، وفي
اليقظة لأن جمهور المحدثين حكموا بغلط رواية شريك في كتاب التوحيد من صحيح
البخاري في كونه رؤيا منامية، وهي في أمر من أمور عالم الغيب فلا تقاس على
عالم الشهادة، والمعقول في فهمها أن تكون الروحانية هي الغالبة على الجسمانية
فيها، فيكون الرسول صلى الله عليه وسلم فيها كالملَك حين يتمثل في صورة جسدية
كما تمثل جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم مرارًا، وكما تمثل للسيدة مريم عليها
السلام، وكما تمثل غيره من الملائكة لإبراهيم صلى الله عليه وسلم، وبهذا التقريب
يزول كل إشكال في فهمها؛ فإن الروح إذا غلب سلطانها على الجسد تلطفه فيخف
ويكون كالأثير الذي يفرضه علماء الكون في نفوذه من الكثائف، وتقطع به المسافات
الشاسعة بسرعة النور أو أسرع من الأثير، نقول هذا على طريقة التقريب للفهم،
وعالم الغيب لا تُعرف أسراره وتتجلى أنواره، إلا لمن زُجّ فيه.
وأما قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَتِي أَرَيْنَاكَ إِلَاّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} (الإسراء:
60) فمعناه: وما جعلنا الرؤيا المنامية التي أريناكها في المنام إلا بلاءً واختبارًا
للناس في دينهم، ظهر بها تمرد المشركين الكافرين، وزلزال الضعفاء ويقين
المؤمنين، وليس في القرآن بيان لهذه الرؤيا أوضح من قوله تعالى من سورة الفتح:
{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} (الفتح: 27) الآية، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه أنه دخل -
ومعه أصحابه - المسجد آمنين فطافوا بالبيت وحلقوا وقصروا، وكانت هذه
الرؤيا سبب عمرة الحديبية المشهورة فصدَّهم المشركون عن دخول مكة وعقدوا
معهم ذلك الصلح الذي ساء جمهور المسلمين، وكادوا يعصون الرسول صلى الله
عليه وسلم إذ أمرهم بالتحلل من عمرتهم بالحلق أو التقصير، لولا أن ثبتهم الله
تعالى وأنزل عليهم السكينة، وهذا التفسير للرؤيا رواه ابن مردويه عن ابن عباس
رضي الله عنه.
ولكن هذه الواقعة كانت سنة ست من الهجرة، والآية في سورة الإسراء وهي
مكية، فقيل: إن الله تعالى أراه ذلك وأخبره به في مكة ثم كان تأويله بعد الهجرة،
وكثيرًا ما يقولون في مثل هذا: إن الآية مدنية ووضعت في هذه السورة لمناسبتها
لها، وهو على الوجهين خلاف الظاهر.
وفسرها بعضهم بالرؤيا التي ذُكرت في سورة الأنفال: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي
مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} (الأنفال:
43) وما ورد في سياقها في الحديث من أن الله أرى نبيه صلى الله عليه وسلم
مصارع رؤسائهم في الكفر، وهذه كانت بعد الهجرة أيضًا ولكن ورد أنه صلى الله
عليه وسلم ذكرها في مكة قبل الهجرة فهزئ به كفار قريش، وفي الصحيح أن سعد
ابن معاذ أتى مكة عقب الهجرة وقبل وقعة بدر فنزل على صديقه في الجاهلية أمية
ابن خلف وكان مما أخبره به قوله: لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
إنهم قاتلوك - يعني المسلمين - قال: بمكة؟ قال: لا أدري، ففزع أمية لذلك
فزعًا شديدًا، وفي رواية أنه قال له: إنه قاتلك - يعني النبي صلى الله عليه وسلم
وإن أمية قال: فوالله ما يكذب محمد. ولما دعاهم أبو سفيان للخروج إلى بدر
امتنع أمية من الخروج خوفًا من القتل لاعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم وسلم
لا يكذب وإن أخبر عن المستقبل، فما زال به أبو جهل حتى خرج وقُتل.
وفسَّرها الجمهور بما جاء في حديث الإسراء من افتتان بعض الناس به
بارتداد بعض ضعفاء الإيمان وخوض المشركين في إخباره صلى الله عليه وسلم بما
هو غير معقول خلافًا لعادته، واحتج به من قالوا: إن ذلك كان رؤيا منام. ورواه
ابن إسحاق عن معاوية بن أبي سفيان، وهو صريح رواية شريك في البخاري،
والجمهور على خلافه، وقد حكموا بغلط شريك لشذوذه عما رواه الكثيرون كما تقدم،
وقالوا: إن لفظ الرؤيا قد يُطلق على ما يُرى في اليقظة ليلاً، وقيل: مطلقًا، ولا
يعرف له نقل، إلا ما روى البخاري عن عكرمة عن ابن عباس في تفسيرها: أنها
رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، واللفظ صريح في
أن المراد بها شيء أراه الله تعالى إياه في تلك الليلة لا نفس الإسراء، ولهذا قال
الحافظ في شرحها: إنه لم يصرح بالمرئي، وذكر عن سعيد بن منصور عن
طريق أبي مالك: هو ما أُري في طريقه إلى بيت المقدس، أي ومنه أنه رأى عيرًا
لهم قد ضلت وجمعها فلان، فالإشكال في هذه الرواية محصور في إضافة الرؤيا
إلى العين، وهو خلاف استعمال القرآن والأحاديث الكثيرة وما نقل رواة اللغة،
والآية صريحة في أن هذه الرؤيا كانت فتنة للناس لا بعض ما شاهده صلى الله
عليه وسلم في ليلتها، وهذا المكان لا يتسع لتحرير هذا البحث.
وفسَّرها بعضهم بما روي من رؤيته صلى الله عليه وسلم كأن بني أمية
يتعاورون على منبره، وقد كان ملك بني أمية مثار أكبر الفتن في الإسلام، وقد
عرفت رأي الجمهور.
(3)
طوفان نوح:
ظاهر القرآن أنه كان على قوم نوح فقط لأنه عقاب لهم، وهل كان يوجد
على الأرض غيرهم من البشر حتى يكون لهذا السؤال وجه من النظر؟ قد يقال:
إنه لم يكن يوجد غيرهم بدليل قوله تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ
مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارًا} (نوح: 26) وهذه الدلالة غير قطعية، فإن كل قوم يطلقون
لفظ الأرض على أرض وطنهم كقوله تعالى: {وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ
لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} (الإسراء: 76) فالمراد بالأرض هنا أرض مكة، ولهذا
أمثال.
والتحقيق في المسألة أنه ليس في القرآن نص قطعي على أن الطوفان عمَّ
الأرض كلها؛ ولكنه هو الذي جرى عليه المفسرون وغيرهم بناء على أنه ظاهر
الآيات في القصة كان عليه جميع أهل الكتاب، ولا يوجد دليل قطعي ينقض هذا
الظاهر الظني فنحتاج إلى تأويله، وما يقوله علماء الجيولوجية قد يرد على
نصوص التوراة التي تحدد تاريخ نوح والطوفان بحد قريب، إذ يجزمون بأن
الأرض كانت فيه على ما هي عليه اليوم بالتقريب، والقرآن لم يحدد تاريخ التكوين
والبشر ببضعة آلاف من السنين كسفر التكوين، بل قال الله تعالى فيه: {مَّا
أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} (الكهف: 51) فعلى هذا
يحتمل أن يكون الطوفان قد وقع منذ مئات الألوف أو ألوف الألوف من السنين، إذ
كانت اليابسة التي نتأت في الكرة المائية صغيرة، والجبال فيها قليلة غير شامخة،
فطبيعتها كانت قابلة لمثل هذا الطوفان، وجاء في المواقف عن الإمام الرازي أن
هذه الأرض كانت مغمورة بالمياه بدليل ما يُرى في رؤوس الجبال من الأصداف
البحرية، وكذا الأسماك المتحجرة، وهذا متفق عليه عند علماء الكون في هذا
العصر. والجودي المكان أو الجبل الذي استوت عليه السفينة، وليس في الكتاب
ولا في الأحاديث المرفوعة تعيين مكانه؛ لأن العبرة لا تتوقف عليه.
وللأستاذ الإمام فتوى في أن عموم الطوفان هو ظاهر النصوص لا مدلولها
القطعي، وإننا لا نعدل عن القول بالظاهر إلا إذا قام دليل قطعي على خلافه، ولما
يقم هذا الدليل عندنا وهذه الفتوى منشورة في المنار في تاريخ الأستاذ الإمام.
(4)
حقيقة الطير الأبابيل:
ليس عندنا دليل نقلي عن الله ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم نعرف به
حقيقة تلك الطير؛ ولكن جاء في الأخبار التاريخية التي كانت العرب تتناقلها أن
أصحاب الفيل الذين جاءوا لهدم بيت الله تعالى في مكة أصابهم وباء الجدري
والحصبة فأهلكهم.
فالظاهر أن تلك الطير الأبابيل أي الجماعات هي التي حملت إليهم جراثيم
هذا المرض بصفة وبائية، إذ رمتهم بحجارة من سجيل وهو الطين المتحجر، وقد
روي أنها جاءت من البحر، فيظهر أنها كانت ملوثة بسم المرض من مستنقع في
شاطئه فأصاب أبدانهم من جروح أحدثتها بها أو كانت فيهم، واختلطت بطعامهم
وشرابهم، وجوَّز شيخنا في تفسير السورة أن تكون تلك الطير من الأحياء الصغيرة
التي تسمى في عرف أطباء هذا العصر بالميكروبات، فراجعوا عبارته في تفسير
جزء عم.
(5)
حديث (من زار قبري وجبت له شفاعتي) :
رواه ابن عدي في الكامل، والبيهقي في الشعب عن ابن عمر، وكذا ابن
خزيمة وفي سنده عبد الله بن عمر العمري، قال أبو حاتم: مجهول، وموسى بن
هلال البصري، قال العقيلي: لا يصح حديثه، ولهذا قال ابن القطان: فيه
ضعيفان، وقال النووي: ضعيف جدًّا.
(6)
(القناعة كنز لا يفنى) :
يُروى بلفظ (القناعة مال لا ينفد وكنز لا يفنى) رواه الطبراني في معجمه
الأوسط، وقال الحافظ الذهبي: سنده ضعيف، وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله
ابن عمرو: (قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا وقنعه الله بما أعطاه) وفي معناه عند
الترمذي والنسائي في الكبير من حديث فضالة بن عبيد (طوبى لمن هدي إلى
الإسلام وكان عيشه كفافًا وقنع به) صححه الترمذي. والقناعة ضد الطمع فهي
عبارة عن رضاء الإنسان بما يصيبه من الرزق قلَّ أو كثر، وعدم طمعه فيما ليس
له واستشرافه لما في أيدي الناس، هذا هو التحقيق، واقتصر بعض العلماء في
تفسيره على الاجتزاء باليسير من أعراض الدنيا؛ لأن من رضي بالقليل كان
بالكثير أرضى، وقد يكون الاقتصاد في المعيشة سببًا للقناعة، بل قال أبو حامد
الغزالي في الإحياء: الاقتصاد في المعيشة هو الأصل في القناعة، ونعني به الرفق
في الإنفاق، وترك الخرق فيه اهـ.
(7)
أجساد الأنبياء والصالحين بعد موتهم:
إن سنة الله تعالى في أجساد البشر واحدة في حياتهم وموتهم؛ وإنما يمتاز
الأنبياء على غيرهم بما هو خاص بمعنى النبوة وما يتعلق بها لقوله تعالى لرسوله:
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} (الكهف: 110) الآية، وقوله له تلقينًا
لجواب طلاب الآية منه: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَاّ بَشَرًا رَّسُولاً} (الإسراء:
93) ومن ثم يذكر العلماء في كتب العقائد أنه يجوز على الأنبياء طروء
الأعراض البشرية عليهم من المرض والتعب والجوع والعطش والنوم والموت
والقتل؛ لأن ذلك لا يخل بوظيفة الوحي ولا بالتبليغ له، ومثلها الجسد، ولكن ورد
في غير الصحاح أحاديث آحادية في أن أجساد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا
تأكلها الأرض، أمثلها حديث أوس بن أوس في فضل يوم الجمعة الذي فيه أن
الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم تُعرض عليه، قال أوس: قالوا: يا رسول الله،
كيف تُعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ - يعني بليت - قال: (إن الله عز وجل
حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) رواه أحمد في مسنده وأبو داود
والنسائي والبيهقي في الشعب، وفي رسالته (حياة الأنبياء) وغيرهم، وقد صححه
بعضهم وحسنه آخرون منهم المنذري، لكن قال الحافظ السخاوي بعد أن أورد
تصحيحهم وتحسينهم ما نصه: قلت: ولهذا الحديث علة خفية، وهي أن حسينًا
الجعفي راويه أخطأ في اسم جد شيخه عبد الرحمن بن بديد حيث سماه جابرًا وإنما
هو تميم، كما جزم به أبو حاتم وغيره، وعلى هذا فابن تميم منكر الحديث، ولهذا
قال أبو حاتم: إن الحديث منكر وقال ابن العربي: إنه لم يثبت؛ لكن رد هذه العلة
الدارقطني وقال: إن سماع حسين من جابر ثابت، وإلى هذا جنح الخطيب، والعلم
عند الله تعالى.
وهنالك أحاديث أخرى ثلاثة منها بمعنى هذا الحديث ولكنها دونه في السند،
ومنها ما هو في تبليغ الملائكة إياه صلى الله عليه وسلم من يصلي عليه، وقد
تكلمنا عليها في أواخر المجلد الثامن من المنار صفحة (903 - 909) وقد قلت
فيها: إنها في مجموعها تدل على أن الأنبياء أحياء في البرزخ؛ ولكن هذه الحياة
غيبية لا نعرف حقيقتها، وليست هي كالحياة في هذه الدنيا، كما حققه ابن القيم في
كتاب الروح، وغيره من المحققين
…
إلخ.
وجملة القول: إن هذه المسألة ينظر فيها من وجهين:
(أحدهما) : أنها من مسائل الإيمان بعالم الغيب فهي اعتقادية، وما يجب
اعتقاده والإيمان به لا يثبت إلا بالنصوص القطعية الرواية والدلالة، وليس فيها
نص ظني راجح فضلاً عن القاطع.
(وثانيهما) : أنها من مسائل المناقب والفضائل التي يقبلون فيها الروايات
الظنية ولا يأبون إثباتها بما دونها من الضعاف، وبهذا النظر قبل بعض العلماء ما
روي فيها وإن كان معلولاً، وحينئذ يقال في كون معناها مخالفًا لسنن الله تعالى في
الأجساد: إنها تنظم في سلك خوارق العادات، وإذ كانت ليست بعقيدة واجبة ولا
يترتب عليها عمل فلا حرج على من صدَّقها ولا على من أنكرها؛ ولكن بعض
العلماء أدخلوا فيها القياس وهي مما لا يُقاس عليه ولو ثبت، فقالوا: إن جميع
الأولياء والشهداء كالأنبياء في هذه المنقبة، وزاد آخرون: العلماء والمؤذنين
والمحتسبين، ويتساهل في كتابة هذا المؤلفون المقلدون السطحيون والخرافيون
كأبي الليث السمرقندي، وينقلون فيها حكايات سبقهم إلى مثلها النصارى في
شهدائهم وقديسيهم. وإن التسليم بهذه الخرافات وعدم إنكار العلماء لها قد كان فتنة
للعقلاء المستقلين، منفرًا لهم عن الدين، وقد نبش بعض رجال الحكومة التركية
اللادينية الحاضرة بعض قبور الأولياء المعتقدين عند العامة أمام الجماهير منهم
فأروهم بأعينهم أنه ليس فيها إلا عظام نخرة، واستدلوا بهذا على أن الدين كله
خرافات باطلة، فما يتساهل فيه الخرافيون لتقوية إيمان العوام، قد يفضي إلى هدم
إيمان الخواص والعوام.
(8)
صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة:
كان الصحابة يسعون إلى المسجد يوم الجمعة متنافسين في التبكير ما
استطاعوا، فيصلي كلٌّ ما تيسر له، فإذا جاء وقت الصلاة خرج رسول الله صلى
الله عليه وسلم من بيته إلى المسجد وابتدر المنبر، وحينئذ يؤذن المؤذن بين يديه،
فإذا فرغ من أذانه قام صلى الله عليه وسلم وخطب الناس خطبتين يفصل بينهما
بجلسة خفيفة، ثم ينزل فيصلي بالناس الجمعة، فإذا فرغ انصرف إلى بيته فصلى
فيه ركعتين، وخرج المسلمون كذلك فانتشروا في الأرض يبتغون من فضل الله كما
أمر الله تعالى، وقد بيَّنا الروايات في هذا مرارًا، وهكذا كان الخلفاء يصلونها، إلا
أن عثمان رضي الله عنه زاد أذانًا خارج المسجد لإعلام الناس بالوقت؛ لأنهم
كثروا وكثرت شواغلهم.
(9)
حكم من رضع ثدي امرأته:
رضاع الرجل الكبير لا تثبت به البنوة؛ فإن جماهير السلف والخلف على أن
الرضاعة المُحرِّمة ما كانت في الصغر، إذ يكون مدار نمو البدن على الرضاع
الذي أشير إليه في الأحاديث بأنه ما كان من المجاعة، وقبل الفطام والفصال، وما
فتق الأمعاء في الثدي، أي في أيام الثدي، وهي سنتان عند الجمهور، وسنتان
ونصف عند أبي حنيفة وهنالك أقوال أخرى متقاربة، ولا معارض لذلك إلا حديث
عائشة في مسألة سالم مولى أبي حذيفة، فإنه كان يدخل على امرأته وهو صغير،
وكان عبدًا له فأعتقه، فلما بلغ الحُلم صار يشق على أبي حذيفة دخوله على أهله
فذكرت زوجه سهلة بنت سهيل ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها:
(أرضعيه تحرمي عليه) ففعلت، فزال ما في نفس أبي حذيفة، وقد تأول الجمهور
من السلف والخلف هذا الحديث بأنه فتوى خاصة في حال ضرورة، إذ كان أبو
حذيفة وأهله في حاجة شديدة إلى خدمة هذا الغلام الذي رباه هو وامرأته صغيرًا،
وقال بعض فقهاء الحديث: إنه يقصر على مثل هذه الحال من الضرورة، وما كان
كذلك في مراعاة المصلحة لا يدخل فيه هدم أكبر المصالح الزوجية وهو تحريم
المرأة على زوجها إذا مص ثديها عن شهوة ومداعبة، فيحكم عليه بأنه صار ولدًا
لها كأولاده منها، على أنه ينبغي اتقاء ذلك احتياطًا.
