المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌شواهد أحوال متعلقات الفعل - معاهد التنصيص على شواهد التلخيص - جـ ١

[أبو الفتح العباسي]

الفصل: ‌شواهد أحوال متعلقات الفعل

‌شَوَاهِد أَحْوَال متعلقات الْفِعْل

ص: 231

5 -

41

(شَجوُ حُسَّادِهِ وغَيْظُ عِدَاهُ

أَنْ يَرى مُبْصِرٌ وَيَسْمَعَ واعِي)

الْبَيْت للبحتري من قصيدة من الْخَفِيف يمدح بهَا المعتز بِاللَّه بن المتَوَكل على الله ويعرض بالمستعين بِاللَّه أَحْمد بن المعتصم أَولهَا

(لَكِ عهْدٌ لَدَيَّ غيرُ مُضاع

باتَ شوقي طَوعاً لَهُ ونزَاعي)

(وهَوىً كلما جرى مِنْهُ دَمعٌ

أيِسَ العاذِلونَ من إقلاعي)

(لَو تَوليتُ عنهُ خيفَ رُجوعي

أَو تجوَّزتُ فِيهِ خيف ارتجاعي) // الْخَفِيف //

إِلَى أَن يَقُول فِي مديحها

(يبهت الوفدُ فِي أسرة وَجْهٍ

سَاطِع الضوءِ مُستنيرِ الشُّعاع)

(من جَهير الخطابِ يُضعف فَضلاً

عندَ حالَيْ تأمَّلٍ واستماع)

وَبعده الْبَيْت وَهِي طَوِيلَة

وَالشَّاهِد فِيهِ جعل الْفِعْل مُطلقًا كِنَايَة عَنهُ مُتَعَلقا بمفعول مَخْصُوص وَهُوَ هُنَا يرى وَيسمع فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ التَّفْتَازَانِيّ رَحمَه الله تَعَالَى نزلهما منزلَة اللَّازِم أَي تصدر مِنْهُ الرُّؤْيَة وَالسَّمَاع من غير تعلق بمفعول مَخْصُوص ثمَّ جَعلهمَا كنايتين عَن الرُّؤْيَة وَالسَّمَاع المتعلقين بمفعول مَخْصُوص هُوَ محاسنه وأخباره بادعاء الْمُلَازمَة بَين مُطلق الرُّؤْيَة ورؤية آثاره ومحاسنه وَكَذَلِكَ بَين مُطلق السماع وَسَمَاع أخباره للدلالة على أَن آثَار وأخباره بلغت من الْكَثْرَة والاشتهار إِلَى حَيْثُ يمْتَنع خفاؤها فيبصرها كل رَاء ويسمعها كل واع بل لَا يبصر الرَّائِي

ص: 232

5 -

إِلَّا آثاره وَلَا يسمع الواعي إِلَّا أخباره فَذكر الْمَلْزُوم وَأَرَادَ اللَّازِم على مَا هُوَ طَرِيق الْكِنَايَة وَلَا يخفى فَوَات هَذَا الْمَعْنى عِنْد ذكر الْمَفْعُول وَتَقْدِيره لما فِي التغافل عَن ذكره والأعراض عَنهُ من الإيذان بِأَن فضائله يَكْفِي فِيهَا أَن يكون ذُو بصر وَسمع حَتَّى يعلم أَنه الْمُنْفَرد بِالْفَضْلِ

وَمثله قَول عَمْرو بن معدي كرب الزبيدِيّ

(فَلَو أَن قوْمي أنْطَقتني رماحهُمُ

نَطَقتُ ولكنّ الرِّماح أجَرَّتِ) // الطَّوِيل //

يُرِيد أَن يثبت أَنه كَانَ من الرماح إجرار وَحبس للألسن عَن النُّطْق بمدحهم والافتخار بهم حَتَّى يلْزم مِنْهُ بطرِيق الْكِنَايَة مَطْلُوبه وَهِي أَنَّهَا أجرته أَي شقَّتْ لِسَانه

وَمثله قَول طفيل الغنوي

(جزى الله خيرا جِيرةً حِين أزْلَقت

بِنَا نعلنَا فِي الواطئينَ فَزَلتِ)

(أبَوا أَن يَملُّونا وَلَو أَن أمّنا

تُلاقى الَّذِي يَلقَوْن منا لَملّت)

(هُم خَلَطونا بالنفوس وألجأوا

الى حجراتٍ أدفأتْ وأظَلَّتِ) // الطَّوِيل //

ص: 233

وَقد شرح المعري دواوين الثَّلَاثَة فَسمى شرح ديوَان أبي تَمام ذكر حبيب وَشرح ديوَان البحتري عَبث الْوَلِيد وَشرح ديوَان المتنبي معجز أَحْمد

وَحدث مُحَمَّد بن يحيى قَالَ سَمِعت عبد الله بن الْحُسَيْن يَقُول للبحتري وَقد اجْتمعَا فِي دَار عبد الله بالخلد وَعِنْده الْمبرد وَذَلِكَ فِي سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَقد أنْشد شعرًا لنَفسِهِ قد كَانَ أَبُو تَمام قَالَ فِي مثله أَنْت وَالله أشعر من أبي تَمام فِي هَذَا الشّعْر قَالَ كلا وَالله إِن أَبَا تَمام الرئيس والأستاذ وَالله مَا أكلت الْخبز إِلَّا بِهِ فَقَالَ لَهُ الْمبرد لله دَرك يَا أَبَا الْحسن وَكَانَ يكنى بِهِ أَيْضا فَإنَّك تأبى إِلَّا شرفاً من جَمِيع جوانبك

وَحدث البحتري قَالَ كَانَ أول أَمْرِي فِي الشّعْر ونباهتي أَن صرت إِلَى أبي تَمام وَهُوَ بحمص فعرضت عَلَيْهِ شعري وَكَانَ الشُّعَرَاء يعرضون عَلَيْهِ أشعارهم فَأقبل عَليّ وَترك سَائِر من حضر فَلَمَّا تفَرقُوا قَالَ لي أَنْت أشعر من أَنْشدني فَكيف حالك فشكوت إِلَيْهِ خلة فَكتب إِلَى أهل معرة النُّعْمَان وَشهد لي بالحذق فِي الشّعْر وشفع لي إِلَيْهِم وَقَالَ امتدحهم فسرت إِلَيْهِم فأكرموني بكتابه ووظفوا لي أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم فَكَانَت أول مَال أصبته

وَحدث البحتري قَالَ أول مَا رَأَيْت أَبَا تَمام أَنِّي دخلت على أبي سعيد مُحَمَّد بن يُوسُف وَقد مدحته بقصيدتي الَّتِي مطْلعهَا

