المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المنار ومجلة مشيخة الأزهرالمقال الخامسالبهيتة الأولى: إنكار الملائكة - مجلة المنار - جـ ٣٢

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (32)

- ‌جمادى الآخرة - 1350ه

- ‌فاتحة المجلد الثاني والثلاثين

- ‌تصدير التاريخ

- ‌خلاصة الخلاصةفي وجوب الجمع بين التجديدين الديني والمدني

- ‌فتاوى المنار

- ‌التجديد والتجدد والمجددون

- ‌المناظرة بين أهل السنة والشيعة

- ‌مصابنا بالوالدة رحمها الله تعالى

- ‌كلمة في مقالات إلحاد في الدين

- ‌نعي السيد الجليلالسيد محمد بن عقيل تغمده الله برحمته

- ‌شوال - 1350ه

- ‌المنار وتفسيره

- ‌خاتمة تاريخ الأستاذ الإمامفيما يجب له على الأمة

- ‌أسئلة من بيروت

- ‌الصلاة إلى القبوروقبة فيها قبور تُعتقد وتُعظَّم تدينًا

- ‌دعوى بعض مشايخ الطرقالتلقي عن النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌هداية القرآن [*]

- ‌تفسير المنارتقريظ ونقد

- ‌غاندي يشهد للإسلامومحمد عليه الصلاة والسلام

- ‌تاريخ الأستاذ الإمام

- ‌المناظرة بين أهل السنة والشيعة

- ‌ذو القعدة - 1350ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌أنباء العالم الإسلامي

- ‌المؤتمر الإسلامي العام في بيت المقدس(2)

- ‌الرابطة الإسلامية الدولية

- ‌أذان إبراهيم الخليل بالحجودعاؤه لأهل الحرم بالرزق

- ‌مجلة الأزهر والأستاذ المراغي

- ‌التجديد والتجدد والمجددون

- ‌ذو الحجة - 1350ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌ذكرى يوم النبي صلى الله عليه وسلمأو المولد النبوي

- ‌المؤتمر الإسلامي العام في بيت المقدس(3)

- ‌جمعية المطالبة بأوقاف الحرمين الشريفين

- ‌إصلاح عظيم في وزارة المعارف

- ‌تقريظ المطبوعات الحديثة

- ‌تتمة ترجمة السيد محمد بن عقيل(2)

- ‌الشيخ مصطفى نجامفتي بيروت

- ‌عبد الحميد بك الرافعي

- ‌المحرم - 1351ه

- ‌صفر - 1351ه

- ‌العقيدة السلفية والأستاذ الدجوي

- ‌الخطر على الإسلامبسيطرة الإنكليز على الحجاز

- ‌وفيات الأعيان

- ‌ربيع الأول - 1351ه

- ‌الشعر التاريخي

- ‌أنا والأديب الشنقيطي

- ‌جمعية علماء المسلمين في الجزائر

- ‌المؤتمر الإسلامي العاملجنته التنفيذية ومكتبها

- ‌لجنة بحث موضوع البغاء الرسمي

- ‌جمادى الأولى - 1351ه

- ‌أكل لحم الخنزيرهل يشمل شحمه وكل ما يؤكل منه

- ‌الوجود والمادة والقوة والخالق عز وجل

- ‌ذكرى صلاح الدين ومعركة حطين [

- ‌محمد حافظ بك إبراهيمشاعر مصر الاجتماعي

- ‌خطاب حافظ للأستاذ الإمامفي رفع كتاب البؤساء إليه

- ‌فتنة الحجازوالقضاء على فئة ابن رفادة

- ‌جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية

- ‌نداء جمعية الهداية الإسلامية في دمشق

- ‌افتراء مجلة مشيخة الأزهر عليناوهجوها وهُجرها فينا

- ‌كلمتان كتبتهما لشابين من إخواننا المغاربة

- ‌جمادى الآخرة - 1351ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌عدد المسلمين في أنحاء العالم

- ‌الشيخ محمد توفيق البكري الصديقي

- ‌أحمد شوقي بك أمير الشعراء

- ‌رمضان - 1351ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌نموذج من كتاب الإنجيل والصليب

- ‌المنار ومجلة مشيخة الأزهرالمقال الخامسالبُهيتة الأولى: إنكار الملائكة

- ‌خاتمة المجلد الثاني والثلاثين من المنار

الفصل: ‌المنار ومجلة مشيخة الأزهرالمقال الخامسالبهيتة الأولى: إنكار الملائكة

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المنار ومجلة مشيخة الأزهر

المقال الخامس

البُهيتة الأولى: إنكار الملائكة

زعمت مجلة مشيخة الأزهر أن صاحب المنار (قرر أن الملائكة عبارة عن

القوى الطبيعية) واحتجت عليه (بالحوار بينها وبين الله تعالى) وبقوله تعالى:

{وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} (النساء: 136) .

فهل يريد محرر هذه المقالة بما بهتنا به أن يعتقد قراؤها الذين أنشئت

لإرشادهم بلسان هذا المعهد الإسلامي العظيم أن صاحب المنار لا يؤمن بالملائكة،

وهو الذي أنشأ مجلته منذ خمس وثلاثين سنة لدعاية الإسلام والدفاع عنه وتبرئته

من البدع والخرافات التي تصد عقلاء البشر عنه وتفتح لهم أبواب الطعن فيه وهو

المفسِّر للقرآن بالجمع بين المعقول والمنقول وتنزيهه عن الخرافات الإسرائيلية

وغيرها، وهو المتصدي للإفتاء العام في أصول الدين وفروعه حتى لقَّبه العلامة

الشهير الشيخ محمد محمود التركزي الشنقيطي بمفتي الآفاق، على رغم أنف كل

ذي حسد ونفاق، هل يريد أن يقول في هذا الرجل إنه ينكر أن لله ملائكة منهم

الروح الأمين مبلغ وحي الله لرسله، ومنهم حملة العرش، ومنهم ملك الموت

وأعوانه، ومنهم ملائكة الرحمة وملائكة العذاب والمدبرات لأمور الخلق بإذن الله.

من كان لا يؤمن بالملائكة فهو لا يؤمن بوحي الله إلى رسله، ولا يكون مسلمًا

ولا يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولا مليًّا وثنيًّا، فإن كان صاحب المنار من هذا الصنف

فلماذا سكت له على كفره هذا علماء الأزهر الأعلام وغيرهم من علماء الإسلام مدة

35 سنة، وهو يطالبهم في كل مجلد من مجلته كما يطالب جميع من يطلع عليها

بأن يكتبوا إليه بما يرونه باطلاً أو منتقدًا فيها مع بيان دليله لينشره لهم فيطلع عليه

سائر قرائه كيلا يضلوا بما ضل هو به؟ حتى إذا سخط عليه أحد محرري مجلة

المشيخة بانتقاده لبعض ما نشره فيها من تأييد البدع والخرافات، بتحريف الآيات

وتصحيح الموضوعات - أظهر للناس هذا الطعن انتقامًا لنفسه ولها، لا خدمة للدين،

ولا نصيحة للمسلمين، فهل كانوا عاجزين أو جاهلين، أم لا يهمهم أمر الدين؟

هذا ما نقوله من ناحية الالتزام العقلي، ونقفي عليه ببعض الشواهد الناطقة

بعقيدة الإيمان بالملائكة واتباعنا عقيدة السلف الصالح فيها، ويجب أن تكون هذه

الشواهد بعضها من كلامنا في التفسير وفي مجلة المنار، وبعضها من كلام الأستاذ

الإمام في تفسير المنار نفسه وفي تفسيره هو لجزء عم.

ذلك بأن شبهة المفتري في هذه المسألة هي عبارة للأستاذ الإمام قالها في درس

التفسير بالأزهر ونقلناها عنه في المجلد الخامس من المنار سنة 1320 فاستشكلها

بعض من سمعها منه وبلغوه ذلك فوضح مراده في درس آخر، لا يزال في علماء

الأزهر الذين حضروه من يذكره، وقد صرح به في مجلس الصلح أحد محرري

مجلة المشيخة، ثم كتب بيده إيضاحًا له نشرته في تفسير الجزء الأول معزوًّا إليه

رحمه الله مطبوعًا بحرف أكبر من الحرف الذي نطبع به التفسير.

فهذه مسألة فرغ منها منذ 31 سنة، ومن مقاصدها إثارتها الطعن في دين

الأستاذ الإمام وعلمه من وراء حجاب الطعن في صاحب المنار، مع العلم بأن

صاحب المنار إذا كتب فيها فلا بد له أن يعزوها إلى الأستاذ الإمام، فيرميه الطاعن

بأنه هو الذي أظهر كفر أستاذه للناس، وكان من حق الوفاء له عليه أن يقبل الطعن

على نفسه وحده؛ ولكنه قليل الوفاء، وقد كتب الطاعن مثل هذا في مسألة الطعن

علينا بإنكار وقوع السحر على النبي صلى الله عليه وسلم والمنكر له هو الأستاذ

الإمام في تفسيره لجزء عم لا في المنار وله سلف فيه من أئمة العلماء، وسيأتي

بيان ذلك في محله، وهاك الشواهد:

الشاهد الأول

إن أول موضع ذكرت فيه الملائكة من تفسير المنار لسورة البقرة هو قولي في

الإيمان بالغيب من تفسير الآية الثالثة ما نصه:

(الناس قسمان: مادي لا يؤمن إلا بالحسيات، وغير مادي يؤمن بما لا

يدركه الحس، أي بما غاب عن المشاعر متى أرشد إليه الدليل أو الوجدان السليم،

ولا شك أن الإيمان بالله وملائكته - وهي جنود غائبة لها مزايا وخواص يعلمها الله

سبحانه وتعالى وباليوم الآخر، إيمان بالغيب. اهـ من صفحة 127 من جزء

التفسير الأول) .

فهل هذا النص على أن الملائكة جنود لله تعالى من عالم الغيب لها مزايا

خاصة بها، يتفق هو والقول بأنهم عبارة عن القوى الطبيعية.

الشاهد الثاني

ذكرت في الكلام على الوحي من سياق إعجاز القرآن من تفسير سورة البقرة

أيضًا أن ملك الوحي يتمثل للأنبياء عليهم السلام واستشهدت عليه بآيات، ثم قلت:

(وأما تمثل الملك فكانوا يكتفون في إثباته بقولهم إنه ممكن في نفسه، وقد

أخبر به الصادق فوجب تصديقه، ونقول اليوم إن العلوم الكونية لم تُبق شيئًا من

أخبار الغيب غريبًا إلا وقربته إلى العقل، بل إلى الحس تقريبًا، بل ظهر من

الاختراعات المادية المشاهدة في هذا العصر ما كان يُعد عند الجماهير محالاً في

نظر العقل - لا غريبًا فقط - فإذا كان الإنسان الكيميائي يحلل الأجسام الكثيفة حتى

تصير غازات لا ترى من شدة لطفها، ويكثف العناصر اللطيفة فتكون كالجامدة

بطبعها، فكيف يستغرب تكثيف الملك لنفسه، وهو من الأرواح ذات المِرَّة والقوة

العظيمة، بأخذه من مواد العالم المنبثة فيه هيكلاً على صورة إنسان مثلاً؟ دع

مخترعات الكهرباء العجيبة التي لا يوجد شيء مما أخبر به الرسل من عالم الغيب

إلا وفيها نظير له يقربه من الحس لا من العقل وحده، وهل الكهرباء إلا قوة

مسخرة للملائكة اهـ. ويليه كلام في أرواح البشر وقول الإمام مالك فيها (راجع

ص220 من جزء التفسير الأول أيضًا) فهل معنى هذا أن الملائكة من القوى

الطبيعية؟

الشاهد الثالث

قلت في الكلام على الملائكة من تفسير آية البر ما نصه: إن الإيمان بالملائكة

أصل الإيمان بالوحي؛ لأن ملك الوحي روح عاقل عالم يفيض العلم بإذن الله على

روح النبي صلى الله عليه وسلم بما هو موضوع الدين، ولذلك قدَّم ذكر الملائكة

على ذكر الكتاب والنبيين، فهم الذين يؤتون النبيين الكتاب {تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ

وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} (القدر: 4) {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *

عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 193-195)

فيلزم من إنكار الملائكة إنكار الوحي والنبوة، إلى أن قلت: والملائكة خلق

روحاني عاقل قائم بنفسه، وهم من عالم الغيب فلا نبحث عن حقيقتهم كما تقدم غير

مرة اهـ (صفحة 123 و 124 من جزء التفسير الثاني) فهل معنى هذا أن

الملائكة قوى طبيعية؟

الشاهد الرابع

قلت في تفسير آية النساء {وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} (النساء:

136) الآية التي أوردها عليّ ما نصه (فالإيمان بالله هو الركن الأول، والإيمان

بجنس الملائكة الذين يحملون الوحي إلى الرسل هو الركن الثاني، والإيمان

بجنس الكتب التي نزل بها الملائكة على الرسل هو الركن الثالث، والإيمان

بجنس الرسل الذين بلغتهم الملائكة تلك الكتب فبلَّغوها للناس هو الركن الرابع

إلخ (راجع ص 459 ج 5 تفسير) فهل يمكن أن يكون المراد بالملائكة الذين

يحملون الوحي إلى الرسل عليهم السلام القوى الطبيعية.

الشاهد الخامس

كتبت في الصفحة 316 وما بعدها من جزء التفسير السابع في الكلام على

اقتراح المشركين إنزال ملك على النبي صلى الله عليه وسلم والرد عليهم في تفسير

الآيتين الثامنة والتاسعة من سورة الأنعام بحثًا طويلاً في عدم استعداد البشر لرؤية

الملائكة في صورهم الأصلية لقوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا

عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} (الأنعام: 9) أذكر من هذا البحث ما نصه:

(والمختار عندنا أن البشر في حالتهم العادية غير مستعدين لرؤية الملائكة

والجن في حالتهم التي خُلقوا عليها، كما قال تعالى في الشيطان: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ

وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} (الأعراف: 27) لا لأنهم لا يطيقونها لهولها، بل

لأن أبصار البشر لا تدرك كل الموجودات بل تدرك في عالمها هذا بعض الأجسام

كالماء، وما هو أكثف منه من الأجرام الملونة دون ما هو ألطف منه كالهواء، وما

هو ألطف منه كالعناصر البسيطة التي يتألف منها الماء والهواء، والملائكة والجن

من عالم آخر غيبي ألطف مما ذكر، وهذا العالم مما يعده المتكلمون في الفلسفة

وراء عالم المادة، وليس عند المتكلمين عالم غير مادي ولذلك يعدون الملائكة

والجن من الأجسام اللطيفة، ويقولون إنهم قادرون على التشكل في صور الأجسام

الكثيفة، فمثل تشكلهم كمثل تشكل الماء في صورة البخار اللطيف والبخار الكثيف

(كالسحاب) وصورة المائع السيَّال وصورة الثلج الجليد؛ ولكن الماء يتشكل بما

يطرأ عليه من حر وبرد بغير اختيار منه، وذانك يتشكلان باختيارهما إذ جعل الله

لهما سلطانًا على العناصر التي تتركب منها مادة العالم أقوى من سلطان البشر الذين

يتصرفون فيها بأيديهم لا بأنفسهم وماهياتهم، فهم لا يقدرون على تحليل أبدانهم

وتركيبها مع غيرها من المواد، فإذا تمثل الملك أو الجان في صورة كثيفة كصورة

البشر أو غيرهم أمكن للبشر أن يروه؛ ولكنهم لا يرونه على صورته وخلقته

الأصلية بحسب العادة وسنة الله في خلق عالمه وعالمهما، فإذا وقع ذلك كرؤية

النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل مرتين كان من خوارق العادات، والخوارق لا

تثبت إلا بنص؛ لأنها خلاف الأصل، على أن رؤيته بصورته لا ينافي التشكل،

إذ يجوز أن تكون مادة صورته اللطيفة التي لا ترى قد ظهرت بمادة كثيفة، فيكون

التشكل في هذه الحالة بمادة جديدة مع حفظ الصورة الأصلية، والتشكيل في غيرها

بالمادة والصورة معًا، وعلى أن لأرواح الأنبياء من التناسب مع أرواح الملائكة ما

ليس لغيرها، ففي الحال التي تغلب بها روحانيتهم على جثمانيتهم يكونون كالملائكة،

فيجوز أن يروهم بأي صورة وشكل تَجَلَّوا لهم فيه) اهـ.

