المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

مصادر تلقي السيرة النبوية والعناية بها عبر القرون الثلاثة الأولى إعداد - مصادر تلقي السيرة النبوية

[محمد أنور البكري]

الفصل: مصادر تلقي السيرة النبوية والعناية بها عبر القرون الثلاثة الأولى إعداد

مصادر تلقي السيرة النبوية والعناية بها عبر القرون الثلاثة الأولى

إعداد الدكتور: محمد أنور محمد علي البكري

بسم الله الرحمن الرحيم

ال‌

‌مقدمة:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير المرسلين، وسيد الأولين والآخرين وقائد الناس يوم الحشر المبين، صاحب لواء الحمد، والمقام المحمود، صاحب المثاني والقرآن الكريم، والكوثر والشفاعة يوم الحشر، والمبعوث بالحنيفية السمحة (1)، وبعد:

فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وخير الأخلاق الحسنة خلقه الأعظم، وخير الطرق الموصلة إلى الله تعالى طريقه الأقوم (2) ولهذا "قال الله تعالى ترغيباً للأول والآخر في اكتساب تلك المحامد والمفاخر:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، وقال تعالى:{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران:31]، وقال:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] .

فالقرآن الكريم كتاب الله، محكم التنزيل، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعد الله تعالى بحفظه فقال جل من قائل:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] ، هذا الكتاب لا تنقضي عجائبه إلى يوم القيامة، وهو مائدة الله التي أكرم بها عباده المؤمنين الصادقين المخلصين من أمة

(1) السيرة النبوية للشعراوي: ص: 5-6.

(2)

السيرة النبوية للشعراوي: ص: 8.

ص: 1

سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، منذ أن نزل به الروح الأمين على قلبه الطاهر المنير.

كان هذا الكتاب، وما يزال نبع الصفا الذي نهل منه المسلمون منذ عهد الصحابة، وسيظل بإذن الله تعالى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها أجمعين. وكانت آياته الأولى وما زالت هي المفتاح الذي فتح لهذه الأمة وبخاصة علماؤها كنوز الخير، وفي مقدمتهم الأصحاب رضوان الله عليهم أجمعين، ثم من جاء بعدهم من الأتباع وأتباعهم من أهل القرون المفضلة، عليهم من الله تعالى سحائب الرحمات.

لقد نبههم هذا التنزيل العزيز، ووجههم الله تعالى فيما وجههم لسيرة المصطفى، وسيد الكائنات، المبعوث رحمة للعالمين، يقول تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، ويقول جل شأنه:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] . لهذا فقد أولوا سيرته جل عنايتهم، وغاية اهتمامهم، فلقنوها أبناءهم، ونساءهم، ومواليهم، حتى كانوا يُحفِّظونَهُمْ مَغَازِيهُ كما يُحفِّظونهم السورة من القرآن.

يقول زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنهما: "كنا نُعَلَّم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نُعَلَّم السورة من القرآن"(1) .

ويقول الإمام الزهري - يرحمه الله تعالى - في علم السيرة "علم الدنيا والآخرة"(2)، وكان إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم يقول: "كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا، ويقول يا بني هذه شرف آبائكم فلا

(1) البداية والنهاية: 3/241.

(2)

السيرة الحلبية: 1/2، البداية والنهاية: 3/241، حدائق الأنوار: 1/8.

ص: 2

تعدموا ذكرها" (1) .

لقد ظهر منهم أجيال جعلت عنايتها حفظ هذه السيرة العطرة وروايتها وتدوينها وكانوا يتناقلونها جيلاً بعد جيل، وطبقة بعد طبقة بأسانيدها وطرقها المختلفة حتى توافر لدينا قدر هائل، وثروة عظيمة، وميراث صحيح عن سيرة سيد الكائنات صلى الله عليه وسلم.

ففيما يتعلق بنسبه الشريف صلى الله عليه وسلم، وَقَفوا عند قوله تعالى:{لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} ، وفي قراءة شاذة:{أَنفُسِكُمْ} [التوبة:128] ، فهو نسيب وحسيب، وسيد عظيم من ساداتهم، فهو خيرهم نفساً وخيرهم أباً (2)، وقوله تعالى:{إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} [آل عمران:33-34] ، فهو المصطفى من جهة الآباء والأمهات، والأجداد، والعشيرة، والقبيلة، والقوم (3) ، فهو خيار من خيار، خرج من نكاح ولم يخرج مِنْ سِفاح، من لدن آدم إلى أن ولده أبوه وأمه (4) .

وتحدث القرآن الكريم عن طفولته ويفعه، وعناية الله له في هذه الطفولة

(1) شرح المواهب: 1/473.

(2)

المقصود حديث العباس رضي الله عنه الذي رواه الترمذي، والإمام أحمد عن العباس نفسه وفيه:" فجعلني في خيرهم بيتاً وخيرهم نفساً"، انظر: الترمذي: 8/653، ومسند أحمد: 4/166.

(3)

المقصود حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، الذي رواه الإمام مسلم عن واثلة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم" انظر صحيح مسلم: 4/107) ، صحيح الترمذي: 5/36، 6/36.

(4)

المقصود حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه، الذي رواه الطبراني في الكبير، والبيهقي في السنن الكبرى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما ولدني من سفاح أهل الجاهلية شيء، ما ولدني إلا نكاح كنكاح الإسلام"، انظر المعجم الكبير: 10/329، سنن البيهقي: 7/190.

ص: 3

فقال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى:6] ، وهي مِنَّةٌ لا يعلم قدرها إلا الله تعالى، ولم تكن لأحد قبله ولا بعده صلى الله عليه وسلم.

