الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: التفصيل في بيان بدعتين من أخطر البد العملية
1- التوسل البدعي
.
…
والبدع كثيرة، وقد سبق ذكر كثير منها، وسأذكر بشيء من التفصيل بدعتين من أخطر البدع العملية، وأكثرها وقوعاً والتي لا تصل إلى حد الشرك الأكبر، ولكن أدى ابتداعهما والتساهل بهما إلى الوقوع فيه فيما يلي:
البدعة الأولى: التوسل البدعي:
التوسل في الاصطلاح له تعريفان:
الأول: تعريف عام: وهو التقرب إلى الله تعالى بفعل المأمورات وترك المحرمات.
الثاني: تعريف خاص بباب الدعاء: وهو أن يذكر الداعي في دعائه ما يرجو أن يكون سبباً في قبول دعائه، أو أن يطلب من عبد صالح أن يدعو له.
والتوسل في أصله ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: التوسل المشروع:
وهذا القسم يشمل أنواعاً كثيرة، يمكن إجمالها فيما يلي:
1-
التوسل إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته، كما قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [سورة الأعراف: 180] .
وذلك بأن يدعو الله تعالى بأسمائه كلها، كأن يقول: اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى أن تغفر لي، أو أن يدعو الله تعالى باسم معين من أسمائه تعالى يناسب ما يدعو به، كأن يقول: اللهم يا رحمن ارحمني، أو أن يقول: اللهم إني أسألك بأنك أنت الرحمن الرحيم أن ترحمني.
أو أن يدعو الله تعالى بجميع صفاته، كأن يقول:"اللهم إني أسألك بصفاتك العليا أن ترزقني رزقاً حلالاً" أو أن يدعوه بصفة واحدة من صفاته تعالى تناسب ما يدعو به، كأن يقول:"اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني"، أو يقول مثلاً:"اللهم انصرنا على القوم الكافرين إنك قوي عزيز".
2-
الثناء على الله تعالى، والصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في بداية الدعاء، لما ثبت عن فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلاً يدعو في صلاته لم يحمد الله ولم يصل على نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال:" عجل هذا "، ثم دعاه فقال له:" إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه، ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليدع بما شاء "، قال: وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي فمجَّد الله وحمده، وصلى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام:" ادع تجب، وسل تعط ".
ومن ذلك أن يثني على الله تعالى بكلمة التوحيد "لا إله إلا الله"، التي هي أعظم الثناء على الله تعالى، كما توسل بها يونس عليه السلام في بطن الحوت، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول في توسله مثلاً:"لا إله إلا الله، اللهم صل على محمد، اللهم اغفر لي".
ومن ذلك سورة الفاتحة، فشطرها الأول ثناء على الله تعالى، وآخرها دعاء.
3-
أن يتوسل العبد إلى الله تعالى بعباداته القلبية، أو الفعلية، أو القولية، أو غيرها، كما في قوله تعالى:{إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} [سورة المؤمنون: 109] ، وكما في
قصة الثلاثة أصحاب الغار، فأحدهم توسل إلى الله تعالى ببره بوالديه، والثاني توسل إلى الله تعالى بإعطاء الأجير أجره كاملاً بعد تنميته له، والثالث توسل إلى الله تعالى بتركه الفاحشة، وقال كل واحد منهم في آخر دعائه:"اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه".
ومن ذلك أن يقول الداعي: اللهم إني أسألك بمحبتي لك ولنبيك محمد صلى الله عليه وسلم ولجميع رسلك وأوليائك أن تنجيني من النار، أو يقول: اللهم إني صمت رمضان ابتغاء وجهك فارزقني السعادة في الدنيا والآخرة.
4-
أن يتوسل إلى الله تعالى بذكر حاله، وأنه محتاج إلى رحمة الله وعونه، كما في دعاء موسى عليه السلام:{رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [سورة القصص: 24] ، فهو عليه السلام توسل إلى ربه جل وعلا باحتياجه للخير أن ينزل عليه خيراً.
ومن ذلك قول الداعي: اللهم إني ضعيف لا أتحمل عذاب القبر ولا عذاب جهنم فأنجني منهما، أو يقول: اللهم إني قد آلمني المرض فاشفني منه.
ويدخل في هذا الاعتراف بالذنب وإظهار الحاجة لرحمة الله ومغفرته، كما في قوله تعالى:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] .