(10)
شرب الجعة المسماة بالبيرا:
المشهور عن الجعة أنه يسكر الكثير منها دون القليل في الغالب، فهي محرَّمة
لما حققناه في التفسير وغيره أن ما أسكر كثيره فقليله حرام.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
إلحاد في القرآن
ودين جديد بين الباطنية والإسلام
المقالة الرابعة
السنن الكونية الاجتماعية ونظام الكون
لقد أكثر هذا الملحد من ذكر السنن الإلهية ونظام الكون في هوامشه ومقدمتها،
وجعلها هي المستند له في جحود آيات الله تعالى التي أيَّد بها رسله، وتحريف
الآيات الواردة فيها وفي أخبار عالم الغيب كما تقدم، وقد وعدنا بإظهار جهله في
هذه المسألة فنقول:
إننا بفضل الله قد انفردنا دون سائر المفسرين بالكلام على هذه السنن والنظام
الإلهي في تفسيرنا ومجلتنا، وهو قد سمع ذلك منا ولكنه لم يفهمه، بل لبسه
كالفرو مقلوبًا، ونكس على رأسه فاتخذه منكوسًا، نحن قد أوردناه لتقوية الإيمان،
والحجة على إعجاز القرآن، فجعله هو شبهة على الإيمان بالغيب وجحود آيات
الأنبياء عليهم السلام، وما أوردناه من تأويل لبعض ما يحتمل التأويل على طريقة
المتكلمين، قصدنا به تقريبه من عقول الجامدين على المألوف من النظريات
العقلية أو العلمية، لئلا يَرُدُّوا النصوص بها فيرتَدُّوا، وقد صرحنا مرارًا بأن الذي
ندين الله به من أخبار عالم الغيب، وما في معناها من آيات الله تعالى في الخلق،
هو الإيمان بما صح منها بلا تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل، وقد جعلها هذا الملحد
قانونًا لتحريف ما لا يحتمل التأويل، كما قال الله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ
فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ} (آل عمران: 7) الآية،
فوجب أن نأتي بخلاصة في المسألة مما نشرناه في مواضع متفرقة في المنار
وتفسيره، ونقفي عليها بتفنيد ضلالته فيها، فنقول:
قد أخبر الله تعالى في مواضع من كتابه بأن له سُنُنًا في عباده والأقوام الذين
بعث فيهم رسله، وأن سننه لا تبديل لها ولا تحويل، وأخبر أيضًا بأنه أحسن كل
شيء خلقه، وأتقن كل شيء، وأن كل شيء عنده بمقدار، وأن خلقه في منتهى
الإحكام والنظام.
فما بيَّنه الله تعالى من أنواع هذه السنن، كنصره لرسله على الجاحدين
المعاندين لهم، ومن إهلاكه للظالمين، ومن تدميره على الفاسقين المفسدين - فهو
كما قال تعالى.
وكذا ما بيَّنه من نظام الخلق ومقاديره، ككون الشمس والقمر بحسبان، وما
جعله لهما في السماء من المنازل والبروج، ومن كونها لا تفاوت فيها من فطور ولا
فروج، فهو كما قال عز وجل.
وأما ما لم يبيِّنه لنا من ذلك في كتابه بنوعه أو عينه، فالطريق إلى معرفته هو
ما أرشَدَنا إليه من النظر في ملكوت السموات والأرض، وما خلق من شيء،
والتأمل في آياته في الآفاق وفي أنفسنا، والسير في الأرض لمعرفة آثار من قبلنا
وكذا من في عصرنا بالأولى.
قد أرشدنا كتاب الله عز وجل إلى كل هذا، وقد أشرنا في مواضع من المنار
وتفسيره إلى ما هو ثابت بالحس من أن أعلم الناس بسنن الله وحكمه ونظمه في
خلقه هم أكثرهم انتفاعًا بهذا العلم، واهتداء به إلى تسخير هذا الكون.
سنن الله مادية وروحية:
وبيَّنا أيضًا أن هذه السنن وهذا النظام والتقدير والإحكام والتدبير، عام في كل
ما خلقه تعالى من عالمي الغيب والشهادة، أو عالمي الأجساد والأرواح، أو المادة وما
وراء المادة، على اختلاف الاصطلاح.
وصرَّحنا بأن ما أيَّد به تعالى رسله من المعجزات، وكذا ما دون ذلك من
خوارق العادات التي تسمى الكرامات، إذ لم يكن جاريًا على سنن النظام المألوف في
القوى الجسدية والنظم المادية، فقد يكون جاريًا على السنن الروحية والمقادير
الغيبية، وقد يكون بمحض القدرة الكاملة، فهو مزيد كمال في قدرته وحكمتها لا نقضًا
لهما، ولا نقصًا فيهما.
فإذا لم يكن من سنته تعالى في حياة الجسد إذا فُقدت بالموت أن تعود إلى
الميت؛ فإن هذه السنة السلبية لا تنافي أن يهب الله تعالى بعض خواص الروحانيين
من خلقه، كالملائكة أو المسيح الذي خلقه بالنفخ من روحه في أمه أن يمد بهذا
الروح القوي ميتًا كألعازر أو البنت اللذين روت الأناجيل خبر إحيائه إياهما،
فيسري فيهما من روحه ما يجذب إليهما الروح التي خرجت منهما بقدرة الله تعالى،
ومثل ذلك حلول الحياة في عصا موسى في الوقت المعلوم الذي أمره الله فيه بإلقائها
عند بعثته، وعند امتحان السحرة له، والله على كل شيء قدير.
لا فرق بين ما لا نعلمه من هذه السنن الروحية، وما نعلمه من السنن
الجسدية في كون كل منهما فعل مبدع الأرواح، وخالق الأجساد، ولا يعترض
بإحداهما على الأخرى عند من يؤمن بأن الخالق واحد هو واضع السنن ومقدرها؛
ولكن هذا الأمر النادر ينكره من لا يؤمن بأن كلاًّ منهما فعل الله القادر على كل
شيء.
ومن الغريب أن أطباء هذا العصر وأعلم علمائه الماديين يرون من الجائز في
العقل الذي يقرب أن يصل إليه العلم، أن تعود الحياة إلى جسد الإنسان أو الحيوان
بعد موته بمدة غير طويلة كحياة البنت الميتة التي دخل المسيح عليه السلام بيت
أبيها وأمها وسأل عنها فقيل له: إنها نائمة حتى لا ينغصوا عليه ضيافتهم له،
فناداها قائلاً: لك أقول يا صبية قومي، فقامت بإذن الله تعالى.
وأغرب من هذا أن منهم من يقول بإمكان إيجاد الحياة في بعض الأجسام
بطريقة علمية صناعية، ونُقل أخيرًا عن عالم منهم اسمه مورجان أنه قام بتجارب
عملية أثبت بها إمكان استيلاد مخلوقات حية على سبيل الشذوذ Emergeney،
وملحد دمنهور لا يصدِّق أن المسيح أحيا الناس من موت الجهل والرذيلة؛ ولكن
هذا النوع من الإحياء ثابت لجميع العلماء الذين يُعلِّمون الصغار - والجاهلين من
الكبار - ما يزيل جهلهم ويحييهم حياة دينية أو أدبية أخلاقية، فهو لا يمكن أن تكون
آية لعيسى عليه السلام ينوه بها كتاب الله، ويخبرنا أن الجاحدين لنبوته وصفوها
بالسحر.
وما عهد من المؤمنين بالله ورسله أحد ينكر هذه الآيات بمثل هذه الشبهة،
وإنما عهد ذلك من الكافرين بالله وبرسله، أو من الزنادقة الذين يُظهرون الإيمان
ويسرون الكفر لخداع المؤمنين وتشكيكهم في دينهم توسلاً إلى إخراجهم منه كملاحدة
الباطنية.
السنن من الممكنات بين المحو والإثبات:
فإذا كنا نقول بثبوت سنن الله واطرادها لما بيَّنه الله من ذلك، فالواجب في
ذلك أن نتبع كتاب الله فيما يبينه من خوارق العادات أيضًا، فلا نكون ممن قال الله
تعالى فيهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ
مِنكُمْ إِلَاّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ
عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة: 85) .
وإذا أردنا أن نثبت هذه السنن واطّرادها من طريق العلم ونبني عليه تأويل ما
يخالفها كله من نصوص الكتاب والسنة على طريقة المتكلمين المعروفة (وهو ما
يمكن أن يستمسك به ملحد دمنهور) فيجب علينا قبل كل شيء أن نبين ما تقوم
الأدلة العلمية القطعية على صحته واطراده واستحالة تغيره وتخلفه مطلقًا، وحينئذ
لا نكاد نجد شيئًا بهذه الصفات إلا قليلاً من الضروريات (ككون النقيضين لا
يجتمعان ولا يرتفعان) وليس منها عودة الحياة إلى من مات ولم يطل العهد على
موته، كالبنت التي أحياها المسيح عليه السلام، ولا إعادة وظائف التناسل إلى من
فقدها من النساء والرجال، كما وقع لزكريا وزوجه عليهما السلام.
والقاعدة عند علماء الكون - حتى الماديين منهم - أن كل ما نقول إنه من
سنن الكون (أو نواميسه) فإنما هو بحسب ما ظهر لنا ببحثنا وتجاربنا، وأنه
يجوز أن يظهر لنا ما يخالفه ويثبت لنا خطأنا فيه، كما حصل مرارًا فيما ظهر
للباحثين من خطأ من كان قبلهم من العلماء والفلاسفة المتقدمين والمتأخرين، ولا
أرجع في التمثيل لهذا إلى ما نقض علماء الحضارة الأوربية من قواعد علوم اليونان
والعرب وأفلاكهم وفلسفتهم، ولا إلى ما نقض بعضهم من قواعد بعض في القرون
الأربعة الماضية، بل أكتفي بأهم ما حدث من ذلك في عصرنا هذا:
عثروا على مادة الراديوم الذي لا يجهل اسمه قارئ للجرائد، دع متلقي العلوم
في المدارس، فكان بدء عصر جديد في الكيمياء والطبيعة تقوضت فيه سنن
ونواميس كانت من المسلَّمات، وثبت خلافها، كإشعاعه الحرارة والنور إشعاعًا
دائمًا من غير أن ينقص من وزنه شيء، وكعدم تأثير ما حوله فيه من حرارة
وبرودة، وكتحول المادة الغازية التي تنبعث منه إلى عنصر الهيليوم، وبهذا ثبت
شيء كان علماء هذا الفن يجهلونه؛ إذ كانوا يقولون إن عناصر المادة البسيطة لا
يتحول شيء منها فيستحيل إلى غيره.
وقد كانت سنة الجاذبية من المسلَّمات التي لا نزاع فيها حتى قام الأستاذ
أينشتين الألماني بتقويض دعائمها بنظرية النسبية، التي فتحت في العلم بابًا جديدًا
من أبواب المحو والإثبات في الطبيعيات وفي الرياضيات أيضًا.
وتلك نظرية داروين في الانتخاب الطبيعي التي تدعمها سنن كثيرة في
الجيولوجية والنبات والحيوان والإنسان قد وقعت في النزع والاحتضار، كما بيَّنا
في مقالة خاصة في المنار، أو قُضي عليها بالتبع للقضاء على النظرية الميكانيكية
التي بنيت عليها، كما نشر في بعض الصحف في هذه الأيام.
أساس الكون ومصدره ومظهره:
وما لي لا آتي إلى أساس هذا الكون والسنن التي قام بها تكوينه في الأطوار
المختلفة، ألم يكونوا يقولون: إنه مؤلَّف من مادة ذات عناصر بسيطة، وقوة هي
منشأ التركيب الذي حدثت به الصور المختلفة في العالم كله.
قد هُدم هذا الأساس إن لم يكن بما ثبت من تحول عنصر إلى عنصر، فبما
ثبت من تحول القوة إلى مادة، ثم بما ثبت من أن ما نسميه المادة والقوة اصطلاح
لا تُعرف له حقيقة، وأن هذا الوجود الذي نعرفه في أرضنا وسمائنا ليس سوى
مظهر من مظاهر تموجات الكهرباء، وأن كل ذرة من ذراته تتألف من عدة كهارب
سلبية تدور حول كهرب إيجابي - والكهرب هو الوحدة من الكهرباء - وهذه
الكهارب لا يمكن أن يقال إنها مادة ولا إنها قوة، وإنما حقيقتها مجهولة.
وهذا الذي استقر عليه رأي علماء الكون أخيرًا يؤيد ما أثبتناه في المنار وفي
تفسيره من أن أول مظهر من مظاهر التكوين الذي نسميه المخلوق الأول مجهول
للبشر، وأن علماء الكون اختلفوا في إمكان علم البشر به، فمنهم من يقول: إنه
يمكن الوصول إلى العلم به بطول الترقي في معارج العلم، ومنهم من يقول بعدم
إمكان ذلك، ونقل هذا عن الفيلسوف سبنسر قبل القول الأخير بتركب الذرات من
الكهارب، ورأينا في هذه الأيام من نقله عن الأستاذ صليفان.
بل هو مثبت لأقوى الأدلة العقلية على وجود الله تعالى عندنا، وهو أن جميع
مظاهر هذا الكون السماوية والأرضية تطورات تستند إلى حقيقة غيبية لا يعلم أحد
كنهها، وقد بيَّنا ذلك مرارًا كثيرة منها مناظرة دارت بيننا وبين العلامتين صاحبي
المقتطف.
فإذا كانت المادة تصدر عن القوة كما قالوا فما المانع من القول بأن هذه القوة
هي قوة الله وقدرته؟ وإذا كان الوجود الممكن كله مظهرًا من مظاهر تموجات
الكهرباء المجهولة الكنه، فأي بعد بين قولهم هذا وقول أتباع الوحي: إن الوجود
الممكن الظاهر صادر عن الوجود الواجب الغيبي الباطن و {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ
وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الحديد: 3) .
نكتفي بهذه الكلمة الوجيزة في سنن الوجود الظاهر المدرَك بالحواس، الذي
بلغ البشر من العلم بها مستوى لم يُعرف في التاريخ ما يقرب منه لأحد من شعوب
الحضارة القديمة.
وإذا نحن ارتقينا عنه إلى علم النفس، وما تجدد فيه عند علماء العصر،
علمنا أن في الوجود سننًا غير سنن المادة بأنواعها بعد أن صار التنويم المغناطيسي
من الحقائق الثابتة بالتجارب المطردة، وما تبع ذلك وتقرر من بعض أنواع الكشف
الذي يعبرون عن بعضه بقراءة الأفكار وبمراسلة الأفكار، وقد شاهدنا بعض ذلك
بالطريقة الصناعية، بعد ثبوته عندنا بالهبة الإلهامية.
ووراء هذا وذاك مسألة مناجاة الأرواح التي آمن ببعض مظاهرها مَن لا
يحصى لهم عدد من العلماء الطبيعيين والرياضيين، ووقف كثير منهم عندها
حائرين.
وفوق ما ذُكر كله قدرة رب العالمين، وإرادته واختياره في الخلق والتقدير
والتدبير، وهو واضع السنن والقوانين، ومُسخِّر الأسباب والنواميس، الحاكم بها
وعليها وفيها بعد إيجاده لها، والمبدع لما شاء قبل وجوده وبعده {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا
أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ} (يس: 82-83) .
الإيمان بقدرة الفاطر فطري أو فكري والشذوذ فيه:
فالإيمان بقدرة الفاطر المبدع، الخالق المصور المقدِّر، غريزي في هذا
الإنسان المفكر، ظهر في أجياله المفكرة في مظاهر مختلفة، من فطرية ساذجة،
وفكرية راقية، ووجدانية شعرية، وروحانية إلهامية.
وشذَّ أفراد من المفكرين في هذا الأمر وفي اختلاف الناس فيه كشذوذ الناس
في كل علم وعمل، لم يظهر لهم الصواب في جانب أحد منهم، ولا في شيء آخر
يصح أن يكون فصلاً فيما اختلفوا فيه، فكانوا فريقين (أحدهما) معطِّل لا يؤمن
بشيء غيبي فوق هذا الوجود المدرَك بالحواس (والثاني) شاك حائر بين إثباته
ونفيه.
ذلك بأن البشر قد فُطِرُوا على التفاوت العظيم في الاستعداد للعلم والعمل،
وهذا التفاوت يقتضي بطبعه الاختلاف في الفهم للشيء والحكم فيه، والاختلاف بين
الناس في وسائل معارفهم البشرية ومقاصدها، يفضي بهم إلى الترقي فيها، فهو
نافع ما لم يكن علة أو معلولاً للتفرق والتعادي.
ومن المعلوم بالعقل والتجارب أنه لا مثار لاختلاف التفرق فيما ترتقي به
الزراعة والصناعة، ولا في وسائل انتشار التجارة، إذ لا يرى أحد من الناس
غضاضة على نفسه ولا على قومه في اتباع ما سبقهم إليه غيرهم فيه.
وأما العلم بما يجب الإيمان به من وجود الفاطر وصفاته وشكره وعبادته، وما
يرضيه أن يكون عليه عباده، فهو مما لا يرتقي ويتمحص باختلاف الناس فيه،
ولا هو مما يسهل عليهم أن يأخذ كل قوم ما سبقهم إليه غيرهم فيه بكسبهم
واجتهادهم، إذ لا يمكن أن يصل ذلك إلى درجة القطع التي يزول فيها الخلاف
بالضرورة، وقد ثبت بالتجربة في الأجيال والآماد الكثيرة، أنه كان أعظم أسباب
التفرق والتعادي وسفك الدماء الغزيرة.
حاجة البشر إلى الدين المستمَد من الوحي:
فمن ثم كان البشر في أشد الحاجة لبيان الحق فيه إلى وحي من الله عز وجل،
تقوم به الحجة على جميع أولئك الفرق من المؤمنين المختلفين، ومن الملحدين
المعطلين، والشاكين اللاأدريين {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ
مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} (البقرة: 213) الآية.
