الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شَوَاهِد الإيجاز والإطناب والمساواة
58 -
(والعَيْشُ خَيرٌ فِي ظلال
…
النوك مِمَّن عاشَ كَداً)
الْبَيْت لِلْحَارِثِ بن حلزة الْيَشْكُرِي من الْكَامِل الْمُضمر المرقل وَقَبله
(فَعش بجَدٍّ لَا يَضرك
…
النَّوْكُ مَا أوُلِيتَ جدا) // الْكَامِل //
…
والنوك بِضَم النُّون وَفتحهَا الْحمق وَمعنى كداً مكدوداً متعوبا
وَالشَّاهِد فِيهِ الْإِخْلَال لكَونه غير واف بالمراد إِذْ أصل مُرَاده أَن الْعَيْش الناعم فِي ظلال النوك خير من الْعَيْش الشاق فِي ظلال الْعقل وَلَفظه غير واف بذلك
وَمَا أحسن قَول ابْن المعتز
(وحَلاوَةُ الدُّنْيَا لِجَاهِلها
…
ومَرَارة الدُّنْيَا لمن عقلا) // الْكَامِل //
وَلأبي عبد الله مُحَمَّد بن أبي الْفضل السّلمِيّ المرسي
(عابوا الجَهَالةَ وازدَروا بحقُوقِها
…
وتَهاوَنوا بحديثها فِي المجلِسِ)
(وَهِي الَّتِي يَنْقَادُ فِي يَدِها الْغنى
…
وتجيئُها الدُّنْيَا برَغم المعطسِ)
(إنّ الْجَهَالَة للغنِي جَذَّابَةٌ
…
جَذْبَ الحديدِ حِجارَةَ المغنطيس) // الْكَامِل //
وَلأبي مُحَمَّد اليزيدي من أَبْيَات
(عِشْ بجد وَلَا يصرك نوكٌ
…
إِنَّمَا عَيْش من ترى بالجُدُودِ)
(عَاشَ بجد وَكن هَبَنَّقَةَ العَبْسِيَّ نوكاً أَو شيْبةَ بن الوليدِ
…
) // الْخَفِيف //
وَمَا أحسن قَول بَعضهم
(إِن الْمَقَادِير إِذا ساعدت
…
ألحقت الْعَاجِز بالقادر) // السَّرِيع //
وبديع قَول بَعضهم
(بالجد يَسعى الفَتّى وإلَاّ
…
فَلَيْسَ يُغني أبٌ وجَدُّ)
(وَلَيْسَ يُجدي عَلَيك كَدٌّ
…
مَا دَامَ يُكْدِي عَلَيْك جد) // من مخلع الْبَسِيط //
وَمَا أحذق قَول ابْن لنكك
(دنياكَ باتَتْ على الأحرارِ غاضِبَةً
…
وطاوَعت كل صَفْعانٍ وضَرَّاطِ) // الْبَسِيط //
وَقَوله أَيْضا
(كن ساعياً ومُصافعاً ومُضارطاً
…
تَنلِ الرغائب فِي الزَّمان وتَنْفُقِ) // الْكَامِل //
ولمؤلفه من أَبْيَات
(من يَبغ بالفَضل معاشاً يمت
…
جوعَاً وَلَو كانَ بَديعَ الزمانِ)
(وَمن يَقُدْ أَو يتَمسخَرْ يَعِشْ
…
عَيْشًا رَخِيّاً فِي ظلال الأمانِ)
(تبغي الحجا ثمَّ تروم الْغَنِيّ
…
يَا قَلما تَجْتَمِع الضرتان) // السَّرِيع //
ولطيف قَول بَعضهم
(قد يُحَدُّ اللَّبيبُ عَن سَعَة الرزق
…
وَقد يَسعدُ الضعيفُ بجده)
(رُبَّ مَال أَتَى بأهوَنِ سَعي
…
وكَدُودٍ لم يُغْنِه طول كده) // الْخَفِيف //
وَلابْن نباتة السَّعْدِيّ
(مَا بالُ طَعْم الْعَيْش عِنْد مَعاشِرٍ
…
خلو وَعند معاشر كالعَلْقَم)
(من لي بعيش الأغبياء فَإِنَّهُ
…
لَا عيشَ إِلَّا عيشُ مَنْ لم يعلم) // الْكَامِل //
والْحَارث بن حلزة هُوَ من بني يشْكر من بكر بن وَائِل وَكَانَ أبرص وَهُوَ الْقَائِل
(آذنَتنا بِبَينها أسماءُ
…
رب ثاو يمل مِنْهُ الثواء) // الْخَفِيف //
وَيُقَال إِنَّه ارتجلها بَين يَدي عَمْرو بن هِنْد ارتجالاً فِي شَيْء كَانَ بَين بكر وتغلب فِي الصُّلْح وَكَانَ ينشده من وَرَاء السجف للبرص الَّذِي كَانَ بِهِ فَأمر بِرَفْع السجف بَينه وَبَينه اسْتِحْسَانًا لَهُ وَكَانَ الْحَارِث متوكئاً على عنزة فأثرت فِي جسده وَهُوَ لَا يشْعر وَكَانَ لَهُ ابْن يُقَال لَهُ مذعور ولمذعور ابْن يُقَال لَهُ شهَاب ابْن مذعور وَكَانَ ناسباً وَفِيه يَقُول مِسْكين الدَّارمِيّ
(هَلم إِلَى ابْن مَذْعورٍ شِهابٍ
…
يُنَبئُ بالسفال وبالمعالي) // الوافر //
قَالَ الْأَصْمَعِي قد أقوى الْحَارِث بن حلزة فِي قصيدته الَّتِي ارتجلها
(فَمَلكْنا بذلك النَّاس إِذْ مَا
…
مَلكَ المنذرُ بن مَاء السَّمَاء)
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلنْ يضر ذَلِك فِي هَذِه القصيدة لِأَنَّهُ ارتجلها فَكَانَت كالخطبة
59 -
(وألْفى قَولهَا كَذِباً وَمَيْنا
…
) هُوَ من الوافر وصدره
(وقدَّدَت الْأَدِيم لراهشيه
…
)
وقائله عدي بن زيد الْعَبَّادِيّ من قصيدة طَوِيلَة أَولهَا
(أبُدِّلَتِ المنازلُ أم عنينا
…
بقادم عهدِهنَّ فقد بَلِينَا)
يَقُول فِيهَا يُخَاطب النُّعْمَان بن الْمُنْذر بن مَاء السَّمَاء
(أَلا يَا أَيهَا المُثري المرَجَّى
…
ألم تَسمع بخطب الأولينا)
وَمِنْهَا وَيذكر غدر الزباء بجذيمة الأبرش
(دَعَا بالبَّقَّةِ الأمراءَ يَوْمًا
…
جذَيمةُ عَصْرَ يَنجوهمْ ثُبينا)
(فطاوَع أمرَهم وعَصَى قَصيراً
…
وكانَ يقولُ لَو تَبِع اليقينا)
(ودسَّتْ فِي صحيفتها إِلَيْهِ
…
ليمْلكَ بُضعَها وَلِأَن تَدِينا)
(ففاجأها وَقد جَمعت فيوجاً
…
على أبوابِ حِصْنٍ مُصْلِتينا)
(فأرْدَتهُ ورُغْبُ النَّفس يُرْدِي
…
ويبدي للفتى الحينَ المُبينا)
(وحَدثتِ العَصا الأنباءَ عَنهُ
…
وَلم أرَ مثلَ فارِسها هجينا)
وَبعده الْبَيْت المستشهد بعجزه وَبعده
(وَمن حّذَر الملاوِم والمخازي
…
وهنَّ المنْدِياتُ لمن منينا)
(أطَفَّ لأنفه الموسَى قَصيرٌ
…
لِيَجدعهُ وَكَانَ بِهِ ضنينا)
(فأهواهُ لما رنه فأضحى
…
طِلابَ الوِترِ مَجْدوعاً مَشِيناً)
(وصادَفت امْرأ لم تخشَ مِنْهُ
…
غوائِلهُ وَمَا أمِنَت أَمينا)
(فَلَمَّا ارْتَدَّ مِنْهَا ارتَدَّ صُلباً
…
يجُرُّ المالَ والصدرَ الضَّغينا)
(أتتها العِيسُ تحملُ مَا دهاها
…
وقنع فِي المسُوح الدارِعينا)
(ودسَّ لَهَا على الأنْفَاق عَمراً
…
بِشكَّته وَمَا خَشيت كمينا)
(فَجَلَّلها قديمَ الأَثْرِ عَضْبا
…
يَصكُّ بِهِ الحواجبَ واتجبينا)
(فأضحَتْ من خزائنها كأنْ لم
…
تكن زبَّاء حاملةً جَنِينا)
(وأبرزها الْحَوَادِث والمنايا
…
وَأي معمر لَا يبتلينا)
(إِذا أمهلْنَ ذَا جَدٍّ عَظِيم
…
عطفن عَلَيْهِ وَلَو فرَّطن حينا)
(وَلم أجد الْفَتى يلهو بِشَيْء
…
وَلَو أثرى وَلَو ولد البنينا) وَكَانَ من خبر جذيمة والزباء أَن جذيمة كَانَ من الْعَرَب الأولى من بني إياد كَمَا ذكره ابْن الْكَلْبِيّ وكنيته أَبُو مَالك وَكَانَ فِي أَيَّام مُلُوك الطوائف وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة كَانَ جذيمة بعد عِيسَى صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ بِثَلَاثِينَ سنة وَكَانَ قد ملك شاطئ الْفُرَات إِلَى مَا وإِلى ذَلِك إِلَى السوَاد سِتِّينَ سنة وَكَانَ بِهِ برص فهابت الْعَرَب أَن تصفه بذلك فَقَالُوا الأبرش والوضاح وَقيل سمي بذلك لِأَنَّهُ أَصَابَهُ حرق نَار فَبَقيَ أَثَره نقطاً سُودًا وحمراً وَكَانَ الْملك قبله أَبَاهُ وَهُوَ أول من ملك الْحيرَة وَكَانَ جذيمة هَذَا يُغير على مُلُوك الطوائف حَتَّى غلبهم
على كثير مِمَّا فِي أَيْديهم وَهُوَ أول من أوقد الشمع وَنصب المجانيق للحرب وَأول من اجْتمع لَهُ الْملك بِأَرْض الْعرَاق وَكَانَ قد قتل أَبَا الزباء وَغلب على غَالب ملكه وَأَلْجَأَ الزباء إِلَى أَطْرَاف مملكتها وَكَانَت عَاقِلَة أريبة فَبعثت إِلَيْهِ تخطبه لنَفسهَا ليتصل ملكه بملكها فدعته نَفسه إِلَى ذَلِك وَقيل هُوَ الَّذِي بعث إِلَيْهَا يخطبها فَكتبت إِلَيْهِ إِنِّي فاعلة وَمثلك يرغب فِيهِ فَإِذا شِئْت فاشخص إِلَيّ فَشَاور وزراءه فكلٌّ أَشَارَ عَلَيْهِ أَن يفعل إِلَّا قصير بن سعد فَإِنَّهُ قَالَ لَهُ أَيهَا الْملك لَا تفعل فَإِن هَذِه خديعة ومكر فَعَصَاهُ وأجابها إِلَى مَا سَأَلت فَقَالَ قصير عِنْد ذَلِك لَا يطاع لقصير رأى وَقيل أَمر فأرسلها مثلا وَلم يكن قَصِيرا وَلَكِن كَانَ اسْما لَهُ ثمَّ إِنَّه قَالَ لَهُ أَيهَا الْملك أما إِذْ عَصَيْتنِي فَإِذا رَأَيْت جندها قد أَقبلُوا إِلَيْك فَإِن ترجلوا وحيوك ثمَّ ركبُوا وتقدموا فقد كذب ظَنِّي وَإِن رَأَيْتهمْ إِذا حيوك طافوا بك فَإِنِّي معرض لَك الْعَصَا وَهِي فرس لجذيمة لَا تدْرك فاركبها وانج فَلَمَّا أقبل جيشها حيوه ثمَّ طافوا بِهِ فَقرب قصير إِلَيْهِ الْعَصَا فشغل عَنْهَا فركبها قصير فنجا فَنظر جذيمة إِلَى قصير على الْعَصَا وَقد حَال دونه السراب فَقَالَ مَا ذل من جرت بِهِ الْعَصَا فأرسلها مثلا وَأدْخل جذيمة على الزباء وَكَانَت قد ربت شعر عانتها حولا فَلَمَّا دخل تكشفت لَهُ وَقَالَت أمتاع عروس ترى يَا جذيمة فَقَالَ بل مَتَاع أمة بظراء فَقَالَت إِنَّه لَيْسَ من عدم المواسي وَلَا من قلَّة الأواسي وَلكنهَا شِيمَة مَا أقاسي وَأمرت فأجلس على نطع ثمَّ أمرت برواهشه فَقطعت وَكَانَ قد قيل لَهَا احْتَفِظِي بدمه فَإِنَّهُ إِن أصَاب الأَرْض قَطْرَة من دَمه طلب بثأره فقطرت قَطْرَة من دَمه فِي الأَرْض فَقَالَت
لَا تضيعوا دم الْملك فَقَالَ جذيمة دعواد مَا ضيعه أَهله فَلم يزل الدَّم يسيل إِلَى أَن مَاتَ
