المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

مرويات السيرة النبوية بين قواعد المحدثين وروايات الأخباريين الأستاذ الدكتور: أكرم - مرويات السيرة لأكرم العمري

[أكرم العمري]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌معالم منهج المحدثين في النقد

- ‌أولاً: المقارنة

- ‌ثانياً: إتقان أسلوب المحدث واستخدامه في النقد

- ‌ثالثاً: الاهتمام بشهود العيان وكثرتهم

- ‌رابعاً: وضع شروط للراوي والمروي

- ‌خامساً: اشتراط الملاحظة العلمية

- ‌سادساً: الانتخاب عمل نقدي

- ‌المحدثون والنقد الباطني السلبي

- ‌اشتراط تملك حق الرواية:

- ‌حول الرواية بالمعنى:

- ‌النقد الباطني الإيجابي:

- ‌مرونة المنهج النقدي للمحدثين في التعامل مع الروايات التاريخية والأدبية:

- ‌الحاجة إلى مراجعة المنهج النقدي عند المحدثين وشروطها

- ‌الإيجابيات

- ‌السلبيات:

- ‌نظرة تأريخية:

- ‌تطوير المنهج:

- ‌محاولات فاشلة:

- ‌مرتضى العسكري وكتابه خمسون ومائة صحابي مختلق

- ‌فؤاد سنركين وانتقاده للبخاري في كتبه (تاريخ التراث العربي)

- ‌محاولات معاصرة:

- ‌أثر منهج المحدثين في تصحيح صورة السيرة النبوية:

- ‌ النبوة والوحي:

- ‌ التشكيك بالرسالة:

- ‌ أخبار زائفة:

- ‌ السياسة الشرعية:

- ‌ تطلعات لمستقبل دراسات السيرة:

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: مرويات السيرة النبوية بين قواعد المحدثين وروايات الأخباريين الأستاذ الدكتور: أكرم

مرويات السيرة النبوية بين قواعد المحدثين وروايات الأخباريين

الأستاذ الدكتور: أكرم ضياء العمري

بسم الله الرحمن الرحيم

ال‌

‌مقدمة:

يقصد بالمحدِّثين الرواة الذين نقلوا الأحاديث النبوية بمتونها وأسانيدها خلال القرون الإسلامية الأولى حيث كانت الرواية والحفظ تحتل المقام الأول رغم ظهور الكتابة منذ عصر السيرة النبوية وتوسع التدوين خلال القرنين الأولين وظهور المصنفات الحديثية المرتبة على الأسانيد والموضوعات خلال القرن الثاني والثالث للهجرة..

وقد صاغ المحدثون قواعد نقدية دقيقة ضمن منهج واسع عرف بمصطلح الحديث، وبذلك سبقوا الآخرين في التنظير والتقعيد لكيفية التفاعل مع الروايات بفحصها وتطبيق قواعدهم عليها لغرض الحكم عليها قبولاً ورداً، مما أدى إلى اكتمال معلوماتهم عن الرواة والتدقيق في أحوالهم من حيث الصدق والورع والالتزام الديني، وظهرت مكتبة ضخمة في علم الرجال، أثرت في فن الترجمة للأعلام في سائر العلوم التي ظهرت في الإسلام. وأهم المحدثين الذين عنوا بأخبار السيرة النبوية هم أبان بن عثمان، وعروة بن الزبير بن العوام، وعاصم بن عمر بن قتادة، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وموسى بن عقبة، ومعمر بن راشد، ومحمد بن إسحاق، وسليمان بن طرخان التيمي، والوليد بن مسلم الدمشقي، ومحمد بن عائذ الدمشقي، وأبو معشر السندي، وهؤلاء جميعاً إما ثقات أو صدوقون عند أئمة النقاد – ماعدا أبا معشر السندي فإنه بصير بالمغازي ضعيف بالحديث – وقد قبلت مروياتهم إما بإطلاق وإما بقيود كما في مراسيل الزهري التي عدت ضعيفة، وكما في عنعنة محمد بن إسحاق والوليد بن مسلم، فإنهما مدلسان، وبذلك يمكن القول بأن السيرة النبوية حظيت بنخبة من أهل العلم دونت أخبارها

ص: 1

وصنفتها؛ وبذلك تم حفظها وأمكن الثقة بمعلوماتها، وهذا مما هيأه الله تعالى لسيرة نبيه صلى الله عليه وسلم.

