المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌ أقوى سلاح

{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)} (1) فالإنذار هنا كما تلاحظون هو إنذار في القرآن الكريم.

لأن هناك فكرة مضطر إلى أن أصفها بالفكرة الشيطانية، فكرة شيطانية تتسرب إلى بعض الدعاة للأسف الشديد، وهي إن الشيطان يقول له: إن هؤلاء القرآن لا يؤمنون بالقرآن فكيف تحتج به، فأنت اهجر آيات القرآن وأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام لأنهم لا يؤمنون بالقرآن ولا بالرسول عليه الصلاة والسلام، فأنت تقنعهم بالأدلة العقلية والمناقشات الجدلية وتأتي لهم بنصوص من كتبهم إلى آخر هذه الأساليب الغريبة هي أساليب، لكن الأسلوب الأساسي، والإنذار الأساسي للبشرية إنما يتم بالقرآن الكريم، فهذا تعطيل‌

‌ أقوى سلاح

من أسلحة المؤمنين في دعوتهم الكفار إلى الدخول في الإسلام.

أقوى سلاح:

القرآن الكريم سلاح حتى مع الكافر، لأنه كما ذكرنا من قبل، القرآن الكريم يتميز بالإعجاز التأثيري، فالقرآن له تأثير حتى على قلب من لا يؤمن به، وهذه هي سنة الأنبياء والرسل، هذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم:{فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)} (2) هذا في التذكير، ولكن أيضا في الإنذار وفي الوعيد، كما نرى في هذه الآية الكريمة، {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)} (3) فالرسول عليه الصلاة والسلام كما أنه هو البشير هو أيضا النذير.

فالبشارة والنذارة إنما تحصل بتبليغ آيات الله، فالقرآن نزل من أجل هذا:{بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (4) فكيف تعطل أقوى سلاح في دعوة الناس إلى القرآن الكريم.

فانتبه إلى هذا.

(1) فصلت: 13.

(2)

ق: 45.

(3)

فصلت: 13.

(4)

فاطر: 24.

ص: 14

يقول الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)} (1) ويقول سبحانه وتعالى: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)} (2).

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)} (3)

ويقول تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)} (4) ويقول تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)} (5).

أيضا لأهمية أسلوب الترهيب استعمله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المواقف التي تحتاج إلى بيان الوعيد أو التهديد بالعقوبة لمن يرتكب مخالفة لأوامر الله تبارك وتعالى.

فمن ذلك مثلا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ» .

(1) مريم: 71 - 72.

(2)

الزمر: 15 - 16.

(3)

التحريم: 6.

(4)

الأحقاف: 18 - 20.

(5)

طه: 124 - 127.

ص: 15

يعني عاهد بالله، وباسم الله ثم غدر.

«ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ» (1)

وقال صلى الله عليه وسلم: «وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا» (2)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:«أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» (3).

وقال صلى الله عليه وسلم: «اتَّقُوا النَّارَ ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ ثُمَّ قَالَ اتَّقُوا النَّارَ ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ ثَلَاثًا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا ثُمَّ قَالَ اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ» (4).

فالتربية كالعملة لها وجهان وجه الترغيب أو الثواب، ووجه الترهيب أو العقاب.

فيتحتم على المربي استخدام أسلوب الترهيب في بعض المواقف لكن ينبغي ألا يبقى هذا هو الأسلوب الوحيد أو الأكثر استخداما في التربية.

-لأن كثرة الترهيب أو العقاب لها تأثيرات سلبية في نفسية وفي شخصية الطفل، كما سنناقش إن شاء الله تبارك وتعالى ذلك ..

(1) رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

(3)

متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

(4)

متفق عليه من حديث عَدي بن حاتم رضي الله عنه.