ثمَّ إِن قَصِيرا أَتَى عمرا ابْن أُخْت جذيمة وَأخْبرهُ الْخَبَر وحرضه على أَخذ الثأر واحتال لذَلِك بِأَن قطع أَنفه وَأُذُنَيْهِ وَلحق بالزباء وَزعم أَن عمرا فعل بِهِ ذَلِك وَأَنه اتهمه بممالأته لَهَا على خَاله وَلم يزل يخدعها حَتَّى اطمأنت لَهُ وَصَارَت ترسله إِلَى الْعرَاق بِمَال فَيَأْتِي إِلَى عَمْرو فَيَأْخُذ مِنْهُ ضعفه وَيَشْتَرِي بِهِ مَا تطلبه وَيَأْتِي إِلَيْهَا بِهِ إِلَى أَن تمكن مِنْهَا وسلمته مَفَاتِيح الخزائن وَقَالَت لَهُ خُذ مَا أَحْبَبْت فَاحْتمل مَا أحب من مَالهَا وأتى عمرا فانتخب من عسكره فُرْسَانًا وألبسهم السِّلَاح وَاتخذ غَرَائِر وَجعل أشراجها من دَاخل ثمَّ حمل على كل بعير رجلَيْنِ مَعَهُمَا سلاحهما وَجعل يسير النَّهَار حَتَّى إِذا كَانَ اللَّيْل اعتزل عَن الطَّرِيق فَلم يزل كَذَلِك حَتَّى شَارف الْمَدِينَة فَأَمرهمْ فلبسوا الْحَدِيد ودخلوا الغرائر لَيْلًا وَعرف أَنه مصبحها فَلَمَّا أصبح عِنْدهَا دخل عَلَيْهَا وَسلم وَقَالَ هَذِه العير تَأْتِيك السَّاعَة بِمَا لم يأتك قطّ مثله فَصَعدت فَوق قصرهَا وَجعلت تنظر العير وَهِي تدخل الْمَدِينَة فأنكرت مشيها وَجعلت تَقول
(مَا للجِمَالِ مشيُها وئِيدا
…
أجَندلاً يحملن أم حَديدا)
(أم صَرَفاناً بَارِدًا شَدِيدا
…
أم الرِّجالَ جثَّماً قعُودا) // الرجز //
فَلَمَّا توافت العير الْمَدِينَة حلوا أشراجهم وَخَرجُوا فِي الْحَدِيد وأتى قصير بِعَمْرو فأقامه على سرب كَانَ لَهَا إِذا خشيت خرجت مِنْهُ فَأَقْبَلت لتخرج من السرب فاتاها عَمْرو فَجعلت تمص خَاتمًا وَفِيه سم وَتقول بيَدي لَا بيد عَمْرو وَفَارَقت الدُّنْيَا والراهشان عرقان فِي بَاطِن الذراعين
وَالشَّاهِد فِيهِ التَّطْوِيل وَهُوَ أَن يكون اللَّفْظ زَائِدا على أصل المُرَاد لَا لفائدة وَاللَّفْظ الزَّائِد غير مُتَعَيّن إِذْ جمعه بَين الْكَذِب والمين فِي الْبَيْت لَا فَائِدَة فِيهِ
لِأَنَّهُمَا بِمَعْنى وَاحِد
وعدي هُوَ ابْن زيد بن حَمَّاد بن أَيُّوب يَنْتَهِي نسبه لنزار وَكَانَ أَيُّوب هَذَا فِيمَا يزْعم ابْن الْأَنْبَارِي أول من سمي من الْعَرَب أَيُّوب وَكَانَ عدي شَاعِرًا فصيحاً من شعراء الْجَاهِلِيَّة وَكَانَ نَصْرَانِيّا وَكَذَلِكَ كَانَ أَبوهُ وَأَهله وَلَيْسَ مِمَّن يعد من الفحول إِذْ هُوَ قروي وَقد أَخذ عَنهُ أَشْيَاء عيب بهَا وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَة والأصمعي يَقُولَانِ عدي بن زيد فِي الشُّعَرَاء بِمَنْزِلَة سُهَيْل فِي النُّجُوم يعارضها وَلَا يجْرِي مَعهَا مجْراهَا وَكَذَلِكَ عِنْدهم أُميَّة بن أبي الصَّلْت الثَّقَفِيّ وَمثلهمَا عِنْدهم من الإسلاميين الْكُمَيْت والطرماح وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة كَانَ يسكن الْحيرَة وَيدخل الأرياف فثقل لِسَانه وَاحْتمل عَنهُ شَيْء كثير جدا وعلماؤنا لَا يرَوْنَ شعره حجَّة
وَله أَربع قصائد غرر إِحْدَاهُنَّ أَولهَا
(أرَواحٌ مودِّع أم بكُورُ
…
لَك فاعمدِ لأي حالٍ تَصيرُ) // الْخَفِيف //
وفيهَا يَقُول
(أَيهَا الشَّامتُ المُعير بالدَّهرِ أأنتَ المبرَّأُ الموفورُ
…
)
(أم لديكَ العهدُ الوثيقُ من الأيَّام أم أنتَ جاهلٌ مغرورُ
…
)
(من رأيتَ المنونَ جازَتهُ أم من
…
ذَا عَلَيْهِ من أَن يُضامَ خَفيرُ)
(أَيْن كِسرَى كسْرَى الملوكِ أنوشِرْ
…
وانُ أم أَيْن قبلَهُ سابورُ)
(وَبَنُو الأصْفَرِ الكِرام مُلُوك الرّوم
…
لم يبْقَ منهُمُ مَذكُورُ)
(وأخو الْحَضَر إِذْ بَناهُ وَإِذ دجْلَةُ تُجْبَى إليهِ والخابورُ
…
)
(شادَهُ مَرمراً وَجلَلهُ كلْساً فللطَّيرِ فِي ذَراهُ وُكورُ
…
)
(وَتَبَيَّنَ ربَّ الخَوْرَنقِ إِذْ أشْرَفَ يَوْمًا وللهدى تفكيرُ
…
)
(سرَّه حالُهُ وَكثرةُ مَا يَملِكُ
…
والبحرُ مُعرِضاً والسديرُ
…
)
(فارعَوَى قلبُهُ وقالَ وَمَا غِبْطَةُ حيٍّ إِلَى المماتِ يصيرُ
…
)
(ثمَّ بعدَ الْفَلاح والملكِ والأمَّةِ وارَتهُم هناكَ القبورُ
…
)
(ثمَّ أضْحَوْا كَأَنَّهُمْ ورَقٌ جَفَّ فألوَتْ بِهِ الصَّبا والدَّبورُ
…
) الْحسن
وَالثَّانيَِة أَولهَا
(أتَعرف رسمَ الدَّار من أم مَعبدِ
…
نعم فَرَماكَ الشوقُ قبل التجَلدِ)
(أعاذلَ مَا يُدريكِ أَن مَنِيَّتي
…
إِلَى ساعةٍ فِي الْيَوْم أَو فِي ضُحَى الْغَد)
(ذَرِينِي فَإِنِّي إِنَّمَا لِيَ مَا مضى
…
أمامِيَ من مَالِي إِذا خَفَّ عُوَّدي)
(وَحَّمت لميقاتٍ إلىَّ منيتي
…
وغُودِرتُ قد وسِّدتُ أَو لم أوَسَّد)
(وللوارثِ الْبَاقِي من المالِ فاتركي
…
عتابي فَإِنِّي مُصلحٌ غيرُ مُفسد) // الطَّوِيل //
وَالثَّالِثَة أَولهَا
(لم أرَ مثلَ الفِتيانِ فِي غَبَنِ الْأَيَّام
…
ينْسَوْنَ مَا عواقبُهَا) // المنسرح //
وَالرَّابِعَة أَولهَا
(طالَ ليلِي أراقبُ التنويرا
…
ارقُبُ الليْلَ بالصباح بَصيرًا) // الْخَفِيف //
انْتهى مَا قَالَه ابْن قُتَيْبَة
وَكَانَ جده أَيُّوب منزله بِالْيَمَامَةِ فَأصَاب دَمًا فِي قومه فهرب فلحق بأوس ابْن قلام أحد بني الْحَرْث بن كَعْب بِالْحيرَةِ وَكَانَ بَينهمَا نسب من قبل النِّسَاء فَأَقَامَ بِالْحيرَةِ واتصل بالملوك الَّذين كَانُوا بهَا وَعرفُوا حَقه وَحقّ بنيه وَلما ولد عدي وأيفع طَرحه أَبوهُ فِي الْكتاب حَتَّى إِذا حذق أرْسلهُ مرزبان الْحيرَة مَعَ ابْنه شاهان مرد إِلَى كتاب الفارسية فَكَانَ يخْتَلف مَعَ ابْنه ويتعلم الْكِتَابَة وَالْكَلَام بِالْفَارِسِيَّةِ حَتَّى خرج من افهم النَّاس بهما وأفصحهم بِالْعَرَبِيَّةِ وَقَالَ الشّعْر وَتعلم الرَّمْي وبالنشاب فَخرج من الأساورة الرُّمَاة وَتعلم لعب الْعَجم على الْخَيل بالصوالجة وَغَيرهَا ثمَّ إِن الْمَرْزُبَان وَفد على كسْرَى وَمَعَهُ ابْنه شاهان مرد فَبَيْنَمَا هما واقفان بَين يَدَيْهِ إِذْ سقط طائران على السُّور فتطاعما كَمَا يتطاعم الذّكر وَالْأُنْثَى يَجْعَل كل وَاحِد مِنْهُمَا منقاره فِي منقار الآخر فَغَضب كسْرَى من ذَلِك وَلَحِقتهُ غيرَة شَدِيدَة فَقَالَ للمرزبان وَابْنه ليرم كل وَاحِد مِنْكُمَا وَاحِدًا من هذَيْن الطائرين فَإِن قتلتماهما أدخلتكما بَيت المَال وملأت أَفْوَاهكُمَا بالجوهر وَمن أَخطَأ مِنْكُمَا عاقبته فاعتمد كل وَاحِد مِنْهُمَا طائراً مِنْهُمَا ورميا فَقَتَلَاهُمَا جَمِيعًا فَبعث بهما إِلَى بَيت المَال فملئت أفواههما جوهراً وَأثبت شاهان مرد وَسَائِر أَوْلَاد الْمَرْزُبَان فِي صحابته فَقَالَ عِنْد ذَلِك للْملك إِن عِنْدِي غُلَاما من الْعَرَب مَاتَ أَبوهُ وَخَلفه فِي حجري فربيته وَهُوَ أفْصح النَّاس وأكتبهم بِالْعَرَبِيَّةِ والفارسية وَالْملك مُحْتَاج إِلَى مثله فَإِن رأى الْملك أَن يُثبتهُ فِي وَلَدي فعل فَقَالَ ادْعُه فَأرْسل إِلَى عدي بن زيد وَكَانَ جميل الْوَجْه فائق الْحسن وَكَانَت الْفرس تتبرك بالجميل فَلَمَّا كَلمه وجده أظرف النَّاس وأحضرهم جَوَابا فَرغب فِيهِ وأثبته مَعَ ولد الْمَرْزُبَان فَكَانَ عدي أول من كتب بِالْعَرَبِيَّةِ فِي ديوَان كسْرَى فَرغب أهل الْحيرَة إِلَى عدي ورهبوه فَلم يزل بِالْمَدَائِنِ فِي ديوَان
كسْرَى يُؤذن لَهُ عَلَيْهِ فِي الْخَاصَّة وَهُوَ معجب بِهِ قريب مِنْهُ وَأَبوهُ زيد بن حَمَّاد حيٌّ إِلَّا أَن ذكر عدي قد ارْتَفع وخمل ذكر أَبِيه فَكَانَ عدي إِذا دخل على الْمُنْذر قَامَ لَهُ هُوَ وَجَمِيع من عِنْده حَتَّى يقْعد عدي فعلا لَهُ بذلك صيت عَظِيم وَكَانَ إِذا أَرَادَ الْمقَام فِي الْحيرَة مَعَ أَبِيه وَأَهله اسْتَأْذن كسْرَى فَأَقَامَ فيهم الشَّهْر والشهرين وَأكْثر وَأَقل ثمَّ إِن كسْرَى أرْسلهُ إِلَى ملك الرّوم بهدية من طرف مَا عِنْده فَلَمَّا أَتَاهُ عدي بهَا أكْرمه وَحمله إِلَى أَعماله على الْبَرِيد ليريه سَعَة أرضه وَعظم ملكه وَكَذَلِكَ كَانُوا يصنعون فَمن ثمَّ وَقع عدي بِدِمَشْق وَقَالَ بهَا الشّعْر فمما قَالَه بِالشَّام وَهُوَ أول شعر قَالَه فِيمَا ذكر
(رُبَّ دارٍ بأسفَلِ الْجزع من دومة
…
أشهى إِلَيّ من جيرُون)
(وَنَدامَى لَا يفرحون بِمَا نالوا
…
وَلَا يَتْقُونَ صرفَ المُنونِ)
(قَدْ سُقِيتْ الشمُولَ فِي دَار بشرٍ
…
قَهْوَةً مُرَةً بِمَاء سخين) // الْخَفِيف //
ثمَّ إِن عديا قدم الْمَدَائِن على كسْرَى بهدية قَيْصر فصادف أَبَاهُ والمرزبان الَّذِي رباه قد هلكا جَمِيعًا فَاسْتَأْذن كسْرَى فِي الْمقَام بِالْحيرَةِ فَتوجه إِلَيْهَا وَبلغ الْمُنْذر خَبره فَخرج فَتَلقاهُ وَرجع مَعَه وعدي أنبل أهل الْحيرَة فِي أنفسهم وَلَو أَرَادَ أَن يملكوه لملكوه وَلكنه كَانَ يُؤثر الصَّيْد وَاللَّهْو واللعب على الْملك فَمَكثَ سِنِين يَبْدُو فِي فَصلي السّنة فيقم فِي الْبر صيفاً ويشتو