ص: 235

(أأفاق صبٌّ من هوى فأفيقا

أَو خانَ عهدا أَو أطَاع شفيقَا)

فسر بهَا أَبُو سعيد وَقَالَ أَحْسَنت وَالله يَا فَتى وَكَانَ فِي مَجْلِسه رجل نبيل رفيع الْمجْلس مِنْهُ فَوق كل من حضر فِي مَجْلِسه تكَاد تمس ركبته ركبته فَأقبل عَليّ وَقَالَ يَا فَتى أما تَسْتَحي مني هَذَا شعري وتنتحله وتنشده بحضرتي فَقَالَ لَهُ أَبُو سعيد أحقاً مَا تَقول قَالَ نعم وَإِنَّمَا علقه مني فَسَبَقَنِي بِهِ إِلَيْك وَزَاد فِيهِ ثمَّ انْدفع فَأَنْشد أَكثر القصيدة حَتَّى شككني علم الله فِي نَفسِي وَبقيت متحيراً فَأقبل عَليّ أَبُو سعيد فَقَالَ لي يَا فَتى لقد كَانَ فِي قرابتك منا وودك لنا مَا يُغْنِيك عَن هَذَا فَجعلت أَحْلف بِكُل محرجة من الْأَيْمَان أَن الشّعْر لي وَمَا سبقني إِلَيْهِ أحد وَلَا سمعته وَلَا انتحلته فَلم ينفع ذَلِك شَيْئا وأطرق أَبُو سعيد وَقطع بِي حَتَّى تمنيت أَنِّي سخت فِي الأَرْض فَقُمْت منكسر البال أجر رجْلي فَخرجت فَمَا هُوَ إِلَاّ أَن بلغت بَاب الدَّار حَتَّى خرج الغلمان فردوني فاقبل على الرجل فَقَالَ الشّعْر لَك يَا بني وَالله مَا قلته قطّ وَلَا سَمِعت بِهِ إِلَّا مِنْك ولكنني ظَنَنْت أَنَّك تهاونت بموضعي فأقدمت على الإنشاد بحضرتي من غير معرفَة كَانَت بَيْننَا تُرِيدُ بذلك مضاهاتي ومكاثرتي حَتَّى عرفني الْأَمِير نسبك وموضعك ولوددت أَن لَا تَلد طائية إِلَّا مثلك وَجعل أَبُو سعيد يضْحك فدعاني أَبُو تَمام فضمني إِلَيْهِ وعانقني وَأَقْبل يقرظني وَلَزِمتهُ بعد ذَلِك وَأخذت عَنهُ واقتديت بِهِ

ثمَّ إِن البحتري اخْتصَّ بِأبي سعيد وَكَانَ مداحاً لَهُ طول أَيَّامه ولابنه من بعده ورثاهما بعد مقتلهما وأجاد ومرائية فِيهَا أَجود من مدائحه وروى أَنه قيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ من تَمام الْوَفَاء أَن تفضل المراني المدائح لَا كَمَا قَالَ الآخر وَقد سُئِلَ عَن ضعف مراثيه فَقَالَ كُنَّا نعمل للرجاء وَنحن الْآن نعمل

ص: 236

للوفاء وَبَينهمَا بعد

وَكَانَ البحتري من أوسخ خلق الله ثوبا وَآلَة وأبخلهم على كل شَيْء وَكَانَ لَهُ أَخ وَغُلَام مَعَه فِي دَاره فَكَانَ يقتلهما جوعا فَإِذا بلغ مِنْهُمَا الْجُوع أَتَيَاهُ يَبْكِيَانِ فَيَرْمِي إِلَيْهِمَا بِثمن أقواتهما مضيقاً مقتراً وَيَقُول كلا أجاع الله أكبادكما وأعرى أجلادكما وَأطَال اجتهادكما

وَحدث مُحَمَّد بن بَحر الْأَصْبَهَانِيّ الْكَاتِب قَالَ دخلت على البحتري يَوْمًا فاحتبسني عِنْده ودعا بِطَعَام لَهُ وَدَعَانِي إِلَيْهِ فامتنعت من أكله وَعِنْده شيخ شَامي لَا اعرفه فَدَعَاهُ إِلَى الطَّعَام فَتقدم فَأكل مَعَه أكلا عنيفاً فَغَاظَهُ ذَلِك ثمَّ إِنَّه الْتفت إِلَيّ فَقَالَ لي أتعرف هَذَا الشَّيْخ قلت لَا قَالَ هَذَا شيخ من بني الهجيم الَّذين يَقُول فيهم الشَّاعِر

(وبَنُو الهُجيم قبيلةٌ ملعونةٌ

حُمْرُ اللحى متناسبو الألوانِ)

(لَو يسمعُونَ بأكلة أَو شربة

بعمان أضحى جمعهم بعمان) // الْكَامِل //

قَالَ فَجعل الشَّيْخ يشتمه وَنحن نضحك

وَمن شعره يهجو إنْسَانا فِي لِسَانه حبسة

(أَنْت كَمَا قد علمت مُضْطَرب الْهَيْئَة وَالْقد ظاهرُ الْخلف

)

ص: 237

وَحدث أَبُو الْغَوْث ابْن البحتري قَالَ كتبت إِلَى أبي يَوْمًا أطلب مِنْهُ نبيذاً فَبعث إِلَيّ بِنصْف قنينة دردى وَكتب إِلَيّ دونكها يَا بني فَإِنَّهَا تكشف الْقَحْط وتقوت الرَّهْط

وَحدث جحظة قَالَ سَمِعت البحتري يَقُول كنت أتعشق غُلَاما من أهل منبج يُقَال لَهُ شقران فاتفق لي سفر فَخرجت فِيهِ وأطلت الْغَيْبَة ثمَّ عدت وَقد التحى فَقلت فِيهِ وَكَانَ أول شعر قلته

(نَبتَت لحية شقران

شَقِيق النَّفس بَعْدِي)

(حُلقت كَيفَ أتتهُ

قبل أَن ينجز وعدي) // من مجزوء الرمل //

وَحدث جحظة قَالَ كَانَ نسيم غُلَام البحتري الَّذِي يَقُول فِيهِ

(دَعَا عَبْرتِي تجْرِي على الْجور وَالْقَصْد

أظنُّ نسيماً فارقَ الهجر من بعدِي)

(خلا ناظري من طيفه بعد شخصه

فوا عجبا للدهر فقداً على فقد) // الطَّوِيل //

غُلَاما رومياً لَيْسَ بِحسن الْوَجْه وَكَانَ قد جعله بَابا من أَبْوَاب الْحِيَل على النَّاس فَكَانَ يَبِيعهُ ويعتمد أَن يصير إِلَى ملك بعض أهل المروءات وَمن ينْفق عِنْده الْأَدَب فَإِذا حصل فِي ملكه شَبَّبَ بِهِ وتشوقه ومدح مَوْلَاهُ حَتَّى يَهبهُ لَهُ فَلم يزل ذَلِك دأبه حَتَّى مَاتَ نسيم فكفي النَّاس أمره