أما الأخباريون فهم رواة الأخبار التأريخية الذين ظهروا في القرن الثاني الهجري ومن أبرزهم:

محمد بن السائب الكلبي (ت 146هـ) ، وعوانة بن الحكم (ت 147هـ) ، وأبو مخنف لوط بن يحيى (ت157هـ) ، وسيف بن عمر التميمي (ت180هـ) ، وأبو اليقظان النسابة (ت190هـ) ، والهيثم بن عدي (ت206هـ) ، وأبو عبيدة معمر بن المثنى (ت 209هـ) ، ونصر بن مزاحم (ت212هـ) ، وكان علي بن محمد المدائني شيخ الأخباريين (ت212هـ) وخاتمتهم.

وقد جمع الأخباريون معلومات واسعة عن حركة الردة والفتوحات وأوضاع الحياة في عصر الخلافة الراشدة والدولة الأموية والعصر العباسي الأول، وبذلك مهدوا لظهور المؤرخين الكبار، أمثال خليفة بن خياط وابن قتيبة والبلاذري وأبي حنيفة الدينوري واليعقوبي والمسعودي، وإمام أهل هذه الصنعة محمد بن جرير الطبري (ت 310 هـ) .

ثم تتابع الاهتمام بالتدوين والتصنيف في التأريخ بما في ذلك فترة السيرة النبوية. وكان الاعتماد في نقل أخبارها على روادها الأوائل من المحدثين.

مكانة الأخباريين من الجرح والتعديل:

تناولت كتب الجرح والتعديل عدداً من مشاهير الأخباريين؛ ترجمت لهم وبينت صفاتهم وأحوالهم ومكانتهم عند المحدثين النقاد، وذلك ضمن تراجم الرواة ولم يفردوا بكتاب.

ص: 2

وأهم الأخباريين الذين تناولهم النقاد هم:

1.

محمد بن السائب الكلبي (ت146هـ) :

خلاصة ما قيل فيه أنه رأس في الأنساب، شيعي، متروك الحديث، ليس بثقة (1) .

2.

عوانة بن الحكم الكلبي (ت147هـ) أو (ت158هـ) :

قال الذهبي: العلاّمة الأخباري، الكوفي الضرير أحد الفصحاء له كتاب التأريخ وكتاب سير معاوية وبني أمية وغير ذلك، وكان صدوقاً في نقله.

وقال ابن حجر: "أخباري مشهور كوفي، كثير الرواية عن التابعين، قلّ أن روى حديثاً مسنداً، وأورد عن عبد الله بن المعتز عن الحسن بن عليل العنزي - وهو من تلاميذ ابن معين - أنه كان عثمانياً. فكان يضع الأخبار لبني أمية (2) .

3.

أبو مخنف لوط بن يحيى (ت 157هـ) :

قال يحيى بن معين فيه: "ليس بشيء". وقال في موضع آخر "ليس بثقة"(3) ،

وقال ابن عدي: "هو شيعي محترق، صاحب أخبارهم، وإنما له من

(1) ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل 9/351 والبخاري: التأريخ الكبير 2/324 والمزي: تهذيب الكمال 33/177 والذهبي: الكاشف 2/415 وابن حجر: تهذيب التهذيب 2/168، 12/54 وتقريب التهذيب 1/152.

(2)

الذهبي سير أعلام النبلاء 7/201 وياقوت: معجم الأدباء6/134 – 139 وابن حجر: لسان الميزان 4/38،386 وسير أعلام النبلاء 11/92.

(3)

العقيلي: الضعفاء 4/18

ص: 3

الأخبار المكروهة الذي لا أستحب ذكره" (1) ،

وقال ابن حجر العسقلاني: "أخباري تالف، لا يوثق به، تركه أبو حاتم وغيره"(2) .