بِالْحيرَةِ وَيَأْتِي الْمَدَائِن فِي خلال ذَلِك فيخدم كسْرَى فَمَكثَ بذلك سِنِين ثمَّ إِن الْمُنْذر هلك وَقَامَ ابْنه النُّعْمَان مقَامه بمعاونة عدي فِي خبر طَوِيل ثمَّ لم يزل الحسدة يوقعون بَينه وَبَين عدي إِلَى أَن حَبسه فَقَالَ فِي ذَلِك أشعاراً كَثِيرَة مِنْهَا
(طالَ ذَا الليلُ علينا واعْتَكَر
…
وَكَأَنِّي بادِرُ الصبْحِ شَمَرْ)
(مِنْ نجىَ الهمّ عِندِي ثاوياً
…
فوقَ مَا أُعلنُ منهُ وأسرّ)
(وكأنْ الليلَ فِيهِ مثلُه
…
ولَقِدْماً ظُنّ بِاللَّيْلِ الْقصر)
(لَمْ أغمَّضّ طولَهُ حَتَّى انْقَضى
…
أتمنَّى لَو أرَى الصبحَ حَشَرْ)
(غيرَ مَا عشق ولكنْ طارقٌ
…
خَلَسَ النومَ وأجداني السهر) // الرمل //
وَقَالَ يُخَاطب النُّعْمَان بن الْمُنْذر أَيْضا
(أبلِغ النعمانَ عني مَالُكاً
…
أنهُ قدْ طالَ حبسي وانتظارْ)
(لَو بِغَيْر المَاء حلقي شرِقٌ
…
كنت كالغَصَّانِ بِالْمَاءِ اعتصارْ)
(ليتَ شعري مَنْ دخيلٌ يعترى
…
حينما أدركَ ليْلي ونهَارْ)
(قَاعِدا يكربُ نَفسِي بثهَا
…
وَحرَام كانَ سجني واختصار) // الرمل //
فِي قصائد كَثِيرَة كَانَ يَقُولهَا وَيكْتب بهَا إِلَيْهِ فَلَا تجدي عِنْده شَيْئا
وَلَقَد تداول الشُّعَرَاء معنى بَيت عدي لَو بِغَيْر المَاء حلقي شَرق إِلَخ بعد عدي فَقَالَ أَبُو نواس
(غصصْتُ منكَ بِمَا لَا يدفعُ الماءُ
…
وصحّ حبكَ حَتَّى مَا بِهِ داءُ) // الْبَسِيط //
وَقَالَ الآخر
(من غصّ داوَى بِشرب المَاء غصته
…
فَكيف يصنعُ من قدْ غص بِالْمَاءِ) // الْبَسِيط //
وَقَالَ الخزأرزي
(بِالْمَاءِ أدفعُ شَيْئا إِن غَصصتُ بهِ
…
فَمَا احتيالي وغصِّي مِنْك بِالْمَاءِ) // الْبَسِيط //
ثمَّ لما طَال سجن عدي كتب إِلَى أَخِيه أبي وَهُوَ مَعَ كسْرَى يُعلمهُ بِحَالهِ فَلَمَّا قَرَأَ كِتَابه قَامَ إِلَى كسْرَى فَكَلمهُ فِي أمره وعرفه بِخَبَرِهِ فَكتب إِلَى النُّعْمَان يَأْمُرهُ بِإِطْلَاقِهِ وَبعث مَعَه رجلا وَكتب خَليفَة النُّعْمَان إِلَيْهِ إِنَّه قد كتب إِلَيْك فِي أمره فَأتى النُّعْمَان أَعدَاء عدي وَقَالُوا اقتله السَّاعَة فَأبى عَلَيْهِم وَجَاء الرَّسُول وَقد كَانَ أَخُو عدي تقدم إِلَيْهِ ورشاه وَأمره أَن يبْدَأ بعدِي فَيدْخل عَلَيْهِ وَهُوَ مَحْبُوس بالصنين فَقَالَ لَهُ ادخل عَلَيْهِ وَانْظُر مَاذَا يَأْمُرك بِهِ فامتثله فَدخل الرَّسُول على عدي فَقَالَ لَهُ إِنِّي قد جِئْت بإرسالك فَمَا عنْدك قَالَ عِنْدِي الَّذِي تحب ووعده عدَّة سنية وَقَالَ لَا تخرجن من عِنْدِي وَأَعْطِنِي الْكتاب حَتَّى أرْسلهُ إِلَيْهِ فَإنَّك وَالله لَئِن خرجت من عِنْدِي لأقتلن فَقَالَ لَا أَسْتَطِيع إِلَّا أَن آتِي الْملك بِالْكتاب فأوصله إِلَيْهِ فَانْطَلق بعض من كَانَ هُنَاكَ من أَعدَاء عدي فَأخْبر النُّعْمَان أَن رَسُول كسْرَى دخل على عدي وَهُوَ ذَاهِب بِهِ وَإِن فعل وَالله لم يستبق منا أحدا أَنْت وَلَا غَيْرك فَبعث إِلَيْهِ النُّعْمَان أعداءه فغموه حَتَّى مَاتَ ثمَّ دفنوه وَدخل الرَّسُول إِلَى النُّعْمَان فأوصل الْكتاب إِلَيْهِ فَقَالَ حبا وكرامة وَأمر لَهُ بأَرْبعَة آلَاف
مِثْقَال ذهب وَجَارِيَة حسناء وَقَالَ لَهُ إِذا أَصبَحت فَادْخُلْ أَنْت بِنَفْسِك الْحَبْس فَأخْرجهُ فَلَمَّا أصبح ركب فَدخل السجْن فَأخْبرهُ الحارس أَنه قد مَاتَ مُنْذُ أَيَّام وَلم نجترئ على إِخْبَار الْملك بذلك خوفًا مِنْهُ وَقد عرفنَا كراهيته لمَوْته فَرجع إِلَى النُّعْمَان فَقَالَ إِنِّي قد كنت أمس دخلت على عدي وَهُوَ حَيّ وَجئْت الْيَوْم فجحدني السجان وبهتني وَذكر لي أَنه قد مَاتَ مُنْذُ أَيَّام فَقَالَ لَهُ النُّعْمَان أيبعث بك الْملك إِلَيّ فَتدخل إِلَيْهِ قبلي كذبت وَلَكِنَّك أردْت الرِّشْوَة والخبث وتهدده ثمَّ زَاد جائزته وأكرمه وتوثق مِنْهُ أَن لَا يخبر كسْرَى إِلَّا أَنه قد مَاتَ قبل أَن يقدم عَلَيْهِ فَرجع الرَّسُول إِلَى كسْرَى وَقَالَ إِنِّي قد وجدت عديا قد مَاتَ قبل أَن أَدخل عَلَيْهِ وَنَدم النُّعْمَان على قَتله وَعلم أَنه قد احتيل عَلَيْهِ فِي قَتله واجترأ أعداؤه عَلَيْهِ وهابهم هَيْبَة شَدِيدَة
وَكَانَ لعدي ولد اسْمه زيد فسيره النُّعْمَان إِلَى كسْرَى وَوَصفه بأوصاف جميلَة فَوَقع من كسْرَى الْموقع فَمَا زَالَ يعْمل الْحِيلَة إِلَى أَن غير كسْرَى على النُّعْمَان وَأرْسل إِلَيْهِ أَن أقبل علينا فَحمل سلاحه وَمَا قوي عَلَيْهِ ثمَّ لحق بجبل طَيئ ثمَّ بعث إِلَى كسْرَى بخيل وحلل وجواهر وطرف فقبلها كسْرَى وَأظْهر لَهُ الرِّضَا وَأمره بالقدوم فَعَاد الرَّسُول وَأخْبرهُ بذلك وَأَنه لم ير لَهُ عِنْد كسْرَى سوءا فَمضى إِلَيْهِ حَتَّى إِذا وصل إِلَى ساباط لقِيه زيد بن عدي عِنْد قنطرة ساباط فَقَالَ لَهُ انج نعيم إِن اسْتَطَعْت النجَاة فَقَالَ لَهُ أفعلتها يَا زيد أما وَالله إِن عِشْت لَك لأَقْتُلَنك قتلة لم يَقْتُلهَا عَرَبِيّ قطّ ولألحقتك بأبيك فَقَالَ لَهُ زيد امْضِ لشانك نعيم فقد وَالله أخيت لَك أخية لَا يقطعهَا الْمهْر
الأرن فَلَمَّا بلغ كسْرَى أَنه بِالْبَابِ بعث إِلَيْهِ فقيده وَبعث بِهِ إِلَى سجن لَهُ بخانقين فَلم يزل فِيهِ حَتَّى وَقع الطَّاعُون هُنَالك فَمَاتَ فِيهِ وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ أَلْقَاهُ تَحت أرجل الفيلة فوطئته حَتَّى مَاتَ وَأنكر هَذَا من زعم أَنه مَاتَ بخانقين وَقَالُوا لم يزل مَحْبُوسًا مُدَّة طَوِيلَة وَإِنَّمَا مَاتَ بعد ذَلِك بِحِين قبيل الْإِسْلَام وغضبت لَهُ الْعَرَب حِينَئِذٍ وَكَانَ قَتله سَبَب وقْعَة ذِي قار
وَكَانَ عدي يهوى هِنْد بنت النُّعْمَان بن الْمُنْذر وَلها يَقُول
(عَلقَ الأحْشاء مِنْ هندَ عُلقْ
…
مُستسِرّ فِيهِ نَصْبٌ وَأرقْ) // الرمل //
وفيهَا يَقُول أَيْضا
(مَنْ لِقلب دَنفٍ أوْ مُعتمدْ
…
قَد عَصى كلَّ نَصيحٍ ومفد) // الرمل //
وفيهَا يَقُول أَيْضا
(يَا خَليليّ يَسِّرَا التَعسيرَا
…
ثمَّ رُوحا فَهجِّرَا تهَجيرَا)
(عَرَّجا بِي على دِيارٍ لِهندٍ
…
لَيسَ أَن عُجتما الْمطِي كَبيرا) // الْخَفِيف //
وَقد تزَوجهَا عدي فِي خبر طَوِيل فَمَكثت مَعَه حَتَّى قَتله النُّعْمَان فترهبت وحبست نَفسهَا فِي الدَّيْر الْمَعْرُوف بدير هِنْد فِي ظَاهر الْحيرَة وَكَانَ هلاكها بعد الْإِسْلَام بِزَمن طَوِيل فِي ولَايَة الْمُغيرَة بن شُعْبَة الْكُوفَة وخطبها الْمُغيرَة فَردته
وَقَالَت والصليب لَو علمت أَن فِي خصْلَة من جمال أَو شباب رغبتك فِي لأجبتك وَلَكِنَّك أردْت أَن تَقول فِي المواسم ملكت مملكة النُّعْمَان بن الْمُنْذر وَتَزَوَّجت ابْنَته فَبِحَق معبودك أَهَذا أردْت قَالَ إِي وَالله قَالَت فَلَا سَبِيل إِلَيْهِ
60 -
(وَلَا فَضْلَ فيهَا لِلشجَاعَةِ وَالنَّدَى
…
وَصَبرِ الفَتى لَوْلَا لِقَاءُ شَعُوبِ)
الْبَيْت لأبى الطّيب المتنبي من قصيدة من الطَّوِيل يمدح بهَا سيف الدولة ابْن حمدَان ويعزيه بغلامه يماك التركي وأولها وَفِيه الخرم وَهُوَ حذف الْحَرْف الأول من الوتد الْمَجْمُوع
(لَا يُحزنِ اللهُ الأميرَ فإِنني
…
لآخُذُ مِنْ حالاتهِ بنصيبِ)
(وَمنْ سَرَّ أَهْلَ الأَرْض ثمَّ بَكَى أسىً
…
بَكى بُعيونٍ سرَّها وَقلوب)
(وَإني وَإِنْ كانَ الدَّفينُ حَبيبهُ
…
حَبيبٌ إِلَى قلبِي حَبيبُ حَبيبي)
(وقَدْ فارَقَ النَّاسُ الأحبَّةَ قبلنَا
…
وَأَعيا دَواءُ الموْت كلَّ طَبيب)
(سُبقنا إِلَى الدُّنيا فَلوْ عاشَ أهْلها
…
مُنعنا بِها مِنْ جَيئةٍ وذُهوب)
(تَملكها الآتِي تملُّكَ سالب
…
وفارقها الْمَاضِي فِرَاق سليب) // الطَّوِيل //
وَبعده الْبَيْت وَبعده
(وأؤفي حَياةِ الغابرينَ لِصاحبٍ
…
حَياةُ امْرِئ خانتهُ بعدَ مَشيب)
(لأبقي يَماك فِي حَشايَ صَبابة
…
إِلَى كلِّ تركيِّ النِّجار جَليب)
(وَمَا كلُّ وَجهٍ أبْيضٍ بِمباركٍ
…
ولَا كلُّ جَفنٍ ضَيِّق بنجيب)
(لئنْ ظَهرتْ فِينا عَليهِ كآبةٌ
…
لقدْ ظَهرتْ فِي حَدِّ كل قَضيب)
(وَفي كلّ قَوْسٍ كلّ يَوْمِ تَناضلٍ
…
وَفي كلِّ طِرفٍ كلّ يَوْم رُكوب)
(يَعزُّ عَليه أنْ يُخلَّ بِعادةٍ
…
وَتدعو لأمرٍ وَهوَ غيرُ مُجيب)
(وَكنتُ إذَا أبْصرتُهُ لكَ قَائِما
…
نَظرتُ إِلَى ذيِ لِبدَتين أريب)
(فإِنْ يكن العلق النّفيسَ فَقدتَهُ
…
فَمن كَفِّ مِتلافٍ أغَرَّ وَهوب)
(لأنَّ الردَي عادٍ على كل ماجدٍ
…
إذَا لمْ يُعوِّذْ مَجدهُ بِعيوب)
(وَلوْلَا أيادِي الدَّهر فِي الجَمع بَيننا
…
غَفلنا فَلمْ نَشعرْ لَهُ بذنوب) // الطَّوِيل //
وَهِي طَوِيلَة
وشعوب اسْم للمنية غير منصرف للعلمية والتأنيث وَصَرفه للضَّرُورَة سميت النتية بذلك لِأَنَّهَا تشعب أَي تفرق