وَقد قَالَ ابْن نباتة الْمصْرِيّ مُشِيرا إِلَى ذَلِك

(وغانِيَةٍ توافقني إِذا مَا

صبوت لَهَا بِذا العقلِ السَّلِيم)

(وأعذرُ إِن بسكيت على رياضٍ

بكاءَ البُحترِيِّ على نَسيمِ) // الوافر //

ص: 239

وَحدث الْأَخْفَش قَالَ كتب البحتري إِلَى مُحَمَّد بن الْقَاسِم القمي يستهديه نبيذاً فَبعث إِلَيْهِ مَعَ غُلَام لَهُ أَمْرَد فخمشه البحتري فَغَضب الْغُلَام غَضبا شَدِيدا ظن البحتري أَنه سيخبر مَوْلَاهُ بِمَا جرى فَكتب إِلَيْهِ

(أَبَا جعفرٍ كَانَ تَخْميشُنَا

غلامَكَ إِحْدَى الهَنَات الدَّنيهْ)

(بَعْثتَ إِلَيْنَا بشمس المُدَامِ

تُضيءُ لنا مَعَ شمسِ البريَّهْ)

(فَليْتَ الهديَةَ كَانَ الرسولَ

وليت الرسولَ إِلَيْنَا الْهَدِيَّة) // المتقارب //

فَبعث مُحَمَّد بن الْقَاسِم بالغلام إِلَيْهِ هَدِيَّة فَانْقَطع البحتري بعد ذَلِك عَنهُ مُدَّة خجلاً مِمَّا جرى فَكتب إِلَيْهِ مُحَمَّد بن الْقَاسِم

(هجَرت كَأَن البِرَّ أعقَبَ حشْمَةً

وَلم أرَ بِرَّاً قبْلَ ذَا أعقب الهجرا) // الطَّوِيل //

فَقَالَ فِيهِ قصيدة يمدحه

(إِنِّي هجرتُكَ إذْ هجرتك حشمةً

لَا العَوْدُ يُذهِبُها وَلَا الإِبداءُ)

(أخجَلْتني بنَدَي يَديك فسودت

مَا بَيْننَا تِلْكَ الْيَد البيضاءُ)

(وَقَطَعتني بِالْبرِّ حَتَّى إِنَّنِي

مُتوهِّمٌ أَن لَا يكونَ لقاءُ)

(صلِةٌ غَدَتْ فِي النَّاس وَهِي قطيعة

عجب وبر رَاح وَهُوَ جَفاءُ)

(ليُوَاصلنَّكَ رَكب شعر سائرٍ

يَرويه فِيك لحسنه الْأَعْدَاء)

ص: 240

(حَتَّى يتم لَك الثنَاء مُخَلداً

أبدا كَمَا تمت لَك النَّعْماء)

(فتظل تحسُدُكَ الملوكُ الصِّيد بِي

وأظل تحسدني بك الشُّعَرَاء) // الْكَامِل //

وَحدث البحتري قَالَ أنشدت أَبَا تَمام شَيْئا من شعري فتمثل بِبَيْت أَوْس ابْن حجر

(إِذا مُقْرِمٌ منا ذَرَى حدُّ نابِهِ

تخمَّطَ منا نابُ آخر مقرم) // الطَّوِيل //

ثمَّ قَالَ لي نعيت وَالله إِلَى نَفسِي فَقلت أُعِيذك بِاللَّه من هَذَا القَوْل فَقَالَ إِن عمري لن يطول وَقد نَشأ فِي طَيئ مثلك أما علمت أَن خَالِد بن صَفْوَان رأى شبيب بن شيبَة وَهُوَ بَين رهطه يتَكَلَّم فَقَالَ يَا بني لقد نعى إِلَى نَفسِي إحسانك فِي كلامك لأَنا أهل بَيت مَا نَشأ فِينَا خطيب قطّ إِلَّا مَاتَ الَّذِي من قبله قلت بل يبقيك الله ويجعلني فدَاك قَالَ وَمَات أَبُو تَمام رحمه الله بعد سنة

وَحدث أَبُو عَنْبَس الصَّيْمَرِيّ قَالَ كنت عِنْد المتَوَكل والبحتري ينشده قَوْله

(عَن أَي ثغر تبتسم

وَبِأَيِّ طرف تحتكم) // من مجزوء الْكَامِل //

حَتَّى بلغ إِلَى قَوْله فِيهِ

(قلْ للخَليفةِ جعفَرِ المُتوكل بن المُعتصم

)

(والمجتَدَي ابْن المجتدَي

والمُنعِم ابْن المنْتقم)

(اسْلَمْ لدين مُحَمَّد

فَإِذا سلمتَ فقد سلم) // من مجزوء الْكَامِل //

ص: 241

قَالَ وَكَانَ البحتري من أبْغض النَّاس إنشاداً يتشادق ويتزاور فِي مشيته مرّة جائياً وَمرَّة الْقَهْقَرَى ويهز رَأسه مرّة ومنكبه أُخْرَى وَيُشِير بكمه وَيقف عِنْد كل بَيت وَيَقُول أَحْسَنت وَالله ثمَّ يقبل على المستمعين فَيَقُول مَا لكم لَا تَقولُونَ لي أَحْسَنت هَذَا وَالله مِمَّا لَا يحسن أحد أَن يَقُول مثله فضجر المتَوَكل من ذَلِك وَأَقْبل عَليّ فَقَالَ أما تسمع مَا يَقُول يَا صيمري فَقلت بلَى يَا سَيِّدي فمرني فِيهِ بِمَا أَحْبَبْت فَقَالَ بحياتي أهجه على هَذَا الروي الَّذِي أنشدنيه فَقلت تَأمر ابْن حمدون أَن يكْتب مَا أَقُول فَدَعَا بِدَوَاةٍ وَقِرْطَاس وحضرني على البديهة

(أدخلت رَأسك فِي الرَّحِم

وَعلمت أَنَّك تنهَزم)

(يَا بحْتِريُّ حذار ويْحكَ من قضاضة ضغم

)

(فَلَقَد أسَلْتَ بوالدَيْك من الهِجَا سَيْلَ العرم

)

(فَبِأَي عِرْضٍ تَعتصم

وبهتكه جَفَّ الْقَلَم)

(وَالله حِلفةَ صادقٍ

وبقبرِ أَحْمد وَالْحرم)