الشاهد السادس

كتبت في ص 162 وما بعدها من جزء التفسير السابع بحثًا آخر في تشكل

الملائكة والجن في الصورة ورؤيتهم في هذه الحالة، وفيه إثبات رؤية النبي صلى

الله عليه وسلم لغير جبريل من الملائكة ورؤية بعض الشياطين.

الشاهد السابع

قلت في تفسير {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ

يَسْجُدُونَ} (الأعراف: 206) وهي آخر آية من سورة الأعراف ما نصه: أي

أن ملائكة الله المقربين الذين هم عنده كحملة عرشه والحافّين من حوله ومن شاء

تقدس وتعالى بهذه العندية الشريفة التي لا يعلمها سواه وهم أعلى مقامًا من الملائكة

الموكلين بالمخلوقات وتدبير نظامها لا يستكبرون عن عبادته

إلخ، فراجعه في

(ص 558 من جزء التفسير التاسع) .

ولو شئت أن أذكر جميع الشواهد من تفسير المنار على أن الملائكة خلق

روحاني مستقل قائم بنفسه، وأنهم أنواع أولو عبادات مختلفة وأعمال كثيرة لا

يحيط بها إلا خالقها، وأن الإيمان بها واجب، وإنكارها كفر لازب لمل القارئ لها.

وهذه الشواهد نصوص قاطعة في ذلك بدحض المفتري لهذه البهيتة التي أراد

بهتنا بها من إبهام المطلع على كلامه أننا ننكر حقيقة الملائكة ونجعلهم أعراضًا

لغيرهم، ونقفي عليها بدحض شبهات علينا من كلام الأستاذ الإمام يشتمل على

شواهد أخرى من كلامه وكلامنا أخرناها لمناسبتها لها.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 753

الكاتب: محمد رشيد رضا

المقال السادس

شبهة الطاعن المحرِّف في مسألة الملائكة

إن تفسيرنا للآيات الواردة في قصة آدم عليه السلام من سورة البقرة قد بلغت

53 صفحة من الجزء الأول من تفسير المنار (صفحة 231 إلى 284) وأكثره

لشيخنا الأستاذ الإمام قدَّس الله روحه، فانتزع طعان مجلة الأزهر منها عبارة واحدة

فرعية محكية جعلها أصل الموضوع وعقيدة لصاحب المنار في الملائكة بقول

الزور؛ وإنما هي حكاية حكاها الأستاذ الإمام عن بعض الناس ونقلها مؤلف التفسير

عنه، فلو كانت كفرًا لكانت من باب حاكي الكفر ليس بكافر فكيف بالحاكي عن

الحاكي، وإننا نلخص الموضوع في خمس مسائل بعبارة مختصرة يفهمها كل قارئ.

المسألة الأولى

إن آيات محاورات الملائكة للرب عز وجل في خلق آدم عليه السلام من

المتشابهات الواردة في شأن عالم الغيب، وإن لعلماء المسلمين في مثلها طريقتين:

(إحداهما) : طريقة السلف وهي التنزيه الذي أيَّد العقل فيه النقل

وتفويض الأمر إلى الله تعالى في فهم حقيقة ذلك مع العلم بأن الله يعلمنا بمضمون

كلامه ما نستفيد به في أخلاقنا وأعمالنا وأحوالنا ويأتينا في ذلك بما يقرِّب هذه

المعاني من عقولنا ومخيلاتنا.

(والثانية) : طريقة الخلف وهي التأويل، يقولون إن قواعد الدين الإسلامي

وُضعت على أساس العقل فلا يخرج شيء منها عن المعقول، فإذا جزم العقل

بشيء وورد في النقل خلافه يكون الحكم العقلي القاطع قرينة على أن النقل لا يُراد

به ظاهره ولا بد له من معنى موافق يحمل عليه فينبغي طلبه بالتأويل.

(قال الأستاذ) : وأنا على طريقة السلف في وجوب التسليم والتفويض فيما

يتعلق بالله وصفاته وعالم الغيب، وإننا نسير في فهم الآيات على كلتا الطريقتين

لأنه لا بد للكلام من فائدة يُحمل عليها؛ لأن الله عزوجل لم يخاطبنا بما لا نستفيد له

معنى.

هذه عبارة الأستاذ الإمام التي أوردتها في ص 42 من مجلد المنار الخامس،

ثم في ص 252 من جزء التفسير الأول، ثم زدت عليها قولي:

(وأقول) أنا مؤلف هذا التفسير: إنني ولله الحمد على طريقة السلف وهديهم

عليها أحيا وعليها أموت إن شاء الله تعالى؛ وإنما أذكر من كلام شيخنا وغيره ومن

تلقاء نفسي بعض التأويلات لما ثبت عندي باختباري للناس أن ما انتشر في الأمة

من نظريات الفلاسفة ومذاهب المبتدعة المتقدمين والمتأخرين جعل قبول مذهب

السلف واعتقاده يتوقف في الغالب على تلقيه من الصغر بالبيان الصحيح وتخطئة ما

يخالفه، أو طول ممارسة الرد عليهم.

ثم وضحت هذه المسألة في صفحة 253 برمتها، فبيَّنت فيها للقارئ المؤمن

أن الخير له أن يطمئن بمذهب السلف ولا يحفل بغيره، فإن لم يطمئن قلبه إلا

بتأويل يرضاه أسلوب اللغة العربية فلا حرج عليه باتفاق أهل السنة سلفهم وخلفهم.

***

المسألة الثانية مذهب السلف في الملائكة

قال الأستاذ الإمام: أما الملائكة فيقول السلف فيهم أنهم خلق أخبرنا الله تعالى

بوجودهم وببعض عملهم، فيجب علينا الإيمان بهم، ولا يتوقف ذلك على معرفة

حقيقتهم، فنفوض علمها إلى الله تعالى، فإذا ورد أن لهم أجنحة نؤمن بذلك؛ ولكننا

نقول إنها ليست أجنحة من الريش ونحوه كأجنحة الطير إذ لو كانت كذلك لرأيناها،

وإذا ورد أنهم موكلون بالعوالم الجسمانية كالنبات والبحار؛ فإننا نستدل بذلك على

أن في الكون عالمًا آخر ألطف من هذا العالم المحسوس، وأن له علاقة بنظامه

وأحكامه، والعقل لا يحكم باستحالة هذا، بل يحكم بإمكانه لذاته ويحكم بصدق

الوحي الذي أخبر به. اهـ من الصفحة 254ج أول تفسير، فهل يتفق هذا مع زعم

مجلة الأزهر أننا نقول إن الملائكة عبارة عن القوى الطبعية؟

ثم تكلم فيمن بحثوا في جوهر الملائكة، وقفى عليه ببيان فوائد الخطاب بينهم

وبين الله تعالى وهي أربع تُراجع في ص 254 و255 منه، وقفى على هذا

بطريقة الخلف، ومن تكلم منهم في حقيقة الملائكة وكون قصة آدم على طريقتهم

(وردت مورد التمثيل لتقرب من أفهام الخلق ما تفيدهم معرفته من حال النشأة الآدمية

وما لها من المكانة والخصوصية) .

***

المسألة الثالثة أنواع الملائكة

قال رحمه الله: نطق الوحي ودل العيان والاختبار على أن الله تعالى خلق

العالم أنواعًا مختلفة، وخصَّ كل نوع غير نوع الإنسان بشيء محدود معين لا

يتعداه، فأما ما لا نعرفه إلا من طريق الوحي كالملائكة فقد ورد في الآيات

والأحاديث ما يدل على أن وظائفه محدودة، قال تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ

لَا يَفْتُرُونَ} (الأنبياء: 20){وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ} (الصافات: 165-166){وَالصَّافَّاتِ صَفاًّ * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً} (الصافات:

1-

2)

إلخ {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً *

فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} (النازعات: 1-5) على قول من قال: إن

المراد بها الملائكة، إلى غير ذلك مما يدل على أنهم طوائف لكل طائفة وظيفة

محدودة، وورد في الأحاديث أن منهم الساجد دائمًا والراكع دائمًا إلى يوم القيامة

اهـ (من ص 259 منه) أفلا يُعَد هذا نصًّا صريحًا في افتراء مجلة الأزهر علينا

بأننا نقول: إن الملائكة عبارة عن القوى الطبعية.

***

المسألة الرابعة في الملائكة والشياطين والخواطر

قال الأستاذ الإمام في الملائكة والشياطين ما نقلته عنه في الصفحة 266 وما

بعدها من جزء التفسير الأول ملخصًا (والعبارة لي) : تقدم أن الملائكة خلق غيبي

لا نعرف حقيقته؛ وإنما نؤمن به بإخبار الله تعالى الذي نقف عنده ولا نزيد عليه،

وتقدم أن القرآن ناطق بأن الملائكة أصناف لكل صنف وظيفة وعمل، ونقول الآن

إن إلهام الخير والوسوسة بالشر مما جاء في لسان صاحب الوحي صلى الله عليه

وسلم، وقد أُسنِدا إلى هذه العوالم الغيبية، وخواطر الخير التي تسمى إلهامًا،

وخواطر الشر التي تسمى وسوسة - كل منهما محله الروح، فالملائكة والشياطين إذًا

أرواح تتصل بأرواح الناس، فلا يصح أن نمثل الملائكة بالتماثيل الجثمانية المعروفة

لنا (لأن هذه [1] لو اتصلت بأرواحنا؛ فإنما تتصل بها من طرق أجسامنا، ونحن

لا نحس بشيء يتصل بأبداننا لا عند الوسوسة، ولا عند الشعور بداعي الخير من

النفس، فإذًا هي من عالم غير عالم الأبدان قطعًا) والواجب على المسلم في مثل

هذه الآية الإيمان بمضمونها مع التفويض أو الحمل على أنها حكاية تمثيل، ثم

الاعتبار بها بالنظر في الحِكَم التي سيقت لها القصة.

(وأقول) : إن إسناد الوسوسة إلى الشياطين معروف في الكتاب والسنة،

وأما إسناد إلهام الحق والخير إلى الملائكة فيؤخذ من خطاب الملائكة لمريم عليها

السلام، ومن حديث الشيخين في المُحَدَّثين وكون عمر منهم (والمحدثون بفتح الدال

وتشديدها الملهمون) ومن حديث الترمذي والنسائي وابن حبان وهو (إن للشيطان

لمة بابن آدم، وللملك لمة: فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة

الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله على

ذلك، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان، ثم قرأ {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ

وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ} (البقرة: 268) قال الترمذي: حسن غريب لا نعلمه مرفوعًا

إلا من حديث أبي الأحوص، والرواية (إيعاد) في الموضعين كما أن الآية من

الثلاثي في الموضعين، فما قالوه في التفرقة بين الوعد والإيعاد أغلبي فيما يظهر وإلا

فهو غير صحيح، واللمة بالفتح: الإلمام بالشيء والإصابة.

***

المسألة الخامسة وهي مثار شبهة مجلة الأزهر

جاء في صفحة 267 وما بعدها منه ما نصه:

قال الأستاذ: وذهب بعض المفسرين مذهبًا آخر في فهم معنى الملائكة، وهو

أن مجموع ما ورد في الملائكة من كونهم موكلين بالأعمال من إنماء نبات وخلقة

حيوان وحفظ إنسان وغير ذلك - فيه إيماء إلى الخاصة بما هو أدق من ظاهر

العبارة، وهو أن هذا النمو في النبات لم يكن إلا بروح خاص نفخه الله في البذرة

فكانت به هذه الحياة النباتية المخصوصة وكذلك يقال في الحيوان والانسان، فكل أمر

كلي قائم بنظام مخصوص تمت به الحكمة الإلهية في إيجاده؛ فإنما قوامه بروح إلهي

سُمي في لسان الشرع مَلَكًا، ومن لم يبال في التسمية بالتوقيف يسمي هذه المعاني

القوى الطبيعية إذ كان لا يُعرف من عالم الإمكان إلا ما هو طبيعة أو قوة يظهر أثرها

في الطبيعة، والأمر الثابت الذي لا نزاع فيه هو أن في باطن الخلقة أمرًا هو مناطها

، وبه قوامها ونظامها، لا يمكن لعاقل أن ينكره، وإن أنكر غير المؤمن بالوحي

تسميته ملكًا، وزعم أنه لا دليل على وجود الملائكة، أو أنكر بعض المؤمنين بالوحي

تسميته قوة طبيعية أو ناموسًا طبيعيًّا؛ لأن هذه الأسماء لم ترد في الشرع، فالحقيقة

واحدة والعاقل من لا تحجبه الأسماء عن المسميات [وإن كان المؤمن بالغيب يرى

للأرواح وجودًا لا يدرك كنهه، والذي لا يؤمن بالغيب يقول لا أعرف الروح، ولكن

أعرف قوة لا أفهم حقيقتها، ولا يعلم إلا الله علام يختلف الناس، وكل يقر بوجود

شيء غير ما يرى ويحس ويعترف بأنه لا يفهمه حق الفهم، ولا يصل بعقله إلى

إدراك كنهه، وماذا على هذا الذي يزعم أنه لا يؤمن بالغيب وقد اعترف بما غيب

عنه لو قال أصدق بغيب أعرف أثره وإن كنت لا أقدِّر قدره، فيتفق مع المؤمنين

بالغيب، ويفهم بذلك ما يرد على لسان صاحب الوحي، ويحظى بما يحظى به

المؤمنين؟] اهـ ما قاله الأستاذ الإمام في المسألة وهو محل التهمة، وهذه العبارة

التي بين العلامتين هكذا [] قد كتبها بقلمه كالتي قبلها.

***

خلاصة ما تقدم من الرد على هذه البهيتة

(1)

إن عقيدتنا وعقيدة شيخنا الأستاذ الإمام في الملائكة هي عقيدة سلف

الأمة الصالح، وهي أنهم من عالم الغيب الذي نؤمن بكل ما جاء في كتاب الله،

وثبت عن رسوله صلى الله عليه وسلم من أخباره، من غير تأويل ولا زيادة ولا

نقصان ولا رأي ولا قياس، وقد أكثرنا من الشواهد على هذه العقيدة، وخلاصتها

أن الملائكة من عالم الأرواح العاقلة المستقلة، وأنهم أنواع لكل منها وظائف

وأعمال خاصة به لا نبحث عن حقيقتها بآرائنا.

