الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
تعليم أولاد المسلمين في المدارس اللادينية الحكومية وغيرها
أو مدارس النصرانية
(س 28) من حضرة صاحب الإمضاء بتونس:
بسم الله الرحمن الرحيم
ما رأيكم - دام نفعكم - في من يدخل ابنه الصغير إحدى المكاتب (المدارس)
الدولية، وهي خالية من تعليم الدين الإسلامي وتدريس اللغة العربية كما يجب، بل
كل تعليمها امتهان لنفس التلميذ حتى ينشأ ذليلاً محتقرًا نفسه وأهله، واعتناء باللغة
الفرنساوية اللطيفة، والدافع إلى زج هذه الفلذة الصغيرة هو توقع ما تحقق أن الولد
يؤخذ للخدمة الجندية ثلاثة أعوام إذا لم يحرز من تلك المكاتب على شهادة يتخلص
بها من الجندية، مع أن طرق الخلاص منها كثيرة واضحة، إلا أن الشهادة
المدرسية أضمن للخلاص من حيث المآل وراحة البال.
فهل هذا يعد ضرورة حتى يرتكبه الآباء المحافظون على الدين الإسلامي،
والقومية العربية، ومما يلاحظ أن بعض البلدان فُقد منها تعليم القرآن المجيد فضلاً
عن حفظه الناشئة المولودة بعد الحرب العظمى؟ نرقب جوابكم السامي في هذه
المزلقة التي انطبعت في فكر العارف والجاهل إلا من عصمه الله، وقليل ما هم،
والفضل الأكبر لدعاية المعلمين العربيين بالمكاتب الذين هم مسوقون بأن يكونوا
كشعوذة ودعاية بين أهليهم وذويهم حتى أني رأيت التوظف بها مع القدرة على
التعيش من طريق آخر من أكبر الكبائر، فما رأيكم؟ أطال حياتكم والسلام.
…
من محرره فقير ربه المخالف لكل أمته في هذه البدعة
…
...
…
...
…
(م. خ)
(ج) إن تعليم الأولاد ما يجب عليهم من عقائد الإسلام وأحكامه عند ما
يبلغون سن التكليف، ومبادئ اللغة العربية التي هي لغة الإسلام - فرض على
والديهم وأولياء أمورهم، فإذا كانت المدارس الدولية المذكورة في السؤال لا تمنع
والديهم من تعليم ما ذكر من الأمور الدينية ولغتها ومن تربيتهم على هدي الإسلام
وأخلاقه ومن أهمها عزة النفس، فلا مانع من إدخالهم فيها، وإن كانت تمنعهم مما ذكر
من التعليم والتربية الواجبين فلا يجوز لهم إدخالهم فيها، وما ذكر في السؤال من
الباعث على ذلك وهو التفصي من خدمة الجندية لا يصح أن يكون ضرورة ولا عذرًا
لهم، بل ينبغي للمسلمين - أو يجب عليهم - العناية بتعليم أولادهم النظام العسكري
بقدر الإمكان.
هذا، وإن في البلاد الإسلامية مدارس أخرى شرًّا من المدارس المذكورة في
السؤال وهي مدارس دعاة النصرانية، وقد ثبت بالاختبار التام في جميع الأقطار
الإسلامية أن المدارس التي تنشئها جمعيات الدعاية النصرانية؛ إنما تنشئها لنشر
دينها وتربية التلاميذ والتلميذات فيها على عقائده وعباداته وآدابه، وأنها تتوخى مع
ذلك إبعاد المسلمين والمسلمات منهم عن دين الإسلام بأساليب شيطانية تختلف
باختلاف حال المسلمين في العلم والجهل، وأن المدارس اللادينية التي تنشئها
الجمعيات السياسية والإلحادية تتوخى بث الإلحاد، بل الكفر المطلق بالرسل وما
جاءوا به من الهدى والرشاد.