وقد كان من حكم كتاب الله الحق فيما اختلف فيه الناس بمقتضى ما ذكرنا من
غريزة التفاوت بينهم في العلم والفهم والحكم، أن العالم كله صادر عن قدرة الله
تعالى ومشيئته واختياره، سواء فيه ما أبدعه ابتداء، وما خلقه بنظام السنن العامة
في الأسباب والمسببات، فالسنن وما وضعت له وجرت فيه كل ذلك بيد الله
يتصرف فيها بمشيئته ليس مقيدًا بشيء منها، فهو إذا شاء غيرها؛ ولكنه لا يفعل إلا
ما تقتضيه حكمته، فصفات الله تعالى من العلم والحكمة والمشيئة والقدرة والرحمة
لا تناقض ولا تعارض في متعلقاتها، كما بيَّناه مرارًا في تفسيرنا.
هذا حكم الله تعالى في كتبه لرسله كما نراه في نصوص آخرها الذي أنزله الله
مصدقًا لها ومهيمنًا عليها، وسنذكر بعض الشواهد منه فيها.
ويقابله قول معطلة الماديين الذين يُنكرون الخالق والخلق بالمشيئة، وبعض
الفلاسفة الإلهيين الذين يثبتون لرب العالمين من صفات الكمال ما عدا الاختيار في
المشيئة، ومذاهبهم في تأثير الطبائع بذاتها، وضرورة اتصال العلل بمعلولاتها،
وكون الله تعالى خلق المادة وأودع فيها قواها ونظامها، وتركها لنفسها فلم يبق له
فعل فيها، كل ذلك معروف ليس من موضوعنا تفصيله والرد عليه؛ وإنما غرضنا
من ذكره أن نبين أن الناس على قسمين: مليين على هدي أنبياء الله تعالى يؤمنون
بأن الله فاعل مختار بيده ملكوت كل شيء في كل وقت، وكفار يزعمون أن كل
حركة وسكون في هذا الكون تجري على سنن نواميس فيه بمقتضى الضرورة لا
تأثير فيها لموجود غيرها، وما يشاهدونه في كل زمن من وجود أشياء على غير
هذه السنن المعروفة يسمونه (فلتات الطبيعة) ويقولون إنه لا بد له من سبب وإن
كنا لا نعرفه، وما ينقل في كتب المليين من آيات الأنبياء، منهم من ينكره ومنهم
من يتأوله، ومنهم من يقول: إنه من فلتات الطبيعة التي لم يظهر لنا سببها،
فمذاهبهم في هذه المسائل متعددة.
وملحد دمنهور قد جرى على أصل هؤلاء القائلين بأن السنن والنواميس
ضرورية لا يمكن تغيير شيء منها ولا تبديله ولو بفعل الله ومشيئته، وأنه ما وقع
ذلك في الماضي للرسل ولا لغيرهم، فهو مخالف لجميع المليين من أتباع الرسل
عليهم السلام، ولولا هذا لم يكن محتاجًا إلى تحريف ما جاء في القرآن من أخبار
الغيب ومعجزات الرسل.
شبهة ملحد دمنهور في السنن وبيان بطلانها:
قد يقول بغروره بجهله: إنني قد أخذت في هذا بما جهله جميع المسلمين وجميع
المليين من قبلهم (أي وعرفه ملاحدة الباطنية لا سيما البهائية آخرهم) وهو ما
نص عليه القرآن في مثل قوله تعالى: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ
لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: 43) .
ونقول في جوابه (أولاً) : إن سنة الله التي قال إنه لا تبديل لها ولا تحويل،
هي نصر رسله على المعاندين لهم من أقوامهم، كما هو صريح الآيات التي وردت
فيها في سور الإسراء والأحزاب وفاطر والفتح، وفي السور التي لم يذكر فيها أنه
لا تبديل لها أيضًا.
وجاء لفظ السنن جمعًا بهذا المعنى في سياق الكلام على غزوة أحد من سورة
آل عمران {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
المُكَذِّبِينَ} (آل عمران: 137) وجاء بمعنى التشريع الديني في سياق محرمات
النكاح وحكمتها من سورة النساء {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم
وَيَتُوبَ} (النساء: 26) فهو لم يقل هذا في أمر الخلق والتكوين، وربما كنت أنا
الذي التزمت إطلاق هذا اللفظ على ما يسميه علماء الكون والفلسفة بالنواميس
الطبيعية في المنار والتفسير، وفي نظام مدرسة الدعوة والإرشاد، إذ أطلقت اسم
سنن الكائنات على الدروس التي وضعها الدكتور محمد توفيق صدقي رحمه الله
تعالى - في علم حفظ الصحة ومقدماته من علم الطبيعة وعلم وظائف الأعضاء،
فنشرتها في المنار وطبعتها على حدتها بهذا الاسم.
وأول من أرشدنا إلى كون أصول علم الاجتماع من سنن الله في خلقه،
حكيمنا العربي الواضع الأول لقواعد هذا العلم عبد الرحمن بن خلدون رحمه الله
تعالى؛ فإنه يكرر في مقدمته عقب بيان القاعدة العمرانية قوله: سنة الله في خلقه،
أو سنة الله التي قد خلت في عباده، ثم زاد عليه في هذا أستاذنا الإمام في مقالات
العروة الوثقى الاجتماعية، وزدت عليهما تعميم ذلك في النواميس الكونية كلها.
هذا وإنه ليس عندنا دليل ديني ولا عقلي على استحالة وقوع التبديل والتحويل
في هذه السنن، ولا على اطرادها وعدم الشذوذ فيها مع الجزم بإمكانها.
وأما الأدلة العلمية المبنية على التجارب العملية فقد بيَّنا آنفًا أن أهلها لا
يقولون بوجوب شيء من هذه السنن المعروفة، بحيث يستحيل نقضه وثبوت خلافه،
وأنهم يثبتون الشذوذ بالأسباب المجهولة المعبَّر عنها بفلتات الطبيعة، وبالأسباب
العلمية العملية، وقد كان بعض الناس ينكرون ما جاء به الأنبياء من أخبار عالم
الغيب كالملائكة والجن والبعث بعد الموت لاستبعادها في مألوفاتهم وزعمهم أنها لا
تعقل، وما وصل إليه البشر في هذا العصر من أسرار الكهرباء لم يبق شيئًا من
ذلك مستبعدًا فضلاً عن كونه محالاً عقلاً.
أفليس المؤمنون بوجود الخالق الفعال لما يريد، وأن (ما شاء كان، وما لم
يشأ لم يكن) أولى منهم بالإيمان بقدرته على التصرف في هذه السنن متى شاء؟
ثانيًا: إذا قيل: إن قوله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ} (الأحزاب: 38) مفرد
مضاف يفيد العموم، وأنه يجري فيه قول علماء الأصول، بأن العبرة بعموم اللفظ
لا بخصوص السبب، قلنا: نعم، وإنما عموم كل شيء في موضوعه، وموضوع
هذه السنة المنصوصة عباد الله من الأمم مع رسلهم، ويصح إطلاق اللفظ على غير
ما ورد به النص من قواعد الاجتماع والعمران أيضًا؛ ولكن لا يصح الاستدلال
بالنص على عدم التبديل فيها.
ثالثًا: إن سنن الاجتماع تختلف باختلاف أحوال البشر في البداوة والحضارة
والقوة والضعف والعلم والجهل، وآلات القتال والنقل، فهي أمور نسبية متبدلة، لا
قواعد رياضية مطردة، وذلك معروف من سير الأمم وتواريخها؛ وإنما تكون سنة
بحسب الأحوال التي تكون بها مطردة.
مثال ذلك سنة غلب الكثرة للقلة التي عبر عنها الشاعر العربي بقوله:
ولست بالأكثر منهم حصى
…
وإنما العزة للكاثر
يراعى في صحتها مساواة الكثرة للقلة في أسباب الغلب الصورية كالسلاح
والنظام، والمعنوية كالصبر والثبات والإيمان، فإذا كانت هذه الأسباب متوفرة في
القلة دون الكثرة، كان لها الغلب وفيها قال الله تعالى: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً
كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 249) .
رابعًا: إن السنن الاجتماعية والكونية تتعارض وتتنافى كما تتعارض أسباب
النصر والغلب وأضدادها في المثل المذكور آنفًا، ومن ذلك تعارض أسباب الصحة
وأسباب المرض، وتعارض التأثيرات الجسدية مع التأثيرات النفسية، فمن كان له
الرجحان يكون مبطلاً للآخر ذاهبًا باطراده، وليس في هذا الوجود الممكن لا علويه
ولا سفليه، ناموس من نواميس النظام يقوم الدليل القطعي على استحالة تغيره
وتبدله، بل كله جائز بأسباب مما يعقله الباحثون ويتوقعون حدوثه أو بغير ذلك،
كما يقولون في خراب هذا العالم وزوال هذه الأرض، أو انقطاع حياتها وعالمها
بزوال حرارة الشمس بالتدرج البطيء، أو بتصادم بينها وبين بعض الأجرام
السماوية، وهو ما تشير إليه آيات القرآن المجيد.
السنن والنظام في الخلق خاضعان لمشيئة الخالق:
ثم أقول خامسًا: إن خالق الخلق بما شاء من النظام والسنن لم يقيد بها قدرته
ومشيئته ويجعلها حاكمة عليه، بحيث يكون بها مقهورًا لا قاهرًا، وعاجزًا عن
التصرف لا قادرًا، حتى لا فائدة في دعائه والتضرع له، بل دل كتابه - الذي لا
يفهمه هذا الملحد الجاهل بلغته وبشريعته - أنه قيدها بمشيئته، وأن العالم كله في
قبضته {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ
مِنْ بَعْدِهِ} (فاطر: 41) فهذه الآية صريحة في أن العالم في قبضة تصرف خالقه
في كل وقت، وأن بقاءه بقدرته تعالى لا بما يظهر من سنن النظام فإنها مفعولة لا
فاعلة، أو ظواهر صورية، لا حقائق وجودية، كما قال بعضهم في سنة الجاذبية.
ومن هذا القبيل قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الجَوَارِ فِي البَحْرِ كَالأَعْلامِ * إِن
يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} (الشورى: 32-33) فحركات
الريح تجري بحسب سنته تعالى في تأثير الحرارة فيها، وهو يقول أنه إذا شاء
أسكنها.
وقد دل كتابه أيضًا على أنه تعالى جعل للسنن الكونية والتشريعية استثناء
يضعه موضعه بحكمته ورحمته، حتى أن عذاب الأمم المعاندين لرسله والذي نص
كتابه على أنه لا تبديل فيه ولا تحويل قد دخله الاستثناء بالفعل، كما قال تعالى في
سورة يونس: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا
عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (يونس: 98) فإن
يونس عليه السلام كان خرج من قومه عندما جاء موعد ما أنذرهم من العذاب ولم
يؤمنوا، فلما رأوا بوادر العذاب وكاد يقع بهم آمنوا فنفعهم إيمانهم ولم ينزل العذاب
بهم، فهذا استثناء من السنة العامة في وقوع العذاب على الأقوام في مثل تلك الحال،
سواء كان متصلاً أو منفصلاً في الإعراب.
ومما يدل على تقييد السنن العامة بالمشيئة قوله تعالى بعدما ذكر في سورة
يونس: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} (يونس: 99) وهذه
المشيئة إنما تكون بخلق البشر على غير هذه السنن المعروفة في خلقهم من اختلاف
الاستعداد للإيمان والكفر معًا، ومن ترجيح بعض متعلق هذا الاستعداد على بعض،
أو بإزالة هذا الاستعداد بعض وجوده، وهو من سنن الله في نوع الإنسان.
ومن هذا الاستثناء عفو الله تعالى عما شاء من ذنوب عباده في الدنيا والآخرة؛
فإن عقاب المذنب من سنن العدل، والعفو والمغفرة من الرحمة والفضل، فكل
مذنب مستحق للعقاب بحسب سنة الله في تأثير الأعمال في النفس المقررة في قوله
تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس: 9-10) وما كل
مذنب يستحق العفو، وقد اتفق حكماء البشر على أن من الحكمة الاستثناء في
القوانين بالعفو عن بعض العقوبات.
والآيات المحكمة الصريحة في فعل الله لما يريد، وأنه ما شاء كان وما لم
يشأ لم يكن - كثيرة، والمسلمون مجمعون على ذلك؛ ولكن إجماعهم لا قيمة له عند
ملحد دمنهور ولا يحتج به في دينه، وقد يعبر عنهم بما يدل على أنه ليس منهم كما
قال في تفسير: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَاّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} (الفرقان: 8)
وهذا نصه:
(ومن الغريب مع هذا الدليل المبين أن المسلمين ينقلون في كتبهم أن النبي
سُحر بناء على حديث رواه اليهود، كما ينقل النصارى صلب المسيح بناء على
حديث رواه اليهود أيضًا) اهـ. فقد أنكر على المسلمين لا على المحدِّثين، ويعني
بقوله: كتبهم، أصح كتب الحديث وجميع كتب التفسير؛ ولكنه كذب في زعمه أن
حديث السحر المذكور قد رواه اليهود، والغرض من ذكر عبارته هنا أنه يهزأ
بأعظم كتب المسلمين في التفسير والحديث هزو الساخر المتبرئ من المسلمين،
وأما تحقيق المسألة فقد بيَّناه في المنار.
ومنها قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (يس:
82) وهذا المعنى مكرر في القرآن، وهو ظاهر فيما يخلقه تعالى بدون نظام
الأسباب، كخلق آدم من تراب، وخلق عيسى بن مريم من أم بدون أب.
وجملة القول في مسألة سنن الله تعالى في نظام الكون وسنن الاجتماع
والعمران: أن ما ثبت منها فهو مقتضى حكمته، وأنه غير مقيد لعموم مشيئته
وشمول قدرته، وأن ما ثبت في كتابه أو في خليقته من آياته المخالفة للمعروف من
تلك السنن فهو من تصرفه بمشيئته واختياره، لحكمة يعلمها في ذلك وقد يعلمها من
شاء من خلقه، كمعجزات رسله عليهم السلام؛ فإن حكمتها ظاهرة بيَّنها علماء
أتباع الرسل أحسن البيان.
وإن منتهى الجهل والكفر بالله تعالى جعله مقيدًا بما يظهر لبعض الناس من
هذه السنن مع تخبطهم فيها، وعدم اتفاق عقلائهم وعلمائهم على ضرورة اطرادها،
وما هذه الأرض وسننها إلا كذرة من ذراتها في جملتها ومجموعها، بالنسبة إلى
مُلك الله العظيم الذي ثبت لعلماء الفلك أن بعض أجرامه يبعد عن البعض الآخر بما
يُقدَّر بملايين السنين لسرعة النور، وهو يقطع نحوًا من مائة مليون ميل في زهاء
عشرة دقائق، فمن أنت أيها الجهول حتى تبيح لنفسك تحريف كلام الله لتأويل آياته
في خلقه اغترارًا بما لا تُعلم حقيقته من هذه السنن.
فإذا كان شيطان الجهل والغرور قد زيَّن لملحد دمنهور أنه يمكنه أن يكون
رجلاً عظيمًا في الأرض بوضع دين جديد لمن غلبت عليهم ظواهر الفلسفة المادية
لا يوجد فيه شيء مخالف للمألوف عندهم، فليبعد عن القرآن والإنجيل والتوراة
والزبور، فإن أديان جميع رسل الله مؤسسة على عقيدة تصرف رب العالمين في
خلقه بمشيئته واختياره في كل وقت، وعلى تأييده لمن شاء من رسله بخوارق
العادات، وسنن الاجتماع والكائنات، وعلى أن عالم الغيب من الملائكة والجن
وغيرهم لا يقاس على عالم المادة، وأن الإيمان بما ورد الوحي فيه من ذلك كما
ورد أصل من أصول الدين لا يصح الدين بدونه.
عجز فلاسفة أوربة عن وضع دين يخضع له البشر:
وليعلم أن بعض فلاسفة أوربة وأعلام الآداب والتشريع فيها قد وضعوا أصولاً
لديانة سموها الديانة الطبيعية، راعوا فيها من الفضائل والمصالح العامة والخاصة
ما استحسنه السواد الأعظم من الماديين وغيرهم؛ ولكن لم يتخذها شعب من
الشعوب، ولا جماعة من الجماعات، ولا فرد من الأفراد دينًا يلتزمه في أعماله
وآدابه! ولماذا؟
لأن الدين الذي يحتاج إليه البشر لتكميل فطرتهم وإزالة الخلاف من بينهم فيما
يجب عليهم من معرفة الله وعبادته، ومن أصول التشريع العامة والفضائل الثابتة
التي تحول دون الفوضى الدينية والأدبية التي تفرِّق كلمتهم، هذا الدين لا يمكن أن
يتحقق إلا إذا كان مصدره السلطان الإلهي الأعلى الذي تذعن الأنفس لأمره ونهيه
القطعيين لذاته، سواء وافق آراءهم وأهواءهم ونظرياتهم العقلية وتقاليدهم القومية
والوطنية أم لا؛ لأن صاحب هذا السلطان أعلم منهم بما يضرهم وما ينفعهم، وهو
القادر على إثابتهم إذا اتقوا وأحسنوا، وعلى عقابهم إذا فسقوا وظلموا وأساءوا،
وعلى العفو عنهم إذا تابوا وأصلحوا، وعلى استجابة دعائهم إذا دعوا وتضرعوا.
فلو كانت أمور العالم كلها تجري بنظام اضطراري ليس لله فيه مشيئة ولا
اختيار، لم يكن هنالك محل لثمرة الإيمان من الخوف والرجاء، وهما الباعثان على
الطاعة والانقياد، ولزال معنى الدين وذهب التدين هباء.
إلا أن المادية مضادة بل مناقضة لمعنى الدين والتدين، وقد ظهر بعد الحرب
العامة من مفاسدها ما لم يكن ظاهرًا، والعالم المدني قد شعر باضطراره إلى الهرب
من هذه المفاسد في العقل والآداب والاجتماع كما نوَّهنا بذلك من قبل؛ وإنما الدين
الوسط هو الجامع بين المصالح المادية والفضائل الروحية، كما بيَّناه في تفسير
قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} (البقرة: 143) من أول الجزء
الثاني من تفسيرنا.
