المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌طريقتين للسلف في الرباط - مسألة فى المرابطة بالثغور أفضل أم المجاورة بمكة شرفها الله تعالى

[ابن تيمية]

الفصل: ‌طريقتين للسلف في الرباط

عمن بدار1 وهو مقيم بالمدينة يأتي الثغور كالإسكندرية وغيره.

أجاب: بأن عليه أن يأتي الثغور؛ لأن المرابطة بالثغور أفضل من مقامة بالمدينة.

ما زال الصحابة والتابعين وتابعيهم يتناوبون الثغور

103-

وما زال خيار المسلمين من الصحابة والتابعين وتابعيهم من بعدهم من الأمراء والمشايخ يتناوبون الثغور لأجل الرباط وكان هذا على عهد أبي بكر وعثمان أكثر، حتى كان عبد الله بن2 وغيره مرابطين.

104-

وكان عمر من يسأله عن أفضل الأعمال إنما يدله على الرباط والجهاد، كما سأله عن ذلك من سأله، كالحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وأمثالهم ثم كان بعد هؤلاء إلى خلافة بني أمية وبني العباس ولهذا يذكر من فضائلهم وأخبارهم في الرباط أمور كثيرة.

1 في الأصل" "عن بدر" والتصويب لاستقامة السياق.

2 كذا بالأصل.

ص: 48

‌طريقتين للسلف في الرباط

105-

إحداهما: أن يرابط كل قوم بأقرب الثغور إليهم، ويقاتلون من يليهم كقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} (التوبة: 123) .

ص: 48

107-

وهذا اختيار أكثر العلماء كالإمام أحمد وغيره، ولهذا كان أصحاب مالك كابن القاسم نحوه يرابط بالثغور المصرية.

الطريقة الثانية في الرباط

108-

والطريقة الثانية1: يجوزون الرباط بثغور الشام ونحوها بما فيها قتال النصارى.

109-

فكان عبد الله بن المبارك يقدم من خرسان فيرابط بثغور الشام، وكذلك ابراهيم ابن أدهم ونحوهما، كما كان يرابط بها ومشايخ الشام كالأوزاعي وحذيفة المرغشي ويوسف بن أسباط وأبي اسحاق الفزاري ومخلد بن الحسين وأمثالهم2.

110-

وكان المسلمون قد فتحوا قبرص في خلافة عثمان وبقيت تحت حكمهم أكثر من ثلاثمائة سنة.

111-

وكانت "سيس" ثغر المسلمين، و"طرسوس" كانت من أسماء الثغور، ولهذا تذكر في كتب الفقه وتولى قضائها أبو عبيد الأمام وصالح بن أحمد بن حنبل وغيرهما3.

1 في الأصل: "الثابتة" وهو تصحيف!!

2 راجع أيضا: "مجموع الفتاوى"(27/52، 53) .

3 راجع أيضا: "مجموع الفتاوى"(27/53) .

ص: 49

112-

وكان ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهم يقولون: "إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ما عليه أهل الثغر، فإن الحق معهم؛ لأن الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (العنكبوت: من الآية69) "1.

السكن بالثغور والرباط من أعظم الأمور

113-

وبالجملة: أن السكن بالثغور والرباط والاعتناء به أمر عظيم وكانت الثغور معمورة بالمسلمين علما وعملا وأعظم البلاد إقامة بشعائر الإسلام وحقائق الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان كل من أحب التبتل للعبادة والانقطاع إلى الله وكمال الزهد والعبادة والمعرفة يدلونه على الثغور.

سبب اختيارهم الرباط بثغور النصارى

114-

وإنما اختار من اختار الرباط بثغور النصارى الحديث الذي في "سنن أبي داود"2 عن ثابت بن قيس قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقال لها أم خلاد وهي منتقبة تسأل عن ابنها

1 "الفروع"(3/490) وعزاه في "مدارج السالكين"(1/511) للأوزاعي وابن المبارك.

2 أبو داود (2488) والبيهقي (3/175) وأبو يعلى (1591) وفي إسناده عبد الخبير بن قيس. قال البخاري: حديثه ليس بالقائم منكر الحديث، وقال الذهبي في المغني: قال أبو حاتم منكر الحديث وقد ضعفه، الألباني في "ضعيف أبي داود"(2488) .

"إن أرزء ابني فلن أرزء حيائي": بتقديم المهملة على بناء المفعول آخره همزة من الرزء وهي المصيبة بفقد الأعزة، أي إن أصبت ببني وفقدته فلم أصب بحيائي، كذا في فتح الودود.

"عون المعبود "(7/166.) .

ص: 50

وهو مقتول، فقال لها بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جئت تسألين عن ابنك وأنت منتقبة. فقالت.1: إن أرزء ابني فلن أرزء حيائي2، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ابنك له أجر شهيدين".قالت: ولما ذاك؟ قال: "لأنه قتله أهل الكتاب.

