الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
غاندي يشهد للإسلام
ومحمد عليه الصلاة والسلام
جاء في مجلة النور (ذى لايت) التي تصدر في لاهور وهي مجلة إسلامية
المقال التالي للمهاتما غاندي في الإسلام، وهذه ترجمته، وقد نُشرت في بعض
جرائد مصر وسورية:
(لم يكن الإسلام في إبان مجده عديم التسامح، فقد أحرز إعجاب العالم كله،
ولما كان الغرب غارقًا في الظلمات أشرق نجمه في سماء المشرق، وأضاء عالمًا
متألمًا ومنحه التعزية، ليس الإسلام دينًا باطلاً، فليدرسه الهندوس باحترام، يحبوه
كما أحبه أنا.
انتهيت من درس حياة أصحاب النبي، ولما انتهيت من المجلد الثاني أسفت
لعدم وجود ما بعده لأقرأ عن تلك الحياة العظمى، وغدوت مقتنعًا كل الاقتناع أنه
ليس السيف هو الذي جعل للإسلام مكانة في معترك الحياة، بل إن بساطة النبي
التامة وإنكاره الكلي لذاته - يعني إيثاره على نفسه - الدقيق لعهوده، وإخلاصه
الشديد لأصدقائه وأتباعه، وشجاعته وبسالته، وعدم مبالاته بالمخاوف، وثقته
الكاملة بالله ورسالته، هذه - لا السيف - هي التي جرفت كل شيء أمام المسلمين
الأولين، وتغلبت على كل العقبات.
قال بعضهم: إن الأوربيين في أفريقيا الجنوبية يخشون انتشار الإسلام،
الإسلام الذي مدَّن أسبانيا، الإسلام الذي حمل النور إلى المغرب وبشر العالم
بالأخوة.
إن الأوربيين يخشون الإسلام لأن الذين يعتنقونه يحتمل أن يطالبوا البيض
بالمساواة، ومن حق هؤلاء أن يخافوا لو كانت الأخوة خطيئة، فإذا كان البيض
يخافون من المساواة بالعناصر الأخرى؛ فإن المخاوف من الإسلام تقوم على أساس
صحيح، إني رأيت الزلوسي الذي يعتنق المسيحية لا يصعد بطبيعة الحال إلى
مستوى المسيحيين، على حين أنه إذا اعتنق الإسلام يشرب من نفس قدح المسلمين،
ويأكل من ذات قصعتهم) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
المؤتمر الإسلامي العام في بيت المقدس
تمهيد تاريخي:
إن عدد المسلمين في هذا العصر أربعمائة مليون نفس أو يزيدون، وهم على
استحواذ الجهل والفقر والتفرق عليهم لا يزالون يشعرون بأخوة الإسلام ووحدته،
وهم يملكون أعظم ثروة من الأرض وأعظم هداية للبشر، لو عرفوا كيف ينتفعون
بهما لسادوا العالم كَرَّة أخرى أعظم وأوسع من السيادة الأولى، وأقرب الوسائل إلى
نشر هذه المعرفة وتعميمها والسعي للعمل بها: عقد المؤتمرات وتأليف الجمعيات.
قد فكر أفراد من كبار أصحاب الرأي من المسلمين منذ أواخر القرن الماضي
للهجرة بشدة الحاجة إلى الاجتماع للبحث في أسباب ضعف أمتهم، وما يجب من
معالجته وإعادة مجدهم السابق بما تقتضيه حالة هذا العصر من علم وعمل، وإلى
تأليف جمعية عظيمة ذات فروع كثيرة للقيام بذلك، وكان أعظم هؤلاء المفكرين
قدرًا وأقواهم تأثيرًا موقظ الشرق وحكيم الإسلام السيد جمال الدين الأفغاني، وقد
نبهنا أمتنا لهذا الأمر العظيم في المنار مرارًا كثيرة من أول نشأته إلى الآن، من
قبل أن نسمي الاجتماع لهذا البحث مؤتمرًا.
وكان أول ما بسطنا به هذا الرأي مقال عنوانه (الإصلاح الديني المقترح على
مقام الخلافة الإسلامية) نشرناه في العدد الذي صدر في المنار في السنة الأولى
بتاريخ 3 شعبان سنة 1316 (فيراجع في ص 764 من الطبعة الثانية لمجلد المنار
الأول) وقد جاء فيه ما نصه:
(ويتوقف هذا الإصلاح على تأليف جمعية إسلامية تحت حماية الخليفة يكون
لها شُعب في كل قطر إسلامي، وتكون عظمى شُعبها في مكة المكرمة التي يؤمها
المسلمون من جميع أقطار الأرض، ويتآخون في مواقفها الطاهرة، ومعاهدها
المقدسة، ويكون أهم اجتماعات هذه الشعبة في موسم الحج الشريف، حيث لا بد
أن يوجد أعضاء من بقية الشعب التي في سائر الأقطار يأتون الحج فيحملون إلى
شعبهم من المجتمع العام مما يستقر عليه الرأي من التعاليم السرية والجهرية، وهذا
أحد مرجحات وجود الجمعية الكبرى في مكة المكرمة على وجودها في دار الخلافة،
وثَم مرجحات أخرى من أهمها البعد عن دسائس الأجانب ووساوسهم، والأمن من
وقوفهم على ما لا ينبغي وقوفهم عليه في جملته أو تفصيله (ومنها) أن لشرف
المكان ولحالة قاصديه الدينية أثرًا عظيمًا في الإخلاص والتنزه عن الهوى والغرض،
فضلاً عن الغش والخيانة. وينبغي أن يكون للجمعية الكبرى جريدة علمية دينية
تطبع في مكة أيضًا، وأية شعبة استطاعت إنشاء جريدة تنشئها) .
وقد بيَّنا في تلك المقالة ومقالة أخرى بعدها أهم ما يجب أن تقوم به هذه
الجمعية الكبرى من الإصلاح لجمع كلمة المسلمين والقيام بمصالحهم العامة،
وتجديد تبادل الرأي في كل عام، وهو ما أعدنا الآن بيانه واقتراح بعضه في
مؤتمر بيت المقدس في شهر شعبان الماضي أي بعد 35 سنة كاملة من كتابة هاتين
المقالتين.
مؤتمر أم القرى الخيالي:
ثم جاء مصر الحكيم الاجتماعي المفكر السيد عبد الرحمن الكواكبي فكان من
خيار أصدقائنا الذين نحاورهم ونسامرهم في موضوع الإصلاح الإسلامي، وكان قد
وضع قبل رحلته هذه كتاب (سجل جمعية أم القرى) الذي هو أوسع شرح لمشروع
أعظم مؤتمر إسلامي للإصلاح العام، وكان مختصرًا فزاد فيه شيئًا كثيرًا بعد
المذاكرات الطويلة بينه وبيننا نحن وغيرنا من المفكرين والباحثين في الإصلاح
الديني والمدني والسياسي، ونقَّح بعضه، وإن لدي نسخته الأصلية المخطوطة
الشاهدة على ذلك، ولما طبعه واطلع عليه أحمد مختار باشا الغازي الشهير اتهمني
بتأليفه لكثرة ما كان بيني وبينه - أي الغازي - من المذاكرات في موضوعه، وقد
ذكرت هذا في ترجمة الكواكبي في عهد الغازي، ولو كان الغازي متقنًا للغة العربية
لما اتهمني بذلك؛ فإن عبارة الكتاب ضعيفة وفيها كثير من اللحن والغلط، ولذلك
اتفقتُ مع مؤلفه رحمه الله تعالى على تصحيح عبارته وبعض التنقيح فيه ونشره في
المنار وإعادة طبعه عنه مع ذكر ما أخالفه فيه في حواشيه وهو قليل، وشرعت في
ذلك في المجلد الخامس سنة 1320 وتوفي رحمه الله تعالى قبل إتمام نشره وطبعه،
وكان يقول لنا: إن لجمعية أم القرى أصلاً، وإنه هو توسع في السجل ونقحه ست
مرات آخرها عند طبعه سنة 1317، ثم أقنعته بإعادة تنقيحه سنة 1320.