وَالشَّاهِد فِيهِ الحشو الزَّائِد الْمُفْسد وَهُوَ هُنَا لَفْظَة الندى لِأَن الْمَعْنى أَن الدُّنْيَا لَا فضل فِيهَا للشجاعة وَالعطَاء وَالصَّبْر على الشدائد على تَقْدِير عدم الْمَوْت وَهَذَا إِنَّمَا يَصح فِي الشجَاعَة وَالصَّبْر دون الْعَطاء فَإِن الشجاع إِذا تَيَقّن الخلود هان عَلَيْهِ الاقتحام فِي الحروب لعدم خَوفه من الْهَلَاك فَلم يكن فِي ذَلِك فضل وَكَذَلِكَ الصابر إِذا تَيَقّن زَوَال الشدائد والحوادث وَبَقَاء الْعُمر هان عَلَيْهِ صبره على الْمَكْرُوه لوثوقه بالخلاص مِنْهُ بل مُجَرّد طول الْعُمر يهون على النُّفُوس الصَّبْر على المكاره وَلِهَذَا يُقَال هَب أَن لي صَبر أَيُّوب فَمن أَيْن لي عمر نوح بِخِلَاف الْبَاذِل مَاله فَإِنَّهُ إِذا تَيَقّن الخلود شقّ عَلَيْهِ بذل المَال لاحتياجه إِلَيْهِ فَيكون بذله حِينَئِذٍ أفضل أما إِذا تَيَقّن الْمَوْت فقد هان عَلَيْهِ بذله وَلِهَذَا قَالَ طرفَة
(فَإِن كنت لَا أَسْتَطِيع دفع منيتي
…
فذرني أبادرها بِمَا ملكت يَدي) // الطَّوِيل //
وَمثله قَول مهيار الديلمي
(فَكلْ إنْ أكلتَ وَأطعمْ أخاكَ
…
فَلَا الزَّادُ يَبقى وَلا الْآكِل) // المتقارب //
وَقيل المُرَاد بالندى بذل النَّفس لَا المَال كَمَا قَالَ مُسلم بن الْوَلِيد
(يجود بِالنَّفسِ إِن ضن الْجواد بهَا
…
والجود بِالنَّفسِ أقْصَى غَايَة الْجُود) // الْبَسِيط //
ورد بِأَن لفظ الندى لَا يكَاد يسْتَعْمل فِي بذل النَّفس وَإِن اسْتعْمل فعلى وَجه الْإِضَافَة وَالْأَقْرَب مَا ذكره ابْن جني وَهُوَ أَن فِي الخلود وتنقل الْأَحْوَال فِيهِ من عسر إِلَى يسر وَمن شدَّة إِلَى رخاء مَا يسكن النُّفُوس ويسهل الْبُؤْس فَلَا يظْهر لبذل المَال كثير فضل
61 -
(وَأعْلَم عِلْمَ الْيَوْم والأمس قبله
…
)
هُوَ من الْبَحْر الطَّوِيل وَتَمَامه
(وَلكنني عَن علم مَا فِي غَدٍ عَمِ
…
)
وقائله زُهَيْر بن أبي سلمى وَهُوَ من آخر قصيدة قَالَهَا فِي الصُّلْح الْوَاقِع بَين عبس وذبيان وأولها
(أَمِنْ أمِّ أوفى دِمنةٌ لم تَكلم
…
بِحوْمانةِ الدَّرَّاج فالمُتثلم)
(ودَارٌ لَهَا بالرَّقمتين كَأَنَّهَا
…
مَراجِيعُ وَشمٍ فِي نَواشر مِعصم)
(بهَا الْعينُ والآرامُ يَمشينَ خِلفةً
…
وَأطلاؤها يَنهضنَ من كلِّ مجثم) // الطَّوِيل //
وَمعنى الْبَيْت أَن علمي قد يُحِيط بِمَا مضى وَبِمَا هُوَ حَاضر ولكنني عمي الْقلب عَن الْإِحَاطَة بِمَا هُوَ منتظر متوقع يُرِيد لَا أَدْرِي مَاذَا يكون غَدا
وَالشَّاهِد فِيهِ الحشو الْغَيْر مُفسد للمعنى وَهُوَ لَفْظَة قبله
وَمثله قَول عدي الْمُتَقَدّم
(نحْنُ الرؤسُ وَما الرؤسُ إذَا سمتْ
…
فِي المَجدِ لِلأقْوَام كالأذناب) // الْكَامِل //
فَقَوله للأقوام حَشْو وَفِيه نظر لِأَن اسْتِعْمَال الرَّأْس فِي الْمُقدم والرائس مجَاز وَذكر الأقوام كالقرينة
وَقَول الآخر
(ذكَرْتُ أخي فَعاودِني
…
صداع الرَّأْس والوءصب) // من مجزوء الوافر //
فلفظة الرَّأْس حَشْو فَإِن الصداع لَا يسْتَعْمل إِلَّا فِي الرَّأْس
وَمن الحشو الْمُفْسد قَول ديك الْجِنّ
(فتنفست فِي الْبَيْت إذْ مُزجتْ
…
بِالماء وَاسْتلتْ سَنا اللهب)
(كتنفُّسِ الريحانِ خالطهُ
…
منْ وردِ جور ناضر الشّعب) // الْكَامِل //
فَذكره المزاج يُغني وَالْمَاء فضل لَا يحْتَاج إِلَيْهِ وَقد قصر عَن قَول أبي نواس
(سلوا قنَاعَ الطينِ عَن رَمقٍ
…
حيّ الحياةِ مُشَارف الحتف)
(فتنفستْ فِي الْبَيْت إِذْ مُزِجتْ
…
كتنفس الريحانِ فِي الْأنف) // الْكَامِل //
وَزُهَيْر بن أبي سلمى هُوَ أَبُو كَعْب وبجير وَاسم أبي سلمى ربيعَة بن رَبَاح بن قُرَّة يَنْتَهِي نسبه لنزار وَهُوَ أحد الثَّلَاثَة المقدمين على سَائِر الشُّعَرَاء وَإِنَّمَا الْخلاف فِي تَقْدِيم أحد الثَّلَاثَة على صَاحِبيهِ فَأَما الثَّلَاثَة فَلَا اخْتِلَاف فيهم وَهُوَ امْرُؤ الْقَيْس وَزُهَيْر والنابغة الذبياني
وَعَن عمر بن عبد الله اللَّيْثِيّ قَالَ قَالَ عمر بن الْخطاب رضي الله عنه لَيْلَة فِي مسيره إِلَى الْجَابِيَة أَيْن ابْن عَبَّاس قَالَ فَأَتَيْته فَشَكا إِلَيّ تخلف عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه فَقلت أَو لم يعْتَذر إِلَيْك قَالَ بلَى قلت هُوَ مَا اعتذر بِهِ ثمَّ قَالَ إِن أول من ريثكم عَن هَذَا الْأَمر أَبُو بكر رضي الله عنه إِن قومكم كَرهُوا أَن يجمعوا لكم بَين الْخلَافَة والنبوة ثمَّ ذكر رضي الله عنه قصَّة طَوِيلَة قَالَ ثمَّ قَالَ لي هَل تروي لشاعر الشُّعَرَاء قلت وَمن هُوَ قَالَ الَّذِي يَقُول
(وَلَو أنَّ حمداً يخلدُ الناسَ خُلدوا
…
ولكنَّ حَمْد النَّاس لَيْسَ بمخلد) // الطَّوِيل //
قلت ذَاك زُهَيْر بن أبي سلمى قَالَ هُوَ شَاعِر الشُّعَرَاء قلت وَبِمَ كَانَ شَاعِر الشُّعَرَاء قَالَ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يعاظل فِي الْكَلَام وَكَانَ يتَجَنَّب وَحشِي الشّعْر وَكَانَ لَا يمدح أحدا إِلَّا بِمَا هُوَ فِيهِ
وَفِي رِوَايَة أَنه قَالَ لَهُ أَنْشدني لَهُ فَأَنْشَدته حَتَّى برق الْفجْر فَقَالَ حَسبك الْآن اقْرَأ الْقُرْآن قلت وَمَا أَقرَأ قَالَ الْوَاقِعَة فقرأتها وَنزل فَأذن وَصلى
وَسَأَلَ مُعَاوِيَة الْأَحْنَف بن قيس عَن أشعر الشُّعَرَاء فَقَالَ زُهَيْر قَالَ وَكَيف ذَاك قَالَ كف عَن المادحين فضول الْكَلَام قَالَ بِمَاذَا قَالَ بقوله
(فَمَا يَكُ من خيرٍ أتوْهُ فإِنما
…
توارثه آبَاء آبَائِهِم قبل) // الطَّوِيل //
ويروى أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم نظر إِلَى زُهَيْر بن أبي سلمى وَله مائَة سنة فَقَالَ اللَّهُمَّ أعذني من شَيْطَانه فَمَا لاك بَيْتا حَتَّى مَاتَ
وَعَن الْأَصْمَعِي قَالَ قَالَ عمر رضي الله عنه لبَعض ولد هرم بن سِنَان أَنْشدني مدح زُهَيْر أَبَاك فأنشده فَقَالَ عمر إِن كَانَ ليحسن القَوْل فِيكُم فَقَالَ وَنحن وَالله إِن كُنَّا لنحسن لَهُ الْعَطاء فَقَالَ ذهب مَا أعطيتموه وَبَقِي مَا أَعْطَاكُم
قَالَ وَبَلغنِي أَن هرم بن سِنَان كَانَ قد حلف أَن لَا يمدحه زُهَيْر إِلَّا أعطَاهُ وَلَا يسْأَله إِلَّا أعطَاهُ وَلَا يسلم عَلَيْهِ إِلَّا أعطَاهُ غرَّة عبدا أَو وليدة أَو فرسا فاستحيا زُهَيْر مِمَّا كَانَ يقبل مِنْهُ فَكَانَ إِذا رَآهُ فِي مَلأ قَالَ انعموا صباحاً غير هرم وخيركم استثنيت
وَعَن عمر بن شيبَة قَالَ قَالَ عمر رضي الله عنه لِابْنِ زُهَيْر مَا فعلت بالحلل الَّتِي كساها هرم أَبَاك قَالَ أبلاها الدَّهْر قَالَ لَكِن الْحلَل الَّتِي كساها أَبوك هرماً لم يبلها الدَّهْر
وَقَالَ أَبُو زيد الطَّائِي أنْشد عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَول زُهَيْر
(وَمهما يكنْ عندَ امْرِئ من خَلِيقَة
…
وَإِن خالها تخفي على النَّاس تعلم) // الطَّوِيل //
فَقَالَ أحسن زُهَيْر وَصدق وَلَو أَن رجلا دخل بَيْتا فِي جَوف بَيت لتحدث بِهِ النَّاس قَالَ وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم (لَا تعْمل عملا تكره أَن يتحدث النَّاس بِهِ عَنْك) وَمِنْه قَول عَمْرو بن الْأَهْتَم
(إِذا الْمَرْء لم يجببك إِلَّا تكرهاً
…
بدَا لَك من أخلاقه مَا يغالب) // الطَّوِيل //
وَقَول أبي الطّيب المتنبي
(وللنفسِ أخلاقٌ تدلّ على الْفَتى
…
أكَانَّ سخاءً مَا أَتَى أم تساخيا) // الطَّوِيل //
وَعَن الْمَدَائِنِي أَن عُرْوَة بن الزبير رضي الله عنه لحق بِعَبْد الْملك بن مَرْوَان رضي الله عنهما فَكَانَ إِذا دخل عَلَيْهِ مُنْفَردا أكْرمه وَإِذا دخل عَلَيْهِ وَعِنْده أهل الشَّام استخف بِهِ فَقَالَ لَهُ يَوْمًا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ بئس المزور أَنْت تكرم ضيفك فِي الخلا وتهينه فِي الملا ثمَّ قَالَ لله در زُهَيْر حَيْثُ يَقُول
(فَحُلى من دِيَارك إنّ قوما
…
مَتى يَدعُوا ديارهمُ يهونوا) // الوافر //
ثمَّ استأذنه فِي الرُّجُوع إِلَى الْمَدِينَة المنورة فَقضى حَوَائِجه وَأذن لَهُ
وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي كَانَ لزهير فِي الشّعْر مَا لم يكن لغيره كَانَ أَبوهُ شَاعِرًا وَهُوَ شَاعِر وخاله شَاعِر وابناه كَعْب وبجيرٌ شاعران وَأُخْته سلمى شاعرة وَأُخْته الخنساء شاعرة وَهِي القائلة ترثيه
(وَمَا يُغني توَقِّي المرءِ شَيْئا
…
وَلَا عقدُ التميم وَلَا الغضارُ)
(إِذا لَاقَى منيتهُ فأمسى
…
يساقُ بِهِ وَقد حق الحذارُ)
(ولاقاهُ من الأيامِ يومٌ
…
كَمَا من قبلُ لم يخلد قدار) // الوافر //
وَكَانَ زُهَيْر يضْرب بِهِ الْمثل فِي التَّنْقِيح فَيُقَال حوليات زُهَيْر لِأَنَّهُ كَانَ يعْمل القصيدة فِي لَيْلَة ثمَّ يبْقى حولا ينقحها
وَمِمَّا يعد من محاسنه قَوْله
(وأَبيض فياض نداهُ غمامةٌ
…
على مقتفيه مَا تُغِبّ فواضله)
(ترَاهُ إِذا مَا جِئْته متهللا
…