ص: 16

هناك خصائص وفروق بين أسلوبي الترغيب والترهيب، فمثلا يقول الله تبارك وتعالى:{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)} (1) فتلاحظ هنا أن في الآية وعدا يصاحبه تحبيب وترغيب بمصلحة أو متعة آجلة تعود على صاحبها بخيرات مقابل الابتعاد عن لذة ضارة أو عمل سيء ابتغاء مرضاة الله تعالى وإطاعة أوامره واجتناب نواهيه.

أما الترهيب فهو عكس الترغيب –كما ذكرنا- لأنه وعيد وتهديد بعقوبة إزاء ارتكاب المرء معصية منهي عنها.

فدائما يأتي الترهيب تهديدا من الله سبحانه وتعالى مصحوبا بإظهار صفة العزة والجبروت الإلهي ليكون المرء دائما على حذر مما تقترف يداه من ارتكاب الهفوات والمعاصي.

{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} (2)

انظر ختام الآية

{وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} ولذلك لما أخطأ أحدهم في قراءتها فقال: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أحد المستمعين العرب، قال: لا، لابد أنك أخطأت في الآية، لأنه لو رحم وغفر لما قطع، فلما قطع فذلك لأنه عز وحكم {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} المائدة:38.

فالإسلام يتبع جميع وسائل التربية ولا يترك منفذا في النفس لا يصل إليه.

(1) آل عمران: 15.

(2)

المائدة: 38.

ص: 17

التربية لا تقتصر على مبدأ الترغيب والترهيب، وإنما هناك أنواع كثيرة جدا من مسالك تربية وتهذيب هذه النفس البشرية، هناك أسلوب القدوة، وهناك أسلوب الموعظة، وهناك أسلوب الترغيب والترهيب كما ذكرنا.

والترهيب والتهديد يستخدم بجميع درجاته ابتداء من التهديد إلى التنفير، مثلا: مرة يهدد بعدم رضاء الله تبارك وتعالى، يقول الله تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)} (1).

مرة يهدد بغضب الله تبارك وتعالى صراحة كما حدث في حادثة الإفك، فهذه أشد من الدرجة التي جاءت في الآية في سورة الحديد يقول الله تعالى:{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17)} (2).مرة أخرى يهدد بحرب من الله ورسوله، يقول الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا} (3)

- إعلان حرب.

{فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)} (4).

(1) الحديد: 16.

(2)

النور: 15 - 17.

(3)

البقرة: 278 - 279.

(4)

البقرة: 279.

ص: 18

ومرة أخرى يهدد بالعقاب في الآخرة: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)} (1).

أيضا يهدد أحيانا بالعقاب في الدنيا: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} (2)، ويقول:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)} (3) ويقول عز وجل: {وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)} (4).

ثم أيضا يوقع العقاب، وهذه درجة أخرى أبعد من مجرد التهديد.

{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (5) و {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} (6).

هذا التنوع سواء من حيث أساليب التربوية، ثم من حيث أساليب الترغيب وتنوع أساليب الترهيب أيضا وتفاوت درجاتها، يفيد أن هذه عقوبات أو ترغيب أو ترهيب لأنواع مختلفة ومتفاوتة من الناس، ماذا يقول الشاعر؟

العبد يقرع بالعصا والحر تكفيه الإشارة

يعني: من الناس من تكفيه الإشارة البعيدة فيرتجف قلبه ويهتز وجدانه.

ويعدل عما هو مقدم عليه من انحراف، ومنهم من لا يردعه إلا الغضب الصريح.

(1) الفرقان: 68 - 69.

(2)

التوبة: 39.

(3)

الفتح: 16.

(4)

التوبة: 74.

(5)

النور: 2.

(6)

المائدة: 38.

ص: 19

ومنهم من يكفيه التهديد بعذاب مؤجل التنفيذ، ومنهم من لابد من تقريب العصا منه حتى يراها على مقربة منه، ومنهم بعد ذلك فريق لابد أن يحس لذع العقوبة على جسمه كي يستقيم.