(وبحق جَعْفَر الإِمَام

ابْن الإِمَام المُعْتَصِمْ)

(لأصيرنك شهرة

بَين المَسيل إِلَى العَلم) // من مجزوء الْكَامِل //

فِي أَبْيَات أخر من هَذَا النمط قَالَ فَخرج مغضباً يعدو وَجعلت أصيح بِهِ

(أدخلت رَأسك فِي الرَّحِم

وَعلمت أَنَّك تنهزم)

ص: 242

والمتوكل يضْحك ويصفق بيدَيْهِ حَتَّى غَابَ عَنهُ وَأمر لي بالصلة الَّتِي أعدت للبحتري

وَقَالَ أَحْمد بن يزِيد حَدثنِي أبي جَاءَنِي البحتري فَقَالَ لي يَا أَبَا خَالِد أَنْت عشيرتي وَابْن عمي وصديقي وَقد رَأَيْت مَا جرى عَليّ أفترى أَنِّي أخرج إِلَى منبج بِغَيْر إِذن فقد ضَاعَ الْعلم وَهلك الْأَدَب فَقلت لَهُ لَا تفعل من هَذَا شَيْئا فَإِن لي علما بِأَن الْمُلُوك تمزح بِأَكْثَرَ من هَذَا ومضيت مَعَه إِلَى الْفَتْح بن خاقَان فَشَكا إِلَيْهِ ذَلِك فَقَالَ لَهُ نَحوا من قولي وَوَصله وخلع عَلَيْهِ وَسكن مِنْهُ فسكن إِلَى ذَلِك

وَقد ذكرت بِحَال البحتري فِي إنشاده فصلا ذكره الصاحب بن عباد فِي وصف أبي الْحسن المنجم الشَّاعِر فَأَحْبَبْت إثْبَاته وَهُوَ

لما قتل المتَوَكل قَالَ أَبُو العنبس الصَّيْمَرِيّ يرثيه

(يَا وَحَشة الدُّنْيَا على جَعْفَر

على الْهمام الْملك الْأَزْهَر)

(على قَتِيل من بني هَاشم

بَين سَرِير الْملك والمنبر)

(وَالله رب الْبَيْت والمشْعَر

وَالله لَو أَن قتل البُحتري)

(لثارَ بِالشَّام لَهُ ثائرٌ

فِي ألف بغل من بني عض خرى)

(يَقْدُمُهُمْ كلُّ أخي ذلة

على حمارٍ دبِرٍ أَعور) // السَّرِيع //

ص: 243

فشاعت الأبيات حَتَّى بلغت البحتري فَضَحِك ثمَّ قَالَ هَذَا الأحمق الأعوريري أَنِّي أُجِيبهُ عَن مثل هَذَا وَلَو عَاشَ امْرُؤ الْقَيْس فَقَالَ مثل هَذَا القَوْل لم أجبه

وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس بن طومار كنت أنادم المتَوَكل ومعنا البحتري وَبَين يَدَيْهِ غُلَام اسْمه رَاح حسن الْوَجْه فَقَالَ المتَوَكل يَا فتح إِن البحتري يعشق رَاحا فَنظر إِلَيْهِ الْفَتْح وأدمن النّظر فَلم يره ينظر إِلَيْهِ فَقَالَ الْفَتْح يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أرى البحتري فِي شغل عَنهُ فَقَالَ ذَاك دَلِيل عَلَيْهِ يَا رَاح خُذ قدحاً بلوراً واملأه شرابًا وناوله إِيَّاه فَلَمَّا نَاوَلَهُ بهت البحتري ينظر إِلَيْهِ فَقَالَ المتَوَكل كَيفَ ترى ثمَّ قَالَ يَا بحتري قل فِي رَاح شعرًا وَلَا تصرح باسمه فَقَالَ

(جَازِ بالودّ فَتى أَمْسَى رهيناً بك مُدْنَفْ

)

(اسمُ من أهواهُ فِي شعريَ مقلوب مصحف

) // من مجزوء الرمل //

وَقَالَ الصولي سَمِعت عبد الله بن المعتز يَقُول لَو لم يكن للبحتري إِلَّا قصيدته السينية فِي وصف إيوَان كسْرَى فَلَيْسَ للْعَرَب سينية مثلهَا وقصيدته فِي وصف الْبركَة لَكَانَ أشعر النَّاس فِي زَمَانه وَالْقَصِيدَة السينية أَولهَا

(صنتُ نَفسِي عَمَّا يدنِّسُ نَفسِي

وَترفعتُ عَن جَدَا كل جبس) // الْخَفِيف //

إِلَى أَن قَالَ فِيهَا

ص: 244

(وَكأن الإيوان من عجب الصَّنْعَة

جوبٌ فِي جنب أرعن جلس)

(يتظنيّ من الكآبة أَن يَبْدُو

لعَيْنِي مصبح أَو ممسي)

(مزعجاً بالفراق عَن أنس إلفٍ

عزَّ أَو مرهقاً بتطليق عرس)

(عكست حَظه اللَّيَالِي وَبَات المُشْتَرِي

فِيهِ وَهُوَ كَوْكَب نحس)

(فَهو يُبْدي تجلداً وَعليهِ

كلكل من كلاكل الدهرِ مرْسي)

(لم يعبهُ أنْ بُزَّمِنْ بُسَطِ الديباج

واستلّ من ستور الدمقس)

(مُشْمَخرّاً تعلو لَهُ شرُفاتٌ

رُفعت فِي رُؤُوس رضوى وقدسِ)

(ليسَ يُدْرَي أصنعُ إنسٍ لجنٍّ

سكنوه أم صنع جنّ لانسِ)

(غيرَ أَنِّي أراهُ يشْهد أنْ لمْ

يكُ بانيه فِي الْمُلُوك بنكسِ) // الْخَفِيف //

وَحدث الْأَخْفَش قَالَ سَأَلَني الْقَاسِم بن عبيد الله عَن خبر البحتري وَقد كَانَ أسكت وَمَات بِتِلْكَ الْعلَّة فَأَخْبَرته بوفاته وَأَنه مَاتَ بالسكتة فَقَالَ ويحه رمى فِي أحْسنه

وَقد جمع الصولي ديوانه ورتبه على الْحُرُوف وَجمعه ابْن حَمْزَة ورتبه على الْأَنْوَاع وَقد جمع البحتري كتاب الحماسة كَمَا فعل أَبُو تَمام وَله كتاب مَعَاني الشّعْر وعاش ثَمَانِينَ سنة وانتقل فِي آخر عمره إِلَى الشأم وَتُوفِّي بمنبج

ص: 245

سنة ثَلَاث وَقيل أَربع وَقيل خمس وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ رَحمَه الله تَعَالَى