وقد ثبت بالاختبار أن الإلحاد في الدين قد فشا في المتعلمين في هذه المدارس
كلها على درجات تختلف باختلاف أحوالهم، فمنهم المعطلة الذين لا يؤمنون بالله
ولا بملائكته وكتبه ورسله، ولا بالبعث والجزاء، ومنهم الذين يؤمنون بالله ولا
يؤمنون بالوحي والرسل، ومنهم الشاكون أو اللاأدريون، ومنهم الذين يقولون:
(آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) ومنهم الذين يلتزمون الجنسية الدينية
السياسية والاجتماعية في الزواج والإرث، والأعياد والمواسم والجنائز ولا يقيمون
الصلاة ولا يؤتون الزكاة ولا يحجون البيت الحرام ولا يصومون رمضان، ومنهم
من يلتزم حرمة شهر رمضان وعاداته وقد يصومون أيامًا منه، ولا يحرِّمون ما
حرَّم الله ورسوله من الخمر والميسر والزنا والربا إلا بالقول دون الفعل.
ومنهم من يصلي ويصوم أحيانًا أو دائمًا؛ ولكنهم لا يعرفون كل ما يجب أن
يعرفه المسلم من عقائد الإسلام وأصول أحكامه وآدابه.
ومن آثار ذلك ما نراه من الفوضى في الأمور الإسلامية والجهل ببعض الأمور
المعلومة من الإسلام بالضرورة التي أجمع علماء المسلمين سلفًا وخلفًا على كفر
جاحدها، وعدم عذر جاهلها والدعوة إلى مخالفتها في المحاضرات والمناظرات
والكتابة والخطابة؛ وإنك لترى هذا في الصحف المنتشرة، والرسائل والكتب
المنكرة، التي تكتب بأسماء إسلامية في الأحكام الشرعية كحقوق النساء وترجمة
القرآن وغير ذلك.
ومن آثار ذلك ترجيح المتفرنجين وأولي العصبية الجنسية للغات الأجنبية على
لغة الإسلام العربية، بل يجهلون أن الإسلام قد جعل لغة العرب لغة لكل المسلمين
لتكون عبادتهم واحدة، وشريعتهم واحدة، وآدابهم واحدة، ويصدق عليهم قوله
تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (الأنبياء: 92) من كل وجه.
فتعليم أولاد المسلمين في المدارس التبشيرية والمدارس اللادينيية (لاييك) قد
جنى عليهم في دينهم ودنياهم وسياستهم وأوطانهم، وسلبهم أكثر ما نالوه بهداية دينهم؛
حتى لم يبق منه إلا القليل وهو على وشك الزوال.
إنهم أسلموا أولادهم أفلاذ أكبادهم لأعدائهم لأجل أن يجعلوهم مثلهم فيما كانت
به دولهم عزيزة قوية، فقطعوا عليهم الطريق المستقيم الذي يوصلهم إلى ذلك وهم
لا يشعرون ولا يعقلون، ثم إنهم بعد ذلك كله يمارون الذين ينبهونهم ويبينون لهم
حقيقة حالهم وسوء مآلهم.
وأكبر المصائب على المسلمين أنه ليس لهم دولة إسلامية تقيم الإسلام في
علومه وسياسته وهدايته وتشريعه وتعليمه وتربيته، فيرجعون إليها فيما يختلفون
فيه من أمورهم في بلادها وغير بلادها.
وليس لهم جمعيات علمية دينية حكيمة غنية كجمعيات النصارى واليهود تنشئ
لهم المدارس والملاجئ والمستشفيات الإسلامية فتغنيهم بها عن الالتجاء إلى أعداء
دينهم فيما صاروا يرونه ضروريًّا من التعليم الذي عليه مدار المعاش في هذا
العصر.
ترك المسلمون هذه الأمور التي هي من فروض الكفايات فكان من سوء تأثير
تركها ارتكاب الأفراد لمعصية الله تعالى في تعليم أولادهم في المدارس التي بيَّنا
ضررها وفسادها في دينهم ودنياهم.
قد يغتر الذين يعرفون الإسلام ويثقون بتربية أولادهم عليه فيظنون أنه يمكنهم
حفظ عقائد أولادهم مع تعليمهم في هذه المدارس، وقلما يصدق ظن أحد منهم.