مؤتمر ندوة العلماء بالهند:
وفي سنة 1330 (الموافقة لسنة 1912) دعتني جمعية ندوة العلماء الهندية
المشهورة إلى رياسة مؤتمرها الذي عقدته في الهند فأجبت الدعوة، وقد بيَّنت في
خطبتي لافتتاح هذا المؤتمر في مدينة لكهنؤ، ثم في خطبتي الارتجالية في المدرسة
الكلية (الجامعة) في عليكدة وهي أعظم المدارس الإسلامية المدنية في الهند - ثم في
مدرسة ديوبند، وهي أعظم المدارس الدينية فيها - أهم أركان الإصلاح الإسلامي في
التعليم والتربية، وألقيت في المحافل والاجتماعات الأدبية والمدارس الإسلامية في
الهند خطبًا أخرى في الإصلاح أهمها الخطبة التي ارتجلتها في لاهور في الاجتماع
الذي عُقد للصلح بين الصحفيين الكبيرين مولانا محمد إنشاء الله صاحب جريدة وطن
رحمه الله، ومولانا ظفر علي خان صاحب جريدة زميندار حفظه الله، وقد أُعجب
حاضرو ذلك الاجتماع بما ألهمته فيه من فلسفة الاختلاف والاتفاق بين البشر، حتى
اقترح بعضهم أن أجعله موضوع خطبة الصدارة في مؤتمر ندوة العلماء، وكان قبل
عقد المؤتمر، ويليها الخطاب الذي ألقيته في بومبي في اجتماع عظيم عُقد للتأليف بين
أهل السنة والشيعة، وكنت مهَّدت له تمهيدًا عمليًّا في لكهنؤ بزيارتي لكبير مجتهدي
الشيعة فيها وحمله على زيارة ندوة العلماء وحضور حفلتها، ولم يكن زارها من قبل.
المؤتمر السوري العام بدمشق:
وفي سنة 1338 (1920) انتخبت رئيسًا للمؤتمر السوري العام الذي عُقد
في مدينة دمشق وأعلن استقلال سورية الطبيعية، وتولية الشريف فيصل ملكًا عليها،
فكان هذا اختبارًا وتمرنًا على إدارة المؤتمرات السياسية ومباحثها.
المؤتمر السوري الفلسطيني في جنيف:
وفي سنة 1341هـ عقد في مدينة جنيف المؤتمر السوري الفلسطيني وكنت
من مؤسسيه والوكيل الأول لرئيسه.
فهذه نبذة تاريخية في أول عهدي وأوسطه وآخره في فكرة المؤتمرات وعملها،
والبحث في موضوعاتها المختلفة، قبل المؤتمر الذي عُقد في هذه السنة في بيت
المقدس. وفي المنار مقالات ومباحث ورسائل كثيرة في هذه المؤتمرات وفي
مؤتمرات مسلمي الهند وغيرها.
مؤتمر مكة المكرمة السعودي:
ولما أراد صاحب الجلالة عبد العزيز آل سعود ملك الحجاز ونجد جمع مؤتمر
إسلامي بمكة عقب استيلائه عليها سنة 1344، كلفني إرسال دعوته لهذا المؤتمر
إلى بعض رؤساء الحكومات والجمعيات الإسلامية من مصر قبل استيلائه على جدة
فلبيت، ثم كلفني بمكة كتابة مشروع النظام الداخلي له والخطاب الذي يفتتحه
جلالته به ففعلت، ثم ألفت لجنة للنظر في مشروع النظام مؤلفة من أعضاء يمثلون
الحجاز والهند وجاوة وروسية وغيرها من بلاد الإسلام، فكانت تجتمع عندي في
دار بناجه الشهيرة حيث أنزلني جلالة الملك ضيفًا، بيد أنني أصبت بالحمى الشديدة
قبل إتمام تنقيح مشروع النظام، وقد نفخ في هذا المؤتمر شيء من روح الشقاق من
قبل الوفد الهندي بمعارضة محمد علي وشوكت علي لملك الحجاز في شكل حكومته
فوقى الله شره.
مؤتمر بيت المقدس:
قام بالدعوة إلى هذا المؤتمر صاحب السماحة السيد محمد أمين الحسيني المفتي
ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى لفلسطين بعد تمهيد غير تام له فلقي معارضة قوية
وكيدًا شديدًا.
وإنني أبدأ بنشر صورة الدعوة العامة إلى المؤتمر، فالدعوة الخاصة بي
لتعضيده والمساعدة عليه، ثم ألخص أخبار ما لقيه من الكيد والمعارضة، فأخبار
عقده وأعماله وعملي فيه ورأيي في فائدته، كما ينتظر مني قراء المنار فأقول:
نص الدعوة العامة إلى المؤتمر
نشرت الدعوة الأولى إلى هذا المؤتمر في 22 ربيع الأول من هذه السنة
(1350)
وحدد فيها موعد عقده بالتاسع من شهر جمادى الأولى الموافق أول
أكتوبر (ت 2) سنة 1931، ثم جاءت مكتوبات كثيرة إلى الداعي طلب مرسلوها
تأخير الموعد ليتمكنوا من الحضور فيه من بلادهم البعيدة فنسخت بالدعوة الثانية
وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ} (الطلاق: 6)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله وصحبه
أجمعين.
{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ
وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (أما بعد) فإنني أحمد إليكم الله الذي ألَّف
بالإسلام بين قلوبنا فأصبحنا بنعمته إخوانًا، وأصلي وأسلم على رسوله الكريم
الداعي إلى الحق وصراط مستقيم، وعلى آله وأصحابه وتابعيه الذين اهتدوا بهديه،
فشقوا بذلك لأنفسهم سبل النجاح والفلاح، وحيوا حياة طيبة {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا
مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ} (النحل: 97) .
ولما كان المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وكان الحادث إذا نزل
بفريق من المسلمين فكأنما نزل بالمسلمين جميعًا - فقد رأى فريق من أهل الرأي
النافذ، والغيرة الحافزة من أهل هذه البلاد وغيرها من الأقطار الإسلامية القيام
بدعوة واسعة النطاق لعقد مؤتمر إسلامي عام في بيت المقدس الذي تشرف بإسراء
الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، يُدعى إليه أعيان الملة الإسلامية وكبراء
رجالها من سائر الأقطار الذين عُهدت فيهم الغيرة والحمية والعِلم الصحيح والرأي
السديد والبصر النافذ، للبحث في حالة المسلمين الحاضرة، وفي صيانة الأماكن
المقدسة الإسلامية من الأيدي الممتدة إليها الطامعة بها، وفي شؤون أخرى تهم
المسلمين جميعًا وتعود عليهم بالخير العميم والنفع العظيم، إن شاء الله تعالى.
