الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في الالتزام بآراء الصحابة إذا اجتمعوا وعدم الخروج عنهم جميعاً إذا اختلفوا دون أن يستثني منهم أحداً. ولو كان رأي أبي حنيفة بالصحابي أنس بن مالك والصحابي أبو هريرة ليس حسنا ًلما استدلت كتب الفقه الحنفي بأحاديثهما (1) فقد استدلت بأقوال أنس بن مالك في (86) مسألة (2) .
(1) راجع الجوهرة النيرة 1/163 وفتح القدير1/ 424،327 والعناية شرح الهداية1/ 357،327 وانظر الصيمري: أخبار أبي حنيفة وأصحابه 18- 19
(2)
راجع جامع الفقه الإسلامي (إسطوانة مدمجة) .
مرتضى العسكري وكتابه خمسون ومائة صحابي مختلق
(3) :
تناول القسم الأول من الكتاب دراسة لثلاثة وعشرين صحابياً تميمياً يرى المؤلف أن سيف بن عمر التميمي الأخباري (ت170هـ) اختلقهم، وليس لهم وجود تاريخي حقيقي، وقد بين المؤلف أن دوافع سيف لذلك تتمثل في ثلاثة أمور:
الأول: تعصبه لقبيلة تميم التي ينتمي إليها، مما جَرَّهُ إلى اختلاق هذه الشخصيات التميمية ونسبته بطولات إليها وإيراد أراجيز الفخر والحماسة على لسانها ونسبة أمجاد الفتح الإسلامي إلى دورها، وهو بذلك يعطي قبيلة تميم دوراً ضخماًَ خيالياً، وكان سيف متأثراً بالعصبية القبلية التي اشتدت في العصر الذي عاش فيه.
الثاني: اتهام ابن حبان له بالزندقة، وبالتالي فهو يسهم مع الزنادقة في الاختلاق والكذب والدس لتشويه التاريخ الإسلامي وحجب الثقة عن جميع مروياته لما يسودها من اضطراب وتناقض.
(3) الطبعة الثانية، مطبعة دار التضامن، بغداد 1969م.
الثالث: أن سيف بن عمر ضعيف عند جهابذة المحدثين النقاد وأنه متهم بالكذب عند بعضهم، وبناء على ذلك قرر المؤلف أن كل خبر انفرد به يعدُّ موضوعاً.
وقد فطن المحدثون إلى ضعف سيف ونبهوا على ذلك. قال ابن حجر عن سيف: ضعيف في الحديث عمدة في التاريخ، أفحش ابن حبان القول فيه (1)، وقال ابن عدي: ولسيف بن عمر غير ما ذكرت أحاديث، وبعض أحاديثه مشهورة وعامتها منكرة ولم يتابع عليها، وهو إلى الضعف أقرب منه إلى الصدق (2)، وقال الخطيب البغدادي: وليس سيف بن عمر حجة فيما يرويه إذا خالف، ذلك قول أهل العلم (3)، وقال عنه الذهبي: كان إخبارياً عارفاً (4) .
مما سبق من الأقوال يلاحظ أن جهابذة النقاد المحدثين اعتبروا سيف ضعيفاً في الحديث، ولذلك لم تخرج له كتب الستة أحاديثه سوى حديث فرد أخرجه الترمذي (5) وليس من شرطه في التخريج أن يكون الحديث صحيحاً.
إن ابن عدي نبه على تفرد سيف بن عمر بمعظم الروايات التي يرويها مشهورة وهذا يدل على أن ابن عدي ومن تقدمه من النقاد قارنوا بين روايات سيف وروايات الآخرين ونبهوا على تفرده بمعظمها، ووضعوا قاعدة لذلك وهي عدم الاحتجاج برواياته التي تخالف قول أهل العلم. ولكن ما
(1) تقريب التهذيب 1/344 الطبعة الثانية، مطبعة دار التضامن، بغداد 1969م.
(2)
ابن عدي، الكامل 3/63أ.
(3)
موضع أوهام الجمع والتفريق 1/275-276.
(4)
ميزان الاعتدال 2/255.
(5)
الخزرجي، خلاصة تهذيب الكمال 136.
