المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌شواهد المسند إليه - معاهد التنصيص على شواهد التلخيص - جـ ١

[أبو الفتح العباسي]

الفصل: ‌شواهد المسند إليه

‌شَوَاهِد الْمسند إِلَيْهِ

ص: 99

15 -

(قَالَ لي كَيفَ أَنْت قلت عليل

)

هُوَ من الْخَفِيف وَلَا أعرف قَائِله وَتَمَامه

(سَهرٌ دَائِمٌ وَحُزْن طَوِيلُ

)

وَمَعْنَاهُ ظَاهر وَالشَّاهِد فِيهِ حذف الْمسند إِلَيْهِ للِاحْتِرَاز عَن الْعَبَث مَعَ ضيق الْمقَام وَهُوَ قَوْله عليل أَي أَنا عليل فَحذف الْمُبْتَدَأ لما مر

وَمثله قَول أبي الطمحان القيني الشَّاعِر الجاهلي وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة الصَّحِيح أَنه للقيط بن زُرَارَة

(أَضاءت لَهُم أحْسابُهم وَوجوههُمْ

دُجى اللَّيلِ حَتَّى نظم الْجزع ثاقبهْ)

(نُجومُ سماءٍ كلما انْقضّ كَوكبٌ

بَدا كوكبٌ تأوِي إِلَيْهِ كواكبه) // الطَّوِيل //

أَي هم نُجُوم سَمَاء فَحذف الْمسند إِلَيْهِ

16 -

(إِنَّ الَّذينَ تَرونَهم إخوانُكمْ

يَشفي غليلَ صُدُورِهم أَن تُصرعوا)

الْبَيْت لعبدة بن الطَّبِيب من قصيدة من الْكَامِل يعظ فِيهَا بنيه ويوصيهم بِمَا هُوَ المرضى شرعا وأولها

(أَبنيّ إِنِّي قد كبرتُ وَرابَني

بَصرِي وَفىَّ لِمُصلحٍ مستمتَعُ)

(فَلئنْ هَلكتُ لقد بَنيتُ مَساعياً

تَبقى لكمْ مِنْهَا مآثرُ أربعُ)

(ذِكرٌ إِذا ذُكِرَ الكرامُ يَزينكمْ

وَوراثة الحسبِ المُقدَّمِ تنفعُ)

(وَمقامَ أيامِ لهُنَّ فَضيلةٌ

عِندَ الحفيظةِ والمجامعُ تَجمعُ)

(وَلهُاً مِنَ الكسبِ الَّذِي يُغنيكمُ

يَوماً إِذا احتضرَ النفوسَ المطمعُ)

(أوصِيُكمْ بِتُقَى الإِله فَإنَّهُ

يُعطي الرَّغائِبَ مَنْ يَشاء ويمنعُ)

ص: 100

(وَبْبرّ وَالدِكمْ وَطاعةِ أمْرهِ

إِنَ الأبَرّ منَ البنينَ الأطوَعُ)

(إِنّ الكبيرَ إِذا عصاهُ أهلُهُ

ضاقتْ يَدَاهُ بأمرهِ مَا يُصنعُ)

(ودَعوا الضغائنَ لَا تكنْ مِنْ شأنكمْ

إنَّ الضغائنَ للقرابةِ توضعُ)

(يُزجِي عقارِبَهُ ليبعثَ بينكمْ

حَربًا كَمَا بَعثَ العروقَ الأخدعُ)

(وَإذا مَضيتُ إِلَى سبيلي فَابْعَثُوا

رَجُلاً لهُ قلبٌ حديدٌ أصمعُ)

(إِن الْحَوَادِث تخترمن وَإنَّما

عمُرُ الفَتى فِي أهْلهِ مُستودَعُ) يَسْعَى ويَجمعُ جاهِداً مُستهتراً

جِدّاً وليسَ بآكِلِ مَا يَجمعُ) // الْكَامِل //

وترونهم من الإراءة المتعدية إِلَى ثَلَاثَة مفاعيل وَجرى مجْرى الظَّن لبنائه للْمَفْعُول وانتصب إخْوَانكُمْ على أَنه مفعول ثَان لترونهم والغليل بِالْمُعْجَمَةِ الحقد والضغن وَأَن تصرعوا فِي مَحل رفع على أَنه فَاعل يشفي والصرع الطرح على الأَرْض كالمصرع وَهُوَ مَوْضِعه

وَالْمعْنَى يَا بني إِن الْقَوْم الَّذين تظنونهم إخْوَانكُمْ وتعتمدون عَلَيْهِم فِي الشدائد بِمَا ظننتم يشفى مَا فِي صُدُورهمْ من غليل الْعَدَاوَة وحرقتها أَن تصرعوا وتصابوا بالحوادث فإياكم واستئمانهم والاعتماد عَلَيْهِم وَفِيه إِشْعَار بقَوْلهمْ الحزم سوء الظَّن والثقة بِكُل أحد عجز

ص: 101

وَالشَّاهِد فِيهِ تَنْبِيه الْمُخَاطب على الْخَطَأ فِي ظَنّه إِذْ فِي قَوْله إِن الَّذين من التَّنْبِيه على الْخَطَأ مَا لَيْسَ فِي قَوْلك إِن الْقَوْم الفلانيين

وَعَبدَة بن الطَّبِيب شَاعِر مجيد لَيْسَ بالمكثر والطبيب لقب لِأَبِيهِ واسْمه يزِيد بن عَمْرو وَيَنْتَهِي نسبه لتميم وَهُوَ مخضرم أدْرك الْإِسْلَام فَاسْلَمْ وَكَانَ فِي جَيش النُّعْمَان بن مقرن الَّذين حَاربُوا مَعَه الْفرس بِالْمَدَائِنِ وَقد ذكر ذَلِك فِي قصيدته الَّتِي أَولهَا

(هَل حَبل خَولةَ بَعدَ الهجر مَوصولُ

أم أنتَ عنْهَا بَعيدُ الدَّارِ مشغولُ)

(حَلتْ خُويلة فِي دَارٍ مُجاورةً

أهل الْمَدِينَة فِيها الديكُ وَالفيلُ)

(يقارِعونَ رُؤْس الْعَجم ضاحيةً

منهمْ فوارس لَا عُزْلٌ وَلَا مِيلُ) // الْبَسِيط //

وَقَالَ الْأَصْمَعِي أرثي بَيت قالته الْعَرَب بَيت عَبدة بن الطَّبِيب

(ومَا كَانَ قيسٌ هلكهُ هلكُ وَاحدٍ

ولكنهُ بنيانُ قوم تهدما) // الطَّوِيل //

وَقَالَ رجل لخَالِد بن صَفْوَان كَانَ عَبدة بن الطَّبِيب لَا يحسن أَن يهجو فَقَالَ لَا تقل ذَلِك فوَاللَّه مَا تَركه من عيٍ وَلكنه كَانَ يترفع عَن الهجاء وَيَرَاهُ ضعة كَمَا يرى تَركه مُرُوءَة وشرفا وَأنْشد

ص: 102

(وأجرأ منْ رَأيتُ بِظهر غَيبٍ

علىَ عيبِ الرِّجَال أَخُو الْعُيُوب) // الوافر //

وَعَن ابْن الْأَعرَابِي أَن عبد الْملك بن مَرْوَان قَالَ يَوْمًا لجلسائه أَي المناديل أشرف فَقَالَ قَائِل مِنْهُم مناديل مصر كَأَنَّهَا غرقئ الْبيض وَقَالَ آخَرُونَ مناديل الْيمن كَأَنَّهَا نور الرّبيع فَقَالَ عبد الْملك مناديل أخي بني سعد عَبدة بن الطَّبِيب حَيْثُ يَقُول

(لما نَزَلنَا ضربنَا ظِلَ أخبيةٍ

وفار للقومِ بِاللَّحْمِ المراجيلُ)

(وَرْد وأشقرُ مَا يؤنيهِ طابخهُ

مَا غيرَ الغليُ مِنْهُ فَهو مأكولُ)

(ثُمّتَ قمنا إلىَ جُرْدٍ مسوّمَةٍ

أَعرافُهنَّ لأيدينا مناديلُ) // الْبَسِيط //

يَعْنِي بالمراجيل المراجل فَزَاد فِيهَا الْيَاء ضَرُورَة

17 -

(إِن الَّذي سمك السَّمَاء بنى لنَا

بَيْتا دعائمهُ أعزُّ وأطولُ)

الْبَيْت للفرزدق وَهُوَ أول قصيدة طَوِيلَة من الْكَامِل تزيد على مائَة بَيت وَبعده

(بَيْتا بناهُ لنَا المليكُ وَمَا بنىَ

ملكُ السماءِ فَإِنَّهُ لَا ينقلُ)

ص: 103

(بَيْتا زُرَارَة محتب بفنائه

ومجاشع وَأَبُو الفوارِس نهشلُ)

(يلجونَ بَيتَ مجاشع فَإِذا احتبوْا

برزوا كأنهمُ الْجبَال المئل) // الْكَامِل //

يُقَال سمك الشَّيْء سمكًا إِذا رَفعه وَمعنى الْبَيْت ظَاهر

وَالْمرَاد بِالْبَيْتِ فِيهِ الْكَعْبَة أَو بَيت الْمجد والشرف

وَالشَّاهِد فِيهِ جعل الْإِيمَاء إِلَى وَجه الْخَبَر وَسِيلَة إِلَى التَّعْرِيض بالتعظيم لشأنه وَذَلِكَ لقَوْله إِن الَّذِي سمك السَّمَاء فَفِيهِ إِيمَاء إِلَى أَن الْخَبَر الْمَبْنِيّ عَلَيْهِ أَمر من جنس الرّفْعَة وَالْبناء بِخِلَاف مَا لَو قيل إِن الله أَو الرَّحْمَن أَو غير ذَلِك ثمَّ فِيهِ تَعْرِيض بتعظيم بِنَاء بَيته لكَونه فعل من رفع السَّمَاء الَّتِي لَا بِنَاء أرفع مِنْهَا وَلَا أعظم

حدث سَلمَة ابْن عَبَّاس مولى بني عَامر بن لؤَي قَالَ دخلت على الفرزدق فِي السجْن وَهُوَ مَحْبُوس وَقد قَالَ قصيدته

(إنَّ الَّذِي سمك السَّمَاء بنى لنا

بَيْتا دعائمهُ أعزُّ وأطولُ)

وَقد أفحم وأجبل فَقلت لَهُ أَلا أرفدك فَقَالَ وَهل ذَاك عنْدك فَقلت نعم ثمَّ قلت

(بَيْتا زُرَارَة محتب بفنائه

ومجاشع وَأَبُو الفوارس نهشلُ)

فاستجاد الْبَيْت وغاظه قولي فَقَالَ لي مِمَّن أَنْت قلت من قُرَيْش قَالَ من أَيهَا قلت من بني عَامر بن لؤَي فَقَالَ لئام وَالله رضعةٌ جاورتهم بِالْمَدِينَةِ فَمَا أحمدتهم فَقلت ألام وَالله مِنْهُم وأوضع قَوْمك جَاءَك رَسُول مَالك بن الْمُنْذر وَأَنت سيدهم وشاعرهم فَأخذ بأذنك يقودك حَتَّى حَبسك فَمَا اعْتَرَضَهُ أحد وَلَا نصرك فَقَالَ قَاتلك الله مَا أمكرك وَأخذ الْبَيْت وَأدْخلهُ فِي قصيدته

ذكرت بقوله بَيْتا زوارة محتب بفنائه الْبَيْت مَا ذكره بعض أهل الْأَدَب قَالَ مَا شبهت تَأْوِيل الرافضة فِي قبح مَذْهَبهم إِلَّا بِتَأْوِيل بعض مجانين

ص: 104

أهل مَكَّة فِي الشّعْر فَإِنَّهُ قَالَ يَوْمًا مَا سَمِعت بأكذب من بني تَمِيم زَعَمُوا أَن قَول الْقَائِل

(بَيْتا زوارة محتب بفنائه

ومجاشع وَأَبُو الفوارس نهشل)

أَن هَذِه أَسمَاء رجال مِنْهُم قلت وَمَا عنْدك أَنْت فِيهِ قَالَ الْبَيْت بَيت الله والزرارة الْحجر زرت حول الْبَيْت ومجاشع زَمْزَم جشعت بِالْمَاءِ وَأَبُو الفوارس هُوَ أَبُو قبيس جبل مَكَّة قلت لَهُ فنهشل ففكر فِيهِ سَاعَة ثمَّ قَالَ قد أصبته هُوَ مِصْبَاح الْكَعْبَة طَوِيل أسود فَذَاك نهشل

وَذكرت أَيْضا هُنَا مَا حَدثهُ أَبُو مَالك الراوية قَالَ سَمِعت الفرزدق يَقُول أبَقَ غلامان لرجل منا يُقَال لَهُ النَّضر فَحَدثني قَالَ خرجت فِي طلبهما وَأَنا على نَاقَة لي عيساء كوماء أُرِيد الْيَمَامَة فَلَمَّا صرت فِي مَاء لبني حنيفَة يُقَال لَهُ الصرصران ارْتَفَعت سَحَابَة فأرعدت وأبرقت وأرخت عزاليها فعدلت إِلَى بعض دِيَارهمْ وَسَأَلت الْقرى فَأَجَابُوا فَدخلت دَارا لَهُم وأنخت النَّاقة وَجَلَست تَحت ظلة لَهُم من جريد النّخل وَفِي الدَّار لَهُم جوَيْرِية سَوْدَاء إِذْ دخلت جَارِيَة كَأَنَّهَا سبيكة فضَّة وَكَأن عينيها كوكبان دريان فسالت الْجَارِيَة لمن هَذِه العيساء تَعْنِي نَاقَتي فَقيل لضيفكم هَذَا فعدلت إِلَيّ فَقَالَت السَّلَام عَلَيْكُم فَرددت عليها السلام فَقَالَت مِمَّن الرجل فَقلت من بني حَنْظَلَة فَقَالَت من أَيهمْ قلت من بني نهشل فتبسمت وَقَالَت أَنْت إِذا مِمَّن عناه الفرزدق بقوله وَذكرت الأبيات السَّابِقَة قَالَ فَقلت نعم جعلت فدَاك وأعجبني مَا سَمِعت مِنْهَا فَضَحكت وَقَالَت إِن ابْن الخطفي تَعْنِي جَرِيرًا قد هدم عَلَيْكُم بَيتكُمْ هَذَا الَّذِي قد فخرتم بِهِ حَيْثُ يَقُول

(أخزَى الَّذِي رَفعَ السَّماء مجاشعاً

وَبنىَ بِناهُ بالحضيضِ الْأَسْفَل)

ص: 105

(بَيتاً يحمِّمُ قَينكم بِفنائهِ

دنساً مقاعدهُ خَبيثَ المدخلِ)

قَالَ فوجمت فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِك فِي وَجْهي قَالَت لَا بَأْس عَلَيْك فَإِن النَّاس يُقَال فيهم وَيَقُولُونَ ثمَّ قَالَت أَيْن تؤم قلت الْيَمَامَة فتنفست الصعداء ثمَّ أنشأت تَقول

(تُذكرنِي بِلاداً خَيرُ أهلِي

بِها أهلُ المروءةِ وَالكرامهْ)

(أَلا فسقَى الإلهُ أجشَّ صَوبٍ

يَسحُّ بَدرِّه بلد اليمامه) // الوافر //

قَالَ فأنست بهَا ثمَّ قلت أذات خدرٍ أم ذَات بعل فأنشأت تَقول

(إِذا رَقدَ النِّيامُ فَإِن عَمراً

تَؤرقهُ الهمومُ إلىَ الصَّباح)

(تُقطعُ قلبهُ الذكرى وَقلبي

فلَا هُوَ الخلي وَلَا بِصاحي)

(سَقىَ اللُه اليمامةَ دَارَ قوم

بهَا عمر ويحن إِلَى الرواح) // الوافر //

قَالَ فَقلت لَهَا من عَمْرو هَذَا فأنشأت تَقول

(سَألتَ ولوْ عَلمتَ كففْتَ عنهُ

وَمَنْ لَك بالجوابِ سوَى الخبيرِ)

(فإنْ تَكُ ذَا قبُول إنَّ عمرا

لكالقمر المُضيء المستنيرِ)

(وَما لِي بالتَّبعُّلِ مُسترَاحٌ

وَلَو رد التبعُّلُ لي أسيرِي) // الوافر //

قَالَ ثمَّ سكتت سكتةً كَأَنَّهَا تسمع إِلَى كَلَامه ثمَّ تهافتت وأنشأت تَقول

(يُخيَّلُ لي أيا عَمْرو بن كَعْب

بأنكَ قد حُمِلْتَ على سَريرٍ)

(يَسيرُ بِكَ الهوَيْنا القومُ لمَّا

رماك الحبُّ بالقلقِ اليَسيرِ)

(فإنْ تَكُ هَكذا يَا عَمْرو وإنيِّ

مُبكِّرةٌ عَلَيْك إِلَى القُبورِ)

ثمَّ شهقت شهقة فخرت ميتَة فَقلت لَهُم من هَذِه فَقَالُوا هَذِه عقيلة بنت

ص: 106

الضَّحَّاك بن عَمْرو بن محرق بن النُّعْمَان بن الْمُنْذر بن مَاء السَّمَاء فَقلت لَهُم فَمن عَمْرو هَذَا فَقَالُوا ابْن عَمها عَمْرو بن كَعْب بن محرق فارتحلت من عِنْدهم فَلَمَّا دخلت الْيَمَامَة سَأَلت عَن عَمْرو هَذَا فَإِذا هُوَ قد دفن فِي ذَلِك الْوَقْت الَّذِي قَالَت فِيهِ مَا قَالَت

والفرزدق قد تقدم ذكره فِي شَوَاهِد الْمُقدمَة

18 -

(هَذا أَبُو الصَّقْرِ فرْداً فِي مَحاسِنِهِ

)

قَائِله ابْن الرُّومِي وَتَمَامه

(مِنْ نَسْلِ شَيبَانَ بَيْنَ الضَّالِ والسَّلم

) وَهَذَا الْبَيْت من قصيدة من الْبَسِيط وشيبان بن ذهل وشيبان بن ثَعْلَبَة قبيلتان والضال وَالسّلم شجرتان من شجر الْبَادِيَة وفرداً مَنْصُوب على الْمَدْح أَو الْحَال

وَالْمعْنَى هَذَا الْمشَار إِلَيْهِ صَاحب الِاسْم الْمَشْهُور إِذا ذكر رجلا فَردا فِي محاسنه وفضائله من نسل شَيبَان وَأَوْلَاد هَذِه الْقَبِيلَة المقيمين بالبادية وَالْإِقَامَة بهَا مِمَّا تتمدح بِهِ الْعَرَب لِأَن فقد الْعِزّ فِي الْحَضَر

وَالشَّاهِد فِيهِ تَعْرِيف الْمسند إِلَيْهِ بإيراده اسْم إِشَارَة مَتى صلح الْمقَام لَهُ واتصل بِهِ غَرَض وصلاحيته بِأَن يَصح إِحْضَاره فِي ذهن السَّامع بِوَاسِطَة الْإِشَارَة إِلَيْهِ حسا ثمَّ الْغَرَض الْمُوجب لَهُ أَو الْمُرَجح تَفْصِيل يَأْتِي ضمن الشواهد إِن شَاءَ الله تَعَالَى وتعريفه بِالْإِشَارَةِ هُنَا لتمييزه أكمل تَمْيِيز وَذَلِكَ فِي قَوْله هَذَا أَبُو الصَّقْر لصِحَّة إِحْضَاره فِي ذهن السَّامع بِوَاسِطَة الْإِشَارَة حسا

ص: 107

وَمثله قَول المتنبي

(أولئكَ قَوْم إِن بَنْوا أحْسَنوا البِنا

وَإِن عاهَدوا أوْفَوْا وَإِن عَقَدوا شَدُّوا) // الطَّوِيل //

وَقَول مادح حَاتِم الطَّائِي

(وَإذا تأمَّل شَخْصَ ضَيفٍ مُقبلٍ

مُتسربلٍ سِربالَ لَيلٍ أغْبرِ)

(أَوْمَأ إِلى الكَوماءِ هَذَا طارِقٌ

نَحرَتْنَي الأَعداءُ إِن لم تنحري) // الْكَامِل //

وَابْن الرُّومِي هُوَ أَبُو الْحسن عَليّ بن الْعَبَّاس بن جريج وَقيل هُوَ أَبُو جرجيس الشَّاعِر الْمَشْهُور صَاحب النّظم العجيب والتوليد الْغَرِيب يغوص على الْمعَانِي النادرة فيستخرجها من مَكَانهَا ويبرزها فِي أحسن قالب وَكَانَ إِذا أَخذ الْمَعْنى لَا يزَال يستقصي فِيهِ حَتَّى لَا يدع فِيهِ فضلَة وَلَا بَقِيَّة ومعانيه غَرِيبَة جَيِّدَة

وَحكى ابْن درسْتوَيْه وَغَيره أَن لائماً لامه فَقَالَ لَهُ لم لَا تشبه كتشبيهات ابْن المعتز وَأَنت اشعر مِنْهُ فَقَالَ لَهُ أَنْشدني شَيْئا من قَوْله الَّذِي استعجزتني عَن مثله فأنشده قَوْله فِي الْهلَال

(انْظُر إليهِ كَزورقٍ من فضَّة

قد أثقلته حمولة من عنبر) // الْكَامِل //

فَقَالَ لَهُ زِدْنِي فأنشده قَوْله فِي الآذريون وَهُوَ زهر أصفر فِي وَسطه خمل أسود وَلَيْسَ بِطيب الرَّائِحَة وَالْفرس تعظمه بِالنّظرِ إِلَيْهِ وفرشه فِي الْمنزل

(كَأَن آذَْريونَها

والشمسُ فيهِ كالِيَهْ)

(مَدَاهِنٌ من ذهبٍ

فِيهِ بقايا غاليه) // من مجزوء الرجز //

فصاح واغوثاه تالله لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا ذَاك إِنَّمَا يصف ماعون

ص: 108

بَيته لِأَنَّهُ ابْن خَليفَة وَأَنا أَي شَيْء اصف وَلَكِن انْظُر إِذا أَنا وصفت مَا أعرف أَيْن يَقع قولي من النَّاس هَل لأحد قطّ قَول مثل قولي فِي قَوس الْغَمَام وَأنْشد

(وَسَاقٍ صَبيح للصَّبُوح دَعَوتُهُ

فَقامَ وَفِي أجْفانِه سِنَة الغَمْضِ)

(يطوفُ بكاساتِ العُقارِ كأْنجم

فمِن بَين مُنقَضّ علينا ومنُفض)

(وَقد نَشَرت أَيدي الجَنوبِ مَطارفاً

على الجو دكنا والحواشي على الأَرْض)

(يطَرِّزُها قَوس السحابِ بأخضرٍ

على أحمرٍ فِي اصفرٍ إثرَ مبيض)

(كأذيال خوذ أقبَلَتْ فِي غلائِل

مُصبَّغة والبَعضُ أقصرُ من بعض) // الطَّوِيل //

وَبَعْضهمْ ينسبها لسيف الدولة ابْن حمدَان مِنْهُم صَاحب الْيَتِيمَة وَقَوْلِي فِي صانع الرقَاق

(إِن أنسَ لَا أنسَ خَبَّازاً مررتُ بِهِ

يَدْحو الرُّقاقَةَ مِثْلَ اللمح بالبصر)

(مَا بَين رُؤيتها فِي كَفهِ كُرةً

وَبَين رؤيتها قَوراء كالقَمر)

(إِلَّا بِمِقْدَار مَا تَنْداحُ دائِرة

فِي لُجَّةِ المَاء يُلْقى فِيه بِالْحجرِ) // الْبَسِيط //

وَقَوْلِي فِي قالي الزلابية

(وَمْستقِرٍ على كرسيِّهِ تَعبِ

رُوحي الْفِدَاء ُله من منصبٍ نصب)

(رَأيتهُ سَحراً يقلي زَلابيةً

فِي رقةَ القشر والتجويف كالقصب)

(كَأَنَّمَا زَيتُهُ المقليُّ حينَ بدَا

كالكيمياء الَّتِي قَالُوا وَلم تصبِ)

ص: 109

(يُلقيِ العَجينَ لُجَيْناً من أنامِلهِ

فَيستحيلُ شبابيكا مِنَ الذهبِ) // الْبَسِيط //

وَمن مَعَانِيه البديعة قَوْله

(وإِذا امْرؤٌ مدح امرَءَاً لنوالِهِ

وَأطالَ فِيهِ فقد أرادَ هِجاءهُ)

(لوْ لم يُقدّرْ فِيهِ بُعد المستقَى

عِندَ الورودِ لما أطالَ رِشاءهُ) // الْكَامِل //

وَقد كرر ابْن الرُّومِي هَذَا الْمَعْنى فِي نظمه فَقَالَ

(إِذا عَزَّ رِفدٌ لُمسترْفِدٍ

أطالَ المديحَ لَهُ المادحُ)

(وَقِدْ مَا إِذا استبعدَ المُستقِي

أطالَ الرشاءَ لَهُ المانح) // المتقارب //

وَقد أَخذه السراج الْوراق فَقَالَ

(سامِحْ بِفضلك عَبداً

مُقصراً فِي الثَّناءِ)

(رأى قلبيا قَرِيبا

فَلمْ يُطِلْ فِي الرشاء) // المجتث //

وعَلى ذكر أبياته الْمَارَّة فِي صانع الرقَاق ذكرت مَا حُكيَ عَن الأديب أبي عَمْرو النميري أَن هَذِه الأبيات أنشدت فِي حلقته فَقَالَ بعض تلامذته مَا أَظن أَن يقدر على الزِّيَادَة فِيهَا فَقَالَ