42 -

(وَلَو شِئْت أَن أبْكِي دَمًا لبكيتهُ

عَلَيْهِ وَلَكِن ساحة ُالصبر أوسعُ)

الْبَيْت للخريمي من قصيدة من الطَّوِيل يرثي بهَا أَبَا الهيذام وأولها

(قضى وَطراً مِنْك الحبيب المودِّعُ

وحلَّ الَّذِي لَا يُسْتَطَاع فَيدْفَع) // الطَّوِيل //

إِلَى أَن قَالَ فِيهَا

(وأعددتهُ ذخْرا لكل ملمَّةٍ

وسهمُ الرزايا بالذخائر مُولَعُ)

(وَإِنِّي وَإِن أظهرتُ مني جلادةً

وصانعتُ أعدائي عَلَيْهِ لموجعُ)

(ملكتُ دموعَ الْعين حَتَّى رَددتهَا

إِلَى ناظري إِذْ أعينُ الْقلب تَدْمَع) // الطَّوِيل //

وَبعده الْبَيْت

والساحة الفضاء بَين الدّور

وَالشَّاهِد فِيهِ ذكر الْمَفْعُول وَهُوَ دَمًا لكَون تعلق فعل الْمَشِيئَة بِهِ غَرِيبا

وَقد تفنن الشُّعَرَاء فِي بكاء الدَّم وتشعبت مسالكهم فِي إِيرَاده فَمن ذَلِك قَول أبي الْقَاسِم بن كيكس

(بكيتُ دَمًا حَتَّى بقيتُ بِلَا دمٍ

بكاء فَتى فردٍ على سكنٍ فردِ)

ص: 246

(أأبكي الَّذِي أهواه بالدمعِ وحدهُ

لقد جَلَّ قَدر الدمع فِيهِ إِذا عِنْدِي) // الطَّوِيل //

وَقَول الشريف الرضي

(وَيَوْم وقفنا للوداع فكلُّنا

يَعُدُّ مطيعَ الشوق من كَانَ أحزمَا)

(فصرتُ بقلب لَا يعنفُ فِي الْهوى

وعينٍ مَتى استمطرتها أمطرَتْ دَمَا) // الطَّوِيل //

وَمثله قَول مهيار الديلمي

(بكيتُ على الْوَادي فحرَّمتُ مَاءَهُ

وَكَيف يَحِلُّ الماءُ أكثرهُ دم) // الطَّوِيل //

وَقَول أبي الْحُسَيْن الباخرزي

(عجبت من دمعتي وعيني

من قبل بَيْنٍ وبعدِ بَيْنِ)

(قد كَانَ عَيْني بِغَيْر دمع

فَصَارَ دمعي بِغَيْر عين) // من مخلع الْبَسِيط //

وَمثله قَول مُؤَلفه فِي مطلع قصيدة

(أوّاهُ من دمع بِلَا عينٍ

يجْرِي على الْخَدين من عَيْني) // السَّرِيع //

وَمَا أحسن قَول بَعضهم

(وَلما الْتَقَيْنَا للوداع عَشِيَّة

وَقد راعها صبري لَدَى موقف الْبَين)

(أَتَت بصِحَاح الْجَوْهَرِي دموعها

فعارضت من دمعي بمختصر الْعين) // الطَّوِيل //

وَلأبي الْفَتْح البكتمري

(قَالُوا بكيتَ دَمًا فَقلت مسحت من خدي خَلُوقاً

)

(أبصرتُ لُؤْلُؤ ثغرهِ

فنثرتُ من جفني عقيقاً)

(لَوْلَا التَّمَسُّك بالهوى

لحملتُ من دمعي غريقا) // من مجزوء الْكَامِل //

وَلابْن حمديس

ص: 247

(غشِيتْ حِجْرَهَا دموعيَ حُمْراً

وَهْيَ من لوعة الْهوى تتحدّرْ)

(فانزوتْ بالشهيق خوفًا وَظنتْ

حَبَّ رمَّانِ صدرِها قد تنثرْ)

(قلتُ عِند اختبارها بِيَدَيْهَا

ثمراً صانهن جيب مزرَّرْ)

(لم يكن مَا ظننتِ حَقًا وَلَكِن

صبغة الوجد صبغ دمعِيَ أَحْمَر) // الْخَفِيف //

وَهُوَ ينظر إِلَى قَول المنازي يصف وَاديا

(وقانا لفحة الرمضاء وادٍ

سقاهُ مضاعف الْغَيْث العميمِ)

(نزلنَا دَوْحَهُ فحنا علينا

حنو المرضعات على الفطيم)

(وأرشَفَنَا على ظمإِ زلالاً

أرقّ من المدامة للنديمِ)

(يصدّ الشمسَ أنَّي واجهتْنَا

فيحجبها ويأذَنُ لِلنسيم)

(يروع حَصَاه حَالية العذارى

فَتلْمسُ جانبَ العقد النظيم) // الوافر //

أردْت الْبَيْت الْأَخير

وَقد قلب الشَّيْخ بدر الدّين بن الصاحب غَالب هَذِه الأبيات هجواً فِي حمام فَقَالَ

(وحمَّامٍ قليلِ المَاء داجٍ

وفيهِ ألفُ شيطانٍ رجيمِ)

(وَلَا غير الْمُزَاحم من رفيقٍ

وَلَا غير الْمُدَافع من حَمِيمِ)

(طلبنا ماءَهُ فحنا علينا

حنو المرضعات على الفطيم)

(ونقَّطنا برَشْحٍ بعد رشح

كمصِّ من أَبَارِيق النديم)

(يصدّ الحرّ عَنَّا فِي شتاء

فيحجبهُ ويأذنُ للنسيمِ)

(يروعُ بهولهِ مَنْ حلّ فِيهِ

فيحسب أنهُ هولُ الْجَحِيم) // الوافر //

رَجَعَ إِلَى وصف الدمع

وَلأبي بكر الخالدي فِيهِ

ص: 248

(بَكَى إليَّ غداةَ الْبَين حِين رأى

دمعي بفيض وحالي حالُ مبهوت)

(فدمعتي ذَوْبُ ياقوت على ذهب

ودمعهُ ذَوْبُ دُرّ فَوق ياقوت) // الْبَسِيط //

وللوأواء الدِّمَشْقِي فِي مَعْنَاهُ

(كلُّ دمع فبالتكلف يَجْرِي

غيرَ دمع المحبِّ والمهجور)

(وَرَّدَ البينُ دمع عَيْني فاضحى

كعقيق أذيب فِي بلور) // الْخَفِيف //

وَله أَيْضا فِي مثل ذَلِك

(فامزج بمائك نَار كأسك وَاسقني

فَلَقَد مزجتُ مدامعي بدمائي) // الْكَامِل //

وَلابْن نباتة الْمصْرِيّ

(يَا غزالا رنا وغصناً تثنى

وهلالاً سما وَصبحاً أنارا)