(2)

إن علماء الكلام ومن تبعهم من المفسرين والفقهاء يتأولون أكثر أخبار

الغيب من صفات الله وأسمائه ومنها بعض ما ورد في الملائكة.

(3)

اتفاق علماء السلف والخلف في الأمة على تأويل شيئًا منها تأولاً مبتدعًا

لا ينقض شيئًا من أمور الدين القطعية المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة

وهو مذعن للأمر والنهي يكون معذورًا في تأوله فلا يحكم بكفره.

(4)

إننا نقلنا عن أستاذنا في تفسير قصة آدم أن بعض المفسرين من علماء

الخلف المتأولين ذهب إلى أن مجموع ما ورد في نوع الملائكة الموكلين بالأعمال

(من إنماء نبات وخلقة حيوان وحفظ إنسان وغير ذلك لا في كل أنواع الملائكة فيه

إيماء إلى الخاصة بما هو أدق من ظاهر العبارة) وخلاصة هذا الايماء أن الروح

الإلهي الذي قام به نظام هذه الأعمال هو أمر وجودي خفي لا ندرك حقيقته، وأن

المعنى الإيمائي - لا المطابقي لمعنى النصوص - يتفق مع قول الذين يثبتون هذا

الروح الخفي من المنكرين للوحي وعالم الغيب، ويعبرون عنه بالقوى الطبيعية في

الأشياء؛ لأنهم إذا سئلوا عن حقيقة هذه القوى يعترفون بأنهم لا يعرفونها، وبهذا

يكون الخلاف في التسمية، فالمؤمنون بالوحي يسمون ما به نظام هذه المخلوقات

بالملائكة، ومن لا يؤمنون بالوحي يسمونها القوى الطبيعية، والجامع بين

التسميتين أن ذلك أمر يعرف بأثره ولا تعرف حقيقته.

فالأستاذ يحكي هذا عن بعض المفسرين وأنهم قالوه من باب الإيماء والإشارة لا

من باب التفسير للنص أو الظاهر من العبارة. وصرح بأن غرضه منه أن من يميل

إليها ويطمئن إليها قلبه لا يكون كافرًا خارجًا من هذه الملة السمحة، فهو لم يكن

موافقًا لهم على هذا الإيماء بل لم يكن موافقًا لهم على ما قالوه من أن هذا النوع من

الملائكة هم المراد بمثل قوله تعالى: ( {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} (النازعات: 1)

إلى قوله: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} (النازعات: 5) فإنه فسر هذه الأشياء في سورتها

بالكواكب لا بالملائكة.

(5)

إن محرر مجلة مشيخة الأزهر والعضو في هيئة كبار علمائه يرى هذا

كله ثم ينشر في هذه المجلة أن الشيخ رشيد رضا قد قرر في مجلته وتفسيره أن

الملائكة في جملتهم عبارة عن القوى الطبيعية واحتج عليه بحوار الملائكة لربهم في

خلق آدم عليه السلام وبآيات أخرى، ليفهم قراء هذه المجلة التي رزئ بها الاسلام

أن صاحب المنار ينكر أن يكون لله ملائكة غير هذه القوى الطبيعية.

فإن كان هذا العلامة لم يفهم مما ذكر كله على جلائه ووضوحه وتكراره

والتكرار يعلم

(ما نستهجن ذكره ولا يجوز تغيير الأمثال) ويؤثر في الأحجار،

كما قال الشاعر:

أما ترى الحبل بتكراره

في الصخرة الماء قد أثرا

أقول: إذا كان لم يفهم من هذا كله أن صاحب المنار ناقل عن ناقل عن بعض

المفسرين المتأولين المخالفين لاعتقادهما الثابت بما تقدم من الشواهد الصريحة

وغيرها، فصرح لعدم فهمه وتمييزه بين المنقول للتقريب، والمقول المعتقد مع

التأكيد، بان صاحب المنار هو الذي يعتقد لما نقله عمن نقله عن غيره، دون ما

صرح بأنه اعتقاده الذي يدين الله به - فكيف يوثق بعلمه وفهمه ويجعل مدرسًا في

الأزهر ومحررًا في مجلته؟ وإن كان قد فهم هذا كله وتعمد تحريف الكلم عن

مواضعه، وافتراء الكذب على صاحب المنار بالطعن في عقيدته، انتقامًا لنفسه، بعد

أن بين صاحب المنار في مجلته خطأه وجهله بتصحيح بعض الأحاديث التي صرح أو

سع الحفاظ علمًا بالجرح والتعديل بوضعها، وعدم تمييزه بين دعاء العبادة الخاص

بإله العباد وربهم والاستغاثة به فيما لا يقدر عليه خلقة، وبين دعاء العادة واستغاثة

الناس بعضهم ببعض في الأمور الكسبية، وعدم تمييزه بين السنة والبدعة. أقول:

إن كان قد فهم هذا كله واستباح معه هذا الانتقام بالتحريف والافتراء والبهتان فكيف

يوثق بدينه وبنقله، وبأمانته على العلم، ورحم الله الشاعر الذي قال:

إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة

وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

يجب على الأمة أن تسأل شيخ الأزهر عن هذا فإن لم يجبها كما امتنع إلى

الآن عن الإذن لإدارة المجلة بنشر ما أرسلناه إليها من الرد على هذا البهتان،

ليرجعوا إلى بسط شكواهم إلى السلطة العليا المسيطرة على مشيخة الأزهر لعلها

تنصفهم منه وأختم هذا بأنني قد رددت في المنار على من قال بمثل ما نقله الأستاذ

الإمام عن بعض المفسرين أو قريب منه وهو تسمية بعض القوى الطبيعية بالملائكة

تأكيدًا لفضيحة المفتري ومجلة الأزهر.

***

رد المنار

على من زعم أن بعض العوالم الطبيعية وقواها

من الملائكة

إن المنار كان ولا يزال بالمرصاد لمتأولي نصوص الكتاب والسنة بما يخرجها

عما فهمه الصدر الأول، وقد قال الدكتور محمد توفيق صدقي في كتابه (دروس سنن

الكائنات) إن كلمة مَلَك أصلها مألك ومعناها الرسالة، فهي تطلق على كل رسول مما

يرسله الله إلى هذا العالم من المادة أو قواها فما يرسله منها يصح أن يسمى ملكًا بلا

نزاع فالريح تسمى ملكًا أو رسولاً من الله ولذلك قال تعالى في الرياح {وَالْمُرْسَلاتِ

عُرْفاً} (المرسلات: 1) إلخ، وإن أنواع المكروبات الخفية المؤثرة في تغيير

بعض الأشياء وتحولها وفي الأمراض كلها من قبيل الملائكة والجن.

وقد نشرت له هذا في ص 603 من مجلد الثامن عشر وعلقت عليه في

الحاشية بالرد الآتي.

(المنار)

ما قاله الكاتب في هذا البحث ضعيف لغة وشرعًا، إلا أنه مذهب له واصطلاح

خالف فيه الناس كما قال، ولكن له فائدة لا جلها أجزنا نشره، وهي أن المغرورين

بما أصابوا من علم البشر القليل بشئون الكون يتوهمون أنهم بذلك القليل من القليل قد

أحاطوا علمًا بهذا العالم العظيم وبخالقه أيضًا، وإن ما لا ينطبق على علمهم لا يكون

صحيحًا وإن كان ممكنًا في نفسه. فمثل هذه التأويلات تقطع ألسنة هؤلاء الواهمين

المغرورين دون الاعتراض على النصوص، أو تزيل شبهاتهم فلا يصعب عليهم بين

علمهم وبين الدين، ولا يكون أحدهم متدينًا مؤولاً، خير من أن يكون زنديقًا أو

معطلاً.

أما بيان ضعف ما ذكر لغة فلأن الألفاظ التي صارت حقيقة شرعية أو عرفية

لا يجوز أن يدخل في مفهومها كل ما يناسب الأصل الذي اشتقت منه، وأما ضعفه

شرعًا فهو أظهر، والملائكة من عالم الغيب الذي يجب على كل مؤمن الايمان به

كما ورد في خبر الوحي من غير تأويل ولا تحريف، ويكفي في ذلك كونه ممكنًا

عقلاً، والايمان بالملائكة هو الركن الثاني من أركان الإيمان والأول هو الإيمان

بالله تعالى فهل يدخل في مفهومه هذه الميكروبات التي يصفها هؤلاء الكتاب بالدنيئة

الحقيرة؟ كلا، وأما إدخالها في مفهوم كلمة الجن فليس ببعيد لغة ولا ممنوع شرعًا

فقد ورد أن الجن أنواع ومنه ما هو خشاش الأرض، ولا مانع في العقل ولا العلم

من كون بعض عوالم الغيب من الملائكة موكلاً ببعض شؤون الكون وسببًا له،

وتفصيل هذا البحث لا تتسع له هذه الحاشية. اهـ.

***

شبهة لفظية يظنها الجاهل علمية

نشرنا في صفحة 255 من مجلد المنار الخامس سنة 1320 تحت عنوان

الملائكة والنواميس الطبيعية ما نصه:

سأل سائل: إذا كانت الملائكة هي عبارة عن القوى المعنوية، والنواميس

التي بها نظام العوالم الحية، فما معنى {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفاًّ} (النبأ:

38) وأمثاله؟ والجواب: أن الذي تقدم في التفسير هو أن الملائكة عالم مستقل

مستتر عنا، وإنما كان ذكر القوى والنواميس الطبيعية جذبًا لمنكري الملائكة إلى

التصديق لأن بعض ما ورد يوافق ما يعتقدون فكيف يكفرون لاختلاف الألفاظ؟ لا

أن الكلام كان إرجاعًا لنصوص الدين إلى أقوالهم. اهـ.

وأقول الآن: إن هذه الشبهة التي عرضت لبعض الناس منذ 31 سنة وكشفنا له

خطأه فيها فعقله ورضيه هي التي يقولها الشيخ يوسف الدجوي حتى اليوم يقول:

إن التأويل الذي ذكر في تفسير المنار هو صريح في إرجاع نصوص الدين إلى

أقوال علماء الطبيعة، لا إرجاعهم هم إلى نصوص الدين، فهل يقول هذا بعد كل

ما تقدم رجل يعقل أو يفهم ما يسمع وما يقرأ له؟

بلغني أنه بنى على هذه الجملة في هذه الشبهة مقالاً طويلاً استدل فيه بها على

تأييد بهيتته الأولى بالرغم من كل ما تقدم، وهي إننا نعتقد أن جميع الملائكة قوى

طبعية وأننا نريد بذلك رد نصوص الدين إلى عقائد الطبعيين، وأراد نشرها في

مجلة المشيخة فمنع شيخ الأزهر المجلة من نشرها لما فيها من تسجيل فضيحة

المجلة وفضيحة الدجوي. وقد تعلق الدجوي من هذه الجملة بالإبهام والإجمال بكلمة

(لأن بعض ما ورد يوافق ما يعتقدون) أي ما يعتقد المنكرون لوجود الملائكة فأراد

أن يهدم بها جميع تلك النصوص الصريحة المفصلة المبينة التي كتب أكثرها

بعدها! ! لأن مبلغ الدجوي وأمثاله من العلم محصور في التشكيك والمناقشات في

العبارات الجزئية، دون تحقيق أصل الموضوع في المسائل العلمية كما تقدم.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

هذا التعليل كتبه شيخنا بقلمه بعد نشر هذا التفسير في المنار وقبل طبعه على حدته.

ص: 758

الكاتب: محمد رشيد رضا

المقال السابع

البُهيتة الثانية: إنكار الجن

هذه أخت التي قبلها، والكلام فيها متمم لما قبله ومشترك معه في بعض

شواهده كما تقدم في خاتمة المقالة السابقة، ولهذا قدمناها على مسألة الشمس.

قال في مجلة الأزهر بعد مسألة الملائكة (ومثل ذلك ما قرره في المكروبات

عند ذكر الجن في القرآن، وليت شعري هل هذه المكروبات الجنية هي التي كانت

تعمل لسليمان ما يشاء من محاريب وتماثيل وقدور راسيات؟ وهل هي التي قال

عفريت منها لسليمان عليه السلام] أَنَا آتِيكَ بِهِ [بعرش بلقيس {قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن

مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} (النمل: 39) ؟ وهل هي التي قالت لقومها: {إِنَّا

سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ

مُّسْتَقِيمٍ} (الأحقاف: 30) إلخ. اهـ بنصه وقد أعاد هذه المسألة في غير

المجلة.

يوهم محرر مجلة مشيخة الأزهر من ابتلاهم الله بقراءتها أن صاحب المنار

يقول أن الجن الذين أخبرالله بهم في كتابه عبارة عن هذه المكروبات التي كشف

الأطباء أمرها في القرن الماضي، وأنه ما ثم شيء يطلق عليه هذا الاسم واسم

العفاريت والشياطين غيرهم. وهذا افتراء وبهتان كالذي قبله سواء.

الجن خلق خفي مستتر من عالم الغيب أثبتتهم جميع الأديان وطريقتنا فيهم هي

وجوب الإيمان بكل ما أخبر الله تعالى من أمرهم في كتابه وبكل ما صح عن رسوله

صلى الله عليه وسلم لمن علم به وليس منه شيء قطعي يدخل في العقيدة، ولا نزيد

على ما ثبت عندنا من خبر المعصوم شيئًا.

وقد ورد ذكر الجن والشياطين وإبليس في مواضع كثيرة من أجزاء تفسيرنا

العشرة وفي مواضع كثيرة من مجلة المنار فأثبتنا في كل موضع من التفسير ما

أثبته الكتاب العزيز بما يقربه إلى العقل ورددنا على المنكرين والمتأولين لما هو

المتبادر من النصوص.

ولو أردنا إيراد الشواهد منها كالشواهد في الملائكة لطال الكلام فيما لا فائدة من

نشره في الجرائد اليومية وإنما نشير إلى بعض مواضعها لمن يريد مراجعتها،

ونكتفي منها بما نثبت به أن محرر مجلة مشيخة الأزهر وعضو هيئة كبار العلماء

فيه بين أمرين لا ثالث لهما: إما أنه لا يفهم ما يُقرأ له ولا يعقله مهما تكن درجة

وضوحه وتكراره!! وإما أنه يتعمد الكذب والبهتان والخيانة في النقل والعزو انتقامًا

لنفسه لا خدمة للعلم والدين. لتعلم الأمة أن العلم الصحيح لا يكون بالألقاب الرسمية،

ولا بمجرد الشهادات المدرسية. وقد بينا في المنار وفي تاريخ الأستاذ الإمام ما كان

من قيمة شهادات العالمية في الأزهر وما كان من المحاباة والرشوة فيها قبل الإصلاح

الذي وضع قواعده ذلك المصلح العظيم، على أن الإصلاح لم يشفِ العلل كلها كما

يعلم أهل الأزهر أكثر من غيرهم. ومن شاء الوقوف على هذه الحقائق فليقرأ المقصد

الثاني من الفصل السادس من تاريخ الأستاذ الإمام من صفحة 425 484 باكيًا على

العلم والدين.