4.

سيف بن عمر التميمي (ت170هـ) :

أخباري اتهمه أئمة النقد بالوضع في الأخبار، ومن ثم تركوا مروياته (3) ، ومع ذلك فإن النقول عنه في أخبار الردة والفتوح كثيرة، ولم يتعرض لأخبار السيرة النبوية إلا نادراً، ولم يرو أحاديث نبوية إلا نادراً. وله حديث منكر وخبر يتعلق بالسيرة النبوية (4)،وقد استقرأ ابن عدي مروياته وقال:"بعض أحاديثه مشهورة، وعامتها منكرة (5) لم يتابع عليها، وهو إلى الضعف أقرب منه إلى الصدق".

ويمكن أن يصار إلى نقدها من خلال ضوابط نقد المتن عند المحدثين، ومن خلال منهج النقد التأريخي الحديث.

5.

أبو اليقظان النسابة لقبه سحيم واسمه عامر بن حفص (ت190هـ) :

من موالي تميم عاش بالبصرة، ميوله أموية، يكره الشعوبية، ويخالف غلاة الشيعة (6) ، ولم تترجم له كتب الجرح والتعديل مما يدل على عدم عنايته

(1) ابن عدي: الكامل في ضعفاء الرجال 6/93

(2)

ابن حجر: لسان الميزان 4/492.

(3)

الذهبي: ميزان الاعتدال 3 / 352 –353، والمزي: تهذيب الكمال 325 – 327.

(4)

ميزان الاعتدال للذهبي 3/353.

(5)

المزي: تهذيب الكمال 326.

(6)

أكرم العمري: مقدمته لطبقات خليفة بن خياط ص22م.

ص: 4

بالأحاديث، رغم وجود عدد من كبار المحدثين بين شيوخه الذين ذكرهم ضمن مصادره..

6.

الهيثم بن عدي الطائي (ت207هـ) :

قال عنه ابن المديني – وهو ناقد كبير (ت234هـ) -: "الهيثم بن عدي أوثق عندي من الواقدي، ولا أرضاه في الحديث، ولا في الأنساب، ولا في شيء"(1) .

وكذبه يحيى بن معين (2) ، وأبو داود السجستاني (3)، وقال البخاري: سكتوا عنه (4) .، وهذه أدنى المراتب عنده، وتركه النسائي وغيره (5) .

7.

أبو عبيدة معمر بن المثنى (ت209هـ) :

قال الذهبي: "لم يكن صاحب حديث، وإنما أوردته لتوسعه في علم اللسان وأيام الناس ". وقال ابن قتيبة: "كان الغريب وأيام العرب أغلب عليه " وكان شعوبياً يبغض العرب، ويذهب مذهب الخوارج فيما يقال،

والله أعلم (6) .

8.

نصر بن مزاحم الكوفي (ت212هـ) :

قال الذهبي: رافضيٌ جلد، تركوه وقال العقيلي: شيعي في حديثه اضطراب وخطأ كثير. وقال أبو خيثمة: كان كذاباً. وقال أبو حاتم: واهي

(1) الخطيب: تأريخ بغداد 14/52.

(2)

ابن معين: التأريخ، وانظر الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 9/85.

(3)

الخطيب: تأريخ بغداد 14/53.

(4)

البخاري: التأريخ الكبير 9/85.

(5)

النسائي: الضعفاء 241 والذهبي: ميزان الاعتدال 4/324.

(6)

نهاد الموسى: أبو عبيدة معمر بن المثنى 101 - 119.وانظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء 9/446.

ص: 5

الحديث، متروك. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال العجلي: ليس بثقة ولا مأمون. وقال الخليلي: ضعفه الحفاظ جداً وذكر له ابن عدي أحاديث وقال: هذه وغيرها من أحاديثه غالبها غير محفوظ (1) .

9.

أبو الحسن علي بن محمد المدائني (ت225هـ) :

"كان عالماً بالفتوح والمغازي والشعر، صدوقاً في ذلك " وثقه ابن معين، وقال ابن عدي: ليس بالقوي في الحديث" (2) .

10.