(فَكدتُ أضرُطُ إعجاباً لرؤيتها

وَمَنْ رأى مثلَ مَا أبصرتُ مِنهُ خزي)

فَضَحِك من حضر وَقَالُوا الْبَيْت لَائِق بالقطعة لَوْلَا مَا فِيهِ من ذكر الرجيع فَقَالَ

(إِنْ كانَ بَيتَي هَذَا لَيسَ يُعجبكم

فَعجلوا محوهُ أوْ فالعقوه طرِي)

وَمن مَعَاني ابْن الرُّومِي البديعة قَوْله يهجو

(لِخَالدٍ شاعرِنا زَوجةٌ

لَهَا حِرٌ يَبلغُ مِثليها)

(قَوَّامة باللَّيلِ لَكِنَّهَا

تستغفر الله برجليها) // السَّرِيع //

ص: 110

(وَقَوله فِي هَذَا الْمَعْنى أَيْضا

(مَرفوعة تحتَ الدُّجا رِجلاها

كَأَنَّمَا يَستغفرانِ الله) // الرجز //

وَقد أَخذ هَذَا الْمَعْنى أَبُو مُحَمَّد الْبَصْرِيّ فَقَالَ من أَبْيَات

(وَلا تَتزوجنَّ لهمْ بِبنتٍ

فلَلسودانِ عِندهمُ مراحُ)

(بأرْجلهنَّ يَستغفرنَ دأبا

فأرْجلهنَّ لِلدعواتِ رَاح) // الوافر //

رَجَعَ إِلَى شعر ابْن الرُّومِي فَمِنْهُ قَوْله

(طامن حشاك فَلَا محالةِ وَاقع

بِكَ مَا تُحبُّ منَ الأمورِ وتَكرهُ)

(وَإذا أتاكَ منَ الأمورِ مُقدْرٌ

وهربتَ مِنهُ فنحوه تتَوَجَّه) // الْكَامِل //

وَمِنْه قَوْله يهجو

(غضِبت وظلت من سفه وطيش

تهزهز لحية فِي قدر رقش)

(فَمَا افْتَرَقت لغضبتك الثريا

وَلَا اجْتمعت لذاك بَنَات نعش) // الوافر //

وَمِنْه قَوْله أَيْضا

(إِنْ كُنتَ مِن جهَل حَقي غَيْرَ معتذرٍ

وكنتَ عنْ ردِّ مدحي غيرَ مُنقلب)

(فأعطِني ثمنَ الطِّرسِ الَّذِي كُتبتْ

فِيهِ القصيدةُ أوْ كَفَّارَة الْكَذِب) // الْبَسِيط //

وَقد تبعه الْفَاضِل عَليّ بن مليك الْحَمَوِيّ وَأخذ غَالب أَلْفَاظه فَقَالَ

(مَدحتكمْ طَمَعا فِيما أؤملهُ

فَلم أنلْ غيرَ حَظّ الْإِثْم والوصبِ)

(إِن لم تكن صِلةٌ مِنْكُم لذِي أدبِ

فأجرةُ الْخط أَو كفارةُ الْكَذِب) // الْبَسِيط //

وَلابْن الرُّومِي فِي مثله

(رُدوا عَليّ صَحائفاً سودتها

فِيكُم بِلا حقٍّ وَلَا اسْتِحْقَاق) // الْكَامِل //

وَقد سبق إِلَى هَذَا الْمَعْنى أَبُو تَمام بقوله فِي الْمطلب الْخُزَاعِيّ

(أقولُ عدْلاً فيكَ فِيمَا أرىَ

إنكَ لَا تقبلُ قولَ الكذبْ)

ص: 111

(مَدحتكمْ كذبا فجَازيتنِي

بُخلاً لقد أنصفتَ يَا مطلب) // السَّرِيع //

وَقَالَ ابْن زيدون

(قُل للوزيرِ وَقد قطعتُ بمدحه

عُمري فكانَ السجنُ منهُ ثوابي)

(لَا تخش لائمتي بِما قدْ جئتهُ

مِنْ ذاكَ فيَّ وَلَا تَوَقِّ عتابي)

(لَم تُخْطِ فِي أمرِي الصَّوابَ مَوفَّقاً

هَذَا جزَاءُ الشَّاعِر الْكذَّاب) // الْكَامِل //

وَلابْن مليك وَقد مدح بعض رُؤَسَاء الْعَصْر بقصيدة فريدة فقوبلت بالحرمان

(قَالوا قَصيدكَ بالحرمانِ لِمْ رَجعَتْ

باللهِ باللهِ خَبرنا عَن السببِ)

(فَقلتُ مَا قُوبلتْ بالمنعِ عنْ خَطإٍ

إِلَّا لِكثرةِ مَا فِيهَا من الْكَذِب) // الْبَسِيط //

وَمن شعر أبن الرُّومِي يهجو إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي وَهُوَ قريب من هَذَا الْمَعْنى

(رَددتَ إليّ شِعري بَعدَ مَطلٍ

وَقَدْ دنَّست مَلبسهُ الجديدَا)

(وَقلتَ امدحْ بهِ منْ شِئتَ بَعدِي

وَمنْ ذَا يَقبلُ المدْحَ الرديدَا)

(وَلا سيمَا وَقدْ أعلقت فيهِ

مَخازيكَ اللواتي لنْ تَبيدَا)

(وَهلْ للحيِّ فِي أثْوابِ مَيتٍ

لَبوسٌ بَعدَ مَا امْتلأت صَديدَا) // الوافر //

وَقَالَ أَبُو جَعْفَر بن وضاح فِي أبي الْوَلِيد بن مَالك وَقد قعد عَن بره

(أبلغْ لديْكَ المالِكيَّ رِسالةً

مَشحوذةٌ مِثلَ السِّنانِ اللهَّذِم)

(ألبِسْتَ أمدَاحي كأزهارِ الرُّبا

وجزيتني بقطيعة وتجهم)

(فارْددْ عليِّ مَدائحي مَوفورةً

هذَا السِّوار لِغير ذاكَ المِعصَمِ) // الْكَامِل //

ولطيف قَول أبي المظفر الأبيوردي

(وَمدائحِ تحكي الرِّياضَ أضعتها

فِي باخل أعْيَتْ بهِ الأحسابُ)

(فَإِذا تناشدها الروَاة وأبْصرُوا الممدوحَ

قَالُوا سَاحر كَذَّاب) // الْكَامِل //

ص: 112

وَقَول أبي بكر بن مجير الأندلسي

(وَقائلةٍ تقُول وَقدْ رأتني

أُقاسِي الجدْبَ فِي المرْعى الخصيبِ)

(أَما عَطف الفقيهُ وَأنتَ تشكوُ

لهُ شَكوى العليل إِلَى الطَّبيب)

(وَقدْ مَرَّ الثناءُ بمعطفيهِ

كَمَا مر النسيمُ على القضيبِ)

(فَقلتُ عليَّ شُكرٌ وامتداحٌ

وليسَ عليَّ تقليب الْقُلُوب) // الوافر //

وَمَا أحسن قَول بشار وَكَانَ قد مدح الْمهْدي بقصيدة فحرمه الثَّوَاب فَقيل لَهُ حَرمك أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ وَالله لقد مدحته بِشعر لَو مدح بِهِ الدَّهْر مَا خشِي صرفه على أحد ولكنني كذبت فِي الْعَمَل فَكَذبت فِي الأمل

ولطيف قَول ابْن جكينا الْبَغْدَادِيّ

(تَفضلوا وَاعْذروهُ فِي مُماطلتي

أَنا أحقُّ وحقِّ اللهِ مَنْ عتبا)

(وَلَا تَلوموهُ فِي وَعدٍ يُرددُهُ

فِي وَقتٍ مدحي لَهُ عَلَّمتُهُ الكذبا) // الْبَسِيط //

وَلابْن جكينا الْمَذْكُور يعْتَذر عَن بخل الممدوحين لغَرَض عرض لَهُ

(قدْ بانَ لي عُذْرُ الْكِرَام فصدّهم

عَنْ أَكثر الشعَرَاء ليسَ بِعارِ)

(لم يسأموا بَذْلَ النوال وإنَّما

جمَدَ الندى لبرودة الْأَشْعَار) // الْكَامِل //

وَقَالَ بَعضهم فِي تمهيد عذر الهجائين

(تدانتْ طُرُقُ اليأسِ

فَطالتْ طُرقُ النُّجْح)

(وأجدي مكسبُ الغشِّ

فأكدى مكسبُ النصح)

ص: 113

(وكانَ الإثمُ فِي الهجوِ

فصارَ الإثمُ فِي الْمَدْح) // الهزج //

وَمن هَذَا الْمَعْنى قَول ابْن جحظة

(تساوى الناسُ فِي فِعْلَ المساوِي

فمَا يستحسنونَ سوىَ الْقَبِيح)

(وصَارَ الجودُ عندهمُ جُنوناً

فمَا يستعقلونَ سِوَى الشحيح)

(وَكانوا يَهربونَ مِنَ الأهاجِي

فصاروا يَهربونَ مِنَ المديح) // الوافر //

وَمِنْه قَول الآخر

(كانَ الكرامُ وَأبناءُ الْكِرَام إِذا

تسامعُوا بِكريمٍ مَسَّهُ عدمُ)

(تَسابقوا فَيواسيهِ أخُو كرم

مِنهمْ وَيرجعُ بَاقيهمْ وَقدْ نَدموا)

(وَاليومَ لَا شكّ قَدْ صَارَ النَّدى سَفهاً

وَينكرونَ عَلى الْمُعْطِي إِذا علمُوا) // الْبَسِيط //

ومدح أَبُو الْحُسَيْن بن الْفضل أحد الوزراء بمراكش وَكَانَ أَقرع فَلم يثبه فَقَالَ

(أهديتُ مَدحِي لِلوزير الَّذِي

دَعا بِهِ المجدُ فلمْ يسمعِ)

(فَحامِلُ الشعرِ إليهِ كَمنْ

يُهدِي بهِ مُشطاً إِلىَ أقرَعِ) // السَّرِيع //

وَمَا أحذق قَول أبي رياش فِي الْوَزير المهلبي وَقد مدحه وتأخرت صلته وَطَالَ تردده إِلَيْهِ

(وَقائلةٍ قدْ مَدْحتَ الوَزِيرَ

وَهوَّ المؤملُ وَالمستماحُ)

(فَمَاذَا أفادكَ ذاكَ المدِيح

وَهذا الغدوُّ وَهذا الرواحُ)

(فَقلت لهَا ليسَ يدْرِي امْرُؤ

بِأي الأمورِ يَكونُ الصلاحُ)

ص: 114

(عَليَّ التقلُّب وَالاضطرابُ

بجهدِي وَليسَ علَى النجاح) // المتقارب //

وَهُوَ قريب من معنى أَبْيَات ابْن مجير السَّابِقَة قَرِيبا

وَلابْن الرُّومِي فِي ذمّ الخضاب وَهُوَ من مَعَانِيه المخترعة

(إِذا رَئمَ المرءُ الشبابَ وَأخلقتْ

شَبيبتهُ ظَنَّ السوادَ خِضابَا)

(وَكيفَ يَظنُّ الشيْخُ أنَّ خِضابَه

يُظن سَواداً أَو يخالُ شبَابًا) // الطَّوِيل //

وَقد ذكرت بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ اعتذار عَبْدَانِ الْمَعْرُوف بالحوزي عَن الخضاب وَهُوَ أحسن شَيْء رَأَيْته فِي مَعْنَاهُ

(فِي مَشيبي شماتةٌ لِعداتي

وَهوَ ناع منُغَّصٌ لِحَياتي)

(وَيعيبُ الخضابَ قومٌ وَفِيه

ليَ أنْسٌ إِلَى حُضُور

(لَا وَمنْ يَعلمُ السَّرائرَ مِنِّي

مَا بهِ رُمتُ خُلَّةَ الغاتيات)

(إِنما رُمتُ أَن ْأغيِّبَ عني

مَا تُرينيهِ كلّ يَومٍ مِرَاتِي)

(هُوَ ناعٍ إليّ نَفسي وَمنْ ذَا

سَرّه أنْ يَرَى وُجوهَ النُّعاةِ) // الْخَفِيف //

وعَلى ذكر عَبْدَانِ هَذَا فقد كَانَ مَعَ فَضله وجزالة شعره خَفِيف الْحَال متكلف الْمَعيشَة قَاعِدا تَحت قَول أبي الشيص

(لَيْسَ الْمقل عَن الزَّمَان براض

) // الْكَامِل //

ص: 115

وَهُوَ الْقَائِل

(قُلتُ للدَّهر مِنْ فُضوليَ قَولاً

وَحداني عَليهِ طيبُ الْأَمَانِي)

(أترَاني بخلعةٍ أَنا أُحْبى

ذَات يَوم وَفاخِرِ الحُمْلانِ)

(قالَ هيهاتَ أَنْت والنَّحسُ تربان

وَقدْ كنتما رَضيعَيْ لِبانِ)

(لَا تُؤملْ رُكوب شَيء سِوَى النعشِ

ولَا خِلعةً سوى الأكفان

) // الْخَفِيف //

وَله من أَبْيَات

(يكلفني التَّصبر والتَّسلي

وَهلْ يُسطاعُ إلَّا المُستطاعُ)

(وَقالوا قِسمة نَزلتْ بِعدلٍ

فَقلنا لَيتهُ جور مشَاع) // الوافر //

وَكَانَ أَبُو الْعَلَاء الْأَسدي عرضه لأهاجيه فَمن ملحه فِيهِ قَوْله

(أَبا الْعَلَاء اسْكتْ وَلَا تُؤذَنا

بِشينٍ هَذا النسبِ الباردِ)

(وَتدَّعِي مِنْ أسدٍ نِسْبَة

لَا تثبُت الدَّعْوَى بِلَا شَاهدِ)

(أَقمْ لنا وَالِدَة أَولا

وَأنتَ فِي حِل من الْوَالِد) // السَّرِيع //

وَقَوله أَيْضا

(قابْل هُدِيتَ أَبَا الْعَلَاء نصيحتي

بِقبولها وبواجب الشُّكْر)

(لَا تهجونَّ أسنَّ مِنْك فَرُبمَا

تهَجو أباكَ وأنتَ لَا تدرِي) // الْكَامِل //

وَقَوله

(أَضحىَ الملومُ أبَا العلاءِ يَسبنِي

وأنَا أبوهُ يَعقني وَيعادِي)

(وَالمنتمونَ إليهِ مِنْ أولادهِ

الله يَعلمُ أَنهم أَوْلَادِي) // الْكَامِل //

ولنرجع إِلَى شعر ابْن الرُّومِي

قَالَ فِي بَغْدَاد وَقد غَابَ عَنْهَا فِي بعض أَسْفَاره وَهُوَ معنى جيد

(بلد صَحبتُ بهَا الشبيبة والصبَا

وَلبستُ ثَوبَ اللَّهْو وَهوَ جَديدُ)

ص: 116

(فإِذا تَمثَّلَ فِي الضميرِ رَأيتهُ

وَعَلِيهِ أغصانُ الشبابِ تميدُ)

ومحاسنه كَثِيرَة وديوان شعره رتبه الصولي على الْحُرُوف وَكَانَ كثير التطير جدا وَله فِيهِ أَخْبَار غَرِيبَة وَكَانَ أَصْحَابه يعبثون بِهِ فيرسلون إِلَيْهِ من يتطير من اسْمه فَلَا يخرج من بَيته أصلا وَيمْتَنع من التَّصَرُّف سَائِر يَوْمه وَأرْسل إِلَيْهِ بعض أَصْحَابه يَوْمًا بِغُلَام حسن الصُّورَة اسْمه حسن فطرق الْبَاب عَلَيْهِ فَقَالَ من قَالَ حسن فتفاءل بِهِ وَخرج وَإِذا على بَاب دَاره حَانُوت خياط قد صلب عَلَيْهَا درفتين كَهَيئَةِ اللَّام ألف وَرَأى تحتهَا نوى تمر فتطير وَقَالَ هَذَا يُشِير بِأَن لَا تمر وَرجع وَلم يذهب مَعَه

وَكَانَ الْأَخْفَش عَليّ بن سُلَيْمَان قد تولع بِهِ فَكَانَ يقرع عَلَيْهِ الْبَاب إِذا أصبح فَإِذا قَالَ من القارع قَالَ مرّة بن حَنْظَلَة وَنَحْو ذَلِك من الْأَسْمَاء الَّتِي يتطير بذكرها فَيحْبس نَفسه فِي بَيته وَلَا يخرج يَوْمه أجمع فَكتب إِلَيْهِ ينهاه ويتوعده بالهجاء فَقَالَ

(قثولوا لِنحوِّينَا أبي حَسنٍ

إنّ حُسامِي مَتى ضَربتُ مَضى)

(وَإِنّ نَبلِي إِذا هَممتُ بِهِ

أرْمي غَدا نَصلها بجمر غَضا)

(لَا تحسبنَّ الهجاء يَخمده الرفعُ

ولَا خَفضُ خافض خفَضا) // المنسرح //

وَمِنْه

(عِندي لهُ السَّوْطُ إِن تَلاءمَ فِي السّير

وَعندِي اللِّجامُ إنْ رَكضا)

وَكَانَ الْوَزير الْقَاسِم بن عبيد الله بن سُلَيْمَان بن وهب وَزِير المعتضد يخَاف

ص: 117

هجوه وفلتات لِسَانه فَدس عَلَيْهِ ابْن فراس فأطعمه خشكنانجة مَسْمُومَة فَلَمَّا أكلهَا أحس بالسم فَقَامَ فَقَالَ لَهُ الْوَزير إِلَى أَيْن تذْهب فَقَالَ إِلَى الْموضع الَّذِي بعثت بِي إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ سلم على وَالِدي فَقَالَ لَيْسَ طريقي على النَّار وَخرج من مَجْلِسه وأتى منزله وَأقَام أَيَّامًا وَمَات

وَكَانَ الطَّبِيب يتَرَدَّد إِلَيْهِ ويعالجه بالأدوية النافعة للسم فَزعم أَنه غلط عَلَيْهِ فِي بعض العقاقير قَالَ نفطويه النَّحْوِيّ رَأَيْت ابْن الرُّومِي وَهُوَ يجود بِنَفسِهِ فَقلت مَا حالك فَأَنْشد

(غَلطَ الطَّبيبُ عليَّ غَلطةَ مُوردٍ

عَجزتْ مَواردُهُ عنِ الإِصدار)

(والنَّاسُ يَلْحَوْنَ الطبيبَ وَإِنَّمَا

غَلطُ الطبيبِ إِصَابَة الأقدار) // الْكَامِل //

وَقَالَ أَبُو عُثْمَان الناحم الشَّاعِر دخلت على ابْن الرُّومِي أعوده فَوَجَدته يجود بِنَفسِهِ فَلَمَّا قُمْت من عِنْده قَالَ

(أَبا عُثْمَان أنتَ حَمِيدُ قَوِمكْ

وَجُودُكَ للعشيرة دون لُؤمِكْ)

(تَزود من أخيكَ فَلَا أرَاهُ

يَراكَ وَلَا نرَاهُ بعد يَوْمك) // الوافر //

وَكَانَت وِلَادَته بِبَغْدَاد بعد طُلُوع فجر يَوْم الْأَرْبَعَاء لليلتين خلتا من رَجَب سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَتُوفِّي فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء لليلتين بَقِيَتَا من جُمَادَى الأولى سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَقيل أَربع وَثَمَانِينَ وَقيل وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَدفن فِي مَقْبرَة بَاب الْبُسْتَان رَحمَه الله

ص: 118

19 -

(أَولَئِكَ آبَائِي فَجِئنِي بِمِثْلِهمْ

إِذَا جَمَعتنا يَا جَريرُ المجَامعُ)

الْبَيْت للفرزدق من قصيدة من الطَّوِيل يفتخر بهَا على جرير أَولهَا

(مِنَّا الَّذِي اختيرَ الرِّجالَ سماحَةً

وَخيراً إِذَا هَبَّ الرِّياحُ الزعازع)

(وَمنا الَّذِي أعْطَى الرَّسولُ عَطيَّةً

أُسَارَى تَمِيم والعُيون دَوامُع)

(وَمنا الَّذِي يُعطي المِئينَ وَيشَتْري الغَوالي ويعَلو فضْلهُ مَنْ يُدافِعُ

)

(وَمنا خَطيبٌ لَا يعابُ وحاملٌ

أغَرُّ إِذا التفَّتْ عَلَيْهِ المجامِعُ)

(وَمنا الَّذِي أحْيا الوَئِيدَ وَغالِبٌ

وَعَمْرو وَمنا حاجِبٌ والأقارع)

(وَمنا غَدَاة الروع فتيَان غَارة

إِذا امْتنعت بعد الزّجاج الأشاجع)

(وَمنا الَّذِي قاد الجيَاد على الوجى

لِنَجران حَتَّى صبَّحتُه الترائع) // الطَّوِيل //

وَبعده الْبَيْت وَهِي طَوِيلَة

وَمعنى الْبَيْت التَّعْجِيز لِأَنَّهُ قد تحقق عِنْده أَن لَيْسَ للمخاطب مثل آبَائِهِ

ص: 119

وَالشَّاهِد فِيهِ إِيرَاد الْمسند إِلَيْهِ اسْم إِشَارَة للتعريض بغباوة السَّامع حَتَّى كَأَنَّهُ لَا يدْرك غير المحسوس وَذَلِكَ ظَاهر فِي الْبَيْت

20 -

(هَوَاي مَع الركبِ اليمانينَ مُصعِدْ

)

قَائِله جَعْفَر بن علبة من أَبْيَات من الطَّوِيل قَالَهَا وَهُوَ مسجون وَتَمَامه (جَنيبٌ وَجُثْماني بِمَكة مُوثَقُ

)

والأبيات

(عَجبتُ لِمسراها وأنَّي تخلصتْ

إليَّ وبابُ السجْن بالقُفْل مُغلقُ)

(ألمتْ فحّيتْ ثمَّ ولت فودعتْ

فَلَمَّا تولَّتْ كَادَت النفسُ تَزهقُ)

(فَلا تحسبي أنِّي تخشَّعتُ بَعدكمْ

لِشيء وَلَا أنِّي مِنَ الموتِ أفرقُ)

(وَلا أنّ قلبِي يَزدهيه وَعيدُكمْ

وَلا أنني بِالْمَشْيِ فِي القَيد أخرقُ)

(وَلكنْ عَرَتْني من هواكِ ضمانة

كَمَا كنتُ ألْقى منكِ إِذْ أَنا مُطلق) // الطَّوِيل //

والركب ركبان الْإِبِل اسْم جمع أَو جمع وهم الْعشْرَة فَصَاعِدا وَقد يكون

ص: 120

للخيل وَيجمع على أركب وركوب والأركوب بِالضَّمِّ أَكثر من الركب وَالركبَة محركة أقل ومصعد من أصعد أَي ذهب فِي الأَرْض وَأبْعد وجنيب أَي مجنوب مستتبع والجثمان الْجِسْم والشخص والجسمان جمَاعَة الْبدن والأعضاء من النَّاس وَسَائِر الْأَنْوَاع الْعَظِيمَة الْخلق وَذكر الْخَلِيل أَنَّهُمَا بِمَعْنى وَاحِد والموثق الْمُقَيد

وَالْمعْنَى فِيهِ هواي منضم إِلَى ركبان الْإِبِل القاصدين إِلَى الْيمن لكَون الحبيب مَعَهم وبدني مأسور مُقَيّد بِمَكَّة

وَالشَّاهِد فِيهِ تَعْرِيف الْمسند إِلَيْهِ بإضافته إِلَى شَيْء من المعارف إِذْ هِيَ أخصر طَرِيق إِلَى إِحْضَاره فِي ذهن السَّامع وَهُوَ فِي الْبَيْت قَوْله هواي أَي مهويي وَهُوَ أخصر من قَوْلهم الَّذِي أهواه أَو غير ذَلِك والاختصار مَطْلُوب لضيق الْمقَام وفرط السَّآمَة لكَونه فِي السجْن وحبيبه على الرحيل

وجعفر بن علبة هُوَ ابْن ربيعَة بن عبد يَغُوث بن مُعَاوِيَة بن صَلَاة بن المعقل بن كَعْب بن الْحَرْث بن كَعْب ويكنى أَبَا عَارِم وعارم ابْن لَهُ وَقد ذكره فِي شعره وَهُوَ من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية شَاعِر مقل غزل فَارس مَذْكُور فِي فوارس قومه وَكَانَ أَبوهُ علبة بن ربيعَة شَاعِرًا أَيْضا وَمَات جَعْفَر هَذَا مقتولاً فِي قصاص أختلف فِي سَببه

فَقيل إِن جَعْفَر بن علبة وَعلي بن جعدب الْحَارِثِيّ القناني وَالنضْر بن مضَارب المعاوي خَرجُوا فَأَغَارُوا على بني عقيل وَإِن بني عقيل خَرجُوا فِي طَلَبهمْ وافترقوا عَلَيْهِم فِي الطّرق وَوَضَعُوا عَلَيْهِم الأرصاد فِي المضايق فَكَانُوا كلما