وإذا لم يكن لرسل الله تعالى من آياته ما يميزهم من الفلاسفة والأدباء، كما
يزعم ملحد دمنهور، فأي باعث يبعث الناس على الانقياد لهم بالإذعان النفسي
والوجدان الاضطراري، وهم يجدون عند الحكماء من الحجج العقلية والأدبية ما هو
أقرب إلى مألوفاتهم ونظرياتهم مما جاء به الأنبياء.
حكاية ابن سينا مع المفضِّل له على النبي صلى الله عليه وسلم:
ألم يعقل هذا الملحد ما سمعه منا وقرأه في كلامنا غير مرة من نبأ الفيلسوف
الكبير الرئيس ابن سينا مع خادمه ومريده المعجب بعلومه وفلسفته المفضل له بها
على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يلومه على اتباعه هذا النبي
صلى الله عليه وسلم وهو دونه بزعمه وجهله، حتى إذا كانا في بعض ليالي الشتاء
الشديدة القر القارسة البرد في تبريز أيقظ الرئيس خادمه ليأتيه بماء يتوضأ به،
فاعتذر له بشدة البرد، وبعدم طلوع الفجر، فأيقظه سيده الرئيس عندما كان المؤذن
ينطق بالشهادتين على المنارة وسأله ماذا يقول المؤذن؟ قال إنه يقول: أشهد أن
محمدًا رسول الله، قال: قد آن لي أن أبيِّن لك فساد عقلك، وأَفَن رأيك، في
تفضيلك إياي على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إنك أنت خادمي، وقد بلغ من إعجابك بي ما تعلم، وهو ما لم أر ما يقرب
منه من غيرك، ثم إنك تكسل عن طاعتي في داخل الدار معتذرًا بشدة البرد، وهذا
الرجل الفارسي يشيد بالشهادة لمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة في
أعلى هذه المنارة حيث البرد على أشده، وهو في ذلك محتسب أجره عند الله،
فعندما ترى لي من السلطان على قلبك مثل ما ترى لمحمد صلى الله عليه وسلم على
قلب هذا الفارسي بعد مضي أربعة قرون على بعثته تكون معذورًا فيما تهذي به من
تفضيلي.
وإذا كان من أصول الدين المادي الذي تدعو إليه باسم القرآن أنه يجوز لمتبعه
أن يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم لترجيح رأيه على طاعته، أو لما يراه
بالتشاور مع غيره من المصلحة المخالفة له، فأي معنى يبقى للدين؟ وكيف تجتمع
الكلمة به على ما يكونون به أمة واحدة، أوليس من الجائز على هذا أن يترك
الناس جميع ما جاء به الرسول لمخالفته لآرائهم وما يزعمون من مصالحهم غير
المقيدة بدين يتبع لذاته بإذعان الإيمان، ولا يستحل صاحبه ترك شيء منه إلا بما
ورد النص فيه بكونه عذرًا كالضرورات التي تبيح المحظورات.
ثم إن هؤلاء الماديين لا يجدون أدنى باعث على قبول دين مادي يتوقف
إثبات ماديته على تحريف كثير من آيات كتابه عن مدلولها اللغوي الذي جرى عليه
جميع أهله من عهد النبي الذي جاء بهذا الكتاب إلى اليوم اتباعًا لجاهل مغرور في
تحريفها وجعلها مادية، وقد حكم علماء أهلها بإلحاده في دينهم ومروقه منه.
ولا يغرن هذا الملحد أن الباطنية قبلوا أمثال هذا التحريف في القرآن من
دعاتهم، فيظن أنه يوجد من يقبله منه؛ فإن الذين قبلوا هذا من الباطنية إنما قبلوه
بعد إقناع الدعاة لهم بأنه بيان الإمام المعصوم لمراد الله من كتابه، وبعد إقناعهم بأن
هذا المعصوم موجود، وأنه لا يمكن فهم مراد الله وجمع كلمة المسلمين على ما
يرضيه إلا منه. فأنى لك أيها المغرور بإقناع الماديين والجاحدين لوجود الله أو
غيرهم بإمامتك وعصمتك؟ .
فإن كنت أيها الملحد تعقل أن يتبعك أحد في دينك هذا فلك العذر في الحكم
على أستاذك الذي تبرأ منك ورد عليك إرشادًا لك، بأنه قد اختل عقله فلا يدري ما
يقول، وأنه يكيد لك مع شيخ الأزهر، وفي قولك المناقض لهذا، وفي سبك
وشتمك له، مع ادعائك أنك عذرته بجنونه وخرفه: {وَقُل لِّلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا
عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} (هود: 121-122) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
التجديد والتجدد والمجددون
(تابع لما سبق)
القضية الأولى
في حقيقة معنى القديم والجديد، والتجدد والتجديد،
والتفاضل بين الطريف والتليد
الخلق كله جديد وإنما القديم المطلق هو الله عز وجل، والجدة والقدم في
المخلوقات نسبيان، فكل قديم منها كان جديدًا، وكل جديدٍ سيصير قديمًا، ومن
الأمثال العامية بل العامة: (من ليس له قديم فليس له جديد) ويا له من مثل حكيم
يفهم منه العلماء ما لا تصل إليه مدارك الدهماء.
والتجدد والتجديد في الكون من السنن الإلهية العامة التي هي مصدر النظام
في تكويننا، والتغير والتحول في أطوار وجودنا، وعملها فيها عين عملها في آبائنا
وجدودنا {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: 43)
فنحن في معمل الكون الأعظم كالماء في معمل الجليد، كل آنٍ في تجدد وتجديد،
تارة يكون مائعًا سائلاً، وتارة يكون بخارًا طائرًا، وتارة يكون جليدًا جامدًا، وهكذا
عالم المادة كله، تجدد طبيعي فطري، وتجديد صناعي كسبي، تحليل وتركيب،
جمع وتفريق، هدم وبناء، نماء وفناء؛ وإنما يجري ذلك كله في مادة موجودة،
ذات عناصر معدودة، قديمة في الخلق لا جديدة، ذات قوى محدودة، تُصَرِّفها قدرة
غيبية معقولة لا مشهودة، وهي قدرة الخالق الحكيم عز وجل، فالتجدد والتجديد
إنما هو في الصور والأعراض، لا في إيجاد الجواهر والمواد. ويؤثر عن نبي الله
سليمان عليه السلام أنه قال: (لا جديد تحت الشمس) وهو صحيح ظاهر بهذا
المعنى، ويقابله مقابلة التضاد قول بعض حكمائنا: إن العرض لا يبقى زمانين،
فعلى هذا يصح أن يقال: لا قديم تحت الشمس، ولا تعارض بين القولين، ولا
تناقض بين القضيتين؛ فإن كل ما تحت الشمس قديم باعتبار وجديد باعتبار آخر.
وقد كنت قلت في مقدمة محاضرة في الجمع بين الذكران والإناث في مقاعد
التعليم ما يصح أن يقال هنا على أنه مقصد لا مقدمة وهو:
(التجديد سنة من سنن الاجتماع، كما أن التجدد من مقتضى الفطرة والطباع،
ومثلهما مقابلهما من المحافظة على القديم، ولكل منهما موضع، فلا تناقض بينهما
ولا تضاد، إذا وُضع كل منهما في موضعه بغير تفريط ولا إفراط) .
(من التجدد في نظام الفطرة أن كل أحد يخالف خَلْق والديه وأخلاقهما بعض
المخالفة، ولولا ذلك لم يكن ما نرى من التفاوت العظيم بين البشر، ومن حفظ
الأصل ما لا يجهل من إرثه لهما وشبهه بهما في بعض صفاتها الجسدية والنفسية،
ولولا ذلك لوقع من التباين بين أفراد الناس ما يكاد يكون به كل منهم نوعًا مستقلاًّ
بنفسه) .
(ومن حفظ القديم في الأعمال وراء سنة الوراثة ما تقتضيه غريزة التقليد
من محاكاة الإنسان لمن يعيش بينهم من أول سن التمييز إلى نهاية أجل الشيخوخة،
ثم تقليد الجماهير لمن يرونهم أوسع منهم علمًا، أو أعلى مكانة وقدرًا، ولولا هذا لما
تكونت البيوت والفصائل، والشعوب والقبائل، بما يربط بعضها ببعض من
المشاركات في الأعمال التي تطبع في الأنفس ملكات الأخلاق والعادات، فتكوِّن
رابطة الوحدة، التي تجتمع بها وشائج الكثرة، فتكوِّن بها الفصائل قبيلة والبيوت
أمة) .
(ومن التجديد في الأعمال البشرية ما تَهْدِي إليه غريزة الاستقلال المقابلة
لغريزة التقليد، والميل إلى الاستنباط والاختراع، ولولاه لكانت جماعات البشر
كأسراب الطير، ومساكنهم لا ترتقي عن خلايا النحل وقرى النمل) .
أنواع التجديد والحاجة إليها:
التجديد الاجتماعي والسياسي والمدني والديني كل منها حاجة من حاج
الجماعات البشرية بمقتضى غرائزها واستعداد نوعها به يرتقون في مدارج العمران
ويصعدون في معارج العلم والعرفان، حتى أن الدين الإلهي الذي يستند إلى وحي
الرب الحكيم بمحض فضله، لبعض من أعدَّ أرواحهم القدسية لذلك من أصفياء خلقه -
قد سار مع غرائز الجماعات البشرية في ترقيها من طور إلى طور حتى أكمله
تعالى لهم بالإسلام، عندما وصل مجموعهم إلى سن الرشد والاستقلال.
ومع هذا الإكمال يروي لنا المحدثون عن خاتم النبيين صلوات الله وسلامه
عليه وعليهم أجمعين، أنه قال: (إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل
مائة سنة من يجدد لها دينها) رواه أبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه،
والبيهقي في المعرفة وغيرهم من حديث أبي هريرة، وأشار السيوطي في جامعه
الصغير إلى صحته، والمراد بتجديد الدين تجديد هدايته، وبيان حقيقته وحقيته،
ونفي ما يعرض لأهله من البدع والغلو فيه أو الفتور في إقامته، ومراعاة مصالح
الخلق وسنن الاجتماع والعمران في شريعته. اهـ. وموعدنا في الكلام في التجديد
الديني والدنيوي القضية الثالثة.
هذه حقيقة معنى التجدد والتجديد، وهي تهدينا إلى أن لكل من الجديد والقديم
محلاًّ، وأن من الجهل تفضيل أحدهما على الآخر مطلَقًا.
المفاضلة بين المتقدم والمتأخر:
وأما المتقدم والمتأخر من الناس فقد كانت القاعدة عند أهل العلم والأدب منا
تفضيل المتقدم على المتأخر ولكن القاعدة عند أهل النشوء والارتقاء العكس وإنما هذا
وذاك بالنسبة إلى جملة أهل العصر، دون الأفراد النابغين الذين قلما تجود بمثلهم
الأزمان، ومذهب النشوء الاجتماعي ظاهر في الأمم في أطوار حياتها وقوتها، بل هو
ظاهر في الدين الإلهي أيضًا، فقد ارتقت الشرائع الإلهية بحسب استعداد البشر حتى
كان آخرها - وهو الإسلام - منتهى الكمال، فجعل الله رسوله الذي جاء به خاتم
النبيين، وبعثته عامة باقية إلى يوم الدين، وأنزل عليه قبل وفاته {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) .
وقد كان بعض الأدباء يفضل المتأخرين في بعض الأشياء، وقد افتتح عنترة
معلقته المشهورة بقوله:
هل غادر الشعراء من متردم
يعني أن الشعراء قبله لم يتركوا لمن بعدهم قولاً يقوله؛ ولكنه هو جاء فيها
بمعانٍ لم يسبقه إليها غيره، وقد عارضه ابن أبي حجلة في تفضيل كتابه (ديوان
الصبابة) على ما سبقه في معناه بقوله في خطبته: فإن قلت الفضل للمتقدم، وهل
غادر الشعراء من متردم؟ أقول: في الخمر معنى ليس في العنب، وأحسن ما في
الطاووس الذنب.
وكلمة (الفضل للمتقدم) صارت مثلاً في أفواه العلماء والأدباء، ولا أدري
أول من قالها هل هو عدي بن الرقاع الشاعر الأموي الذي ضمَّنها في شعره أم
غيره؟ وهذا شيخ صناعة الأدب الحريري قد استشهد في تفضيل بديع الزمان على
نفسه في مقدمة مقاماته بقول عدي هذا، ثم رأيناه عقد المقامة السادسة منها لتفضيل
الطريف على التليد، ونصر العصاميين على العظاميين، وإني أحفظ من عهد
طلب العلم عبارته في هذا، ولا يخلو إيرادها من إحماض وفكاهة، قال:
(روى الحارث بن همام قال: حضرت ديوان النظر بالمراغة، وقد جرى
به ذكر البلاغة، فأجمع من حضر من فرسان اليراعة، وأرباب البراعة، على أنه
لم يبق من ينقح الإنشاء، ويتصرف فيه كيف شاء، ولا خلف بعد السلف من
يبتدع طريقة غراء، أو يفترع رسالة عذراء، وأن المفلق من كتاب هذا الأوان،
المتمكن من أزِمَّة البيان، كالعيال على الأوائل، ولو ملك فصاحة سحبان ووائل،
وكان بالمجلس كهل جالس في الحاشية، عند مواقف الحاشية، فكان كلما شط القوم
في شوطهم، ونثروا العجوة والنجوة من نوطهم، ينبئ تخازر طرفه، وتشامخ أنفه،
أنه مخرنبق لينباع، ومجرمز سيمد الباع، ونابض يبري النبال، ورابض يبغي
النضال، فلما نثلت الكنائن، وفاءت السكائن، وركدت الزعازع، وكف المنازع،
وسكنت الزماجر، وسكت المزجور والزاجر، أقبل على الجماعة وقال: لقد جئتم
شيئًا إدًّا، وجرتم عن القصد جدًّا، وعظمتم العظام الرفات، وافتتم في الميل إلى
من فات، وغمصتم جيلكم الذين فيهم لكم اللدات، ومعهم انعقدت المودات، أنسيتم
يا جهابذة النقد، وموابذة الحل والعقد، ما أبرزته طوارف القراسح، وبرز فيه
الجذع على القارح، من العبارات المهذبة، والاستعارات المستعذبة، والرسائل
الموشحة، والأساجيع المستملحة، وهل للقدماء إذا أنعم النظر من حضر غير
المعاني المطروقة الموارد، المعقولة الشوارد، المأثورة عنهم لتقادم الموالد، لا
لتقدم الصادر على الوارد
…
إلخ) .
وللشعراء محاورات مشهورة في تفضيل الحبيب الأول أو الحبيب الآخر،
ومن المشهور في الأول قول بعضهم:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
…
فصادف قلبًا خاليًا فتمكنا
وقول آخر:
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
…
وحنينه أبدًا لأول منزل
نقل فؤادك حيث شئت مع الهوى
…
ما الحب إلا للحبيب الأول
وقول بعضهم في الثاني:
محا حبها حب الأُلى كن قبلها
…
وحلت مكانًا لم يكن حُل من قبل
وقول آخر في الرد على مفضِّل الحبيب الأول؛ ولكن جاء بحجة دينية لا
غرامية، وفلسفة دروينية لا عذرية:
أكلف بآخر من علقت بحبه
…
لا خير في حب الحبيب الأول
أنشُكُّ في أن النبي محمدًا
…
ساد البرية وهو آخر مرسل؟
والعدل في الحكم أن تقدم الزمان وتأخره لا شأن لهما في المفاضلة بين الأفراد،
ففي كل زمان أفذاذ، فالقديم كان جديدًا، والجديد يعود قديمًا، كما حققنا، ولله در
القائل في ذلك:
قل لمن يرى للأواخر شيئًا
…
ويرى للأوائل التقديما
إن ذاك القديم كان حديثًا
…
وسيبقى هذا الحديث قديمًا
وإنما التفاضل بين الأشياء والأشخاص يتعلق بذواتها وصفاتها، ودرجة انتفاع
الناس وارتفاقهم بها، فإن كان للمتقدم فضل الابتكار والاختراع، فقد يكون للمتأخر
عنه فضل التحسين والإكمال الذي يتم به الانتفاع، وقد اشتهر أن كثيرًا من
المخترعات التي سبق بعض اللاتين أو الإنكليز إلى كشفها قد أتمها الألمان فكان
نفعهم وانتفاعهم بها أعظم.
* * *
القضية الثانية
(فضل الشيء في مزاياه ودرجة الانتفاع به)
جهل هذه الحقائق أو تجاهلها أدعياء التجديد، فطفقوا يدعون إلى ترك القديم
لأنه قديم، والأخذ بالجديد لأنه جديد، وربما وصفوا القديم بالبالي لزيادة التقبيح
والتنديد، وإن كان على قدمه لا تبلى جدته، ولا تخلق ديباجته، ولا تخبو ناره،
ولا تنطفئ أنواره، كدين الله القويم، وكتاب الله الكريم {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ
فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} (الأحقاف: 11) .
إن تفضيل الجديد لجدته على القديم لقدمه، مكابرة للحس وسفه للنفس
ومصادمة للعقل، وهو باطل ببداهة الرأي وإجماع كل قبيل وشعب، فإن من القديم ما
يتنافس فيه خواص الناس في أرقى أمم الحضارة، فيباع بالألوف الكثيرة من
الجنيهات، إما لقدمه ونفاسته معًا، وإما لقدمه وحده، وإن هذه البلاد لتفاخر جميع بلاد
الحضارة بآثارها التليدة، وليس عندها شيء من مبتكرات حضارتها الطريفة، وإنك
لترى قصور الملوك والقياصرة وكبار الأمراء والأغنياء مزينة بالصور التي رسمها
قدماء المصورين، كما ترى على جدرانها دون أرضها أنفس السجاجيد العجمية
والشيلان الهندية القديمة.
وإنك لترى دور الآثار العادية تتغالى في شراء هذه الآثار، كما ترى خزائن
الكتب العامة الخاصة تتغالى في شراء الكتب القديمة لكبار العلماء المتقدمين، وإن
علماء هذا العصر في الغرب يشهدون لكثير من قدماء الحكماء والعلماء والشعراء
بالفضل، ويعترفون بأن منهم من لا نظير له في هذا العصر ولا شبيه.