بعض الشواهد في مسألة الجن والشياطين

(1)

جاء في تفسير {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَاّ إِبْلِيسَ} (البقرة: 34) من جزء التفسير الأول ص 265 ما نصه ملخصًا من درس الأستاذ

الإمام: (أي سجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس وهو فرد من أفراد الملائكة كما يفهم

من هذه السورة وأمثالها في القصة إلا آية الكهف فإنها ناطقة بأنه كان من الجن

{فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} (الكهف: 50) وليس عندنا دليل على أن بين الملائكة

والجن فصلاً جوهريًّا يميز أحدهما عن الآخر، وإنما هو اختلاف أصناف عندما

تختلف أوصاف كما ترشد إليه الآيات، فالظاهر أن الجن صنف من الملائكة، وقد

أطلق في القرآن لفظ الجنة على الملائكة على رأي جمهور المفسرين في قوله تعالى:

{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِنَّةِ نَسَباً} (الصافات: 158) وعلى الشياطين في

آخر سورة الناس.

(2)

زاد الأستاذ الإمام هنا بعد نشر تفسير هذه الآيات في المنار سنة 1320

ما نصه بخطه: (وعلى كل حال فجميع هؤلاء المسميات بهذه الأسماء من عالم

الغيب لا نعلم حقائقها ولا نبحث عنها، ولا نقول بنسبة شيء إليها ما لم يرد فيه

نص قطعي عن المعصوم صلى الله عليه وسلم. اهـ.

فكان رحمه الله يرى أن تعريف الملائكة والجن بالحد المنطقي متعذر لأنهم من

عالم الغيب، وقد اشتركوا في اسم الجن المفيد لمعنى الخفاء والستر، والمعقول أن

يكون تعريفهم بالرسم وهو الصفات كالطاعة والعصمة للملائكة دون الجن، فهم في

الجنس الروحي الخفي كالأنبياء في البشر، والشياطين كأشرار البشر الظالمين

المجرمين الفاسقين، وسائر الجن كسائر البشر يتفاوتون في الصلاح والفساد مثلهم،

وللراغب الأصفهاني كلام كهذا في مفردات القرآن ذكرته في تفسير سورة الأعراف.

(2)

ما تقدم نقله عن الأستاذ الإمام في المسألة من بحث الملائكة وتعليقنا

عليه وهو مسألة إسناد الوسوسة إلى الشياطين والإلهام إلى الملائكة وما هو ببعيد.

(3)

ذكرت في صفحة 96 من الجزء الثاني من التفسير أن قوله تعالى:

{وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (البقرة: 168) لا يقتضي

معرفة ذات الشيطان وإنما يعرف بأثرة وهو وحي الشر وخواطر الباطل والسوء في

النفس التي يفسرها قوله تعالى {إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا

لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 169) وفصلنا ذلك تفصيلاً، وكذا تفسير هذه الجملة بعينها

من آية 207 من سورة البقرة أيضًا وهو في ص 257 من الجزء وفيه تفصيل آخر.

(4)

ذكرت في بحث إعاذة مريم وذريتها من الشيطان الرجيم من ص 29

ج3 حديث (كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها) وتفسير

البيضاوي للمس بالطمع في الإغواء، وقول الأستاذ الإمام أن الحديث من قبيل

التمثيل، وحديث إسلام شيطان النبي صلى الله عليه وسلم وما يرد على الموضوع

من قوله تعالى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} (الحجر: 42) ومشاغبة

دعاة النصرانية للمسلمين في تفضيل المسيح على نبينا وما يرد عليهم من إنجيل

مرقس في تجربة إبليس ليسوع المسيح أربعين يومًا لم يأكل فيها طعامًا مع تحقيق

المسألة. وهذا كله ينافي الافتراء علينا بأننا نقول: الجن والشياطين عبارة عن

الميكروبات فقط.

(5)

في الصفحات 425 - 430 من جزء التفسير الخامس تفسير لقوله تعالى

{إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلَاّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلَاّ شَيْطَاناً مَّرِيداً} (النساء: 117)

إلى الآية 119 بينت فيه نصيب الشيطان من الناس وإضلاله لهم واشتغالهم بالأماني

وما يأمرهم به في وسوسته، وحال من يتخذه وليًّا من دون الله، وهو في جملته

وتفصيله يدحض شبهة مجلة الأزهر وبهتانها.

(6)

في ص 65 ج66 تفسير لقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم} (الأنعام: 128) الآية، وفي أوله: وإنما يسمى كل من الجن والإنس معشرًا لأنهم

جماعة من عقلاء الخلق. وفي هذا البحث شبهنا تأثير الشياطين في النفس بتأثير

الميكروبات في الجسم بعد ذكر المنكرين لوجود الجن، وهذا نص عبارتنا:

فإن كل إنسي يوسوس له شياطين الجن بما يزين له الباطل والشر ويغريه

بالفسق والفجور كما تقدم مفصلاً، فإن هذا الخلق الخفي الذي هو من جنس الأرواح

البشرية يلابسها بقدر استعدادها للباطل والشر ويقوي فيها داعيتهما كما تلابس جنة

الحيوان الخفية الأجساد الحيوانية فتفسد عليها مزاجها وتوقعها في الأمراض

والأدواء، وقد مر على البشر ألوف من السنين وهم يجهلون طرق دخول هذه النسم

الحية في أجسادهم وتقوية الاستعداد للأمراض والأدواء فيها، بل إحداث الأمراض

الوبائية وغيرها بالفعل، حتى اكتشفها الأطباء في هذا العصر وعرفوا هذه الطرق

والمداخل الخفية بما استحدثوا من المناظير التي تكبر الصغير حتى يرى أكبر مما

هو عليه بألوف من الأضعاف ولو قيل لأكبر أطباء قدماء المصريين أو الهنود أو

اليونان أو العرب أن في الأرض أنواعًا من النسم الخفية تدخل الأجساد من خرطوم

البعوضة أو البرغوث أو القملة ومع الهواء والماء والطعام وتنمي فيها بسرعة

عجيبة فتكون ألوف الألوف وبكثرتها تتولد الأمراض والأوبئة القاتلة لقالوا إن هذا

القول من تخيلات المجانين، ولكن العجب لمن ينكر مثل هذا في الأرواح بعد

اكتشاف ذلك في الأجساد، وأمر الأرواح أخفى، فعدم وقوفهم على ما يلابسها ألوفًا

من السنين أولى. وقد روي في الآثار ما يدل على جنة الأجسام ولو صرح به قبل

اختراع هذه المناظير التي ترى بها لكان فتنة لكثير من الناس بما يزيدهم استبعادًا

لما جاء به الرسل من خبر الجن، ففي الحديث (تنكبوا الغبار فإن منه تكون النسمة)

والنسمة في اللغة كل ما فيه روح، وفسره ابن الأثير في الحديث بالنَّفَس بالتحريك

أي تواتره الذي يسمى الربو والنهيج وتبعه شارح القاموس وغيره، وهو تَجَوُّز لا

يؤيد الطب ما يدل عليه من الحصر. وروي عن عمرو بن العاص: اتقوا غبار

مصر فإنه يتحول في الصدر إلى نسمة. وهو بعيد عن تأويلهم وظاهر فيما يقوله

الأطباء اليوم وهو مأخوذ من الحديث الذي تأولوه، وعمرو من فصحاء قريش

جهابذة هذا اللسان. اهـ.

وذكرت في مواضع أخرى من المنار ما ورد من الآثار في أنواع الجن ومنها

حديث (خلق الله الجن ثلاثة أصناف: صنف حيات وعقارب وخشاش الأرض

وصنف كالريح في الهواء وصنف عليهم الحساب والعقاب) أخرجه ابن أبي الدنيا

والحكيم الترمذي وأبو الشيخ وابن مردويه. وفي معناه غيره.

(7)

في (ص328 - 372 جزء 8) بسط قصة آدم مع إبليس. وقد فصلت

في هذا البحث ما تقدم في سورة البقرة من كون الجن الروحاني جنسًا يشمل الملائكة.

وقلت: إن لفظ الجنة اللغوي يشمل الجن الروحاني والجن المادي التي تسمى

المكروبات 342 ثم فصلت هذا في تفسير قوله تعالى من هذا السياق {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ

وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} (الأعراف: 27) تفصيلاً موضحًا لهذا البحث يراجع

في (ص 264 - 371) ومنه يعلم مأخذ شبهة المفتري المحرف للكلم عن

مواضعه، ولا نطيل القول في هذا لأنه لا طائل تحته، وحسبنا ما ذكرنا دليلاً على

قلة اطلاع المفتري علينا وسوء فهمه وفساد نيته، وما سيأتي في المقال الآتي أقوى

دليلاً، وأقوم قيلاً.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

سبق ذلك في مواضع أشبهها بما هنا ما في (ص 508 - 515 ج 7) تفسير.

ص: 767

الكاتب: محمد رشيد رضا

المقال الثامن

البُهيتة الثالثة: ما سماه تكذيب سجود الشمس

هذه هي البهيتة الكبرى التي افترتها علينا مجلة مشيخة الأزهر وسمتها

(عظيمة العظائم) لتذكرنا من حيث لا يدري محررها بقوله تعالى فيما دونها من

الخوض في حيث الإفك {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ

وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} (النور: 15) وكل جريمة تصغر وتتضاءل

دون ما سماه (تكذيب الله ورسوله وتجهيلهما) وقد أكثر من إعادتها وتكرارها في

الجرائد حتى كدنا نظن أنه صدق نفسه في اختلاقها أو خدع الناس فصدقوها،

والكلام فيها من وجوه:

(1)

صيغة الفرية ومفهومها.

(2)

مأخذها من تحريف مقال لنا في نصر السنة ودحض الشبهات عليها قلبه

إلى ضده.

(3)

عبارتنا التي حرفها وزعم أنه نقلها بنصها وفصها.

(4)

عبارة المفتري المحرف بنصها.

(5)

رأي الأستاذ الإمام في أمثال هذا العالم.

(6)

جوابنا عن حديث الشمس.

(7)

أقوال العلماء المتقدمين في استشكاله والجواب عنه.

(1)

صيغة الفرية ومفهومها:

قال المحرر بعد افترائه علينا الإفتاء بحل صلاة التلاميذ المسلمين مع النصارى

بالكنيسة وقد أخرنا الكلام عليه ما نصه باختصار، ولكن بدون تصرف:

(بل وصل الأمر من اجتهاد مجتهدنا.... أن اجترأ على تكذيب رسول الله

صلى الله عليه وسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم عن أبي ذر من أن الشمس

تسجد تحت العرش وقال: إن الأنبياء لا تعرف هذه العلوم، ولو كان رشيدًا لم

يضق صدره بذلك ولوسعه إيمانه بالغيب، فإن لم يسعه إيمانه بالغيب، فكان ينبغي

أن يسعه علمه بسعة لغة العرب وكثرة مذاهب البيان فيها، فإن ضاق علمه كما

ضاق إيمانه فما كان ينبغي أن تضيق سياسته وهي التي وسعت الشرق والغرب.

وبيان ذلك أنه كان يستطيع أن يقرر في الحديث ما قرره العلماء في قوله تعالى

حكاية عن الأرض والسماء ( {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت: 11) .

ثم قال ما أذكره عملا بقول العلماء: حاكي الكفر ليس بكافر، وإنه لتقشعر منه

جلود المؤمنين:

(وكان ينبغي إذ لم يتسع صدره ولا إيمانه، ولا علمه لشيء من ذلك أن تتسع

سياسته لحسن المخرج منه بأية وسيلة غير تجهيل النبي صلى الله عليه وسلم ولو

أن يرمي البخاري أو غيره من رواة الحديث بالخطأ والكذب ولا يتعرض لرسول

الله، فقد كان تكذيبهم أهون من تكذيبه صلى الله عليه وسلم فما أضيق دينه وعلمه

وسياسته) اهـ بحروفه وما فيها من أدبه مع الرسول الأعظم الذي يدعي تعظيمه

و.. .!

وقد شعر خلافًا لطبعه بأن الذين ابتلاهم الله بقراءة مجلة الأزهر لا يصدقون

هذه الفرية فزعم أنه ينقل لهم عبارة صاحب المنار بنصها وفصها ولكنه نقل لهم

عبارة قصيرة مقتضبة منها كمن ينقل قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا

الصَّلاةَ} (النساء: 43) دون ما بعده من الآية. وستعلمون أيها المسلمون من

بياني لما نقله ولأصله ولما قررته في هذه المسألة أي الفريقين أضيق دينًا وعلمًا.. .

أصاحب المنار أم هذا العضو في هيئة كبار علماء الأزهر؟ وتعلمون درجة

صدق المشيخة في مجلتها ومقدار أمانتها على العلم والدين، وصدقها في إرشاد

المسلمين في جرأتها على ما تقدم وعلى قولها في آخر هذه المقالة نعوذ بالله منها ثم

من الشيطان الرجيم [1] :

(فالشيخ إذا مخطِّئ لله ورسوله، مكذب للقرآن والسنة، وإن شئت فقل مجهل

لهما!) نعم شعر بأن الناس يكذبونه ولكن لم يشعر بما يستلزمه هذا الطعن في كلام

كتب سنة 1327 في مجلة المنار أي منذ 23 عامًا من الطعن في علماء الأزهر في

سكوتهم عن الإنكار عليها وهي تخاطب علماء الإسلام وغيرهم في كل سنة بما

يجب عليهم من بيان ما يجدون فيها من خطأ، أفلا يلزم من سكوتهم هذا وقوع

الطعن عليهم في دينهم وعلمهم؟ بلى لو كانت المجلة صادقة، أما وهي مفترية

فإنما يقع ذلك على من أنكر الحق المعروف ونطق بالباطل والزور ومن أقره وهو

قادر على منعه.

يفهم كل من قرأ عبارة هذه المجلة أن صاحب المنار رأى في الصحيحين حديثًا

فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الشمس تسجد تحت العرش فاعتقد صحة

سنده أي عدالة رواته وصدقهم وسلامته من كل شذوذ وعلة، وإنما كذب خبر هذا

السجود فيه لأنه لم يكن عنده من العلم باللغة ولا من الإيمان بالغيب ولا.. و.. .

ما يحمله على تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه حقيقة ولا مجازًا وقد

رأيتم أدب هذه المجلة في التعبير عن هذا المعنى المفترى والبهتان الجريء.

(2)

مأخذ التهمة من مقال في تأييد السنة والدفاع عنها.

إنني ذكرت حديث أبي ذر في مسألة الشمس في المجلد الثاني عشر من المنار

في سياق الأحاديث المشكلة وطرق الحل لمشكلاتها من مقال طويل في تأييد السنة

كان حكمًا فاصلاً في مناظرة تلو مناظرة في أصل الإسلام أو أصوله، وفي النسخ

وأحاديث الآحاد هل هي من الدين أم لا؟ دارت هذه المناظرات في أثناء أربع

سنين فجعل البهَّات المفتري نصرنا للسنة ودفاعنا عنها تكذيبًا وكفرًا لصاحبها صلى

الله عليه وسلم ولكتاب الله الذي نطق بسجود كل شيء لله عزوجل، والعياذ بالله من

بهتان من لا يخاف الله.

ذلك أن البحاثة الشهير المرحوم الدكتور محمد توفيق صدقي كان كتب مقالاً

عنوانه (الإسلام هو القرآن وحده) وقد نشر في المجلد التاسع من المنار تحديًا

للعلماء ولا سيما علماء الأزهر أن يردوا عليه فكبر ذلك عليهم، وقال بعضهم

لبعض: إن صاحب المنار هو الذي يريد أن يجذبنا إلى المناظرة معه، وأمسكوا عن

الرد عليه، حتى جاءني من قال لي: إن فلانًا من العلماء يريد الرد على الدكتور إذا

كنت أنت لا ترد عليه، فقلت: وإني لا أرد عليه ولكنني قد أحكم في المناظرة أخيرًا

إذا احتيج إلى حكمي.