ص: 121

أفلتوا من عصبَة لقيتهم أُخْرَى حَتَّى انْتَهوا إِلَى بِلَاد بني نهد فَرَجَعت عَنْهُم بَنو عقيل وَقد كَانُوا قتلوا فيهم فاستعدت عَلَيْهِم بَنو عقيل السّري بن عبد الله الْهَاشِمِي عَامل مَكَّة لأبي جَعْفَر الْمَنْصُور فَأرْسل إِلَى أَبِيه علبة بن ربيعَة فَأَخذه بهم وحبسه حَتَّى دفعهم وَسَائِر من كَانَ مَعَهم إِلَيْهِ فَأَما النَّضر فاستقيد مِنْهُ بجراحة وَأما عَليّ بن جعدب فَأَفلَت من السجْن وَأما جَعْفَر بن علبة فأقامت عَلَيْهِ بَنو عقيل قسَامَة أَنه قتل صَاحبهمْ فَقتل بِهِ

وَذكر ابْن الْكَلْبِيّ أَن الَّذِي أثار الْحَرْب بَين جَعْفَر بن علبة وَبني عقيل أَن إِيَاس بن يزِيد الْحَارِثِيّ وَإِسْمَاعِيل بن أَحْمد الْعقيلِيّ اجْتمعَا عِنْد أمة لشعيب ابْن صَامت الْحَارِثِيّ وَهِي فِي إبل لمولاها فِي مَوضِع يُقَال لَهُ صمعر من بِلَاد بلحرث فتحدثا عِنْدهَا فمالت إِلَى الْعقيلِيّ فدخلتهما مؤاسفة حَتَّى تخانقا بالعمائم فَانْقَطَعت عِمَامَة الْحَارِثِيّ وخنقته الْعقيلِيّ حَتَّى صرعه ثمَّ تفَرقا وَجَاء العقيليون إِلَى الحارثيين فحكموهم فوهبوا لَهُم ثمَّ بَلغهُمْ بَيت قيل وَهُوَ

(ألم تَسألِ العبدَ الزِّيادي مَا رَأَى

بِصَمْعَرَ والعبدُ الزيَادي قَائِم) // الطَّوِيل //

فَغَضب إِيَاس من ذَلِك فلقي هُوَ وَابْن عَمه النَّضر بن مضَارب ذَلِك الْعقيلِيّ وَهُوَ إِسْمَاعِيل بن أَحْمد فَشَجَّهُ شجتين وخنقه فَصَارَ الحارثيون إِلَى العقيليين فحكموهم فوهبوا لَهُم ثمَّ لقى العقيليون جَعْفَر بن علبة الْحَارِثِيّ فَأَخَذُوهُ فضربوه وخنقوه وربطوه وقادوه طَويلا ثمَّ أَطْلقُوهُ فَبلغ ذَلِك إِيَاس بن زيد فَقَالَ يتوجع لجَعْفَر

ص: 122

(أَبَا عارِم كَيفَ اغتْررتَ وَلم تكن

تَغَرُّ إِذا مَا كَانَ أمرٌ تحاذره)

(فَلا صُلْحَ حَتَّى يخفِقَ السَّيفُ خفقةً

بكفِّ فَتى جرَّت عَلَيْهِ جرائره) // الطَّوِيل //

ثمَّ إِن جَعْفَر بن علبة تَبِعَهُمْ هُوَ وَابْن أَخِيه جعدب وَالنضْر بن مضَارب وَإيَاس بن يزِيد فَلَقوا الْمهْدي بن عَاصِم وَكَعب بن مُحَمَّد بخبرة وَهُوَ مَوضِع بالقاعة فضربوهما ضربا مبرحاً ثمَّ انصرفوا فضلوا عَن الطَّرِيق فوجدوا العقيليين وهم تِسْعَة نفر فَاقْتَتلُوا قتالاً شَدِيدا فَقتل جَعْفَر بن علبة رجلا من عقيل يُقَال لَهُ خشينة فاستعدى العقيليون إِبْرَاهِيم بن هِشَام المَخْزُومِي عَامل مَكَّة فرع الحارثيين وهم أَرْبَعَة من نَجْرَان حَتَّى حَبسهم بِمَكَّة ثمَّ أفلت مِنْهُم رجل فَخرج هَارِبا فأحضرت عقيل قسَامَة حلفوا أَن جعفراً قتل صَاحبهمْ فأقاده إِبْرَاهِيم بن هِشَام وَقَالَ إِيَاس وَهُوَ مَحْبُوس الأبيات السَّابِقَة وَقَالَ لِأَخِيهِ يحرضه

(قلْ لأبِي عَوْنٍ إِذا مَا لقيتهُ

ومِن دونه عَرْضُ الفلاةِ يحولُ)

(تَعلَّم وَعَدَّ الشكَّ أنِّي تشفُّني

ثلاثةُ أحراسٍ مَعًا وكُبولُ)

(إِذا رُمتُ مشياً أَو تَبوأتُ مضجعاً

تَبيتُ لَهَا فوقَ الكعاب صَليلُ)

(وَلَوْ بِكَ كَانَت لَا بتعثت مطيتي

يَعودُ الحفا أخفْافهَا ويجوُلُ)

(إِلى العدلِ حَتى يَصدُر الأَمر مَصدرا

وتَبرأ مِنكمْ قالةٌ وعُدولُ) // الطَّوِيل //

وَفِي رِوَايَة أَن جَعْفَر بن علبة كَانَ يزور نسَاء من عقيل بن كَعْب وَكَانُوا

ص: 123

متجاورين هم وَبَنُو الْحَرْث بن كَعْب فَأَخَذته عقيل فكشفوا دبر قَمِيصه وربطوه إِلَى جمته وضربوه بالسياط وكتفوه ثمَّ أَقبلُوا بِهِ وأدبروا على النسْوَة اللَّاتِي كَانَ يتحدث إلَيْهِنَّ على تِلْكَ السَّبِيل ليفظوهن ويفضحوه عِنْدهن فَقَالَ لَهُم يَا قوم لَا تَفعلُوا فَإِن هَذَا الْفِعْل مثلَة وَأَنا أَحْلف لكم بِمَا يثلج صدوركم أَن لَا أَزور بُيُوتكُمْ أبدا وَلَا ألجها فَلم يقبلُوا مِنْهُ فَقَالَ لَهُم فَإِن لم تَفعلُوا ذَلِك فحسبكم مَا قد مضى ومنوا على بالكف عني فَانِي أعده نعْمَة لكم ويداً لَا أكفرها أبدا أَو فاقتلوني وأريحوني فَأَكُون رجلا آذَى قومه فِي دَارهم فَقَتَلُوهُ فَلم يَفْعَلُوا وَجعلُوا يكشفون عَوْرَته بَين أَيدي النِّسَاء ويضربونه ويغرون بِهِ سفهاءهم حَتَّى شفوا أنفسهم مِنْهُ ثمَّ خلوا سَبيله فَلم تمض إِلَّا أَيَّام قَلَائِل حَتَّى عَاد جَعْفَر وَمَعَهُ صاحبان لَهُ فَدفع رَاحِلَته حَتَّى أولجها الْبيُوت ثمَّ مضى فَلَمَّا كَانَ فِي نقرة من الرمل أَنَاخَ هُوَ وصاحباه وَكَانَت عقيل أقفى خلق الله للأثر فتبعوه حَتَّى انْتَهوا إِلَيْهِ وَإِلَى صَاحِبيهِ وَكَانَ العقيليون مغترين لَيْسَ مَعَ أحد مِنْهُم عَصا وَلَا سلَاح فَوَثَبَ عَلَيْهِم جَعْفَر وصاحباه بِالسُّيُوفِ فَقتلُوا مِنْهُم رجلا وجرحوا آخر وافترقوا فاستعدت عَلَيْهِم عقيل السّري بن عبد الله الْهَاشِمِي عَامل الْمَنْصُور على مَكَّة فأحضرهم وحبسهم وأقاد من الْجَارِح ودافع عَن جَعْفَر بن علبة وَكَانَ يحب أَن يدْرَأ عَنهُ الْحَد لخؤلة السفاح فِي بني الْحَرْث وَلِأَن أُخْت جَعْفَر كَانَت تَحت السّري بن عبد الله وَكَانَت حظية عِنْده إِلَى أَن أَقَامُوا عِنْده قسَامَة أَنه قتل صَاحبهمْ وتوعدوه بِالْخرُوجِ إِلَى أبي جَعْفَر الْمَنْصُور والتظلم إِلَيْهِ فَحِينَئِذٍ دَعَا بِجَعْفَر فأقاد مِنْهُ وأفلت عَليّ بن جعدب من السجْن فهرب فَلَمَّا أخرج جَعْفَر للقود قَالَ

ص: 124

لَهُ غُلَام من قومه أسقيك شربة من مَاء بَارِد فَقَالَ اسْكُتْ لَا أم لَك إِنِّي إِذا لمهياف وَانْقطع شسع نَعله فَوقف فأصلحه فَقَالَ لَهُ رجل أما يشغلك عَن هَذَا مَا أَنْت فِيهِ فَقَالَ

(أشدُّ قَبالَ نَعلي أَن يراني

عَدُوي للحوادث مستكينا) // الوافر //

وَكَانَ الَّذِي ضرب عنق جَعْفَر بن علبة نخبة بن كُلَيْب أَخُو الْمَجْنُون وَهُوَ أحد بني عَامر بن عقيل فَقَالَ فِي ذَلِك

(شَفي النفسَ مَا قَالَ ابنُ عُلبةَ جعفرٌ

وقَوْلي لَهُ اصبر ليسَ يَنفعكَ الصَّبْر)

(هَوى رأسهُ من حيثُ كَانَ كَمَا هَوى

عُقابٌ تَدلَّى طَالبا خانهُ الوكرُ)

(أبَا عَارم فينَا عُرامٌ وشِدّةٌ

وبَسْطةُ أيمانِ سَواعدها شُعُْر)

(هُمُو ضَربوا بِالسَّيْفِ هَامَةَ جَعفرٍ

وَلم يُنْجهِ برٌّ عَريضَ وَلَا بَحرْ)

(وقدناه قَود الْبِكر قَسراً وَعنوةً

إِلَى الْقبر حَتَّى ضمّ أثوابه الْقَبْر) // الطَّوِيل //

وَقَالَ علبة يرثي ابْنه جعفرا

(لَممركَ إِنِّي يَومَ أسلمتُ جَعفراً

وَأصحابه لِلموت لمَّا أقاتِل)

(لمجتنبٌ حُبّ المَّنايا وَإنِما

يَهيجُ الْمنايا كلُّ حقٍّ وَباطل)

(فَراحَ بهمْ قَومٌ وَلا قَومَ عِندهمْ

مُغللة أيديهمُ فِي السُّلَاسل)

(وَربٍّ أخٍ لي غابَ لَو كانَ شَاهدا

رآهُ التّباليونَ لي غير خاذل) // الطَّوِيل //

وَقَالَ علية أَيْضا لامْرَأَته أم جَعْفَر قبل أَن يقتل جَعْفَر

(لَعمركِ إنَّ الَّليلَ يَا أمَّ جَعفرٍ

عليَّ وَإِنْ عَللتنِي لَطويلُ)

ص: 125

(أحاذرُ أخْباراً مِنَ الْقَوْم قَدْ دَنتْ

ورَجعةً أنْقاض لهنَّ دَلِيل) // الطَّوِيل //

فأجابته امْرَأَته فَقَالَت

(أَبا جَعفرٍ سَلَّمتَ لِلقومِ جعفراً

فَمُتْ كمداً أَوْ عِشْ وأنْتَ ذليلٌ)

وَذكر شَدَّاد بن إِبْرَاهِيم أَن بِنْتا ليحيى بن زِيَاد الْحَارِثِيّ حضرت الْمَوْسِم فِي ذَلِك الْعَام لما قتل فكفنته واستجادت لَهُ الْكَفَن وبكته وَجَمِيع من كَانَ مَعهَا من جواريها وجعلن يندبنه بأبياته الَّتِي قَالَهَا قبل قَتله وَهِي

(أَحقّاً عبادَ الله أَنْ لَستُ رائياً

صحارى والرياح بِنَجْد َالذوارِيا)

(وَلَا زَائِراً شم العرانينِ أنتْمى

إِلَى عامرٍ يَحلْلنَ رَملاً معاليا)

(إِذا مَا أتيتَ الحارثيات فانعني

لَهُنّ وَخبرّهُنّ أَن تَلاقِيا)

(وَقوُّد قُلوصِي بَينهُنَّ فَإِنَّهَا

ستُبرد أكباداً وَتُبكي بَواكِيا)

(أوصيكم إِن مُتُّ يَوْمًا بِعارم

لَيُغني شيَئاً أَو يكون مكانيا)

(وَلم أتَّرِكْ لي رِيبَة غيرَ أنني

ودِدتُ مُعَاذاً كَانَ فِيمَن أتانيا) // الطَّوِيل //

أَرَادَ وددت أَن معَاذًا كَانَ أَتَانِي مَعَهم فَقتلته

فَقَالَ معَاذ يجِيبه عَنْهَا بعد قَتله ويخاطب أَبَاهُ ويعرض لَهُ أَنه قتل ظلما لأَنهم أَقَامُوا قسَامَة كَاذِبَة عَلَيْهِ حَتَّى قتل وَلم يَكُونُوا عرفُوا الْقَاتِل من الثَّلَاثَة بِعَيْنِه إِلَّا أَن غيظهم على جَعْفَر حملهمْ على أَن ادعوا الْقَتْل عَلَيْهِ

(أَبا جعفرٍ سَلَّم بِنَجرانَ واحتَسب

أَبَا عَارِم والمسنَماتِ العواليا)

ص: 126

(وقود قَلُوصاً أتلف السيفُ رَبهَا

بِغير دم فِي القَوم إِلَّا تماربا)

(إِذا ذَكرتْهُ مُعصرٌ حارثية

جَرى دَمعُ عينيها على الخدِّ صافيا)

(فَلَا تَحْسبن الدَّين يَا عُلْبَ مُنسأ

وَلَا الثَّائَرَ الحران يَنْسي التقاضِيا)

(سَنقتلُ مِنْكُم بالقَتيل ثَلَاثَة

ونُغلي وَإِن كَانَت دمانا غَواليا)

(تَمَّنيتَ أَن تَلْقي مُعاذاً سَفاهة

سَتلقى مُعاذاً والقضيبَ اليمانيا) // الطَّوِيل //

وَعَن أبي عُبَيْدَة قَالَ لما قتل جَعْفَر بن علبة قَامَ نسَاء الْحَيّ يبْكين عَلَيْهِ وَقَامَ أَبوهُ إِلَى كل نَاقَة وشَاة فَنحر أَوْلَادهَا وَأَلْقَاهَا بَين أيديها وَقَالَ ابكين مَعنا على جَعْفَر فَمَا زَالَت النوق ترغو والشياه تثغو وَالنِّسَاء يصحن ويبكين وَهُوَ يبكي مَعَهُنَّ فَمَا رُؤِيَ يَوْم أوجع وأحرق مأتماً فِي الْعَرَب من يَوْمئِذٍ

21 -

(لَهُ حاجبٌ عَنْ كل أمرٍ يَشينهُ

وَليسَ لهُ عَنْ طالبِ العُرفِ حاجبُ)

الْبَيْت لِابْنِ أبي السمط من أَبْيَات من الطَّوِيل مِنْهَا

(فَتىً لَا يُبالي المدْلجونَ بنورِه

إِلَى بابِهِ أَن لَا تُضيءَ الكواكبُ)

(يصمّ عَن الْفَحْشَاء حَتَّى كَأَنَّهُ

إِذا ذُكِرَتْ فِي مَجلِس الْقَوْم غَائِب) // الطَّوِيل //

وَالشَّاهِد فِيهِ تنكير الْحَاجِب الأول للتعظيم وَالثَّانِي للتحقير أَي لَيْسَ لَهُ حَاجِب حقير فَكيف بالعظيم وَمثله قَول الشَّاعِر

(وَللَّه مِني جانبٌ لَا أضيعُهُ

وللَّهوِ مني والخلاعة جاجب) // الطَّوِيل //

وَابْن أبي السمط

ص: 127

22 -

(الأَلمعيُّ الَّذِي يَظنُّ بك الظنَّ كأنْ قد رأى وَقد سمِعَا

)

الْبَيْت لأوس بن حجر من قصيدة من المنسرح قَالَهَا فِي فضَالة بن كلدة يمدحه بهَا فِي حَيَاته ويرثيه بعد وَفَاته أَولهَا

(أيَّتها النَّفسُ أجْملِي جَزعا

إِنَّ الَّذِي تحذرينَ قَدْ وَقعا)

(إِنَّ الَّذِي جَمَّع السَّماحةَ والنَّجدةَ وَالبرَّ وَالتُّقى جُمَعا

) // المنسرح //

وَبعد الْبَيْت وَبعده

(المُخلفَ المُتلفَ المُرزَّأ لمْ

يَمنعُ بِضعفٍ وَلم يَمتْ طَبعا)

(والحافظَ النَّاسَ فِي تحوطَ إِذا

لمْ يُرسلوا تحتَ عَائِذ رُبعا)

(وَعزتِ الشمألُ الرِّياحَ وقدْ

أَمْسَى كميع الْقَنَاة فلتفا) // المنسرح //

الألمعي واليلمعي الذكي المتوقد ذكاء وَسُئِلَ الْأَصْمَعِي عَن معنى الألمعي فَأَنْشد

ص: 128

الْبَيْت وَلم يزدْ عَلَيْهِ وَهُوَ إِمَّا مَرْفُوع خبر إِن أَو مَنْصُوب صفة لاسمها أَو بِتَقْدِير أَعنِي وخبرها فِي قَوْله بعد أَبْيَات

(أوْدَى فَمَا تَنفعُ الإِشاحةُ مِنْ

أَمْرٍ لمنْ قَدْ يُحاولُ البِدَعا)

وَالشَّاهِد فِيهِ كَون جملَة قَوْله الَّذِي يظنّ بك الظَّن وَصفا كاشفاً عَن معنى الألمعي لَا كَونه وَصفا للمسند إِلَيْهِ

وَبَيت أَوْس هَذَا تداول مَعْنَاهُ الشُّعَرَاء قَالَ أَبُو تَمام

(ولذاك قيل مِنَ الظنونِ جِبلةً

عِلْمٌ وَفِي بعض القلوبِ عُيُون) // الْكَامِل //

وَقَالَ المتنبي

(مَاضي الجَنَانِ يُريهِ الحزمُ قبل غدٍ

بِقلبهِ مَا ترى عَيناهُ بعد غدِ) // الْبَسِيط //

وَقَالَ أَيْضا

(ذكيٌّ تظنِّيهِ طليعةُ عينهِ

يَرى قَلبهُ فِي يومهِ مَا يرى غَدا) // الطَّوِيل //

وَقَالَ أَيْضا

(وَيعرفُ الأمرَ قَبلَ موقعهِ

فمالهُ بعْد فغله نَدم) // المنسرح // وَقَالَ أَيْضا

(مُستنبطٌ من علمه مَا فِي غَد

فكأنَّ مَا سيكونُ فِيهِ دونا) // الْكَامِل //

وَهَذَا الْمَعْنى يقرب مِنْهُ قَول أبي نواس

(مَا تنطوي عَنهُ القلوبُ بنجوةٍ

إِلَاّ تُحدِّثهُ بِهِ العينانِ) // الْكَامِل //

(وَقَول عَليّ بن الْخَلِيل

(كَلَّمني لحظُكَ عَن كلِّ مَا

أضمرهُ قلبُكَ من غدِر) // السَّرِيع //

وَقَول الخليع

ص: 129

(أما تقرأُ فِي عينيَّ عُنوانَ الَّذِي عِنْدِي

) // الهزج //

وَقد سبق إِلَيْهِ المتقدمون قَالَ الثَّقَفِيّ

(تُخَبِّرُني العينانِ مَا القلبُ كاتمٌ

وَلَا حُبَّ بالبغضاءِ وَالنَّظَر الشزر) // الطَّوِيل //

وَقَالَ يزِيد بن الحكم الثَّقَفِيّ

(تُكاشِرُني كرْهاً كَأَنَّك نَاصح

وعينكَ تُبدي أنَّ قلبكَ لي دوِي) // الطَّوِيل //

وَمَا أحسن قَوْله بعده

(عَدُوِّيَ يَخشى صَولتي إِن لقيتهُ

وأنتَ عَدُوِّي لَيْسَ هَذَا بُمستوي)

(تُصافحُ مَنْ لاقَيتَه ذَا عَدَاوَة

صفاحا وعني بينَ عَيْنَيْك مُنْزَوِي)

وَقَالَ المتنبي فِي مَعْنَاهُ

(تُخفِي العداوةَ وَهِي غيرُ خفيةٍ

نَظرُ العدوُّ بِمَا أسرّ يبوح) // الْكَامِل //

وَقَالَ غَيره

(عَيناكَ قد دلَّتا عينيَّ مِنْك على

أَشْيَاء لَوْلَا هما مَا كنتُ أدُّرِيها)

(والعينُ تعلمُ من عَيْنَيْ محدِّثِها

إِن كَانَ من حِزْبِها أَو من أعاديها) // الْبَسِيط //

ولمؤلفه من أَبْيَات

(ويُظهُر وُداً تشهدُ العينُ زُوَرهُ

وَيَقْضِي بِذَاكَ القلبُ وَالْقلب اخبر) // الطَّوِيل //

وَله فِي مَعْنَاهُ

(من كَانَ فِي لُقياهُ لَا يتودَّدُ

فَأَنا الَّذِي فِي وُدِّهِ أَتَردّدُ)

(فالقلْبُ عَما قد أجنَّ ضَميرُهُ

لصديقهِ عِندَ التلاقي يُرشدُ)

(وإِذا خَفِي حالٌ وأشكل أمرُه

فالعينُ تُخبر بالخفي وَتشهد) // الْكَامِل //

ص: 130

وَمَا أحسن قَول أبي نصر بن نَبَاته

(أَلا إنّ عينَ الْمَرْء عُنوانُ قلبهِ

تُخِّبرُ عَن أسرارِه شَاءَ أمْ أبىَ) // الطَّوِيل //

وبديع قَول عمَارَة بن عقيل

(تُبدي لَك العينُ مَا فِي نَفسِ صَاحبهَا

مِن الشَّناءةِ والْوُدّ الذَّي كَانَا)

(إنَّ البغيضَ لهُ عينٌ يَصُدُّ بهَا

لَا يستطيعُ لِما فِي القلبِ كِتْمَانا)

(وعينُ ذِي الوُدِّ لَا تنفكُّ مقبلةً

تَرى لَهَا محجراً بَشّاً وإِنسانا)

(وَالعينُ تنطقُ والأفواهُ صامتةٌ

حَتَّى ترى من ضمير الْقلب تِبيانا) // الْبَسِيط //

وَقَول الآخر

(تُريكَ أعينُهُم مَا فِي صُدُورهمْ

إِن الصُّدور يُؤَدِّي غَيبَها الْبَصَر) // الْبَسِيط //

وَقَول الْمُعْتَمد بن عباد صَاحب الأندلس

(تَمَيَّزُ البغضَ فِي الألفاظِ إِن نطقوا

وتعرفُ الحقدَّ فِي الألحاظِ إِن نظرُوا) // الْبَسِيط //

وَقَول الآخر

(ستُبدي لَك العينان فِي اللحظ مَا الَّذِي

يُجنُّ ضميرُ المرءِ والعينُ تَصدُقُ) // الطَّوِيل //

وَقَول مُحَمَّد بن أيدمر صَاحب كتاب الدّرّ الفريد

(صديقُك مِن عَدوك لَيْسَ يخفي

وعنوانُ الدعاوَى فِي الْعُيُون)

(تُخبرُك العيونُ بِمَا أجَنَّتُ

ضمائرها من السِّرّ المصون) // الوافر //

وَقَول مُحَمَّد بن شبْل من قصيدة

(فالعينُ تقْرَأ من لِحاظِ جليسها

مَا خُطَّ مِنه فِي ضمير الخاطرِ)

(وَلكم قُطوبٍ عَن وِدادِ خالصٍ

وتبسمٍ عَن غل صدرٍ واغرِ) // الْكَامِل //

ص: 131

وَمَا أحسن قَوْله فِيهَا

(مَا إِن أريدُ بصدقِ قولي شَاهدا

حسبي بِسرِّك عَالما بسرائرِي)

(وَإِذا تعارفَت القلوبُ تألفت

ويصُدّ مِنْهَا نافرٌ عَن نافِرِ)

(فَتَوَقّ منْ يأباه قلبْك إنَّهُ

سيَبْينُ باطنُه بأمرٍ ظاهرِ)

وَقَول الْعَيْنِيّ

(كَأَنَّك مُطَّلعٌ فِي القلوبِ

إِذا مَا تناجتْ بأسرارِها)

(فكرَّاتُ طرْفِكَ مُرْتَدَةٌ

إِلَيْك بغامض أَخْبَارهَا) // المتقارب //

وَمثله قَول المتنبي

(كَأنك ناظرٌ فِي كل قلبٍ

فَمَا يخفى عَلَيْك محلُّ غاش) // الوافر //

وَقد قَالَ مُضرس بن ربعي فِي عكس ذَلِك

(كَأن على ذِي الظَّن عينا بَصِيرَة

بمنطقهِ أَو منظرٍ هُوَ ناظرُه)

(يحاذِر حَتَّى يحسَبَ الناسَ كلهُمْ

من الخوفِ لَا تخفى عَلَيْهِم سرائره) // الطَّوِيل //

وبديع قَول المتنبي فِي معنى مَا سبق

(ووكل الظنَّ بالأسرارِ فَانْكَشَفَتْ

لَهُ ضمائر أهل السهلِ والجبلِ) // الْبَسِيط //

وَهَذَا الْمَعْنى هُوَ الأول وَإِنَّمَا فرق بَينهمَا أَن ذَلِك فِي العواقب وَهَذَا فِي الْأَسْرَار والضمائر وَالْمرَاد مِنْهُمَا صِحَة الحدس وجودة الظَّن