(كَانَ دمعي على هَوَاك لجيناً

فاحالته نارُ قلبِي نُضارا) // الْخَفِيف //

وَمَا أبدع قَوْله بعده مَعَ حسن التَّضْمِين

(حلِيةٌ لَا أُعيرُها لمحِبٍّ

شَغلَ الحَليُ أَهلَهُ أَن يعارا)

وَلابْن قلاقس

(مضى مَعَهم قلبِي فَللَّه دَرُّهُ

لقد سَرَّني إِذْ مر مَعَ من يَسُرُّهُ)

(وأطوَلُ من هجرِ الحبيبِ وصَبْوتي

وَيَوْم النَّوَى ليلِي وهمِّي وشَعْرُه)

(وَلَيْسَ دَماً مَاء الجُفونِ وَإِنَّمَا

فُؤَادِي بِمَاء الدَّمع قد ذابَ جَمْرُهُ) // الطَّوِيل //

وَمَا أحسن قَول أسعد بن إِبْرَاهِيم بن اِسْعَدْ بن بليطة

(ظَلْتُ بِهِ والدموعُ جاريةٌ

أقَبِّلُ الخدَّ مِنْهُ والليتا)

(تقطرُ دُراً حَتَّى إِذا وَرَدَتْ

روْضَة خديه عُدْنَ ياقوتا) // المنسرح //

وَقَوله أَيْضا

(ليسَ ليَوْم البْينِ عِنْدِي سوى

مدامعٍ نَجيعُها سَكْبُ)

ص: 249

(كَأَنَّمَا فَضَّ بأجفانها

رُمَّانةً فانْتَثَر الحَّبُّ) // السَّرِيع //

وللمطوعي أَيْضا

(لما استقلَّتْ بهم عِيرُ النَّوَى أُصُلاً

وشتتتهم صروف الْبَين تشتيتا)

(جعلْتُ أنظِم فِي وصف النَّوَى درراً

والعينُ تنثر من دمعي يواقيتا) // الْبَسِيط //

وَمَا أحسن قَول المَسْعُودِيّ

(قَالَت عهدتك تنبكي

دَمًا حذار التنأي)

(فَمَا لعينك جادتْ

بعد الدِّمَاء بِمَاء)

(فَقلت مَا ذَاك مني

لسَلْوَةٍ وَعَزَاءِ)

(لَكِن دموعيَ شابت

من طول عُمْرِ بُكَائِي) // المجتث //

وَهُوَ يشبه قَول الْقَائِل أَيْضا

(قَالُوا ودمعي قد صفا لفراقهم

إِنَّا عَهِدْنَا مِنْك دمعاً أحمرا)

(فأجبتهم إِن الصبابة عُمِّرَتْ

فِيكُم وشاب الدمع لما عمرا) // الْكَامِل //

وَأحسن مِنْهُ قَول الآخر

(وقائلةٍ مَا بالُ دمعك أبيضاً

فَقلت لَهَا يَا ميُّ هَذَا الَّذِي بَقِي)

(ألم تعلمي أَن النَّوَى طَال عمره

فشابت دموعي مثل مَا شَاب مَفْرقِي) // الطَّوِيل //

وَمثله قَول أَيْضا ابْن الغويرة

(كَانَت دموعيَ حمراً قبل بينهمُ

فمذ نَأوْا قَصَّرَتْهَا لوعةُ الحرق)

(قطفت للحظ وردا من خدودهم

فاستقطر البعدُ ماءَ الْورْد من حدقي) // الْبَسِيط //

وَمثله قَول مُحَمَّد بن هبة الله الشهير بِأبي دلف الْكَاتِب ويروي لعبد الْكَافِي الْيَهُودِيّ الهاروني

(يَا من يقرِّب وَصْلي مِنْهُ موعدُهُ

لَوْلَا عوائق من خُلْفٍ تُباعدهُ)

ص: 250

(لَا تحسبن دموعي البيضَ غير دَمِي

وَإِنَّمَا نَفَسي الحامي يَصْعَدهُ) // الْبَسِيط //

وَقَول أبي الْقَاسِم بن الْعَطَّار بديع وَهُوَ

(مَا أدمُعي تنهلُّ سجا إِنَّمَا

هِيَ مُهجتي سالَتْ من الآماق) // الْكَامِل // وَهَذَا الْبَاب وَاسع جدًّا وَفِيمَا أوردناه مقنع

وَأَبُو الهيذام المرثي هُنَا هُوَ عَامر بن عمَارَة بن خريم وَهُوَ وَالِد الْمُحدث مُوسَى بن عَامر صَاحب الْوَلِيد بن مُسلم وراوي كتبه وَكَانَ أَمِير عرب الشَّام وزعيم قيس وفارسها الْمَشْهُور وَهُوَ قَائِد الْعَرَب المضرية فِي الْفِتْنَة الْعُظْمَى الكائنة بِدِمَشْق بَين القيسية واليمانية فِي دولة الرشيد وَهِي الَّتِي من أجلهَا قَالَ الرشيد لجَعْفَر بن يحيى الْبَرْمَكِي لَيْسَ لهَذَا الْأَمر إِلَّا أَنا وَأَنت فإمَّا أَن تتَوَجَّه أَو أتوجه أَنا فَمضى جَعْفَر إِلَى الشَّام وأخمد الْفِتَن وَكَانَ قد خرج على الرشيد لكَونه قتل أَخَاهُ فظفر بِهِ وَحمل إِلَيْهِ مُقَيّدا فَلَمَّا مثل بَين يَدَيْهِ أنْشدهُ أبياتاً يستعطفه بهَا مِنْهَا

(فَأحْسن أميرَ المؤمنينَ فإنهُ

أبي الله إِلَّا أَن يكون لَك الْفضل) // الطَّوِيل //

فَمن عَلَيْهِ وَعَفا عَنهُ

وَمن شعره فِي أَخِيه

(سأبكيك بالبيض الرِّقاق وبالقَنا

فإنَّ بهَا مَا يطلُبُ الماجِدُ الوَترا)

(ولستُ كمن يبكي أخاهُ بعبرةٍ

يُعَصِّرها فِي جَفْنِ مُقلتِه عَصَرَا)