-فأساليب التربية الإسلامية كما أشرنا متنوعة جدا كما سنفصل بعد ذلك إن شاء الله تعالى ..

هناك التربية بالقدوة، وهناك التربية بالعادة، وهناك التربية بالموعظة، وهناك التربية بالملاحظة، وهناك التربية أيضا بالعقوبة وبالإفادة كما ذكرنا.

فالتربية بالقدوة ميزتها أنها تكسب الولد أفضل الصفات وأكمل الأخلاق ويترقى نحو الفضائل والمكرمات وبدون القدوة لا ينفع مع الولد تأديب ولا يؤثر فيه موعظة.

وهناك التربية بالعادة، وهذه تصل بالإنسان أيضا أو بالطفل إلى أفضل وأطيب الثمرات لأنها تغرس الأعمال الصالحة في هذا الطفل.

-بدون التربية بالعادة وهي الاستمرار، الاستمرار في الشيء حتى يصبح عادة، وبدون ذلك يكون المربي مثل الذي يكتب على صفحة ماء أو يصرخ في واد أو ينفخ في رماد بلا فائدة ولا جدوى.

-يعني لو طبقناها في الصلاة، فيكون الطفل تعود حتى قبل أن يصل إلى السابعة هو تعود أن يرى أمه تصلي وأباه يصلي، فبسبب وجود هذه القدوة الحسية أمامه فيحاول حتى وهو ابن الثلاث أو الأربع سنوات يقلد أو يقتدي بأبيه في مسألة الصلاة.

شيء طبيعي بدون أن يكلمه أحد، لماذا؟

لأنه عنده أن هذا الأب أو الأم أفضل وأحسن ناس في الدنيا كلها، ومن ثم يتقمص ما يمارسه الأبوان أمامه من أساليب.

فإذا جاءت السابعة وحان وقت تدريبه على الصلاة، تبدأ بأمره بالصلاة.

هو لا يؤمر بالصلاة قبل السابعة وهذا رعاية لمراحل نموه المختلفة، ولكن مجرد أن يرى القدوة فهذا يغرس في نفسه أن هذا شيء حسن وينبغي الاقتداء به.

ص: 20

بعد ذلك يؤمر بالصلاة، فالأمر بالصلاة إعانة له على التعود على المحافظة على الصلاة.

إذا الإنسان تدرج وراعى هذا التدرج، التربية بالقدوة والتربية بالعادة ونحو ذلك، هل يتصور لهذا الطفل إذا بلغ العاشرة، يقترب من النضج ويكون أكمل من المرحلة السابقة، هل مثل هذا يحتاج لأن يضرب على الصلاة؟

في الغالب، لكن لا يجئ أحدهم ويتجاوز كل المراحل السابقة ويظل مقصرا حتى يصبح ابنه في سن العاشرة ويبدأ معه بالضرب، فأنت الذي قصرت في المراحل السابقة، أو يضرب بعد التكليف، وبعد التكليف خلاص هو أصبح مسئولا ومكلفا، فإذا لابد من الانتباه من هذه المراحل المبكرة وإعطاء كل مرحلة حقها.

ولكن التربية بالموعظة الكلمة الهادئة والنصيحة الراشدة، والتربية بالموعظة من أنواعها أيضا التربية بالعبرة، لأن العظة تصل بطريقة غير مباشرة عن طريق القصص أو الحوار أو الأسلوب الرشيد الحكيم والتوجيه المؤثر

هناك التربية بالملاحظة، وهناك التربية بالعقوبة كما ذكرنا حتى لا يسترسل في المخالفات.