وبديع قَول الآخر فِي مَعْنَاهُ

(كَأَنَّمَا رأيهُ فِي كل مُشْكلة

عينٌ على كل مَا يخفى ويستتر) // الْبَسِيط //

وَأَوْس بن حجرٍ هَذَا هُوَ ابْن مَالك بن حزن بن عقيل بن خلف بن نمير

ص: 132

يَنْتَهِي نسبه لتميم بن مرّة مَعَ اخْتِلَاف فِيهِ وَكَانَ من شعراء الْجَاهِلِيَّة وفحولها وَعَن أبي عَمْرو قَالَ كَانَ أَوْس بن حجر شَاعِر مُضر حَتَّى أسْقطه النَّابِغَة وَزُهَيْر فَهُوَ شَاعِر بني تَمِيم فِي الْجَاهِلِيَّة غير مدافع وَقَالَ الْأَصْمَعِي أَوْس أشعر من زُهَيْر وَلَكِن النَّابِغَة طاطأ مِنْهُ قَالَ أَوْس

(ترى الأرضَ مِنَّا بالفضاءِ مَرِيضَة

مُعَضِّلةً مِنَّا بجميعِ عَرَمْرَمِ) // الطَّوِيل // وَقَالَ النَّابِغَة

(جيشٌ يَظَلُّ بِهِ الفضاءُ مُعضّلاً

يَدَعُ الإكامَ كأنهنّ صحارِي) // الْكَامِل //

فجَاء بِمَعْنَاهُ وَزَاد وَقَالَت الشُّعَرَاء فِي نفار النَّاقة وفزعها فَأَكْثَرت وَلم تعد ذكر الهر المقرون بهَا وَابْن آوى وَقَالَ أَوْس

(كأنَّ هرّاً جنيباً عِنْد غُرْضَتِها

والتفَّ ديكٌ برجليها وخِنْزيرُ) // الطَّوِيل //

قَالُوا وَجمع ثَلَاثَة أَلْفَاظ أَعْجَمِيَّة فِي بَيت وَاحِد فَقَالَ

(وفارَقَت وهْيَ لم تَجْرَب وَبَاعَ لَهَا

من الفَصَافِص بالنُّمِّيِّ سِفْسِيرُ)

الفصافص الرّطبَة وَهِي بِالْفَارِسِيَّةِ أسبست والنمي الْفُلُوس بالرومية والسفسير السمسار

وَعَن أبي عُبَيْدَة قَالَ كَانَ أَوْس بن حجر غزلاً مغرماً بِالنسَاء فَخرج فِي سفر

ص: 133

حَتَّى إِذا كَانَ بِأَرْض بني أَسد بَين شرج وناظرة فَبينا هُوَ يسير ظلاماً إِذْ جالت بِهِ نَاقَته فصرعته فاندقت فَخذه فَبَاتَ مَكَانَهُ حَتَّى إِذا أصبح غَدَتْ جواري الْحَيّ يجتنين الكمأة وَغَيرهَا من نَبَات الأَرْض وَالنَّاس فِي ربيع فَبَيْنَمَا هن كَذَلِك إِذْ أبصرن نَاقَته تجول وَقد علق زمامها بشجرة وأبصرنه ملقى ففزعن مِنْهُ وهربن فَدَعَا بِجَارِيَة مِنْهُنَّ فَقَالَ لَهَا من أَنْت قَالَت أَنا حليمة بنت فضَالة بن كلدة وَكَانَت أصغرهن فَأَعْطَاهَا حجرا وَقَالَ لَهَا اذهبي إِلَى أَبِيك فَقولِي إِن ابْن هَذَا يُقْرِئك السَّلَام فَأَتَتْهُ فَأَخْبَرته فَقَالَ يَا بنية لقد أتيت أَبَاك بمدح طَوِيل أَو هجاء طَوِيل ثمَّ احْتمل هُوَ وَأَهله حَتَّى بني عَلَيْهِ بَيْتا حَيْثُ صرع وَقَالَ لَا أتحول أبدا حَتَّى تَبرأ وَكَانَت حليمة تقوم عَلَيْهِ حَتَّى اسْتَقل فَقَالَ أَوْس فِي ذَلِك

(خذلتَ عَليّ لَيْلَة ساهرة

بصحراء شَرْج إِلَى نَاظرَهْ)

(تُزَادُ لياليَّ مِنْ طولهَا

فليستْ بِطَلقٍ وَلَا شاكرهْ)

(أنُوءُ بِرجلٍ بهَا وهيْهُا

وأعْيتْ بِها أخْتها العاثره) // المتقارب //

وَقَالَ فِي حليمة

(لَعمْرُك مَا ملَّتْ ثواء ثويها

حليمة إِذْ أَلْقَت فِرَاشِي ومقعدي)

(ولكنْ تلقتْ باليدينِ ضمانتي

ومل بشرج مالقبائل عودي)

(وَلَو تُلهها تِلْكَ التكاليفُ إنَّها

كَمَا شِئتَ من أكرومةٍ وتخرد)

(سأجزيك أَو يجْزِيك عني مثوّب

وقصرك أَن يثني عَلَيْك وتحمدي) // الطَّوِيل //

ثمَّ مَاتَ فضَالة بن كلدة وَكَانَ يكنى أَبَا دليجة فَقَالَ فِيهِ أَوْس يرثيه

(يَا عينُ لَا بدَّ منْ سكبٍ وتَهمال

على فضالةَ جَلَ الرُّزءُ والعالي) // الْبَسِيط //

ص: 134

وَهِي طَوِيلَة وَله فِيهِ عدَّة قصائد وَمِمَّا يستجاد من شعره قَوْله

(وإنّي رأيتُ الناسَ إِلَّا أقلهمْ

خفافَ العهود يُكثرون التنقلا)

(بَني أمِّ ذِي المالِ الْكثير يَرونهُ

وَإِن كانَ عَبداً سَيدَ الْأَمر جحفلا)

(وهم لِمُقلّ المالِ أوْلادُ عَلَّةِ

وَإِن كَانَ مَحْضاً فِي العمومةِ مُخْوِلا)

(وَلَيْسَ أَخُوك الدَّائِم الْعَهْد بِالَّذِي

يَسوءك إِن ولّى ويرضيك مُقبلا)

(وَلَكِن أخوكَ النَّاِء مَا كنتَ آمِناً

وصاحبُكَ الْأَدْنَى إِذا الْأَمر أعضلا) // الطَّوِيل //

ويستجاد لَهُ من هَذِه القصيدة قَوْله فِي السَّيْف

(كَأَن مَدَبَّ النَمل تَتَّبعُ الرُّبا

ومَدْرَجَ ذَرٍّ خَافَ بَرْداً فأسْبَلا)

23 -

(والَّذِي حَارَتِ البريةُ فِيه

حَيَوانٌ مُسْتَحدَثٌ من جَمَادِ)

الْبَيْت لأبي الْعَلَاء المعري من قصيدة من الْخَفِيف يرثي بهَا فَقِيها حنفياً أَولهَا

(غَيرُ مُجْدٍ فِي ملَّتي واعتقادي

نَوحُ باكٍ وَلا ترنُّم شادي)

(وشبيهٌ صَوْتُ النَّعيُّ إِذا قيسَ بصوتِ البشير فِي كل نَادِي

)

(أبكَتْ تلكمُ الْحَمَامَة أم غَنَّتْ عَلى فرع غُصنُها الميَّاد

)

(صاحِ هدى قُبورُنا تملأُ الرُّحبَ فَأَيْنَ القُبورُ من عهَد عَاد

)

(خَفِّفِ الْوَطْء مَا أَظن أَدِيم الأَرْض

إِلَّا من هَذِه الأجْساد)

(وقَبيحٌ بِنَا وَإِن قَدُم العَهْدُ هَوانُ الآباءِ والأجداد)

(سِرْ إنِ اسْطَعْتَ فِي الْهَوَاء رُوَيداً

لَا اخْتيالاً على رفات الْعباد)

(رُبَّ لحدٍ قد صارَ لحداً مرَارًا

ضاحِكٍ من تَزاحُم الأضداد)

(وَدفينٍ عَليّ بقايا دفينٍ

فِي طَوِيل الْأَزْمَان والآباد)

(فاسألِ الفَرقدين عَمَّن أحسَّا

من قَبيلٍ وآنسا من بِلَاد)

ص: 135

(كم أَقَامَا على زَوالِ نَهارٍ

وَأنارَا لِمُدلج فِي سَواد)

(تَعبٌ كلُّها الحَياةُ وَمَا أعْجبُ إِلَاّ مِنْ رَاغبٍ فِي ازْدياد

)

(إنَّ حُزناً فِي ساعةِ الْمَوْت أَضْعَاف

سُرورٍ فِي ساعةِ المِيلاد)

(خُلقَ النَّاسُ لِلبقاء فَضلَّتْ

أمُةٌ يَحسبونهمْ لِلنفاد)

(إِنَّمَا ينقلون من دَار أَعمال

إِلَى دَار شقوة أَو رشاد) // الْخَفِيف //

وَهِي طَوِيلَة وَمِنْهَا

(بانَ أمْر الإِلهِ وَاخْتلف النَّاس

فَدَاعِ إِلَى ضَلَالٍ وَهادِي)

وَبعده الْبَيْت وَبعده

(فاللَّبيبُ اللَّبيبُ مَنْ لَيسَ يَغترُّ

بِكونٍ مَصيرهُ لِلفسادِ)

يَقُول تحيرت الْبَريَّة فِي الْمعَاد الجسماني والنشور الَّذِي لَيْسَ بنفساني وَفِي أَن أبدان الْأَمْوَات كَيفَ تحيا من الرفات وَبَعْضهمْ يَقُول بِهِ وَبَعْضهمْ يُنكره وَبِهَذَا تبين أَن المُرَاد بِالْحَيَوَانِ المستحدث من الجماد لَيْسَ آدم عليه السلام وَلَا نَاقَة صَالح وَلَا ثعبان مُوسَى عليهما السلام إِذْ لَا يُنَاسب السِّيَاق وَقَالَ الإِمَام أَبُو مُحَمَّد بن السَّيِّد البطليوسي حِين شرح سقط الزند فِي هَذَا الْبَيْت يُرِيد أَن الْجِسْم مواتٌ بطبعه وَإِنَّمَا يصير حساساً متحركاً باتصال النَّفس بِهِ فَإِذا فارقته عِنْد الْمَوْت عَاد إِلَى طبعه فالحياة للنَّفس جوهرية وللجسم عرضية فَلذَلِك يعْدم الْجِسْم الْحَيَاة إِذا فارقته النَّفس وَلَا تعدمها النَّفس

وَالشَّاهِد فِيهِ تَقْدِيم الْمسند إِلَيْهِ على الْمسند لتمكن الْخَبَر فِي ذهن السَّامع لِأَن فِي المبتدإ تشويقاً إِلَيْهِ

وَأَبُو الْعَلَاء هُوَ أَحْمد بن عبد الله بن سُلَيْمَان المعري التنوخي من أهل

ص: 136

معرة النُّعْمَان الْعَالم الْمَشْهُور صَاحب التصانيف الْمَشْهُورَة ولد يَوْم الْجُمُعَة عِنْد مغيب الشَّمْس لثلاث بَقينَ من شهر ربيع الأول سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وثلثمائة بالمعرة وجدر فِي السّنة الثَّالِثَة من عمره فَعميَ مِنْهُ وَكَانَ يَقُول لَا أعرف من الألوان إِلَّا الْأَحْمَر لِأَنِّي ألبست فِي الجدري ثوبا مصبوغاً بالعصفر لَا أَعقل غير ذَلِك

وَعَن ابْن غَرِيب الأيادي أَنه دخل مَعَ عَمه على أبي الْعَلَاء يزوره فَوَجَدَهُ قَاعِدا على سجادة لبد وَهُوَ شيخ فانٍ قَالَ فَدَعَا لي وَمسح على رَأْسِي قَالَ وَكَأَنِّي أنظر إِلَيْهِ السَّاعَة وَإِلَى عَيْنَيْهِ إِحْدَاهمَا نادرة وَالْأُخْرَى غائرة جدا وَهُوَ مجدور الْوَجْه نحيف الْجِسْم

وَعَن المصِّيصِي الشَّاعِر قَالَ لقِيت بمعرة النُّعْمَان عجبا من الْعجب رَأَيْت أعمى شَاعِرًا ظريفاً يلْعَب بالشطرنج والنرد وَيدخل فِي كل فن من الْهزْل وَالْجد يكنى أَبَا الْعَلَاء وسمعته يَقُول أَنا أَحْمد الله على الْعَمى كَمَا يحمده غَيْرِي على الْبَصَر

وَهُوَ من بَيت علم وَفضل ورياسة لَهُ جمَاعَة من أَقَاربه قُضَاة وعلماء وشعراء قَالَ الشّعْر وَهُوَ ابْن إِحْدَى عشرَة سنة أَو اثْنَتَيْ عشرَة سنة ورحل إِلَى بَغْدَاد ثمَّ رَجَعَ إِلَى المعرة وَكَانَ رحيله إِلَيْهَا سنة ثَمَان وَتِسْعين وثلثمائة وَأقَام بهَا سنة وَسَبْعَة أشهر وَدخل على المرتضى أبي الْقَاسِم فعثر برجلٍ فَقَالَ من هَذَا الْكَلْب فَقَالَ أَبُو الْعَلَاء الْكَلْب من لَا يعرف للكلب سبعين اسْما وسَمعه المرتضى وَأَدْنَاهُ واختبره فَوَجَدَهُ عَالما مشبعاً بالفطنة والذكاء فَأقبل عَلَيْهِ إقبالاً كثيرا وَله مَعَه نُكْتَة تَأتي فِي التلميح إِن شَاءَ الله تَعَالَى

ص: 137

وَلما رَجَعَ المعري إِلَى بَلَده لزم بَيته وَسمي نَفسه رهين المحبسين يَعْنِي حبس نَفسه فِي منزله وَحبس بَصَره بالعمى

وَكَانَ عجيبا فِي الذكاء المفرط والحافظة ذكر تِلْمِيذه أَبُو زَكَرِيَّا التبريزي أَنه كَانَ قَاعِدا فِي مَسْجده بمعرة النُّعْمَان بَين يَدي أبي الْعَلَاء يقْرَأ شَيْئا من تصانيفه قَالَ وَكنت قد أَقمت عِنْده سِنِين وَلم أر أحدا من أهل بلدي فَدخل الْمَسْجِد بعض جيراننا للصَّلَاة فرأيته فعرفته وتغيرت من الْفَرح فَقَالَ لي أَبُو الْعَلَاء أَي شَيْء أَصَابَك فحكيت لَهُ أَنِّي رَأَيْت جاراً لي بعد أَن لم ألق أحدا من أهل بلدي سِنِين فَقَالَ لي قُم فَكَلمهُ فَقلت حَتَّى أتمم النسق فَقَالَ لي قُم وَأَنا انْتظر لَك فَقُمْت وكلمته بِلِسَان الأذربيجانية شَيْئا كثيرا إِلَى أَن سَأَلت عَن كل مَا أردْت فَلَمَّا رجعت وَقَعَدت بَين يَدَيْهِ قَالَ لي أَي لِسَان هَذَا قلت هَذَا لِسَان أذربيجان فَقَالَ لي مَا عرفت اللِّسَان وَلَا فهمته غير أَنِّي حفظت مَا قلتما ثمَّ أعَاد عَليّ اللَّفْظ بِعَيْنِه من غير أَن ينقص مِنْهُ أَو يزِيد عَلَيْهِ بل جَمِيع مَا قلت وَمَا قَالَ جاري فتعجبت غَايَة الْعجب من كَونه حفظ مَا لم يفهمهُ

وَلِلنَّاسِ حكايات يضعونها فِي عجائب ذكائه وَهِي مَشْهُورَة وغالبها مُسْتَحِيل وَكَانَ قد رَحل أَولا إِلَى طرابلس وَكَانَ بهَا خَزَائِن كتب مَوْقُوفَة فَأخذ مِنْهَا مَا أَخذ من الْعلم واجتاز باللاذقية وَنزل ديراً كَانَ بِهِ رَاهِب لَهُ علم بأقاويل الفلاسفة فَسمع كَلَامه فَحصل لَهُ شكوك وَكَانَ إطلاعه على اللُّغَة وشواهدها أمرا باهراً

وَالنَّاس مُخْتَلفُونَ فِي أمره وَالْأَكْثَرُونَ على إلحاده وإكفاره وَأورد لَهُ الرَّازِيّ فِي الْأَرْبَعين قَوْله

(قُلْتُمْ لنَا صَانعٌ قَديم

قُلنا صَدقتمْ كَذَا تَقولُ)

(ثُمَّ زَعمتمْ بِلَا مَكانٍ

وَلَا زَمانِ أَلَا فقَولوا)

ص: 138

(هذَا كلامٌ لَهُ خَبِئٌ

مَعناهُ لَيستْ لنا عقول) // من مخلع الْبَسِيط //

ثمَّ قَالَ الرَّازِيّ وَقد هذي هَذَا فِي شعره وَقَالَ ياقوت كَانَ مُتَّهمًا فِي دينه يرى رَأْي البراهمة لَا يرى إِفْسَاد الصُّورَة وَلَا يَأْكُل لَحْمًا وَلَا يُؤمن بالرسل وَلَا الْبَعْث وَلَا النشور انْتهى

وَمكث مُدَّة خمس وَأَرْبَعين سنة لَا يَأْكُل اللَّحْم تديناً وَلَا مَا تولد من الْحَيَوَان رَحْمَة لَهُ وخوفاً من إزهاق النُّفُوس وإِلى ذَلِك أَشَارَ عَليّ بن همام حِين رثاه فَقَالَ من قصيدة طَوِيلَة

(إِنْ كنتَ لم تُرِقِ الدِّمَاء زَهادةً

فَلَقَد أرقْتَ اليومَ مِن عَيني دَما)

(سَيرتَ ذِكرك فِي الْبِلَاد كأنهُ

مِسكٌ فسامِعةَ يُضَمِّخُ أَو فَمَا)

(وَأرى الحجيجَ إِذا أرادُوا لَيْلَة

ذِكراكَ أوْجبَ فِديةً من أحرما) // الْكَامِل //

ولقيه رجل فَقَالَ لَهُ لم لم تَأْكُل اللَّحْم فَقَالَ أرْحم الْحَيَوَان قَالَ فَمَا تَقول فِي السبَاع الَّتِي لَا طَعَام لَهَا إِلَّا لُحُوم الْحَيَوَان فَإِن كَانَ كَذَلِك خَالق فَمَا أَنْت بأرأف مِنْهُ وَإِن كَانَت الطبائع المحدثة لذَلِك فَمَا أَنْت بأحذق مِنْهَا وَلَا أتقن فَسكت

وَقَالَ القَاضِي أَبُو يُوسُف عبد السَّلَام الْقزْوِينِي قَالَ لي المعري لم أهج أحدا قطّ قلت لَهُ صدقت إِلَّا الْأَنْبِيَاء عليهم السلام فَتغير لَونه أَو قَالَ وَجهه

وَدخل عَلَيْهِ القَاضِي المنازي فَذكر لَهُ مَا يسمعهُ عَن النَّاس من الطعْن عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ مَالِي وَلِلنَّاسِ وَقد تركت دنياهم فَقَالَ لَهُ القَاضِي وأخراهم فَقَالَ

ص: 139

يَا قَاضِي وأخراهم وَجعل يكررها

وَعَن أبي زَكَرِيَّا الرَّازِيّ قَالَ قَالَ لي المعري مَا الَّذِي تعتقد فَقلت فِي نَفسِي الْيَوْم يتَبَيَّن لي اعْتِقَاده فَقلت لَهُ مَا أَنا إِلَّا شَاك فَقَالَ لي وَهَكَذَا شيخك

وَحكي عَن الشَّيْخ كَمَال الدّين الزملكاني أَنه قَالَ فِي حَقه هُوَ جَوْهَرَة جَاءَت إِلَى الْوُجُود وَذَهَبت

وَعَن الشَّيْخ فتح الدّين بن سيد النَّاس أَن الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن دَقِيق الْعِيد كَانَ يَقُول فِي حَقه هُوَ فِي حيرة

قَالَ الصّلاح الصَّفَدِي وَهَذَا أحسن مَا يُقَال فِي أمره لِأَنَّهُ قَالَ

(خلق النَّاس للبقاء فَضلَّتْ

أمُةٌ يَحسبونهمْ لِلنفاد)

(إِنَّمَا يُنقلونَ من دَار أَعمال

إِلَى دَار شقوة أَو رشاد) // الْخَفِيف //

ثمَّ قَالَ

(ضَحكنا وَكَانَ الضِّحك مِنا سفاهةً

وحقَّ لِسكانِ البسيطةِ أَن يَبكوا)

(تُحطِّمنا الأيامُ حتىَّ كأنَّنا

زُجاج ولكنّ لَا يُعادُ لناسبك) // الطَّوِيل //

وَهَذِه الْأَشْيَاء كَثِيرَة فِي كَلَامه وَهُوَ تنَاقض مِنْهُ وإِلى الله ترجع الْأُمُور

قَالَ السلَفِي وَمِمَّا يدل على صِحَة عقيدته مَا سَمِعت الْحَافِظ الْخَطِيب حَامِد ابْن بختيار النميري يحدث بالسمسمانية مَدِينَة بالخابور قَالَ سَمِعت القَاضِي أَبَا الْمُهَذّب عبد الْمُنعم بن أَحْمد السرُوجِي يَقُول سَمِعت أخي القَاضِي أَبَا الْفَتْح يَقُول دخلت على أبي الْعَلَاء التنوخي بالمعرة ذَات يَوْم فِي وَقت خلْوَة بِغَيْر علم مِنْهُ وَكنت أتردد إِلَيْهِ وأقرأ عَلَيْهِ فَسَمعته ينشد من قيلة

(كم بُودرتْ غادةٌ كعَابٌ

وَعمِّرَتْ أمُّها الْعجوزُ)

ص: 140

(أحْرَزها الوَالدانِ خَوفاً

والقبرُ حِرزٌ لَهَا حريز)

(يَجوزُ أنْ تُبْطئَ المنايا

وَالْخُلْد فِي الدّهرِ لَا يَجوزُ) // من مخلع الْبَسِيط //

ثمَّ تأوه مَرَّات وتلا إِن فِي ذَلِك لآيَة لمن خَافَ عَذَاب الْآخِرَة ذَلِك يَوْم مَجْمُوع لَهُ النَّاس وَذَلِكَ يَوْم مشهود وَمَا نؤخره إِلَّا لأجل مَعْدُود يَوْم يَأْتِي لَا تكلم نفس إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمنهمْ شقي وَسَعِيد ثمَّ صَاح وَبكى بكاء شَدِيدا وَطرح وَجهه وَقَالَ سُبْحَانَ من تكلم بِهَذَا فِي الْقدَم سُبْحَانَ من هَذَا كَلَامه فَصَبَرت سَاعَة ثمَّ سلمت عَلَيْهِ فَرد عَليّ وَقَالَ مَتى أتيت فَقلت السَّاعَة ثمَّ قلت يَا سَيِّدي أرى فِي وَجهك أثر غيظ فَقَالَ لَا يَا أَبَا الْفَتْح بل أنشدت شَيْئا من كَلَام الْمَخْلُوق وتلوت شَيْئا من كَلَام الْخَالِق فلحقني مَا ترى فتحققت صِحَة دينه وَقُوَّة يقينه

وَقَالَ السلَفِي أَيْضا سَمِعت أَبَا المكارم بأبهر وَكَانَ من أَفْرَاد الزَّمَان ثِقَة مالكي الْمَذْهَب قَالَ لما توفّي أَبُو الْعَلَاء اجْتمع على قَبره ثَمَانُون شَاعِرًا وَختم عِنْد قَبره فِي أُسْبُوع وَاحِد مِائَتَا ختمة

وَعَن أبي الْيُسْر المعري أَن أَبَا الْعَلَاء كَانَ يرْمى من أهل الْحَسَد لَهُ بالتعطيل وَيعْمل تلامذته وَغَيرهم على لِسَانه الْأَشْعَار يضمنونها أقاويل الملحدة قصدا لهلاكه وإيثاراً لإتلاف نَفسه وَفِي ذَلِك يَقُول

(حاوَلَ إهوانيَ قَوْمٌ فَمَا

وَاجَهتْهُمْ إِلَّا بأهْوَان)

(يحرّشوني بِسعَاياتِهمْ

فَغَيَّروا نِيَّة إِخوانِي)

(لوِ اسْتطاعوا الوَشَوْا بِي إِلَى المرِّيخِ والشهب وكيوان

) // السَّرِيع //

قَالَ الصّلاح الصَّفَدِي أما الْمَوْضُوع على لِسَانه فَلَعَلَّهُ لَا يخفى على ذِي لب وَأما الْأَشْيَاء الَّتِي دونهَا وَقَالَهَا فِي لُزُوم مَا يلْزم وَفِي اسْتغْفر واستغفري فَمَا فِيهِ حِيلَة وَهُوَ كثير من القَوْل بالتعطيل واستخفافه بالنبوات وَيحْتَمل أَنه أرعوي

ص: 141

وَتَابَ بعد ذَلِك كُله وَكَانَ أكله العدس وحلاوته التِّين ولباسه الْقطن وفراشه اللباد وحصيره برديه وتصانيفه كَثِيرَة جدا وشعره كثير إِلَى الْغَايَة وَأحسنه سقط الزند

وَمن نظمه فِي الْغَزل

(يَا ظَبْيَة عَلِقَتْني فِي تصيدها

أشراكُها وَهِي لم تعلق بأشراكي)

