الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: أنواع الشرك الأصغر
النوع الأول: الشرك الأصغر في العبادات القلبية
…
المبحث الثاني أنواع الشرك الأصغر:
للشرك الأصغر أنوع كثيرة، أشهرها:
النوع الأول: الشرك الأصغر في العبادات القلبية:
ومن أمثلة هذا النوع:
المثال الأول: الرياء:
الرياء في اللغة مشتق من الرؤية، وهي: النظر، يقال: رائيتُه، مراءاة، ورياء، إذا أريتُه على خلاف ما أنا عليه.
وفي الاصطلاح: أن يظهر الإنسان العمل الصالح للآخرين أو يحسنه عندهم، أو يَظهر عندهم بمظهر مندوب إليه ليمدحوه ويعظم في أنفسهم.
فمن أراد وجه الله والرياء معاً فقد أشرك مع الله غيره في هذه العبادة، أما لو عمل العبادة وليس له مقصد في فعلها أصلاً سوى مدح الناس فهذا صاحبه على خطر عظيم، وقد قال بعض أهل العلم: إنه قد وقع في النفاق والشرك المخرج من الملة.
والرياء له صور عديدة، منها:
1-
الرياء بالعمل، كمراءاة المصلي بطول الركوع والسجود.
2-
المراءاة بالقول، كسَرْدِ الأدلة إظهاراً لغزارة العلم، ليقال: عالِم.
3-
المراءاة بالهيئة والزيِّ، كإبقاء أثر السجود على الجبهة رياءً.
وقد وردت أدلة كثيرة تدل على تحريم الرياء وعظم عقوبة فاعله، وأنه يبطل العمل الذي يصاحبه، منها حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه مرفوعاً:" إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر "، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: " الرياء، يقول الله عز وجل لهم يوم القيامة إذا جزي الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، هل تجدون عندهم جزاءً؟ ".
وحديث محمود بن لبيد رضي الله عنه الآخر، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " أيها الناس! إياكم وشرك السرائر ". قالوا: يا رسول الله، وما شرك السرائر؟. قال:" يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهداً لما يرى من نظر الناس إليه، فذلك شرك السرائر ". وحديث أبي هريرة في خبر الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، وهم رجل قاتل في الجهاد حتى قتل، ليقال: جرئ، ورجل تعلّم العلم وعلّمه أو قرأ القرآن ليقال: عالم أو قارئ، ورجل تصدَّق ليُقال: جواد. رواه مسلم.
ولهذا ينبغي للمسلم البعد عن الرياء والحذر من الوقوع فيه، وهناك أمور تعين على البعد عنه، أهمها:
1-
تقوية الإيمان في القلب، ليعظم رجاء العبد لربه، ويعرض عمن سواه، ولأن قوة الإيمان في القلب من أعظم الأسباب التي يعصم الله بها العبد من وساوس الشيطان، ومن الانقياد لشهوات النفس.
2-
التزود من العلم الشرعي، وبالأخص علم العقيدة الإسلامية،
ليكون ذلك حرزاً له بإذن الله من فتن الشبهات، وليعرف عظمة ربه جل وعلا، وضعف المخلوقين وفقرهم، فيحمله ذلك كله على مقت الرياء واحتقاره والبعد عنه، وليعرف أيضاً مداخل الشيطان ووساوسه، فيحذرها.
3-
الإكثار من الالتجاء إلى الله تعالى ودعائه أنه يعيذه من شر نفسه ومن شرور الشيطان ووساوسه، وأن يرزقه الإخلاص فيما يأتي وما يذر، والإكثار من الأذكار الشرعية التي هي حصن من شرور النفس والشيطان.
4-
تذكر العقوبات الأخروية العظيمة التي تحصل للمرائي، ومن أعظمها أنه من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة.
5-
التفكُّر في حقارة المرائي وأنه من السفهاء والسَّفَلة؛ لأنه يضيع ثواب عمله الذي هو سبب لفوزه بالجنة ونجاته من عذاب القبر وشدة القيامة وعذاب النار من أجل مدح الناس والحصول على منزلة عند المخلوقين، فهو يبحث عن رضا المخلوق بمعصية الخالق، ولهذا لما سُئل الإمام مالك رحمه الله: مَنِ السَّفَلة؟ قال: "من أكل بدينه".