وأما الأنبياء، وكبار القديسين والأولياء، فلا يزال السواد الأعظم في بلاد
الحضارة العصرية يفضلهم على جميع العلماء والحكماء المتقدمين والمتأخرين،
ويعترف بما امتازوا به في أنفسهم وفي هدايتهم، بل لا تزال مئات الملايين من
شعوب أوربة وأمريكة تعبد واحدًا منهم، فأين تذهبون يا أدعياء التجديد الإلحادي؟
وما شأن من تقلدون من ملاحدة الإفرنج الأفذاذ مع العلم بالنهضة الدينية الجديدة في
أوربة وأمريكة التي أثارتها الحرب الأخيرة؟
وإن كان كل جديد يحمد ويؤثر لجدته، فماذا تقولون في هذه السموم الجديدة
المخدرة للأعصاب، بل المفسدة لصحة الأجساد، المطفئة لسرج العقول، التي
يوشك أن يهلك بها هذا الشعب، إذا لم تنجح حكومته فيما سعى إليه حكمدار
العاصمة لدى عصبة الأمم من صد تيارها، وقطع الطرق الخفية على تجارها،
ومن تقليل ما تصدره معاملها في أرقى بلاد أوربة في هذه المدنية المادية الفاسدة
المفسدة.
وأما أحدث نظام جديد للحكومات العصرية فهو النظام البلشفي الذي ترتعد منه
فرائص دول الأرض؛ وإنما يتمنى له النجاح والانتشار بعض المتململين من إرهاق
دول الاستعمار لهم؛ ولكن غلاة التجديد الإلحادي معجبون به ميالون إليه، ولولا
عقاب الحكومة لصرحوا ببث الدعاة له، ولو لم يكن من فوائده عندهم إلا هدم هداية
الدين، وتقويض أركان الفضائل وأصول الشرائع الإلهية لكفى.
القول الحق الفصل في القديم والجديد:
والقول الحق في الموضوع: إنه لا بد للبشر في كل عصر من القديم والجديد،
وإن في كل منهما الحسن والقبيح، والنافع والضار، وأن من الناس من هو أميل
بطبعه إلى هذا، ومن هو أميل إلى ذاك من أجناس الأشياء وأنواعها، وقلما يفضلها
لمحض جدتها إلا الأطفال، ومن على مقربة منهم من النساء والرجال، وأما
العقلاء المستقلون فلا يرغبون عن النوع القديم إلى الجديد إلا بمرجح يرجحه عليه
عملاً بالقاعدة المنطقية في المتساويين؛ وإنما تكون الجدة مرجحة في جزئيات النوع
الواحد إذا كانت متساوية في سائر صفاتها؛ فإن الجديد يكون أزهى وأبهج وأثبت
وأبقى، فمثال الجنس من الأثاث والماعون سرر النوم، ومثال النوع منه في المادة
ذوات المعادن المختلفة، وفي الشكل ذوات العمودين وذوات الأربعة الأعمدة،
وجزئيات النوع منها أفراده، والعاقل لا يختار شيئًا منها لمحض جدته؛ إنما
يرجحه بسبب من أسباب الارتفاق والانتفاع به، إما في ذاته وإما في أمر خارج
عنه، كالاقتصاد واللياقة والوطنية والقومية.
من مُثُل ترجيح القديم على الجديد الذي هو خير منه في نفسه وفي الارتفاق
والانتفاع به، وراء المثل المعروفة من رخص الثمن وغلائه ومراعاة قدرة المقتني
المالية، أن في دار الصناعة البحرية الإنكليزية آلات بخارية لثقب حديد المدافع
وغيره قد حدث بعدها آلات من نوعها تدار بالكهرباء هي خير منها قوة وسرعة
ونظافة - وربما كانت أقل نفقة أيضًا - وهم لا يستبدلونها بها لأن في استبدالها بها
نفقة عظيمة لا تفي بها منفعتها حدثني الدكتور يعقوب صروف أنه رأى هذه
الآلات، وأن الدليل الذي كان يطوف به هنالك قال له: إن اليابانيين تعلموا منا
صنع هذه الآلات في عصر الكهرباء، فجعلوا آلاتهم كهربائية فكانت خيرًا من
آلاتنا هذه، وإن بقاء حاجتنا إليها لا يبيح لنا بذل النفقة الكبيرة التي يتقاضاها
تغييرها.
ترجيح ما هو وطني أو قومي على الأجنبي:
وأما ترجيح كل ما هو وطني وقومي على غيره من جديد وقديم فهو ركن من
أركان الحياة الاقتصادية والسياسية والأدبية في جميع الأمم الحية، ولا سيما
الإنكليز الذين راعهم رواج المصنوعات الألمانية في بلادهم لرخص ثمنها، فألَّفوا
عدة جمعيات للبحث في أسباب تلافي هذا، وقد سألت في بعض صيدليات برلين
وميونخ عن علاج إفرنسي من العلاجات التي أحملها في السفر وأقتنيها في الحضر،
لعروض الحاجة إليها فجأة في بعض الأوقات، فكان الجواب في البلدين واحدًا وهو
(هذا لاتيني هذا لاتيني) لم يقولوا: إنه غير موجود، بل ذكروا سبب ذلك، وهو
أنه من صنع اللاتين لا من صنع الجرمان، ثم استبدلت به علاجًا ألمانيًّا خيرًا منه
فيما وضع له، ولو وجد علاج مصري أو عربي يقوم مقامهما لفضلته عليهما.
بمثل هذه القومية والوطنية ارتقت شعوب الغرب بأبنائها البارين بأقوامهم،
المعتزين بأوطانهم، فهم يفضلون كل ما هو لهم من صناعة وتجارة وتشريع وغير
ذلك من مقومات الأمم ومشخصاتها على ما هو لغيرهم، فأحكام قضاة الإنجليز
القدماء وقرارات ندوتهم من أصول التشريع عندهم يحافظون عليه أشد من محافظتنا
على الأحكام التي نؤمن بأنها منزَّلة من عند الله تعالى، بله الأحكام الاجتهادية التي
استنبطها أئمتنا من نصوص شريعتنا وقواعدها، وقد سبق أسلافُنا الإفرنجَ إلى
الاعتزاز بما لهم من تشريع وغيره في صدر الإسلام، ومن ذلك ما وقع لعمر
رضي الله عنه مع معاوية لما جاء الشام لابسًا مرقعته، مرتحلاً ناقته، إذ قال له
معاوية: (يا أمير المؤمنين، إن أهل الشام قد اعتادوا أن يروا حكامهم في ملابس
فاخرة فهم لا يهابون من يكون متبذلاً في لباسه وزيه) فقال له عمر رضي الله عنه:
(نحن جئنا لنعلمهم كيف نحكم، لا لنتعلم كيف يحكمون) .
ومن ذلك أمره رضي الله عنه لقواده وعماله في بلاد الأعاجم بالتزام الزي
العربي، فقد كتب إلى عامله في بلاد العجم عتبة بن فرقد كتابًا ينهاهم فيه عن زي
الأعاجم ويأمرهم بالمحافظة على عادتهم العربية، ومما قاله في كتابه: (تمعددوا -
أي تشبهوا بجدكم معد بن عدنان في شدته وبأسه وخشونة معيشته، فالمعديون في
العرب كالإسبرطيين في الإغريق - تمعددوا واخشوشنوا وابرزوا واقطعوا الركب -
أي ركاب الخيل - وارموا الأغراض، وعليكم بالشمس فإنها حمام العرب وإياكم
وزي الأعاجم
…
إلخ) ، وقد حفظ العرب شخصيتهم القومية في الممالك التي
فتحوها ما داموا متمسكين بهذه الوصايا وغيرها من مقوماتهم ومشخصاتهم ولا سيما
لغتهم ودينهم، فكانت الأمم تندغم فيهم وتتعرب وتسلم، ومن تركها منهم ذاب
واندغم في غيره من الشعوب.
وقد قلَّد الإفرنج أجدادَنا في هذه السيرة، ولا سيما الإنجليز. وأدعياء التجديد
الإلحادي يحاولون إقناعنا بأن ننسلخ من ذلك كله حتى أحكام الميراث التي خالف
الإنكليز فيها جميع شرائع الأمم كحيازة أكبر الذكور من الأسرة لجميع ما يتركه
أبواه من العقار دون سائر إخوته من بنين وبنات.
احتقار الملاحدة والقبط للمسلمين بدعوتهم إلى ترك شريعتهم:
وأما نحن المسلمين في هذه البلاد فقد بلغ من احتقار أدعياء التجديد لنا أن
يجهر الملاحدة والقبط بها على أعواد المنابر في المدارس الجامعة بدعوتنا إلى ترك
ديننا وشريعتنا كلها، لا إلى ترك أحكام الإرث وحدها، ذلك بأنهم احتجوا علينا بأن
الحكومة تركت أحكام شريعتنا في كذا وكذا من العقوبات والأموال فسكتنا لها وقبلنا
حكمها، فيجب علينا إذًا أن نترك سائر ما شرعه الله لنا من الأحكام الشخصية في
الإرث والزواج والطلاق، إذ لا فرق عند هؤلاء المفتين المجددين بين النوعين من
أحكام الشريعة.
لقد هزلت حتى بدا من هزالها
…
كلاها وحتى سامها كل مفلس
بل لم يقفوا عند هذا الحد من احتقارنا بالطعن في شريعتنا الإلهية الغراء،
العادلة الكاملة البيضاء، من أعلى المنابر وعلى صفحات المجلات والجرائد، حتى
زعموا أن جميع شبابنا المتعلمين أو سوادهم الأعظم يوافقهم في آرائهم، ويدين لهم
بالزعامة في تجديدهم، بل استخف بالمسلمين أجرؤهم على الجهر بالسوء فيهم وفي
دينهم [1] ، فطفق يشتمنا ويشتم كل من يدافع عن الإسلام في مصر وفي غيرها، وهو
من غير أصلاب الفراعنة آلهة المصريين الأقدمين، التي يوجب عليها في تجديدها أن
ترجع إلى مدنيتهم وإن مر عليها ألوف السنين، ويخص الكتاب السوريين المسلمين
بالقدح والتفريق بينهم وبين المصريين، فالمدنية الفرعونية الوثنية لا تنافي التجديد
المطلوب لمصر عنده؛ وإنما تنافيه الشريعة الإسلامية والحضارة العربية لأنهما
قديمتان باليتان بزعمه وزعم حزبه، وصرَّح في آخر مقال نشره في هذا الموضوع
بأن النعرة الدينية التي انتصرت بها مجلة المنار على مجلة الجامعة فقتلتها (فكان
الشباب المصري هو الخاسر بذلك) قد زالت في هذه الأيام بزوال سذاجة البلاد التي
كانت تجوز عليها هذه الأوهام، وحاول في هذه المقالة أن يجهز على هذه الأوهام
الإسلامية، بتحريك النعرة الوطنية المصرية الفرعونية، التي تأبى دخول آل
الرافعي في جنسية مصر، ولعل تاريخهم فيها يقارن تاريخ بيت الملك، وينفي
بالأولى جنسية هذا الواقف بين أيديكم أيها السادة؛ لأن تاريخ هجرته إليها لا يزيد
على ثلث قرن، وهو يحرِّم عليكم قراءة مجلته المنار الإسلامي، بل السماح ببقائها
في مصر، إذ يقول في آخر هذه المقالة: (فلنفهم واجبنا ولنعلم أن الوطن خالد، وأن
شيوخنا وشبابنا مصريون قبل كل شيء، عليهم واجب محتوم يقاضيهم إياه شرف
البلاد، وهو أنه يجب أن تكون الصحافة المصرية صناعة مصرية، لا تنحصر
مصريتها في أن يكون قراؤها مصريين، بل يجب أن يكون أصحابها ومحرروها
مصريين أيضًا) اهـ بحروفه.
ولهذا المجدد الذي كان أول داعٍ إلى مساواة النساء بالرجال في الميراث في
العهد الأخير من مجلته هذه دعاية جديدة إلى بث دين البابية البهائية في مصر مع
تصريحه بأنه لا يؤمن به وتعليله ذلك بقوله: (فإن لنا من المزاج الأدبي الفلسفي
ما يجعلنا نلتمس لأنفسنا صوفية عالمية بغير الدين) ولكن غرضه من الدعوة
إليها صرف بعض المسلمين بها عن الإسلام لإضعاف جامعته الحائلة دون جعل
مصر فرعونية أي قبطية محضًا، ولم أصرح بهذا التعليل في المحاضرة.
أيها السادة:
إنني أذكر هذا لأنه من موضوع التجديد والمجددين الذي نعالجه لبيان حقيقته،
والتمييز بين حقه وباطله، ومحاولة اتقاء ضرره، كما قدمت في أوائل هذه
المحاضرة، فأنا أمر بسبه وقذفه كريمًا بسلام كما أمر الله في القرآن [2] وأتقي قول
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المُسْتَبَّان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان) رواه
الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد، ولا أريد أن أخوض مع الخائضين في
مسألة القبط والمسلمين، والعرب الفرعونيين [3] ؛ وإنما غرضي أن أنبه هذا الشباب
المصري الإسلامي لما يتنازعه في دينه ولغته وثقافته من عوامل الإلحاد والفرعونية
برقيتي التجديد والوطنية، لتجريده من هداية دينه وأدبه وتشريعه وعربيته وما له
في الإسلام والعربية من تاريخ مجيد، وما له بإسلامه وعربيته من زعامة في مئات
الملايين من البشر، لتكون غاية ذلك أن يصير مسلمو مصر بنفوذ شبانهم ملاحدة
حائرين، يتلمسون صوفية علمية بغير الدين، يتكلفون لمسها وهيهات أن يجدوها،
أو يكونوا بابيين يعبدون البهاء دفين عكاء، أو نصارى كسادة وطنهم من القبط
وأعوانهم يعبدون المسيح عليه السلام.
وكل هؤلاء الدعاة إلى التجديد الإلحادي يعتقدون أن هذه هي العاقبة الطبيعية
للإلحاد، كما قرره أحد كتاب فرنسة المستعمرين في كتاب جديد له رددت عليه في
المنار، قال ما خلاصته: إن تنصير المسلمين تنصيرًا مباشرًا من المحال؛ وإنما
الطريقة المثلى لذلك إفساد دينهم عليهم بالإلحاد، ولما كان من المحال أن تعيش أمة
بغير دين كانت العاقبة بعد زوال كل أثر للإسلام من أنفسهم، أن يختاروا دين
الغالبين السائدين فيهم وفي غيرهم وهو النصرانية.
وقد رأيتم في هذه الأيام كيف جدد الأستاذ عزمي دعوة الأستاذ سلامة موسى
إلى نبذ حكم القرآن في الميراث، وكيف قام الدكتور فخري يعزز هذه الدعاية
وسمعتم وقرأتم ما يحتجون به على المسلمين ويقنعون به شبانهم الغافلين، عما يراد
بهم، وهو أن ترك الحكومة من قبل لبعض أحكام الإسلام المدنية والجنائية يوجب
عليهم أن يتركوا سائر أحكامه حتى المسائل الشخصية.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
هو شاب قبطي اسمه سلامة موسى شديد الشنآن للإسلام والطعن فيه من طريق الإلحاد والإباحة والعصبية الوطنية الفرعونية أي القبطية، ولم أذكر اسمه في المحاضرة تنزهًا عن الإشادة باسمه، ومن غريب المشاكلة في الإلحاد أن صاحب مجلة عربية من بيت كريم في سورية جاء مصر، فكان هذا القبطي وبعض قرنائه الملاحدة محل مودته وإعجابه، وما زال ينوه بهم في مجلته.
(2)
إشارة إلى قوله تعالى: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا)(الفرقان: 63)، وقوله بعده:
(وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا)(الفرقان: 72) وقد فهم الجمهور من الآية الأولى أن فيها إشارة لطيفة لاسم (سلامة) هذا، وقد صرحت في المحاضرة بزيادة عما هنا ومنها طعن هذا القبطي بالأمير شكيب أرسلان لدفاعه عن الإسلام ونبزه بلقب وغد، وقلت: إن الوغد في اللغة هو الدنيء من الرجال الذي يخدم بطعام بطنه، والأمير شكيب نابغة بني أرسلان، من سلائل ملوك العرب وأمرائهم من قبل الإسلام، وهو يعيش في أوربة مع أهل بيته عيشة الكبراء، ويزوره في داره ويأكل طعامه الملوك والأمراء والوزراء (وأزيد الآن في هذه الحاشية أن ممن ضافه داره في لوزان ملك الأفغان السابق، وخديو مصر السابق وغيرهما وآخرهم جلالة ملك العراق ومن كان معه في أوربة من وزرائه وحاشيته في صيف هذا العام) .
(3)
كان بعد هذا أن دعتني لجنة الخطابة والمناظرة في الجامعة المصرية إلى مناظرة في المفاضلة في هذا الموضوع (المفاضلة بين المدنيتين العربية والفرعونية) فكان لي الفلج بترجيح العربية على الفرعونية، وتقدم ذكر هذا في المجلد الماضي من المنار (31) .
الكاتب: محمد رشيد رضا
المناظرة بين أهل السنة والشيعة
قد اطلع قراء المنار في الجزء الثامن (م 31) على الكتاب الذي نشرناه
للعلامة السيد عبد الحسين شرف الدين من أشهر علماء الشيعة الإمامية في هذا
العصر الذي يطلب المناظرة، وعلى إجابتنا إياه إلى طلبه وما اشترطناه فيها، وقد
جاءنا بعد ذلك الرسالة الآتية منه، فإذا هو لم يلتزم فيها الشروط، فكان لنا أن
نطلب منه حذف ما ليس من الموضوع الذي حددناه، وإن كان يمت إليه بنوع من
أنواع القرابة أو المناسبة، وإذا به يظن فيَّ الظنون، ويفتح له بابًا من النقد يقبله
الكثيرون، وإنني أنشر له هذه الرسالة على كون أكثرها خارجًا من دائرة
الموضوع، ومنتقدة من عدة وجوه، وإعلانًا عن كتابه بالإحالة عليه وبيان
موضع بيعه ورخص ثمنه؛ ولكنني أعلق عليها تعليقًا وجيزًا أعود فيه إلى تحديد
موضوع المناظرة، ولا أقبل بعده كلمة تخرج عن حدودها، وهذا نص
رسالته:
الرسالة الأولى للعلامة السيد عبد الحسين شرف الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد جرت مناظرة بيننا وبين الأستاذ العلامة الإمام حضرة صاحب مجلة المنار
الغراء، ونال كل منا صاحبه بما جرحه، فرأينا أن ذلك يحول دون الغرض الذي
يؤمه أهل الدين والعقل من إحقاق الحق وجعله الضالة المنشودة لهم، فكتبت إليه
راجيًا منه فتح باب في المجلة تذكر فيه المسائل الهامة بين الطائفتين ورأي كل
منهما ودليله.