فضيلة سكنى الشام

115-

وهذا بعض [من الأخبار] 3 تبين فضيلة سكنى "الشام"، فإن أهل الشام ما زالوا مرابطين من أول الإسلام لمجاورتهم النصارى ومجاهدتهم لهم، فكانوا مرابطين مجاهدين لأهل الكتاب.

116-

ولهذا فضل النبي صلى الله عليه وسلم جندهم على جند "اليمن" و"العراق" مع ما قاله في أهل اليمن4.

117 ففي "سنن أبي داود"5 وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

1 في الأصل: "فقال" والتصويب من مصادر التخريج.

2 في الأصل: "إخواني" والتصويب من مصادر التخريج.

3 مابين المعقوفتين زيادة يستقيم بها السياق.

4 وذلك فيما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا الإيمان يمان والحكمة يمانية.." الحديث. رواه البخاري (4388) ومسلم (52) .

5 أحمد (4/110، 5/33، 34) . وأبو داو (2483) وصححه ابن جبان (7306) والحاكم (4/510، 555) واللفظ المذكور لهما ولفظ أبي داود عن عبد الله بن حوالة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيصير الأمر إلى أن تكونوا جنودا مجندة جند بالشام وجند باليمن وجند بالعراق

" وفيه: "فأما إن أبيتم فعليكم بيمنكم واسقوا من غدركم فإن الله توكل لي بالشام وأهله". وقال أبو حاتم الرازي في "العلل" (1/337) : "هو حديث صحيح حسن غريب " وراجع "فضائل الشام" لابن رجب ص (35) و"تخريج أحاديث فضائل الشام للربعي" للألباني (10، 11) .

"خر لي": أي اختر لي جند ألزمه "غدره": جمع غدير، أي حياضه.

ص: 51

"إنكم ستجندون أجنادا جندا بالشام وجندا باليمن وجندا بالعراق " قال فقلت يا رسول الله: خر لي؟.

فقال: "عليك بالشام فإنها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده، فمن أبى فليلحق بيمنه وليسق من غدره1 فإن الله قد تكفل لي بالشام وأهله".

قال الحوالي: ومن يتكفل الله به فلا ضيعة عليه.

118-

وفي "سنن أبي داود"2 أيضا عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنه ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم، ويبقى في الأرض شرار أهلها تلفظهم أرضوهم، تقذرهم3 نفس الرحمن، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير".

1 في الأصل: "عدوه" والتصويب من مصادر التخريج.

2 أبو داود (2482) وأحمد (2/84، 198، 209) والحاكم (4/565)، وقال:"صحيح على شرط الشيخين".

وقال الحافظ: "أخرجه أحمد وسنده لا بأس به""فتح الباري"(11/380) .

"مهاجر ابراهيم": بفتح الجيم وهو الشام

"تلفظهم" بكسر الفاء أي تقذفهم وترميهم، يقال: قد لفظ الشيء لفظا إذا رماه.

"تقذرهم": بفتح الذال المعجمة أي تكرههم.

"عون المعبود"(7/158) .

3 في الأصل: "يلفظهم أو طيؤهم لقدرهم" وهو تصحيف!!

ص: 52

أهل الغرب هم أهل الشام

119-

وفي" صحيح مسلم"1 عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال أهل الغرب ظاهرين [على الحق حتى تقوم الساعة] ".

أهل الغرب هم أهل الشام

120-

قال الإمام أحمد:" أهل الغرب هم أهل الشام"2.

121-

يعني: ومن يغرب عنهم، فإن التغريب والتشريق من الأمور النسبية، والنبي صلى الله عليه وسلم تكلم بذلك وهو بالمدينة النبوية فما تغرب عنها فهو غرب المدينة كما أن"حران" و"الرمة" ونحوهما خلف مكة.

122-

والكلام في هذا ونحوه يطول ويتعذر بحيث لا تحتمله هذه

1 مسلم (1925)(177) من حديث سعد بن أبي وقاص، وما بين المعقوفتين زيادة منه.

2 "وسائل الإمام أحمد" لأبي داود (228) . وقال المصنف رحمه الله بعد أن أورد هذا الأثر:"وهم كما قال، لوجهين: أحدهما: أن في سائر الحديث بيان أنهم أهل الشام.

الثاني: أن لغة النبي صلى الله عليه وسلم وأهل مدينته في أهل المغرب هم أهل الشام ومن يغرب عنهم كما أن لغتهم في أهل المشرق هم أهل نجد والعراق، فأن التغريب والتشريق من الأمور النسبية فكل بلد له غرب قد يكون شرقا لغيره، وله شرق قد يكون غربا لغيره، فالاعتبار في كلام النبي صلى الله عليه وسلم بما كان غربا وشرقا له حيث تكلم بهذا الحديث وهي المدينة ومن علم حساب الأرض كطولها وعرضها علم أن حران والرقة وسيمسياط على سمت مكة وأن الفرات وما على جانبيها بل أكثره على سمت المدينة بينهما في الطول درجتين فما كان غربي الفرات فهو غربي المدينة وما كان شرقيها فهو شرقي المدينة، فأخبر أن أهل الغرب لا يزالون ظاهرين، وأما أهل الشرق فقد يظهرون تارة ويغلبون أخرى، وهكذا هو الواقع، فإن جيش الشام ما زال منصورا وكان أهل المدينة يسمون الأوزاعي إمام أهل المغرب ويسمون الثوري شرقيا ومن أهل المشرق".

