الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْحَمد لله الَّذِي جعل الْعقل مِفْتَاح الْعُلُوم ومدرك مَعَاني الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم ومنشأ بَيَان الْمُحَقق والموهوم ومظهر بديع المنثور والمنظوم
أَحْمَده حمد من بجزيل نعمه اعْترف وأشكره شكر من ورد مناهل فَضله واغترف وَأشْهد أَنه الرب الرَّحْمَن الَّذِي خلق الْإِنْسَان وَعلمه الْبَيَان وَأشْهد أَن سيدنَا ومولانا مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله وحبيبه وخليله الَّذِي تلخص الدّين بإرشاده أحسن تَلْخِيص وتخلص مُتبع هَدْيه من الْجَحِيم أعظم تَخْلِيص فَكَانَت بعثته مِفْتَاح بَاب الْخيرَات وَالطَّرِيق الْموصل إِلَى مَنْهَج المبرات صلى الله عليه وسلم وعَلى آله الْكِرَام وَصَحبه الْأَئِمَّة الْأَعْلَام مَا أغرب مبتدئ ببديع النظام وأعجب منته بِحسن الختام وَبعد فَإِن الْفَقِير الحقير الْمُعْتَرف بِالْعَجزِ وَالتَّقْصِير نطر الله إِلَيْهِ بِعَين الْعَفو والغفران وَرَضي عَنهُ أتم الرضْوَان لما كَانَ متحلياً بحلية الْعلمَاء مستشعراً شعار الْفُضَلَاء وَبرد الشبيبة قشيب وغصن الصِّبَا رطيب ومربع الْأَمَانِي خصيب والسعادة تلحظه عيونها وتتوارد عَلَيْهِ أبكارها وعونها لم يزل فِي خدمَة الْعلم وتأليفه وترتيبه وتصنيفه بِقدر مَا يصل إِلَيْهِ
علمه الْقَاصِر وَحسب مَا ينفذ فِيهِ فهمه الفاتر وَكَانَ من جملَة مَا حفظه من الْمُتُون وعلق بخاطره من الْفُنُون كتاب تَلْخِيص الْمِفْتَاح الَّذِي هُوَ فِي بَابه رَاحَة الْأَرْوَاح تغمد الله مُؤَلفه برحمته ورضوانه وَأَسْكَنَهُ بحابح جنانه وَفِيه من الشواهد الشعرية مَا يعزى للأقدمين وَمَا ينْسب للمولدين إِلَّا أَن أَكْثَرهَا مَجْهُول الْأَنْسَاب مغفول الأحساب وَرُبمَا عزاهُ بعض شارحي الْكتاب لغير قائليه وَنسبه إِلَى غير أَبِيه إِمَّا لاشتباه فِي الأوزان أَو تماثل فِي المعان وَلم أر من عمل على تِلْكَ الشواهد شرحاً يشفي العليل أَو يروي الغليل غير أَن شَيخنَا المرحوم الْعَلامَة الْجلَال السُّيُوطِيّ سقى الله من صوب الرَّحْمَة ثراه وَأكْرم منزله ومثواه عمل على بَعْضهَا تَعْلِيقا لطيفاً لم يكمله وَلم يخرج عَن مسودته وَكَثِيرًا مَا كَانَت نَفسِي تنازعني للتصدي لذَلِك وَأَقُول لَهَا لست هُنَالك وأعللها بالمواعيد وَهِي تقرب إِلَى الْبعيد وتسول لي أَنه أقرب إِلَيّ من حَبل الوريد فيقوي الْعَزْم وَيسْتَعْمل الْجَزْم ويهمل الْأَخْذ بالحزم إِلَى أَن آن أَوَانه وحان إبانه فشمرت عَن ساعد الِاجْتِهَاد واستعملت الْجد فِي تَحْصِيل ذَلِك المُرَاد وسلكت فِيهِ مَنْهَج الِاخْتِصَار ومدرج الِاقْتِصَار ونصيت على أبحر تِلْكَ الشواهد العروضية وَوضعت فِي كل شَاهد مِنْهَا مَا يُنَاسِبه من نَظَائِره الأدبية وَذكرت تَرْجَمَة قَائِله إِلَّا مَا لم أطلع عَلَيْهِ بعد