كَأَنَّك تعطيه الَّذِي أَنْت سائله) // الطَّوِيل //
وَقَوله أَيْضا
(كمْ زرتهُ وظلامُ الليلَ منسدلٌ
…
مسهم راقَ إعجاباً بأنجمه)
(وأُبتُ وَالصُّبْح منحور بكوكبهِ
…
وسائق الشَّفق المحمر من دمهِ) // الْبَسِيط //
ومحاسنه ومحاسن أَوْلَاده كَثِيرَة وغرتها قصيدة كَعْب وَهِي
(بَانَتْ سعادُ فقلبي اليومَ متبولُ
…
)
المشرفة بِمن قيلت فِيهِ صلى الله عليه وسلم 62
(فإِنكَ كالليل الَّذِي هُوَ مدركي
…
وَإنْ خلتُ أَن المنتأى عَنْك واسعُ)
الْبَيْت للنابغة الذبياني من قصيدة من الطَّوِيل يمدح بهَا أَبَا قَابُوس وَهُوَ النُّعْمَان بن الْمُنْذر ملك الْحيرَة وأولها
(عفاذ وحسا من فرتني فالفوارعُ
…
فجنبا أريك فالتلاع الدوافع)
(فمجتمع الأشراج غيَّرَ رسمَها
…
مصايفُ قد مرتْ بِنَا ومرابع)
(توهمْتُ آيَات لَهَا فعرفتهَا
…
لستةِ أعوامِ وذَا الْعَام سَابِع) // الطَّوِيل //
إِلَى أَن قَالَ فِيهَا
(وَقد حَال همّ دون ذَلِك شاغلٌ
…
مَكَان الشغاف تبتغيه الأصابعُ)
(وَعيدُ أبي قابوسَ فِي غير كهنه
…
أَتَانِي ودوني راكسٌ فالضواجِعُ)
(فَبت كَأَنِّي ساورتني ضَئيلةٌ
…
من الرُّقْش فِي أنيابها السم ناقعُ)
(يُسهَّدُ من ليل التَّمام سليمها
…
لحَلى النِّسَاء فِي يَدَيْهِ قَعَاقعُ)
(تَناذَرها الراقونَ من سوءِ سمها
…
تُطَلقِّهُ طَوْراً وطَوْراً تراجعُ)
(أَتَانِي أبَيْت اللعنَ أنكَ لمتني
…
وَتلك الَّتِي تَستْكَ مِنْهَا المسامعُ)
(مقالةُ أَن قد قلت سَوف أنالُهُ
…
وذلكَ من تلقاءِ مثلك رائع) // الطَّوِيل //
إِلَى أَن قَالَ فِيهَا
(فَإِن كنتَ لَا ذُو الضَّغِن عني مُكذَّب
…
وَلَا حَلفِي على البرَاءَةِ نافُع)
(وَلَا أَنا مأمونٌ بشيءِ أقوُلهُ
…
وَأَنت بِأمرٍ لَا محالةَ واقعُ)
وَبعده الْبَيْت وَبعده
(خَطاطيفُ حُجْنٌ فِي حِبالٍ متينة
…
تمدُّ بهَا أيدٍ إلَيكَ نوازُع)
(سَتبلُغ عذرا أَو نجاحاً من امرِئ
…
إِلَى رَبّهِ ربّ البريةِ رَاكِع)
(أتوعِدُ عبدا لم يخُنكَ أَمَانَة
…
وَيتْرك عبدٌ ظَالِم وَهُوَ ظالعُ)
(وَأَنت رَبيعٌ يُنعش الناسَ سيبْهُ
…
وَسَيفٌ أُعيرَتهُ المنيةُ قاطعُ)
(أبي الله إِلَّا عَدْلَهُ ووفاءَهُ
…
فَلَا النكر معروفٌ وَلَا الْعرف ضائع)
(وتُسقي إِذا مَا شِئْت غيرَ مُصَرَّد
…
بزَورَاءَ فِي حافاتها الْمسك كانع) // الطَّوِيل //
والمنتأى اسْم مَوضِع من انتأى عَنهُ أَي بعد وَشبهه بِاللَّيْلِ لِأَنَّهُ وَصفه فِي حَال سخطه وهوله
وَالْمعْنَى أَنه لَا يفوت الممدوح وَإِن أبعد فِي الْهَرَب وَصَارَ إِلَى أقْصَى الأَرْض لسعة ملكه وَطول يَده وَلِأَن لَهُ فِي جَمِيع الْآفَاق مُطيعًا لأَمره يرد الهارب إِلَيْهِ
وَقد اعْترض الْأَصْمَعِي على النَّابِغَة فَقَالَ أما تشبيهه الْإِدْرَاك بِاللَّيْلِ فقد تساوى اللَّيْل وَالنَّهَار فِيمَا يدركانه وَإِنَّمَا كَانَ سَبيله أَن يَأْتِي بِمَا لَا قسيم لَهُ حَتَّى يَأْتِي بِمَعْنى مُنْفَرد فَلَو قَالَ قَائِل إِن قَول النميري فِي ذَلِك أحسن مِنْهُ لوجد مساغاً إِلَى ذَلِك حَيْثُ يَقُول
(فَلَو كنتُ كالعَنقاءِ أَو كسموها
…
لَخِلْتكَ إِلَّا أَن تَصدَّ تراني) // الطَّوِيل //
وَالشَّاهِد فِيهِ مُسَاوَاة اللَّفْظ للمعنى المُرَاد
وَفِي معنى بَيت النَّابِغَة قَول عَليّ بن جبلة
(وَمَا لامرئ حاوَلْتُه منكَ مَهَربٌ
…
وَلَو رَفَعتهُ فِي السماءِ المطالعُ)
(بَلى هاربٌ لَا يَهْتَدِي لمكانه
…
ظلامٌ وَلَا ضوءٌ من الصُّبْح سَاطِع) // الطَّوِيل //
وَأكْثر الأدباء يرجحه على بَيت النَّابِغَة وَفِي هَذَا الْمَعْنى أَيْضا قَول سلم الخاسر
(فأنْتَ كالدهر مَبثوثاً حبائُلُه
…
والدهرُ لَا ملْجأ منهُ وَلَا هربُ)
(وَلَو مَلَكتُ عنانَ الرّيح أصْرِفها
…
فِي كل نَاحيَة مَا فاتَكَ الطلَبُ) // الْبَسِيط //
وتناوله البحتري أَيْضا فَقَالَ
(وَلَو أَنهم ركبُوا الْكَوَاكِب لم يكن
…
ينجيهمُ من خوفِ بأسك مهرب) // الْكَامِل //
وَمَا أبدع قَول أبي الْقَاسِم بن هَانِئ فِيهِ
(أَيْن المفر وَلَا مفَرَّ لهاربٍ
…
ولكَ البسيطانِ الثرَي والماءُ) // الْكَامِل //
وَقَول الآخر
(فَلَو كُنْتُ فوقَ الرّيح ثمَّ طَلَبتني
…
لَكُنْت كمن ضَاقَتْ عَلَيْهِ المذاهِبُ) // الطَّوِيل //
وبديع قَول أبي الْعَرَب الصّقليّ
(كَأَن بلادَ الله كفَّاكَ إِن يَسِرْ
…
بهَا هاربٌ تجمعْ عَلَيْهِ الأنامِلُ)
(وأبن يَفِرُّ المرءُ عَنْك بجرمِهِ
…
إِذا كَانَ تُطْوَي فِي يديكَ المراحل) // الطَّوِيل //
والنابغة اسْمه زِيَاد بن مُعَاوِيَة بن ضباب يَنْتَهِي نسبه إِلَى ذبيان ثمَّ لمضر ويكنى أَبَا أُمَامَة وَإِنَّمَا سمي النَّابِغَة لقَوْله
(وَقد نَبَغَتْ لَهُم منَّا شُؤون
…
)
وَهُوَ أحد الْأَشْرَاف الَّذين غض مِنْهُم الشّعْر وَهُوَ من الطَّبَقَة الأولى المقدمين على سَائِر الشُّعَرَاء
عَن ربعي بن خرَاش قَالَ قَالَ لنا عمر رضي الله عنه يَا معشر غطفان من الَّذِي يَقُول
(أتَيتكَ عَارِيا خَلَقاً ثِيَابِي
…
على خوفٍ تُظن بيَ الظنونُ) // الوافر //
قُلْنَا النَّابِغَة قَالَ ذَاك أشعر شعرائكم
وَعَن جرير بن يزِيد بن جرير بن عبد الله البَجلِيّ قَالَ كُنَّا عِنْد الْجُنَيْد
أَرَادَ لملتنا وأدفأتنا وأظلتنا إِلَّا أَنه حذف الْمَفْعُول من هَذِه الْمَوَاضِع ليدل على مَطْلُوبه بطرِيق الْكِنَايَة
والبحتري هُوَ الْوَلِيد بن عبيد بن يحيى يَنْتَهِي نسبه إِلَى طَيئ ويكنى أَبَا عبَادَة وَهُوَ شَاعِر فصيح فَاضل حسن المشرب وَالْمذهب نفي الْكَلَام مطبوع وَله تصرف فِي ضروب الشّعْر سوى الهجاء فَإِن بضاعته فِيهِ نزرة وجيده مِنْهُ قَلِيل وَكَانَ ابْنه أَبُو الْغَوْث يزْعم أَن السَّبَب فِي قلَّة بضاعته فِي هَذَا الْفَنّ أَنه لما حَضَره الْمَوْت دَعَا بِهِ وَقَالَ لَهُ اجْمَعْ كل شَيْء قلته فِي الهجاء فَفعل فَأمره بإحراقه
وَكَانَ البحتري يتشبه بِأبي تَمام فِي شعره ويحذو حَذْو مذْهبه وينحو نَحوه فِي الْبَدَائِع الَّتِي كَانَ أَبُو تَمام يستعملها وَيَرَاهُ صاحباً وإماماً ويقدمه على نَفسه وَيَقُول فِي الْفرق بَينه وَبَينه قَول منصف إِن جيد أبي تَمام خير من جيده ووسطه ورديئه خير من وسط أبي تَمام وردئيه وَكَذَا هُوَ حكم لنَفسِهِ
وَسُئِلَ أَبُو الْعَلَاء المعري أَي الثَّلَاثَة أشعر أَبُو تَمام أم البحتري أم المتنبي فَقَالَ هما حكيمان والشاعر البحتري
ابْن عبد الرَّحْمَن بخراسان وَعِنْده بَنو مرّة وجلساؤه من النَّاس فتذاكروا شعر النَّابِغَة حَتَّى أنشدوا قَوْله
(فَإنَّك كالليل الَّذِي هُوَ مدركي
…
)
الْبَيْت فَقَالَ شيخ من بني مرّة وَمَا الَّذِي رأى فِي النُّعْمَان حَتَّى يَقُول مثل هَذَا وَهل كَانَ النُّعْمَان إِلَّا على منظرة من مناظر الْحيرَة وَقَالَت ذَلِك القيسية أَيْضا فَأَكْثَرت فَنظر إِلَيّ الْجُنَيْد فَقَالَ يَا أَبَا خَالِد لَا يهولنك قَول هَؤُلَاءِ الأعاريب وَأقسم بِاللَّه لَو عاينوا من النُّعْمَان مَا عاين صَاحبهمْ لقالوا أَكثر مِمَّا قَالَ وَلَكنهُمْ قَالُوا مَا تسمع وهم آمنون
وَقَالَ عمر بن الْمُنْتَشِر الْمرَادِي وفدنا على عبد الْملك بن مَرْوَان فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فَقَامَ رجل فَاعْتَذر إِلَيْهِ من أَمر وَحلف عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ عبد الْملك مَا كنت حرياً أَن تفعل وَلَا تعتذر ثمَّ أقبل على أهل الشَّام فَقَالَ أَيّكُم يروي من اعتذار النَّابِغَة إِلَى النُّعْمَان
(حَلَفت فَلم أترك لنَفسك رِيبَة
…
وَلَيْسَ وَرَاء الله للمرء مَذْهَب) // الطَّوِيل //
فَلم يجد فيهم من يرويهِ فَأقبل عَليّ فَقَالَ أترويه قلت نعم فَأَنْشَدته القصيدة كلهَا فَقَالَ هَذَا أشعر الْعَرَب
وَعَن أبي عُبَيْدَة وَغَيره أَن النَّابِغَة كَانَ خَاصّا بالنعمان وَكَانَ من ندمائه وَأهل أنسه فَرَأى زَوجته المتجردة يَوْمًا وَقد غشيها شَيْء شَبيه بالفجاءة فَسقط نصيفها فاستترت بِيَدَيْهَا وذراعيها فَكَادَتْ ذراعها تستر وَجههَا لعبالتها
وغلظها فَقَالَ قصيدته الَّتِي أَولهَا
(من آلِ مَيَّةَ رائحٌ أَو مُغتدي
…
عَجْلان ذَا زادٍ وغيرَ مُزوَّدِ)
(زعم البَوارحُ أَن رحْلَتَنا غَدا
…
وبذاك تَنْعاب الغرابِ الأسودِ)
(لَا مرْحَبًا بغد وَلَا أَهلا بهِ
…
إِن كانَ تفريقُ الأحبةِ فِي غدِ)
(أزفَ الترحُّلُ غيرَ أَن ركابَنا
…
لما نزل برحالِنا وَكَأن قد)
(فِي إنرغانية رَمَتك بِسهمها
…
فَأصَاب قلْبَكَ غيرَ أَن لم تقصِد)
(بالدُّر والياقوت زُيْنَ نحرُها
…
ومُفَصَّلٍ مِن لؤلؤٍ وزبرجَدِ)
(سقط النصيف وَلم ترد إِسْقَاطه
…
فتناولته واتَّقتنا باليَدِ)
(بُمخَضَّبٍ رَخْصٍ كَأَن بَنَانَهُ
…
عنمٌ على أغصانه لم يُعقَدِ)