(رَعيتِ قَلبي ومَا رَاعيِت حُرمتهُ

فَلِمْ رَعيتِ ومَا رَاعيت مَرعاكِ)

(أتحرقينَ فُؤاداً قَدْ حَللتِ بهِ

بِنار حُبكِ عمدا وَهْوَ مأواكِ)

(أسكنتهِ حَيثْ لمْ يَسكنْ بهِ سَكنٌ

وَليسَ يحسنُ أنْ تَسخَيْ بِسكناكِ)

(مَا بالُ دَاعي غَرامي حِينَ يأمُرني

بأنْ أكابدَ حُرَّ الْوجِد يَنهاكِ)

(وَكم غدَا الْقلبُ ذَا يأسٍ وَذَا طَمع

يَرجوكِ أنْ تَرحميهِ وَهْوَ يخشاك) // الْبَسِيط //

وَمن شعره قَوْله

(إِلَى الله أَشْكُو أنني كلَّ لَيلةٍ

إذَا نِمتُ لمْ أعْدم خَواطرَ أوْهامِ)

(فإِن كانَ شَرّاً فَهوَ لَا شَكَّ وَاقعٌ

وإنْ كانَ خَيراً فَهوَ أَضغاثُ أَحْلَام) // الطَّوِيل //

وَمِنْه قَوْله

(اضربْ وَليدكَ تَأديباً على رَشدٍ

ولَا تَقُلْ هُوَ طِفلٌ غيرُ مُحتلم)

(فَربَّ شقّ برأَسٍ جَرْ مَنْفَعَة

وَقسْ على شِقِّ رأسِ السَّهم والقلم) // الْبَسِيط //

وَمن شعره وَقد أهْدى كتابا من تصانيفه

(قَبولُ الْهَدَايَا سُنةٌ مستحبةٌ

إِذَا هِيَ لمْ تَسلكْ طَريقَ تحابي)

(ومَا أَنا إلَاّ قَطرةٌ منْ سَحابةٍ

وَلو أنني صنَّفتُ ألفَ كِتابِ) // الطَّوِيل //

وَمن شعره المؤاخذ بِهِ قَوْله

(إِذا مَا ذَكرنا آدما وفِعالهُ

وَتزْويجَهُ بنتيه لابْنَيْهِ فِي الخَنا)

ص: 142

(عَلمنا بأنَّ الخَلقَ مِنْ نَسل فاجرٍ

وَأنَّ جَميعَ الخَلق منْ عُنصر الزِّنى) // الطَّوِيل //

فَأَجَابَهُ القَاضِي أَبُو مُحَمَّد الْحسن اليمني بقوله

(لَعَمْرِيَ أمَّا فِيكَ فالْقولُ صَادقٌ

وتَكذبُ فِي الباقِينَ منْ شَطَّ أَوْدنا)

(كَذلكَ إِقرارُ الْفَتى لَازمٌ لَهُ

وَفي غَيرهِ لَغْوٌ كَذا جَاءَ شرعنا) // الطَّوِيل //

وَمِنْه قَوْله

(يدٌ بِخمْس مِئينَ عَسجدٍ وُدِيَتْ

مَا بالُهَا قُطعتْ فِي رُبعِ دِينارِ)

(تَحكُّمٌ مَا لنا إِلَّا السَّكوتُ لهُ

وَأنْ نَعُوذ بِمولانا منَ النَّار) // الْبَسِيط //

فَأَجَابَهُ علم الدّين السخاوي بقوله

(عِزُّ الأمانةِ أغْلاها وَأرْخصها

ذُلُّ الخِيانةِ فافْهمْ حِكمةَ الْباري) // الْبَسِيط //

وَمِنْه قَوْله

(هَفت الحنيفةُ وَالنّصارى مَا اهْتدتْ

وَمجوسُ حارتْ وَاليهودُ مُضَللَّه)

(اثْنَان أهل الأَرْض ذُو عَقلٍ بلَا

دينٍ وَآخرُ دَيِّنٌ لَا عَقل لهْ) // الْكَامِل //

فَقَالَ ذُو الْفَضَائِل الاخسيكتي راداً عَلَيْهِ

(الدِّين آخذهُ وَتاركهُ

لمْ يَخفَ رُشدُهما وَغيهما)

(اثْنَانِ أهْلُ الأَرْض قُلتَ فَقلْ

يَا شَيخَ سُوءٍ أَنْت أَيهمَا) // الْكَامِل //

وَمِنْه أَيْضا قَوْله

(دِينٌ وَكفرٌ وأنْباء تقال وفرقان

يُنصُّ وَتوراة وَإنجيلُ)

(فِي كل جِيلٍ أباطيلٌ يُدَان بهَا

فَهلْ تَفردَ يَوْماً بِالْهدى جيل) // الْبَسِيط //

فَأَجَابَهُ شيخ الْإِسْلَام الْحَافِظ الذَّهَبِيّ بقوله

(نعمْ أَبُو القاسمِ الْهَادِي وأمتُهُ

فَزَادكَ الله ذُلاًّ يَا دُجَيْجِيلُ) // الْبَسِيط //

ص: 143

وَمِنْه أَيْضا قَوْله وَهُوَ الطامة الْكُبْرَى

(قِرانُ المُشتري زُحَلاً يُرَجىّ

لإيقاظ النَّواظرِ مِن كرَاها)

(تَقَضَّي النَّاس حيلا بعد جيل

وخلقت النجومُ كَمَا تَرَاها)

(تَقدمَ صاحبُ التوراةِ مُوسَى

وأوقعَ فِي الخسارِ مَنِ اقْتراها)

(فقالَ رِجالهُ وحْيٌ أتاهُ

وقالَ الآخرونَ بلِ افتراها)

(ومَا حَجِّي إِلى أَحْجَار بَيت

كؤوس الْحمر تُشربُ فِي ذَراهَا)

(إِذا رَجعَ الحكيمُ إِلَى حِجاهُ

تَهاوَن بالشرائع وازدراها) // الوافر //

لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم اللَّهُمَّ إِنِّي أستغفرك من نَظِير هَذِه الأباطيل الَّتِي تشمئز مِنْهَا الْقُلُوب وتنفر عَنْهَا الخواطر وَأَسْأَلك التَّوْفِيق لي ولسائر الْمُسلمين

وَمن جيد شعره قَوْله

(رَدَدْتُ إِلَى مليك الْخلق أَمْرِي

فَلم أسألْ مَتى يقعُ الكسوفُ)

) وَكم سلم الجهولُ مِنَ المُنايا

وعُوجِلَ بالحِمامِ الفيلسوفُ) // الوافر //

وَهُوَ أَخذه من قَول أبي الطّيب المتنبي

(يَموتُ راعي الضأنِ فِي جهلِه

ميتةَ جالينوسَ فِي طِبِّهِ)

(ورُبَّما زَادَ على عُمْرِهِ

وَزَاد فِي الأمْنِ على سِربِهِ) // السَّرِيع //

وَقد تلاعب الشُّعَرَاء بهجائه وَمِمَّنْ هجاه أَبُو جَعْفَر البجائي الزوزني بقصيدة أَولهَا

(كلبٌ عَوَى بِمَعرَّةِ النعمانِ

لما خلا عَنْ ربقةِ الإيمانِ)

(أمَعرةَ النُّعمانِ مَا انْجبتِ إذْ

أخْرجْتِ مِنْكِ مَعرةَ العُميانِ) // الْكَامِل //

وقصته مَعَ وَزِير مَحْمُود بن صَالح صَاحب حلب شهيرة فَلَا حَاجَة إِلَى التَّطْوِيل بذكرها

وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الْجُمُعَة ثَالِث وَقيل ثَانِي شهر ربيع الأول وَقيل ثَالِث عشره سنة تسع وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة

قَالَ ابْن غرس النِّعْمَة وأذكر عِنْد وُرُود الْخَبَر بِمَوْتِهِ وَقد تَذَاكرنَا إلحاده ومعنا غُلَام يعرف بَابي غَالب بن نَبهَان من أهل الْخَيْر والعفة فَلَمَّا كَانَ من الْغَد حكى لنا قَالَ رَأَيْت فِي مَنَامِي البارحة شَيخا ضريرا وعَلى عَاتِقه أفعيان متدليان إِلَى فخديه وكل مِنْهُمَا يرفع فَمه إِلَى وَجهه فَيقطع مِنْهُ لَحْمًا يزدرده وَهُوَ يستغيث فَقلت وَقد هالني من هَذَا فَقيل لي هَذَا المعري الملحد

وَقَالَ القفطي أتيت قَبره سنة خمسين وسِتمِائَة فَإِذا هُوَ فِي ساحة فِي دور أَهله وَعَلِيهِ بَاب فَدخلت فَإِذا الْقَبْر لَا احتفال بِهِ وَرَأَيْت عَلَيْهِ خبازى يابسة والموضع على غَايَة مَا يكون من الشعث والإهمال

قَالَ الذَّهَبِيّ وَقد رَأَيْت أَنا قَبره بعد مائَة سنة من رُؤْيَة القفطي فَرَأَيْت نَحوا مِمَّا حكى انْتهى

وَقَالَ إِنَّه أوصى أَن يكْتب على قَبره

(هَذَا جناه أبي عَليّ وَمَا جنيت على أحد

) // من مجزوء الْكَامِل //

وَهُوَ أَيْضا مُتَعَلق باعتقاد الْحُكَمَاء فَإِنَّهُم يَقُولُونَ إِيجَاد الْوَلَد وإخراجه إِلَى الْعَالم جِنَايَة عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يعرض للحوادث والآفات وَالله تَعَالَى أعلم بأَمْره

24 -

(مَا كلُّ مَا يتَمَنَّى الْمَرْء يُدْرِكُهُ

)

قَائِله المتنبي من قصيدة من الْبَسِيط يمدح بهَا كافوراً الأخشيدي صَاحب مصر وَلم ينشدها لَهُ وَكَانَ اتَّصل بِهِ أَن قوما نعوه فِي مجْلِس سيف الدولة وأولها

(بِمَ التعّللُ لَا أهلٌ وَلَا وطنُ

وَلَا نديمٌ وَلَا كأسٌ وَلَا سكنُ)

ص: 144

(أريدُ من زَمني ذَا أَن يبلغَني

مَا ليسَ يبلغُهُ فِي نَفسه الزمنُ)

(لَا تلقَ دهرَكَ إِلَّا غيرَ مكترثٍ

مَا دَامَ يَصْحَبُ فِيهِ رُوحَكَ البدنُ)

(فَمَا يدومُ سرورُ مَا سُرِرْتَ بِهِ

وَلَا يَرُدُّ عليكَ الفائتَ الحزَنُ)

(مِمَّا أضرَّ بِأَهْل العشقِ أنهمُ

هَوَوْا وَمَا عرَفوا الدُّنْيَا وَمَا فطِنوا)

(تفني عيونُهُم دمعاً وأنفُسُهم

فِي إثِر كلِّ قَبِيح وجهُه حسَنُ)

(تحمّلوا حملتكم كل ناجيةٍ

فكلٌّ بَيْنٍ عليّ اليومَ مؤتمنُ)

(مَا فِي هَوادجكم من مُهجتِي عِوَض

إِن مُتُّ شوقاً وَلَا فِيهَا لَهَا ثمنُ)

(يَا من نُعِيتُ على بعدٍ بمجلسه

كلٌّ بِما زعم الناعوْنَ مرتَهَنُ)

(كم قد قُتِلت وَكم قد مت عنْدكُمْ

ثمَّ انتفضت فَزَالَ الْقَبْر والكفنُ)

(قد كَانَ شاهَدَ دفني قبل قَوْلهم

جماعةٌ ثمَّ مَاتُوا قبل مَنْ دَفنوا)

(مَا كل مَا يتَمَنَّى الْمَرْء يُدْرِكهُ

تَجري الرِّياحُ بِما لَا تشْتَهي السفنُ) // الْبَسِيط //

وَهِي طَوِيلَة بديعة

وَالشَّاهِد فِي الْبَيْت أَن كل إِذا تَأَخَّرت عَن أَدَاة النَّفْي سَوَاء كَانَت معمولة لَهَا أَولا وَسَوَاء كَانَ الْخَبَر فعلا كَمَا فِي الْبَيْت أَو غير فعل توجه النَّفْي إِلَى الشُّمُول خَاصَّة لَا إِلَى اصل الْفِعْل وَأفَاد الْكَلَام ثُبُوت الْفِعْل أَو الْوَصْف لبَعض مَا أضيف إِلَيْهِ كل إِن كَانَت فِي الْمَعْنى فَاعِلا للْفِعْل أَو الْوَصْف الَّذِي حمل عَلَيْهَا أَو عمل فِيهَا أَو تعلق الْفِعْل أَو الْوَصْف بِبَعْض إِن كَانَت كل فِي الْمَعْنى مَفْعُولا للْفِعْل أَو الْوَصْف الْمَحْمُول عَلَيْهَا أَو الْعَامِل فِيهَا

وَمعنى شطر الْبَيْت مَأْخُوذ من قَول طرفَة بن العَبْد الْبكْرِيّ

(فيا لَك من ذِي حاجةٍ حِيلَ دونهَا

وَمَا كل مَا يهوى امْرُؤ هُوَ نائله) // الطَّوِيل //

وَقد أَخذه بَعضهم وَضَمنَهُ فِي قصيدة مدح بهَا يزِيد بن حَاتِم فَخرج إِلَيْهِ وَهُوَ بِمصْر ليَأْخُذ جائزته فَوَجَدَهُ قد مَاتَ فَقَالَ

ص: 146

(لَئن مِصرُ فاتتني بِمَا كنتُ أرتجي

وأخلفني مِنْهَا الَّذِي كنت آمل)

(فيالك مِنْ ذِي حاجةٍ حيل دونهَا

وَمَا كل مَا يهوى امرُؤ هُوَ نائِل)

(وَمَا كَانَ بَيني لوْ لَقيتُكَ سالما

وبينَ الغِنى إِلَّا لَيَال قَلَائِل) // الطَّوِيل //

وَهَذَا الْبَيْت بِعَيْنِه للحطيئة فِي عَلْقَمَة بن علاثة وَالظَّاهِر أَنه ضمنه أَيْضا

وَقد تقدم ذكر أبي الطّيب المتنبي فِي شَوَاهِد الْمُقدمَة

25 -

(قد أَصبَحت أم الْخِيَار تَدعِي

عَليّ ذَنبا كُله لم أصنع)

الْبَيْت لأبي النَّجْم الْعجلِيّ الْمُتَقَدّم ذكره وَهُوَ أول أرجوزته السَّابِقَة وَأم الْخِيَار هَذِه زَوجته

وَالشَّاهِد فِيهِ أَن كل إِذا تقدّمت على النَّفْي لفظا وَلم تقع معمولة للْفِعْل الْمَنْفِيّ عبد علم النَّفْي كل فَرد مِمَّا أضيف إِلَيْهِ كل وَأفَاد نفي أصل الْفِعْل عَن كل فَرد وَمن ثمَّ أَتَى بِكُل مَرْفُوعَة عادلاً عَن نصبها الْغَيْر الْمُحْتَاج إِلَى تَقْدِير ضمير لِأَنَّهُ لَا يُفِيد نفي عُمُوم مَا ادَّعَتْهُ أم الْخِيَار عَلَيْهِ وَالله أعلم

26 -

(كم عَاقل عَاقل أعْيتْ مذاهبهُ

وجاهل جَاهِل تلقاهُ مَرْزوقا)

(هَذَا الَّذِي تركَ الأوهامَ حائرةً

وصَّبر الْعَالم النِّحريرَ زِنديقاً)

البيتان لِابْنِ الراوندي من الْبَسِيط وقبلهما

ص: 147

(سُبحان مَنْ وضع الْأَشْيَاء مَوضِعَها

وفَرقَ العزَّ والإذْلال تفريقا) // الْبَسِيط //

وعاقل الثَّانِي صفة لعاقل الأول بِمَعْنى كَامِل الْعقل متناهٍ فِيهِ كَمَا يُقَال مَرَرْت بِرَجُل رجل أَي كَامِل فِي الرجولية وَمعنى أعيت مذاهبه أَعْجَزته وصعبت عَلَيْهِ طرق معايشه والنحرير بِكَسْر النُّون الحاذق الماهر الْعَاقِل المجرب المتقن الفطن الْبَصِير بِكُل شَيْء لِأَنَّهُ ينْحَر الْعلم نحراً والزنديق بِكَسْر الزَّاي من الثنوية أَو الْقَائِل بِالنورِ والظلمة أَو من لَا يُؤمن بِالآخِرَة وبالربوبية أَو من يبطن الْكفْر وَيظْهر الْإِيمَان أَو هُوَ مُعرب زن دين أَي دين الْمَرْأَة

وَالشَّاهِد فِيهِ وضع الْمظهر الَّذِي هُوَ اسْم الْإِشَارَة مَوضِع الْمُضمر لكَمَال الْعِنَايَة بتمييز الْمسند إِلَيْهِ لاختصاصه بِحكم بديع عَجِيب الشَّأْن وَهُوَ هُنَا جعل الأوهام حاثرة والعالم المتقن زنديقاً

وَمَا أحسن قَول الْغَزِّي فِي معنى الْبَيْتَيْنِ

(كم عَالم لم يلج بالقرع بَاب منى

وجاهل قبل قرع الْبَاب قد ولجا) // الْبَسِيط //

وَمَا أحسن قَول الْحَكِيم أبي بكر الخسروي السَّرخسِيّ وَهُوَ كالرد على قَول ابْن الراوندي

(عجبت من ربّي وربي حَكِيم

أَن يَحرِم الْعَاقِل فضل النعيمْ)

(مَا ظلَم الْبَارِي وَلكنه

أَرَادَ أَن يُظْهِرَ عجز الْحَكِيم) // السَّرِيع //

وَقَول أبي الطّيب غَايَة فِي هَذَا الْبَاب وَهُوَ

(وَمَا الْجمع بَين المَاء وَالنَّار فِي يدٍ

بأصْعَبَ من أَن أجمع الجدّ والفهما) // الطَّوِيل //

وَهُوَ ينظر إِلَى قَول أبي تَمام

(وَلم يجْتَمع شَرق وَغرب لقاصدٍ

وَلَا الْمجد فِي كف امْرِئ وَالدَّرَاهِم) // الطَّوِيل //

وَمَا أحسن قَول أبي تَمام أَيْضا

(ينَال الْفَتى من دهره وَهْوَ جاهلٌ

ويُكْدِي الْفَتى من دهره وَهُوَ عَالم)

ص: 148

(وَلَو كَانَت الأرزاق تَأتي على الحِجَا

إذَنْ هلكتْ من جهلهن الْبَهَائِم) // الطَّوِيل //

وَمثله قَول أبي الْخَيْر الْمروزِي الضَّرِير

(تنافى العقلُ والمالُ

فَمَا بَينهمَا شكلُ)

(هما كالورد والنرجس لَا يحويهما فصل

)

(فعقلٌ حَيْثُ لَا مالٌ

ومالٌ حَيْثُ لَا عقل) // الهزج //

وَمثله قَول أبي إِسْحَاق الصابي

(إِذا جَمَعتْ بَين امرأيْنِ صِناعَةٌ

فأحببتَ أَن تَدْرِي الَّذِي هُوَ أحْذَقُ)

(فَلَا تَتَفقَّدْ مِنْهُمَا غيرَ مَا جَرَتْ

بِهِ لهُما الأرزاق حِين تُفَرَّقُ)

(فحيثُ يكون الجَهلُ فالرزق واسِعٌ

وحيثُ يكونُ الْعلم فالرزق ضيق) // الطَّوِيل //

وَمثله قَول عبد الْجَلِيل بن وهبون المرسي

(يَعِزُّ عَليّ العَلياءِ أنيَ خَاملٌ

وَأَن أبصَرَت مني خُمُودَ شِهابي)

(وَحيثُ ترى زَندَ النجابةِ وارِياً

فَثَمَّ ترى زند السَّعَادَة كابي) // الطَّوِيل //

ولطيف قَول بَعضهم أَيْضا

(كم من غَبّيٍ غَنيٌ

وَمن فَقيهٍ فَقير) // المجتث //

وبديع قَول أبي بكر بن مُحَمَّد الْمَازِني

(ثنْتَانِ من سِيَرِ الزَّمَان تحيرتْ

لهُما عُقُول ذَوي التَّفلُسفِ وَالنَّهْي)

(مُثْرٍ مِن الْأَمْوَال مَبخوس الحِجا

ومُوفَّر الآدابِ منقُوص الْغنى) // الْكَامِل //

وَمَا أحسن قَول ابْن لنكك

(فعاقل مَا تُبَلُّ أنملُهُ

وجاهلٌ باليدين يغترف) // المنسرح //

وَقَول الآخر

ص: 149

(زمَان تَحيرتُ فِي أمره

كثيرُ التَّعدي على حُرهِ)

(فَللوغْدِ مَا شِئْت من نَفعهِ

وللحُر مَا شِئْت من ضُرهِ)

(وأعجبُ مَا فِي تصاريفه

صيالُ البعوضِ على صقره) // المتقارب //

وَقَول الآخر

(وَغْدٌ لَهُ نِعمةٌ مُؤثَّلة

وَسَيدٌ لإَ يزَال يقترض) // المنسرح //

ومدار ذَلِك جَمِيعه على الْحَظ وَعَدَمه وَمَا أحسن قَول ابْن الْخياط الدِّمَشْقِي فِيهِ أَيْضا

(وَما زَالَ شُؤمُ الحْظِّ منْ كلِّ طَالبٍ

كَفيلاً بِبعدِ المْطلبِ المْتَدَاني)

(وَقد يُحرَمُ الجَلْدُ الحَريصُ مَرامهُ

وَيُعطَى مُناهُ الْعَاجِز المتواني) // الطَّوِيل //

وَقَول الآخر

(قَد يُرزقُ المْرءُ لَا مِنْ حُسنِ حِيلتهِ

وَيُصرَف المَال عَنْ ذِي الحيلةِ الداهي) // الْبَسِيط //

وَقَول الآخر

(إِن الْمَقَادِير إِذا ساعدت

ألحقت الْعَاجِز بالقادر) // السَّرِيع //

وَمَا أحسن قَول عبيد الله بن عبد الله بن طَاهِر

(يَا مِحْنَةَ الدَّهْر كُفِّي

إِنْ لَمْ تكُفِّي فخفيِّ)

(مَا آنَ أَنْ تَرحَمِينَا

مِنْ طول هَذَا التَّشفّي)

(فَلَا عُلومِيَ تُجْدِي

ولَا صناعَة كفيِّ)

(ثَورٌ ينَال الثريَّا

وعَالِمٌ متحفيِّ)

(ذَهَبْتُ أطلبُ بخْتِي

فَقيل لي قد توفّي) // المجتث //

وَمن الغايات فِي هَذَا الْبَاب قَول الإِمَام الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى

(لَوْ أنَّ بالحيلِ الْغَنِيّ لوجدتنيِ

بنجومِ أفلاكِ السَّمَاء تعلُّقي)

(لكنَّ من رُزِق الحجا حُرِمَ الْغنى

ضدّان مفترقان أَي تفرُّق)

ص: 150

(فَإِذا سمعتَ بأنَّ محروماً أَتَى

مَاء ليشربه فغاضَ فصدِّق)

(أَو أنّ محظوظاً غَدا فِي كَفه

عُودٌ فأورَقَ فِي يَدَيْهِ فحقِّقِ)

(ومنَ الدَّلِيل على الْقَضَاء وَكَونه

بُؤسُ اللبيب وطيبُ عَيْش الأحمق) // الْكَامِل //

ولبعضهم فِي مَعْنَاهُ

(لَو وردتُ البحارَ أطلبُ مَاء

جفَّ عِنْد الْوُرُود ماءُ البحارِ)

(أَو رُمى باسميَ النجومُ الدراري

لانزوى ضؤوها عَن الْأَبْصَار)

(أَو لمستُ العودَ النضيرَ بكفي

لذَوي بعدَ نعمةٍ واخضرارِ)

(وَلَو أَنِّي بعتُ القناديلَ يَوْمًا

أُدْغمَ الليلُ فِي بياضِ النهارِ) // الْخَفِيف //

وَمثله قَول بَعضهم

(وَلما لمستُ الرزق فانجد حبلهُ

وَلم يصفْ لي من بحره العذب مشربُ)

(خطبت إِلَى الإعدام إِحْدَى بَنَاته

فزّجنيها الفقرُ إِذْ جئتُ أخطبُ) فأولدتها الحزنَ الشقيّ فمالهُ

على الأَرْض غَيْرِي والدٌ حِين ينسبُ)

(فَلَو تهتُ فِي الْبَيْدَاء والليلُ مسبلٌ

عليّ جناحيه لما لَاحَ كوكبُ)

(وَلو خفتُ شِراً فاستترتُ بظلمةٍ

لأقبلَ ضوءُ الشَّمْس من حَيْثُ تغربُ)

(وَلو جادَ إنسانٌ عليّ بِدرهمٍ

لَرُحْتُ إِلَى رحلي وَفِي الْكَفّ عقربُ)

(وَلو يُمْطَر الناسُ الدَّنَانِير لم يكنْ

بشيءٍ سوى الْحَصْبَاء رأسيَ يُحْصَبُ)

(وَإِن يَقْترف ذَنبا ببرقةً مذنبٌ

فإنَّ برأسي ذَلِك الذنبَ يُعْصَبُ)

(وَإِن أرَ خيرا فِي الْمَنَام فنازحٌ

وَإِن أرَ شرا فَهْوَ مِنِّي مقرَّبُ)