"مجموع الفتاوى"(27/508) وراجع: "فضائل الشام" لابن رجب (40،66) .

ص: 53

الفتوى1 لكن هذه الأمور المتيسرة تعود إلى أفضل الأحوال الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله كما ثبت ذلك بالنصوص.

123-

وقد قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات:15)

الجهاد يعني تحقيق كون المؤمن مؤمنا

124-

فالجهاد: تحقيق كون المؤمن مؤمنا؛ لهذا روى مسلم في "صحيحه"2 عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من مات ولم يغزو لم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق".

125-

وذلك أن الجهاد فرض على الكفاية، فيخاطب به جميع المؤمنين عموما، ثم إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين.

ولا بد لكل مؤمن من أن يعتقد أنه مأمور به، وأن يعتقد وجوبه وأن يعزم عليه إذا احتيج إليه، وهذا يتضمن تحديث نفسه بفعله فمن مات ولم يغزو أو لم يحدث نفسه بالغزو نقص من إيمانه الواجب عليه بقدر ذلك؛ فمات على شعبة نفاق.

126-

فإن قيل: فإذا كان الجهاد أفضل من الحج بالكتاب والسنة

1 راجع:"منهاج السنة"(4/461، 7/58) و"الفتاوى الكبرى"(4/364، 358) و"مجموع الفتاوى"(27/508، 531، 28/531، 532، 552) .

2 مسلم (1910)(158) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 54

فما معنى الحديث الذي روته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: يا رسول الله: لا أرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟

قال: "لكن أفضل الجهاد: حج مبرور" رواه البخاري1.

الحج جهاد النساء

127-

ورواه النسائي2 وفيه: ألا نخرج نجاهد معك فإني لا أرى عملا أفضل من الجهاد3. قال: لا، ولكن أحسن الجهاد وأجمله4 حج البيت حج مبرور".

128-

وقيل:"وأفضل الجهاد للنساء حج مبرور".

129-

فأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن أفضل الجهاد للنساء حج مبرور.

130-

وكذلك جاء مبينا، رواه النسائي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" جهاد الكبير والصغير والضعيف والمرأة: الحج والعمرة".

131-

وفي حديث آخر: " الحج جهاد كل ضعيف"5.

1 البخاري (1520) عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين بلفظ: "نرى" وأما اللفظ الذي ذكره المصنف فهو عند أبي يعلى (4717) .

2 أحمد (6/71، 79، 165) والنسائي (5/114، 115) وابن ماجه (2910) .

3 في الأصل: "فإني لا أرى من أفضل الجهاد" والتصويب من مصادر التخريج.

4 في الأصل: "وأكمله" والتصويب من مصادر التخريج.

5 رواه الطيالسي (1704) وأحمد (6/294، 303، 314) وابن ماجه (2902) =

ص: 55

132-

وفي حديث آخر: هل على النساء جهاد؟ قال: " جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة"1.

133-

سياق الحديث المتقدم بين ذلك فإنها قالت: نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد معك؟ قال: " لكن أفضل الجهاد: حج مبرور". فقد أقرها على قولها:" نرى الجهاد أفضل العمل"، ثم ذكر أن" أفضل الجهاد الحج المبرور".

134-

وفي اللفظ الآخر2: ألا نخرج فنجاهد معك فإني لا أرى عملا في القرآن أفضل من الجهاد؟ قال: "لكن أحسن الجهاد وأجمله حج مبرور".

فأقرها على قولها بفضل الجهاد، ثم لما استأذنته في الحج المعروف قال:"لا، ولكن أحسن الجهاد وأجمله حج البيت" وجعل فضله بكونه جهادا، ومعلوم بالحس أن الجهاد لا يقاوم الجهاد في الكفار والمنافقين، فعلم أنه أراد جهاد النساء - واللام للتعريف - ينصرف إلى ما يعرفه المخاطب.

=بإسناد منقطع؛ أبو جعفر بن علي لم يسمع من أم سلمة، وفي الباب: عن أبي هريرة وابن عباس ومعاوية وعائشة، انظر "العلل للدارقطني"(7/71) و"نصب الراية"(3/149، 150) و"التلخيص الحبير"(2/226) و"الضعيفة"(200.) .

1 أحمد (6/165) وابن ماجه (2901) وصححه ابن خزيمة (3074) .

2 البخاري (1861) .

ص: 56