فرد العالم الذي أخبرني عنه على الدكتور بمقالين رد عليهما الدكتور أيضًا ثم

حكمت في المسألة حكمًا نشر في الجزء الأخير من المجلد التاسع، فكتب الدكتور

اعترافًا برجوعه عما أقنعته بأنه كان مخطئًا فيه. ونشرت خطابه هذا في صفحة

140 من مجلد المنار العاشر ثم كتب مقالاً آخر عنوانه: النسخ في الشرائع الإلهية

أنكر فيه وجود النسخ في القرآن مطلقًا وزعم أن السنة القولية (الأحاديث) قد نُسخ

بعضها بالقرآن وبعضها بالسنة ولم يبق منها شيء يجب العمل به غير موجود في

القرآن.

ونشرنا هذا المقال في الجزء التاسع من مجلد المنار العاشر وطالبنا العلماء

بالرد عليه بشرط التزام ما يليق بالعلماء من الأدب والنزاهة واحترام المناظر. فلم

يتصدَّ أحد من علماء الأزهر للرد عليه ولكن رد عليه العلامة الشيخ صالح اليافعي

من علماء الحضارمة المقيمين في حيدر آباد الدكن الهند بست مقالات نشرت في

ستة أجزاء من المجلد الثاني عشر من المنار وقد حكمني المتناظران فحكمت بينهما

بمقال أيدت به السنة وشرعية العمل بالأحاديث القولية بشرطه.

(3)

عبارتنا التي حرفها البهَّات المُفتري:

بينت في تلك المقالة مسألة (أحاديث الآحاد والدين) ثم مسألة (أحاديث الآحاد

تفيد العلم أو الظن) بما لم أعلم أن أحدًا سبقني إلى مثله في نصر السنة في التفرقة

بين اليقين اللغوي الشرعي، واليقين المنطقي الأصولي. وانتقلت من هذا إلى بحث

ما يوثق به وما لا يوثق به من الروايات، وما انتقده المحدثون من أحاديث الشيخين

البخاري ومسلم بجرح كثير من رواتهما وغلط بعض متونهما وذكرت بعض المتون

التي حكموا بالغلط فيها، ومنها حديث شريك عند البخاري في المعراج إذ صرح بأنه

رؤيا منامية وخالف غيره من رواة البخاري في مسائل أخرى فيه وحديث مسلم (خلق

الله التربة يوم السبت) إلخ، وحديث صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وثلاث سجودات

في كل ركعة وغير ذلك ثم قلت ما نصه:

وجملة القول في الصحيحين أن أكثر رواياتهما متفق عليها عند علماء الحديث

لا مجال للنزاع في متونها ولا في أسانيدها، والقليل منها مختلف فيه وما من إمام

من أئمة الفقه إلا وهو مخالف لكثير منها، فإذا جاز رد الرواية التي صح سندها في

صلاة الكسوف لمخالفتها لما جرى عليه العمل، وجاز رد رواية خلق الله التربة يوم

السبت إلخ لمخالفتها للآيات الناطقة بخلق السموات والأرض في ستة أيام وللروايات

الموافقة لذلك - فأولى وأظهر أن يجوز رد الروايات التي تُتخذ شبهة على القرآن

من حيث حفظه وضبطه وعد ضياع شيء منه (كالروايات في نسخ التلاوة)

ولا سيما لمن لم يجد لها تخريجًا يدفع الشبهة كالدكتور محمد توفيق صدقي وأمثاله

كثيرون ومثلها الرواية في سحر بعض اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم ردها الأستاذ

الإمام ولم يعجبه شيء مما قالوه في تأويلها لأن نفس النبي صلى الله عليه وسلم أعلى

وأقوى من أن يكون لمن دونه تأثير فيها، ولأنها مؤيدة لقول الكفار {وَقَالَ الظَّالِمُونَ

إِن تَتَّبِعُونَ إِلَاّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} (الفرقان: 8) وهو ما كذبهم الله فيه بقوله بعده:

{انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} (الإسراء: 48) .

ومثل هذا وذاك ما خالف الواقع المشاهد كرواية السؤال عن الشمس أين تذهب

بعد الغروب؟ والجواب بأنها تذهب فتسجد تحت العرش، وتستأذن الله تعالى

بالطلوع إلخ. وقد سَأَلَنا عنه بعض أهل العلم من تونس ولما نجب عنه لأننا لم نجد

جوابًا مقنعًا للمستقل في الفهم. فالشمس طالعة في كل وقت لا تغيب عن الأرض

طرفة عين كما هو معلوم بالمشاهدة علمًا قطعيًّا لا شبهة فيه، فإذا قلنا إنها يصدق

عليها مع ذلك أنها ساجدة تحت العرش لأنها خاضعة لمشيئة الله تعالى ولأن كل

مخلوق هو تحت عرش الرحمن، إذا قلنا هذا أو أنه تمثيل لخضوعها في طلوعها

وغروبها وهو أقرب، فهل ينطبق على السؤال والجواب انطباقًا ظاهرًا لا مراء فيه؟

اللهم لا.

(ولكن هذا النوع من الحديث على ندرته في الصحيح قد يُخرَّج بعضه على أنه

من باب الرأي في أمور العالم. والأنبياء لا تتوقف صحة دعوتهم ونبوتهم على العلم

بأمور المخلوقات على حقيقتها ولم يقل أئمة الدين إنهم معصومون فيها كما يدل عليه

الحديث الصحيح في تأبير النخل، ولكن يستثنى الأخبار عن عالم الغيب فهم

معصومون فيه) اهـ.

هذه هي عبارتنا بنصها وفصها التي استند إليها البهات المحرف في اتهامه إيانا

برد حديث عمر في رجم الشيخ والشيخة وأنه كان آية من القرآن ورد حديث سحر

اليهودي للنبي صلى الله عليه وسلم وحديث سجود الشمس وتكبيره للأمر بأنها

وردت في الصحيحين، ونحن إنما ذكرنا هذه الأحاديث وغيرها كحديث المعراج

وحديث صلاة الكسوف وحديث خلق السموات والأرض في سبعة أيام من باب

التمثيل للأحاديث المشكلة التي تتعلق بموضوع المناظرة التي حكمنا فيها بما بينا به

مزية الصحيحين وأن ما انتقده المحدثون والمتكلمون والفقهاء وردوه من أحاديثهما

قليل لا ينافي تفضيلهما على غيرهما، وقد ذكرناها بموضوعها لا بنصوصها بل

لم نذكر حديث عمر في الرجم مطلقًا؛ لأن المقام مقام التمثيل لما انتقده بعض

المتناظرين بالإجمال، ولم نذكرها لاستئناف انتقاد عليها أو استشكال لها من عند

أنفسنا، ولا لأجل الأجوبة عنها فإن هذا قد بيناه في مواضع أخرى من المنار

وتفسيره، ولكل مقام مقال، من تفصيل وإجمال، وهذا معهود في جميع الكتب،

فكيف ينكر مثله الصحف؟ ولكن باغي العنت بطرق المغالطة في الجدل، يجعل

حكاية خصمه لقولٍ مذهبًا له، وسكوته عن بيان شيء في غير موضع البيان حجة

عليه فيما بينه في موضعه مع تجاهله ذلك البيان، وياليت محرر مجلة الأزهر

يكتفي بمثل هذه المغالطة ولا يفتري عليه الكذب البواح ويرميه بالبهتان.

وقد صرحنا في ذكر حديث الشمس بأن وجه الإشكال فيه هو مخالفة الواقع

المشاهد له وهو كون الشمس طالعة دائمًا لا تغيب عن الأرض طرفة عين، لا

السجود الذي زعمه وافترى علينا تكذيبه، على أن شراح الصحيحين وغيرهم

استشكلوا الأمرين وأجابوا عنهما بما سنذكره بعد، ونحن صرحنا بأن الشمس يصدق

عليها أنها ساجدة تحت العرش دائمًا بالمعنى الذي أثبت القرآن فيه سجود كل شيء لله

عزوجل من الكواكب والشجر والنبات وغير ذلك، وذكرنا توجيهًا آخر لسجودها

وهو أنه (تمثيل لخضوعها في طلوعها وغروبها لمشيئته تعالى) وهو عين المراد من

قوله تعالى عن السموات والأرض {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت: 11) الذي قال

المفتري أنه كان في استطاعتنا ولم نفعله لأن اللغة ضاقت علينا، فلم تضق علينا سعة

اللغة بل ضاقت عليه سعة الصدق فافترى علينا، ولكننا قلنا أن سجود الشمس بهذا

المعنى أو ذاك لا يرفع الإشكال بمخالفة مضمون الرواية للمعلوم بالقطع من مشاهدة

وأدلة علمية على كونها لا تغيب عن الأرض كلها طرفة عين.

وقال العلماء قبلنا مثل قولنا كما سنبينه في المبحث السابع من هذا الرد وأما

قولنا: (ولكن هذا النوع من الحديث على ندرته في الصحيح قد يخرج بعضه على

أنه من باب الرأي في أمور العالم) إلخ فالمراد به النوع المخالف للواقع المشاهد،

ولا تدل العبارة على أن حديث الشمس المذكور من هذا البعض، بل تدل على أنه

ليس منه من وجهين، أحدهما: أنني قلت أنني سئلت من قبل بعض علماء تونس

عنه، وأنني إلى الآن لم أجب عن هذا السؤال لأنني لم أجد جوابًا مقنعًا للمستقل

بالفهم وسأشرح هذا المعنى بعد ولو كان حديث الشمس عندي من هذا البعض لكان

جوابي للسائل أنه كحديث تأبير النخل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:

(أنتم أعلم بأمور دنياكم) وما في معناه ولم أرجئ الجواب.

الوجه الثاني: أنني استثنيت من هذا النوع من الأحاديث الواردة في أمور

الدنيا التي لا تنافي عصمة الأنبياء ما إذا كان الإخبار عن عالم الغيب، والطاعن

يقول إن حديث الشمس منه، وهو مع رؤيته بل علمه بهذا الاستثناء يفتري علي

أنني قست حديث سجود الشمس على حديث تأبير النخل، وأنني قلت أنه من العلوم

التي لا يعلمها الأنبياء ولم أقل هذا، فهو لم ينقل شيئًا من تفسيري للسجود ولا من

حصري للإشكال في ذهاب الشمس وغيبتها عن الأرض ولا من سكوتي عن جواب

السائل عنه، ولا من استثناء جعله من قبيل الإخبار عن أمور الدنيا دون أمور

الدين والإخبار عن عالم الغيب. مع أنه زعم أنه نقل عبارتي بنصها وفصها ليؤيد

بهذه الفرية تلك المفتريات كلها، ثم قال: إنه ينقل محصلها، وهو ينقض وعده بنقلها

بنصها وفصها، ولعل غرضه منه أن أكثر قراء مجلتهم لا يفرق بينهما فيتوهم أنه

صادق أمين في نقله لها، وهذا نص عبارته:

(4)

عبارة المفتري المحرِّف بنصها:

(وإني أحس منك بامتعاض شديد غيرة على المقام النبوي، ولعلك تستبعد

صدور ذلك من الشيخ أو لا تصدقه، فلننقل لك عبارته بنصها وفصها وما طعن به

على أحاديث كثيرة في البخاري غير هذا الحديث، ثم ترقى من تكذيب الرواة في

تلك الأحاديث إلى تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث) .

(قال مناره الصادر في آخر رمضان سنة 1327 صفحة 697 من مجلد

السنة المذكورة ما نعرض عليك محصله لتحكم فيه، وليتضح به الموضوع الذي

نحن فيه، فإنه كالمقدمة له: رد الأحاديث التي في البخاري وغيره الناطقة بأن آية:

الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة، كانت قرآنًا يتلى [2] وأن عمر قال

ذلك بمجمع من الصحابة ولم ينكر أحد عليه أحد، وهو معروف لا مراء فيه،

ويستند حضرته في ذلك الرد إلى ما تعرف منه مقدار علم الشيخ وتفكيره. يقول:

إن ذلك لو تم لكان يتخذ شبهة على القرآن من حيث حفظه وضبطه وعدم ضياع

شيء منه! ولم يفرق الشيخ بين النسخ الذي يكون من قِبَل الشارع ولا يُعرف إلا

من جهته ولا يكون إلا في زمنه بإرشاده وتبيينه، وبين التفريط في القرآن وضياع

شيء منه. ثم رد الحديث الصحيح الذي رواه البخاري في سحر النبي صلى الله

عليه وسلم رد ذلك بتمويهات وخيالات لا نطيل بها.

ومثل هذا وذاك ما خالف الواقع المشاهد كرواية السؤال عن الشمس أين تذهب

بعد الغروب والجواب عنه بأنها تذهب فتسجد تحت العرش وتستأذن الله تعالى

بالطلوع الخ إلى أن قال: فالشمس طالعة في كل وقت لا تغيب عن الأرض طرفة

عين كما هو معلوم بالمشاهدة علمًا قطعيًّا لا شبهة فيه، أي: فكلام النبي كذب لا شبهة

فيه) اهـ.

هذا ما عزاه إلى ذلك المقال بعد زعمه أنه ينقل العبارة بنصها وفصها ثم

محصلها وكلاهما كذب ظاهر من نقلنا لها بحروفها. فهو لم يذكر إلا عبارة مقتضبة

ناقصة منها لم تبلغ أربعة أسطر وما ذكره من محصل ونص كله كذب وباطل كما

علمت وزاد ما لا ذكر له فيها كحديث الرجم، فهكذا يكون صدق العلماء وأمانة

النقل عند أحد هيئة كبار علماء الأزهر ومحرري مجلته الرسمية، أم هكذا يكون

فهم الكلام بطريقة المناقشات الأزهرية.

رحم الله الأستاذ الإمام الذي كان يقول في أمثال هؤلاء العلماء أنهم يتعلمون

كُتبًا لا علمًا، وقد بين مراده من هذا في رسالة التوحيد بعد بيان خلاصة تاريخ علم

الكلام الذي لا يزال أمثال هذا الرجل يتناقشون في بعض كتبه التي لا يفهمون من

مواقفها ومقاصدها إلا ما قرره الإمام في قوله:

(5)

رأي الأستاذ الإمام في أمثال هذا العالم:

(ثم جاءت فتن طلاب المُلك من الأجيال المختلفة وتغلب الجهال على الأمر،

وفتكوا بما بقي من أثر العلم النظري النابع من عيون الدين الإسلامي فانحرفت

الطريق بسالكيها، ولم يعد بين الناظرين في كتب السابقين إلا تحاور في الألفاظ أو

تناظر في الأساليب، على أن ذلك في قليل من الكتب اختارها الضعف وفضلها

القصور.