(أَمَامِي من الحرمان جيشٌ عرمرمٌ

وَمِنْه ورائي جحفل حينَ أركب) // الطَّوِيل //

وَقَول الآخر

(وَلَو ركبتُ البحارَ صَارَت فجاجاً

لَا ترَى فِي متونها أمواجَا)

(وَلَو أَنِّي وضعتُ ياقوتةً حَمْرَاء فِي راحتي لَصَارَتْ زجاجّاً

)

ص: 151

(وَلَو أَنِّي وردْتُ عذباً فراتاً

عَاد لَا شكَّ فِيهِ ملحا أجاجا) // الْخَفِيف //

وَمَا أحسن قَول أبي الْأسود الدؤَلِي

(الْمَرْء يحمد سَعْيه من جده

حَتَّى يُزَيَّن بِالَّذِي لم يَعملِ)

(وَترى الشقي إِذا تكامَلَ جده

يَرْمِي ويقذفُ بِالَّذِي لم يفعل) // الْكَامِل //

وبديع قَول أبي الْعَلَاء المعري

(سيطلبني رِزْقِي الَّذِي لَو طلبتهُ

لما زَاد وَالدُّنْيَا حظوظ وإقبالُ)

(إِذا صدقَ الجدُّ افترى العمُّ للفتى

مَكَارِم لَا تكري وَإِن كذب الْخَال) // الطَّوِيل //

الْجد هُنَا الْحَظ وَالْعم الْجَمَاعَة وتكرى من كرى الزَّاد إِذا نقص افترى كذب وَالْخَال المخيلة

وظريف هُنَا قَول ابْن شرف القيرواني

(إِذا صحبَ الْفَتى سعدٌ وجَدٌّ

تحامته المكاره والخطوبُ)

(ووافاه الحبيب بغيرِ وعدٍ

طُفيْليّاً وقادَ لَهُ الرقيبُ)

(وعدّ النَّاس ضرطته غناء

وَقَالُوا إِن فسا قد فاح طيب) // الوافر //

وَقد أَخذه ابْن النَّقِيب فَقَالَ

(لَو لَحَنَ الْمُوسر فِي مجْلِس

لقيل عَنهُ إِنَّه يُعْرب)

(وَلَو فَسا يَوْمًا لقالوا لَهُ

من أينَ هَذَا النَّفَسُ الطّيب) // السَّرِيع //

وَقَول أبي الْعَلَاء المعري غَايَة هُنَا وَهُوَ

(لَا تطلبنّ بآلةٍ لَك رُتْبَة

قلم البليغ بغيرِ حَظٍ مغزل)

(سكن السما كَانَ السَّمَاء كِلَاهُمَا

هَذَا لَهُ رمحٌ وَهَذَا أعزل) // الْكَامِل //

وَقد أَخذ أَبُو إِسْحَاق الْغَزِّي هَذَا الْمَعْنى فَقَالَ

(الْحسن والقبح قد تحويهما صفةٌ

شان الْبيَاض وزان الشيب والشنبا)

ص: 152

(ظُبّا الْمُحَارَفِ أقلامٌ مكسرةٌ

رؤوسهنّ وَأَقْلَام السعيد ظبا) // الْبَسِيط //

وَله أَيْضا

(لَا تعتبنّ الزَّمَان إِن ذهبت

نيوب لَيْث العَرين منْ نُوَبه)

(فالحول لَوْلَا الجدود مَا قصرت

أيْدِي جُمَاداه عَن عُلا رجبه) // المنسرح //

وَقد أَخذ هَذَا الْمَعْنى الصّلاح الصَّفَدِي فَقَالَ

(لئنْ رُحْتُ مَعْ فضلي منَ الْحَظ خَالِيا

وغيرِي على نقض بِهِ قد غَدا حَالي)

(فَإِنِّي كشهر الصَّوْم أصبح عاطلاً

وطَوْقُ هِلَال الْعِيد فِي جيد شَوَّال) // الطَّوِيل //

بل رُبمَا أَخذه من قَول ابْن قلاقس فَإِنَّهُ أصرح مِنْهُ حَيْثُ قَالَ

(إِن تأخَّرْتُ فالمحرم عطل

من حُلي العيدِ وَهِي فِي شَوَّال) // الْخَفِيف //

وَقَالَ ابْن قلاقس أَيْضا

(لَوْلَا الجُدودُ لما نمت لمسافر

كفُّ الغنَى وتَعلقت بمقُيم)

(والحظُّ حَتَّى فِي الحُروف مُؤثر

يُختصُّ بالترقيق والتفخيم) // الْكَامِل //

وَقَالَ مهيار الديلمي

(لَا تْحسَبِ الهمَّةَ العَلياءَ موجِبةً

رزقا على قِسمةِ الأرزاق لم يجب)

(لَو كانَ أفضَلُ مَا فِي النَّاس أسْعَدَهم

مَا انحطَّتِ الشَّمْس عَن عالٍ من الشهب)

(أَو كَانَ أيسرُ مَا فِي الْأُفق أسلَمَه

دامَ الهلالُ فَلم يُمحق وَلم يغب) // الْبَسِيط //

وَقَالَ الطغرائي

(وأعْظَم مَا بِي أنَّني بِفضائلي

حُرمتُ وَمَالِي غَيرهنَّ ذَرَائع)

(إِذا لم يزدني مَوردِي غَيْرَ عِلَّةٍ

فَلا صَدَرتْ بالوارِدين مَشارِعُ) // الطَّوِيل //

ص: 153

وَقَالَ القَاضِي الْفَاضِل

(مَا ضَر جَهلُ الجاهلينَ وَلَا انْتفعتُ أَنا بحِذْقي

)

(وزيادتي فِي الحِذقِ فَهْيَ زيادةٌ فِي نقص رِزْقِي

) // من مجزوء الْكَامِل //

وَقَالَ ابْن دانيال

(قد عَقلنا والعقْلُ أيُّ وثاقِ

وصَبرنا والصَّبر مُرُّ المذَاقِ)

(كل من كانَ فاضِلاً كَانَ مثلي

فَاضلا عندَ قسْمَة الأرزاق) // الْخَفِيف //

وَقَالَ ابْن عنين

(كأنِّي فِي الزَّمَان اسْم صَحيحٌ

جَرى فَتحكمت فيهِ العواملْ)

(مَزيدٌ فِي بَنِيهِ كواو عَمْرو

ومُلْغَي الْحَظ فِيهِ كِرَاء وَاصل) // الوافر //

وَقَالَ السراج الْوراق

(يمنَعُنْي باخِلٌ وسمحٌ

وليسَ لي مِنْهُمَا نَصير)

(وغايتي أَن ألومَ حظي

وحظَّيَ الْحَائِط الْقصير) // من مخلع الْبَسِيط //

وَقَالَ ابْن سناء الْملك

(وربَّ مليحٍ لَا يُحَبُّ وضدُّه

تُقَبَّلُ مِنْهُ العَينُ والخد والفُم)

(هوَ الجَدُّ خُذْهُ إِن أردتَ مَسلماً

وَلَا تَطلب التعليلَ فالأمرُ مُبهم) // الطَّوِيل //

وَمَا أرشق قَول ابْن رَشِيق

(أشْقى لعَقلك أَن يكون أدِيباً

أَو أَن يرى فِيكَ الوَرى تهذيبا)

(مَا دمتَ مستويا فغعلك كلُّه

عِوَجٌ وَإِن أخطأتَ كنت مصيبا)

ص: 154

(كالنَّقشِ لَيسَ يصحُّ معنى خَتمه

حَتَّى يكونَ بناؤُهُ مَقلوبَا) // الْكَامِل //

وَمَا ألطف قَول السراج الْوراق

(الباءُ والخَاءُ من بخْتي قد اقترَنا

بالباءِ والخاءِ من بخلٍ لإنْسانِ)

(واللامُ والتاءُ من هَذَا وَذاكَ هما

لتَّ المسائلِ عَن أسبابِ حرماني) // الْبَسِيط //

وَهَذَا الْبَاب وَاسع جدا والاختصار فِيهِ أولى

وَابْن الراوندي هُوَ أَحْمد بن يحيى بن إِسْحَاق أَبُو الْحُسَيْن من أهل مرو الروذ وراوند بِفَتْح الرَّاء وَالْوَاو بَينهمَا ألف وَسُكُون النُّون وَبعدهَا دَال مُهْملَة قَرْيَة من قرى قاسان بِالسِّين الْمُهْملَة بنواحي أَصْبَهَان وَهِي غير قاشان الَّتِي بِالْمُعْجَمَةِ الْمُجَاورَة لقم سكن الْمَذْكُور بَغْدَاد وَكَانَ من متكلي الْمُعْتَزلَة ثمَّ فارقهم وَصَارَ ملحداً زنديقاً وَقَالَ القَاضِي أَبُو عَليّ التنوخي كَانَ أَبُو الْحُسَيْن ابْن الراوندي يلازم أهل الْإِلْحَاد فَإِذا عوتب فِي ذَلِك قَالَ إِنَّمَا أُرِيد أَن أعرف مذاهبهم ثمَّ أَنه كاشف وناظر وَيُقَال إِن أَبَاهُ كَانَ يَهُودِيّا فَاسْلَمْ وَكَانَ بعض الْيَهُود يَقُول لبَعض الْمُسلمين ليفسدن عَلَيْكُم هَذَا كتابكُمْ كَمَا أفسد أَبوهُ التَّوْرَاة علينا وَيُقَال عَن أَبَا الْحُسَيْن قَالَ للْيَهُود قُولُوا إِن مُوسَى قَالَ لَا نَبِي بعدِي

وَذكر أَبُو الْعَبَّاس الطَّبَرِيّ أَن ابْن الراوندي كَانَ لَا يسْتَقرّ على مَذْهَب وَلَا يثبت على حَال حَتَّى أَنه صنف للْيَهُود كتاب البصيرة ردا على الْإِسْلَام لأربعمائة دِرْهَم أَخذهَا فِيمَا بَلغنِي من يهود سامراً فَلَمَّا قبض المَال رام نقضهَا حَتَّى أَعْطوهُ مائَة دِرْهَم أُخْرَى فَأمْسك عَن النَّقْض

ص: 155

وَحكى الْبَلْخِي فِي كتاب محَاسِن خُرَاسَان أَن ابْن الراوندي هَذَا كَانَ من الْمُتَكَلِّمين وَلم يكن فِي زَمَانه أحذق مِنْهُ بالْكلَام وَلَا أعرف بدقيقه وجليله وَكَانَ فِي أول أمره حسن السِّيرَة حميد الْمَذْهَب كثير الْحيَاء ثمَّ انْسَلَخَ من ذَلِك كُله لأسباب عرضت لَهُ وَكَانَ علمه أَكثر من عقله فَكَانَ مثله كَمَا قَالَ الشَّاعِر

(وَمن يُطيقُ مُزكي عِنْد صَبوته

وَمن يَقومُ لمستورٍ إِذا خلعا) // الْبَسِيط //

قَالَ وَقد حكى جمَاعَة أَنه تَابَ عِنْد مَوته مِمَّا كَانَ مِنْهُ وَأظْهر النَّدَم واعترف بِأَنَّهُ إِنَّمَا صَار إِلَيْهِ حمية وأنفة من جفَاء أَصْحَابه لَهُ وتنحيتهم إِيَّاه من مجَالِسهمْ

وَأكْثر كتبه الكفريات ألفها لأبي عِيسَى الْيَهُودِيّ الْأَهْوَازِي وَفِي منزله هلك وَمِمَّا أَلفه من كتبه الملعونة كتاب التَّاج يحْتَج فِيهِ لقدم الْعَالم وَكتاب الزمردة يحْتَج فِيهِ على الرُّسُل ويبرهن على إبِْطَال الرسَالَة وَكتاب الفريد فِي الطعْن على النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَكتاب اللؤلؤة فِي تناهي الحركات وَقد نقض هُوَ أَكْثَرهَا وَغَيره وَلأبي عَليّ الجبائي وَغَيره ردود عَلَيْهِ كَثِيرَة فمما قَالَه فِي كتاب الزمردة أَنه إِنَّمَا سَمَّاهُ بالزمردة لِأَن من خاصية الزمرد أَن الْحَيَّات إِذا نظرت إِلَيْهِ ذَابَتْ وسالت أعينها فَكَذَلِك هَذَا الْكتاب إِذا طالعه الْخصم ذاب وَهَذَا الْكتاب يشْتَمل على إبِْطَال الشَّرِيعَة الشَّرِيفَة والازدراء على النبوات المنيفة فمما قَالَه فِيهِ لَعنه الله وأبعده إِنَّا نجد فِي كَلَام أَكْثَم بن صَيْفِي شَيْئا أحسن من إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر وَإِن الْأَنْبِيَاء كَانُوا يستعبدون النَّاس بالطلاسم وَقَالَ قَوْله يَعْنِي نَبينَا عليه الصلاة والسلام لعمَّار رضي الله عنه تقتلك الفئة الباغية كل المنجمين يَقُولُونَ مثل هَذَا وَلَقَد كذب لَعنه الله وأخزاه

ص: 156

وَجعل النَّار مستقره ومثواه فَإِن المنجم إِن لم يسْأَل الْإِنْسَان عَن اسْمه وَاسم أمه وَيعرف طالعه لَا يقدر أَن يتَكَلَّم على أَحْوَاله وَلَا يُخبرهُ بِشَيْء من متجدداته وَخَطأَهُ أَكثر من صَوَابه وَقد كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يخبر بالمغيبات من غير أَن يعرف طالعاً أَو يسْأَل عَن اسْم أَو نسب وَلم يعْهَد عَنهُ غير مَا ذكر صلى الله عليه وسلم فَبَان الْفرق وَقَالَ فِي كتاب الدامغ إِن الْخَالِق سبحانه وتعالى لَيْسَ عِنْده من الدَّوَاء إِلَّا الْقَتْل فعل الْعَدو الحنق الغضوب فَمَا حَاجته إِلَى كتاب وَرَسُول قَالَ وَيَزْعُم أَنه يعلم الْغَيْب فَيَقُول وَمَا تسْقط من ورقه إِلَّا يعلمهَا ثمَّ يَقُول وَمَا جعلنَا الْقبْلَة الَّتِي كنت عَلَيْهَا إِلَّا لنعلم وَقَالَ فِي وصف الْجنَّة فِيهَا أَنهَار من لبن لم يتَغَيَّر طعمه وَهُوَ الحليب وَلَا يكَاد يشتهيه إِلَّا الجائع وَذكر الْعَسَل وَلَا يطْلب صرفا والزنجبيل وَلَيْسَ من لذيذ الْأَشْرِبَة والسندس يفترش وَلَا يلبس وَكَذَلِكَ الإستبرق وَهُوَ الغليظ من الديباج وَمن تخايل أَنه فِي الْجنَّة يلبس هَذَا الغليظ وَيشْرب الحليب والزنجبيل صَار كعروس الأكراد والنبط ولعمري لقد أعمى الله بَصَره وبصيرته عَن قَوْله تَعَالَى وفيهَا مَا تشْتَهي الْأَنْفس وتلذ الْأَعْين وَعَن قَوْله عز وجل {وَلحم طير مِمَّا يشتهون} وَمَعَ ذَلِك فَفِيهَا اللَّبن وَالْعَسَل وَلَيْسَ هُوَ كلبن الدُّنْيَا وَلَا عسلها وغليظ الْحَرِير يُرِيد بِهِ الصفيق الملتحم النسج وَهُوَ أَفْخَر مَا يلبس وَلَو ذهبت أورد مَا ذكره هَذَا الملعون وتفوه بِهِ من الْكفْر والزندقة والإلحاد لطال الْأَمر والاشتغال بِغَيْرِهِ أولى وَالله تَعَالَى منزه سُبْحَانَهُ عَمَّا يَقُول الْكَافِرُونَ والملحدون علوا كَبِيرا وَكَذَلِكَ كِتَابه وَرَسُوله صلى الله عليه وسلم وَلَقَد سرد ابْن الْجَوْزِيّ من زندقته أَكثر من ثَلَاث وَرَقَات وَأَنا أعوذ بِاللَّه من هَذَا القَوْل وأستغفره مِمَّا جرى بِهِ قلمي مِمَّا لَا يرضاه وَلَا يَلِيق بجنابه وجناب رَسُوله صلى الله عليه وسلم وَكتابه الْحَكِيم

وَاجْتمعَ ابْن الراوندي هُوَ وَأَبُو عَليّ الجبائي يَوْمًا على جسر بَغْدَاد فَقَالَ لَهُ

ص: 157

يَا أَبَا عَليّ أَلا تسمع شَيْئا من معارضتي لِلْقُرْآنِ ونقضي لَهُ فَقَالَ أَنا أعلم بمخازي علومك وعلوم أهل دهرك وَلَكِن أحاكمك إِلَى نَفسك فَهَل تَجِد فِي معارضتك لَهُ عذوبة وهشاشة وتشاكلاً وتلازماً ونظماً كنظمه وحلاوةً كحلاوته قَالَ لَا وَالله قَالَ قد كفيتني فَانْصَرف حَيْثُ شِئْت

وَمن شعره

(مِحَنُ الزَّمانِ كَثيرَةٌ لَا تَنْقَضي

وَسرورُهُ يأتِيكَ كالأعيَادِ)

(مَلَكَ الأكارِمَ فاستَرقّ رِقابَهُمُ

وَترَاه رِقّاً فِي يَد الأوغاد) // الْكَامِل //

وَمِنْه وَقيل أنْشدهُ لغيره

(أَلَيسَ عَجيباً بأنّ امرَءاً

لطيفَ الخصَام دَقيقَ الكلمْ)

(يَموتُ وَمَا حَصَّلَتْ نفْسهُ

سِوَى عِلمهِ أَنهُ مَا علم) // المتقارب //

وَذكر أَبُو عَليّ الجبائي أَن السُّلْطَان طلب ابْن الراوندي وَأَبا عِيسَى الْوراق فَأَما أَبُو عِيسَى فحبس حَتَّى مَاتَ وَأما ابْن الراوندي فهرب إِلَى ابْن لاوى الْيَهُودِيّ وَوضع لَهُ كتاب الدامغ فِي الطعْن على النَّبِي صلى الله عليه وسلم وعَلى الْقُرْآن الْكَرِيم ثمَّ لم يلبث إِلَّا أَيَّامًا يسيرَة حَتَّى مرض وَمَات

وَذكر أَبُو الْوَفَاء بن عقيل أَن بعض السلاطين طلبه وَأَنه هلك وَله سِتّ وَثَلَاثُونَ سنة مَعَ مَا انْتهى إِلَيْهِ من المخازي

وَذكر ابْن خلكان أَنه هلك فِي سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ برحبة مَالك ابْن طوق وَقيل بِبَغْدَاد وَتَقْدِير عمره أَرْبَعُونَ سنة وَيُقَال إِنَّه عَاشَ اكثر من ثَمَانِينَ سنة وَقيل إِنَّه هلك سنة خمسين وَمِائَتَيْنِ وَقَالَ ابْن النجار بَلغنِي إِنَّه هلك سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ لَعنه الله وأخزاه إِن كَانَ مَاتَ على اعْتِقَاده هَذَا

ص: 158

27 -

(تعَالَلْتِ كَيْ أشْجَى ومَا بِكِ عِلَّةٌ

تُرِيدينَ قتلِي قَدْ ظَفِرْتِ بذلِكِ)

الْبَيْت لِابْنِ الدمينة من قصيدة من الطَّوِيل أَولهَا

(قِفي يَا أميم القلبِ نقضِ لبانةً

وَنشكُو الهَوى ثمَّ افعلِي مَا بدالك)

(سَلِي البانةَ الغنَّاء بالأجْرَعِ الَّذِي

بهِ المَاء هلْ حيَّيتُ أطلالَ دارِكِ)

(وَهلْ قمتُ فِي أطلَالِهنَّ عَشيَّةَ

مقامَ أخِي البأساء واخترتُ ذلِكِ)

(وَهَل كَفْكَفَت عينايَ بِالدَّار عَبرةً

فُرَادَى كنظم اللؤلؤُ المتسالك) // الطَّوِيل //

ويروى أَن أَولهَا

(قفي قبلَ وشْك البينِ يَا ابنةَ مالكِ

وَلَا تحرمِينا نظرَةً من جمالك)

وَبعده الْبَيْت وَبعده

(وقولكِ للعوّاد كيفَ تروْنه

فَقَالُوا قَتِيلا قلتِ أيسرُ هَالك)

(لَئِن سَاءنِي أَن نلتني بمساءةٍ

لقد سرَّني أَنِّي خطرتُ ببالكِ)

(لِيَهنك إمساكي بكفيِّ على الحشا

ورقْراق دمعي رَهبةً من مطالكِ)

(فَلَو قلتِ طأ فِي النارِ أعلمُ أَنه

رِضاً لَك أَو مُدنٍ لنا من وِصالكِ)

(لقدَّمْتُ رجْلي نَحْوهَا فَوطئتَها

هُدى منكِ لي أَو ضلَّة من ضلالك)

(أَرى الناسَ يرجونَ الربيعَ وَإِنَّمَا

رَجائي الَّذِي أرجوهُ خير نوالكِ)

(أبْيني أَفِي يُمنى يَديك جَعَلتني

فأفرحَ أمْ صَيَّرتِني فِي شمالكِ) // الطَّوِيل //

وَمعنى أشجى أَحْزَن من شجى يشجى وَمَا شجا يشجو فَهُوَ مُتَعَدٍّ وَإِنَّمَا قَالَ قد ظَفرت بذلك وَلم يقل بقتلي لادعائه أَن قَتله ظهر ظُهُور المحسوس بالبصر الْمشَار إِلَيْهِ باسم الْإِشَارَة

وَالشَّاهِد فِيهِ وضع اسْم الْإِشَارَة مَوضِع الْمُضمر لادعاء كَمَال ظُهُوره وَإِن كَانَ من غير بَاب الْمسند إِلَيْهِ

ص: 159

وَابْن الدمينة اسْمه عبد الله بن عبيد الله أحد بني عَامر بن تيم الله والدمينة أمه وَهِي سَلُولِيَّة ويكنى ابْن الدمينة أَبَا السّري وَهُوَ شَاعِر مَشْهُور لَهُ غزل رَقِيق الْأَلْفَاظ دَقِيق الْمعَانِي وَكَانَ النَّاس فِي الصَّدْر الأول يسْتَحلُّونَ شعره ويتغنون بِهِ حدث إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْموصِلِي قَالَ كَانَ الْعَبَّاس بن الْأَحْنَف إِذا سمع شَيْئا يستحسنه أطرفني بِهِ وَأَنا أفعل مثل ذَلِك فَجَاءَنِي يَوْمًا فَوقف بَين النَّاس وَأنْشد لِابْنِ الدمينة

(ألَا يَا صبَا نَجْدٍ مَتى هِجْتِ من نجدِ

لقدْ زادني مَسْرَاكِ وجدا على وجد)

(إِن هَتفتْ وَرْقَاء فِي رونق الضُّحَى

على فنن عض النَّبَات من الرَّندِ)

(بكيتَ كَمَا يبكي الوليدُ وَلم تَكُنْ

جَزُوعاً وأبديتَ الَّذِي لم تكن تُبْدِي)

(وقدْ زَعَمُوا أنَّ المحبَّ إِذا دنا

يملُّ وَأَن النأي يشفي من الوجد)

(بِكُل تَدَاوينا فَلم يُشْفَ مَا بنَا

على أَن قرب الدّار خيرٌ من الْبعد)

(على أَن قربَ الدَّار لَيسَ بِنافعٍ

إِذا كَانَ منْ تهواهُ ليسَ بِذِي ود) // الطَّوِيل //

ثمَّ ترنح سَاعَة ترنخ النشوان ودبح أُخْرَى ثمَّ قَالَ أنطح العمود رَأْسِي من

ص: 160

حسن هَذَا فَقلت لَا ارْفُقْ بِنَفْسِك

وَحدث ابْن ربيح راوية ابْن هرمة قَالَ لَقِي ابْن هرمة بعض أَصْحَابه بالبلاط فَقَالَ لَهُ من أَيْن أَقبلت قَالَ من الْمَسْجِد فَقَالَ فَأَي شَيْء صنعت هُنَاكَ قَالَ كنت جَالِسا مَعَ إِبْرَاهِيم بن الْوَلِيد المَخْزُومِي قَالَ فَأَي شَيْء قَالَ قَالَ أَمرنِي أَن أطلق امْرَأَتي قَالَ فَأَي شَيْء قلت لَهُ قَالَ مَا قلت شَيْئا قَالَ فوَاللَّه مَا قَالَ لَك هَذَا إِلَّا لأمر أظهرته عَلَيْهِ وكتمتنيه أَفَرَأَيْت لَو أَمرته بِطَلَاق امْرَأَته أَكَانَ يطلقهَا قَالَ لَا وَالله قَالَ فَابْن الدمينة كَانَ أنصف مِنْك كَانَ يهوى امْرَأَة من قومه فَأرْسلت إِلَيْهِ إِن أَهلِي قد نهوني عَن لقائك ومراسلتك فَأرْسل إِلَيْهَا يَقُول

(أريت الْآمِر يَك بِقطع حبلي

مريهم فِي أحبتهم بِذَاكَ)

(فَإِن هم طاوعوك فطاوعيهم

وَإِن عاصوك فاعصي من عصاك)

(أَما وَالرَّاقصاتِ بِكُل فجٍ

وَمَنْ صلى بنُعْمانِ الأرَاكِ)