أبو زيد عمر بن شبة النميري (ت262هـ) :

محدث ثقة، كان صاحب أدب وشعر وأخبار ومعرفة بالناس، وثقه الدارقطني (3) . ولم يبق من مؤلفاته الكثيرة سوى أخبار المدينة، ورواياته تعدّل جوانب من الصورة التأريخية التي تقدمها روايات الأخباريين، ويظهر من الاقتباسات عن كتابه أخبار البصرة أنه تعرّض فيه لأخبار الجمل بتفصيل.

وإذا تأملنا في تراجم الأخباريين، وأحوالهم من الجرح والتعديل، وتحزباتهم القبلية والفكرية والمذهبية، فإن الصورة التأريخية التي قدموها عن القرون الهجرية الأولى الثلاثة سوف تهتز أمامنا، ولا سيما أن بعض الأحداث انفرد أحدهم بتقديم الأخبار عنها، مما يجعل إمكان المقارنة معدوماً حيناً ومحدودا حيناً آخر، وعلى أية حال فإنه ليس أمامنا سوى النقدين الباطني الإيجابي والسلبي للوصول إلى مقاربة للحقيقة التأريخية.

(1) الذهبي: ميزان الاعتدال 7/24 والمغني 2/696 وابن أبي حاتم: الجرح والتعديل 8/468 والعقيلي: الضعفاء الكبير 4/300 والدارقطني: الضعفاء والمتروكين 3/160.

(2)

الذهبي: سير أعلام النبلاء 10/400 والمغني في الضعفاء 2/454. وابن حجر: لسان الميزان 4/253.

(3)

الخطيب: تاريخ بغداد 11/208. الذهبي: سير أعلام النبلاء 12/369. وابن حجر: تهذيب التهذيب 7/46.

ص: 6

إن الطبري اعتمد في أخبار صفين على أبي مخنف لوط بن يحيى، إذ انفرد برواياته عنها، فقد ألف أبو مخنف كتاباً في صفين، واعتمد الطبري كثيراً في أخبار الردة والفتوح على سيف بن عمر التميمي الذي ألف كتاب الردة والفتوح.

ولا يمكن الوثوق بما رواه الاثنان (أبو مخنف وسيف) من أخبار الصحابة في الفتن التي جرت في ذلك التأريخ المبكر، وينبغي تلمُّس الأخبار المفردة التي وردت في كتب الحديث، وتأريخ خليفة بن خياط، وأخبار المدينة، وأخبار البصرة لعمر بن شبة؛ للمقارنة مع أخبار أبي مخنف وسيف.

وقد ُبنيت الدراسات التأريخية الحديثة على تأريخ الطبري والبلاذري وعزت الأخبار إليهما دون التحقق من أثر الرواة الذين اعتمدهم الاثنان في سرد الأحداث، وإمكان تأثير الرواة المنحازين على الأخبار المنقولة عنهم، مع تشبع معظمهم بروح متحزبة لا يمكن الوثوق بنزاهتها في شهادتها على الأحداث.

ومن هنا يظهر أن كتابة حقب التأريخ الإسلامي المبكر في العصر الحديث تحتاج إلى عمل نقدي كبير لتقويمها علمياً، وللوصول إلى مقاربة أكبر للصدق والحقيقة.

ومن الطبيعي أن يشترك جمع من المحدثين والأخباريين في حيازة الوصفين: المحدث والأخباري، حيث يتوسع المحدث في جمع الأخبار خارج نطاق الأحاديث النبوية وأحداث السيرة، كما فعل محمد بن إسحاق (ت151هـ) ، ومحمد بن عمر الواقدي (ت 204هـ) ، وخليفة بن خياط (ت 240 هـ) .