وضع أخي السيد صالح رحمه الله بنتًا له في مدرسة البنات الأميركانية
بطرابلس الشام، وهي ناشئة في بيت قلما يوجد نظير له في بيوت المسلمين في
معرفة الإسلام والاعتصام به، وكان السيد صالح بارعًا في جدال القسوس
والمبشرين شديد العارضة قوي الحجة، وكان يكون له الفلج والظفر بهم في كل
مناظرة؛ لكنه كاد يعجز عن إقناع بنته ببطلان ما لقنتها المدرسة من الأناشيد في
ألوهية المسيح وفدائه للبشر أو انتزاع شعورها الوجداني به، فاضطر إلى إخراجها
من المدرسة قبل أن تتم مدتها، ثم كانت على تدينها ومحافظتها على الصلوات
والصيام ويقينها بتوحيد الله تعالى وكون المسيح عبده ورسوله، تحن إلى المدرسة
وتعتقد أن ناظرتها مس لاكرانج من أفضل البشر، وفي هذا عبرة لمن يعتبر.
***
إشكال في تفسير المنار في نقل العرب المناسك
وتحريم الأشهر عن إبراهيم
(س29 - 32) من صاحب الإمضاء في طرابلس الشام:
حضرة الأستاذ الفاضل علامة العصر، وفريد الدهر، الشيخ رشيد أفندي
رضا المحترم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فقد قرأت في العدد الأول من
مجلد هذه السنة - يعني السنة الماضية - من مجلتكم الغراء ما يأتي:
بعد ما ذكرتم قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا
يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} (التوبة: 37) قلتم في تفسير هذه الآية: كانت العرب ورثت من ملة إبراهيم
وإسماعيل تحريم القتال في الأشهر الحرم لتأمين الحج وطرقه كما تقدم، كما ورثوا
مناسك الحج، ولما طال عليهم الأمد غيَّروا وبدَّلوا في المناسك وفي تحريم الأشهر
الحرم ولا سيما شهر المحرم منها؛ فإنه كان يشق عليهم ترك القتال وشن الغارات
ثلاثة أشهر متوالية، فأول ما بدَّلوا في ذلك إحلال الشهر المحرم بالتأويل، وهو أن
ينسئوا تحريمه إلى صفر لتبقى الأشهر الحرم الأربعة كما كانت، وفي ذلك مخالفة
للنص ولحكمة التحريم معًا اهـ.
فنرجو من فضيلتكم أن تجيبونا على هذه الأسئلة الآتية على طريق الاستفادة؛
لأن مجلتكم ترغب بنشر المباحث ليزداد النفع وتظهر حقية هذا الدين:
أولاً: هل لدينا ما يثبت أن مناسك الحج وتحريم القتال في الأشهر الحرم هو
من شريعة سيدنا إبراهيم الخليل؟ أين الكتب الدينية أو السند المتصل الذي يثبت
ذلك ويظهره ظهور الشمس في رائعة النهار؟ فتوارث ذلك من أسلافهم إلى أن
يصل إلى إبراهيم الخليل لا يكون سندًا يُعتد به في الأمور الدينية؛ لعدم الثقة
برجال الجاهلية لكونهم عبدة أوثان؛ ولأن كل ما يفعلونه كانوا ينسبونه إلى إبراهيم
الخليل، ولا يبعد أن تكون عبادتهم للأصنام ادعاء منهم أن سيدنا إبراهيم كان يعبدها.
ثانيًا: كيف يجعل الله عبادة الوثنيين ومناسكهم عبادة في الإسلام ومناسك له،
والإسلام جاء ليجتث جذور الوثنية كما في تحريمه التشفع بالأولياء والصلحاء؛ لأنها
تماثل ما يفعله الوثنيون.
ثالثًا: إذا كانت العرب ورثت عن إبراهيم الخليل المناسك وتحريم القتال في
الأشهر الحرم يلزم أن تكون العرب قبل الإسلام أمة غير جاهلية لأنها صاحبة
شريعة، وإن اعتقدنا أنها كانت أمة جاهلية لكونها غيرت وبدلت ما شرع إبراهيم
الخليل؛ فتكون الأمة الإسرائيلية أيضًا قبل ظهور السيد المسيح أمة جاهلية؛ لأنه
كان لها أحكام فغيَّرتها، وعقائد حقة بدَّلتها.