ص: 251

(وَإِنَّا أناسٌ مَا تفيضُ دموعُنا

على هالكٍ منا وَإِن قَصم الظهرا) // الطَّوِيل //

وَقيل إِنَّه توفّي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَة

والخريمي هُوَ إِسْحَاق بن حسان ويكنى بِأبي يَعْقُوب وَهُوَ من الْعَجم وَكَانَ مولى ابْن خريم الَّذِي يُقَال لِأَبِيهِ خريم الناعم وَهُوَ خريم بن عَمْرو من بني مرّة بن عَوْف بن سعيد بن ذيبان وَكَانَ لخريم ابْن يُقَال لَهُ عمَارَة ولعمارة ابْنَانِ يُقَال لَهما عُثْمَان وَأَبُو الهيذام وَفِي عُثْمَان هَذَا يَقُول الخريمي

(جَزَى اللُه عُثمانَ الخُريميّ خَيرَ مَا

جَزَى صَاحباً جَزْلَ الْمَوَاهِب مُفْضِلَا)

(كَفى جَفوةَ الإِخوان طُولَ حَياتهِ

وَأوْرثَ ممَّا كانَ أعْطى وأخْولا) // الطَّوِيل //

وَكَانَ عَظِيم الْقدر وَأحد القواد وعمى الخريمي بَعْدَمَا أسن وَكَانَ يَقُول فِي ذَلِك فَمِنْهُ قَوْله

(فإنْ تَكُ عَيني خبا نورُها

فَكم قَبلها نورُ عيَنٍ خبَا)

(فلمْ يَعَم قَلبي وَلكنما

أرَى نورَ عَيْني إليهِ سرَى)

(فأسْرَجَ فيهِ إِلَى نورهِ

سِراجاً مِنَ الْعلمِ يَشفي الْعَمى) // المتقارب //

وَأخذ هَذَا من قَول حبر الْأمة عبد الله ابْن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب وَكَانَ عمي فَقَالَ

(إنْ يأخُذِ اللهُ مِنْ عَينيَّ نورَهُما

فَفي لِسانِي وقَلبي مِنهما نورُ)

(قَلبي ذكيٌّ وعَقْلي غَيرُ ذِي دَخلٍ

وَفي فَمي صارمٌ كالسَّيفِ مأثور) // الْبَسِيط //

ص: 252

وَكَانَ أَبُو يَعْقُوب الخريمي مُتَّصِلا بِمُحَمد بن مَنْصُور بن زِيَاد كَاتب البرامكة وَله فِيهِ مدائح جِيَاد ثمَّ رثاه بعد مَوته فَقيل لَهُ يَا أَبَا يَعْقُوب مراثيك لآل مَنْصُور بن زِيَاد أحسن من مدائحك وأجود فَقَالَ كُنَّا يَوْمئِذٍ نعمل على الرَّجَاء وَنحن الْآن نعمل على الْوَفَاء وَبَينهمَا بون بعيد

وَهُوَ الْقَائِل فِي عمى عَيْنَيْهِ

(أُصْغي إِلَى قائِدِي لخبرني

إِذا الْتَقينا عمَّنْ يُحييني

(أريدُ أَن أعدل السَّلام وَأَن

أفْصِلَ بَين الشريفِ والدونِ)

(أسمعُ مالَا أرَى فأكرهُ أَن

أخطئَ والسمعُ غيرُ مأمونِ)

(لله عينِي الَّتِي فُجِعتُ بهَا

لَو أنَّ دَهراً بهَا يواتيني)

(لَو كنتُ ُخِّيرت مَا أخذتُ بهَا

تَعْمير نوح فِي ملك قارونِ)

(حقٌّ أخِلَاّيَ أَن يعودوني

وَأَن يُعزُّوا عَيْني ويبكونِي) // المنسرح //

وَهُوَ الْقَائِل أَيْضا

(إِذا مَا مَاتَ بعضك فابك بَعْضًا

فَإِن الْبَعْض من بعضٍ قريبُ)

(يمنِّيني الطبيبُ شِفَاء عَيْني

وهلْ غير الإلهِ لَهَا طَبِيب) // الوافر //

وَمن جيد شعره قَوْله

(النَّاس أحلامُهم شَتَّى وَإِن جُبِلوُا

عَلى تشابهِ أرواحٍ وأجسادِ)

(للخيرِ والشرِّ أهلٌ وكُّلوُا بهمَا

كلٌّ لهُ من دوَاعي نَفسه هادِي)

(منهمْ خليلُ صفاءِ ذوُ محافظةٍ

أرْسى الْوَفَاء أوَاخيهِ بأوتادِ)

(ومُشعرُ الْغدر محنيٌّ أَضالعهُ

علَى سَريرَةٍ غِمر غلُّها بادِي)

(مُشاكِسٌ خدع جمٌّ غوائلهُ

يُبْدِي الصفاءَ ويُخفي ضَربة الْهَادِي)

(يأتيكَ بالبغِي فِي أهل الصفاء وَلَا

ينفكُّ يسْعَى بإصلاح لإفساد) // الْبَسِيط //

ص: 253

وَمن جيد شعره أَيْضا قَوْله

(أضاحكُ ضَيْفِي قبل إِنْزَال رَحْله

ويخضب عِندي والمحلُّ جديب)

(ومَا الخصبُ للأضْيافِ أنْ يكثرْ الْقرى

وَلكنما وَجهُ الْكريم خصيب) // الطَّوِيل //

وَهُوَ الْقَائِل

(وَإنَّ أشدَّ النَّاسِ فِي الحَشر حَسرةَ

لمُورثُ مالٍ غَيرَهُ وَهوَ كاسِبُهْ)

(كَفى سَفهاً بِالكهل أنْ يتبعَ الصبَا

وَأن يأتِيّ الأمرَ الذِي هُوَ عائبه) // الطَّوِيل //

وَهُوَ الْقَائِل أَيْضا

(مَا أحَسنَ الغيرةَ فِي حِينها

وَأقبحَ الغيرةَ فِي كلِّ حِينْ)

(مَنْ لمْ يزَلْ مُنْهماً عرسهُ

مناصباً فِيهَا لرِيب الظُّنونْ)

(أوْشك أنْ يُغريها بِالذِي

يَخافُ أنْ يُبرزها لِلعيونْ)

(حَسبكَ مِنْ تحصينها وَضْعُها

مِنكَ إِلَى عِرضٍ صَحيح وَدينْ)

(لَا تَطَّلعْ مِنكَ على رِيبةٍ

فيتبعَ المقرونُ حَبل القرين) // السَّرِيع //

43 -

(وَلمْ يُبْقِ مِنِّي الشوق غير تفكري

فَلَو شِئْت أَن أبْكِي بَكَيْتُ تَفَكُّرا)