ثم انتشرت الفوضى العقلية بين المسلمين تحت حماية الجهلة من ساستهم،

فجاء قوم ظنوا في أنفسهم ما لم يعترف به العلم لهم، فوضعوا ما لم يعد للإسلام

قِبَل باحتماله. غير أنهم وجدوا من نقص المعارف أنصارًا، ومن البعد عن ينابيع

الدين أعوانًا، فشردوا بالعقول عن مواطنها، وتحكموا في التضليل والتكفير،

وغلوا في ذلك حتى قلدوا بعض من سبق من الأمم في دعوى العداوة بين العلم

والدين، وقالوا لما تصف ألسنتهم الكذب: هذا حلال وهذا حرام، وهذا كفر وهذا

إسلام. والدين من وراء ما يتوهمون، والله جل شأنه فوق ما يظنون وما يصفون،

ولكن ماذا أصاب العامة في عقائدهم ومصادر أعمالهم من أنفسهم بعد طول الخبط

وكثرة الخلط؟ شر عظيم، وخطب عميم) اهـ.

(6)

جوابنا عن الإشكال في الحديث:

عُلم مما تقدم أننا ذكرنا مضمون حديث الشمس في ذلك المقال مع أحاديث

أخرى من أحاديث الشيخين المشكلة من باب التمثيل لإثبات قلة أمثالها في

الصحيحين ولم يكن من موضوع المقال إيراد ألفاظها ولا الحكم في المشكلات، ثم

إننا بينا في موضعين من المنار رأينا في الإشكال، بما يبرئ الرسول صلى الله

عليه وسلم من كل ما عصمه الله منه، كما أشرنا إلى ذلك في المقال الأول من بياننا

هذا للأمة.

إجمال ذلك أنني وجدت أن أصح رواياته التي اتفق عليها الشيخان هي ما

أخرجاه من طريق الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر هكذا بالعنعنة

وإبراهيم التيمي قال الحافظ في التقريب: ثقة ولكنه يرسل ويدلس، فهذه علة في

سند أصح روايات الحديث تبطل الثقة بها، ولمسلم رواية من طريق أخرى ذكر

فيها الراوي سماع إبراهيم من أبيه مع عنعنته ولم يعتد بها البخاري، وثَم روايات

أخرى لا يصح شيء منها سنذكر بعضها، ولذلك عدت فاعتمدت إعلاله من ناحية

متنه.

وبيان ذلك أنه في أمر غيبي يكثر خطأ الرواة في أمثاله ويختلفون في فهمها

فيروونها بالمعنى الذي فهموه وكثيرا ما يكون فهمهم خطأ، وأكثر الأحاديث المروية

بالمعنى لا بلفظ الرسول صلى الله عليه وسلم يكثر الاختلاف في ألفاظها ومعانيها

حتى الأمور الحسية التي يفهمها كل أحد كالطهارة وصفة الصلاة، فإذا لم يجد شُرَّاحها

وجهًا وجيهًا للجمع بينهما حملوها على تعدد ما وردت فيه حتى قال بعضهم بتعدد

المعراج لكثرة الاختلاف والتعارض في رواياته.

وقد بينت وجوه الدفاع عن الأحاديث المشكلة بالتعارض وغيره في مواضع من

المنار وتفسيره أهمها الكلام في أشراط الساعة ولا سيما أحاديث المهدي والدجال

فإن التعارض والتناقض فيها كثير جدًّا.

وإنني أنقل للأمة هذين الجوابين بحروفهما مع عزوهما إلى مواضعهما من

المنار والتفسير لتأكيد تكذيب مجلة الأزهر في زعمها الذي تقدم:

الجواب الأول في علة السند

جاء في الصفحة 725 من مجلد المنار الثاني والعشرين وفي حاشية ص 211

من جزء التفسير الثامن ما نصه:

(ومن هذه الأحاديث في الباب حديث أبي ذر جندب بن جنادة الذي يعد متنه

من أعظم المتون إشكالاً فهو يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم سأله: أتدري أين

تذهب الشمس إذا غربت؟ قال: قلت: لا أدري، قال (إنها تنتهي دون العرش فتخر

ساجدة ثم تقوم حتى يقال لها: ارجعي، فيوشك يا أبا ذر أن يقال: ارجعي من حيث

دخلت، وذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل) وهذا الحديث رواه

الشيخان من طرق عن الشعبي عن إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي عن أبيه عن

أبي ذر وهو - أي إبراهيم - على توثيق الجماعة له مدلس، قال الإمام أحمد: لم

يلق أبا ذر، كما قال الدارقطني: لم يسمع من حفصة ولا من عائشة ولا أدرك

زمانهما، وكما قال ابن المديني: لم يسمع من علي ولا ابن عباس. ذكر ذلك في

تهذيب التهذيب وقد روى عن هؤلاء بالعنعنة، فيحتمل أن يكون من حدثه عنهم غير

ثقة) . اهـ.

وأعني بهذا أن روايته عنهم مرسلة ولم يذكر من حدثه بها فثبت أنه يرسل

ويدلس كما قال الحافظ في التقريب، ومن كان هكذا لا تقبل روايته بالعنعنة فهذه

علة في أصح أسانيد الحديث تبطل الثقة به مع عدم الطعن في البخاري ولا في

الأعمش ولا في إبراهيم التيمي أيضًا.

الجواب الثاني في علة متن الحديث

جاء في باب فتاوى المنار في ص 671 مجلد 24 ما نصه:

(س 26) من صاحب الامضاء المدرس في مدينة تطوان في المغرب الأقصى

الحمد لله وحده من تطوان في 27 شوال 1341 فضيلة أستاذي الوحيد، وملاذي

الفريد، أستاذ العالم ومفتيه ومرشده السيد محمد رشيد رضا سلام على تلك الذات

وتلك الروح الطاهرة من قلب يتأجج بنار الأشواق ويضطرم في سعير البعاد، غير

أن ثلج ماء عين مناركم قد يطفئ شيئًا من ذاك اللهيب، ويخمد سعيرها عندما يهيم

الفكر في استحسان تلك الدرر اليتيمة، والتمتع بتلك المعاني الوحيدة الفريدة.

سيدي وسندي، أرجو من فضيلتكم الجواب على صفحات المنار الأغر عما

يأتي من المقرر عند علماء الجغرافية أن الأرض لها دورتان يومية وسنوية، وأن

الليل والنهار والفصول ينشآن عن هاتين الدورتين للأرض ويقتضي هذا أن الشمس

ثابتة والله تعالى يقول {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} (يس: 38) فأرجو من

فضيلتكم جوابًا كافيًا شافيًا كما هو شأن فضيلتكم بحيث لا يبقى في النفس ولو كانت

جاحدة أدنى مخالفة، حفظكم الله وأطال حياتكم، وبارك في عمركم وعمر أنجالكم

الكرام، مدى الليالي والأيام، من الداعي لفضيلتكم بذلك تلميذكم وصديقكم.

...

...

...

محمد العربي بن أحمد الخطيب

(ج) إذا كان ما ذكره السائل من المقرر عند علماء الجغرافية فإن من المقرر

عندهم وعند علماء الفلك أيضًا أن الشمس تدور على محورها كغيرها من الأجرام

السماوية، وأنها تدور هي والكواكب السيارة التي حولها حول نجم آخر مجهول

يعدونه المركز لها، وبلغنا عن أحد المعاصرين من هؤلاء العلماء أنه حقق حديثًا أن

مجاميع الشموس كلها أو العالم كله يجري في الفضاء لغاية مجهولة، وتجدون هذا

البحث ما عدا القول الأخير في مقال طويل للدكتور محمد توفيق صدقي رحمه الله

في المجلد الرابع عشر من المنار، وتجدون فيها رأيًا عزاه إلينا إذ تلقاه عنا وهو أن

لجميع العالم المؤلف من هذه الشموس والكواكب مركزًا واحدًا هو مصدر التدبير

والنظام لها وهو عرش الرحمن تبارك وتعالى راجع (ص 590 و 591 ج 8) منه

ونحن قد استنبطناه من عرض مذهب الفلكيين على قوله تعالى {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي

خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ} (يونس:

3) فجريان الشمس ثابت بالاتفاق فإن دورانها على محورها يسمى جريانًا،

دورانها مع مجموعها المعلوم حول نجم مجهول على قولهم - كدوران المجاميع

الشمالية حول نجم القطب الشمالي - يسمى جريانًا أيضًا، وأولى منه وأظهر سيرها

مع بقية العالم الذي قال به بعض المتأخرين كما ذكر في تقويم لفلامريون المشهور.

على أن الجريان يستعمل استعمالاً مجازيًّا في السير المعنوي، كما يقال: جرى

القضاء بكذا، ولك أن تقول الآن: إن أوربة تجري في تنازع دولها لحرب أخرى شر

من الحرب الأخيرة.

وأما المستقر الذي تجري الشمس إليه أو له، ففيه وجهان، أحدهما: أنه ما

ينتهي إليه أمرها بخراب عالمنا هذا التي هي ركن نظامه فيكون جريانها كجريان

غيرها بمعنى قوله تعالى في أول سورة الرعد {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ

تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ

الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} (الرعد: 2) وهو بمعنى ما روي

عن قتادة قال: تجري لمستقر لها: لوقتها ولأجل لا تعدوه، ثانيهما: أنه مستقر

نظامها لا أجلها وهو النجم المجهول عند علماء الفلك والعرش على رأينا ويؤيده حديث

أبي ذر في كون مستقرها تحت العرش، والحديث قد روي بألفاظ مختلفة

أظهرها أخصرها وهو ما رواه الجماعة إلا ابن ماجه وغيرهم عنه قال سألت رسول

الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} (يس:

38) قال: (مستقرها تحت العرش) وبعض ألفاظه مشكل في ظاهره جدًّا ورواته

أقل، وهو ما ذكر فيه سجودها لله تحت العرش واستئذانها، وإن فسر بمعنى

خضوعها لإرادته كقوله {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} (الرحمن: 6) .

والراجح عندنا أنه روى بالمعنى فأخطأ بعض الرواة في فهمه فعبر عنه بما

فهمه والله أعلم. وسنعود إلى هذا البحث في وقت أوسع ومجال أوسع إن شاء الله

تعالى. اهـ.

وحاصل هذا الجواب المختصر الذي وعدت بالرجوع إليه لأجل تفصيله عندما

تسنح الفرصة ويتسع المجال كما تقدم آنفًا أن الحديث مروي بالمعنى وهو في أمر

غيبي أخطأ بعض الرواة في فهمه كما أخطأوا في أمثاله ولا سيما أحاديث الدجال

المتعارضة المتناقضة فليراجع تفصيلي لها ولأمثالها من شاء في تفسير قوله تعالى:

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي} (الأعراف: 187)

الآية من ص 489 507 ج 9 تفسير.

وأما العبرة للأمة الإسلامية في هذا الجواب فهو أن من كبار علمائها الرسميين

في هذا العصر من فقد الصدق في القول، والأمانة في النقل، والفهم لمسائل العلم مع

استباحة التكفير للخصم، وأن قصارى علمهم مشاغبات ومغالطات في الألفاظ

وتحريف لها وإيراد للاحتمالات فيها كما تقدم آنفًا عن الأستاذ الإمام.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

وضع الخطوط فوق الكلام الذي يراد التنبيه عليه طريقة علمائنا وأما وضعها تحته فهي طريقة أجنبية وأنا أخصها بالعناوين الفرعية.

(2)

عبارتي ليس فيها كلمة واحدة من هذا الحديث على أن البخاري لم يرو المسألة هكذا وهذا المحرر وأمثاله من العلماء الرسميين لا يدرون ما في البخاري إلا إذا راجعوا المسألة فيه ثم لا يدرون لماذا لم يرو هو ولا مسلم في خطبة عمر هذا اللفظ ولا يدرون ما يعارضه؛ لأن كتب السنة ليست من علومهم ولا مما يحتاجون إليه.

ص: 772

الكاتب: محمد رشيد رضا

المقال التاسع

(7)

استشكال العلماء لحديث الشمس وأجوبتهم عنه

هذا الحديث رواه الشيخان وبعض أصحاب السنن والمسانيد والتفسير المأثور

والبيهقي في الأسماء والصفات بألفاظ متقاربة ولكنها غير متفقة، ورواه غيرهم

بزيادات مختلفة بل مختلقة، ولفظ البخاري في باب بدء الخلق بسنده: عن الأعمش

عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى

الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس: (أتدري أين تذهب؟) قلت: الله

ورسوله أعلم، قال (فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها،

ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها ارجعي من حيث

جئت فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ

العَزِيزِ العَلِيمِ} (يس: 38) ورواه أيضًا في تفسير سورة يس وفي كتاب التوحيد

هكذا بالعنعنة وقد استشكله العلماء من الجهتين اللتين تقدم ذكرهما وكان استشكالهم

مخالفته لما تقرر في علم الهيئة أقوى وأجوبتهم عنها أضعف.

وقد كان جماهير علماء المسلمين حتى غير الناظرين في علم الهيئة الفلكية

يعلمون أن نور القمر مستمد من نور الشمس وعلماء المنطق منهم يمثلون بهذا

للحدس المنطقي الذي هو أحد اليقينيات الستة، وكانوا يعلمون أيضًا أن سبب

خسوفه حيلولة الأرض بينه وبين الشمس ويمثلون بذلك للقضية الوقتية في المنطق

أيضًا، وقال الغزالي: إن من أدلة كروية الأرض ظهور ظلها في القمر عند خسوفه

مستديرًا، وإن هذا من القطعيات. فرؤية القمر بعد غروب الشمس دليل حسي على

وجود الشمس وراء الأفق التي تتوارى عنه مقابلة للقمر تلقى نورها عليه. ولم يكن

علم الهيئة وصل في عهدهم إلى ما وصل إليه الآن ولا علم الجغرافية أيضًا. ولا

كان الناس في عصرهم يطوفون حول الأرض بطيارتهم وغيرها فيرون بأعينهم

مصداق أدلة ثبات الشمس في فلكها، أفليس من الجناية على الإسلام أن تحكم مجلة

الأزهر على من يقول أن مضمون الحديث مخالف للحس بأنه مكذب لله ولرسوله

صلى الله عليه وسلم؟

***

ما نقله الحافظ ابن حجر في استشكال العلماء للحديث وأجوبتهم عنه

قال الحافظ ابن حجر في شرحه له من فتح الباري: والغرض منه هنا بيان

سير الشمس في كل يوم وليلة. وظاهره مغاير لقول أهل الهيئة أن الشمس مرصعة

في الفلك، فإنه يقتضي أن الفلك هو الذي يسير، وظاهر الحديث أنها هي التي

تسير وتجري، مثله قوله تعالى في الآية الأخرى {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس:

40) أي يدورون.

قال ابن العربي: أنكر قوم سجودها، وهو صحيح ممكن. وتأوله قوم على ما

هي عليه من التسخير الدائم، ولا مانع أن تخرج عن مجراها فتسجد ثم ترجع.

قال الحافظ بعد نقله لهذا: قلت: إن أراد بالخروج الوقوف، فواضح وإلا فلا

دليل على الخروج. ويحتمل أن يكون المراد بالسجود سجود من هو موكل بها من

الملائكة أو تسجد بصورة الحال فيكون عبارة عن الزيادة في الانقياد والخضوع في

ذلك الحين اهـ.

فعلم من هذا أن العلماء استشكلوا الحديث وقالوا كما قلنا بأنه مغاير لقول علماء

الهيئة القطعي وأنهم استشكلوا أيضًا سجودها وأنكره بعضهم ولم يكفرهم متأولوه.

وأجابوا عنها بما رأيت وما سترى مما ننقله إليك، ووازن بعد ذلك بين أجوبتهم

وجوابنا.