وبالنظر لما نعهده في جنابكم من الغيرة الإسلامية وسداد الرأي والكفاية التامة
للاضطلاع بهذا العبء، فإننا نوجه إليكم هذه الدعوة لحضور المؤتمر الإسلامي
العام الذي سيعقد - إن شاء الله تعالى - بالقدس الشريف في جوار المسجد الأقصى
الذي بارك الله حوله في ليلة الإسراء المباركة في 27 رجب سنة 1350، وفق 7
كانون الأول (7 ديسمبر سنة 1931) لتتفضلوا بالاشتراك مع الذين يلبون الدعوة
من كبراء الرجال في العالم الإسلامي، حيث يستلهمون الإقدام والعمل في سبيل
الإسلام من رضوان الله عز وجل، ومن روحانية المصطفى صلى الله عليه وسلم،
وسيكون افتتاح المؤتمر في المسجد الأقصى المبارك.
وإن لنا عظيم الأمل في أن ننال من جنابكم جوابًا بالبريد الجوي في أسرع ما
يمكن، يتضمن استعدادكم للتفضل بتلبية هذه الدعوة لهذا المؤتمر العظيم، الذي نرجو
أن يكون له أثر مبارك، وشأن كبير في تاريخ الجهاد الإسلامي بفضل غيرتكم وقوة
إيمانكم، وإننا نسأل المولى عز وجل أن يسدد خطانا، وينير سبلنا في هذه الظلمات
الحالكة بنور هدايته ورضوانه، ويوفقنا جميعًا لخدمة الإسلام. قال الله تعالى:
{وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2) .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبركاته.
…
...
…
...
…
...
…
رئيس المجلس الإسلامي الأعلى
في 22 ربيع الثاني سنة 1350
…
...
…
... ومفتي الديار القدسية
…
...
…
...
…
...
…
... محمد أمين الحسيني
* * *
نص الدعوة الخاصة بصاحب المنار
بسم الله الرحمن الرحيم
مولانا صاحب السماحة الأستاذ الأكبر العلامة السيد محمد رشيد رضا، متَّع
الله المسلمين بطول بقائه، آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (أما بعد) فقد صحت العزيمة بعد الاتكال
على الله تعالى على عقد مؤتمر إسلامي عام في القدس الشريف؛ ليبحث هذا المؤتمر
في أهم القضايا الإسلامية العامة التي تهم العالم الإسلامي قاطبة وتجمع كلمته وتكفل
تناصره بصورة عامة، وفي القضايا الإسلامية التي بفلسطين على الخصوص ومن
ذلك قضية البراق الشريف وسائر البقاع المشرفة في فلسطين، والنظر في اتخاذ ما
تدعو المصلحة إلى اتخاذه من المشروعات التهذيبية والثقافية في فلسطين، وتحقيق
فكرة إنشاء الجامعة الإسلامية التي كنتم أول من عمل على تحقيقها بتأسيسكم دار
الدعوة والإرشاد، وبغير ذلك من مساعيكم المشكورة الخالدة الأثر، وبذلك تتقوى
الروابط بين هذا القطر والأقطار الإسلامية الأخرى، وتتمهد السبل إن شاء الله إلى
إنقاذ هذه البلاد المقدسة من الأخطار العظيمة المحدقة بها.
ولما وجدنا السياسة الغاشمة قد انتهت بقضية البراق إلى الحالة التي وقفتم
سيادتكم عليها، رأينا أنه بات من الضروري الاستعانة برأي العالم الإسلامي في
تقرير الخطة التي ينبغي اتخاذها على يد هذا المؤتمر، وسنبعث إلى سيادتكم بوقت
قريب بخلاصة ما رؤي أن يكون الهدف والغاية في المؤتمر؛ لتتفضلوا بإبداء رأيكم
الحكيم ونظركم الصائب وإرشادكم الثمين في هذا العمل، الذي نرجو من الله
سبحانه وتعالى أن يجعل منه لمسلمي هذه البلاد الفائدة الطيبة والنتيجة الحسنة.
وقد عرضت لنا الحاجة الآن إلى الحصول على عناوين أرباب المكانة
والزعامة، والفكر والقيادة من المسلمين في جميع الأقطار لنبعث إليهم بالدعوة
لحضور المؤتمر المقرر الانعقاد في ليلة الإسراء المباركة الموافقة 27 رجب
1350 -
7 ديسمبر 1931، وقد ظننا أن لمجلة المنار الغراء السبيل إلى إمدادنا
بالعناوين التي ترون سيادتكم أنه من الواجب توجيه الدعوة إلى أصحابها في جميع
الأقطار الإسلامية، وقد يكون في هذا التكليف شيء من المشقة والإزعاج فنرجو
منكم العفو عن هذا والمعذرة مع يقيننا أن للمصلحة العامة أعظم حرز وأكبر ملجأ
في ذات سيادتكم الكريمة، ونرجو أن نتلقى هذه المساعدة من سماحتكم بأقرب وقت
ممكن، والله تعالى يأخذ بيدنا ويهدينا سواء السبيل إلى ما فيه خيرالإسلام والمسلمين
وهو السميع المجيب.
9 جمادى الأولى 1350
…
...
…
... محمد أمين الحسيني
* * *
مقاومة المؤتمر المقدسي ومسألة الخلافة:
كان قد ذاع وشاع أن (مولانا شوكت علي) أحد مؤسسي جمعية الخلافة في
الهند لترويج سياسة الخلفاء العثمانية التركية - هو الذي اقترح على السيد محمد أمين
الحسيني عقد هذا المؤتمر، وأن أهم غرض فيه مبايعة عبد المجيد أفندي العثماني
آخر سلاطين الترك بالخلافة، وهو الذي نصبته الحكومة الكمالية سلطانًا وخليفة
روحانيًّا لا شأن له ولا حق في الحكم، ولا في نصب الحكام، ولا في شريعة
الإسلام، فرضي ثم خلعته.
ثم اختلف الناس في مقام هذا الخليفة، فقيل: إن شوكت علي سعى مع الدولة
البريطانية على أن يكون مقامه في بيت المقدس ليكون آلة في يدها تستعمل سلطته
الروحانية الوهمية في إخضاع مسلمي الهند وغيرهم لها قلبًا وقالبًا. وقيل: إن
مقامه هذا يكون مؤقتًا ثم ينقل إلى مكة المكرمة بقوة الإنجليز، وبذلك ينتقم شوكت
علي من عبد العزيز آل سعود ملك الحجاز ونجد. وقيل: بل ينقل بعد ذلك إلى
الهند فيقيم في حيدر آباد، وهو أينما يكون (خليفة بريطانيًّا) وقيل: بل اتفق
الإنكليز وفرنسة على مبايعة أهل فلسطين وسورية جميعًا له وبقائه على القدس، وأن
يكون نفوذه شركة بينهما يُخضعان بها رعاياهما المسلمين.