العمل مع رواياته التي انفرد بها والتي لا تخالف قول أهل العلم، إن الذهبي وابن حجر أوضحا غزارة معلومات سيف التاريخية، وقد يكون تفرده بأخبار التميميين يرجع إلى عنايته الخاصة برجال قبيلته واهتمامه بحصر أخبارهم، فاعتمد المؤرخون فيما يتعلق بهم على سيف بن عمر وفق قاعدتهم في التساهل في رواية الأخبار والتشدد في رواية الحديث، ومن ثم فإنهم لا يرون سيف بن عمر كذاباً وضاعاً كما يصوره المؤلف، ولكنه ليس بحجة إذا خالف أهل العلم. والواقع أننا لو عاملنا الروايات التاريخية بهذه الشدة فإن معظم المادة التاريخية تسقط وتقع فراغات واسعة في تاريخنا، لأن معظم الأخباريين الذين نقلوا إلينا المادة التاريخية لا يرقون إلى مستوى الثقات عند المحدثين، ولكن هذا لا يمنع من بيان فضل المؤلف في إيضاح ما أشار إليه المحدثون من تفرد سيف بمعظم مروياته.
لقد نبه المستشرقون على مبالغات سيف بن عمر في دور تميم، وجاءت دراسة المؤلف تدل على ذلك بنماذج واسعة، وأما اتهام سيف بالزندقة فلا دليل عليه سوى قول ابن حبان الذي وصفه ابن حجر بالفحش، لكن أبرز قضية اهتم بها المؤلف هي دور ابن سبأ في الفتنة، حيث يرى أن سيف بن عمر مختلق لهذه الشخصية، وقد بحث المسألة بإيجاز في هذا الكتاب لأنه أفرد لابن سبأ دراسة مستقلة تعتمد المنهج نفسه. وصحيح أن أوسع المعلومات عن ابن سبأ جاءت من طريق سيف، لكن المصادر أشارت إلى طرق أخرى تثبت وجود شخصية ابن سبأ تاريخياً، وفي هذا المجال أشير إلى الكشي فقد ذكر بأسانيده إلى الأئمة علي بن زين العابدين بن الحسين بن علي (ت94هـ) ومحمد بن علي الباقر (ت114هـ) وجعفر بن محمد الصادق (ت148هـ) –وكلهم متقدم على سيف بن عمر – روايات تثبت وجود شخصية عبد الله
ابن سبأ تاريخياً وتبين غلوه وادعاءه النبوة ونسبته الألوهية للإمام علي رضي الله عنه وكذبه عليه (1) . لذلك لا يمكن عدّ شخصية ابن سبأ أسطورية، لكن هذا لا يمنع من وجود مبالغة في دوره، وشتان بين الأمرين.
وختاماً أقول أن معاملة الروايات التاريخية كالأحاديث النبوية، واشتراط المستوى نفسه من الصحة وعدالة الرواة وضبطهم يولد فجوات واسعة في تاريخنا إن لم يؤد بنا إلى الضياع، وليست تواريخ الأمم الأخرى مروية بالأسانيد ومعرفة الرواة ومع ذلك فهي تعتمد عليها في الدراسة التاريخية، وتلجأ إلى السبر والمقارنة بين متون الروايات فقط، وبوسعنا أن نقارب بين روايات الأخباريين جميعاً للوصول إلى ما هو أقرب إلى الواقع التاريخي بدل رفض المرويات جميعاً.
إن الصورة التي يعرضها سيف بن عمر عن الأحداث مغايرة تماماً للصورة التي تعكسها روايات أبي مخنف مثلاً
…
فإذا رفضنا مرويات سيف لأنه ضعيف في الحديث ولوجود المبالغة في رواياته ولتعصبه لتميم، ورفضنا مرويات أبي مخنف لتعاطفه مع العلويين ومرويات أبي معشر السندي لتضعيفه من قبل المحدثين فماذا يبقى من التاريخ؟ إن منهج السلف في التعامل المرن مع الروايات التاريخية هو الأجدى.
(1) الكشي: رجال الكشي 98، 99، 100، 101.
أحمد أمين وما أورده عن الحديث في كتابيه: "فجر الإسلام"(1) و"ضحى الإسلام"(2) :
يرى أحمد أمين أن المحدثين والعلماء لم يعتنوا بمتن الحديث عنايتهم بالسند (3) ، وأن بعض الأحاديث ـ وإن كانت صحيحة السند ـ فإن متنها يدل على الوضع إذا ما عرضت للتجربة أو على العقل أو الواقع، واستدل لذلك بأحاديث من صحيح البخاري مثل حديث "الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين"(4)، وحديث "العجوة من الجنة وهي شفاء من السم" (5) وتساءل أحمد أمين قائلاً:"فهل اتجهوا في نقد الحديث إلى امتحان الكمأة؟ وهل فيها مادة تشفي العين؟، أو العجوة؟ وهل فيها ترياق؟ "(6) .
ويبدو أن الأستاذ لم يطلع على ما كتبه شراح هذين الحديثين، حيث بين ابن حجر المحاولات المتكررة من العلماء والأطباء المسلمين منذ عصر الرسالة والعصور التي تلتها للكشف عن أثر الكمأة (7) والعجوة (8) في معالجة أمراض العين وتسمم الجسم، فقد ذكر تجربة أبي هريرة رضي الله عنه للكمأة، فوجدها نافعة، كما أشار كل من ابن الجوزي وابن العربي إلى فائدتها الطبية
(1) فجر الإسلام 1/249-250.