(وبفاحِمٍ رَجْلٍ أثيثٍ نَبْتُهُ
…
كالكرم مَال على الدِّعام المسَندِ)
(نَظرتْ إليكَ لحَاجةٍ لم تَقضها
…
نَظرَ السَّقيم إِلَى وُجوهِ الْعودِ) // الْكَامِل //
وَهِي طَوِيلَة فأنشدها النَّابِغَة مرّة بن سعد القريعي فأنشدها مرّة النُّعْمَان فَامْتَلَأَ غَضبا وأوعد النَّابِغَة وتهدده فهرب فَأتى قومه ثمَّ شخص إِلَى مُلُوك غَسَّان بِالشَّام فامتدحهم
وَقد اعْترض الْأَصْمَعِي على الْبَيْت الْأَخير من هَذِه الأبيات فَقَالَ أما تشبيهه مرض الطّرف فَحسن إِلَّا أَنه هجنه بِذكر الْعلَّة وتشبيهه الْمَرْأَة بالعليل
وَأحسن مِنْهُ قَول عدي بن الرّقاع العاملي
(وَكَأَنَّهَا بَين النِّساءِ أَعارَها
…
عَينيهِ أحْوَر مِنْ جآذِر جاسم)
(وسْنانُ أقْصدهُ النُّعاسُ فرنقت
…
فِي عَيْنَيْهِ سِنَةٌ ولَيسَ بِنائم) // الْكَامِل //
وَأما قَوْله سقط النصيف الْبَيْت فيروى أَن عبد الْملك بن مَرْوَان قَالَ يَوْمًا لجلسائه أتعلمون أَن النَّابِغَة كَانَ مخنثاً قَالُوا وَكَيف ذَلِك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ أَو مَا سَمِعْتُمْ قَوْله يَعْنِي هَذَا الْبَيْت وَالله مَا عرف هَذِه الْإِشَارَة إِلَّا مخنث
وَقد أَخذ هَذَا الْمَعْنى أَبُو حَيَّة النميري فَقَالَ
(فألقتْ قناعاً دُونهُ الشَّمسُ واتقتْ
…
بأحْسن مَوْصولين كفٍّ ومِعصمِ) // الطَّوِيل //
ثمَّ أَخذه الشماخ فَقَالَ
(إذَا مَرَّ مَنْ تخشى اتَّقته بِكفها
…
وَسِبٍّ بنضْحِ الزَّعفران مُضرَّج) // الطَّوِيل //
وأظرف مَا يعرف من هَذَا الْمَعْنى مَا أنْشدهُ القَاضِي التنوخي لنَفسِهِ
(لم أنسَ شمسَ الضُّحى تُطالعني
…
وَنحنُ فِي رَوضةٍ على فَرقِ)
(وَجفنُ عَيني بِمائهِ شَرِقٌ
…
وَقدْ بَدَت فِي مُعصفرٍ شرِق)
(كَأَنَّهُ دَمعتي وَوجنتها
…
حِين رَمتنا العيونُ بِالحدقِ)
(ثمَّ تَغطَّتْ بِكمها خَجلاً
…
كالشمسِ غابتْ فِي حمرَة الشَّفق) // المنسرح //
رَجَعَ إِلَى أَخْبَار النَّابِغَة
عَن الْمفضل أَن مرّة الَّذِي وشى بالنابغة كَانَ لَهُ سيف قَاطع يُقَال لَهُ ذُو الريقة من كَثْرَة فرنده وجودته فَذكره النَّابِغَة للنعمان فاضطغن من ذَلِك مرّة حَتَّى وشى بِهِ إِلَى النُّعْمَان وحرضه عَلَيْهِ
وَقيل إِن الَّذِي من أَجله هرب النَّابِغَة من النُّعْمَان أَنه كَانَ هُوَ والمنخل بن عبيد ابْن عَامر الْيَشْكُرِي جالسين عِنْده وَكَانَ النُّعْمَان دميماً أبرش قَبِيح المنظر وَكَانَ
المنخل من أجمل الْعَرَب وَكَانَ يَرْمِي بالمتجردة زَوْجَة النُّعْمَان وتتحدث الْعَرَب أَن ابنى النُّعْمَان مِنْهَا كَانَا من المنخل فَقَالَ النُّعْمَان للنابغة يَا أَبَا أُمَامَة صف المتجردة فِي شعرك فَقَالَ قصيدته هَذِه وَوصف فِيهَا بَطنهَا وروادفها وفرجها فلحق المنخل من ذَلِك غيرةٌ فَقَالَ للنعمان مَا يَسْتَطِيع أَن يَقُول هَذَا الشّعْر إِلَّا من جرب فوقر ذَلِك فِي نفس النُّعْمَان وَبلغ النَّابِغَة فخافه فهرب فَصَارَ إِلَى غَسَّان فَنزل بِعَمْرو بن الْحَارِث الْأَصْغَر ومدحه ومدح أَخَاهُ النُّعْمَان وَلم يزل مُقيما مَعَ عَمْرو حَتَّى مَاتَ وَملك أَخُوهُ النُّعْمَان فَصَارَ مَعَه إِلَى أَن استعطفه النُّعْمَان فَعَاد إِلَيْهِ
وَعَن أبي بكر الْهُذلِيّ قَالَ قَالَ حسان بن ثَابت رضي الله عنه قدمت على النُّعْمَان بن الْمُنْذر وَقد امتدحته فَأتيت حَاجِبه عِصَام بن شهير فَجَلَست إِلَيْهِ فَقَالَ إِنِّي أرى عَرَبيا أَفَمَن الْحجاز أَنْت قلت نعم قَالَ فَكُن قحطانياً قلت فَإِنِّي قحطاني قَالَ فَكُن يثربياً قلت فَإِنِّي يثربي قَالَ فَكُن خزرجياً قلت فَإِنِّي خزرجي قَالَ فَكُن حسان بن ثَابت قلت فَأَنا هُوَ قَالَ أجئت بمدحة الْملك قلت نعم قَالَ فَإِنِّي سأرشدك إِذا دخلت عَلَيْهِ فَإِنَّهُ سيسألك عَن جبلة بن الْأَيْهَم ويسبه فإياك أَن تساعده على ذَلِك وَلَكِن أمرر ذكره إمراراً لَا توَافق فِيهِ وَلَا تخَالف وَقل مَا دُخُول مثلي أَيهَا الْملك بَيْنك وَبَين جبلة وَهُوَ مِنْك وَأَنت مِنْهُ فَإِن دعَاك إِلَى الطَّعَام فَلَا تواكله فَإِن أقسم عَلَيْك فأصب مِنْهُ الْيَسِير إِصَابَة مبر قسمه متشرف بمواكلته لَا أكل جَائِع سغب وَلَا تبدأه بأخبار عَن شَيْء حَتَّى يكون هُوَ السَّائِل لَك وَلَا تطل الْإِقَامَة فِي مَجْلِسه فَقلت أحسن الله رفدك قد أوصيت واعياً وَدخل ثمَّ خرج إِلَيّ فَقَالَ ادخل فَدخلت وحييت بِتَحِيَّة الْملك فجاراني فِي أَمر جبلة مَا قَالَه لي عِصَام كَأَنَّهُ كَانَ حَاضرا فأجبت بِمَا أَمرنِي ثمَّ استأذنته فِي الإنشاد فَأذن لي فَأَنْشَدته ثمَّ دَعَا بِالطَّعَامِ فَفعلت مثل ذَلِك فَأمر لي بجائزة سنية وَخرجت فَقَالَ لي عِصَام بقيت عَلَيْك وَاحِدَة لم أوصك بهَا بَلغنِي أَن النَّابِغَة الذبياني
(وَرَنَّة تَحت غنة قدرتْ
…
من هَالك الرَّاء ذامر الألفِ)
(كَأَن فِي فِيهِ لقْمَة عقلت
…
لِسَانه فالتوى على حنفِ)
(محركٌ رأسَهُ توهمهْ
…
قدْ قامَ من عطسة على شرف) // المنسرح //
وَهُوَ بليغ التَّشْبِيه فِي مَعْنَاهُ
وَأنْشد البحتري شَيْئا من شعر أبي سهل بن نوبخت فَجعل يُحَرك رَأسه فَقيل لَهُ مَا تَقول فِيهِ فَقَالَ هُوَ يشبه مضغ المَاء لَيْسَ لَهُ طعم وَلَا معنى
وَقد نظمت هَذَا لغَرَض عرض لي فَقلت
(ربّ خُذ للشعر من زُمَرِ
…
أسمعونا مِنْهُ مَا أضني)
(مثلُ طعم المَاء لَيْسَ لَهُ
…
فِي فمٍ طعمٌ وَلَا معنى) // المديد //
وَرَأَيْت بعد ذَلِك بَيْتا آخر فِي الْمَعْنى وَهُوَ
(حَدِيث مثلْ لعق المَاء بحتاً
…
وَلَيْسَ للعق بحت المَاء طعم) // الوافر //
والبحت بِالْمُثَنَّاةِ فَوق الصّرْف
وَذكرت بِأَبْيَات البحتري فِي الحبسة مَا نظمته قَدِيما وَهُوَ
(إِن قالَ شعرًا خلته
…
علكاً قَوِيا يعلك)
(وإنَ شدا فصوتهُ
…
صَوت دَجَاج يمسك) // الرجز //
واجتازت جاريةٌ بالمتوكل مَعهَا كوز مَاء وَهِي أحسن من الْقَمَر فَقَالَ مَا اسْمك قَالَت برهَان قَالَ وَلمن هَذَا المَاء قَالَت لستي قبيحة قَالَ صَبِيه فِي حلقي فشربه عَن آخِره ثمَّ قَالَ للبحتري قل فِي هَذَا شَيْئا فَقَالَ
(مَا قهوةٌ من رحيق كأسها ذهبٌ
…
جَاءَت بهَا الْحور من جنَّات رضوانِ)
(يَوْمًا بأطيب من مَاء بِلَا عطشٍ
…
شربته عَبَثا من كف برهانِ) // الْبَسِيط //
قادم عَلَيْهِ وَإِذا قدم عَلَيْهِ فَلَيْسَ لأحد مِنْهُ حَظّ سواهُ فَاسْتَأْذن حِينَئِذٍ وَانْصَرف مكرماً خير من أَن تَنْصَرِف مجفوا قَالَ فأقمت بِبَابِهِ شهرا ثمَّ قدم عَلَيْهِ خَارِجَة ابْن سِنَان ومنظور بن زبان الفزاريان وَكَانَ بَينهمَا وَبَين النُّعْمَان دخلل أَي خَاصَّة وَكَانَ مَعَهُمَا النَّابِغَة قد استجار بهما وسألهما مسالة النُّعْمَان أَن يرضى عَنهُ فَضرب عَلَيْهِمَا قبَّة وَلم يشْعر أَن النَّابِغَة مَعَهُمَا فَدس النَّابِغَة قينة تغنية بِشعرِهِ
(يَا دارمية بالْعلياء فالسَّندِ
…
)
فَلَمَّا سمع الشّعْر قَالَ أقسم بِاللَّه إِنَّه لشعر النَّابِغَة وَسَأَلَ عَنهُ فَأخْبر أَنه مَعَ الفزاريين وَكَلَّمَاهُ فِيهِ فَأَمنهُ ثمَّ خرج فِي غب سَمَاء فعارضه الفزاريان والنابغة بَينهمَا قد خضب بحناء وأقنى خضابه فَلَمَّا رَآهُ النُّعْمَان قَالَ هِيَ بِدَم كَانَت أَحْرَى أَن تخضب فَقَالَ الفزاريان أَبيت اللَّعْن لَا تَثْرِيب قد أجرناه وَالْعَفو أجمل قَالَ فَأَمنهُ واستنشده أشعاره فَعِنْدَ ذَلِك قَالَ حسان بن ثَابت فحسدته على ثَلَاث لَا أَدْرِي على أيتهن كنت أَشد لَهُ حسداً على إدناء النُّعْمَان لَهُ بعد المباعدة ومسايرته لَهُ وإصغائه إِلَيْهِ أم على جودة شعره أم على مائَة بعير من عصافيره أَمر لَهُ بهَا
قَالَ وَكَانَ النَّابِغَة يَأْكُل وَيشْرب فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة من عطايا النُّعْمَان وَأَبِيهِ وجده لَا يسْتَعْمل غير ذَلِك
وَقيل إِن السَّبَب فِي رُجُوع النَّابِغَة إِلَيْهِ بعد هربه مِنْهُ أَنه بلغه أَنه عليل لَا يُرْجَى فأقلقه ذَلِك وَلم يملك الصَّبْر على الْبعد عَنهُ مَعَ علته وَمَا خافه عَلَيْهِ وأشفق من حُدُوثه بِهِ فَصَارَ إِلَيْهِ فألفاه مَحْمُولا على سَرِير ينْقل مَا بَين الْعمرَان وقصور الْحيرَة فَقَالَ لعصام حَاجِبه
(ألم أقسمْ عَليكَ لَتخبرنِّي
…
أمحمولٌ على النَّعش الهمامُ)
(فإِني لَا ألامُ على دُخولي
…
وَلكنْ مَا وَراءكَ يَا عِصامُ)
(فإِنْ يَهلكْ أَبو قابوسَ يَهلك
…
رَبيعُ النَّاسِ والشَّهرُ الحَرامُ)
(ونُمْسِكْ بَعدُه بذناب عَيش
…
أجْبِّ الظَّهرِ لَيسُ لهُ سَنامُ) // الوافر //
وَمَات النَّابِغَة الذبياني على جاهليته وَلم يدْرك الْإِسْلَام
63 -
(أنَا ابْنَ جَلَا
…
... .