5-
التوسل بدعاء الصالحين رجاء أن يستجيب الله دعاءهم. وذلك بأن يطلب من مسلم حي حاضر أن يدعو له.
كما في قول أبناء يعقوب عليهم السلام له: {يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [سورة يوسف: 97] ، وكما في قصة الأعرابي الذي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو بنزول المطر، فدعا صلى الله عليه وسلم، وكما في قصة المرأة التي طلبت منه عليه الصلاة والسلام أن يدعو الله لها بأن لا تتكشف، وكما طلب عمر - ومعه الصحابة - في عهد عمر من العباس أن يستسقي لهم، أي أن يدعو الله أن يغيثهم بنزول المطر.
فهذه التوسلات كلها صحيحة؛ لأنه قد ثبت في النصوص ما يدل على مشروعيتها، وأجمع أهل العلم على ذلك.
القسم الثاني: التوسل الممنوع:
لما كان التوسل جزءاً من الدعاء، والدعاء عبادة من العبادات، كما ثبت في الحديث:"الدعاء هو العبادة"، وقد وردت النصوص الصحيحة الصريحة بتحريم إحداث عبادة لم ترد في النصوص الشرعية، فإن كل توسل لم يرد في النصوص ما يدل على مشروعيته فهو توسل بدعي محرم، ومن أمثلة هذه التوسلات المحرمة:
1-
أن يتوسل إلى الله تعالى بذات نبي أو عبد صالح، أو الكعبة، أو غيرها من الأشياء الفاضلة، كأن يقول:"اللهم إني أسألك بذات أبينا آدم عليه السلام أن ترحمني".
2-
أن يتوسل بحق نبي أو عبد صالح أو الكعبة أو غيرها.
3-
أن يتوسل بجاه نبي أو عبد صالح أو بركته أو حرمته أو بحق قبره ونحو ذلك.
فلا يجوز للمسلم أن يدعو الله تعالى بشيء من هذه التوسلات، ولذلك لم يثبت في رواية صحيحة صريحة أن أحداً من الصحابة أو التابعين توسل إلى الله تعالى بشيء منها، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، وقد نقلت عنهم أدعية كثيرة جداً، وليس فيها شيء من هذه التوسلات، وهذا إجماع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين على عدم مشروعية جميع هذه التوسلات.
البدعة الثانية: إقامة الأعياد والاحتفالات البدعية:
شرع الله تعالى لأهل الإسلام عيدين يفرحون فيهما بما أنعم الله به عليهم من إدراك المواسم الفاضلة، وهما عيد الفطر وعيد الأضحى، كما شرع لهم عيداً ثالثاً وهو يوم الجمعة، وهو يتكرر في كل أسبوع يجتمع فيه المسلمون لصلاة الجمعة وسماع الذكر في خطبتها – وهو عيد نسبي- فلا يجوز للمسلمين التعبد لله تعالى بإحداث أعياد واحتفالات أخرى تتكرر بتكرر الأيام أو الشهور أو السنين.
فلا يجوز تخصيص شيء من الأزمنة، سواء من الليالي، أم الأيام، أم الشهور، أم السنين بعبادة أو عبادات معينة لم يرد في الشرع تخصيصها بها، سواء أكانت هذه الأزمان أزماناً فاضلة أم لا؛ لأن ذلك من البدع المحدثة، ولذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة، ولا عن أحد من سلف هذه الأمة تخصيص ليلة معينة بعبادة معينة، وهذا إجماع منهم على عدم مشروعيته، بل إنه قد جاء عن بعض الصحابة الإنكار على من خص بعض الشهور بعبادة معينة، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم.
وقد أحدث كثير من المسلمين في العصور المتأخرة أعياداً واحتفالات وعبادات في كثير من الأزمان، مع أنه لم يرد دليل صحيح يدل على مشروعيتها، وهذه الأزمنة ثلاثة أنواع:
النوع الأول: يوم لم تعظمه الشريعة أصلاً، ولم يحدث فيه حادث له شأن، مثل أول خميس من رجب، وليلة الجمعة التي تليه، فهذا اليوم وهذه الليلة يعظمها بعض الجهال، بصيام نهار ذلك الخميس، وقيام هذه الليلة التي تليه، ويصلون فيها صلاة يسمونها صلاة الرغائب، وكل هذا لا دليل عليه، وهو من البدع المحرمة، وإنما أحدثت هذه الصلاة بعد الأربعمائة، وقد وضع بعضهم حديثاً في فضلها، وهو حديث موضوع بإجماع أهل العلم، وقد وردت أيضاً أحاديث في فضل صيام بعض أيام رجب، ووردت كذلك أحاديث في فضل الصلاة في بعض أيام أو ليالي رجب، وكل هذه الأحاديث ضعيفة أو موضوعة، وقد ثبت عن بعض الصحابة النهي أو الكراهة لتعظيم رجب بصيام أو غيره، وثبت عن بعضهم أن تعظيم شهر رجب من عمل أهل الجاهلية فمن عظمه فقد اقتدى بهم.