وأما فيما يتعلق بأخلاقه فقد أدركوا قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، ولهذا عندما سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خلقه قالت:"كان خلقه القرآن"(1) ، أي إن ما في القرآن من آداب، وفضائل، ومكارم، وخشية، وورع، وتقوى، وأخلاق كلها تتمثل في شخصيته عليه الصلاة والسلام، ولم يُمْتَنَّ بهذا على نبي ولا رسول، فأفاد أنه انفرد بهذه الأخلاق دون سائر الخلائق (2) .

وأما حديث القرآن عن رحمته ورأفته فقد أدركوها في قوله تعالى:

{بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة:128]، وقوله تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] ، ولقد فاز على جميع الخلائق بهذه الرحمة "فهو الرحمة المهداة في الدنيا والآخرة"(3) ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ويقول تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (4)[الأنبياء: 107] .

وحديث القرآن الكريم عن المزايا التي وهبه الله إياها، حديث أكثر من أن

(1) صحيح مسلم كتاب مسند أحمد: 6/167، السنن الكبرى: 6/412، المعجم الأوسط: 1/183.

(2)

دلالة القرآن الكريم على أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل العالمين: ص:12.

(3)

المستدرك: 1/35، مجمع الزوائد: 8/257.

(4)

إن هذه الرحمة شاملة لكل الخلق؛ إنسهم وجنهم، مؤمنهم وكافرهم، علويهم وسفليهم، مرئيهم ومخفيهم. انظر تفسير الطبري: 18/522، وتفسير البغوي: 3/271-272، ابن كثير: 3/202، مكانة النبي الكريم بين الأنبياء عليهم السلام: ص:134-135.

ص: 4

يحصى (1) ، فدفاع الله عنه، ونداؤه بوصف النبوة والرسالة، ونهي المؤمنين أن ينادوه باسمه المجرد، وتجنيد الملائكة للقتال معه وإنذارهم على لسانه، وعموم بعثته، وختمه للنبوة، وإقسام الله تعالى بحياته، وإعطاؤه السبع المثاني والقرآن العظيم، وإعطاؤه خمساً لم يعطهن أحد من قبله ولا من بعده (2) ، وغيرها من الخصائص المشهورة التي خَصَّه الله تعالى بها دون غيره من الأنبياء والمرسلين بل جَمَعَ خصائصهم، وزاد عليهم أجمعين.

ولم يقتصر القرآن الكريم على ما تقدم من ذِكْر أخباره، ونسبه، وخلقه، ورسالته، ونبوته، ورحمته، وعلو منزلته عند ربه، ومعجزاته، وذكر كثير من صفاته، بل تعدى القرآن الكريم إلى وصفه وذكر بعض أعضائه الشريفة.

فقال عن وجهه الشريف: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء} [البقرة:144] .

وقال عن يده الشريفة: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء:29] .

وقال عن عينه الشريفة: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17] .

وقال عن صدره الشريف: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الانشراح:1] .

وقال عن لسانه الشريف: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة:16] .

(1) دلالة القرآن الكريم: ص:13، وانظر كتاب عظيم قدره صلى الله عليه وسلم الذي جمع فيه مؤلفه مئة خصيصة للرسول صلى الله عليه وسلم.

(2)

الجامع الصحيح المختصر: 1/128، صحيح مسلم: 1/370، سنن النسائي: 1/9، مسند أحمد: 4/416، ابن حبان: 14/308.

ص: 5

وقال عن قلبه الشريف: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] .

وقال عن قلبه الشريف أيضًا: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} [الشعراء:193-194] .

وقد وجَّه القرآن الكريم الصحابة إما بصريح العبارة أو بطريق الإشارة إلى سرد كثير من أخباره وفضائله، وشمائله، ومنزلته عند ربه، وفضله على جميع الخلائق صلى الله عليه وسلم فكان حَرِيَّاً بهم أن يولوا هذه السيرة العطرة جُلَّ عنايتهم، فتخصص فريق منهم في روايتها، وبرز فريق آخر في حفظها، وبرع ثالث في تدوينها والتصنيف فيها، وهذا هو موضوع بحثنا إن شاء الله تعالى، وبالله التوفيق، وعليه التوكل، فهو نعم المولى ونعم الوكيل.

هذا وقد جعلت هذا البحث في مقدمة وثلاثة فصول:

الفصل الأول: مدخل إلى علم السيرة النبوية.

وفيه مبحثان:

المبحث الأول: أهمية علم السيرة النبوية في حياة المسلمين.

المبحث الثاني: التعريف بالسيرة النبوية وأهم مميزاتها.

الفصل الثاني: أهم مصادر السيرة النبوية وفيه ستة مباحث:

المبحث الأول: القرآن الكريم.

المبحث الثاني: كتب الحديث الشريف (كتب السنة المطهرة)

المبحث الثالث: كتب الشمائل المحمدية.

المبحث الرابع: كتب الدلائل النبوية (المعجزات المحمدية) .

ص: 6

المبحث الخامس: كتب الخصائص المحمدية.

المبحث السادس: كتب المغازي والسير المتخصصة.

الفصل الثالث: أشهر من صنف في السيرة النبوية في القرون الثلاثة الأولى.

وفيه ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: الرواية.

المبحث الثاني: التصنيف.

المبحث الثالث: التأليف.

أسأله تعالى مزيد الفضل، وأن يكرمنا برضاه، ويجعل هذا البحث عنده مقبولاً، إنه نعم المولى ونعم النصير، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.

ص: 7