فحقق رجائي وكان عند حسن ظني وأتحفني بكتاب ملأه حنانًا وغيرة على
الدين وأهله، ولا عجب إذا جاء الشيء على أصله وخرج الجوهر من معدنه.
وأرجو ببركة هذه المجلة ونية صاحبها أن نقف على فوائد جمة ونهتدي إلى
كثير مما خفي علينا علمه ومعرفته، فنحن بلسان أهل الحق والفضل نشكره شكرًا
جزيلاً.
ودع عنك قول بعضهم: دعوا البحث فيما يتعلق بالدين والمذهب وهلم إلى
التعاون على توحيد الكلمة وجمع الأمر قبالة المستعمرين.
فإن ذلك لغو من القول، وخطل من الرأي، وكأنها مقالة من لا يرى الإسلام
دينًا، ولا يرى أن هناك حياة أخرى خالدة غير هذه الحياة؛ وإنما يرى الإسلام
رابطة قومية وجامعة سياسية، فهو يدعو إليها ويحض عليها. وهذه الدعوى لا
تجدي نفعًا عند من يرى الإسلام دينًا ويتقرب إلى الله سبحانه بنصرته ومعاداة من
يمسه بسوء.
فالدواء الناجع إذًا لتوحيد كلمة المسلمين وضمهم تحت راية لواء واحد هو
سعي عقلاء العلماء - أي علماء الدين - من كلتا الطائفتين إلى محل الخلاف
وفحصه وإزالته بالبرهان، وإصغاء كل منهما لحجة الآخر، وتحكيم أهل الفضل
والإنصاف، ولا ينبغي وضع هذا العبء على كاهل العلماء فحسب.
بل على العقلاء ممن يهمهم أمر المسلمين القيام مع العلماء مراقبين سيرهم في
المناظرة؛ فإن الحق لا يخفى على طالبه، وإنني لا أنكر أن يكون في علماء
الطائفتين من تهمه نفسه، ولا يميل إلى الاتفاق لما اعتاده من التعصب الأعمى،
فعلى العقلاء من كلتا الطائفتين رفض أولئك والتنبه لهم.
وليت شعري كيف يمكن الاتفاق بين هاتين الطائفتين قبل دفع سبب الخلاف.
إن الشيعة من المسلمين يرون أن من أرسى قواعد الإسلام وأقوى دعائمه
موالاة أهل البيت والاهتداء بهديهم والعمل برأيهم وحديثهم، وأن المنحرف عنهم،
النابذ لحديثهم، المهتدي بخلاف هديهم غير متبع سبيل المؤمنين، ويرون أن أبناء
السنة من المسلمين منحرفون عنهم بنبذهم علمهم وحديثهم وإعراضهم عن مذهبهم
فهم على غير سبيل المؤمنين.
وإن المسلمين من أهل السنة يرون أن أرسى قواعد الإسلام وأوثق عراه
موالاة أصحاب رسول الله جميعهم والعمل بكل ما حدَّثوا به؛ لأنهم حملة الدين
وحفظة الوحي ومبلغوه إلى الأمم، فالمنحرف عنهم التارك لحديثهم غير متبع سبيل
المؤمنين، ويرون أن الشيعة منحرفون عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم لتركهم حديثهم وانقطاعهم إلى أهل البيت، فهُم على غير سبيل المؤمنين.
فعلى هذا كيف يشترك المتمسكون بالدين منهما بالعمل بإخلاص ونصح ما لم
يقع التفاهم بينهم؟
فلو أن شخصين متعاديين سارا في طريق واحدة لم يُجْدِهما نفعًا إظهارهما
المجاملة، وقول كل واحد منهما لصاحبه: دع العداء بيننا جانبًا، وهلم فنلكن يدًا
واحدة على من سوانا؛ فإن ذلك غير مستطاع لهما، واعتمادهما في التعاون على ما
أظهراه من المجاملة والاتفاق غرور وأمانٍ باطلة، فلو ظفر بهما عدو لهما على هذا
الحال، ثم استعان بكل واحد منهما على صاحبه لأعانه.
فعلى هذين الرفيقين أن يقتلعا سبب العداء من عروقه، ويعترف كل واحد
منهما لصاحبه بما جناه ويعطيه بيده ليأخذ بحقه حتى يرضى، وعندها تذهب
الشحناء، ويحل محلها الود والإخاء.
أما أنا فهذه يدي رهن بما أقوله معطاة لمن يريدها وما توفيقي إلا بالله.
علم علي وعمر رضي الله عنهما بالدين والقضاء
ذكرت مجلة الشبان مقالاً، وهو أن عمر كان أعلم الصحابة بالدين وأفقههم
فيه [1]، وردته مجلة العرفان بقولها: إن هذا منافٍ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
(أقضاكم علي) وقوله: (أنا مدينة العلم وعلي بابها) ولقول عمر: (لولا علي لهلك
عمر، ولا بقيت القضية ليس لها أبو الحسن) وردَّ الأستاذ العلامة صاحب المنار في
الجزء الرابع من المجلد (31 ص295) هذه الأدلة وعنون المسألة بهذا العنوان.
وحاصل الرد أن ما روي عنه صلى الله عليه وسلم من الحديثين غير صالح
للاستدلال به لعدم صحة ما روي، وعلى فرض صحته لا دلالة فيه على المطلوب؛
إذ كون علي أقضى لا يمنع أن يكون عمر أعلم؛ لأن القضاء - أعني فصل
الخصومة - لا يحتاج إلى كثير علم [2] ؛ وإنما يحتاج إلى ذكاء وفطنة، فبين الأعلم
والأقضى عموم وخصوص من وجه، وكذلك جعل علي عليه السلام باب مدينة
العلم لا يوجب الحصر؛ لجواز أن يكون للمدينة أبواب كثيرة منها علي عليه السلام،
ومنها عمر رضي الله عنه ومنها غيرهما، وكذلك قول عمر إنما جاء على نحو
التواضع. ثم أطال البحث في أحوال الرواة لهذين الحديثين وتضعيفهما.
أقول: ما أحسن المناظرة إذا كانت بآدابها، وصحت نية أربابها، وكان الحق
ضالتهم، والبرهان قائدهم.
ولنغضي عما في هذا الجزء من الشتم والتجهيل كما تضمنته رسالة ابن تيمية،
ومقالة الأستاذ التي عنوانها (السنة والشيعة وضرورة اتفاقهما) فإنها كتبت قبل
الصلح والمسالمة.
وقبل الخوض في البحث نقدم بيانًا يعلم منه مناظرنا كيف يسير معنا في
المناظرة.
رأي الشيعة في الخلافة:
إن المسلمين من الشيعة يرون أن الخلافة أصل من أصول الدين كالنبوة،
وأن نصب الخليفة واجب على الله عقلاً من باب اللطف كوجوب إرسال الرسول،
ويرون أن الخليفة لا بد أن يكون أكمل أهل زمانه في جميع فنون الفضل كالنبي،
وإن امتاز النبي صلى الله عليه وسلم عندهم بأمور كثيرة، ويرون أن الخليفة بعد
رسول الله صلى الله عليه وسلم هو علي أمير المؤمنين عليه السلام فهو أفضل أهل
زمانه.
رأي السنة في الخلافة:
إن المسلمين من السنة لا يرون الخليفة بهذه العظمة، فهي عندهم فرع من
فروع الدين، فيجب على المسلمين أن يختاروا من بينهم خليفة ولا يشترطون
امتيازه عن غيره في الفضل والصلاح، ولعل أكثرهم لا يشترط فيه الصلاح
والعدالة.
فإذا عرفت ذلك ظهر لك أن الشيعة حين ينكرون أن يكون أحد من الصحابة
أفضل من علي عليه السلام أو مساويًا له إنما هو لمنافاته لأصل الدين وقاعدة
المذهب عندهم، وقد فرغوا من إثباته بالحجج القاطعة والبراهين العقلية والنقلية،
وألَّفوا في ذلك الكتب المطولة، فمن يجهل رأيهم في الخلافة ولم يطالع ما كتبوه في
ذلك مع وفوره وقرب مناله، يظن أن ذلك منهم غلو في علي وانحراف عن غيره،
وليس كذلك.
إن العالِم الشيعي ينظر إلى التفاضل بين علي عليه السلام وعمر رضي الله
عنه كأهم مسألة دينية، والعالم السني ينظر إلى التفاضل بينهما كمسألة تاريخية،
وحيث كان البحث في التفاضل من الوجهة الدينية يحتاج إلى البحث في أصل
الإمامة وهي مسألة ضافية الذيل، فسيحة الأرجاء لا تسعها هذه العجالة - فلنبحث
الآن عنها من الوجهة التاريخية، ونعرض ما عندنا في ذلك على أهل الفضل
والإنصاف.
إنني وأيم الحق لم يكن يختلج في صدري أن أحدًا من أهل الفضل يقدم أحدًا
من الصحابة على علي عليه السلام في العلم أو يساويه فيه، وكنت أرى أن هاتين
الصفتين - أعني الشجاعة والعلم - قد كملتا فيه وامتاز بهما عند أوليائه وأعدائه، وأن
صفة العلم فيه أظهر من صفة الشجاعة لسبقه فيها سبقًا بعيدًا.
هذا كتابه قرآن العارفين وفرقان السالكين تتجلى آياته وتتلألأ أسراره، وما
أخال حضرة الأستاذ يرتاب فيه كغيره بعدما أورده أستاذه - ذلك الحبر الكبير النمير -
العذب من مشاربه، وأوقفه على تلك الإلهيات عن عجائبه.
إننا لعمر الحق أبعد المسلمين عن العصبية وأقربهم للاتفاق، وأحبهم
للإنصاف، وما الحيلة في ترك ولاء هذا الرجل - أعني أمير المؤمنين عليًّا - وقد
تجلى لنا تقدمه في الفضل على كافة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبقه
لهم فيه سبقًا بعيدًا، وإننا لنعجب لبعض العلماء من إخواننا السنيين كيف لا
ينصفوننا في علي عليه السلام ولا يرون رأينا فيه، وما لنا لا نعجب، وإنما هذا
الفضل له أخذناه منهم، ورويناه عنهم.
فمن عدم إنصافهم ما ذكره هذا البعض من أن عمر أعلم الصحابة ومنهم علي
عليه السلام، وهنا موقف الحيرة، فإن سكتنا كان ذلك إقرارًا منا بالخطأ وفساد
المذهب، وإن أوضحنا الحق في المسألة ونصرنا رأينا قامت القيامة علينا ورُمينا
بالرفض والغلو والتعصب على أكابر الصحابة.
لكننا نؤثر إحقاق الحق ونحتمل في سبيله كل مكروه، ولعلنا لا نعدم من أهل
الفضل والإنصاف أنصارًا ومحكِّمين.
اعلم أيها الأخ المنصف أن لنا على تفضيل علي على عمر رضي الله عنه
وعلى كافة الصحابة رضي الله عنهم براهين قاطعة من طريق العقل ومن طريق
الرواية. أما من طريق العقل فيحتاج ذلك إلى معرفة الزمان الذي تلقيا فيه ذانك
التلميذان العظيمان - أعني عليًّا عليه السلام وعمر رضي الله عنه العلم عن
معلمهما أعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقداره، ومنزلة كل واحد منهما من
الفطنة والذكاء، وعندها تصدر الحكم غير مرتاب:
زمن إسلام عمر رضي الله عنه:
أسلم عمر رضي الله عنه في السنة السادسة من بعثته صلى الله عليه وسلم
وعمره ست وعشرون سنة، فعليه يكون قد قطع مرحلة من عمره في غير طلب
العلم لا يُستهان بها، فإذا أضفت إليها ثلاث سنوات لم يلق عمر فيها رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلا نادرًا، وذلك عند حصار قريش لبني هاشم وبني عبد
المطلب في شعب أبي طالب رضي الله عنه، تراه قد خسر أكثر رأس ماله الذي
يتجر به الإنسان في كسب العلوم والمعارف وذلك ظاهر.
لأن الزمان الذي يستفيد منه المرء ويتعلم به هو زمان الصبا والشبيبة، وبها
تكون القوة الذاكرة والحافظة في منتهى النمو والنشاط والاستعداد لتلقي العلوم
والمعارف.
وما سمعنا بمن طلب العلم عند بلوغ هذا السن - أعني تسعًا وعشرين سنة -
وبرع فيه، وإن كان ثمة أحد فهو من شواذ الطبيعة، ومنكر ذلك مكابر وحائد عن
طريق الإنصاف.
خصوصًا في الصدر الأول أعني زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأصحابه رضي الله عنهم، فقد كان الاعتماد على الحفظ والذاكرة، ولم تكن يومئذ
المعلومات تُدوَّن ليؤمَن تفلتها وضياعها، فكان أعلمهم أكثرهم حفظًا وأقواهم ذاكرة،
ولولا حرص التابعين على حفظ الحديث وتدوينه لما وصل إلينا من علمهم شيء.
ولقد كنت زمن شبيبتي أتعجب من كل من يقول: نسيت، فإني لم أكن لأنسى
شيئًا سمعته أو قرأته، وبعد بلوغي الثلاثين انقلب الأمر وأصبحت أعجب ممن
يحفظ ولا ينسى، ولم يبق في ذاكرتي غير ما استُودع بها زمن الصبا والشبيبة،
وما شكوت هذا الداء لأحد من أبناء جيلي إلا وشكا لي نفس ذلك الداء الذي أشتكيه.
ويؤيد ذلك ما روي في سيرة عمر رضي الله عنه أنه لبث في حفظ سورة
البقرة وتعلمها اثنتي عشرة سنة، فلما ختمها نحر جزورًا [3] .
ولم يكن عمر رضي الله عنه يُعرف بالصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
والاتصال به قبل إسلامه ليستفيد من علومه.
زمن تعلم علي عليه السلام:
لا يرتاب أحد ممن راجع أحوال الصحابة وقرأ تاريخ حياتهم في أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم ضم عليًّا إليه وأخذه من أبيه وهو ابن أربع سنوات [4] .
وهذا هو أول الزمن الذي يتأهل الغلام فيه لتعلم مبادئ العلوم وتلقي بذور
الأخلاق الطيبة والطباع الفاضلة، ويا ما أسعد ذلك الغلام الذي يظفر بمثل ذلك
المعلم في مثل ذلك الزمان، وينقطع إليه عن أبيه وأمه وإخوته وكل أبناء جيله، ثم
لا يفارقه مدة حياته بخ بخ لهذا الغلام.
ومن يستطيع تحديد ما استفاده ووعاه قلبه وطبعت عليه نفسه من العلوم
والأخلاق؟
وقف القلم ههنا بعد نخوته معترفًا بالعجز عن هذه المهمة من التحديد، فأين
ربانيو هذه الأمة والراسخون في العلم منهم عن تحديدها وبيان مقدارها؟
مِل بنا نحو تلك الخلوات التي كان يكون بها مع معلمه صلى الله عليه وسلم
قبل بعثته. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بعثته قد تيمه الوجد وأورثه
ذلك وحشة من الناس وأنسًا بالخلوات والانقطاع عن هذا الخلق المتعوس المتردد
في دياميم الجهل والشقاء، النائي عن الخير والسعادة، فكان يجاور في كل سنة
بحراء ومعه هذا الغلام الشهرين والثلاثة، يريض تلك النفس الزكية ويؤهلها
لوصل ذلك الحبيب الذي هام به.
وكان علي عليه السلام يهيم بذلك الحبيب كهيام معلمه، ويشاركه في خلواته
به وأنسه بقربه وتلقي فيوضاته وألطافه لا ثالث لهما.
فأين الأصحاب رضي الله عنهم عن تلك المراتب السامية من هذه المكاشفات
والمشاهدات لخالقهما التي كانت تتجلى في قلبيهما وتتلألأ على (طور سينا نفسيهما)
ولا نعجب بعدها من أمر هذا الغلام كيف فارق أهله وإخوته وأترابه وانقطع إلى
معلمه ولم تمل به الحداثة إلى الأخذ بنصيبه من اللعب واللهو وهو منتهى لذة
الأحداث وقصارى رغبتهم.
فلقد ملئ قلبه بحب خالقه ولم يبق فيه فراغ لسواه، فسبحان واهب العطاء
يختص بكرامته من يشاء، أتظن رعاك الله أن ساعة من الزمن كانت تمر على هذا
التلميذ بغير فائدة من ذلك المعلم الحريص [5] على التعليم.
فلو ادَّعى مدعٍ كهذا التلميذ بعد وفاة معلمه أنه وارث علمه، أتكون دعوى غلو
ومجازفة أم دعوى حق وإنصاف؟
وقد تبين مما ذكرنا أن عليًّا عليه السلام تعلم العلم من رسول الله صلى الله
عليه وسلم زمن الصبا والشبيبة بخلاف عمر رضي الله عنه، وأن عمر ابتدأ بالتعلم
من رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علي بعد أن سبقه وتعلم قبله بخمس عشرة
سنة على أقل ما روي من عمره يوم بعثته وهو عشر سنين، وأما على ما روي من
أن عمره يوم البعثة كان خمس عشرة سنة فيكون قد سبقه بعشرين سنة، فما يقال
لهذا التلميذ الذي دخل المدرسة وابتدأ بالتعلم وهو ابن تسع وعشرين سنة، ولم
يكن [6] معروفًا بحدة الذهن وتوقد القريحة، ثم صحب تلميذًا شابًّا قد تعلم قبله
بخمس عشرة سنة وداما يتعلمان مدة حياة معلمهما، فهل يجوز في أحكام العقول
عند أهل الفضل والإنصاف أن يلحق الكهل بذلك الشاب ويفوقه بالعلم والمعرفة،
خصوصًا إذا كان الشاب أقوى فطنة وأكثر ملازمة وانقطاعًا إلى المعلم؟ كلا
ثم كلا.