رابعًا: ما معنى كون العرب قبل الإسلام أمة جاهلية؟ هل لكونها لم يرسل
لها نبي أو لكونها غيرت شريعة إبراهيم الخليل صلوات الله عليه؟
نرجو الجواب على صفحات مجلتكم الغراء مؤيدًا بالأدلة العقلية والنقلية، فلا
عدمت الأمة الإسلامية أمثالكم، ودمتم لها حصنًا حصينًا وسيفًا قاطعًا لأعناق
المعتدين، والسلام.
…
...
…
...
…
...
…
... محمد فؤاد إشراقية
(ج) إن ما تنقله الأمم بالعمل المتواتر لا يحتاج في إثباته إلى أسانيد قولية
محفوظة ولا مكتوبة كنقل الكلام، فصفة الصلاة وعددها وعدد الركعات فيها وصفة
مناسك الحج المجمع عليها من الطواف والسعي والوقوف، كل ذلك بينه النبي صلى
الله عليه وسلم وجرى عليه المسلمون بالعمل إلى يومنا هذا، وبذلك كان قطعيًّا يرتد
جاحده عن الإسلام لا برواية المحدثين له بأسانيدهم في كتبهم، وكذلك العرب أخذت
عن إبراهيم وإسماعيل مناسك الحج التي أسندها الله تعالى إليهما في كتابه، وكذا
تحريم القتال في الأشهر الحرم وعملوا بهما قرنًا بعد قرن، إلا أنهم أحدثوا فيهما
بدعًا كالنسيء في الأشهر والعري للطواف ووضع الأصنام في البيت وغيره،
وكانت هذه البدع والأحداث معروفة عندهم هي ومن أحدثها إلا قليلاً منها، ونُقل
هذا عنهم في كتب الحديث والتاريخ الإسلامي، ولم يكونوا يسندون عبادة الأصنام
إلى إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في سيرة ابن إسحاق أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: (رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار؛ لأنه أول من غير
دين إسماعيل فنصب الأوثان وسيب السائبة)
…
إلخ، ورواه الطبراني بلفظ:
(غير دين إبراهيم) وهو الذي وضع صنمي إساف ونائلة على الصفا والمروة.
ولكن العمدة في التمييز بين ما كان من مناسك إبراهيم وما لم يكن منها إنما هو
كتاب الله وبيان النبي صلى الله عليه وسلم وهو منقول في كتب الحديث، فما أقرَّه
صلى الله عليه وسلم من تلك المناسك قد صار مشروعًا لنا بإقراره إياه لا بنقلهم له،
وقد كان الحمس من قريش يقفون بالمزدلفة دون عرفات ويفيضون منها وظنوا أن
النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك في حجة الوداع، فوقف مع الناس وأفاض
ونزل في ذلك {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ} (البقرة: 198) إلى قوله: {ثُمَّ
أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} (البقرة: 199) وصوروا إبراهيم وإسماعيل
يستقسمان بالأزلام، فكذَّبهم النبي صلى الله عليه وسلم بيانًا لجعل الله ذلك من الفسق،
بل جاء شرعنا موافقًا لبعض عاداتهم فصارت مشروعة لنا، وما كل عاداتهم ولا
تقاليدهم كان قبيحًا، فهذا جواب السؤالين الأول والثاني.
وأما الجواب عن الثالث والرابع فهو أن حالة العرب قبل الإسلام سميت جاهلية
لما كان يغلب عليهم من الجهل بالدين والشرائع وغلبة الأمية والوثنية ومفاسدها
عليهم، ولا ينافي هذا تعظيمهم لإبراهيم وإسماعيل وحفظهم لأكثر مناسكهما لما كان
لهم في ذلك من العزة والفخر بالإباء والمنافع المادية في سدانة البيت وموسم الحج،
والفرق بينهم وبين اليهود عظيم، وهو غير محتاج إلى البيان لظهوره على أن هذا
الجواب ليس بمحل له.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
ترجمة القرآن وكون العربية لغة الإسلام
مقدمة إجمالية
وضعت مسألة ترجمة القرآن موضع المناظرة والجدال في الجرائد السياسية،
فكانت كسائر المناظرات في السياسة الحزبية والأهواء الاجتماعية، خاض فيها من
له إلمام بأصول الدين الإسلامي وفروعه ومن لا إلمام له بهما ممن اعتادوا تحكيم
آرائهم في كل شيء بما تبيحه لهم فوضى العلم والدين والسياسة في مصر، فكان
الجمهور حائرًا لا يستقر له فكر، ولا يستبين له حكم.