…
) هُوَ أول بَيت لسحيم بن وثيل الريَاحي وَلَفظه
(أَنا ابنُ جلا وطلاع الثنايا
…
مَتى أَضَع الْعِمَامَة تَعرفونِي)
وَهَذَا الْبَيْت من قصيدة من الوافر أَولهَا
(أفاطِمَ قبل بَيْنك متعيني
…
ومنعُكِ مَا سألتُ كَأَن تبيني) // الوافر //
يَقُول فِيهَا أَيْضا
(فإنَّ عُلالتي وجرَاء حَولي
…
لذُو شقّ عَلى الضَّرع الظَّنونِ)
(أَنا ابنُ الغرّ من سلفي رياحٍ
…
كنصلِ السيفِ وضاح الجبين) // الوافر //
وَبعده الْبَيْت وَبعده
(وإنَّ مكانَنا من حِميرِيّ
…
مكانُ الليثِ من وَسطِ العرينِ)
(وإِن قَناتنا مَشِظٌ شَظاها
…
شديدٌ مدّها عنقَ القرِين)
(وَإِنِّي لَا يعودُ إليَّ قِرني
…
غداةَ الغبِّ إِلَّا فِي قَرين)
(بِذِي لِبَدٍ يَصُدُّ الرَّكبَ عنهُ
…
وَلَا تُؤتي فريستهُ لحينِ)
(عذرت البُزلَ إِذْ هيَ صاوَلتني
…
فَمَا بالي وبالُ ابنْي لَبون)
(وماذا يَبْتَغِي الشعراءُ مني
…
وَقد جاوزتُ حدَّ الْأَرْبَعين)
(أَخو الْخمسين مجتمعٌ أشِدّي
…
ونَجَّذَنِي مُداوَرَةُ الشؤونِ)
(سأجني مَا جنيتُ وإنَّ ظَهْري
…
لذُو سندٍ إِلَى نضد أَمِين) // الوافر //
وَكَانَ السَّبَب فِي قَوْله هَذِه الأبيات أَن رجلا أَتَى الأبيرد الريَاحي وَابْن عَمه الْأَحْوَص وهما من ردف الْمُلُوك من بني ريَاح يطْلب مِنْهُمَا قطراناً لإبله فَقَالَا لَهُ إِن أَنْت أبلغت سحيم بن وثيل الريَاحي هَذَا الشّعْر أعطيناك قطراناً فَقَالَ قولا فَقَالَا اذْهَبْ فَقل لَهُ
(فَإِن بُداهتي وجراءَ حَولي
…
لذُو شقّ على الحطمِ الحَرُون)
فَلَمَّا أَتَاهُ وأنشده الشّعْر أَخذ عَصَاهُ وَانْحَدَرَ فِي الْوَادي يقبل فِيهِ وَيُدبر ويهمهم بالشعر ثمَّ قَالَ اذْهَبْ فَقل لَهما وَأنْشد الأبيات قَالَ فَأتيَاهُ فاعتذرا فَقَالَ إِن أحد كَمَا لَا يرى أَنه صنع شَيْئا حَتَّى يقيس شعره بشعرنا وحسبه بحسبنا ويستطيف بِنَا استطافة الْمهْر الأزب فَقَالَا لَهُ فَهَل إِلَى النزع من سَبِيل فَقَالَ إِنَّا لم نبلغ أنسابنا
وَذكر ابْن قُتَيْبَة فِي كتاب الشّعْر وَالشعرَاء مطلع هَذِه القصيدة فِي أَبْيَات أخر ونسبها للمثقب الْعَبْدي وَقَالَ لَو كَانَ الشّعْر كُله على هَذِه القصيدة لوَجَبَ على النَّاس أَن يتعلموه وَصُورَة مَا أوردهُ ابْن قُتَيْبَة
(أفاطمَ قبلَ بَيْنك متعيني
…
ومنعك مَا سَأَلت كَأَن تبيني)
(وَلا تُبدي مواعدَ كاذبات
…
تمرُّ بهَا رياحُ الصيفِ دوني)
(فَإِنِّي لَو تُخالفني شِمالي
…
بنصرٍ لم تصاحبْها يَمِيني)
(إِذاً لقطعتُها ولقلتُ بيني
…
كَذَلِك أجتوِي من يجتوِيني)
(فإِما أَن تكون احي بِحَق
…
فأعرف مِنْك غثِّي مِن سَميني)
(وَإِلَّا فاطرحني واتركنني
…
عدوا أتقيك وتتقيني)
(وَما أَدْرِي إِذا يمَّمت أَرضًا
…
أُرِيد الْخَيْر أيُّهما يليني)
(أألخير الَّذِي أَنا أبتغيه
…
أم الشرُّ الَّذِي هُوَ يبتغيني)
والأبيات الْمَارَّة تقَوِّي أَنَّهَا لسحيم الْمَذْكُور فَلَعَلَّ اتِّفَاقهمَا فِي المطلع من بَاب توارد الخواطر وَالله أعلم
وجلا هُنَا غير منون لِأَنَّهُ أَرَادَ الْفِعْل فحكاه مُقَدرا فِيهِ الضَّمِير الَّذِي هُوَ فَاعل وَالْفِعْل إِذا سمي بِهِ غير منتزع عَنهُ الْفَاعِل لم يكن إِلَّا حِكَايَة كَقَوْل تأبط شرا
(كَذبْتُمْ وبيتِ الله لَا تأخذونها
…
بني شابَ قرناها تُصَرُّ وتحلب) // الطَّوِيل //
وكقول الشَّاعِر
(وَالله مَا زيدٌ ينَام صاحبهْ
…
وَلَا مخالطِ النيام جَانِبه) // الرجز //
وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنا ابْن الَّذِي جلا وَبني الَّتِي يُقَال لَهَا شَاب قرناها وَوَاللَّه مَا زيد بِالَّذِي يُقَال فِيهِ نَام صَاحبه
وَابْن جلا يُقَال للرجل الْمَشْهُور أَي ابْن رجل قد انْكَشَفَ أمره أَو جلا الْأُمُور أَي كشفها والثنايا جمع ثنية وَهِي الْعقبَة يُقَال فلَان طلاع الثنايا أَي ركاب لصعاب الْأُمُور
وَالشَّاهِد فِيهِ إيجاز الْحَذف والمحذوف مَوْصُوف وَهُوَ هُنَا رجل من قَوْله أَنا ابْن جلا
وَهَذَا الْبَيْت تمثل بِهِ الْحجَّاج على مِنْبَر الْكُوفَة حِين دَخلهَا أَمِيرا حدث
عبد الْملك بن عُمَيْر اللَّيْثِيّ قَالَ بَيْنَمَا نَحن بِالْمَسْجِدِ الْجَامِع بِالْكُوفَةِ وَأهل الْكُوفَة يَوْمئِذٍ ذَوُو حَالَة حَسَنَة يخرج الرجل مِنْهُم فِي الْعشْرَة وَالْعِشْرين من موَالِيه إِذْ أَتَانَا آتٍ فَقَالَ هَذَا الْحجَّاج قدم أَمِيرا على الْعرَاق وَإِذا بِهِ قد دخل الْمَسْجِد معتماً بعمامة قد غطى بهَا أَكثر وَجهه مُتَقَلِّدًا سَيْفا متنكباً قوساً يؤم الْمِنْبَر فَمَال النَّاس نَحوه حَتَّى صعد الْمِنْبَر فَمَكثَ سَاعَة لَا يتَكَلَّم فَقَالَ بعض النَّاس لبَعض قبح الله بني أُميَّة كَيفَ تسْتَعْمل مثل هَذَا على الْعرَاق حَتَّى قَالَ عُمَيْر بن ضابئ البرجمي أَلا أحصبه لكم فَقَالُوا أمْهل حَتَّى نَنْظُر فَلَمَّا رأى الْحجَّاج أعين النَّاس تَدور إِلَيْهِ حسر اللثام عَن وَجهه ونهض فَقَالَ أَنا ابْن جلا وَأنْشد الْبَيْت وَقَالَ يَا أهل الْكُوفَة إِنِّي لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها وَإِنِّي لصَاحِبهَا وَكَأَنِّي أنظر إِلَى الدِّمَاء بَين العمائم واللحى
(هَذَا أَوان الشَّد فاشتدِّي زِيَمْ
…
قد لفها اللَّيْل بسواق حُطَمْ)
(لَيْسَ براعي إبل وَلَا غنم
…
وَلَا بجزَّار على ظهر وَضَمْ)
ثمَّ قَالَ
(قد لفَّا اللَّيْل بعصلبيِّ
…
أروعَ خرَّاج من الدَّوِّيِّ)
(مُهاجر لَيْسَ بأعرابي
…
معاودٍ لِلطَّعْنِ بالخطىّ)
ثمَّ قَالَ أَيْضا
(قد شمرت عَن سَاقيهَا فشدّوا
…
وجَدَّتِ الْحَرْب بكم فجدّوا)
(والقوس فِيهَا وترٌ عُرُدٌّ
…
مثل ذِرَاع الْبكر أَو أشدُّ)
إِنِّي وَالله يَا أهل الْعرَاق لَا يقعقع لي بالشنان وَلَا يغمر جَانِبي كتغماز التنين
وَلَقَد فَرَرْت عَن ذكاء وفتشت عَن تجربة وَإِن أَمِير الْمُؤمنِينَ نثل كِنَانَته بَين يَدَيْهِ فعجم عيدانها عوداً عوداً فرآني أمرهَا عوداً وأصلبها مكسراً وأبعدها مرمى فرماكم بِي لأنكم طالما أوضعتم فِي الْفِتْنَة واضطجعتم فِي مراقد الضلال وَالله لأحزمنكم حزم السلمة ولأضربنكم ضرب غرائب الْإِبِل فَإِنَّكُم لكأهل قَرْيَة كَانَت آمِنَة مطمئنة يَأْتِيهَا رزقها رغداً من كل مَكَان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لِبَاس الْجُوع وَالْخَوْف بِمَا كَانُوا يصنعون وَإِنِّي وَالله مَا أَقُول إِلَّا وفيت وَلَا أهم إِلَّا أمضيت وَلَا أخلق إِلَّا فريت وَإِن أَمِير الْمُؤمنِينَ أَمرنِي بإعطائكم أعطياتكم وَأَن أجهزكم إِلَى عَدوكُمْ مَعَ الْمُهلب بن أبي صفرَة وَإِنِّي أقسم بِاللَّه لَا أجد رجلا تخلف بعد أَخذ عطائه ثَلَاثَة أَيَّام إِلَّا ضربت عُنُقه يَا غُلَام اقْرَأ عَلَيْهِم كتاب أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَرَأَ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم من عبد الله عبد الْملك أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى من بِالْكُوفَةِ من الْمُسلمين سَلام عَلَيْكُم فَلم يقل أحد مِنْهُم شَيْئا فَقَالَ الْحجَّاج اكفف يَا غُلَام ثمَّ أقبل عَليّ النَّاس فَقَالَ أيسلم عَلَيْكُم أَمِير الْمُؤمنِينَ فَلم تردوا عَلَيْهِ شَيْئا هَذَا أدب ابْن سميَّة أما وَالله لأؤدبنكم غير هَذَا الْأَدَب أَو لتستقيمن
اقْرَأ يَا غُلَام كتاب أَمِير الْمُؤمنِينَ فَلَمَّا بلغ إِلَى قَوْله سَلام عَلَيْكُم لم يبْق فِي الْمَسْجِد أحد إِلَّا قَالَ وعَلى أَمِير الْمُؤمنِينَ السَّلَام ثمَّ نزل فَوضع للنَّاس أعطياتهم فَجعلُوا يأخذونها حَتَّى أَتَاهُ شيخ يرعش كبرا فَقَالَ أَيهَا الْأَمِير إِنِّي من الضعْف على مَا ترى ولي ابْن هُوَ أقوى على الْأَسْفَار مني أفتقبله مني بَدَلا فَقَالَ لَهُ الْحجَّاج نَفْعل أَيهَا الشَّيْخ فَلَمَّا ولي قَالَ لَهُ قَائِل أَتَدْرِي من هَذَا أَيهَا الْأَمِير قَالَ لَا قَالَ هَذَا عُمَيْر بن ضابئ البرجمي الَّذِي يَقُول أَبوهُ