التفتيش فِي كتب الْأَدَب والتحري وَالِاسْتِقْصَاء فِي الطّلب ومزجت فِيهِ الْجد بِالْهَزْلِ والحزن بالسهل
وسميته ب معاهد التَّنْصِيص على شَوَاهِد التَّلْخِيص
فجَاء بِحَمْد الله غَرِيب الابتداع عَجِيب الاختراع بديع التَّرْتِيب رائع التَّرْكِيب مُفردا فِي فن الْأَدَب كَفِيلا لمن تَأمله بالعجب وَهُوَ وَإِن كَانَ من جنس الفضول الَّذِي رُبمَا يستمل أَو هُوَ بقول الحسود دَاخل فِي قسم المهمل فَهُوَ أُمْنِية كَانَ الخاطر يتمناها وحاجةٌ فِي نفس يَعْقُوب قَضَاهَا على أَنه لَا يَخْلُو من فَائِدَة فريدة ونكتة عَن مواطنها شريدة ودرة مستخرجة من قاع البحور وشذرة تزين بهَا قلائد النحور وعجائب تحل لَهَا الحبا وغرائب يَقُول لَهَا الْعقل السَّلِيم مرْحَبًا مرْحَبًا وَلَئِن خالط هَذَا القَوْل هوى النَّفس أَو ظن المغالاة بِهِ صَادِق الحدس
(فالمرْءُ مَفتونٌ بِتأليفهِ
…
ونَفسهُ فِي مَدْحهِ غَاويهْ)
(وَالفضلُ مِنْ ناظره أَن يَرى
…
مَا قد حَوى بالمقلةِ الراضيهْ)
(وَإِنْ يَجدْ عيَباً يَكن ساتراً
…
عَوارهُ بالمنَّةِ الْوافيهْ)
وَمن تَأمله بِعَين الْإِنْصَاف والرضى شهد بِصدق هَذَا الْوَصْف وبصحته قضى
وَحين سهل الله الْوُصُول ثَانِيًا إِلَى الممالك الرومية لَا زَالَت من المكاره محمية استوطن مِنْهَا قسطنطينة الْعُظْمَى لَا زَالَت من الله وقاية وَحمى
إِذْ هِيَ مَحل الْكَرم وموطن النعم ومحط الرّحال ومنتهى الآمال ومشرق السَّعَادَة وأفق السِّيَادَة وموسم الأدباء وحلبة الخطباء وَدَار الْإِسْلَام ومقر الْعلمَاء الْأَعْلَام وتخت الْملك الْمُعظم الشَّأْن وَمحل الدولة وَالسُّلْطَان لَا زَالَت دَار الْإِسْلَام وَالْإِيمَان ومستقر الْأَمْن والأمان مَا تعاقب الملوان بدوام حَيَاة سُلْطَان الْعَالم وَخير مُلُوك بني آدم سُلَيْمَان الزَّمَان وخاقان الْعَصْر والأوان ومفخر آل عُثْمَان لَا بَرحت دولته مخلدة خُلُود الْأَبْرَار فِي دَار الْقَرار وسعادته مُؤَبّدَة مسلسلة الأدوار مَا دَار الْفلك الْمدَار بتعاقب اللَّيْل وَالنَّهَار
وَكَانَ من أعظم خبايا السعد وعطايا الْجد أَن شملته الْعِنَايَة وحفته الرِّعَايَة بِنَظَر فَرد الدَّهْر وَوَاحِد الْعَصْر وَبكر عُطَارِد ونادرة الْفلك وتاريخ الْمجد وغرة الزَّمَان وينبوع الْخَيْر وَالْإِحْسَان الْعَالم الْعَلامَة والحبر الْبَحْر الفهامة جَامع أشتات المفاخر والمتفرد بغايات المآثر سيدنَا ومولانا سعدى قَاضِي الْقُضَاة بتخت الْملك قسطنطينية الْعُظْمَى فَهُوَ مولى تنخفض همم الْأَقْوَال عَن بُلُوغ أدنى فضائله ومعاليه ويقتصر جهد الْوَصْف عَن أيسر فواضله ومساعيه حَضرته مطلع الْجُود ومقصد الْوُفُود وقبلة الآمال ومحط الرّحال وَمجمع الأدباء وحلبة الشُّعَرَاء ذُو همة مَقْصُورَة على مجد يشيده وإنعام يجدده وفاضل يصطنعه وخامل وَضعه الدَّهْر فيرفعه فاق الأقران وساد الْأَعْيَان فَلَا يدانيه مدان وَلَو كَانَ من بني عبد المدان وَلَيْسَ يجاريه فِي مضمار جود جواد وَلَا يباريه فِي ارتياد السِّيَادَة مرتاد