وقد جهل هؤلاء كلهم كبيرهم وصغيرهم أن إنكلترة قد اتفقت مع حلفائها في
الحرب على توجيه نفوذهن كلهن إلى إماتة منصب الخلافة الإسلامية موتًا أبديًّا
على مذهب الدهريين المنكرين للبعث والنشور، وأن موته خير لهن من حياته
ليكون صاحبه آلة لهن، إذ لا يأمَنَّ أن ترتقي الشعوب الإسلامية وتتفق كلها أو
أكثرها على تحقيق وحدتها في التشريع والحكم بجعل هذا المنصب حقيقيًّا لا وهميًّا،
وجعل سلطانه فعليًّا لا صوريًّا؛ وإنما يمكن هذا بوضع نظام لممالكها المتحدة
المستقلة يكون له مجلس اتحادي رئيسه الخليفة.
هذا هو الحق، لكن الإشاعة راجت وصدَّقها الجماهير من الناس غافلين عن
تعذر هذا العمل بهذه الوسيلة الضعيفة وهي جمع مؤتمر بدعوة مفتي فلسطين
يرضى أعضاؤه أن ينتحلوا لأنفسهم صفة أهل الحل والعقد في الشعوب الإسلامية
زورًا وظلمًا وأن يكونوا طوع شوكت علي الهندي، أو خدمًا لنفوذ إنكلترة في أمتهم،
بل صدقت الإشاعة حكومة الترك الحاضرة فقامت لها وقعدت، وأرغت وأزبدت،
وأنذرت وهددت، وصرح كبار رجالها بأن هذا عمل عدائي لها، وخاطب سفيرها
في لوندرة حكومتها بذلك، وأكثرت جرائدهم الخوض فيه، ومزجوا كلامهم بالهزء
والتهكم، والسخرية من المسلمين والعرب، وراجت الإشاعة في مصر فكثر
الخوض فيها.
وانتدب علماء الأزهر للطعن في المؤتمر والصد عنه وشايعهم آخرون، فقام
في وجوههم خصوم يفنِّدون آراءهم ويدافعون عن دعوة المؤتمر، كان ألذعهم قلمًا
وأوجعهم ألمًا، الكاتب المؤثر الجريء الصدّاع علي أفندي عبد الرازق عدو الأزهر
وأنصاره، فاشتد سوء الظن بالمؤتمر عند هؤلاء وأولئك، وانتقل الصد عنه
والإرجاف به من طور إلى طور، وقد كذب السيد أمين الحسيني الخبر ثم كذَّبه
مولانا شوكت علي، ولم تكف الجرائد عن الخوض فيه، ولا الأزهريون عن النقد
والطعن عليه والصد عنه، وبناء ذلك على الإجمال والإيهام في دعوته.
اتهام المؤتمر بمناهضة الأزهر:
بدأ الطعن فيه بمقالات ينشرها بعض كبار شيوخ الأزهر في الجرائد، فانتقل
إلى تأليف مظاهرات اجتماعية من جميع المعاهد التابعة له في القطر، ويظهر مما
كتب في ذلك أن الأزهريين فهموا مما ذكر في الدعوة إلى المؤتمر من الاستعانة به
على إنشاء مدرسة إسلامية جامعة في فلسطين يُراد به أن تكون هذه الجامعة
معارضة للجامعة الأزهرية ومضادة لها، وحينئذ تكون مفسدة في العالم الإسلامي
يجب درؤها، وإحباط أمر المؤتمر الذي يدعو لها، بل صار موضوع الحوار بين
الناس في هذا المؤتمر أن الغرض منه مقاومة سياسة الحكومة الملكية المصرية
وأزهرها.
إن هذا لأمر عجيب، وإنه لأبعد عن العقل من كون الغرض منه أو كون أحد
الأغراض الأساسية منه نصب خليفة للمسلمين في فلسطين، وأغرب ما فيه وأدعاه
إلى العجب أن يكون المراد من إنشاء مدرسة جامعة في فلسطين معارضة الأزهر
ومناصبته، وما استُدل به على ذلك من أنها ستسير على نظامه ومناهجه، وأشد
من هذا وأعمق في إثارة العجب أن يثور الأزهر وجميع معاهد العلم التابعة له لصد
العالم الإسلامي كله عن عقد المؤتمر لدرء هذا الخطر الوهمي الذي تهدده به هذه
الجامعة التي يكلف تقريرها والسعي إليها، ولو كان الأزهريون أو غيرهم من
الجماعات الإسلامية يهُبُّون لدرء المفاسد الحقيقية والأخطار المستيقنة في بدء
وقوعها كما هبوا لمقاومة هذا الخطر الوهمي قبل وقوعه - لما نالت خطوب الدهر
ونوائبه من المسلمين نيلاً.
كيف يعقل هذا الخطر؟ من ذا الذي يقصده؟ أهو السيد محمد أمين الحسيني
مفتي القدس أم غيره؟ ما فائدة هذا العمل لمن عساه يقصده؟ كيف يتصور أن
يتوسل إليه بمؤتمر إسلامي؟ هل يعتقد الأزهريون أن العالم الإسلامي قد ثبت عند
دهمائه أو حكامه وملوكه وأمرائه أن الأزهر مفسدة في الإسلام يجب القضاء عليها،
فيخشون أن يقبل مندوبوهم في المؤتمر اقتراح القضاء عليه أو معارضته بجامعة
تحل محله أو تغني عنه؟ ثم إذا قبل المؤتمر هذا وقرره وجمع المال الكثير له
فكيف يكون التنفيذ لمقصده؟ من ذا الذي يضع النظام لهذه الجامعة الإسلامية
المقدسية المؤتمرية؟ وما الكتب التي تختار أو تصنف لها؟ ومن أين يؤتى لها
بالمدرسين الذين يتولون هذا التعليم الغريب فيها؟
إنه ليمكن بسط كل استفهام من هذه الاستفهامات الإنكارية في مقال أو مقالات
يثبت بكل منها أن ذلك الوهم الذي ألقي في روع الأزهر، فأحدث فيه ذلك الروع
العجيب من محالات العقول أو محاراتها؛ ولكن إقناع الجماعات بالأوهام التي
ينكرها الحس مع العقل من أسهل الأمور المألوفة، كما أن تقليد بعض الجماعات
لبعض فيها من الوقائع المعروفة، كما حققه فيلسوف التاريخ (غوستاف لوبون)
وأما الأفراد المستقلون في فهمهم وتفكيرهم فلا تقبل عقولهم أمثال هذه الأوهام، وقد
حدَّثت بعض أصدقائي من علماء الأزهر غير المجروفين بتيار مشيخة الأزهر في
هذه المسألة فوافقوني على استحالة ما عزي إلى الداعي إلى المؤتمر وإخوانه
أعضاء اللجنة التحضيرية له أن يقصدوا من الجامعة المقدسية مصادمة الأزهر
ومعاداته، وإن طعن الأزهريين في هذا المؤتمر بهذه العلة مما لا يسيغه العقل ولا
يسوغه الدين.