ثم برز إلى الميدان علماء الأزهر فكانوا مختلفين كغيرهم، وقد أكثروا من
نقل عبارات الكتب واختلفوا في فهمها والترجيح بين مدلولاتها، فزادوا الجمهور
حيرة على حيرة، واضطرابًا على اضطراب؛ لأنه كلام في مقابلة كلام، وخصام
حيث لا مسوغ للخصام، ولم يعرج أحد من الكاتبين على ما هو مثار النزاع في
المسألة وهو عمل الحكومة التركية اللادينية، ما حقيقته وما سببه؟ وما موقعه من
دين الشعب التركي ومذهبه واعتصامه بهما؟ بيد أن بعض من كتب من العلماء
ألقى نظرة عجلى على شعوب الإسلام الأعجمية ليعطيها حقها من حكم ترجمة
القرآن بحسب حاجتها في هذا الزمان؛ ولكنه لم يبصر بهذه النظرة العجلى ما عليه
هذه الشعوب، وألقى نظرة أثبت منها على الشعوب غير الإسلامية، فأدرك ما
للإسلام من الفائدة في إطلاعها على ترجمة القرآن بألسنتها؛ ولكنه لم يحرر
الموضوع من كل وجهة، فظلت الحقيقة خفية غير ظاهرة.
وقد كنت وفيت هذه المباحث حقها في مواضع من المنار ومن الجزء التاسع
من تفسير القرآن الحكيم، وجمعت أكثرها في رسالة خاصة، ولما ألح علي
الكثيرون من العلماء والفضلاء بكتابة شيء جديد يناسب مقتضى الحال ويُرجى أن
يُزيل كل إشكال، شرعت في كتابة مقال طويل جمع بعضه في المطبعة، ثم بدا لي
بعد دخول كبار العلماء في المعمعة أن أرجئ إتمامه، وأعجل إلى الجمهور ببيان
القضايا القطعية في الموضوع وما يجب على المسلمين منه في هذا العصر، وهو
ملخص في عشر مسائل، وسأنشر بعدها ذلك المقال الطويل المفصَّل، الذي يحز
في المفصل، ويزيح كل مشكل، ويثبت أن اللغة العربية هي لغة دين الإسلام
والمسلمين، ورابطة الأخوة العامة ووسيلة السلام للمؤمنين، بما يفند نزعات
الشعوبية وعصبية الجنسية ونزعات الملحدين، ويوحد كلمة العلماء المختلفين، بما
يخرج من بين فرث ودم لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين، وهذه خلاصته الإجمالية:
1-
أجمعت الأمة الإسلامية عربها وعجمها على أن هذا القرآن المحفوظ في
قلوب الألوف التي لا تحصى من الحفاظ، المرسوم في ألوف الألوف من
المصاحف، هو كلام الله عز وجل المنزَّل على محمد رسول الله وخاتم النبيين،
بلسان عربي مبين، مُعجز للخلق أجمعين.
2-
أجمعت الأمة الإسلامية عربها وعجمها على أن هذا القرآن العربي هو
أساس دين الله الذي أكمل به ما أوحاه إلى رسله من قبله، وأتم به نعمته على
العالمين، وأمر رسوله أن يبلغه كما أنزله عليه بنصه العربي المبين، فبلَّغه كما
أمره الله، وأمر أصحابه وأتباعه بإذن الله تعالى أن يبلِّغوا عنه ما بلَّغهم عن الله عز
وجل إلى جميع البشر، فبلَّغوا وما زالوا يبلِّغون هذا القرآن بنصه العربي المنزَّل،
وما بينه من سنة الرسول الذي جاء به صلى الله عليه وسلم وما استنبطه أئمة العلم
من عقائده وأحكامه وآدابه.