6-
الحرص على كل ما هو سبب في عدم الوقوع في الرياء، وذلك بالحرص على إخفاء العبادات المستحبة، وبمدافعة الرياء عندما يخطر بالقلب، وبالبعد عن مجالسة المدّاحين وأهل الرياء، ونحو ذلك.
وفي ختام الكلام على مسألة الرياء يحسن التنبيه إلى أنه لا يجوز للمسلم أن يرمي مسلماً آخر بالرياء، فإن الرياء من أعمال القلوب ولا
يعلمه إلا علاّم الغيوب، واتهام المسلمين بالرياء هو من أعمال المنافقين، والأصل في المسلم السلامة، وأنه إنما أراد وجه الله، وأيضاً فإن المسلم يندب له في بعض المواضع أن يظهر عمله للناس، إذا أمن على نفسه من الرياء، كما إذا أراد أن يُقتدى به في الخير، فليس كل من حرص على إظهار عمله للناس يعتبر مرائياً.
المثال الثاني: من أمثلة الشرك الأصغر في العبادات القلبية: إرادة الإنسان بعبادته الدنيا:
المراد بهذا النوع: أن يعمل الإنسان العبادة المحضة ليحصل على مصلحة دنيوية مباشرة.
وإرادة الإنسان بعمله الدنيا ينقسم من حيث الأصل إلى أقسام كثيرة، أهمها:
1-
أن لا يريد بالعبادة إلا الدنيا وحدها، كمن يحج ليأخذ المال، وكمن يغزو من أجل الغنيمة وحدها، وكمن يطلب العلم الشرعي من أجل الشهادة والوظيفة ولا يريد بذلك كله وجه الله البتة، فلم يخطر بباله احتساب الأجر عند الله تعالى، وهذا القسم محرم، وكبيرة من كبائر الذنوب، وهو من الشرك الأصغر، ويبطل العمل الذي يصاحبه.
ومن الأدلة على تحريم هذا القسم وأنه يبطل العمل الذي يصاحبه:
أ- قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15، 16] .
ب- حديث عمر رضي الله عنه مرفوعاً: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ". رواه البخاري ومسلم.
ج- حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: " من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة ". يعني ريحها.
2-
أن يريد بالعبادة وجه الله والدنيا معاً، كمن يحج لوجه الله وللتجارة، وكمن يقاتل ابتغاء وجه الله وللدنيا، وكمن يصوم لوجه الله وللعلاج، وكمن يتوضأ للصلاة وللتبرد، وكمن يطلب العلم لوجه الله وللوظيفة، فهذا الأقرب أنه مباح؛ لأن الوعيد إنما ورد في حق من طلب بالعبادة الدنيا وحدها، ولأن الله رتب على كثير من العبادات منافع دنيوية عاجلة، كما في قوله تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]، وكما في قوله تعالى:{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح: 10-12] ، والنصوص في هذا المعنى كثيرة، فهذه النصوص تدل على جواز إرادة وجه الله وهذه المنافع الدنيوية معاً بالعبادة؛ لأن هذه المنافع الدنيوية ذكرت على سبيل الترغيب في هذه العبادات.
وهذا القسم لا يبطل العمل الذي يصاحبه، ولكن أجر هذه العبادة يُنقص منه بقدر ما خالط نيته الصالحة من إرادة الدنيا.
المثال الثالث: من أمثلة الشرك الأصغر في الأعمال القلبية: الاعتماد على الأسباب:
السبب لغة: الحبل، ويطلق على "كل شيء يُتوصل به إلى غيره" استعير من الحبل الذي يتوصل به إلى الماء.
وفي الاصطلاح هو: الأمور التي يفعلها الإنسان ليحصل له ما يريده من مطلوب، أو يندفع عنه ما يخشاه من مرهوب في الدنيا أو في الآخرة.
فمن الأسباب في أمور الدنيا: البيع والشراء أو العمل في وظيفة ليحصل على المال، ومنها: أن يستشفع بذي جاه عند السلطان ليسلم من عقوبة دنيوية، أو ليدفع عنه ظلماً، أو لتحصل له منفعة دنيوية كوظيفة أو مال أو غيرهما، ومنها: أن يذهب إلى طبيب ليعالجه من مرض، ونحو ذلك.
ومن الأسباب في أمور الآخرة: فعل العبادات رجاء ثواب الله تعالى والنجاة من عذابه، ومنها: أن يطلب من غيره أن يدعو الله له بالفوز بالجنة والنجاة من النار، ونحو ذلك.