إن كانت الجامعة المطلوبة دينية كالأزهر فأجدر بالأزهريين أن يفرحوا بها،
ويرشحوا علماءهم للتدريس فيها، وإن كانت مدنية فلا تعدو أن تكون كالجامعة
المصرية، وقد صرَّح بعض كتاب مصر في جرائدهم بأن الغرض منها نسخ
الثقافة الأزهرية القديمة البالية بثقافة طريفة مجددة، ولم نر أحدًا من علماء الأزهر
هاجمها بكتابة ولا مظاهرة، فكيف أخذوا أهبتهم، واستجمعوا قوتهم، واستلوا
سيوف ألسنتهم، وشرعوا أسلات أقلامهم للضرب والطعان، وبارزوا الجامعة
المقدسية قبل بروزها إلى الميدان، إن هذا مما يؤسف له ولكنه وقع، ودُفع الأزهر
فاندفع، وطالبني بعض من يعجبهم رأيي في أمثال هذه المسائل الإسلامية أن أكتب
مقالاً في هذا الموضوع يحز في المفصل، ويحل هذا المعضل، وينشر في بعض
الجرائد اليومية، فقلت إن الكتابة في هذا الموضوع الآن ليس من المصلحة
الإسلامية في شيء؛ فإن تخطئة الأزهر في أمر ظهر به جمهور شيوخه وجيوش
طلابه لا يجوز إلا إذا تعذر تلافي هذه الفتنة وإقناعهم بالكف عن الطعن في المؤتمر
والصد عنه مع حفظ كرامة الفريقين، فإن تعذر هذا فنصر دعوة المؤتمر واجبة
لأنه مصلحة إسلامية ضرورية، في إحباطها مضار كثيرة عامة ذكرتها لهم، وأشرت
إلى هذه المصلحة العامة في مقدمة هذا المقال، وقد اشتدت الضرورة إليه في هذا
الزمان، وسأذكر المصلحة الخاصة بالمكان (القدس) وإرجاؤه بعد تعميم الدعوة
إليه - كما اقترح بعض الناس - فيه مضار أخرى لا تخفى على العاقل المفكر، فلا
يقول بها إلا أفين الرأي، أو سيئ القصد، كذلك حفظ كرامة جامعة الأزهر
ضرورية من حيث شخصيته المعنوية، ولا ينافيها نقد مشيخته في إدارته ونظام
التعليم فيه، ولا الرد على بعض شيوخه، والجمع بين كرامته وتأليف المؤتمر
وكرامة الداعي إليه ممكنة.
لم أر لتلافي الفتنة إلا دعوة السيد محمد أمين الحسيني إلى الإسراع بالمجيء
إلى مصر لتلافيها مع الحكومة المصرية الملكية ومشيخة الأزهر؛ فإنني موقن بأنه
لا يقصد هو ولا أحد من أعضاء اللجنة التحضيرية للمؤتمر شيئًا يسوء هذه الحكومة
ولا الأزهر، ولا شيئًا يمس كرامتهما بما يشينها أو يعد غمصًا لحقوقهما.
ولا أكتم في هذا المقام ما سمعته بأذني من بعض الطاعنين الناقمين من ترك
السيد محمد أمين ما كان يجب عليه وجوبًا أدبيًّا من استئذان جلالة ملك مصر في
هذه الدعوة لما له من المكانة والميزة بين ملوك المسلمين، ولما له من الفضل في
مساعدة السيد محمد أمين المالية الكبيرة على ترميم المسجد الأقصى، وقال لي
رجل آخر له مكانة في كبراء المسلمين أنه كان يجب عليه أن يستشير جميع ملوك
المسلمين في هذا العمل العظيم، وقد أجبت هذا وكل من أورد هذا الانتقاد بأن
الرجل قد ثبت عنده وعند من شايعه وساعده على الدعوة إلى هذا المؤتمر أنه
ضروري لتعزيز مركز فلسطين تجاه مطامع اليهود ومحاباة الدولة البريطانية لهم،
ولتقوية مركز المجلس الإسلامي الشرعي فيها ومركزه هو فيه، والأمر الضروري
الذي لا بد منه لا يستشار فيه أحد ولا سيما من كان ما يشير به حكمًا أو كالحكم
الذي لا مندوحة عن طاعته كصاحب الجلالة ملك مصر؛ وإنما الواجب الأدبي الذي
تقتضيه المصلحة والذوق إيذان ملوك المسلمين بالدعوة وطلب عطفهم ومساعدتهم،
وأظن ظنًّا يزاحم اليقين أن هذا قد وقع، كذا قلت لهذا الرجل الكبير ولمن دونه
بادي الرأي، ثم علمت أنه هو الحق.
في هذه الأثناء كتب إليَّ السيد محمد أمين الحسيني كتابًا آخر اقترح عليَّ فيه
أن أكتب رسالة فيما أرى اقتراحه على المؤتمر من الإصلاح الإسلامي وإرسالها
إليه؛ لأجل أن تطبع وتوزع على أعضاء المؤتمر عند حضورهم، فتكون مادة
لتفكيرهم من أخ لهم صرف أكثر من ثلث قرن في البحث والكتابة والعمل والمذاكرة
والمناظرة في هذا الإصلاح من جميع جوانبه وفروع مسائله، فكتبت إليه أنه يجب
قبل هذا الاستعداد للمؤتمر أن يجيء القاهرة لأجل تلافي فتنة المعارضة لفكرة
المؤتمر وتشويه سمعته والصد عنه التي شرع الأزهر فيها، ووافقَتْ أهواء آخرين
يشايعون خصومه في فلسطين نفسها، فلم يلبث أن حضر وكان من سعيه ما
سألخص خبره في هذا المقال.
المعارضة في فلسطين ومثيروها:
يوجد في مدينة بيت المقدس تنافس بين بيت الحسيني وبيت الخالدي من
بيوتاتها، وقد توارث الأول منهما منصب الإفتاء، وكثر في الثاني كُتَّاب المحاكم
الشرعية في هذه المدينة، وتوارثوا أعمالها في عهد قضاتها الذين كانت توليهم
مشيخة الإسلام في الآستانة، فلما أنشئ المجلس الشرعي الأعلى بعد رسوخ قدم
الإنجليز في البلاد وكان رئيسه مفتي القدس من آل الحسيني صارت المحاكم
الشرعية في البلاد كلها تابعة لرياسته، فكان هذا سببًا لقوة التنافس بين الأسرتين:
الحسينية والخالدية. وهنالك بيت النشاشيبي من أسر الوجاهة وعماده راغب بك
النشاشيبي رئيس البلدية، وهو مساير وملائم لسياسة الحكومة الإنكليزية الصهيونية،
وآل الحسيني زعماء المعارضة لها، فلما علت وجاهة المفتي الحسيني برياسة
المجلس الأعلى الذي يتولى إدارة المحاكم الشرعية والأوقاف الإسلامية معًا كان
بينهما من المنافسة ما اقتضى الاتفاق بينه وبين آل الخالدي على معارضة الحسيني،
ولكل من الفريقين أنصار في البلاد، فأنصار الحسيني يُسمَّوْن المجلسيين،
والآخرون يُسَمَّون المعارضين، ولكل منهما جرائد تدافع عنهم وتطعن على
الآخرين، وكل من كان له حاجة عند زعيم فلم يقضها له اتخذه عدوًّا، فظاهر خصمه
عليه بكل ما يقدر عليه من قول وفعل، وعقلاء البلاد الفضلاء يخشون عاقبة هذا
الشقاق ويمقتون جميع مظاهره، ولا يهتدون إلى إزالته سبيلاً.