(2)
ضحى الإسلام 2/106-137.
(3)
فجر الإسلام 1/267، وضحى الإسلام 2/130.
(4)
البخاري: الصحيح كتاب الطب باب المن شفاء للعين.
(5)
ابن حجر: فتح الباري كتاب الطب باب المن شفاء للعين.
(6)
ضحى الإسلام 2/130.
(7)
نبات من الفطريات ينمو داخل التربة بصورة طبيعية بدون غرس.
(8)
من أحسن تمور المدينة.
وحدها أو بخلطها بمواد أخرى، وكما جربت في زمن النووي فكانت نافعة، وذكر ابن القيم اعتراف كبار قدامى الأطباء منهم المسبحي وابن سينا بفائدتها الطبية.
أما العجوة، فقد وجه العلماء الحديث توجيهاً خاصاً، فقال الخطابي: إن ذلك ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لتمر المدينة، لا لخصيصة في التمر، وقال ابن التين: يحتمل أن يكون المراد نخلاً خاصاً بالمدينة لا يعرف الآن. وقال المازري: ويحتمل أن يكون ذلك خاصاً بزمن النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يثبت استمرار وقوع الشفاء في زماننا. وذكر عياض أن هذه الصفة خاصة بعجوة المدينة لتأثير البيئة في النبات (1) ، وهكذا فإن العلماء والأطباء حاولوا عبر أجيال مختلفة اختبار الأثر الطبي للكمأة والعجوة ولم يهملوا نقد المتن وتعريضه للاختبار العلمي وفق الوسائل العلمية الميسرة لهم في عصورهم، وقد احتاطوا في توجيه الحديث بحيث لو أثبت الطب الحديث عدم فائدة الكمأة كدواء للعين أو العجوة كدواء للسم لم يتعارض ذلك مع الحديث لما قيدوا به الحديث من تأثيرات البيئة والزمن، فكيف وقد أثبت الطب القيمة الغذائية للعجوة وإبادتها للديدان التي تفرز السموم في الجسم (2) .
إن المحدثين عنوا بتمييز الحديث ونقده عنايتهم بالسند ونقده وإن كتب شروح الحديث طافحة بالنقد لمتون الحديث وبيان ما يقع فيها من شذوذ وعلل واضطراب وإدراج، وتكفي أي نظرة في فتح الباري لابن حجر لمعرفة
(1) انظر فتح الباري كتاب الطب باب 10/239.
(2)
ابن حجر: فتح الباري كتاب الطب باب 10/164، والسباعي: السنة ومكانتها في التشريع 217-218.
مدى اهتمام المحدثين بنقد متن الحديث، وأما الحكم عليهم بالتقصير في ذلك فليس صحيحاً بل هو وهم وقع فيه المستشرقون وتابعهم أحمد أمين والآخرون، ولعل سبب ذلك عدم الإحاطة بدقة بالنتاج الفكري الضخم في الحديث، وهو نتاج يصعب الإحاطة به وفحصه بدقة مما أدى إلى الحكم الظاهري على منهج المحدثين من خلال ملاحظة كمية الكتب المؤلفة في علم الرجال والمتعلقة بالأسانيد، وهي ظاهرة طبيعية في تاريخ الحركة الفكرية في الإسلام، بسبب الزيادة المطردة في إعداد رواة الحديث بتتابع الأجيال، وهي نتيجة طبيعية لاعتماد الرواية وطرق التحمل المعتبرة في نقل الأحاديث حتى بعد مرحلة التدوين الواسع في القرنين الثاني والثالث الهجريين، إذ استمرت طرق التحمل معتبرة حتى فترة متأخرة، فلما لاحظ المستشرقون غزارة الإنتاج في علم الرجال حكموا على المحدثين بالاتجاه إلى نقد السند وإهمال المتن، إذ لا يمكن بعد الفحص الدقيق لكتب شروح الحديث وكتب المصطلح التي حوت عناوين في المعلل والشاذ والمدرج أن ينتهي إلى هذه النتيجة (1) ، فالضوابط التي وضعوها لنقد المتن لا تقل عن الضوابط التي وضعوها لنقد السند.
(1) انظر نماذج من نقد المتن في كتاب دفع شبهات عن الحديث والمحدثين للدكتور السيد أحمد رمضان المسير 708 ومحمد لقمان السلفي: اهتمام المحدثين بنقد الحديث سندا ومتنا ومسفر عبد الله الدميني:مقاييس نقد متون السنة.