يقول الأستاذ محمد قطب في كتابه عن التربية، حينما لا تفلح القدوة ولا تفلح الموعظة، فلابد أيضا من علاج حاسم يضع الأمور في وضعها الصحيح، والعلاج الحاسم هو العقوبة، وبعض اتجاهات التربية الحديثة تنفر من العقوبة وتكره ذكرها على اللسان، ولكن الجيل الذي أريد له أن يتربى بلا عقوبة في أمريكا جيل منحل متميع مفكك الكيان، إن العقوبة ليست ضرورة لكل شخص فقد يستغني شخص بالقدوة وبالموعظة، فلا يحتاج في حياته كلها إلى عقاب، ولكن الناس ليسوا كلهم كذلك بلا ريب، ففيهم من يحتاج إلى الشدة مرة أو مرات.

ص: 21

طبعا العقوبة أيضا حينما نذكر هذا في العقوبة، حذار أن يقفز إلى أذهاننا إن العقوبة تساوي الضرب، بالعكس العقوبة مراحل متعددة آخرها ما هو آخر الدواء، آخر الدواء الكي، فهي عقوبة اضطرارية في النهاية، آخر مرتبة يستعملها المربي.

يقول الأستاذ محمد قطب: وليست العقوبة أول خاطر يخطر على قلب المربي ولا أقرب سبيل، فالموعظة هي المقدمة، والدعوة إلى عمل الخير والصبر الطويل على انحراف النفوس لعلها تستجيب.

يقول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)} (1) وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (2) هذا ليس فقط مع الكافر، وإنما مع أي أحد تدعوة بما في ذلك الأولاد.

يقول تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} (3).

والموعظة وسائل مختلفة لا وسيلة واحدة، والقرآن مليء باللمسات الدقيقة اللطيفة الموحية المؤثرة التي تهز الوجدان وتؤثر فيه بكل وسائل التأثير.

ولكن الواقع المشهود يؤكد أن هناك أناس لا يصلح معهم ذلك كله أو يزدادون انحرافا كلما زيد لهم في الوعظ والإرشاد وليس من الحكمة أن نتجاهل وجود هؤلاء أو نتصنع الرقة الزائدة فنستنكر الشدة عليهم، إنهم مرضى، نعم. ومنحرفون، والعيادات السيكولوجية قد تصلحهم، ولا أحد يمنع عنهم العلاج النفسي أو أي نوع من أنواع العلاج.

(1) فصلت: 33 - 34.

(2)

النحل: 125.

(3)

المزمل: 10.

ص: 22

ولكن فلنحذر أن نجعل وسيلتنا في تربية النفوس أن نجاريها في انحرافاتها ونتلمس لها الأعذار فإن ذلك يبعث على الانحراف ويزيد عدد المنحرفين.

إن التربية الرقيقة اللطيفة الحانية كثيرا ما تفلح في تربية الأطفال على استقامة ونظافة واستواء.

ولكن التربية التي تزيد من الرقة واللطف والحنو -التي بها حماية زائدة وتدليل زائد- تضر ضررا بالغا لأنها تنشئ كيانا ليس له قوام.

والنفس في ذلك كالجسم إذا رفقت بنفسك رفقا زائدا فلم تحمله جهدا خشية التعب، ولا مشقة خشية الإنهاك فالنتيجة أنه لا يقوى أبدا ولا يستقيم له عود

-يعني الشخص الذي يتجنب حمل أشياء ثقيلة أو عمل مهام فيها مشقة خشية أن يرهق.

ما الذي يحصل؟

يحصل ما يسمونه في الطب الضمور الناتج عن الإهمال أو عدم الاستعمال ( use it or loose it)، يعني استعمل الحاسة وإلا سوف تفقدها ويحصل لها ضمور.

فالشخص الذي يريد أن يبني العضلة ماذا يعمل؟

لابد أن يحمل أثقالا متدرجة في الازدياد حتى يعود ذلك عليه بالقوة والنماء، ولكن الذي يهمل ذلك ويعطل عضلاته، فما الذي يحصل؟

الرخاوة والليونة والضعف.

يقول: فالنفس في ذلك كالجسم إذا رفقت بنفسك رفقا زائدا

هو مطلوب الرفق بالنفس لكن في حدود.