ص: 7

وقد ألحق المصنفون في علم الرجال تراجم الأخباريين ودرسوهم ضمن تراجم المحدِّثين، وبذلك قدموا معلومات مهمة عنهم، ولا سيما أن الأخباريين لم تفرد تراجمهم في مصنفات مستقلة. وبعضهم نأى بنفسه عن رواية الحديث النبوي إلا عرضاً، في حين غلبت الأخبار التأريخية على ثقافتهم. بل إن اهتمامهم بموضوعات السيرة النبوية قليل، حيث نجد لسيف ابن عمر في تاريخ الطبري (7) روايات تتعلق بردة الأسود العنسي وطليحة ومسيلمة (1) ، ومن الراجح أنها من كتابه (الردة والفتوح) وبوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ولأبي مخنف لوط بن يحيى (روايتان) تتناول حادثة الوفاة، ولم ينقل الطبري عن معمر بن المثنى ولا أبي عبيدة ولا الهيثم بن عدي ولا أبي اليقظان النسابة أية رواية في السيرة النبوية، وإذا فحصنا أثر الأخباريين في قسم السيرة النبوية، من كتاب "البداية والنهاية" لابن كثير (ت774هـ) فإن ضآلة الأخبار تؤكد أن الأخباريين لم يهتموا بالسيرة النبوية إذ نقل عن أبي عبيدة معمر بن المثنى أخباراً قليلة تتعلق بالسيرة، حيث صنَّف أبو عبيدة كراريس في بعض موضوعاتها (2) تتعلق بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فصنَّف كراسة في ذلك، ونقل عن سيف بن عمر التميمي (3) خبراً يتعلق بقاتل مسيلمة وآخر (4) يتعلق بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأخباراً (5)

(1) الطبري 3/147-184-187.

(2)

ابن كثير: البداية والنهاية 4/254، 6 / 147، 150، 8/216، 217، 236، 401.

(3)

المصدر السابق 5/365.

(4)

المصدر السابق 8/108، 123-124، 152-153.

(5)

المصدر السابق 8/202، 209، 210، 236.

ص: 8

تتعلق بأزواجه صلى الله عليه وسلم، ونقل عن الهيثم بن عدي (1) ومحمد السائب الكلبي (2) حول طهارة أمهاته صلى الله عليه وسلم، وعن هواتف الجن (3) ولم ينقل عن لوط بن يحيى ونصر بن مزاحم وأبي اليقظان النسّابة شيئاً يتعلق بالسيرة النبوية، وكذلك فإن كتب شروح الأحاديث لا تنقل عن الأخباريين إلا نادراً، ويتضح ذلك من مراجعة شرح غني بالنقول والآثار، هو فتح الباري لابن حجر؛ فإنه نقل عن الأخباريين في حادثة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وأحداث الخلافة الراشدة، ولم ينقل أخبار السيرة إلا عن المحدثين. ومعظم الأخباريين لا يوثقهم النقاد المحدثون، ولا ينفع التفتيش في أسانيد رواياتهم، بل تمت محاكمة رواياتهم، فإذا وافقوا الرواة العدول قبلت، وإذا خالفوهم رفضت، ثم إن مقارنة رواياتهم ببعضها تخدم النقد التأريخي، ومما يعين في هذا المجال معرفة ميولهم واتجاهاتهم العقدية والمذهبية، فإن كانت الرواية تخدم مذاهبهم لزم التوقف في قبولها.

وخلاصة القول: أنه ليس أمام الناقد في كثير من الأخبار سوى المحاكمات العقلية لقبول مروياتهم أو رفضها.

وهذا يوضح ضعف مشاركة معظم الأخباريين في تقييد أخبار السيرة النبوية والتصنيف فيها، باستثناء معمر بن المثنى (ت209هـ) وعلي بن محمد المدائني (ت212هـ) اللَّذين صنفا كراريس في موضوعات مختلفة من السيرة النبوية. وثمة موضوع يحتاج إلى دراسة واسعة يتعلق بإعادة فحص مرويات

(1) المصدر السابق 4/71، 238.

(2)

المصدر السابق 3/364.

(3)

المصدر السابق 3/ 572.

ص: 9

الواقدي بمقارنتها مع روايات الآخرين للكشف بتفصيل عن الأسباب التي أدت إلى تضعيفه من قبل المحدثين.