والذي ينبغي للمسلم في هذا الباب هو أن يستعمل الأسباب المشروعة التي ثبت نفعها بالشرع أو بالتجربة الصحيحة، مع توكله على الله تعالى، واعتقاد أن هذا الأمر إنما هومجرد سبب، وأنه لا أثر له إلا بمشيئة الله تعالى، إن شاء نفع بهذا السبب، وإن شاء أبطل أثره.
أما إن اعتمد الإنسان على السبب فقد وقع في الشرك، لكن إن اعتمد عليه اعتماداً كلياً، مع اعتقاد أنه ينفعه من دون الله فقد وقع في
الشرك الأكبر، وإن اعتمد على السبب مع اعتقاده أن الله هو النافع الضار فقد وقع في الشرك الأصغر، فالمؤمن مأمور بفعل السبب مع التوكل على مسبّب الأسباب جل وعلا.
المثال الرابع من أمثلة الشرك الأصغر في الأعمال القلبية: التَّطَيُّر:
التطيُّر في الاصطلاح: التشاؤم بمرئي أو مسموع أو غيرهما.
ومعنى ذلك أن يكون الإنسان قد عزم على أمر ما، فيرى أو يسمع أمراً لا يعجبه فيحمله ذلك على ترك ما يريد فعله.
ويلحق بالتطيُّر في الحكم: عكسه، بأن يرى أو يسمع أمراً يسر به، فيحمله على فعل أمر لم يكن عازماً على فعله.
ومن أمثلة التطيُّر: ما كان يفعله أهل الجاهلية من أن أحدهم إذا أراد سفراً زجر أو أثار طيراً، فإن اتجه ذات اليمين تفاءل، فعزم على السفر، وإن اتجه ذات الشمال تشاءم، وترك هذا السفر، وقد كثر استعمال أهل الجاهلية للطيور في هذا الأمر حتى قيل لكل من تشاءم "تطيَّر"، ومن أمثلة التشاؤم أيضاً: التشاؤم بسماع كلمة لا تعجبه كـ "يا هالك"، أو بملاقاة عجوز شمطاء، أو برؤية الغراب، أو البوم، أو صاحب عاهة في أول سفره، أو في أول نهاره فيترك هذا السفر، أو يترك البيع والشراء في هذا اليوم، ومن أمثلته: التشاؤم ببعض الأشهر كصفر، والتشاؤم ببعض الأرقام كثلاثة عشر، كما يفعله كثير من أصحاب الفنادق والعمارات وغيرهم في هذا العصر، فتجد بعضهم لا يضع هذا الرقم في أدوار العمارة أو في المصعد أو في مقاعد الطائرات، ونحو ذلك تشاؤماً.
والتطيّر محرم، وشرك أصغر. ومثله: الفعل الذي يقدم عليه العبد أو يعزم عليه لرؤيته أو سماعه ما يسر به - كما سبق - ويستثنى منه الفأل الحسن، وهو: أن يكون الإنسان قد عزم على أمر معين فيرى أو يسمع أمراً حسناً من غير قصد له، فيسر به ويستبشر به، ويزيده ذلك اطمئناناً بأن ما كان قد عزم على فعله سيكون فيه خير وبركة بمشيئة الله تعالى، ويعظم رجاؤه في الله تعالى في تحقيق هذا الأمر، من غير اعتماد على هذا الفأل، فهذا حسن، فالفأل حسن ظن بالله تعالى، ورجاء له، وباعث على الاستعانة به، والتوكل عليه، وعلى سرور النفس، وانشراح الصدر، وهو مسكن للخوف، باعث للآمال، والطيرة على النقيض من ذلك: فهي سوء ظن بالله، وتوكل على غيره، وقطع للرجاء، وتوقع للبلاء، وقنوط للنفس من الخير، وهو مذموم وباطل شرعاً وعقلاً.
وقد وردت أدلة كثيرة تدل على بطلان التطير، وتحريمه، ومن ذلك ما ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الطيرة شرك ".
ومما يدل على تحريم الطيرة أيضاً وإباحة الفأل: ما رواه عروة بن عامر، قال: ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أحسنها الفأل، ولا ترد مسلماً، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم: لا يأتِ بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك "، وقوله صلى الله عليه وسلم:" لا عدوى، ولا طيرة، ويعجبني الفأل الحسن " قالوا: وما الفأل؟ قال: " الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم ". رواه البخاري ومسلم.