(لقد أضمرْتُ حبَّك فِي فُؤَادِي

وَما أضمرْتُ حبّاً مِن سواكِ) // الوافر //

وَمثل هَذَا الْخَبَر مَا حَكَاهُ الْأَصْمَعِي قَالَ مَرَرْت بِالْكُوفَةِ وَإِذا أَنا بِجَارِيَة تطلع من جِدَار إِلَى الطَّرِيق وفتى وَاقِف وظهره إِلَيّ وَهُوَ يَقُول أسهر فِيك وتنامين عني وتضحكين مني وأبكي وتستريحين وأتعب وأمحضك الْمحبَّة وتمذقينها وأصدقك وتنافقيني ويأمرك عدوي بهجري فتطيعينه ويأمرني

ص: 161

نصيحي بذلك فأعصيه ثمَّ تنفس وأجهش باكياً فَقَالَت لَهُ إِن أَهلِي يمنعونني مِنْك وينهونني عَنْك فَكيف أصنع فَقَالَ لَهَا

(أريت الْآمِر يَك بِقطع حبلي

مريهم فِي أحبتهم بِذَاكَ)

(فَإِن هم طاوعوك فطاوعيهم

وَإِن عاصوك فاعصي من عصاك) // الوافر //

ثمَّ الْتفت فرآني فَقَالَ يَا فَتى مَا تَقول أَنْت فِيمَا قلت فَقلت لَهُ وَالله لَو عَاشَ ابْن أبي ليلى مَا حكم إِلَّا بِمثل حكمك

وَحدث ابْن أبي السرى عَن هِشَام قَالَ هوى ابْن الدمينة امْرَأَة من قومه يُقَال لَهَا أُمَيْمَة فهاج بهَا مُدَّة فَلَمَّا وصلته تجنى عَلَيْهَا وَجعل يَنْقَطِع عَنْهَا ثمَّ زارها ذَات يَوْم فتعاتبا طَويلا ثمَّ أَقبلت عَلَيْهِ فَقَالَ وَالشعر لَهَا

(وأنْتَ الَّذِي أخلفتني مَا وَعَدتَنْي

وأشمَتَّ بِي من كَانَ فِيكَ يَلومُ)

(وأبرزتني للنَّاس ثمَّ تَركتَنْي

لَهُم غَرضاً أُرْمَى وَأَنت سليمُ)

(فَلوْ أَن قَوْلاً يَكْلَمُ الْجِسْم قد بَدَا

بجسميَ من قولِ الوشاة كلوم) // الطَّوِيل //

قَالَ فأجابها ابْن الدمينة فَقَالَ

(وأنتِ الَّتِي كَلَّفْتِني دَلَجَ السُّرى

وَجُونُ القَطا بالجَلهَتين جُثُومُ)

ص: 162

(وأنْتِ الَّتِي قَطَّعتِ قلبِي حَرَارةً

ومزقت جُرْحَ الْقلب فهوَ كليمُ)

(وَأَنت الَّتِي أحْفَظت قومِي فَكلُّهم

بعيد الرِّضَا داني الصدود كظيم) // الطَّوِيل //

قَالَ ثمَّ تزَوجهَا بعد ذَلِك وَقتل وَهِي عِنْده كَمَا سَيَأْتِي

وَحدث أَبُو الْحسن الينبعي قَالَ بَينا أَنا وصديق لي من قُرَيْش نمشي بالبلاط لَيْلًا فَإِذا بِظِل نسْوَة فِي الْقَمَر فالتقينا فَإِذا بِجَمَاعَة نسْوَة فَسمِعت وَاحِدَة مِنْهُنَّ تَقول أهوَ هُوَ فَقَالَت الْأُخْرَى نعم وَالله إِنَّه لَهو هُوَ فدنت مني ثمَّ قَالَت يَا كهل قل لهَذَا الَّذِي مَعَك

(ليسَتْ لياليكَ فِي خَاخ بِعَائدةٍ

كَمَا عَهدتَ وَلَا أيامُ ذِي سلم) // الْبَسِيط //

فَقلت لَهُ أجب فقد سَمِعت فَقَالَ قد وَالله قطع بِي وأرتج عَليّ فأجب عني فَالْتَفت إِلَيْهَا ثمَّ قلت

(فَقلت لَهَا يَا عز كل مُصِيبَة

إِذا وطنت يَوْمًا لَهَا النَّفس ذلت) // الطَّوِيل //

فَقَالَت الْمَرْأَة أَواه ثمَّ مَضَت ومضينا حَتَّى إِذا كُنَّا بمفرق طَرِيقين مضى الْفَتى إِلَى منزله ومضيت إِلَى منزلي فَإِذا بِجَارِيَة تجذب طرف رِدَائي فَالْتَفت إِلَيْهَا فَقَالَت الْمَرْأَة الَّتِي كلمتك تدعوك فمضيت مَعهَا حَتَّى دخلت دَارا ثمَّ صرت إِلَى بَيت فِيهِ حَصِير وثنيت لي وسَادَة فَجَلَست ثمَّ جَاءَت جَارِيَة بوسادة مثنية فطرحتها ثمَّ جَاءَت الْمَرْأَة فَجَلَست عَلَيْهَا وَقَالَت لي أَأَنْت الْمُجيب قلت نعم قَالَت مَا كَانَ أفظ جوابك وأغلظه قلت وَالله مَا حضرني غَيره فَبَكَتْ ثمَّ قَالَت لي وَالله مَا خلق الله خلقا أحب إِلَيّ من إِنْسَان كَانَ مَعَك قلت وَأَنا الضَّامِن عَنهُ

ص: 163

لَك مَا تحبين قَالَت أَو تفعل قلت نعم فوعدتها أَن آتيها بِهِ فِي اللَّيْلَة الْقَابِلَة وانصرفت فَإِذا الْفَتى ببالي فَقلت مَا جَاءَ بك قَالَ علمت أَنَّهَا سترسل إِلَيْك وَسَأَلت عَنْك فَلم أجدك فَعلمت أَنَّك عِنْدهَا فَجَلَست أنتظرك فَقلت لَهُ قد كَانَ كل مَا ظَنَنْت ووعدتها أَن آتيها بك فِي اللَّيْلَة الْقَابِلَة فَمضى ثمَّ أَصْبَحْنَا فتهيأنا ورحنا فَإِذا الْجَارِيَة تنتظرنا فمضت أمامنا حَتَّى دَخَلنَا الدَّار فَإِذا برائحة الطّيب وَجَاءَت فَجَلَست مَلِيًّا ثمَّ أَقبلت عَلَيْهِ فعاتبته طَويلا ثمَّ ذكرت الأبيات الَّتِي أنشدتها امْرَأَة ابْن الدمينة ثمَّ سكتت فَسكت الْفَتى هنيهة ثمَّ قَالَ

(غَدَرتِ وَلم أغدر وخُنْتِ وَلم أخُنْ

وَفِي دونِ هَذَا للمُحِبِّ عزاءُ)

(جَزيتُكِ ضِعفَ الوُد ثمَّ صَرَمتنِي

فحبكِ فِي قلبِي إِلَيْك أداءُ) // الطَّوِيل //

فالتفتت إِلَيّ وَقَالَت أَلا تسمع مَا يَقُول قد أَخْبَرتك قَالَ فغمزته فَكف ثمَّ قَالَت

(تجاهَلْتَ وَصْلي حِين لَّجتْ عَمايتي

فَهَلا صَرَمْتَ الحبْلَ إِذْ أَنا مُبصرُ)

(ولي من قُوَي الحبْلِ الَّذِي قد قَطعتهُ

نَصيبٌ وَإِذ رَأْيِي جَميع مُوَفِّرُ)

(وَلكنَّما آذنْتُ بِالصبرِ بَغتةً

ولسْتُ على مثل الَّذِي جئتَ أقدِر) // الطَّوِيل //

فَقَالَ الْفَتى مجيباً لَهَا

(لقد جَعَلَتْ نَفسِي وَأَنت اجتَرمتِه

وكنْتِ أحَبَّ النَّاس عنكِ تَطيبُ)

فَبَكَتْ ثمَّ قَالَت أَو قد طابت نَفسك لَا وَالله مَا فِيك خير بعْدهَا فَعَلَيْك السَّلَام ثمَّ التفتت إِلَيّ وَقَالَت قد علمت أَنَّك لَا تفي بضمانك عَنهُ وانصرفنا

وَكَانَ السَّبَب فِي قتل ابْن دمينة أَن رجلا من سلول يُقَال لَهُ مُزَاحم بن عَمْرو كَانَ يَرْمِي بِامْرَأَة ابْن الدمينة وَكَانَ اسْمهَا حماء وَقيل حمادة فَكَانَ

ص: 164

يَأْتِيهَا ويتحدث إِلَيْهَا حَتَّى اشْتهر ذَلِك فَمَنعه ابْن الدمينة من إتيانها وَاشْتَدَّ عَلَيْهَا فَقَالَ مُزَاحم يذكر ذَلِك

(يَا ابْن الدمينة والأخبارُ يرفَعها

وَخْدُ النجائب والمحقور يخفيها

(يَا ابْن الدمينة إِن تغْضب لما فَعَلَتْ

فَطالَ خِزْيُكَ أَو تَغضبْ مَوْاليها)

(أَو تُبغضوني فكم من طعنةٍ نَفَذَتْ

يَغذو خِلال اختْلاج الجوْفِ غاذيها)

(جاهَدْتُ فِيهَا لكمُ إِنِّي لكم أبدا

أبغي معايبَكم عَمْداً فآتيها)

(فَذَاك عِنْدِي لكم حَتَّى تُغَيِّبَنِي

غَبراء مظلمَةٌ هارٍ نَوَاحِيهَا)

(أَغْشى نِساءَ بني تَمِيم إِذا هَجَعَتْ

عنِّي العُيُونُ وَلَا أبغي مقاريها)

(كم كاعِبٍ من بني تَمِيم قَعَدْتُ لَهَا

وعانسٍ حِين ذاق النومَ حامِيها)

(كقعدةِ الأعسر العُلفوف منتحياً

مَتينة مِنْ متين النبل يَرميها)

(علامةٌ كَيَّةٌ مَا بينَ عانَتها

وَبينَ سُبتها لَا شلّ كلويها)

(وشَهقةٌ عِنَد حِس الماءِ تشهقُها

وقولُ رُكبتها قِضْ حِين تثنيها)

ص: 165

(وَتعدلُ الأير إنْ زَاغَتْ فتبعثهُ

حتىَّ يُقيمَ برِفقٍ صدْرَهُ فِيها)

(بَين الصفوقين فِي مُستهدف وَمِدٍ

ذِي حَرّة ذاق طعمَ الموتِ صاليها)

(مَاذَا تَرى يَا عبيد الله فِي امْرَأةٍ

ليستْ بِمُحصنةٍ عَذراء حاويها)

(أيامَ أنتَ طَريدٌ لَا تُقاربُها

وَصادفَ القوسَ فِي الغرَّاتِ باريها)

(ترَى عَجوزَ بَني تَمِيم مُلفعةً

شُمطاً عوارِضُها رُبْداً دَواهيها)

(إِذ تجْعَل الدفنس الورهاء عذرتها

قشارة من أدِيم الأرضِ تفريها)

(حتىَّ يظل هَذَانِ الْقَوْم يحسبها

بكر أَو قبل هوى فِي الدَّار هاويها) // الْبَسِيط //

وَلما بلغ ابْن الدمينة شعر مُزَاحم أَتَى امْرَأَته فَقَالَ لَهَا قد قَالَ فِيك هَذَا الرجل مَا قَالَ وَقد بلغك قَالَت وَالله مَا رأى مني ذَلِك قطّ قَالَ فَمن أَيْن لَهُ العلامات قَالَت وصفتهن لَهُ النِّسَاء قَالَ هَيْهَات وَالله أَن يكون ذَلِك كَذَلِك ثمَّ أمسك مُدَّة وصبر حَتَّى ظن أَن مزاحماً قد نسي الْقِصَّة ثمَّ أعَاد عَلَيْهَا القَوْل وأعادت الْحلف أَن ذَلِك مِمَّا وَصفه لَهُ النِّسَاء فَقَالَ لَهَا وَالله لَئِن لم تمكنيني مِنْهُ لأَقْتُلَنك فَعلمت أَنه سيفعل ذَلِك فَبعثت إِلَيْهِ وواعدته لَيْلًا وَقعد لَهُ ابْن الدمينة وَصَاحب لَهُ فَجَاءَهَا للموعد فَجعل يكلمها وَهِي مَكَانهَا فَلم تكَلمه فَقَالَ لَهَا يَا حماء مَا هَذَا الْجفَاء اللَّيْلَة قَالَ فَتَقول لَهُ هِيَ بِصَوْت ضَعِيف ادخل فَدخل فَأَهوى بِيَدِهِ ليضعها عَلَيْهَا فوضعها على ابْن الدمينة فَوَثَبَ عَلَيْهِ هُوَ وَصَاحبه وَقد جعل لَهُ حصاً فِي ثوب فَضرب بن كبده حَتَّى قَتله وَأخرجه فطرحه مَيتا فجَاء أَهله فاحتملوه وَلم يَجدوا بِهِ أثر السِّلَاح فَعَلمُوا أَن ابْن الدمينة قَتله وَقد قَالَ ابْن الدمينة فِي تَحْقِيق ذَلِك

ص: 166

(قَالُوا هَجتكُ سَلولُ الْيَوْم مخيفة

فاليومَ أهجو سَلولاً لَا أخافِيها)

(قَالُوا هَجاكَ سَلوليٌّ فقلتُ لهمْ

قد أنصفَ الصَّخْرَة الصماء رامِيها)

(رِجَالهمْ شرُّ مَنْ يَمشي ونسوتُهم

شرُّ البريَّةِ اسْتَاذلّ حامِيها)

(يَحككْنَ بالصخر أستاها لَهَا نَقبٌ

كَمَا يَحك نقابَ الجرْبِ طاليها) // الْبَسِيط //

وَقَالَ أَيْضا يذكر دُخُول مُزَاحم وَوضع يَده عَلَيْهِ

(لكَ الخيرُ إِن وَاعدت حماء فالقها

نَهَارا وَلَا تُدْلج إِذا الَّليلُ أظْلما)

(فإنَّكَ لَا تَدري أبَيْضَاء طَفْلةً

تُعانقُ أَمْ ليثاً مِنَ الْقَوْم قَشْعمَا)

(فَلما سرى عَن ساعِديَّ ولحيتي

وَأيقنَ أنِّي لست حماء جمجما) // الطَّوِيل //

ثمَّ أَتَى ابْن الدمينة امْرَأَته فَطرح على وَجههَا قطيفة ثمَّ جلس عَلَيْهَا حَتَّى قَتلهَا فَلَمَّا مَاتَت قَالَ

(إِذا قَعدْتُ على عِرْنينِ جاريةٍ

فوقَ القطيفةِ فَادعوا ليَ بحفار) // الْبَسِيط //

فَبَكَتْ بنت لَهُ مِنْهَا فَضرب بهَا الأَرْض فَقَتلهَا أَيْضا وَقَالَ متمثلاً

(لَا تغدوا مِنْ كَلْبِ سَوْءِ جَرْوَا

)

فَخرج جنَاح أَخُو الْمَقْتُول إِلَى أَحْمد بن إِسْمَاعِيل فاستعداه على ابْن الدمينة فَبعث إِلَيْهِ فحبسه وَقَالَت أم أبان وَالِدَة مُزَاحم الْمَقْتُول وَهِي من بني خثعم ترثي ابْنهَا وتحرض مصعباً وجناحا أَخَوَيْهِ

ص: 167

(بأهلي وَمَالِي بَل بِجُلِّ عَشيرتي

قَتِيل بني تَمِيم بِغيرِ سِلاح)

(فَهلَاّ قتلتُمْ بِالسِّلَاحِ ابْنَ أختِكم

فتظهرَ فيهِ للشهودِ جِراحُ)

(فَلَا تطمعوا فِي الصُّلْح مَا دُمت حيَّةً

وَما دَامَ حيّاً مُصعبٌ وَجناحُ)

(أَلمْ تعلمُوا أنَّ الدوَائِر بَيْننَا

تَدور وَأَن الطالبين شحاح) // الطَّوِيل //

وَلما طَال حبس ابْن الدمينة وَلم يجد عَلَيْهِ أَحْمد بن إِسْمَاعِيل سَبِيلا وَلَا حجَّة خلاه وَقتلت بَنو سلول من خثعم رجلا مَكَان الْمَقْتُول وَقتلت خثعم بعد ذَلِك نَفرا من سلول وَلَهُم قصَص وأخبار كَثِيرَة ثمَّ إِن ابْن الدمينة أقبل حَاجا بعد مُدَّة فَنزل بتبالة فَعدا عَلَيْهِ مُصعب أَخُو الْمَقْتُول لما رَآهُ وَكَانَت أمه حرضته وَقَالَت لَهُ اقْتُل ابْن الدمينة فَإِنَّهُ قتل أَخَاك وهجا قَوْمك وذم أختك وَقد كنت أعذرك قبل هَذَا لِأَنَّك كنت صَغِيرا والآن قد كَبرت فَلَمَّا أكثرت عَلَيْهِ خرج من عِنْدهَا وبصر بِابْن الدمينة وَاقِفًا ينشد النَّاس فغدا إِلَى جزار فَأخذ شفرته وَعدا على ابْن الدمينة فجرحه بهَا جراحتين فَقيل إِنَّه مَاتَ لوقته وَقيل بل سلم من تِلْكَ الدفعة وَمر بِهِ مُصعب بعد ذَلِك وَهُوَ فِي سوق العبلاء ينشد أَيْضا فعلاه بِسَيْفِهِ حَتَّى قَتله وَعدا وَتَبعهُ النَّاس حَتَّى اقتحم دَارا وأغلقها عَلَيْهِ فَجَاءَهُ رجل من قومه فصاح بِهِ يَا مُصعب إِن لم تضع يدك فِي يَد السُّلْطَان قتلتك الْعَامَّة فَاخْرُج فَلَمَّا عرفه قَالَ لَهُ أَنا فِي ذِمَّتك حَتَّى تسلمني إِلَى السُّلْطَان فقذفه السُّلْطَان فِي سجن تبَالَة قَالَ وَمكث ابْن الدمينة جريحاً لَيْلَة ثمَّ مَاتَ فِي غَد وَقَالَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَة يحرض قومه ويوبخهم

ص: 168

(هتفتَ بأكلبٍ ودعوتَ قيسا

فَلَا خُذُلاً دَعوْتَ وَلَا قليلَا)

(ثَأرْتَ مُزاحِما وَسررت قيسا

وَكنتَ لِما هممْتَ بِهِ فَعولَا)

(فَلَا تَشْلَلْ يدَاكَ وَلا تَزَالا

تُفيدانِ الغنائِمَ وَالجزيلا)

(فلوْ كَانَ ابْن عبدِ اللهِ حيّاً

لَصبَّحَ فِي منازِلِها سَلولَا) // الوافر //

وَبلغ مصعباً أَخا الْمَقْتُول أَن قوم ابْن الدمينة يُرِيدُونَ أَن يقتحموا عَلَيْهِ سجن تبَالَة فيقتلوه فَقَالَ يحرض قومه

(لقيتُ أَبَا السَّريّ وَقد تكالا

لهُ حقُّ العداوةِ فِي فُؤَادِي)

(فكادَ الغيظُ يَفْرِطُني إليهِ

بطعنٍ دُونهُ طعنُ الشدادِ)

(إِذا نبحَتْ كِلابُ السجْن حَولي

طمعت هَشاشةً وَهفا فُؤَادِي)

(طماعاً أنْ يدُقّ السجنَ قومِي

وَخوفاً أَن تُبَيِّتني الأعادي)

(فَمَا ظَنِّي بِقومي شرّ ظنّ

وَلا أَن يُسلموني فِي البلادِ)

(وَقدْ جدَّلتُ قاتلَهمْ فأمسى

يَمجُّ دَمَ الوتين على الوساد) // الوافر //

فَجَاءَت بَنو عقيل إِلَيْهِ لَيْلًا فكسروا السجْن وأخرجوه مِنْهُ فهرب إِلَى صنعاء

وَمن شعر أبن الدمينة الأبيات الْمَشْهُورَة

ص: 169

(أَقضي نَهاري بالحديثِ وبالمنى

ويَجْمعُنْي وَالهمَّ بِاللَّيْلِ جامعُ)

(نَهاري نَهارُ النَّاس حَتَّى إِذا بدا

ليَ الليلُ شاقتني إليكِ المضاجعُ)

(لَقدْ ثَبتَتْ فِي القلبِ مِنكِ مَحَبة

كَمَا ثبتَتْ فِي الراحتينِ الأصابِع) // الطَّوِيل //

وَهِي من قصيدة طَوِيلَة يخلطها النَّاس كثيرا بقصيدة لمَجْنُون ليلى لِأَنَّهَا توافقها فِي الْوَزْن والقافية

28 -

(إِلهي عَبْدُكَ العَاصيِ أتَاكاَ

)

هُوَ من الوافر وَلَا أعلم قَائِله وَتَمَامه

(

(مُقِرّاً بالذنُوبِ وقدْ دَعاكَا

)

(فإنْ تغفرْ فأنتَ لِذاكَ أهلٌ

وَإنْ تطرُدْ فمنْ يَرْحَمْ سواكا) // الوافر //

والطرد الأبعاد

وَالشَّاهِد فِيهِ وضع الْمظهر وَهُوَ عَبدك مَوضِع الْمُضمر وَهُوَ أَنا للاستعطاف وَهُوَ طلب الْعَطف وَالرَّحْمَة إِذْ لَيْسَ فِيهِ مَا فِي الْمظهر من اسْتِحْقَاق الرَّحْمَة وترقب الرأفة وَإِن كَانَ من غير بَاب الْمسند إِلَيْهِ أَيْضا

29 -

(تَطَاوَلَ لَيلَك بِالأثمُدِ

)

قَائِله امْرُؤ الْقَيْس الْكِنْدِيّ الصَّحَابِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَهُوَ أول

ص: 170

قصيدة من المتقارب وَتَمَامه

(ونامَ الخلِيُّ وَلمْ تَرْقُدِ

)

وَبعده

(وباتَ وَباتَتْ لهُ لَيلةٌ

كلَيْلَةِ ذِي العَائِرِ الأَرْمَد)

(وذلكَ مِنْ نبأ جاءنِي

وأنبئتُهُ عَن أبي الأسوَدِ)

(ولوْ عنْ نَثَا غيرهِ جَاءنِي

وَجُرْحُ اللسانِ كَجُرْحِ الْيَد)

(لَقُلْتُ مِنَ القَوْل مَالا يزَال

يُؤْثَرُ عني يَدَ المسنَدِ)

(بِأَيّ عَلاقتنَا ترْغبونَ

أعَنْ دَمِ عَمْرٍو على مَرْثَدِ)

(فإنْ تَدْفنوا الدَّاء لَا نُخفهِ

وإنْ تَبْعَثوا الدَّاء لَا نَقعُدِ)

(وَإِن تَقتُلونَا نُقاتِلكُمْو

وإِنْ تقصدوا لدمٍ نَقصدِ)

(مَتىَ عهدنا بطعان الكماة

والمَجدِ والحمدِ والسودَدِ)

(وَبني القباب وملء الجفان

والنَّارِ والحَطَبِ المُوَقَدِ) // المتقارب //

والأثمد بِفَتْح الْهمزَة وَضم الْمِيم وَرُوِيَ بكسرهما اسْم مَوضِع والعائر بِالْمُهْمَلَةِ هُوَ القذي يَقع فِي الْعين وَقيل هُوَ نفس الرمد

وَالشَّاهِد فِيهِ الِالْتِفَات وَهُوَ فِي قَوْله ليلك لِأَنَّهُ خطاب لنَفسِهِ وَمُقْتَضى الظَّاهِر ليلى بالتكلم

ص: 171

وامرؤ الْقَيْس هُوَ ابْن عانس بنُون وسين مُهْملَة ابْن الْمُنْذر ابْن امرىء الْقَيْس بن السمط بن عَمْرو بن مُعَاوِيَة بن الْحَرْث يَنْتَهِي نسبه لكندة الْكِنْدِيّ الشَّاعِر لَهُ صُحْبَة وَشهد رضي الله عنه فتح النُّجَيْر بِالْيمن وَهُوَ حصن قرب حَضرمَوْت ثمَّ حضر الكنديين حِين ارْتَدُّوا فَثَبت على إِسْلَامه وَلم يكن فِيمَن ارْتَدَّ ثمَّ نزل الْكُوفَة وَلما خَرجُوا ليقتتلوا وثب على عَمه فَقَالَ لَهُ وَيحك يَا امْرأ الْقَيْس أتقتل عمك فَقَالَ لَهُ أَنْت عمي وَالله عز وجل رَبِّي وَهُوَ الَّذِي خَاصم إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ربيعَة بن عيدَان بِكَسْر الْعين وَالْيَاء التَّحْتِيَّة وَيُقَال فِيهِ عَبْدَانِ بِالْبَاء الْمُوَحدَة مَكْسُورَة مَعَ تَشْدِيد الدَّال وَيُقَال بِفَتْح الْعين وَسُكُون الْبَاء وَكَانَت الْمُخَاصمَة فِي ارْض فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بينتك قَالَ لَيْسَ لي بَيِّنَة فَقَالَ صلى الله عليه وسلم يَمِينه وَهُوَ الْقَائِل رضي الله عنه

(قف بالديار وقُوف حَابِسْ

وَتأنَّ إنّكَ غيرُ آيِسْ)

(لَعبتْ بِهن العاصفات

الرائحَاتُ إِلَى الروامِس)

(مَاذَا عَلَيْك من الْوُقُوف

بهَامِدِ الطللينِ دَارسْ)

(يَا رُبَّ باكيةٍ عَليَّ

وَمُنْشِدٍ لِي فِي المجالِسْ)

(أوْ قَائِلٍ يَا فَارِسًا

مَاذَا رُزِئتَ مِنَ الفَوارسْ)