ونظراً لظهور المحدثين المبكر على ظهور الأخباريين، فإنهم تقدموهم في وضع قوانين الرواية، وقلّدهم الأخباريون في طرائق العرض، فكلاهما يهتم بالسند من حيث الظاهر، لكن أسانيد المحدثين حَوَتْ رواة تعرف سيرهم وتتميز أشخاصهم، أما أسانيد الأخباريين فيرد فيها رواة لا نجد لهم في كتب التراجم ذكراً. وقد انتبه السبكي (ت 771هـ) لضرورة وضع قواعد للمؤرخين، لكن محاولته كانت متأخرة وناقصة (1) .

إن المحدثين قدموا للإنسانية منهجاً متكاملاً، واسعاً وشاملاً، للتعامل مع الرواية قبل ثلاثة عشر قرناً، في حين ظهر منهج النقد التأريخي عند الغربيين في أواخر القرن الثامن عشر. وهذا يوضح مدى السبق الذي حققه المحدثون، وقد انعكس ذلك على الحياة الأدبية والثقافية والدينية في المجتمع الإسلامي، حيث تكوَّنت العقلية النقدية في أوساط النخبة، مما كان له أثر كبير في دفع الحضارة الإسلامية في عصور ازدهارها.

لقد تطور منهج النقد عند المحدِّثين منذ القرن الثاني الهجري لغاية القرن التاسع الهجري حيث لم تَجْرِ تعديلات مهمة عليه بعد السخاوي (ت902هـ) ، ورغم أن المتخصصين في القرن العشرين أعادوا صياغة المنهج بصورة شاملة أو جوانب منه، فإنهم لم يقوموا باستقراء تام؛ لإعادة النظر في مسائله وقواعده بإضافة أو تعديل على ضوء ما انتهى إليه البشر في العلوم المختلفة.

(1) راجع طبقات الشافعية2/22.

ص: 10

لقد انتبه المحدِّثون منذ القرن الثامن الهجري لأهمية دراسة السيرة وفق مناهجهم بنقد أسانيدها ومتونها مثل الذهبي وابن كثير، لكنهم غلَّبوا إكمال نقد الأحاديث النبوية على أخبار السيرة، لما يترتب على الأحاديث من أحكام شرعية.

ومع اتساع نطاق التعليم في العصر الحاضر، وازدياد الاهتمام بالسيرة النبوية على نطاق واسع، ولما لها من أثر قوي في تربية الأجيال الإسلامية وتحديد قيمها، صار من اللازم التأكد من صحة المعلومات قبل تحليلها تربوياً وقيمياًً.

وقد هيأ العصر الحديث من الوسائل الحديثة والتقنيات المطورة ما يُيسر مهمة إنجاز الموسوعات الحديثية وموسوعات السيرة النبوية وبقية العلوم الإسلامية وربطها ببعضها ليخدم بعضها بعضاً، ويكمل معلوماته ولتتم المقارنة بين الروايات وتفسيرها بنطاق واسع، وقد أثبتت التجارب الأولية جدوى الإفادة من الكمبيوتر وبرامجه، وإن لم تحقق الهدف على الوجه المطلوب لقصور في البرمجة والخبرة العلمية معاً.

وتفيد الدراسات الحديثة ذات المنهج النقدي الحديثي بأن الروايات التي أوردها الرواة الضعفاء تعطي صورة مشوهة لبعض أحداث السيرة النبوية، أما أثر الأخباريين في هذا التشويه فهو محدود؛ لعدم عنايتهم بالسيرة التي عني بها المحدثون، فجاءت مروياتها تتسم بالجدية بعيداً عن المبالغة والخيال، وكثير منها ينقلها شهود عيان معروفون بالصدق والمروءة.

ولكن دخول مرويات الرواة الضعفاء إلى كتب السيرة يظهر في الكتابات المتأخرة مثل السيرة الحلبية، ويقلُّ أثرهم في كتب السيرة المبكرة، ويبدو أن

ص: 11

الضعف في أسانيد الكتب المبكرة يرجع إلى الإرسال والتدليس والتعليق والبلاغات، وهي مظاهر لا توحي بالثقة وتقتضي إعمال المنهج الحديثي فيها أسانيد ومتوناً.

ص: 12