3-
أجمعت الأمة الإسلامية عربها وعجمها على أن الله تعالى قد تعبد بهذا
القرآن العربي كل من آمن به وبرسوله محمد خاتم النبيين من أجناس البشر تلاوة
وتدبرًا وأذكارًا واعتبارًا، وامتثالاً للأوامر، واجتنابًا للمناهي، وحكمًا بين الناس
كما قال: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِياًّ} (الرعد: 37) على ما في ذلك من
الفروض والواجبات على الأعيان، ومن الفروض والواجبات على الكفاية التي
يكفي قيام البعض بها عن قيام الكل، وما فيه من المندوبات والفضائل والآداب
الكمالية، فجميع الشعوب الإسلامية تعبد الله به إلى هذا اليوم، وستعبده به إلى ما
شاء الله على تفاوت عظيم فيها بين جماعاتهم وأفرادهم في حظهم من هذه العبادة،
وبين خير القرون وما يليها.
4-
أجمعت الأمة الإسلامية عربها وعجمها على أن ما فرضه الله تعالى على
أفراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم من قراءة في الصلاة، فالواجب على كل فرد
أن يتلوه بنصه العربي المنزَّل كما أنزل {قُرْآناً عَرَبِياًّ غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} (الزمر:
28) .
ولكن اختلف مدونو الكتب الفقهية بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه رضي الله عنهم فيمن عجز من أفراد الأعاجم عن النطق به عربيًّا
صحيحًا غير ذي عوج بدون تحريف وتبديل لا يبيحهما له الشرع، فقال بعضهم:
إنه في حال العجز تسقط عنه القراءة فيقف ساكتًا مخبتًا خاشعًا لله تعالى، وقال
بعضهم: يستبدل بها ذكرًا آخر، وقالت الحنفية: بل يستبدل بها ترجمتها، وجوبًا
أو جوازًا (قولان) كما أن العاجز عن القيام في الصلاة يصلي جالسًا، والعاجز
عن الجلوس يصلي مضطجعًا، والعاجز عن الركوع والسجود يومئ بهما، ومتى
زال العذر في الجميع يرجع المصلي إلى الأصل المفروض بإجماع الأمة.
ومن المعروف بالاختبار أن العجز عن النطق بالقرآن العربي نادر قلما يقع إلا
لمن أسلم من بعض الأعاجم وهو كبير السن، وقد جرى المسلمون على تعليم
أولادهم الفاتحة وبعض السور القصيرة عند تعليمهم أحكام الصلاة وأذكارها في
الصغر، فلا يكاد يوجد فيهم من يعجز عن النطق بها، ويضطر أن يستبدل بها
ترجمتها فيحتاج إلى هذه الرخصة الحنفية فيها؛ وإنما يحتاج إليها بعض من يدخل
في الإسلام كبيرًا إلى أن تنحلَّ عقدة لسانه بالتمرين على اللفظ العربي.
5-
أجمعت الأمة الإسلامية عربها وعجمها على أنه لا يُباح للمسلمين ترجمة
القرآن بلغة أخرى يتعبد بها في الصلاة والتلاوة والتشريع، ويُطلق عليها اسم كلام
الله، وكتاب الله، والقرآن الكريم، والقرآن العظيم، والقرآن المجيد، كما سمى
الله كتابه العربي، ويستغنى بها عن كتابه المنزل، الذي أرسل به رسوله، وتعبد
به أمته، وصرَّحوا بأنه لا يفعل ذلك إلا مجنون أو زنديق؛ ولذلك نرى جميع
الشعوب الإسلامية الأعجمية من الترك والفرس والأفغان والهند والجاوة والصين
وغيرهم يعلِّمون أولادهم القرآن ويدرسون في مدارسهم الدينية تفاسيره وكتب
الحديث والفقه والأصول والنحو والصرف والبلاغة باللغة العربية؛ ولكن أكثر
أهل القرون الأخيرة منهم صاروا يفسرونها لطلاب العلم بلغاتهم خلافًا للمتقدمين
فلذلك قل المجتهدون والنابغون فيهم، وكثيرًا ما يُرسلون أولادهم إلى مصر أو
الحجاز لأجل إتقان اللغة العربية وعلومها.