ولما رأى هؤلاء المعارضون بوادر اعتراض الأزهر على عقد المؤتمر
وصدهم عنه، وبلغهم أنه عنوان لسخط الحكومة المصرية، أو موعز به من رجال
القصر - اشتدت نقمتهم، وقويت عزيمتهم، وأرسلوا رائدهم إلى مصر فناجى بعض
من يرجون شد أزرهم، وصاروا يرسلون أشد جرائدهم طعنًا في المؤتمر ولجنته
التحضيرية، وفي جميع أعمال السيد محمد أمين الحسيني حتى السابقة إلى جميع
من عرفوا عنوانه من علماء مصر ووجهائها ورجال حكومتها؛ لأنهم يريدون إسقاط
حرمته ومكانته من النفوس لذاته لا لتقصيره معهم بعدم ضم زعمائهم إلى اللجنة
التحضيرية المنظمة لدعوة المؤتمر كما يقول أعوانهم.
ذلك بأن من المعلوم بالبداهة أن دعوة كبير آل الحسيني رئيس المجلس
الإسلامي الأعلى إلى عقد مؤتمر إسلامي عام في مدينة بيت المقدس تعلي قدره،
وترفع ذكره، وتعزز مركزه، فلهذا هب المعارضون إلى تشويه سمعة المؤتمر
والطعن في مقاصده لصد المسلمين عن إجابة الدعوة إليه، أو التوسل إلى الاشتراك
مع السيد الحسيني وحزبه في اللجنة التحضيرية المعدة له، ثم في إدارة شؤونه،
واختيار من يدعى إليه من أهل فلسطين وغيرهم ليكون لهم شأن وتأثير في اختيار
الرئيس العام له، فيحولوا دون انتخاب رئيس المجلس له. وجملة القول: إن
غرضهم من المعارضة منع عقد المؤتمر أو الحيلولة دون جعل الفضل الأكبر له
ولحزبه فيه، ودون جعله معززًا لمركزه ومقويًا لنفوذه في البلاد.
الاتفاق بين مفتي القدس ورئيس الوزارة وعقابيله:
دعوتُ السيد محمد أمين الحسيني للإلمام بالقاهرة لتدارك ما فيها، فحضر وقال
لي: إنه جاء بدعوتي، وقد علمت أنه دعاه غيري أيضًا، جاء فاستقبله صديقه
الدكتور عبد الحميد بك سعيد الرئيس العام لجمعية الشبان المسلمين، وهو من
أنصار الحكومة الملكية المصرية الحاضرة في برلمانها الحاضر وفي خارجه،
وصديق رئيسها صاحب الدولة إسماعيل صدقي باشا، وكاشفه بظواهر معارضة
مشروع المؤتمر هنا وخوافيها، وقوادم أجنحة الإشاعات والمؤامرات وخوافيها،
وما يراه من الطريقة المثلى لتلافيها، وبادر إلى جمعه برئيس الحكومة فشرح له
السيد المسألة وأقنعه بأنه ليس من مقاصد المؤتمر طرح مسألة الخلافة ولا نصب
خليفة للمسلمين، ولا يتضمن شيئًا ما يمس الحكومة المصرية من قرب ولا من بعد،
وأن المدرسة الجامعة التي يدعو إليها مدرسة علمية مدنية معارضة لانفراد
الجامعة العبرية الصهيونية بالتعليم العالي في البلاد، ومعززة لمركز المسلمين
الديني والدنيوي فيها، وأظن أنه أجاب عن الإجمال في عبارة دعوة المؤتمر الذي
أسيء فهمها أو تفسيرها، بأن سببه أن الحق في تفصيل المصالح الإسلامية
للمؤتمرين فيه وليس للداعي إليه أن يلزمهم حدودًا مفصلة لا يتعدونها.
وهذا نص ما نشر في الجرائد المحلية اليومية عقب اجتماع السيد محمد أمين
رئيس المجلس الإسلامي الفلسطيني برئيس الوزارة المصرية:
كتاب مفتي القدس
إلى رئيس الوزراء
حضرة صاحب الدولة رئيس الوزارة المصرية الأفخم:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإني أؤيد لدولتكم ما جرى به الحديث
بيننا اليوم من أن الموضوعات التي سيتناولها البحث في المؤتمر الإسلامي الذي
سيعقد في بيت المقدس في 27 رجب سنة 1350 ستكون بعيدة كل البعد عن أن
تمس الشؤون المصرية البحتة من سياسية وقومية، أو تتعرض لما يتعلق بالأزهر
الشريف، الذي أود بمناسبته ألا يتسرب إلى الذهن بأي حال من الأحوال أن الجامعة
المراد إقامتها في القدس قد قصد من إنشائها أي مرمى غير خدمة مسلمي فلسطين
الذين هم في حاجة إلى كلية مدنية بجانب الكلية التي أنشئت لغير المسلمين،
وستتخذ التدابير الفعالة لعدم تخطي المناقشات الدائرة السالفة الذكر، كذلك ستحرص
اللجنة كل الحرص على أن لا تؤدي الرخصة العامة الواردة في البرنامج بشأن
الاقتراحات إلى الخروج بقدر ما عن هذه الدائرة، وإني أنتهز هذه الفرصة لأصرح
لدولتكم أن ما ذاع بشأن تناول أبحاث المؤتمر مسألة الخلافة ليس لها أساس من
الصحة على الإطلاق، كما أني أبدي مزيد الاغتباط لتأكيد دولتكم لنا بعد ما سمعتم
من تصريحاتنا بشأن المرامي الحقيقية للمؤتمر، أن حكومتكم تنظر إليه بعطف
ورعاية.
وتفضلوا يا صاحب الدولة بقبول فائق الاحترام
…
...
…
...
…
رئيس المجلس الإسلامي الأعلى بفلسطين
…
...
…
...