وقال الحافظ ابن حجر في شرحه للحديث من تفسير سورة يس من صحيح

البخاري ما نصه: وروى عبد الرزاق من طريق وهب بن جابر عن عبد الله ابن

عمرو في هذه الآية قال: مستقرها: أن تطلع فيردها ذنوب بني آدم، فإذا غربت

سلَّمت وسجدت واستأذنت فلا يؤذن لها فتقول: أن السير بعيد، وإني أن لا يؤذن

لا أبلغ، فتحبس ما شاء الله ثم يقال: اطلعي من حيث غربت. قال: فمن يومئذ إلى

يوم القيامة لا ينفع نفسًا إيمانها. وأما قوله (تحت العرش) فقيل: هو حين محاذاته

ولا يخالف هذا قوله: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} (الكهف: 86) فإن

المراد بها نهاية مدرك البصر حال الغروب، وسجودها تحت العرش إنما هو بعد

الغروب.

وفي الحديث رد على من زعم أن المراد بمستقرها غاية ما تنتهي إليه في

الارتفاع وذلك أطول يوم في السنة. وقيل: إلى منتهى أمرها عند انتهاء الدنيا.

وقال الخطابي: يحتمل أن يكون المراد باستقرارها تحت العرش أنها تستقر

تحته استقرار لا نحيط به نحن. ويحتمل أن يكون المعنى: أو علم ما سألت عنه

من مستقرها تحت العرش في كتاب كتب فيه ابتداء أمور العالم ونهايتها، فينقطع

دوران الشمس وتستقر عند ذلك ويبطل فعلها. وليس في سجودها كل ليلة ما يعيق

عن دورانها في سيرها. اهـ.

ثم قال الحافظ بعد نقل هذه الاحتمالات في تأويل الحديث والآية:

قلت: وظاهر الحديث أن المراد بالاستقرار وقوعه في كل يوم وليلة عند

سجودها. ومقابل الاستقرار: المسير الدائم المعبر عنه بالجري، والله أعلم. اهـ.

أقول: يعني أن هذه التأويلات خلاف المتبادر من لفظ الحديث. وأما حديث

عبد الرزاق من طريق وهب بن جابر عن عبد الله بن عمرو بن العاص الذي نقله

وسكت عليه فهو أعصى على تأويلنا وتأويلهم وأبعد عنهما بُعد الشمس عن العرش

وفي معناه روايات أخرى أغرب منه. ووهب هذا ثقة وثقه ابن معين والعجلي وقال

علي بن المديني وابن حبان: وهب بن جابر مجهول سمع من عبد الله بن عمرو ابن

العاص قصة يأجوج ومأجوج و (كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت) ولم يرو غير

هذين، وقال النسائي: مجهول. وكفى بقول علي بن المديني أنه لم يرو غير هذين،

حجة على أن رواية حديث الشمس عنه مردودة سواء كان ثقة أم لا!

***

جواب الحافظ ابن كثير في تفسيره

وأجاب العماد ابن كثير عن سجود الشمس تحت العرش بما حاصله أن العرش

قبة ذات قوائم تحمله الملائكة وهو فوق العالم مما يلي رءوس الناس فالشمس إذا

كانت في قبة الفلك وقت الظهيرة تكون أقرب ما تكون إلى العرش، فإذا استدارت

في فلكها الرابع إلى مقابلة هذا المقام، وهو وقت نصف الليل صارت أبعد ما تكون

من العرش، فحينئذ تسجد وتستأذن في الطلوع كما جاءت بذلك الأحاديث. اهـ.

وهذا جواب من يصدق الفلكيين في ثبات الشمس في فلكها ودوران الفلك بها حول

الأرض، وقد نقض ارتقاء علم الهيئة بالمناظير المقربة للأبعاد هذا المذهب اليوناني،

وأجمع علماء الفلك في هذا العصر على كروية الأرض ودورانها تحت الشمس الثابتة

في مركزها. على أن قوله منقوض على ذلك المذهب أيضًا إذ لا خلاف عند أهله في

كروية الأرض وسكنى الناس على سطحها من كل جانب فلا يتجه القول بأن العرش

فوق رءوس المقيمين في جانب منها دون آخر.

***

ما نقله الفقيه ابن حجر الهيتمي في حديث سجود الشمس

جاء في الفتاوى الحديثية للشيخ أحمد بن حجر الهيتمي ما نصه:

وسئل نفع الله به: إذا غابت الشمس أين تذهب؟

فأجاب بقوله: في حديث البخاري أنها تذهب حتى تسجد تحت العرش. زاد

النسائي (ثم تستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تستأذن فلا يؤذن لها وتؤمر بالطلوع من محال غروبها) ولا يخالف هذا قوله تعالى {تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} (الكهف: 86) لأن المراد به نهاية إدراك البصر لها حال الغروب، وسجودها تحت العرش

إنما هو بعد الغروب. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس أنها بمنزلة

الساقية تجري بالنهار في السماء بفلكها، وإذا غربت جرت بالليل في فلكها تحت

الأرض حتى تطلع من مشرقها وكذلك القمر. وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة أنها إذا

غربت دخلت نهرًا تحت العرش فتُسبِّح ربها حتى إذا أصبحت استعفت ربها عن

الخروج، قال: ولم؟ قالت: إني إذا خرجت عُبدتُ من دونك. وقيل: يبتلعها حوت

، وقيل: تغيب في عين حمئة كما في الآية والحمأة بالهمز ذات الطين الأسود، حامية

بالياء أي حارة ساخنة، وقيل: تطلع من سماء إلى سماء حتى تسجد تحت العرش

وتقول: يا رب إن قومًا يعصونك، فيقول لها: ارجعي من حيث جئت، فتنزل من

سماء إلى سماء حتى تطلع من المشرق، وبنزولها إلى سماء الدنيا يطلع الفجر. قال

إمام الحرمين وغيره: لا خلاف أنها تغرب عند قوم وتطلع عند قوم آخرين، والليل

يطول عند قوم ويقصر عند آخرين إلا عند خط الاستواء فيستويان

أبدًا، وفي بلاد (بُلغار) بموحدة مضمومة ثم معجمة لا تغيب الشمس عندهم إلا مقدار

ما بين المغرب والعشاء ثم تطلع) اهـ

أقول: الشيخ أحمد بن حجر هذا هو الفقيه الشافعي المتوفى سنة 973 وهو

قليل البضاعة في الحديث وفي علوم المعقول ينقل من الكتب عند الحاجة، وما عزاه

إلى النسائي من لفظ الحديث ثابت في البخاري، وسائر الروايات التي ذكرها لا

تصح. وقد أورد كلام علامة المعقول الأكبر إمام الحرمين ولم يرده لأنه إمام

الأشعرية والشافعية الذين يقلدهم ولا استطاع أن يوفق بينه وبين الحديث.

***

فائدة لها علاقة بحديث الشمس

يقول الفقيه ابن حجر الهيتمي: هذا إذا اختلف العلماء، فالذي يجب اعتماده

كلام الفقهاء.

ولكن بضاعة أكثر الفقهاء مزجاة في مشكلات الأحاديث ولاسيما غير الفقهية

وقد قرأنا في بعض كتبهم تعليلاً لبرودة مياه الآبار في الصيف وحرارتها في الشتاء

كما يتوهم من لا يعرف الحقيقة وهو أن الشمس يطول مكثها تحت الأرض في ليالي

الشتاء لطولها فيكون دفء مياه الآبار من ذلك، ويقصر مكثها تحت الأرض في ليالي

الشتاء لقصرها فتظل مياه الآبار باردة! فكيف يوفق محرر مجلة نور الإسلام بين هذا

التعليل الخرافي وبين ما يفهم من ظاهر الحديث من أن الشمس في الليل تكون تحت

العرش فوق السموات السبع؟ ؟ كعادته في تصحيح أمثال هذه الجهالات والخرافات؟

***

كلام الآلوسي وجوابه عن الحديث في تفسيره

قال الشهاب السيد محمود الآلوسي في تفسير آية سورة يس من تفسيره روح

المعاني ما نصه:

وفي غير واحد من الصحاح عن أبي ذر قال: كنت مع النبي صلى الله عليه

وسلم في المسجد عند غروب الشمس فقال (يا أبا ذر أتدري أين تذهب هذه الشمس؟

قلت: الله تعالى ورسوله أعلم، قال: تذهب لتسجد فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن

تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها ارجعي من حيث جئت

فتطلع من مغربها، فلذلك قوله عز وجل {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} (يس:

38) وفي رواية (أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ قالوا الله تعالى ورسوله أعلم،

قال: إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة) الحديث،

وفي ذلك عدة روايات وقد روي مختصرًا جدًّا. وأخرج أحمد والبخاري ومسلم وأبو

داود والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي عن أبي

ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى:] والشمس

تجري لمستقر لها [قال: (مستقرها تحت العرش) فالمستقر اسم مكان والظاهر

أن للشمس فيه قرارًا حقيقة.

قال النووي: قال جماعة بظاهر الحديث، قال الواحدي وعلى هذا القول إذا

غربت الشمس كل يوم استقرت تحت العرش إلى أن تطلع. ثم قال النووي:

وسجودها بتمييز وإدراك يخلقه الله تعالى فيها، وذكر ابن حجر الهيتمي في فتاويه

الحديثية أن سجودها تحت العرش إنما هو عند غروبها. وأورد ملخص ما تقدم آنفًا

ثم قال: والسجود تحت العرش قد جاء أيضًا من روايات الإمامية ولهم في ذلك أخبار

عجيبة، منها أن الشمس عليها سبعون ألف كُلاب، وكل كُلَاّب يجره سبعون ألف

ملك من مشرقها إلى مغربها، ثم ينزعون منها النور فتخر ساجدة تحت العرش، ثم

يسألون ربهم هل نلبسها لباس النور أم لا؟ فيجابون بما يريده سبحانه ثم يسألونه عز

وجل هل نطلعها من مشرقها أو مغربها؟ فيأتيهم النداء بما يريده جل شأنه، ثم

يسألون عن مقدار الضوء فيأتيهم النداء بما يحتاج إليه الخلق من قصر النهار وطوله.

وفي الهيئة السنية للجلال السيوطي أخبار من هذا القبيل، والصحيح من

الأخبار قليل، وليس لي على صحة أخبار الإمامية وأكثر ما في الهيئة السنية

تعويل، نعم ما تقدم عن أبي ذر مما لا كلام في صحته، وماذا يقال في أبي ذر

وصدق لهجته؟ والأمر في ذلك مشكل إذا كان السجود والاستقرار كل ليلة تحت

العرش سواء قيل أنها تطلع من سماء إلى سماء حتى تصل إليه فتسجد، أم قيل أنها

تستقر وتسجد تحته من غير طلوع، فقد صرح إمام الحرمين وغيره بأنه لا خلاف

في أنها تغرب عند قوم وتطلع على آخرين، وبين الليل والنهار اختلاف ما في الطول

والقصر ما عدا عند خط الاستواء، وفي بلاد بلغار قد يطلع الفجر قبل أن يغيب شفق

الغروب، وفي عرض تسعين لا تزال طالعة ما دامت في البروج الشمالية وغاربة ما

دامت في البروج الجنوبية، فالسنة نصفها ليل ونصفها نهار، على ما فصل في

موضعه. والأدلة قائمة على أنها لا تسكن عند غروبها، وإلا لكانت ساكنة عند

طلوعها، بناء على أن غروبها في أفق طلوع في غيره، وأيضًا هي قائمة على أنها

لا تفارق فلكها فكيف تطلع من سماء إلى سماء حتى تصل إلى العرش؟ بل كون الأمر

ليس كذلك أظهر من الشمس لا يحتاج إلى بيان أصلاً. وكذا كونها تحت العرش دائمًا

بمعنى احتوائه عليها وكونها في جوفه كسائر الأفلاك التي فوق فلكها والتي تحته.

وقد سألت كثيرًا من أجله المعاصرين عن التوفيق بين ما سمعت من الأخبار

الصحيحة وبين ما يقتضي خلافها من العيان والبرهان، فلم أوفق لأن أفوز منهم بما

يروي الغليل ويشفي العليل. اهـ ما قرره الآلوسي من استشكال الحديث من

الوجهين وكونه مخالفًا للقطعي وعجْز أَجَلِّ معاصريه من العلماء عما يزيل الإشكال

اهـ.

ثم إنه رحمه الله استنبط له حلاًّ غريبًا بعد مقدمات مؤلفة من خرافات كثيرة

أغرب منه، خلاصته أن الشمس لها نفس عاقلة مدركة كروح الإنسان، وأن هذه

النفس هي التي تصعد فتسجد تحت العرش، ويبقى جسم الشمس المضيء على ما

يراه الناس. ولم أره تجرد من عقله واستقلاله العلمي وأثبت عدة خرافات خلط فيها

بين تخيلات الفلاسفة والصوفية والمبتدعة كما فعل في هذه المسألة، عفا الله عنه،

ومن شاء فليرجع إلى عبارته فيه.

***

حاصل أقوال العلماء والعبرة به

وحاصل ما أوردناه من كلام المفسرين والمحدثين والفقهاء والمتكلمين أنهم

اتفقوا على أن الحديث مشكل كما قلنا، وأنهم أنكروا منه السجود تحت العرش

واحتجاب الشمس عن الدنيا، وكانت أجوبتهم عن السجود أقوى من أجوبتهم عن

الاحتجاب، وإن أحدًا منهم لم يكفر أحدًا ممن استشكله، ولا رماه بتكذيب الله

ورسوله وأن لم يسلم له تأويله، وأن جوابنا في حل الإشكال أظهر من جميع

أجوبتهم، وأننا على توفيقنا هذا لخدمة السنة قد رمانا محرر مجلة الأزهر زورًا

وبهتانًا بما علم القارئون، ولنا أن نتمثل بقول الشاعر:

وإذا أراد الله نشر فضيلة

طويت أتاح لها لسان حسود.