وهذا لعمري من البديهيات الأولية. واعلم - رعاك الله أيها الأخ المنصف -
أننا هنا لا نعتمد في تفضيل علي عليه السلام على كافة الصحابة رضي الله عنهم إلا
على أمثال هذه البراهين القاطعة والأمور المحسوسة، التي سجلها التاريخ وأوضحها
البحث والتنقيب والتدبر، أما الأحاديث التي وردت في فضله عليه السلام فإنما تذكر
تأييدًا واستظهارًا قبالة الخصم، وهذه طريقتنا في الأصحاب رضوان الله عليهم، لا
نعتمد في فضلهم وصلاحهم على ما روي فيهم حتى نرى ما دُوِّن لهم في التاريخ من
الأعمال، فإن كان ثمة عمل يؤيد ما روي فيهم آمنا وصدقنا، وإلا اتَّهَمْنا الراوي ولم
نؤمن بحديثه.
ولسنا بحمد الله ممن يبخس الناس أشياءهم، بل نعطي كل ذي حق حقه،
وننعت المرء بما هو فيه، إن لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وجهة كان يؤمها،
وغاية كان يسعى إليها هي من أشرف الغايات وأعلى المقاصد.
ألا وهي إعزاز الإسلام وإظهار أبهته وعظمته وتفخيم سلطانه، فمن ذلك يوم
أسلم قال: (لا يُعبد الله بعد اليوم سرًّا) فكان المسلمون بعدها يصلون ظاهرين.
ومنها أنه أشار بأن يتخذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم مكانًا يمتاز به عن
أصحابه ليعرفه الغريب والوافد، ولا يحتاج إلى أن يسأل عنه؛ فإن في السؤال عن
العظيم ما لا يخفى.
ومنها أنه أشار بأن تحجب نساؤه صلى الله عليه وسلم ليكون لها الميزة عن
سائر النساء، ولقد قال لبعض نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رأى
شخصها في ملأ من الناس: (لو أُطَعْتُ فيكن ما رأتكن عين) .
ومنها أنه أشار بقتل الأسرى يوم بدر حتى لا تقوم لقريش بعدها قائمة؛ فإن
الأسرى كانوا هم الرؤساء والقادة، وكان يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يأذن له بقتل كل من يداهن في دين الله، وكان شديد الحرص على قتل أبي سفيان
لما رآه من شدة كيده للإسلام، وكان يوم الحديبية شديد الإنكار للصلح قال: يا
رسول الله، ألسنا بالمؤمنين؟ فقال: نعم، فقال: أليسوا بالمشركين؟ فقال: نعم
فقال: كيف نعطي الدنية في ديننا؟ حتى سكَّن أبو بكر من هيجانه فقال له: (والله
إنه لرسول الله) فقال عمر: وأنا أعلم والله أنه لرسول الله، فقال له: إذن فالزم
غرزه.
وهذه الأعمال ما نشأت إلا عن نية صالحة، وحرص شديد على إعزاز
الإسلام وتشييد سلطانه، ولو أردنا ذكر الأعمال التي قام بها أيام خلافة أبي بكر
رضي الله عنه وأيام خلافته التي أعزت الإسلام وأرست قواعده ونشرت على
البسيطة أعلامه، وطبقتها بسلطانه - لضاقت عنها بطون الصحف واستغرقت زمنًا
طويلاً، فجزاه الله عن الإسلام وأهله خيرًا.
النبطية (سوريا)
…
... صاحب الكلمات
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... عبد الحسين نور الدين الحسيني
(المنار)
يؤخذ من هذه الرسالة الفصيحة الصريحة المجردة من لباس الرياء والتقية
أن كاتبها يعتقد ما يأتي:
1-
أن توحيد كلمة المسلمين واتفاقهم على الدفاع عن دينهم المشترك وعن
أنفسهم، وعلى حقوقهم السياسية والوطنية وغيرها - يتوقف على زوال الخلاف
المذهبي بين أهل السنة والشيعة، برجوع أحدهما إلى مذهب الآخر الذي هو سبيل
المؤمنين عنده، ومن لم يتبعه يكون غير متبع لسبيل المؤمنين، وأنه يجب على
الآخر حينئذ عداوته في الدين، وعدم الاتفاق معه على شيء ولو كان دفع عدو لهما
كليهما، بل إن شأنهما أن يعين كل منهما عدو الآخر عليه، وكذا عدوهما كليهما،
أي أن مظاهرة عدو الدين والوطن والاتفاق معه، أولى من مظاهرة عدو المذهب
والاتفاق معه.
2-
أن الوسيلة الموصلة إلى هذه هي سعي علماء الدين من الفريقين إلى
إزالة أسباب هذا الخلاف بالبرهان، وإصغاء كل منهما إلى حجة الآخر في
المناظرة، وتحكيم أهل الفضل والإنصاف بينهما فيما لا يتناصفان فيه.
فأنا قبل الدخول في هذه المناظرة، أقول: إن أهل السنة ينكرون توقف
الاتفاق على ما ذكر، وإن العقلاء من جميع الأمم ينكرون إفضاء المناظرات الدينية
والمذهبية إلى رجوع أهل المذهب الذي يغلب عالمه في المناظرة إلى مذهب الغالب
كما يعلم بالاختبار في جميع العالم، ويؤيده فينا أن المناظرات بين الفريقين قد
كثرت وتعددت في الأجيال الماضية وفي جيلنا مرارًا لا يحصيها إلا الله تعالى، وقد
أُلِّف فيها كتب كثيرة من بسيط ووسيط ووجيز، فلم تزد السواد الأعظم من الفريقين
إلا تعصبًا لمذهبه وصدودًا عن مذهب الآخر، فكانت مفرقة لا جامعة ومبعدة لا
مقربة؛ وإنما تفيد المناظرات أفرادًا من مستقلي الفكر في طلب الحق، غير
المقيدي الفكر والوجدان بالإذعان لمذهب معين لا ينظر إلى غيره إلا بعين العداوة
والبحث عما يفنده به ولو بالتأويل والتحريف وترجيح مذهبه عليه بمثل ذلك،
وبالأقيسة المؤلفة من الخطابيات والشعريات المبنية على الظني وما دون الظني من
الروايات، ووصفها بالبراهين العقلية، كما يراه قارئ هذه الرسالة في تصوير
مناظرنا لتلقي علي عليه السلام للعلم من النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة
وبعدها بأنه كان كتلقي تلاميذ المدارس الفنية الدنيوية للفنون فيها بحفظ المتون
والقواعد الرياضية من حساب وهندسة ومساحة وفلك، واللغوية والعقلية والتشريعية،
ثم حكمه بأن السابق إلى هذا التلقي يجب بحكم العقل أن لا يدرك شأوه اللاحق،
وفي هذا البحث من الأغلاط الدينية والتاريخية والعقلية والمنطقية والطبيعية ما لا
يمكن بسطه وإيضاحه إلا في صفحات كثيرة أو رسالة مستقلة، وسأشير إلى المهم
منه بعد.
وإنما غرضي الآن أن أحتج على صحة ما اشترطته عليَّ السيد المقترح
للمناظرة من وجوب الاقتصار في المناظرة على مسائل الخلاف الأساسية، وهي
ثلاث:
(1)
موالاة أهل البيت النبوي، وأهل السنة يوجبون هذه الموالاة بما يفهمونه
ويرونه موافقًا لهدي الشريعة.
(2)
موالاة أصحاب الرسول، وأهل السنة يوجبونه على غير الوجه الذي
(3)
الخلافة، فيجب تحرير موضع الخلاف فيها أولاً، وتحديد طريقة
الاستدلال عليها ثانيًا، والاتفاق على طريقة التحكيم في الخلاف والمحكمين ثالثًا.
بيد أنني أحب أن أعلم قبل هذا هل يوافق كبار علماء الشيعة في سورية
والعراق والهند وإيران مناظري الفاضل على قوله: إنه لا يمكن الاتفاق بين أهل
السنة والشيعة على شيء من المصالح الإسلامية السياسية والوطنية والأدبية
المشتركة المنفعة إلا إذا اتفقا قبل ذلك على رجوع أحدهما إلى مذهب الآخر فيما
اختلفا فيه من المسائل الأساسية، وإلا كان دين كل منهما يقضي عليه بعداوة الآخر
على الوجه الذي قاله هذا العلامة الشجاع منهم والتعليل الذي علله به؟
إن هذا رأي لم نسمعه من غيره؛ ولكن سيرة الشيعة وتاريخها قد يؤيده ويدل
عليه، وإنه لأصرح رجل عرفته فيهم؛ ولذلك كبرت منزلته في نفسي على ما
أعتقد من خطئه وأغلاطه، وإن ما قرأته من كتابه (الكلمة الأولى) يدل على أنه
رجل شعور ووجدان، لا رجل تجربة وبرهان، ولولا ذلك لم يعقد أوكد الأيمان، أنه
لولا علي بن أبي طالب عليه السلام، لقُتل رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام،
ولما بقي في الأرض إسلام، ثم إنه يسمي في رسالته هذه كتاب نهج البلاغة بالقرآن
والفرقان، ويقول ما يراه القراء في شرط الاتفاق وزوال الشنآن.
فأقترح على مناظري العلامة، وعلى زميلي الأستاذ صاحب مجلة العرفان أن
يأخذا لي تصريحًا من علماء الشيعة المشهورين في جبل عامل وغيره من سورية
والعراق في رسالة السيد عبد الحسين ولا سيما شرطه هذا، بل أكتفي برأي علماء
جبل عامل وحدهم في ذلك، ونشر ذلك عنهم في مجلتي المنار والعرفان، وسأرد
في الجزء الآتي على هذه الرسالة على كل حال.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار: الصواب أن مجلة الشبان المسلمين نشرت مقالاً في عمر رضي الله عنه فيه كلمة بهذا المعنى، ولم يكن هذا موضوع المقال.
(2)
لم نقل أنه لا يحتاج إلى كثير علم.
(3)
روى ذلك العلامة المتبحر عز الدين بن أبي الحديد في شرح النهج جزء 3 صفحة 111، وهذا الكتاب جليل القدر جم الفوائد يدل على غزارة علم صاحبه وتقدمه في كثير من فنون الفضل، ولا سيما الحكمة والكلام والتاريخ والحديث والأدب، وهو شديد الولاء لعمر رضي الله عنه، طُبع هذا الكتاب في مصر سنة 1329.
(4)
ذكر الإمام الحافظ ابن حجر في الإصابة صفحة 504 أن عليًّا رُبي في حجر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفارقه، وكذلك كافة المؤرخين ممن عرفناهم كالطبري وابن الأثير وأبي الفداء، وقد أشار عليه السلام إلى ذلك بخطبته التي تسمى بالقاصعة بقوله: (وقد تعلمون موضعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليد يضمني إلى
صدره، ويكنفني فراشه ويمسني جسده ويشمني عرفه، وكان يمضغ شيئًا ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل، وكنت أتبعه اتباع الفصيل إثر أمه يرفع لي في كل يوم من أخلاقه عَلَمًا ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري إلخ) وقد أشبعنا ذلك بيانًا في الجزء الأول من كتاب (الكلمات، ص 41) فمن شاء فليراجعه، ويُطلب من إدارة العرفان من صيدا بقيمة زهيدة.
(5)
روي في كنز الأعمال على هامش مسند أحمد ص 43 أن عليًّا سُئل عن كثرة ما يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (كنت إذا سألته أنبأني وإذا سكتُّ ابتدأني) .
(6)
روى المحدث الجليل الموثق عند إخواننا وهو محمد بن سعد في الطبقات جزء 3 صفحة 273 بإسناده عن أبي هريرة قال: (قدمت على عمر رضي الله عنه من عند أبي موسى بثمانمائة ألف درهم فقال لي: بما قدمت؟ قلت: بثمانمائة ألف درهم، فقال لي: ألم أقل لك: إنك يمانيٌّ أحمق، إنك قدمت بثمانين ألفًا، فقلت: يا أمير المؤمنين إنما قدمت بثمانمائة ألف درهم، فجعل يعجب ويكررها،فقال: ويحك وكم ثمانمائة ألف درهم؟ فعددت مائة ألف ومائة ألف حتى عددت ثمانية) وروى أيضًا أنه قرأ قوله تعالى: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا)(عبس: 31) فقال: ما الأب؟ هو التكلف، فما عليك أن لا تدري ما الأب؟ وروى أحمد في مسنده أن عمر رضي الله عنه لم يعرف حكم الشك في الصلاة صفحة 190 وروي فيه أيضًا أنه أمر برجم مجنونة زنت فانتزعها منه علي عليه السلام وأخبر عمر بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:(رُفع القلم عن الصبي حتى يكبر، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يعقل) فرجع إلى قوله، وروى أبو الفرج في الجزء الثاني من كتابه (الأغاني صفحة 53) أن الزبرقان بن بدر شكا إلى عمر رضي الله عنه الحطيئة الشاعر حين هجاه فقال: ما قال؟ فأنشده:
دع المكارم لا تنهض لبغيتها
…
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فقال: ما أراه هجاء، فقال: بل هجاني يا أمير المؤمنين، فسأل حسان فقال: بل سلح عليه.
الكاتب: محمد رشيد رضا
مصابنا بالوالدة رحمها الله تعالى
بعد ظهر اليوم السادس والعشرين من شهر ربيع الآخر، قد احتسبنا عند الله
تعالى والدتنا ومربيتنا وجرثومة أسرتنا السيدة البرة الرحيمة التقية النقية الشريفة
(فاطمة أم رشيد) الحسنية الأب والأم، في منتصف العشر التاسع من عمرها،
ففقدنا بفقدها أمًّا يندر وجود مثلها في الأمهات - والأمهات أفضل ما في هذه
الكائنات - حبًّا ورحمة وإخلاصًا ونصحًا وإيثارًا للأولاد على النفس مهما تكن
صفاتهم وأحوالهم، إلا من أفسدت البيئة فطرتها، وذهب الجهل ومعاشرة الفاسقين أو
الخرافيين بدينها، فلا حب فوق حب الأم إلا حب الله تعالى لعباده المقرَّبين، ولا
رحمة تعلو رحمتها إلا رحمته عز وجل للمحسنين، بل رحمتها أكبر شجنة من
رحمته الواسعة عز وجل، فقد فقدنا من كانت عندنا ومنا وفينا أفضل المخلوقات،
من لا يفضلها شيء، ولا يغني عنها شيء، إلا رحمة الله تعالى وصلواته على
الصابرين، وبره وإحسانه للبارين المحسنين، ونرجو أن نكون منهم في برنا لأمنا
في حياتها، وصبرنا واحتسابنا لها بعد وفاتها، ونسأله تعالى أن يجزيها عنا أفضل
ما جزى أمًّا لعباده رؤمًا لأولادها، رؤوفًا بهم، عطوفًا عليهم، محسنة لتربيتهم،
أَمة من إمائه، مؤمنة به، موحدة له، مخلصة في عبادته، وأن يتغمدها برحمته
التي يختص بها عباده المقرَّبين، ويرفعها إلى منازل الكرامة في عليين.
كانت رحمها الله تعالى صحيحة البنية سليمة من الأمراض، إلا أنه عرض
لها ألم الرثية (الروماتزم) في ركبتيها بعد مجيئها إلى مصر منذ بضع عشرة
سنة، فعالجها الطبيب التركي الشهير شرف الدين بك - رحمهما الله تعالى - بصبغة
اليود دهانًا وشربًا، فزال المرض وحجت في موسم سنة 1334 وأنا في خدمتها فلم
يزعجها شيء من ركوب الشقادف والنزول منها، واحتملت ما أرهقنا من نوء البحر
في عودتنا من الطور إلى السويس في باخرة صغيرة وبسهولة.
وصامت معنا شهر رمضان الماضي بدون تعب ولا ضعف، وكانت تفطر
وتتسحر من طعامنا القوي التغذية فلا تشكو منه ثقلاً ولا طسىً ولا سوء هضم،
وتصلي معنا في جماعة الأسرة، ثم تغيرت صحتها عقب عيد الفطر، واشتكت
واختلف على معالجتها عدة من نطس الأطباء أشهرهم سليمان بك عزمي فخف
المرض؛ ولكنها ضعفت بالتدريج واشتد تعبها في آخر ليلة من حياتها الشريفة
الراضية المرضية، وقد صلَّتْ الفجر والظهر يوم وفاتها في وقتهما بالإيماء، ولم
تقبل أن تؤخر الظهر لتجمعها مع العصر كما أفتيتها في مثل هذه الحال، وفاضت
روحها في الساعة الثانية بعد الظهر.
وكانت التي تتولى خدمتها الخاصة وتمرضها في كل أيام مرضها كِنَّتها أم
أولادنا، حتى أنها كانت تسهر بجانب سريرها ما دامت تعبة محتاجة إلى شيء من
الخدمة وتنام بجانبه عند الحاجة. وقد قلت لأم محمد شفيع غير مرة: إن كل خدمة
تؤدينها للوالدة فكأنك تؤدينها لشخصي؛ لأنك نائبة فيها عني، فإنني أنا الخليق بأن
أقوم بذلك بكل ارتياح مهما يكن نوعه، فلا عذر لك في شيء من التقصير إلا إذا
كنت أنا مقصرًا معك في شيء ما - وهي بحمد الله واتباعنا لهداية دينه القويم لا
تشكو مني شيئًا ما - ومن فضل الله علينا جميعًا أنني لم أر منها أدنى تقصير
فأرشدها إلى تلافيه، وقد قلت لها: إنني لا أشكر لك خدمة الوالدة لجنس الخدمة
ونوعها؛ فإن هذا من التكافل المشترك في حياتنا المنزلية، وإنما أشكر لك من
أعماق قلبي أنني لم أرك في شيء من هذه الخدمة متبرمة ولا ضجرة.