فالشخص الذي يرفق بنفسه رفقا زائدا فلم تحمله جهدا خشية التعب، ولا مشقة خشية الإنهاك فالنتيجة أنه لا يقوى أبدا ولا يستقيم له عود

ص: 23

وإذا رفقت بنفسك رفقا زائدا فلم تحملها أبدا على ما تكره، فالنتيجة أنها تتميع، وتنحرف ولا تستقيم.

-فالنفس أيضا لابد فيها من مكابدة جهد ومشقة حتى تستقيم.

ولذلك من حكمة الله سبحانه وتعالى، أن الإنسان مثلا في مرحلة المراهقة تنشط الغدد والهرمونات وكذا، بحيث أنه يكون عنده رغبة وشهوة شديدة مثلا، وإن لم يكن حتى نضج من الناحية العقلية أو لم تنضج شخصيته بعد.

يعني عدم تيسر الزواج في هذا السن المبكر مع وجود هذا الدافع يقويه أم يضعفه؟

يقويه؛ لأنه يربيه على تأجيل الرغبات، تأجيلها وعدم استيفائها كلما سنحت له، وإنما هذا تدريب يقويه وليس يضعفه، يقويه على ماذا؟

على أنه ليس كلما اشتهى نال في الحال، فهذا يدربه على كبح جماح هذه النفس والتدرب على تأجيلها حتى يفرغ من تعليمه أو يشتغل أو يأتي بكذا أو كذا من متطلبات الزواج.

فمثل هذا لوضع فيه جهد ومشقة للنفس ولكنه يضعفه أم يقويه؟

يقويه، لأن مثل هذه المصلحة لا يمكن أن تتحقق لو أن الأمور فيها رخاوة وسعة، وإنما تأجيل استيفاء الشهوات يقويه ويعينه على كبحها إلى أن يأتي الوقت المناسب.

يقول: والنفس في ذلك كالجسم إذ رفقت بجسمك رفقا زائدا فلم تحمله جهدا خشية التعب، ولا مشقة خشية الإنهاك فالنتيجة أنه لا يقوى أبدا ولا يستقيم له عود.

وإذا رفقت بنفسك رفقا زائدا فلم تحملها أبدا على ما تكره، فالنتيجة أنها تتميع وتنحرف ولا تستقيم.

ص: 24

{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} (1) وأنت مطالب بفعل ما فيه كره ومشقة لأن هذا هو الذي يربي هذه النفس.

يقول: وفضلا عن ذلك –يعني نتيجة أن النفس إذ تُركت تتميع وتنحرف ولا تستقيم- بالإضافة إلى ذلك فإنها تشقي صاحبها، لأنها لا تدع له فرصة يتعود فيها على ضبط مشاعره وشهواته فيصطدم بالواقع الأرضي الذي لا يعطي الناس قط كل ما يشتهون.

ومن هنا كان لابد من شيء من الحزم في تربية الأطفال.

-ومن أجل ذلك في تربية الأطفال، نحتاج أحيانا أن نعمل لهم نوع من الإحباط، تحتاج إن تربيه على تحمل الإحباط، وليس كل شيئا يريده لابد أن ينفذ فيصبح سلطانا بلا تاج، يأمر وينهى ويتحكم في كل من في البيت، والآباء يعتبر أن الإحسان للطفل أن يلبي له كل ما يطلب

لكن الطفل أحيانا يحتاج أن تحبطه ويتعود على تحمل الإحباط ويتعود أن في الحياة ليس كل ما يشتهيه يشتريه وليس كل ما يطلبه يناله، وإنما الواقع في واقع الحياة أنه سيعجز عن تحصيل بعض الأهداف أحيانا.

فإذا أردت أن تعود ابنك مثلا على الاستئذان، وأن لا يدخل بابا مغلقا إلا بعد أن يستأذن.

فبداية تفهمه طبعا تفاصيل الاستئذان، وأن من بداخل الغرفة قد يقول لك: ادخل، وقد يقول لك: ارجعوا، أو ارجع.