…
... إمضاء (محمد أمين الحسيني)
26 جمادى الثانية سنة 1350 هـ
ما حدث بعد الاتفاق مع الحكومة:
بعد هذا سكن الروع، وسكت الغضب، وكفَّ الأزهريون عن الطعن في
المؤتمر، فاستغنيت عن المضي في السعي الذي كنت بدأت به مع صاحب الفضيلة
الأستاذ الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية، لدرء الفتنة ورتق الفتق ليمهد
له السبيل مع الأستاذ الأكبر شيخ الأزهر قبل التلاقي مع الأستاذ السيد محمد أمين
الحسيني، وقد تلاقيا على وفاق؛ ولكن ما كاد يعلم الناس بوجود هذا السيد الوجيه
في القاهرة حتى أقبل الوجهاء على السلام عليه كعادتهم، ودعوته إلى مآدبهم،
وكان أسبقهم إلى ذلك زعماء الوفد المصري أصحاب الدولة والمعالي الوزراء
السابقون مصطفى باشا النحاس ومحمد فتح الله باشا بركات ونجله بهي الدين بركات
والأستاذ مكرم عبيد، فكان من رأي الذين يودون عطف الحكومة الملكية المصرية
عليه وعلى المؤتمر، إعجاله ليعود أدراجه إلى القدس، خشية انتكاث الفتل والتياث
الأمر، بفتنة الأحزاب المستحِرَّة في مصر، فأعجزهم لوثه وصرفه عن إجابة كل
داع، وحجته أنه غريب يجب أن يكون سلمًا لكل الناس، فعاد حزب الحكومة إلى
التثريب عليه وتفنيد رأيه، وأذاعوا أنه أحبط بهذا كل ما كان مرجوًّا له أو موعودًا به
من العطف العالي، والنوال المالي، وعاد المعارضون له في وطنه يذيعون بألسنتهم
وأقلام جرائدهم أن الحكومة المصرية غير راضية منه، ولا هي بعاطفة على
مؤتمره، ولقنهم أنصارها في مصر ما أذاعوه هنا من أن الحكومة سجلت عليه ما
حملته على كتابته ونشره في الجرائد من تقييد المؤتمر بما كتبه في بلاغين له ونشره
في الجرائد من غير أن تقيد نفسها بكتابة شيء، بل قيل ونُشر في الجرائد أن وزارة
الداخلية أرسلت إليه أحد رجالها من دائرة حفظ الأمن العام لحمله على السفر خفية
خيفة حدوث مظاهرة له أو بسببه تضطر إلى مقاومتها بالقوة، دأبها في مقاومة كل
هذه المظاهرات الحزبية، وقد وافق هذا عادته في عوداته من مصر إلى فلسطين في
زياراته السابقة، فسافر ولم يعلم الناس ولا الجرائد بيوم سفره.
السعي للصلح في فلسطين:
انتدب الدكتور عبد الحميد بك سعيد للصلح بين السيد الحسيني وراغب بك
النشاشيبي وأعوانهما، فذهب إلى القدس، وفاوض الفريقين على قاعدة اشتراك
المعارضين مع المجلسيين في لجنة المؤتمر التحضيرية وعدد الأعضاء من كل
فريق فيها، ثم يتبع ذلك عدد أعضاء كل منهما في المؤتمر وتعيين شخوصهم،
وعاد إلى مصر، فبلغ الناس والصحف أنه تم له ما أراد، ثم ظهر أنه ما كان قد
بقي كما كان.
ثم عاد من أوربة مولانا شوكت علي، لأجل حضور المؤتمر، وسافر هو
وصديقه عبد الحميد بك سعيد إلى القدس قبل موعد عقد المؤتمر، وحاولا عقد
الصلح بين الفريقين فلم يتم لهما ما حاولا، ورأيا أن الإباء من السيد الحسيني
فسخطا منه وسخط هو منهما، وقد كانا من أصدقائه الحريصين على نجاح المؤتمر،
وظهر هذا السخط في المؤتمر للكثيرين وبعد انتهائه للناس أجمعين، فكان مدعاة
الأسف.
أما وجهة نظرهما ونظر أعوانهما ممن حضر المؤتمر من أصدقاء عبد الحميد
بك سعيد فهو أن الصلح خير من الخصام بنص القرآن واتفاق جميع الناس، وأنه
لا ينبغي أن يؤلف مؤتمر في فلسطين لأجل مصالح المسلمين، وجمع كلمتهم على
ما يمكن من المنافع العامة وأهلها في شقاق وخصام يمنع من اشتراك جميع أحزابهم
فيه.
وأما وجهة نظر الحسيني وحزبه فهو أن هؤلاء المعارضين له في المؤتمر
وغيره فئة سيئة النية معادية له في جميع أعماله تبدل حسناته سيئات، لا ينافي
سخطهم ومعارضتهم رضاء السواد الأعظم من الفلسطينيين وتأييدهم للمؤتمر،
وأنهم لما عجزوا عن إحباط مشروع المؤتمر من الخارج أرادوا الدخول فيه لإحباط
مقاصده من الداخل، وتوسلوا إلى هذا بنشر المطاعن الفظيعة في جميع العالم
بجريدة خاصة لهم وبالمنشورات الخاصة منهم، وشايعهم اليهود الصهيونيون في
جرائدهم، ولو أرادوا الصلح الصحيح لما توسلوا إليه بهذه الوسيلة، فالشر لا يكون
وسيلة إلى الخير، والباطل لا يكون ذريعة للحق، وإن تصدي الدكتور عبد الحميد
بك سعيد للصح أولاً، ومساعدة مولانا شوكت علي له ثانيًا بما كان من الاجتماع
بهؤلاء الخصوم، وإظهارهم الميل إليهم وحقيقة مطالبهم - قد نأى بهم عن الصلح
المعقول، إذ رأوا أن لهم أنصارًا أقوياء يعتقدون أنهم ينفذون رغبة الحكومة
المصرية العظيمة الشأن، وأنه لولا هذا لكان الصلح قريب المنال.
رأيي وخطتي في الصلح:
إنني لما علمت أن صديقي الدكتور عبد الحميد بك سعيد أراد الذهاب إلى
القدس لأجل السعي بالصلح أول مرة - عنيت بلقائه وتحبيذ سعيه وما أراه فيه،
وكنت أظن أن أول ما يجب أن يقوم به هو أن يتضمن الصلح براءة المعارضين
من مثل مطاعن جريدة مرآة الشرق، ومخرجًا مقبولاً من المطاعن التي نشروها
بأسمائهم وأسماء من شايعهم، ووضع أساس لاستبدال المودة بالعداوة، والتعاون
بالمعارضة.
وجملة القول: أنه ما كان ليرجى وقوع الصلح بين فريقين شأنهما ما بيناه في
هذا المقال بإشراك خصوم القائم بفكرة المؤتمر في عمله الداخلي مع بقاء عداوتهم
الراسخة له في بيته وحزبه وسياسته ووظيفته؛ لأنه عبارة عن حرمان نفسه شرف
هذا العمل وكفالته، ورضاه بأن تدخل المعارضة له فيه نفسه.
ولو وقف الساعون بهذا الصلح عند الحد الذي انتهوا إليه لما كان له ولا لغيره
أن يلومهم فيه؛ ولكنهم كتبوا بيانًا في خلاصة سعيهم سجلوا فيه عليه أنه هو الذي
أبى الصلح بعد أن كانوا أقنعوه به، وشهدوا لخصومه بحسن النية في مطالبهم، مع
العلم بما كان من مطاعنهم الشديدة في شخصه وذمته وشرفه وأعماله في رياسة
المجلس الإسلامي الأعلى من أول عهده إلى آخره، ومع العلم بأنهم أعوان المحتلين.