النوع الثاني: الأيام والليالي التي جاء في الشرع ما يدل على فضلها، مثل يوم عرفة، ويومي العيدين، ويوم عاشوراء، وليلة القدر، وليلة النصف من شعبان، فهذه الأوقات يستحب أن يفعل فيها من العبادات ما ورد في الشرع ما يدل على مشروعيته فيها، ولا يجوز فيها إحداث عبادات ليس لها أصل في الشرع، كصلاة الألفية ليلة النصف من شعبان التي أحدثت في القرن الخامس الهجري، وكالتعريف بالأمصار في
يوم عرفة، وكالاحتفال في يوم عاشوراء، كما لا يجوز للمسلم تخصيص شيء من هذه الأوقات الفاضلة بعبادة يكررها كلما جاء هذا الوقت الفاضل مما لم يرد في الشرع ما يدل على تخصيصها بها، كتخصيص ليلة القدر بعمرة أو بذكر خاص أو بصلاة خاصة يكررها في كل عام.
النوع الثالث: الأيام والليالي التي حدثت فيها حوادث مهمة، ولكن لم يأت في الشرع ما يدل على فضلها أو على مشروعية التعبد لله أو الاحتفال فيها.
ومن هذه الأوقات: الليلة التي يقال: إنه حصل فيها الإسراء والمعراج لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع أنه لم يثبت في تحديد هذه الليلة شيء.
ومن هذه الليالي أيضاً الليلة التي يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ولد فيها، مع أنه لم يثبت في تحديد شهر ولادته ولا يومها شيء يعتمد عليه، بل في ذلك خلاف مشهور، وقد جزم وقطع العبيديون الرافضة في القرن الرابع الهجري أن مولده صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول، مع أنه ليس هناك ما يرجح هذا القول.
وهذا الشهر قد أصيبت فيه الأمة الإسلامية بأعظم مصيبة، وهي وفاته صلى الله عليه وسلم، فقد كانت وفاته عليه الصلاة والسلام في شهر ربيع الأول بلا خلاف.
بل إن العبيديين اختاروا يوم الثاني عشر منه، فأقاموا فيه احتفالاً وقت حكمهم لمصر زعموا أنه من باب الفرح بولادته صلى الله عليه وسلم، مع أن هذا اليوم هو اليوم الذي توفي فيه النبي صلى الله عليه وسلم في قول عامة أهل العلم.
وكان كثير من هؤلاء العبيديين من الملاحدة الحاقدين على الإسلام وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ادعى بعضهم الألوهية، وعلى رأسهم الحاكم بأمر الله العبيدي الذي يؤلهه الدروز إلى الآن، ومنهم أو من أتباعهم: القرامطة، الذين قتلوا الحُجَّاج في عرفات وعند الكعبة المشرفة، وهدموا جزءاً من الكعبة، وأخذوا الحجر الأسود منها، ولم يعيدوه إلا بعد عدة سنوات.
والعبيديون هم أول من أقام الاحتفال بالمولد في القرن الرابع الهجري، وكان ذلك سنة 363هـ أثناء حكمهم لمصر.
فلا يُبعد أن هؤلاء العبيديين المنحرفين الذين يجزم بأن بعضهم يبغض النبي صلى الله عليه وسلم قد اختاروا شهر ويوم وفاته صلى الله عليه وسلم وقتاً لهذا الاحتفال، فرحاً بوفاته صلى الله عليه وسلم، وأظهروا للناس أنه للفرح بولادته عليه الصلاة والسلام.
وقد اتفق أهل العلم على أن السلف الصالح من أهل القرون الثلاثة المفضلة، وفي مقدمتهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلوا هذا الاحتفال، ولذلك لم ينقل فعله ولا القول بمشروعيته عن أحد من أهل القرون الثلاثة المفضلة، مع شدة محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم وحرصهم على الخير.
وهذا إجماع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجميع سلف هذه الأمة على عدم مشروعيته، وعلى عدم مشروعية جميع الاحتفالات المحدثة.
* * *