فالمرة الثانية والثالثة تبدأ تقول له ماذا؟

ادخل.

لكن لابد من مرة تعمل تصدمه وتسبب له احباط

لكن احباط محكوم، تعمل له صدمة بالإحباط، بإنك تقول له: ارجعوا.

(1) البقرة: 216.

ص: 25

وليس هناك داع لأن يرجع، ولكن من أجل أن تدربه على تحمل الإحباط، مع أنه من الممكن أن يدخل لا مشكلة، ولكن تتعمد إنك أحيانا تحبطه احباطا خفيفا، لأنه في أول مرة سيصطدم صدمة شديدة: كيف أبي يقول لي: ارجعوا

يعني صدمة وإحباط فقد تعود على أن يلبى طلبه.

لكنها مفيدة له، لأنه في أول مرة سيصدم ويحبط، لكن بعد ذلك مع تكرر الاحباط يتعود عليه، ويكون متوقعا حين يستأذن عليك أو على غيرك: إن من حق من في داخل البيت أن يقول نعم أو لا، ادخل أو ارجع، هذا حقه.

بدون ما تحصل مشكلة فلابد من شيء من الحزم في تربية الأطفال وتربية الكبار لصالحهم هم قبل صالح الآخرين.

فمن ملامح هذا الحزم استخدام الحد أو العقوبة أو التهديد باستخدامها في بعض الأحيان.

فإذًا أسلوب التربية بالترغيب والترهيب هو أسلوب مبني على قوله تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} (1).

ولذلك بسبب علم الله بطبائع خلقه، سواء خلق الإنسان الرجل أو المرأة، والطفل أو الكبير أو الشيطان، لأنه ممن خلقه الله.

{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} فالله يعلم سبحانه وتعالى هذه النفوس وطبائعها، وهو الذي فطرها على هذه الفطرة، ولذلك جاء الأسلوب التربوي الإسلامي موافقا ومبنيا على ما فطر الله عليه الإنسان من الرغبة في اللذة والنعيم والرفاهية وغريزة حب البقاء، وفي نفس الوقت الرهبة من الألم والشقاء وسوء المصير.

(1) الملك: 14.

ص: 26

وكما ذكرنا من قبل إن جميع الكائنات الحية تقريبا تبتعد عما يؤذيها حال شعورها به وتقبل على ما يلذها ويحقق لها استمرار الحياة أو جنسها.

وهذا هو المقصود بقوله تعالى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)} (1) فهذه أولى مراتب الهداية الأربع:

أول مراتب الهداية، الهداية العامة لجميع المخلوقات، هداية إلى ما يصلحها، والقصص في ذلك فيها من الأعاجيب الشيء الكثير جدا، أعاجيب الحشرات والحيوانات والوحوش وكل ما خلق الله من الكائنات حتى غير عاقلة، مثلا بعض الحشرات التي تغير لون جلدها بحيث يتوافق مع البيئة، ويسهل الاختباء عليها.

لو درستم سلوك الوحوش والحيوانات والطيور والنحل والنمل وكل هذه الأشياء، أنت لو حاولت تطارد صرصور يهرب أم يستسلم، لأن ليس عنده عقل؟

لا هو ليس عنده عقل لكن الله سبحانه وتعالى فطره على حب البقاء وحب التناسل، وبقاء هذا النسل، وفعلا هناك أشياء جميلة جدا ورائعة تشرح هذه الآية الكريمة، لكن ليس هذا هو أوان الكلام فيها.

فالله سبحانه وتعالى ميز الإنسان عن الحيوانات بقدرته على التعلم والاعتبار والتفكير لما بعد هذه الحياة.

هذا من خواص الإنسان.

وأيضا ميز الإنسان بأنه يعمل ويحضر للمستقبل ويميز بين النافع والدار ويختار بينهما سواء في العاجل او الآجل.

(1) طه: 50.

ص: 27