(مَا كل من طلب الْمَعَالِي نافدا
…
فِيهَا وَلَا كل الرِّجال فُحولا) لَا زَالَت آي مجده بألسن الأقلام متلوة وأبكار الأفكار بمديح معاليه مجلوة
وَحين أَنَاخَ مطايا قَصده بأفناء سعده صَادف مولى حفياً وظلا ضفيا ومرتعا رحيباً ومربعاً خصيباً وبشاشة وَجه تسر الْقُلُوب وطلاقة محياً تفرج الكروب وَتغْفر للدهر مَا جناه من الذُّنُوب مَعَ مَا يُضَاف لذَلِك من منظر وسيم ومخبر كريم وخلائق رقت وراقت وطرائف علت وفاقت وفضائل ضفت مدارعها وشمائل صفت مشارعها وسودد تثنى بِهِ عُقُود الخناصر وتثنى عَلَيْهِ طيب العناصر فَحَمدَ من صباح قَصده السرى وَعلم أَن كل الصَّيْد فِي جَوف الفرا
(إِن الكَريمَ إِذا قَصدتَ جَنابه
…
تلَقاه طَلقَ الوَجِهِ رَحبَ المنزلِ)
وَهَا هُوَ فِي ظلّ عزه رخي البال متميز الْحَال آمن من صرفان الدَّهْر وحدثان الْقَهْر يرتع فِي رياض فَضله ويجرع من طل جوده ووبله قد عجز عَن الشُّكْر لِسَانه وكل عَن رقم الْحَمد بنانه لم يفقد من مُغنِي رأفته ظلالاً وَلم يقل لصيدح آماله انتجعي بِلَالًا وَبِه حقق قَول الْقَائِل من الْأَوَائِل
(ولمَا انْتجعنَا لائذينَ بظلهِ
…
أعانَ وَمَا عَنَّي ومَنَّ وَمَا منَّا)
(ورَدَنَا عَليهِ مُقترِينَ فَراشنَا
…
وردنانداه مُجدبينَ فأخصبنَا)
وَجُمْلَة مَا يَقُوله فِي الْعَجز عَن حَمده وشكره وَالثنَاء على جوده وبره
(أما وَجميل الصُّنعَ منِه وإنّها
…
ألِيَّةُ برٍ مِثلها لَا يِكفّرُ)
(لَو اسْطعتُ حَوَّلتُ البريةَ ألسْناً
…
وكنْتُ بهَا أُثني عَلَيْهِ وأشكرُ)
(ولَسْتُ أوفيِّ حَقِّ ذاكَ وإنّما
…
قيَاما بِحَق الشُّكرِ جَهدِي أُشمِّرُ)
وَكَانَ من جملَة دواعي السعد وبواعث الْجد أَن شَمل هَذَا التَّأْلِيف نظره الشريف حِين وصل إِلَى حَضْرَة مجده المنيف فأظهر بِهِ إعجاباً رفع من مقَامه وَنصب فَوق متن المجرة خوافق أَعْلَامه جَريا على عَادَته النفيسة فِي جبر الْقُلُوب وَستر الْعُيُوب فحين طرق السّمع خبر استحسانه لذَلِك الْجمع أحب الْفَقِير أَن يخْدم حَضرته الْعلية وسدته السّنيَّة بنسخة مِنْهُ لتَكون مذكرة بِحَال الْفَقِير مَا دَامَ فِي قيد الْحَيَاة وسبباً باعثاً على الترحم عَلَيْهِ بعد الْمَمَات وعساه يكون وَسِيلَة للانتظام فِي سلكه وذريعة إِلَى الانحياز إِلَى ملكه وَإِلَّا فَهُوَ أقل من أَن يشاع ذكره أَو يشاد قصره وَكَيف يهدي الوشل إِلَى الْبَحْر أَو الطل إِلَى الْقطر غير أَن هواجس الْفِكر وخواطر الأمل متمسكة فِي قبُوله بأذيال عَسى وَلَعَلَّ وَالَّذِي يُقَوي فِي الظَّن بشيمه الزاكية تلقيه بالبشر ولمحة بالمقلة الراضية وَهُوَ يَرْجُو أَن يهب عَلَيْهِ نسيم قبُول الْقُلُوب ويؤمل أَن يسبل ستر الْعَفو عَمَّا فِيهِ من الْعُيُوب وَهَا هُوَ يرفع أكف التضرع والابتهال إِلَى ذِي العظمة والجلال أَن يبلغهُ من ذَلِك أقْصَى غَايَة الآمال بمنه ويمنه