الْبَيْت لأبي الْحسن عَليّ بن أَحْمد الْجَوْهَرِي من قصيدة من الطَّوِيل

والشوق نزاع النَّفس وحركة الْهوى

وَالشَّاهِد فِيهِ أَن عدم حذف الْمَفْعُول فِيهِ لانْتِفَاء الْقَرِينَة لَا لغرابة الْمَفْعُول لِأَن المُرَاد بالبكاء الأول فِي الْبَيْت الْبكاء الْحَقِيقِيّ لَا الفكري فَكَأَنَّهُ يَقُول أفناني الشوق فَلم يبْق مني غير التفكر فَلَو شِئْت الْبكاء وعصرت عَيْني ليسيل دمعها لم يخرج مِنْهَا دمع وَخرج بدله التفكر فالبكاء الَّذِي أَرَادَ إِيقَاع الْمَشِيئَة عَلَيْهِ بكاء مُطلق مُبْهَم غير معدي إِلَى الْفِكر الْبَتَّةَ والبكاء الثَّانِي مُقَيّد معدي إِلَى

ص: 254

التفكر فَلَا يصلح تَفْسِيرا للْأولِ وبياناً كَذَا قَالَه التَّفْتَازَانِيّ نقلا عَن دَلَائِل الأعجاز

والجوهري هُوَ

44 -

(وَكَمْ ذُدْتَ عَنِّي من تحامل حَادث

وَسورَة أيَّامٍ حَزَزْنَ إِلَى الْعَظْمِ)

الْبَيْت للبحتري من قصيدة من الطَّوِيل يمدح أَبَا الصَّقْر وأولها

(أعَنْ سَفهٍ يوْمَ الأبيْرِقِ أمْ حلمِ

وُقوفٌ بربعٍ أَو بكاءٌ على رسمِ)

(وَمَا يُعْذَرُ الموسومُ بالشَّيبِ أَن يُرَى

مُعارَ لباسٍ للتصابي وَلا وَسْم)

(تخبِّر أيامِي الحديثاتُ أننِي

تركتُ السرُورَ عِندَ أياميَ القُدْمِ)

(وَأَولعتُ بِالْكِتْمَانِ حَتَّى كأنني

طُويتُ على ضِغنٍ من الدْينِ أَو وغم)

(فإنْ تلقني نِضوَ العظامِ فَإِنَّهَا

جريرَة قلبِي مُنْذُ كنتُ على جسمي) // الطَّوِيل //

وَهِي طَوِيلَة فَمِنْهَا فِي المديح

(كَأَنَّك من جِذْمٍ من الناسِ مفردٍ

وسائرُ من يَأْتِي الدَّنِيَّات من جِذم)

(كأنا عَدُوّاً مُلْتَقي مَا تقاربتْ

بِنَا الدارُ إِلَّا زادَ غرمكَ فِي غُنمي)

وَبعده الْبَيْت وَبعده

(أحاربُ قوما لَا أسَرُّ بسُوئِهم

ولكنني أرمي منَ النَّاس من ترْمى)

ص: 255

والذود الطَّرْد وَالدَّفْع والتحامل تَكْلِيف الْأَمر الْمشق يُقَال تحامل عَليّ فلَان إِذا كلفه مَا لَا يُطَاق وَسورَة الْأَيَّام شدتها وصولتها واعتداؤها والحز الْقطع

وَالشَّاهِد فِيهِ حذف الْمَفْعُول لدفع توهم إِرَادَة غير المُرَاد من الْكَلَام ابْتِدَاء وَهُوَ هُنَا اللَّحْم إِذْ لَو ذكر لتوهم قبل ذكر الْعظم أَن الحز لم ينْتَه إِلَيْهِ فَترك دفعا لهَذَا الْوَهم

وَتقدم ذكر البحتري قَرِيبا

45 -

(قَدْ طَلَبْنَا فَلم نجد لَك فِي السؤدد

وَالمجد والمكارِم مِثْلا)

الْبَيْت للبحتري من قصيدة من الْخَفِيف يمدح بهَا المعتز لدين الله وأولها

(إِن سير الخليطِ حِين اسْتَقَلَاّ

كانَ عَوْناً للدمع لما اسْتَهلا)

(فالنَّوى خُطَّة من الهجر مَا يَنْفَكُّ يَشْجَي بهَا المُحبُّ ويَبلْى

)

(فأقلَاّ فِي غُلوَة اللوم إِنِّي

زائدٌ فِي الغرام إِن لم تقلا) // الْخَفِيف //

وَهِي طَوِيلَة فَمِنْهَا فِي المديح

(لم يزَلْ حقُّكَ المُقَدَّم يمحو

باطِلَ المستعارِ حَتَّى اضْمَحَلَا)

وَبعده الْبَيْت وَبعده

(أنتَ أندى كَفَّاً وأشرفُ أَخْلَاقًا

وأزكى قولا وَأكْرم فِعلاً)

يعرض بذم المستعين

ص: 256

والسؤدد بِالْهَمْز السِّيَادَة وَالْمجد نيل الشّرف وَالْكَرم أَو لَا يكون إِلَّا بِالْآبَاءِ والمكارم فعل الْكَرم والمثل الشّبَه

وَالشَّاهِد فِيهِ حذف الْمَفْعُول لإِرَادَة ذكره ثَانِيًا على وَجه يتَضَمَّن إِيقَاع الْفِعْل على صَرِيح لفظ الْمَفْعُول إِظْهَارًا لكَمَال الْعِنَايَة بِوُقُوع الْفِعْل عَلَيْهِ وترفعاً عَن إِيقَاعه على ضَمِيره وَإِن كَانَ كِنَايَة عَنهُ لِأَنَّهُ لَو قَالَ قد طلبنا لَك مثلا لناسب أَن يَقُول فَلم نجده وَفِيه تَفْوِيت غَرَض إِيقَاع نفي الوجدان على صَرِيح لفظ الْمثل لكَمَال الْعِنَايَة بِعَدَمِ وجدانه وَلِهَذَا الْمَعْنى بِعَيْنِه عكس ذُو الرمة فِي قَوْله

(وَلم أمدح لأرْضِيَهُ بشعِرْي

لئيماً أَن يكون أصَاب مَالا) // الوافر //

فَإِنَّهُ أعمل الْفِعْل الأول الَّذِي هُوَ أمدح فِي صَرِيح لفظ اللَّئِيم لَا الثَّانِي الَّذِي هُوَ أرْضى إِذْ كَانَ غَرَضه إِيقَاع نفي الْمَدْح على اللَّئِيم صَرِيحًا دون الإرضاء

وَيجوز أَن يكون سَبَب حذف الْمَفْعُول ترك مُوَاجهَة الممدوح بِطَلَب مثل لَهُ مُبَالغَة فِي التأدب إِذْ التَّصْرِيح بِطَلَب الْمثل يجوز وجوده لِأَن طلب الْعَاقِل مبنيٌّ عَلَيْهِ

ص: 257