فهذا الارتياح النفسي لهذا العمل الشريف من الفضائل النفسية لا تكاد توجد في
الكنائن، بل قلما تتحلى بها ابنة في تمريض أمها في هذا العصر الذي كثر فيه
العقوق، وهضم الحقوق، فأقسَمَتْ أنها تشعر في خدمتها بارتياح من تخدم ابنة لها
لا أمًّا، ولقد كانت المرحومة خيرًا لها من أمها، وأشد تحريًا لسرورها من بنتها،
فلو كانت أمها معنا لما استطاعت أن تؤلف بيننا مثلها، فأنا أسجل هذا في المنار
ليكون مثلاً صالحًا وأسوة حسنة للمؤمنين، وحجة على الملاحدة والمارقين
والفاسقين، الذين يجهلون أن سعادة الحياة المنزلية (العائلية) من زوجية وأمومة
وأبوة وأولاد لا تأوي إلا إلى بيوت المعتصمين بهداية الدين القويم، فإليها تأوي
وفيها تثوي وتقيم، ولئن طاف منها طائف ببيت من بيوت الملاحدة والفاسقين أو
زارته؛ فإنما تلم به إلمامًا، ولا تلبث أن تهجره عند حدوث الحوادث الشهوانية،
وانتياب الكوارث البشرية، فآداب الإسلام أرقى من آداب الإفرنج وأضمن للسعادة،
وإن جهل ذلك المتفرنجون.
أيقنَّا موت الوالدة التي كنا نتبرك بوجودها، ونهتدي بإرشادها، ونستنزل
رحمة الله ومثوبته ببرنا لها ودعائها لنا، ففاضت الأعين دموعًا، ورددت الصدور
زفيرًا ونشيجًا، وكررت الألسنة حوقلة واسترجاعًا، واضطربت الأفئدة خفقانًا
ووجيبًا، وإن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، ولا
نعمل إلا بما شرعه لنا.
لم نعلن نعيها في الجرائد ولا رقاع البريد ولا أسلاك التليفون؛ وإنما أعلمنا
حفيدها السيد محيي الدين رضا بالخبر لبعد داره عن دار المنار، وجهزناها على
ملة الإسلام، وسنة رسول الله عليه أفضل السلام، وصليت عليها في رحبة الدار
مع من حضر، وشيعناها إلى مقبرة جديدة في زين العابدين، فوارينا شمسها عندما
توارت شمس الدنيا بالحجاب، تغمدها الله بالرحمة والرضوان.
لم نعقد لها مأتمًا، ولم نغير شيئًا من عاداتنا حدادًا عليها، وقد وصل الخبر
إلى بعض جرائد الصباح التي تُطبع ليلاً فنشرته، ثم نشرته بعض جرائد المساء
في اليوم التالي، فأقبل كثير من أصدقائنا المقيمين في القاهرة لتعزيتنا في الدار
نهارًا وليلاً، وأرسل كثيرون منهم برقيات التعزية ورسائلها من الإسكندرية وغيرها
من مدن القطر المصري ومصطافه، وكان في مقدمة المعزين بأنفسهم وببرقياتهم
إخواننا العلماء، وأخص بالذكر منهم أصحاب الفضيلة شيخ الأزهر الحالي الأستاذ
الشيخ محمد الأحمدي الظواهري، وشيخه السابق الأستاذ محمد مصطفى المراغي،
ومفتي الديار المصرية الأستاذ الشيخ عبد المجيد سليم، وبعض رؤساء الكليات
والمدرسين في الأزهر، وبعض الوزراء وأولهم صاحب الدولة رئيسهم إسماعيل
صدقي باشا، والزعماء وكبار رجال الأحزاب وفي طليعتهم صاحب الدولة مصطفى
باشا النحاس رئيس الوفد المصري، ومحمد فتح الله باشا أحد كبراء الوفد ووزراء
حكومته السابقة، وحسن باشا عبد الرزاق وإخوته من أركان الحزب الدستوري، ثم
جاءتنا كتب التعزية من أصدقائنا المحبين المنبثين في الأقطار حتى لندن وباريس
وروما وسورية والحجاز، فنشكر لكل مُعزٍّ من قريب وبعيد فضله ولطفه، وندعو الله
أن يلطف بنا وبهم، ويقينا وإياهم السوء، ويجعلنا من الصابرين على بلائه،
الراضين بقضائه، الشاكرين لنعمائه.
كانت الوالدة - أحسن الله تعالى إليها - من أسلم النساء فطرة، وأزكاها نفسًا،
وأطيبهن قلبًا، كانت خير الأزواج لزوجها، وخير الأمهات لأولادها، وكان حظي
من حبها وعطفها أكبر من حظوظ إخوتي وأخواتي؛ ولكن فيما لم يحرك غيرة أحد
منهم ولا سخطه، حتى كان والدي رحمه الله تعالى يلقبني (حبيب أمه) ولا أذكر
أنني عصيت لها أمرًا في صغري ولا كبري.
أذكر أنني رأيت أترابي من الأطفال مرة قد خرجوا في سماء (مطر) حفاة
يمشون في الوحل رافعي أثوابهم إلى ركبهم، فاشتهيت أن أقلدهم وأنا ابن بضع
سنين، فجئت الدار فاستأذنتها في أن أخرج حافيًا وألحق بهم، فلم تأذن لي، فوقفت
في عتبة الدار حافيًا ومددت إحدى رجلي إلى خارجها وقلت لها أحطها، قالت: لا
تحطها، قلت: أحطها، قالت: لا تحطها، فكررت ذلك مرارًا، فلما لم تأذن لي
رجعت، وما زلت أذكر هذا لها وتذكره لي فلم أنسه، وما أبرئ نفسي من نسيان
غيره.
ولا أذكر أنها ضربتني في صغري إلا مرة واحدة، تململت من سخونة ماء
الحمام وحاولت التفصي والهرب، فضربتني بالطاس على ظهري، وما زلت
أذكِّرها بها مازحًا، وتعتذر لي عنها تلطفًا، ثم كانت أشد عناية من والدي بطلبي
للعلم والاهتمام به والارتياح إلى هجرتي إلى مصر، إذ علمت ما لي فيها من النية
الصالحة، والرجاء في التكمل بالعلم وخدمة الملة والأمة.
وكانت دقيقة الفهم، رقيقة الشعور والوجدان، تخشع لآيات الزجر والوعيد
من القرآن خشوع العارفين المتدبرين، وإذا أنشدتها شيئًا من غزل الشعر الغرامي
قالت: هذا فتنة، لا ينبغي اشتغال الشبان والشواب به، وقد قرأت لها قصيدة أحمد
شوقي في تهنئة السلطان حسين كامل:
الملك فيكم آل إسماعيلا
فلم أتجاوز حتى قالت لي: هذه مرثية لا تهنئة، فعجبت لهذه الفطنة، وسبقها إياي
إلى هذه الفكرة. ثم قرأت لها قصيدته في تهنئة والدة الخديو بعودتها من الآستانة
التي مطلعها:
اكشفي الستر وحيي بالجبين
…
وأرينا فلق الصبح المبين
فانتقدت هذا المطلع واستهجنته جدًّا في كلا مصرعيه: فأما الأول فلأن الستر
يستعمل غالبًا في إخفاء ما يقبح إظهاره، وكشفه يستعمل في الفضيحة، فيقال:
كشف الله ستر فلان، وهتكت فلانة سترها، وأما الثاني فلا يخفى وجهه، ولا
يحسن كشفه.
وأذكر أنني سمعت وأنا صغير مغنيًا في قريتنا القلمون يقول بيتًا من أغنية
عامية مضمونه أنه يدعو الله أن يغيب القمر ليأخذ البوسة (القبلة) ويرى قلعة
حلب على أي شيء هي مبنية فحفظتها فقلتها أمامها، وقالت لي:(اسكت) هذا
كلام عيب إياك أن تقوله، وإنني وأيم الحق لم أفهم مغزى هذا الإنكار الشديد إلا بعد
أن صرت رجلاً كبيرًا.
وكانت على نزاهتها وأدبها في القول والفعل ذات دعابة وفكاهة وتنادر في
الكلام طبعًا بلا تكلف، وكانت تتوخى أن لا يستثقل أحد منها قولاً ولا خدمة، فقلما
تطلب من أولادها أو أحفادها أو كنتها شيئًا بصيغة الأمر، بل تعرض وتكني في
الغالب، ولا تكلف أحدًا ما تستطيع هي فعله ولا تشتم خادمًا شتمًا بذيئًا على تقصير،
ولكنها قد ترفع صوتها عند الغضب، وقد ورثتُ ذلك منها وهو منتقد وهو طبع
كان يكرهه كل منا.
وكانت مقتصدة شديدة الحرص على كل ما في الدار، لا يهون عليها أن
يضيع شيء منه، على حبها للضيافة واعتيادها إكرام الضيوف منذ صارت ربة
بيت، وتحب أن يُبذل كل ما يستطاع من إكرام الضيوف وبر الإخوان، فإذا أشرنا
بشيء من الألوان لم تجده لائقًا لقلته اقترحت الزيادة عليه، وما دعوت الأصدقاء
إلى الطعام إلا ذكرتني ببعض من لم أذكره لها منهم، حتى كانت تأمرني بدعوة
نسيم أفندي صيبعة للإفطار معنا في رمضان مع الصائمين الذين ندعوهم ولا سيما
السوريين منهم، فأقول لها مازحًا: هو نصراني لا يصوم. فتقول: لكنه صديقك
وابن بلدنا، وذوقه ذوقنا، ولا بد أن يترك الغداء بعد الظهر، أو يخففه ليقبل الأكل
معكم بعد المغرب، وأنا لم أذكر لها كلمة نصراني إلا لأجل الصيام، فقد كان من
المألوف عندها بدارنا، وإلا فهي معتادة في بلدنا على ضيافة النصارى وغيرهم،
بل كان بعض أصدقاء والدي منهم يقيم عندنا أيامًا في رمضان فيفطر ويتسحر معنا.
وقد ذكرتني جريدة حضرموت - التي تصدر بسنغافورة -بمكرمة لها كنت
ناسيًا لها، وهي أنه لما جاء مصر صديقي الجليل المرحوم السيد محمد بن عقيل
قبل الحرب الكبرى ذكرت لها ذلك عندما علمت به ليلاً، فأمرتني أن أذهب من
ساعتي تلك إلى الفندق الذي نزل فيه وأجيء به إلى الدار، وقالت: إنه لا يليق
بك وهو صديقك القديم، وقد صار لك دار وأهل أن ترضى بنزوله في فنادق
المسافرين - وكانت لا تعلم أن هذا معتاد في الأمصار الكبيرة - فلم يسعني إلا امتثال
أمرها.
وكانت صبورًا شكورًا، مات أربعة من بنيها وأربع من بناتها في حياتها
فبكتهم البكاء الطبعي الشرعي، دموع تتحادر من العينين، ونشيج يتردد في الصدر،
بلا نوح ولا ندب، ولا تغيير شيء من العادات في اللباس والأكل والشرب، ولا
غير ذلك مما يسخط الرب.
وأما الشكر فكان أكمل مظاهره منها رضاها من المرحوم الوالد وإطراؤه في كل
أعماله على ما كان من شدته في معاملتها ومعاملتنا أحيانًا، فلم يكن في أسرتنا مثله في
غضبه وشدته عفا الله عنه، وما زالت تمدحه وتثني عليه وتدعو له طول حياتها.
وقد ضارها بزوج أخرى من بنات عمومته بعد ولادتها لي - ولم يجمع أحد
من أسرتنا بين زوجين غيره إلا ابن عم له - فلم ينكر هو ولا غيره منها قولاً ولا
فعلاً من غيرة الضرائر على ما كان أهل ضرتها يعملون لإغضابها وإثارة غيرتها
ولكنه رحمه الله تعالى ما استطاع أن يطيل عشرة الأخرى فسرَّحها سراحًا جميلاً.
ومن أغرب آدابها أنها كانت تعد لأولادها عليها بأقل خدمة يؤدونها مما أوجبه
الله عليهم ويعذبهم على تركه، حتى كان يثقل علي هذا منها أحيانًا، وقد قلت لها
مرة: لماذا تتحامين أو تستثقلين أمر أي كان من كبيرنا وصغيرنا بما تريدين منه
وأنت سيدة الجميع وصاحبة الفضل على الجميع؟ فقالت: بل أنت صاحب الفضل
على الجميع. فما آَلَمَتْني بكلمة أشد على طبعي من هذه الكلمة، فقلت لها: بل أنا
لولا توحيد الله تعالى لما كنت إلا عبدًا لك، وانصرفت موجعًا من هذا الشعور
الغريب.
وأغرب منه أنها كانت تسترقيني إذا وجعتْ فأرقيها، والرقية مشروعة،
ولم تكن من النساء الخرافيات، وقد ذهبت مرة مع بنتيها لرؤية جامع عمرو فأحاط
بهن سدنة القبور فقلن لهم: إنما نحن متفرجات لا زائرات، فانصرفوا.
وأعد من فضل الله تعالى عليَّ أنني ورثت منها سلامة الفطرة وطيب السريرة،
فلم أحمل في قلبي حقدًا على مسيء ولا حسدًا لذي نعمة، وكذا الاستعداد لذوق
اللغة وحسن الفهم، وغير ذلك من أخلاقها وخلقها، كما ورثت من والدي - أكرم
الله مثواهما - عزة النفس والشجاعة والنجدة؛ وإنما أذكر هذا تنويهًا بفضل الوالدين
وتحدثًا بنعم الله عز وجل، وأعظمها العلم الصحيح بالإسلام، والعمل به، ثم وراثة
النسب الشريف.
كنت أتمنى لو تعيش الوالدة مائة سنة أو أكثر متمتعة بالصحة، وسلامة العقل
والجسد كما كانت إلى آخر رمضان الماضي، نتمتع بخدمتها وإرضاء الله برضائها،
ونقتدي بأخلاقها وآدابها، ونرجو زيادة نعم الله علينا بشكرها له ودعائها لنا.
وكنت على حبي لها أخشى أن تشتد عليها الأمراض فأراها معذبة أو شاكية
وجعة، وكانت أصبر على ألم النفس منها على ألم الجسد لأنها لم تتعود هذا، وقد
شقت عليها الحمية في هذه الأشهر التي ضعفت فيها لما اعتادته من الترف، وكانت
تتوقع أن يزول كل ما عرض لها فتعود إلى سابق صحتها، وتتساءل متى يكون
هذا؟ فأذكرها بتجاوز الثمانين لكيلا تتضجر من بطء ما ترجو.
وكنت على تمني أن يطول عمرها أخشى أن أموت قبلها؛ لأنني أعلم أن
رزأها بي يكون أكبر المصائب عليها، إذ كنتُ قرة عينها والعزاء لها والسلوى
عن جميع مصائبها، وقد كان يشق عليَّ أن أراها متعبة فلا أستطيع طول المكث
معها، وأحمد الله تعالى أن حفظها في مرضها عقلاً وفهمًا وجسمًا وطهارة حسية
ومعنوية - كما يليق بمبالغة الشافعية في الطهارة - حتى كانت إلى نهاية أجلها
حديدة البصر، تنظم الخيوط الدقيقة في أخرات الإبر؛ ولكن أجل الله إذا جاء لا
يُؤخَّر، ولقد عاشت طيبة وماتت طيبة فنسأله تعالى أن يجمعنا بها في دار كرامته،
ويجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم لقائه {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً
وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} (الأعراف: 126) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
كلمة في مقالات إلحاد في الدين
قد امتنعت جريدة الأهرام من نشر المقالة الأخيرة من هذه المقالات المنشورة
في هذا الجزء؛ ولكنها نشرت للشيخ محمد أبي زيد مقالة استفرغ فيها من قَذَرِه في
شتم أستاذه المحسن إليه في العلم والدين والدنيا ما لم يكن يُظن فيه على ما عُلم من
فساد دينه وعقله، وكفى بهذا عبرة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
نعي السيد الجليل
السيد محمد بن عقيل تغمده الله برحمته
الحمد لله الباقي بعد فناء خلقه.
حضرة العلامة الجليل الأستاذ العزيز السيد محمد رشيد رضا، حفظه الله
تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (وبعد) فننعي إليكم بمزيد الشجن، وعظيم
الحزن والدنا الجليل، العلامة فقيد العلم والإسلام، مولانا البركة السيد محمد بن
عقيل بن يحيى، توفي رحمه الله في الساعة الثالثة من صباح يوم الثلاثاء الموافق
13 ربيع الأول على أثر حمى لزمته نيفًا و3 أسابيع.
وقبل التحاقه بالرفيق الأعلى بيومين أكثر من الصلاة مع ضعفه المتناهي حتى
خارت قواه، ولفظ النفس الأخير، ولقد عظم المصاب علينا بموته، وانفطرت
لهوله أفئدتنا حزنًا وشجنًا رحمه الله، ولكن ماذا عسى أن نقول إلا ما يرضي الرب
سبحانه وتعالى: إنا لله وإنا إليه راجعون. فعظَّم الله أجورنا جميعًا وعزاء الإسلام
وأهله، والعلم وطلابه في فقيدنا الجليل، ومما يخفف الشيء الكثير من حزننا
مشاطرة الحكومة المتوكلية اليمانية في مصابنا، فقد شيعت الفقيد مئات الجيوش
منكسة أسلحتها، كما شيعه رجال الدولة والأهلون عن بكرة أبيهم، فنشكره إليكم جد
الشكر، ونسأل الله أن يتغشى راحلنا الكريم بالمغفرة والرضوان، وأن لا يريكم
مكروهًا قط، والسلام.
الحديدة 14 ربيع الأول سنة 1350.
…
الحزين
…
...
…
...
…
... الباكي
…
عبد الله بن يحيى
…
...
…
... علي بن محمد بن عقيل
(المنار)
جاءنا هذا النعي لصديقنا الكريم، وولينا الحميم، في فترة احتجاب المنار،
وحبسنا للنفس على إتمام تاريخ الإمام، ولما تم التاريخ واستأنفنا تحرير المنار
شرعنا في كتابة ما نرى فيه الفائدة والعبرة من مناقبه وسيرته، وكتابة مثل ذلك
من سيرة سيدتنا الوالدة رحمهما الله تعالى، فضاق هذا الجزء - وكان قد طبع
أكثره - عن سيرتهما، فقدمنا سيرةَ مَن حَقُّها علينا أعظم، وأخرنا الآخر إلى
الجزء التالي، وإنني لأنكر الحكم (بالرفيق الأعلى) له ولكل أحد بعد خاتم النبيين
وسيد ولد آدم، وهو إنما كان يدعو الله بها لنفسه عند وفاته صلى الله عليه وسلم،
وأسأل الله تعالى لفقيدنا الكريم الرحمة ولآله وأصدقائه حسن العزاء والصبر.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________