6-
قد علم من هذه الأصول التي أجمعت عليها الأمة اعتقادًا وعملاً أن إقامة
هذا الدين في عباداته وتشريعه وحكومته تتوقف على معرفة اللغة العربية، وأن هذه
اللغة قد جعلها شرع الإسلام لغة المسلمين كافة وأوجب عليهم تعلمها، إذ لا يمكن
العمل بما ذكر من الإجماع بدونها، وقد صرَّح بهذا الإمام الشافعي في رسالته التي
هي أول كتاب صنف في تدوين أصول هذه الشريعة وكذلك الشاطبي في مقاصدها
من كتابه الموافقات [1] وبيَّناه في مواضع من المنار والتفسير، وسنزيده بيانًا
وإيضاحًا في تفصيل ما في هذا المقال من الإجمال، فلينتظره من يشتبه في شيء
منه.
7-
قد ترجم القرآن بعض علماء الإفرنج بأشهر لغاتهم العلمية كالفرنسية
والإنكليزية والألمانية والطليانية، وترجمه بعض المسلمين بأشهر لغاتهم الشرقية
وبالإنكليزية أيضًا، وفي كل ترجمة من هذه التراجم أغلاط كثيرة مخالفة لمدلولات
عباراته اللغوية والشرعية، فتح بها باب للطعن فيه والصدّ عن الإسلام، كما أنها
فتحت بابًا آخر لمن اطلع عليها من مستقلي الفكر عرفوا بدخولهم فيه شيئًا كثيرًا من
عقائد الإسلام الصحيحة، وحكمه العالية، وأحكامه العادلة، ومقاصده الحكيمة في
إصلاح البشر، وحكموا على جميع ما نشره الملاحدة الماديون، ورجال الكنيسة
المتعصبون، ودعاة النصرانية المرتزقون، من الكتب والرسائل الكثيرة في الطعن
على الإسلام، بأن ما دونوه فيها من المطاعن زور وبهتان، فكثر مادحو الإسلام
من علمائهم الأحرار، واهتدى كثير منهم به، واستضاءوا بنوره، ولا تكاد تمر
سنة إلا وتجد بعض المستقلين في الفهم منهم يدخلون في الإسلام بالاطلاع على
بعض هذه الترجمات أو بمعرفته ممن عرفوهم من المسلمين.
8-
أن ما ترتب على ما ذكر من الترجمات من صلاح وفساد يُوجب على
المسلمين وجوبًا كفائيًّا أن يزيدوا ما كان من صلاح قوة وتأييدًا، وأن يفندوا ما
حدث من الفساد تفنيدًا؛ وإنما يكون ذلك بترجمته بتلك اللغات كلها ترجمة معنوية
صحيحة، إذ كانت الترجمة الحرفية متعذرة وغير مفيدة، كما نبين ذلك بالأدلة
والشواهد التي لا تقبل النقض، ولا تُقابل بالرد، وفاقًا لما قررناه من قبل، وهذه
الترجمة التي تُعَدُّ - بما ذكرنا من الحاجة إليها - فرض كفاية على المسلمين، لا
تسمى
قرآنًا ولا يتعبد بتلاوتها، إنما هي خلاصة تفسيرية له تدخل في باب الدفاع عن
دين الإسلام من جهة، وفي باب الدعوة إليه من جهة أخرى، وإن كانت الدعوة
العامة لا تتوقف عليها كما سنبينه في تفصيل هذه المسألة المجملة.
9-
أن هذه الترجمة لا يرجى أن تكون متقنة ومقبولة عند المسلمين وغيرهم
إلا إذا قام بها جماعة من العلماء الراسخين في اللغة العربية، وعلوم الشريعة
الإسلامية وتاريخها، ومتقنين للّغات التي يترجمون بها، حتى يكون لها صفة تشبه
البلاغات الرسمية الدولية، ولا يتم هذا العمل إلا بإنفاق ألوف كثيرة من الجنبيهات،
فلا بد أن تقوم به دولة غنية، أو جمعية قوية، أو يكفله أحد ملوك المسلمين بنفوذه
وماله.