(لَا تَعجبوا أنْ تسمعُوا

هَلكَ امْرُؤ الْقَيْس بن عانس) // من مجزوء الْكَامِل //

ص: 172

وَفِي الصَّحَابَة أَيْضا امْرُؤ الْقَيْس بن أبي الْأصْبع الْكلابِي وامرؤ الْقَيْس ابْن الفاخر بن الطماع الْخَولَانِيّ

30 -

(طَحَا بِكَ قلب فِي الحسان طروب

بعيد الشَّبَاب عصر حَان مشيب)

(يُكلّفنِي لَيلىَ وقدْ شطّ ولْيُهَا

وعَادَتْ عَوَادٍ بينَنَا وخُطُوبُ)

البيتان لعلقمة بن عَبدة الْفَحْل من قصيدة من الطَّوِيل يمدح بهَا الْحَارِث بن جبلة بن أبي شمر الغساني وَكَانَ أسر أَخَاهُ شاساً فَرَحل إِلَيْهِ يطْلب فكه وَبعد الْبَيْتَيْنِ

(منعَّمةٌ لَا يستطَاعُ كلامَهَا

على بابهَا من أَن تزارَ رَقيبُ)

(إِذا غابَ عنهَا البعْلُ لم تفش شَره

وتُرْضى إيابَ البعل حِين يؤبُ)

(فَلا تَعْدلِي بيني وَبَين مُغَمّرٍ

سقتك روايَا المزنِ حِين تصوبُ)

(سقاك يمانِ ذُو حنينٍ وعارضٍ

تروحُ بِهِ جنْحَ الْعشي جَنوبُ)

(وَمَا أنتَ أمْ مَا ذكرُها رَبعَيةً

يخط لَهَا من ثَرمدَاء قليبُ)

(فَإِن تسألولني بالنساءِ فإنني

خبيرٌ بأدواء النِّسَاء طبيبُ)

ص: 173

(إِذا شابَ رأسُ المَرء أَو قل مالُهُ

فَليسَ لَهُ مِنْ وُدهِنَّ نصيبُ)

(يُرِدْنَ ثراء المَال حَيْثُ عَلمته

وشَرْخُ شبابٍ عِنْدهن عَجِيب) // الطَّوِيل //

وَهِي طَوِيلَة يَقُول فِي غَرَضه مِنْهَا

(وَفِي كل حَيّ قد خبَطْتَ بِنِعْمَة

فَحق لشَاسٍ من ندَاكَ ذَنوبُ)

فَلَمَّا سمع الْحَارِث هَذَا الْبَيْت قَالَ نعم وأذنبه وَلما سمع قَوْله فِي وصف النِّسَاء قَالَ صدق فوك لله أَبوك أَنْت طبيبهن والخبير بأدوائهن وَقد أَخذه من قَول امرىء الْقَيْس

(أراهن لَا يحببن من قل مَاله

وَلَا من رأين الشيب فِيهِ وقوَّسَا) // الطَّوِيل //

وَمن لطيف مَا يذكر من كَرَاهَة النِّسَاء للشيب قَول مُحَمَّد بن عِيسَى المَخْزُومِي

(قالتْ أحبك قلتُ كَاذِبَة

غُرى بذا مَنْ لَيْسَ ينتقدُ)

(لَو قلتِ لي أشناكَ قلتُ نعمْ

الشيب لَيْسَ يحبُّهُ أحد) // الْكَامِل //

وَمعنى طحابك أَي اتَّسع وَذهب بك كل مَذْهَب وطروب مَأْخُوذ من الطَّرب وَهُوَ استخفاف الْقلب فِي الْفَرح أَي لَهُ طرب فِي طلب الحسان ونشاط فِي مراودتهن وَمعنى بعيد الشَّبَاب حِين ولي وَكَاد ينصرم وَمعنى عصر حَان مشيب أَي زمَان قرب المشيب وإقباله على الهجوم وَمعنى شط بعد وَالْوَلِيّ الْقرب والعوادي الصوارف وعوادي الدَّهْر عوائقه والخطوب جمع خطب وَهُوَ الْأَمر الْعَظِيم

وَالشَّاهِد فِيهِ الِالْتِفَات من الْخطاب فِي طحابك إِلَى التَّكَلُّم فِي يكلفني وفاعله ضمير الْقلب وليلى مَفْعُوله الثَّانِي وَرُوِيَ بِالتَّاءِ الفوقانية على أَنه مُسْند إِلَى ليلى وَالْمَفْعُول مَحْذُوف أَي تكلفني شَدَائِد فراقها أَو على أَنه خطاب للقلب فَفِيهِ الْتِفَات آخر من الْغَيْبَة إِلَى الْخطاب وَفِي طحابك الْتِفَات آخر عِنْد السكاكي لَا عِنْد الْجُمْهُور

ص: 174

وَأَشَارَ عَلْقَمَة بصدر الْبَيْت الَّذِي قبل الْأَخير هُنَا إِلَى أَن المَال يستر شين الشيب وَيحسن قبيحه كَمَا قَالَ بَعضهم

(وخودٌ دعَتني إِلَى وصْلها

وعصرُ الشَّبيبةِ مني ذَهَبْ)

(فقلتُ مشيي مَا يَنطلي

فَقَالَت بَلى يَنْطلي بالذَّهبْ) // المتقارب //

وَذكرت بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ وَاقعَة ظريفة وَهِي أَنَّهُمَا أنشدا فِي مجْلِس كَانَ فِيهِ بعض ظرفاء الأدباء فَقَالَ مَا أعرف القافية فِي هذَيْن الْبَيْتَيْنِ إِلَّا بِحرف الرَّاء فَقَالَ لَهُ المنشد كَيفَ فَقَالَ وعصرُ الشَّبيبةِ مني سرى فَقَالَ وَكَيف تصنع فِي الْبَيْت الثَّانِي فَقَالَ فَقَالَت بلَى ينطلي بالخرا فاستحى المنشد وَانْصَرف من الْمجْلس خجلاً

وعلقمة بن عَبدة بن عبد الْمُنعم النعماني يَنْتَهِي نسبه إِلَى نزار وَكَانَ يُقَال لَهُ الْفَحْل لِأَنَّهُ خلف على امْرَأَة امرىء الْقَيْس لما حكمت لَهُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أشعر مِنْهُ وَكَانَ من خبر ذَلِك مَا حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدَة قَالَ كَانَ تَحت امرىء الْقَيْس امْرَأَة من طييء تزَوجهَا حِين جاور فيهم فَنزل بهم عَلْقَمَة الْفَحْل التَّمِيمِي فَقَالَ كل وَاحِد مِنْهُمَا لصَاحبه أَنا أشعر مِنْك فتحا كَمَا إِلَيْهَا فأنشدها امْرُؤ الْقَيْس قَوْله

ص: 175

(خليلي مرا بِي على أم جُنْدُب

لنَقضي لُباناتِ الْفُؤَاد المعذب) // الطَّوِيل //

حَتَّى مر بقوله مِنْهَا

(فللسوطِ أُلهُوبٌ وللساقِ درَّةٌ

وَللزَّجْرِ مِنهُ وَقْعُ أهوجَ مِنْعَب)

وأنشدها عَلْقَمَة قَوْله

(ذَهبتَ مِنَ الهجرانِ فِي غير مَذْهَبِ

) // الطَّوِيل //

حَتَّى انْتهى إِلَى قَوْله

(فأدركهن ثَانِيًا من عنانه

يَمُرّ كغيثٍ رائح مُتَحَلِّبِ)

فَقَالَت لَهُ عَلْقَمَة أشعر مِنْك قَالَ وَكَيف قَالَت لِأَنَّك زجرت فرسك وحركته بساقك وضربته بسوطك وَإنَّهُ جَاءَ هَذَا للصَّيْد ثَانِيًا من عنانه فَغَضب امْرُؤ الْقَيْس وَقَالَ لَيْسَ كَمَا قلت وَلَكِنَّك هويته فَطلقهَا فَتَزَوجهَا عَلْقَمَة بعد ذَلِك فَسمى عَلْقَمَة الْفَحْل وَمَا زَالَت الْعَرَب تسميه بذلك قَالَ الفرزدق

(والفحلُ علقمةُ الَّذِي كانتْ لهُ

حُلَلُ الْمُلُوك كلامَهُ نتنحَّلُ) // الْكَامِل //

وَعَن حَمَّاد الراوية قَالَ كَانَت الْعَرَب تعرض أشعارها على قُرَيْش فَمَا قبلوا

ص: 176

مِنْهُ كَانَ مَقْبُولًا وَمَا ردوا مِنْهُ كَانَ مردوداً فَقدم عَلَيْهِم عَلْقَمَة بن عَبدة فأنشدهم قصيدته الَّتِي أَولهَا

(هلْ مَا عَلمتَ وَمَا استْودعْتَ مَكْتُوم

أمْ حَبلها إِذْ نأتْكَ الْيَوْم مصروم) // الْبَسِيط //

فَقَالُوا هَذَا سمط الدَّهْر ثمَّ عَاد إِلَيْهِم فِي الْعَام الْقَابِل فأنشدهم قَوْله

(طحا بك قلب فِي الحسان طروب

بعيد الشَّبَاب عصر حَان مشيب) // الطَّوِيل //

فَقَالُوا هَذَانِ سمطا الدَّهْر

وَعَن حَمَّاد بن إِسْحَاق قَالَ سَمِعت أبي يَقُول سرق ذُو الرمة قَوْله

(يطفو إِذا مَا تَلَقَّتْهُ الجراثيم

) // الْبَسِيط //

من قَول العجاج

(إِذا تلقتهُ العقاقيلُ طفا

) // الرجز //

وَسَرَقَهُ العجاج أَيْضا من عَلْقَمَة بن عَبدة حَيْثُ يَقُول

(يطفو إِذا مَا تَلَقَّتْهُ العرانين

) // الْبَسِيط //

وَحدث الْعمريّ عَن لَقِيط قَالَ تحاكم عَلْقَمَة بن عَبدة التَّمِيمِي والزبرقان ابْن بدر السَّعْدِيّ والمخبل وَعَمْرو بن الْأَهْتَم إِلَى ربيعَة بن جدان الْأَسدي فَقَالَ أما أَنْت يَا زبرقان فشعرك كلحم لَا أنضج فيؤكل وَلَا ترك فينتفع بِهِ وَأما أَنْت يَا عَمْرو فشعرك كبرد حبرَة يتلألأ فِيهِ الْبَصَر فَكلما أعدته نقص وَأما أَنْت

ص: 177

يَا مخبل فَإنَّك قصرت عَن الْجَاهِلِيَّة وَلم تدْرك الْإِسْلَام وَأما أَنْت يَا عَلْقَمَة فَإِن شعرك كمزادة أحكم خرزها فَلَيْسَ يقطر مِنْهَا شَيْء

31 -

(ومَهْمَةٍ مُغْبرة أرْجاؤهُ

كأنَّ لونَ أرضه سَماؤهُ)

الْبَيْت لرؤبة بن العجاج من الرجز

والمهمة الْمَفَازَة الْبَعِيدَة والبلد المقفر وَالْجمع مهامة والمغبرة المتلونة بالغبرة والأرجاء الْأَطْرَاف والنواحي جمع رجا مَقْصُورا

وَالشَّاهِد فِيهِ الْقلب وَهُوَ أَن يَجْعَل أحد أَجزَاء الْكَلَام مَكَان الآخر وَالْآخر مَكَانَهُ وَهُوَ هُنَا فِي المصراع الثَّانِي وَمَعْنَاهُ كَأَن لون سمائه لغبرتها لون أرضه وَفِيه من الِاسْتِعَارَة مَا لَيْسَ فِي تَركه لإشعاره بَان لون السَّمَاء قد بلغ من الغبرة إِلَى حَيْثُ يشبه بِهِ لون الأَرْض فِيهَا

وَمن الْقلب قَول الشَّاعِر

(كَانَت فَريضَة مَا تقُولُ كَمَا

كانَ الزِّناءُ فريضةَ الرَّجْم) // الْكَامِل //

وَمِنْه قَول أبي تَمام يصف قلم الممدوح

(لُعابُ الأفاعي القاتِلات لُعابهُ

وأرْىُ الجَني اشْتارتْهُ أيْدٍٍ عواسِلُ) // الطَّوِيل //

وَقَول الآخر

(فَدَيت بنَفسه نَفسِي وَمَالِي

) // الوافر //

وَقَول الآخر

(يمشي فَيُقْعِسُ أَو يكب فيعثر

) // الْكَامِل //

ورؤبة بن العجاج تقدم ذكره فِي شَوَاهِد الْمُقدمَة

ص: 178

32 -

(كَمَا طينت بالفدن السَّياعا

)

قَائِله الْقطَامِي من قصيدة من الوافر يمدح بهَا زفر بن الْحَارِث الْكلابِي حِين أحاطت بِهِ قيس بنواحي الجزيرة وَأَرَادُوا قَتله فحال زفر بَينه وَبينهمْ وحماه وَمنعه وكساه وَأَعْطَاهُ مائَة نَاقَة وخلى سَبيله فَقَالَ يمدحه وَأول القصيدة

(قفي قَبلَ التَّفرق يَا ضُباعا

وَلَا يَكُ موْقِفٌ مِنْك الوَداعا)

(قفي فافْدي أسيرَكِ إِن قومِي

وقوْمَكِ لَا أرَى لهُم اجتماعا) // الوافر //

إِلَى أَن قَالَ يمدح زفر بن الْحَارِث

(وَمن يَكُنِ استَلَام إِلَى ثَويٍّ

فَقَدْ أحسنْتَ يَا زُفَرُ المتاعا)

(أكُفراً بعد ردِّ الموتِ عني

وبعْدَ عَطائك المائَةَ الرِّتاعا)

(فَلما أَن جرَى سِمَنٌ عَلَيْهَا

كَمَا طينت بالفدن السياعا)

(أمَرْتُ بهَا الرِّجَال ليأخُذُوها

ونحنُ نظُن أَن لن تُستَطاعا)

(فَلأْياً بعد لأيٍ أَدرَكوها

على مَا كَانَ إِذ طَرَحُوا الرِّقاعا)

(فَلَو بِيَدَيْ سِواكَ غَدَاةً زلَّتْ

بِيَ القدمانِ لم أرجُ اطِّلاعا)

ص: 179

(إِذن لَهلكتُ لَو كَانَت صغَارًا

من الْأَخْلَاق تُبْتَدعُ ابتداعا)

(فَلم أرَ مُنْعِمِينَ أقلَّ منا

وأكرَمَ عِنْدَمَا اصطنعوا اصطناعا)

(مِنَ البيضِ الوجوهِ بني نُفَيْلٍ

أبَتْ أخْلاقُهُمْ إِلَّا اتساعا) // الوافر //

وَهِي طَوِيلَة

والفدن محركة الْقصر المشيد والسياع بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة الطين بالتبن يطين بِهِ

وَالشَّاهِد فِيهِ الْقلب أَيْضا وَمَعْنَاهُ كَمَا طينت الفدن بالسياع وَهَذَا من قبيل الْقلب الْمَرْدُود لِأَن الْعُدُول عَن مُقْتَضى الظَّاهِر من غير نُكْتَة تَقْتَضِيه خُرُوج عَن تطبيق الْكَلَام لمقْتَضى الْحَال

والقطامي بِفَتْح الْقَاف وَضمّهَا اسْمه عُمَيْر بن شييم والقطامي لقب غلب عَلَيْهِ وَكَانَ نَصْرَانِيّا وَأسلم قَالَه ابْن عَسَاكِر فِي تَارِيخ دمشق وَهُوَ شَاعِر إسلامي مقل فَحل مجيد

وَعَن الشّعبِيّ رحمه الله قَالَ قَالَ عبد الْملك وَأَنا حَاضر للأخطل يَا أَبَا مَالك أَتُحِبُّ أَن لَك بشعرك شعر شَاعِر من الْعَرَب قَالَ اللَّهُمَّ لَا إِلَّا شَاعِرًا منا مغدف القناع خامل الذّكر حَدِيث السن إِن يكن فِي أحد خير فسيكون فِيهِ ولوددت أَنِّي سبقته إِلَى قَوْله

ص: 180

(وَإِنِّي لَصبَّارٌ على مَا ينوبني

وحسبك أَن الله أثنى على الصَّبْر) // الطَّوِيل //

وَرَوَاهُ صَاحب الدّرّ الفريد لأبي سعيد المَخْزُومِي يُخَاطب بِهِ امْرَأَته وَأول الأبيات

(ثِقِي بجميل الصبرِ مني على الهجر

وَلَا تثقي بِالصبرِ مني على الهجر) // الطَّوِيل //

وَأَرَادَ بالغنى مسببه أَعنِي الرَّاحَة وبالفقر المحنة يَعْنِي أَن السِّيَادَة مَعَ التَّعَب وَالْمَشَقَّة أحب إِلَيْهِ من الرَّاحَة والدعة بِدُونِهَا

وَالشَّاهِد فِيهِ وَصفه بالإطناب بِالنِّسْبَةِ إِلَى مصراع أبي تَمام لِأَنَّهُ مساوٍ لَهُ فِي أصل الْمَعْنى مَعَ قلَّة حُرُوفه

وَمثل ذَلِك قَول الشماخ

(إِذَا مَا رايةٌ رُفِعَتْ لمجدٍ

تلقَاهَا عرابة بِالْيَمِينِ) // الوافر //

وَقَول بشر بن أبي خازم

(إِذا مَا المكرماتُ رُفعن يَوْمًا

وقصَّرَ مُبْتَغُوها عَن مَداهَا)

(وَضاقَتْ أذرُعُ الْمُثْرِينَ فِيهَا

سما أوسٌ إِلَيْهَا فاحتواها) // الوافر //

والمعذل هُوَ ابْن غيلَان بن الحكم بن البحتري وَكَانَ أَبوهُ غيلَان شَاعِرًا أَيْضا

حدث عمَارَة قَالَ مر المعذل بن غيلَان بِعَبْد الله بن سوار الْعَنْبَري القَاضِي فاستنزله عبد الله وَكَانَ من عَادَة المعذل أَن ينزل عِنْده فَأبى وأنشده

(أمِنْ حق الْمَوَدَّة أَن نُقضِّي

ذِمامكُم وَلَا تقضوا ذِمامَا)

ص: 180

(يقتلنني بحديثٍ ليسَ يُعلمهُ

من يتقين وَلَا مكنونه بَادِي)

(فهن ينبذن من قَول يصبن بِهِ

مواقع المَاء من ذِي الْغلَّة الصادي) // الْبَسِيط //

وَحدث مُحَمَّد بن صَالح بن النطاح قَالَ الْقطَامِي أول من لقب صريع الغواني بقوله

(صريعُ غَوَانٍ راقَهُنّ ورُقنَهُ

لَدُنْ شبّ حَتَّى شَابَ سُودُ الذوائب) // الطَّوِيل //

وَنزل الْقطَامِي فِي بعض أَسْفَاره بِامْرَأَة من محَارب قيس فنسبها فَقَالَت أَنا من قوم يشتوون الْقد من الْجُوع قَالَ وَمن هَؤُلَاءِ وَيحك قَالَت محَارب وَلم تقره فَبَاتَ عِنْدهَا بأسوإ لَيْلَة فَقَالَ فِيهَا قصيدة أَولهَا

(نَأتْكَ بليلي نيةٌ لم تقاربِ

وَمَا حُبُّ ليلى من فُؤَادِي بذاهب) // الطَّوِيل //

إِلَى أَن قَالَ فِيهَا

(وَلَا بدْ أَن الضيفَ يُخبرُ مَا رأى

مُخَبِّرُ أهْلٍ أَو مخبرُ صاحبِ)

(سأخبرْكَ الأنباء عَن أُمّ منزِلٍ

تَضيفْتُهَا بَين العُذَيْبِ فَراسبِ)

(تَلفَّفْتُ فِي طلّ وريح تلفني

وَفِي طِرْ مِسَاء غيرِ ذاتِ كواكِبِ)

(إِلى حَيزَبونٍ تُوقدُ النَّار بَعْدَمَا

تلفَّعَتِ الظلمَاء من كل جَانبِ)

(تصلى بهَا بردَ العشاءِ وَلم تكن

تخالُ وميض النَّار يَبْدُو لراكبِ)

ص: 181

(فَمَا راعهَا إِلَّا بغُامُ مطيةٍ

تريح بمحسور من الصَّوْت لاغبٍ)

(تقولُ وَقد قَرِّبتُ كُوري وناقتي

إليكَ فَلَا تَذْعَرْ عَليّ ركائيي)

(فَلَمَّا تنازعنا الحَدِيث سألتُهَا

مَنِ الحيّ قالتْ مَعشرٌ من محَاربِ)

(مِنَ المشتَويِنَ القِدَّ مِمَّا تراهُمُ

جِيَاعاً وريفُ النَّاس لَيْسَ بعَازبِ)

(فَلما بدَا حرمَانُهَا الضيفَ لم يكن

عليَّ مناخُ السوء ضَرْبَة لازبِ)

(أَلا إِنَّمَا نيرانُ قيس إِذا اشْتَوَوْا

لِطارق ليل مثل نَار الحباحب) // الطَّوِيل //

وَإِلَى هَذِه الْعَجُوز أَشَارَ عبد الصَّمد بن المعذل فِي هجاء أَخِيه أَحْمد إِذْ يَقُول

(لَيْتَ لِي منكَ يَا أخي

جَارةً من محَاربٍ)

(نارُها كلَّ شَتْوَةٍ

مثلُ نَار الحبَاحِبِ)

(وَسَيَأْتِي ذكر عبد الصَّمد بن المعذل وأخيه عِنْد تَرْجَمَة أَبِيهِمَا المعذل فِي شَوَاهِد الْأَطْنَاب إِن شَاءَ الله تَعَالَى

قَالَ أَبُو عَمْرو رحمه الله أول مَا حرك من الْقطَامِي فَرفع ذكره أَنه قدم فِي خلَافَة الْوَلِيد بن عبد الْملك دمشق ليمدحه فَقيل لَهُ إِنَّه بخيل لَا يُعْطي الشُّعَرَاء وَقيل بل قدمهَا فِي خلَافَة عمر بن عبد الْعَزِيز فَقيل لَهُ إِن الشّعْر لَا ينْفق عِنْد هَذَا وَلَا يُعْطي عَلَيْهِ شَيْئا وَهَذَا عبد الْوَاحِد بن سُلَيْمَان فامدحه

ص: 182

فمدحه بقصيدته الَّتِي أَولهَا

(إنّا محيُّوكَ فاسلْم أَيهَا الطللُ

وَإِن بليتَ وَإِن طَالَتْ بك الطيل) // الْبَسِيط //

فَقَالَ لَهُ كم أملت من أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ أملت أَن يعطيني ثَلَاثِينَ نَاقَة قَالَ قد أمرت لَك بِثَلَاثِينَ نَاقَة موقورة برا وَتَمْرًا وثياباً ثمَّ أَمر بِدفع ذَلِك إِلَيْهِ

وَقَالَ أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ لَو قَالَ الْقطَامِي بَيته

(يمشينَ زهواً فَلَا الأعجاز خاذلةُ

وَلَا الصدورُ على الأعجاز تتكل) // الْبَسِيط //

فِي صفة النِّسَاء لَكَانَ أشعر النَّاس وَلَو قَالَ كثير عزة

(فَقلت لَهَا يَا عز كل مُصِيبَة

إِذا وطنت يَوْمًا لَهَا النَّفس ذلت) // الطَّوِيل //

فِي مرثية أَو صفة حزن لَكَانَ أشعر النَّاس

وَقَالَ رجل كَانَ يديم الْأَسْفَار سَافَرت مرّة إِلَى الشَّام على طَرِيق الْبر فَجعلت أتمثل بقول الْقطَامِي

(قد يدْرك المتأني بعض حَاجته

وَقد يكون مَعَ المستعجل الزلل) // الْبَسِيط //

وَمعنى أَعْرَابِي قد اسْتَأْجَرت مِنْهُ مركبي فَقَالَ مَا زَاد قَائِل هَذَا الشّعْر على أَن ثبط النَّاس عَن الحزم فَهَلا قَالَ بعد قَوْله هَذَا

(وَرُبمَا ضرَّ بعضَ النَّاس حزمُهمُ

وَكان خيرا لَهُم لَو أَنهم عجلوا)

ص: 183

والقطامي أَخذ معنى بَيته هَذَا من قَول عدي بن زيد الْعَبَّادِيّ

(قَد يدركُ المبطئ من حظِّهِ

وَالْخَيْر قد يسْبق جهد الْحَرِيص) // السَّرِيع //

وعدي نظر إِلَى قَول جمانة الْجعْفِيّ

(ومستعجل والمكثُ أدنى لرشدهِ

وَلم يدرِ فِي استعجاله مَا يُبَادر) // الطَّوِيل //

وَمَا أحسن قَول ابْن هِنْد ورحمه الله

(تأنَّ فالمرءُ إنْ تأنى

أدْرك لَا شكّ مَا تمنى)

(وَمَا لمستوفِزٍ عَجُولٍ

حظّ سوى أَنه تعَنَّى) // من مخلع الْبَسِيط //

وَمن أحسن مَا قيل فِي عيب الأناة قَول ابْن الرُّومِي

(عيبُ الأناة وَإِن سرَّت عواقبُهَا

أَن لَا خلودَ وَأَن لَيْسَ الْفَتى حجرَا) // الْبَسِيط //

وللقطامي عدَّة قصائد فِي مدح زفر بن الْحَرْث الْكلابِي سَيَأْتِي مِنْهَا شَيْء فِي أثْنَاء الْكتاب إِن شَاءَ الله تَعَالَى

ص: 184