***

خاتمة البحث في تحدينا لمشيخة الأزهر فيه

قد علمتم أيها المسلمون مما شرحته لكم في هذه المسألة أن أحد كبار هيئة

علماء المشيخة الرسميين ومحرري مجلتها الرسمية قد افترى علينا في المسألة بغير

أمانة ولا علم، وترك الذين قد يصدقون كلامه في هذا الحديث، وربما كانوا مئات

الألوف في حيرة أو شك من دينهم، إذ علموا منه أن الحديث يدل على أن الشمس

تغيب عن الأرض كلها بعد غروبها عنهم، وجميع الذين تعلموا الجغرافية منهم،

وكثير من غيرهم يعلمون علمًا يقينيًّا أن الشمس لا تغيب عن الأرض طرفة عين،

وإنما تغرب عن قوم وتطلع على آخرين، كما قال بعض كبار علماء الإسلام

المتقدمين، فكان الواجب على هذا العالم أن يرشد المسلمين أولاً إلى الجمع بين

معنى الحديث الذي أخبرهم أنه متفق عليه وبين اعتقادهم القطعي لما يخالف

مضمونه قبل أن يقول لهم أن الذي لا يعتقد صحته يكون مكذبًا لله ولرسوله، وهم

لا يستطيعون هذا الاعتقاد، وإنني بعد أن بينت لهم ما عندي من حل الإشكال وما قاله

العلماء الذين استشكلوا الحديث من قبل، وأن ما قلته هو الذي يطمئن به القلب،

أتحدى الأستاذ الأكبر شيخ الأزهر ومن شاء من هيئة كبار العلماء (غير الدجوي

الذي ليس له في علم الحديث جمل ولا ناقة، ولا يذكر منه في مقدمة ولا ساقة، بل

هو يَعُدُّ أعظم حفاظه كالذهبي في عصره أعداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم

ويطعن في صدقهم) أن يبينوا للأمة طرق هذا الحديث وما يصح منها بحسب

اصطلاح المحدثين وما لا يصح، وما يجب على المسلمين أن يصدقوه مما يخالف منه

المشاهدة وما تقرر في علم المنطق وعلم الجغرافية الذي يدرس في الأزهر وفي جميع

مدارس هذا العصر، إما بالجمع بين الأمرين جمعًا معقولاً، وإما بتكذيب الحس وما

أثبته العلم إن كان مستطاعًا، إذا كانوا لا يوافقوننا على ما ذكرنا من إعلال متنه

وأصح أسانيده، فهذه سبيل العلماء حماة الدين لا الافتراء على العلماء الذين هداهم الله

إلى هذه الحماية قبلهم، والتعالي والتنفج بسلطان الألقاب الرسمية التي لا قيمة لها

عندهم، وإيقاع الناس في شك من دينهم، وإذا لم يكف شيخ الأزهر مرءوسيه عن

مثل هذا العدوان والبهتان فسأتحداه بمناظرات أخرى في علم التوحيد وفي التفسير

والحديث، وإن خالفت مقتضى الحلم والتواضع الذي اعتصمت به إلى الآن.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

يشعر هذا اللفظ بأن قائله غير أبي ذر وهو يدل على روايته بالمعنى كما قلنا.

ص: 785

الكاتب: محمد رشيد رضا

الشيخ محمد عبد القادر المليباري

تُوفي في هذا العام عالمان عاملان مصلحان، أحدهما: الشيخ محمد أمين

الشنقيطي في بلدة الزبير التابعة للبصرة، وقد كلَّفْنا أحد أصدقائه كتابة ترجمته،

والثاني صديقنا الأستاذ المصلح الشيخ محمد عبد القادر في مليبار وقد كتب لنا

ترجمته أحد تلاميذه ومريديه فننشرها باختصار قليل، وهي:

في غرة رجب من هذا العام 1351 توفي العالم العلامة محرر المجلة الغراء

ديبك (المنير) أستاذ الإصلاح الديني لمسلمي مليبار محمد عبد القادر المولوي ابن

العالم المرحوم محمد كنجي رحمهما الله تعالى، ففقد مسلمو مليبار أستاذهم ومحيي

أرواحهم بالإصلاح الإسلامي.

وكانت أعمال التجهيز لجنازته على غاية من اتباع السنة رغم أهواء

الخرافيين لأن أبناء الفقيد وأقرباءه وتلاميذه المصلحين قد بذلوا جهدهم لئلا يمزج

الناس تشييع هذا المصلح الأول فيهم بشيء من مبتدعات هذه البلاد من الجهر

بالتهليل أو غيره حين تشييع الجنازة حاملين لها أو ماشين معها، ومن جمع الناس

وضيافتهم بعد الدفن في ذلك اليوم أو في الثالث أو غيرهما، فبفضل الله وتوفيقه

كان تجهيز هذا المصلح الأكبر خاليًا من جميع البدع والمنكرات، والحمد لله الذي

هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

وكان أهل مليبار كافة وأهل بيت الأستاذ الفقيد بل كان هو نفسه أيضًا

ممن يحافظون على المحدثات والبدع مقلدين لكتب المتأخرين المؤلفة في الفقه

والتصوف وغيرهما من الفنون الإسلامية، ولكن بعد ما شرع الأستاذ يقرأ مجلة

المنار الغراء هداه الله بها إلى التفكير في الإصلاح الديني، وصار أول أستاذ

إصلاح في هذه البلاد المليبارية، جزاه الله عنا خير الجزاء، ورضي الله عنه

وأسكنه في جنة الخلد، ومتعه بالنعيم المقيم، آمين، وهذه خلاصة ترجمته:

كان الفقيد من أعضاء قبيلة كريمة معروفة بالمجد والشرف في نواحي

تراونكور وفي الخارج أيضًا. ولد من أبوين كريمين سنة 1873م ووالده رحمه الله

كان من التجار الكبار والعلماء الكرام أهل الغني والسخاء، وكان قد أحضر من

الخارج بعض علماء ذلك الوقت لتعليم الفقيد، فقرأ عليهم وعلى غيرهم كتب النحو

والبلاغة والفقه الشافعي والتصوف وحقائقه والمنطق، ثم لم يلبث أن وجه عقله

للبحث عن حقائق الدين وأسرار العبادات والأعمال المشروعة. ثم بعد ما توفي

والده وحصل على سهمه الخاص به من التراث أجمع أمره وعزم على وقف حياته

على خدمة الأمة بماله ونفسه. وكان محبًّا لقراءة الجرائد والمجلات فأسس أولاً

جريدته الأولى المشهورة باسم شوديشابهماني (الوطني) ومطبعة مسماة بذلك الاسم

أيضًا، وبعد عام عين في رياسة تحريرها أديبًا هندوسيًّا مشهورًا بتحريكه للأفكار

السياسية الاستقلالية في أهالي تروانكور، فمن ثَم شرعت الجريدة بقلمه السيال

تفضح الحكومة وتنقد أعمال موظفيها ولاسيما وزيرها الأعظم الذي كان شهوانيًّا

أكثر من أنه إداري، فاغتاظت الحكومة وصادرت الجريدة والمطبعة، ونفت

الناصح الصادق من أرضها ومات في غربته، جزاه الله بصدقه وخير أعماله

وأوصافه، فبهذه المصادرة خسر فقيدنا خسرانًا عظيمًا يقدر بخمسة آلاف روبية أو

أزيد، وكان فقيدنا عقيب تأسيس الجريدة المذكورة قد أسس لخدمة أمته الإسلامية

خاصة مجلته المشهورة باسم المسلم، ولكنه بعد هذه المصادرة التي خسر بها

مطبعته قد اضطر لتعطيلها أيضًا، ثم لم يتمكن من متابعة أعماله للأمة والملة التي

وقف حياته عليها إلا بعد ثلاث سنوات أو أربع.

وفي سنة 1913م استأنف إصدار مجلة المسلم الغراء فوجد أمته الإسلامية

على شيء من الاستعداد لقبول الإصلاح والتجديد، فعزم على الصدع بأهم قواعد

الإصلاح الديني متوسلاً إليه بإصدار مجلة في لسان قومه بأحرف عربية؛ لأن

غالب المسلمين من قومه رجالاً ونساء لا يقرءون لغتهم المليبارية بأحرفها الأصلية

وإنما يقرءونها بالأحرف العربية، فأسس تلك المجلة باسم الإسلام ومطبعتها سنة

1917م وأصدر عددها الأول في غرة رجب سنة 1336 هـ منبهًا للمسلمين

إلى أحوالهم الحاضرة من حيث دينهم وتعليمهم واجتماعهم واقتصادهم، وصادعًا

بالإصلاح الديني المبني على الاعتصام بالكتاب والسنة وسيرة السلف الصالحين.

وتلك المجلة (الإسلام) وإن لم يتمكن أن يصدر منها إلا خمسة أعداد فإنها

نورت وجه أرض البلاد المليبارية، ووجهت وجوه عقلاء المسلمين المفكرين علماء

كانوا أو عوام، شبانًا أو شيوخًا إلى مبادئها الإصلاحية من تعميم التعليمين الديني

والعصري بين الذكور والإناث، مع المحافظة على التربية الدينية الصحيحة ونبذ

الخرافات والبدع وجميع أنواع الأعمال الشركية، وتجديد توحيد الألوهية والربوبية،

والاعتصام بالكتاب والسنة وسيرة السلف الصالحين في جميع نواحي الحياة، وعلاوة

على ذلك جعل مجلة (المسلم) جريدة أسبوعية، وولي رياسة تحريرها أحد تلاميذه

المصلحين حفظه الله آمين.

ثم وجه همته إلى تأسيس الجمعيات بين أهل وطنه وخصوصًا المسلمين،

فأسست جمعيات ومجالس في مختلف البلاد المليبارية: تراونكور وكوسن ومليبار،

البعض بسعيه والباقي على وفق إرشاداته في الإصلاح الديني، وإن كان بعضها قد

غاب من أفق الوجود فالبعض الآخر لا يزال حيًّا ظاهرًا عاملاً بتوفيق الله.

وفي النهاية وجه عزمه إلى تأسيس دار النشر الإسلامية وإلى الصحافة، فشرع

في إصدار مجلته الأخيرة ديبك (المنير) منها موجهًا عالي همته وأكبر عنايته إلى

الرد على الملحدين والماديين الذين ظهرت قرونهم في أهالي هذه البلاد ولاسيما

الهندوس والنصارى في هذه الأعوام الأخيرة، وإلى نشر محاسن الإسلام وفضائله

وسائر المواضيع النافعة المهمة. فهاتان المؤسستان لا تزالان جاريتين، أدامهما الله

تعالى آمين.

كان قد شرع في تفسير القرآن الكريم بلغة قومه في مجلتيه الأخيرتين

(الإسلام) و (المنير) وكان عضوًا من أعضاء الهيئة المؤلفة لامتحان معلمي

العربية في مدارس الحكومة، وله مقالات في مختلف المواضيع الإصلاحية في

جرائد شتى مليبارية، وترجم من الفارسية كيمياء السعادة للغزالي رحمه الله، ومن

الأوردية رسالة أهل السنة والجماعة، ورسالة السنة والوحي، وكلتاهما للعلامة السيد

سليمان الندوي حفظه الله. وترجم أيضًا رسالة السيد جمال الدين الأفغاني في الرد

على الدهريين وله أيضًا رسالة (إسلام مت سدهانتهاسنكرهم) (خلاصة مبادئ دين

الإسلام) .

كان رحمه الله حليمًا، محبًّا للسلم والسكون، شجاعًا لا يخاف في الله لومة

لائم، ولكنه على كونه لا يحب الثورة ولا الثوار في شيء، يحب ويكرم مبادئ

الجمعية الوطنية الهندية، وكان ذا عزم وثبات لا يتزلزل للأهوال والبلايا مهما تكن

عظيمة، وتقيًّا ورعًا لا يوصف، وكان إيمانه وتوحيده وتوكله وتفويضه جميع

أموره إلى الله مثار تعجب عند جميع من يعرفون أحواله، وكانت أُخوته شاملة

لجميع البشر، وكذلك كان صبره وصفحه وعفوه وتسامحه واحترامه للمخالفين تبعثه

على الإحسان إليهم والرحمة بهم وكذا بأعدائه في جميع الأحوال، وكان على حظ

عظيم من التواضع: يتواضع ويخفض جناحه لجميع الأصحاب بل لخَدَمِه أيضًا،

وفي الجملة كان مثالاً عظيمًا لمكارم الأخلاق.

وكان يعرف من اللغات سوى لغته المليبارية وآدابها: العربية والفارسية

والأوردية والتاملية معرفة جيدة، والإنكليزية والسانسكريتية معرفة دون ذلك، وكان

في العربية وعلومها الأدبية فردًا فذًّا في مليبار بل في جنوب الهند أجمع وفي العلوم

الإسلامية وأسرارها ودقائقها من الأفراد النادرين الممتازين بالاستقلال في التفكير

والبحث في بلاد الهند جمعاء.

وكان بمنزلة الأب العطوف لجميع مسلمي مليبار (كيرله) في جميع سعيهم

للتجديد والإصلاح غيَّر حركة الأحمدية، قاديانيين كانوا أو لاهوريين؛ إذ لم يشارك

أي فريق منهم فيها، بل كان مخالفًا لها وإن لم يصوب سهامه إليها.

وأما مذهبه في التجديد والاصلاح فقد كان فيه سلفيًّا لا يقول بالتقيد بأي مذهب

كان غير مذهب أهل السنة والجماعة، داعيًا إلى نبذ جميع العادات والأعمال

الشركية والخرافات والبدع الدينية، والاعتصام بالكتاب والسنة، وسيرة السلف

الصالحين رضي الله عنهم، ومع كونه مستقلاًّ في البحث والتفكير كان في مبادئ

التجديد والإصلاح موافقًا لإرشاد مجلة المنار الغراء، محبًّا لها ولصاحبها السيد

محمد رشيد رضا حفظه الله، وكان يحب حكيمي الإسلام والشرق السيد جمال الدين

الأفغاني والشيخ محمد عبده المصري رحمهما الله، وشيخ الاسلام ابن تيمية

وتلاميذه، وشيخ الإسلام مرشد أهل نجد محمد بن عبد الوهاب، وللفقيد في الذب عن

ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب والثناء عليهما رسالة (ضوء الصباح) في اللغة

المليبارية، وكان أيضا يحب إمام المملكة العربية السعودية عبد العزيز بن عبد

الرحمن الفيصل آل السعود، أصلحه الله وهداه ووفقه لما يحب ويرضى آمين، وقد

أعقب رحمه الله ذرية مباركة: بنتًا واحدة وتسعة أبناء، أكبرهم عبد السلام نال شهادة

البكالورية من الجامعة الوطنية الملية في دهلي، فنسأله تعالى أن يجعل منهم خير

خلف لوالدهم الكريم المجدد الحكيم، ويوفق سائر أهل مليبار للاستقامة على ما هداهم

إليه من الصراط المستقيم، وأن يثيبه عنا جنات النعيم. آمين.

(المنار)

إننا نشارك أنجال هذا الصديق الكريم والمصلح الحكيم ومريديه وسائر أهل

وطنه في مصابهم العظيم بفقده، ونعزيهم أصدق التعزية، وندعو لهم بالثبات على ما

أرشدهم، ونعدهم بأن نكون لهم كما كنا له فيما يرجعون إلينا، ونسأله تعالى أن يتولى

توفيقهم وتوفيقنا.

***

الشيخ محمد الكستي

والشيخ عبد اللطيف نشابة

وقد توفي هذا العام من رجال العلم والأدب في سورية الشيخ محمد الكستي

قاضي الشرع الأكبر في بيروت، والشيخ عبد اللطيف نشابة في طرابلس، وكان كل

منهما شاعرًا أديبًا، فالأول قد اشتهر بمنصبه فوق شهرته بأدبه وهو نجل المرحوم

الشيخ أبو الحسن الكستي شاعر بيروت االمشهور، ولوالده ديوان كبير مطبوع،

والثاني نجل أستاذنا الأكبر شيخ الشيوخ محمود نشابة الذي سبق لي التنويه بعلمه

وفضله في المنار، وما تلقيته عنه من الحديث والفقه، وكان الشيخ عبد اللطيف

ذكيًّا لوذعيًّا، لكن ضرورة المعيشة اضطرته إلى الاشتغال بالتجارة عن العلم، ولو

انقطع لملازمة والده والتَّلَقِي عنه لكان تحصيله عظيمًا لذكائه. ولمَّا كنتُ أتردد على

دار والده لقراءة الحديث والفقه عليه في الدروس الخاصة بي كان يُرَغِّبُنِي في دعوة

الشيخ عبد اللطيف لحضورها معي على سبقه إياي في الطلب بضع سنين. رحمهم

الله أجمعين.

_________

ص: 793