10-
لا جرم أن الدولة المصرية أقدر الدول الإسلامية الحاضرة على أداء
هذا الواجب الذي يعد أعظم خدمة للإسلام لدى الشعوب غير الإسلامية، وأن جلالة
ملكها المعظم أجدر ملوك المسلمين به، إذ يمكنه أن يبذل في سبيله عشرات الألوف
من الجنيهات من الأوقاف الخيرية العامة والخاصة بالأسرة المالكة، وإن احتاج إلى
المزيد فإن في ثروة جلالته ما يغني عن فتح اكتتاب له من الأمراء والنبلاء من
أسرته وسائر أغنياء مصر وغيرها إن أراد أن يستقل بشرفه، وإلا وجد كثيرًا من
المتنافسين بمشاركته فيه، وقد بذل جلالته ألوفًا من الجنيهات لعالم فرنسي جزاء
على كتابة تاريخ حديث لمصر، فلا يكثر على جوده أن يبذل أضعافه في سبيل الله
والدفاع عن دين الله، وتعميم هداية كتاب الله؛ فإن هذا أفضل ما يمكن أن يعمله
للإسلام.
فإذا وفق الله تعالى جلالته لتنفيذ هذا العمل الذي نتقرب إلى الله تعالى، ثم إلى
مقامه الإسلامي السامي باقتراحه عليه أولاً، فهو أعلم الناس بطريقة التنفيذ له
وتأليف الجمعية التي تقوم بالترجمة من علماء الأزهر وغيرهم من العارفين باللغات
الأجنبية الحاذقين لها، ووضع النظام لعملهم.
وإن كان لدى جلالته مانع من ذلك - وهو ما لا نظنه - فإن هذه الفريضة لا
تسقط عنه وعن سائر المسلمين إلا بقيام آخرين بها، وأيًّا ما قام بها يرتفع الإثم عن
الآخرين، وحينئذ يجب أن يفكر أهل الغيرة على الدين في الأمر، ويسعوا لتأليف
جميعة قوية غنية تقوم به، كجمعية الرابطة الإسلامية العامة التي فكر فيها الخديو
السابق لمصر الأمير عباس حلمي ونشرنا نظامها في المنار، لا الجمعية الضعيفة
التي وضع أساسها في هذا الشهر بعض المهتمين بالدفاع عن الإسلام، فإن لم يتيسر
هذا ولا ذاك فيجب أن يجعل هذا المشروع أهم ما يُعرض على المؤتمر الإسلامي
العام في دورته الثانية، إذا وفَّق الله تعالى لإعادته، بما نرجو أن يكون أفضل من
بدايته.
ويمكن صاحب هذا الاقتراح أن يبين ما ينبغي توخيه في هذه الترجمة لتكون
تامة الفائدة بما له من طول الاشتغال بتفسير القرآن الحكيم مدة ثلث قرن أخرج فيها
عشرة مجلدات منه بطريقة لم يسبق بها من تحري صحيح المأثور عن النبي صلى
الله عليه وسلم وأصحابه وعلماء السلف، واجتناب الروايات الموضوعة والضعيفة
من الإسرائيليات وغيرها، وبيان ما أغفله المفسرون من سياسة الإسلام، وما أرشد
إليه القرآن من سنن الاجتماع وأصول العمران، والتزييل بين ما كان عليه
المسلمون في القرون الأولى من سعادة وسيادة بهدايته، وما صاروا إليه من جهالة
وضعف بتركها أو التقصير فيها، مع رد شبهات الفلسفة والعلم الحديث ودعاية
الإلحاد أو الأديان الأخرى المضادة لها.
وإنني أقترح على صاحب الفضيلة شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية
وغيرهما من كبار علماء الأزهر أن يؤيدوا اقتراحي هذا بتأليف وفد منهم يقابل
جلالته ويبسط له ما في هذه الخدمة للإسلام من الفوائد الغر، والمثوبة وعظم
الأجر، وحسن الأحدوثة وشرف الذكر، وعسى ألا يصدهم عن هذا السعي أن
كان مقترحه والمذكر به أخاهم المخلص المتواضع:
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد رشيد رضا
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
ولكن الشاطبي أخطأ في كلامه في موضوع ترجمة القرآن، وفي المسألة التي حاول بها إثبات كون هذه الشريعة أمية، وسنبين ذلك في التفصيل الآتي.