إنني محب لعبد الحميد بك سعيد وصديق، وأحمد له نهوضه بتأسيس جمعية
الشبان المسلمين التي تمنيت وجودها وسعيت له منذ عشرات السنين، وأعتقد أنه
كان حسن النية فيما سعى إليه بحسب رأيه واجتهاده في سياسته، ولو ندبني للسعي
معه للصلح بعد اجتماعنا في القدس لانتدبت كدأبي معه فيما يدعوني إليه من خدمة
لجمعية الشبان المسلمين، وأدلي إليه أحيانًا بما أراه من المصلحة تبرعًا واحتسابًا،
وأعتقد أنه لا يشك في إخلاصي له حتى فيما يختلف فيه رأيه ورأيي، ومنه أنني
نصحت له أن يهجر السياسة مليًّا ويسالم جميع أحزابها ويصرف كل جهده إلى
خدمة جمعية الشبان المسلمين التي لا يرجى نجاحها إلا بإقناع كل مسلم يغار على
الإسلام بأن هذا العمل لوجه الله تعالى لا شائبة فيه لمقاصد الأحزاب والسياسة،
وذكرت له أن مثله فيه كمثل محمد طلعت باشا حرب في خدمته المالية وأعماله
الاقتصادية لمصر، هجر لأجله السياسة وله فيها الرأي الحصيف عملاً بقاعدة
الأستاذ الإمام حكيم مصر والإسلام: (ما دخلت السياسة في عمل إلا أفسدته)
فشايعه على عمله جميع رجال الأحزاب السياسية وقدره له صاحب الجلالة الملك،
فأنعم عليه برتبة الباشوية بمحض عطفه ورضاه عن أعماله.
قلت: إن صديقي عبد الحميد بك لو ندبني للسعي معه للصلح لانتدبت، ولجاز
أن يكون له من رأيي الذي علم بعضه مما مر آنفًا ما يرجى به النجاح، وإذًا
لعارضته في نشر تلك الشهادة للمعارضين بحسن النية استبقاء للمودة بينه وبين
الفريقين، ومن رأيي أن مودته للسيد الحسيني وحزبه أنفع من مودته لراغب بك
النشاشيبي وحزبه؛ لأن وجهته في خدمة الأمة دينية يجتمع فيها مع الأول بالتعاون
والتناصح دون الثاني.
وأنا قد كلمني بعض المخلصين في القدس بأن أسعى وحدي لهذا الصلح
لاعتقادهم أنني لا أرضى إلا بالمصلحة العامة وصميم الحق، فأحببت ذلك وأردت
الاستعداد له بالوقوف على كنه الشقاق واختلاف المنافع والأهواء فيه، فعلمت من
أقوال أصدق العارفين بالحقائق أن السعي الذي يُرجى نجاحه متعذر في تلك الأيام -
أيام المؤتمر - لاختلاف المقاصد فيه وفي السياسة والرياسة وقد تسنح له فرصة
أخرى.
وكان من العوائق أنه لم يسبق لي اجتماع براغب بك، وقد دعاني إلى حفلة
الشاي التي دعا إليها أكثر أعضاء المؤتمر فلم أستجب له؛ لأنه لم يزرني عقب
وصولي إلى بلده، ولم يدعني بنفسه، بل أعطاني بعض المدعوين رقعة من رقاع
دعوته، ولم يزرني أيضًا أكبر أركان حزبه المعارض للحسيني وهو الأستاذ الشيخ
خليل الخالدي على ما بيننا من تعارف وتواد قديمين (ومن صداقة مع أشهر
رجال أسرته المرحوم روحي بك الخالدي) وكان يتفضل بزيارتي إذا أَلَمَّ بمصر،
وكأنه ظن أنني أشايع السيد أمينًا الحسيني عليهم لأنه صديقي وتلميذي، وحاش لله،
ما أنصر أحدًا على الباطل ولو كان أستاذي أو أخي، أو والدي أو ولدي، وقد
تنكب الصراط المستقيم من كان تلميذًا لي فنصحت له فلم يزدد إلا ضلالاً، فرددت
عليه في المنار أشد الرد، وصرحت بإلحاده في آيات الله وتحريفه لكتاب الله؛
وإنني لأنصح للسيد محمد أمين في كل أمر يقتضي النصح والتواصي بالحق
والصبر.
عوائق الصلح وعواقبه الحزبية السياسية:
قلت: إنني كنت حريصًا على منع وقوع الجفاء بين السيد أمين الحسيني
وعبد الحميد بك سعيد وعلى تلافيه بعد وقوعه، فكان من أسباب اشتداده وعلم
الجماهير به ذلك البيان في مسألة الصلح، ومنشور آخر شر منه لعضو من رفاقه
المصريين المشايعين للوزارة الحاضرة، ذكر في هذا البيان أقبح ما يطعن به خصوم
الحسيني فيه، وتكليفه أن يحاكمهم إلى محاكم الجنايات إن كانوا كاذبين وإلا كان
لجميع الناس أن يصدقوهم في طعنهم بذمته وشرفه وأمانته، وقد طبع هذا المنشور
ووزع في الفنادق والأسواق والشوارع بإمضاء كاتبه الذي لم يره أحد بعد نشره لا في
المؤتمر ولا في خارجه، ولا يجهل عاقل رأي الناس في مثل هذا المنشور وقصد
صاحبه، والباعث له عليه، والمنفق على طبعه، والمهتم بنشره.
وكان قبله ما كان في حفلة افتتاح المؤتمر في المسجد الأقصى، إذ قام رفيق
آخر من أصحابه دعاة الوزارة والمنافحين عنها وحاول إسكات الأستاذ عبد الرحمن
عزام مندوب الوفد المصري عندما وقف على كرسي الخطابة وبلَّغ المؤتمر تحية
الوفد ورئيسه وتأييده له كسائر المصريين، صاح به محاولاً تسكيته أو تسقطه،
وذكر اسم جلالة ملك مصر بما لا يخلو من إيهام كان له أسوأ التأثير في المسجد،
وهمَّ بعض الفلسطينيين بالصائح، كما فصَّلت ذلك الجرائد المصرية والسورية.
ثم كان بعده ما كان من أحاديث أعضاء المؤتمر عند إرادة انتخاب الرئيس له
من ميل عن السيد الحسيني وميل إليه، فكان سبب اقتراح بعضهم اختياره للرياسة
بالتزكية وموافقة الأكثرية الساحقة على ذلك.
كانت عاقبة ذلك كله أن كان لمحمد علي باشا علوبه وعبد الرحمن بك عزام
من المكانة والرجحان على سائر المصريين في المؤتمر، وفي جميع الحفلات التي
أقيمت له في فلسطين، وانتخب الأول وكيلاً لرئيس المؤتمر، والثاني عضوًا في
مجلس الرياسة، ثم انتخبا عضوين للجنة التنفيذية له، والأول من حزب الأحرار
الدستوريين، والآخر من حزب الوفد المصري، بل كان للوفد المصري وزعمائه
أحسن الذكر والمكانة في البلاد الفلسطينية كلها، وكان من هؤلاء الزعماء ولا سيما
رئيسي الوفد وحزب الأحرار الدستوريين أن أيدوا المؤتمر بما أرسلوه إليه من
البرقيات والرسائل البليغة.
دُعي أعضاء المؤتمر إلى مآدب تكريم في القدس نفسها وفي يافا وضواحيها
وفلسطين، فكانت السيارات تجري بهم أرسالاً، وكان أهل القرى والمزارع في
طرقهم يجتمعون لتحيتهم والهتاف لهم بالحياة والنصر، وللمعارضين بالسقوط
والخزي، وكثيرًا ما ذكر في الهتاف الوفد المصري ورئيسه مصطفى باشا النحاس،
وتضمن هذا تأييد الوفد وحزب الأحرار في خطتهما ومعارضتهما للوزارة
المصرية شرحته جرائدهما شرحًا، وجعلته نصرًا مبينًا وفتحًا.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________