(هَمَمْت وَلم أفعل وكدت وليتني
…
تركت على عُثْمَان تبْكي حلائُلهْ)
وَدخل هَذَا الشَّيْخ على عُثْمَان رضي الله عنه يَوْم الدَّار وَهُوَ مقتول فوطئ بَطْنه وَكسر ضلعين من أضلاعه وَهُوَ يَقُول أَيْن تركت ضابئاً يَا نعثل فَقَالَ ردُّوهُ فَلَمَّا ردُّوهُ قَالَ لَهُ الْحجَّاج أَيهَا الشَّيْخ هلا بعثت إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان بَدَلا يَوْم الدَّار إِن فِي قَتلك لصلاحاً للْمُسلمين يَا حرسي اضْرِب عُنُقه فَسمع الْحجَّاج ضوضاء فَقَالَ مَا هَذَا قَالُوا هَذِه البراجم جَاءَت لتنصر عُمَيْرًا فِيمَا ذكرت فَقَالَ أتحفوهم بِرَأْسِهِ فَرَمَوْهُمْ بِرَأْسِهِ فَوَلوا هاربين وَجعل الرجل يضيق عَلَيْهِ أمره فيرتحل وَيَأْمُر وليه أَن يلْحقهُ بزاده وازدحم النَّاس على الجسر للعبور إِلَى الْمُهلب بن أبي صفرَة وَفِي ذَلِك يَقُول عبد الله بن الزبير الْأَسدي
(أقولُ لإِبْرَاهِيم لما رأيتهُ
…
أرى الْأَمر أَمْسَى داهياً متشعباً)
(تخير فإمَّا أَن تزور ابْن ضابئ
…
عُمَيْرًا وَإِمَّا أَن تزور المهلبا)
(هما خطتا خسف نجاؤكَ مِنْهُمَا
…
ركوبك حولياً من الثَّلج أشهبَا)
(فَأضحى وَلَو كانتْ خراسانُ دونهُ
…
رَآهَا مَكَان السُّوق أَو هِيَ أقربا) // الطَّوِيل //
64 -
(وإنّ صخراً لتأتمّ الهداةُ بهِ
…
كَأَنَّهُ علم فِي رَأسه نارُ)
الْبَيْت للخنساء من مرثية فِي أَخِيهَا صَخْر وَهِي قصيدة من الْبَسِيط أَولهَا
(قذًى بعينكِ أم بِالْعينِ عُوَّارُ
…
أم ذرّفت إِذْ خلتْ من أَهلهَا الدارُ)
(كأنَّ عَيْني لذكراهُ إِذا خطرَتْ
…
فيضٌ يسيل على الخَدين مدرارُ)
(تبْكي خناسُ على صَخْر وحُق لَهَا
…
إِذْ رأبها الدهرُ إنَّ الدَّهْر ضرِّارُ)
(تبْكي لصخر هِيَ العبرى وَقد ثكلت
…
ودونهُ من جَدِيد الترب أستارُ)
(لَا بدّ من ميتةٍ فِي صرفهَا غيرٌ
…
والدهرُ فِي صرفهِ حولٌ وأطوارُ)
(يَا صخرُ وَارد مَاء قدْ تنَاذرهُ
…
أهلُ المواردِ مَا فِي وِردِهِ عارُ)
(مَشى السبنتيَ إِلَى هيجاء معضلة
…
لهُ سِلاحان أَنْيَاب وأظفار)
(فَمَا عجول على بوٍّ تُطيفُ بهِ
…
لهَا حَنينانِ إصغار وإكبَارُ)
(ترْعى إِذا نَسِيت حَتَّى إِذا ذكرتْ
…
فَإِنَّمَا هِيَ إقبال وَإِدبارُ)
(لَا تسمنُ الدهرَ فِي أَرض وَإِن ربعت
…
فَإِنَّمَا هِيَ تَحْنَان وتسجارُ)
(يَوْمًا بأوجدَ مني حينَ فارَقني
…
صَخْر وللدهر إحلاء وإمرار)
(وإنّ صَخراً لوالينا وسيدُنا
…
وإِنَّ صَخراً إِذا نشتو لنحَّارُ) // الْبَسِيط //
وَبعده الْبَيْت وَبعده
(لمْ ترَهُ جَارة يمشي بساحتها
…
لريبةِ حينَ يُخلِي بيتَهُ الجارُ)
(وَلا ترَاهُ وَمَا فِي الْبَيْت يأكلهُ
…
لكنهُ بارز بالصحن مِهمَارُ)
(مِثلُ الرديني لم تنفذ شبيبتهُ
…
كَأَنَّهُ تحتَ طيِّ البرْدِ أسوارُ)
(فِي جَوف رمسٍ مُقيم قدْ تضمنهُ
…
فيِ رمسهِ مقمَطرَّات وأحجار)
(طلق الْيَدَيْنِ بفعلِ الْخَيْر ذُو فجر
…
ضخم الدسيعة بالخيرات أمار) // الْبَسِيط //
وَالْعلم الْجَبَل الطَّوِيل وَقيل هُوَ عَام فِي كل جبل
وَالشَّاهِد فِيهِ زِيَادَة الْمُبَالغَة فِي الإيغال وَهُوَ قَوْلهَا فِي رَأسه نَار
فَإِن قَوْلهَا علم واف بِالْمَقْصُودِ وَهُوَ تَشْبِيه بِمَا هُوَ مَعْرُوف بالهداية لَكِنَّهَا أَتَت بالتتمة إيغالاً وَزِيَادَة للْمُبَالَغَة
وَقد ضمن عز الدّين الْموصِلِي عجز الْبَيْت فِي سامري اسْمه نجم فَقَالَ
(وسامريّ أعارَ البدرَ فضلَ سنَا
…
سَمَّوْهُ نجماً وذاكَ النجْمُ غَرَّارُ)
(تهتز قامَتهُ من تَحت عِمتهِ
…
كَأَنَّهُ علم فِي رَأسه نَار) // الْبَسِيط //
والخنساء اسْمهَا تماضر بنت عَمْرو بن الْحَارِث بن الشريد يَنْتَهِي نَسَبهَا لمضر والخنساء لقب غلب عَلَيْهَا وفيهَا يَقُول دُرَيْد بن الصمَّة وَكَانَ خطبهَا فَردته وَكَانَ رَآهَا تهنأ بَعِيرًا
(حيُّوا تماضرَ وارْبَعُوا صحبي
…
وقفُوا فإِنّ وقوفكم حسبي)
(أخُنَاسُ قد هامَ الفؤادُ بكم
…
وأصابه تَبلٌ من الْحبّ)
(مَا إِنْ رأيتُ وَلَا سمعتُ بهِ
…
كَالْيَوْمِ طالي أنيق جُرْبِ)
(متبذلاً تبدو مَحاسنهُ
…
يضعُ الهناء مَوَاضِع النقب) // الْكَامِل //
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَمُحَمّد بن سَلام لما خطبهَا دُرَيْد بعثت خَادِمًا لَهَا وَقَالَت انظري إِلَيْهِ إِذا بَال فَإِن كَانَ بَوْله يخرق الأَرْض ويخد فِيهَا فَفِيهِ بَقِيَّة وَإِن كَانَ بَوْله يسيح على الأَرْض فَلَا بَقِيَّة فِيهِ فَرَجَعت إِلَيْهَا وأخبرتها أَن بَوْله ساح على وَجه الأَرْض فَقَالَت لَا بَقِيَّة فِي هَذَا وَأرْسلت إِلَيْهِ مَا كنت لأدع
بني عمي وهم مثل عوالي الرماح وأتزوج شَيخا فَقَالَ
(وقاكِ اللهُ يَا ابْنة آل عَمْرو
…
منَ الفتيَان أشبَاهي وَنفسي)
(وقالَتْ إِنَّنِي شيخٌ كبيرٌ
…
ومَا نبأتها أَنِّي ابنُ أمس)
(فَلَا تلدي وَلَا ينكحك مِثلي
…
إذَا مَا ليلةٌ طرفت بنخس)
(تُرِيدُ شَرّ نبث الْقَدَمَيْنِ شَثناً
…
يبَاشرُ بالعشية كل كرسِ) // الوافر //
فَقَالَت الخنساء
(مُعَاذَ الله ينكحني حَبَرْكَى
…
يقَال أَبوهُ منْ جُشَم بن بكرِ)
(ولوْ أصبحتُ فِي جُشم هديّا
…
إِذَا أصبحتُ فِي دنس وفقر) // الوافر //
وَكَانَت الخنساء فِي أول أمرهَا تَقول الْبَيْتَيْنِ وَالثَّلَاثَة حَتَّى قتل أَخَوَاهَا مُعَاوِيَة وصخر وَكَانَ صَخْر أخاها لأَبِيهَا وَكَانَ أحبهما إِلَيْهَا لِأَنَّهُ كَانَ حَلِيمًا جواداً محبوباً فِي الْعَشِيرَة
وَكَانَ من حَدِيث قَتله مَا ذكره أَبُو عُبَيْدَة قَالَ غزا صَخْر بن عَمْرو وَأنس ابْن عَبَّاس الرعلي بني أَسد بن خُزَيْمَة فَأَصَابُوا غَنَائِم وسبياً وَأخذ صَخْر يَوْمئِذٍ بديلة امْرَأَة من بني أَسد وأصابته يَوْمئِذٍ طعنة طعنة بهَا رجل يُقَال لَهُ ربيعَة بن ثَوْر ويكنى أَبَا ثَوْر فَأدْخل جَوْفه حلقا من الدرْع فاندمل عَلَيْهِ حَتَّى شقّ عَلَيْهِ بعد سِنِين وَكَانَ ذَلِك سَبَب مَوته وروى أَن صخرا مرض من تِلْكَ الطعنة قَرِيبا من حول
حَتَّى مله أَهله فَسمع صخرا امْرَأَة تسْأَل سلمى امْرَأَته كَيفَ بعلك فَقَالَت لَا حيٌ فيرجى وَلَا ميت فيسلى وَقد لَقينَا مِنْهُ الْأَمريْنِ فَقَالَ صَخْر فِي ذَلِك
(أَرى أمَّ صخرٍ لَا تمَلُّ عيادتي
…
ومَلَّتْ سُلَيمى مِضْجَعي ومَكاني)
(وَما كنتُ أخشَى أَن أكونَ جَنَازَة
…
عليكِ وَمن يَغترُّ بالحَدَثان)
(أهُمُّ بِأَمْر الحزم لَو أستطيعه
…
وَقد حيلَ بينَ العْيرِ والنَّزَوان)
(لعمري بقد نَبُهْتَ من كَانَ نَائِما
…
وأسمعت من كَانَت لَهُ أذُنان)
(وللموتُ خيرٌ من حَيَاة كَأَنَّهَا
…
محلّة يَعسوبٍ بِرَأْس سِنان)
(وأيُّ امْرِئ سَاوَى بأمٍّ حَلِيلَة
…
فَلَا عَاشَ إِلَّا فِي شقا وهوان) // الطَّوِيل //
وَزعم قوم أَن الَّتِي قَالَت هَذِه الْمقَالة بديلة الأَسدِية الَّتِي كَانَ سباها من بني أَسد واتخذها لنَفسِهِ وَأنْشد مَكَان الْبَيْت الأول
(أَلا تلكُمُ عرسي بديلةُ أوْجَسَتْ
…
فراقي وملت مضجعي ومكاني)
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة فَمَا طَال عَلَيْهِ الْبلَاء وَقد نتأت قِطْعَة مثل الْيَد فِي جنبه من مَوضِع الطعنة فتدلت وَاسْتَرْخَتْ قَالُوا لَهُ لَو قطعتها لرجونا أَن تَبرأ فَقَالَ شَأْنكُمْ وَهِي فأشفق عَلَيْهِ بَعضهم فنهاهم فَأبى صَخْر وَقَالَ الْمَوْت أَهْون على مِمَّا أَنا فِيهِ فأحموا لَهُ شفرة ثمَّ قطعوها فيئس من نَفسه قَالَ وَسمع صَخْر أُخْته الخنساء وَهِي تَقول كَيفَ كَانَ صبره فَقَالَ صَخْر فِي ذَلِك
(أجارتنا إِن الخطوب تنوب
…
على النَّاس كلِّ المخطئين تُصيبُ)
(فَإِن تسأليني هَل صَبرتُ فإنني
…
صبورٌ على ريب الزَّمَان أريبُ)
(كَأَنِّي وَقد أدْنَوْا إلىَّ شِفارهم
…
من الصَّبْر دامي الصفحتين ركُوب)
(أجارتنا لستُ الغداةَ بظاعنٍ
…
وَلَكِن مقيمٌ مَا أَقَامَ عسيب) // الطَّوِيل //
فَمَاتَ فَدفن هُنَاكَ فقبره قريب من عسيب وَهُوَ جبل بِأَرْض بني سليم إِلَى جنب الْمَدِينَة المنورة
وروى أَنه لما طعن وَدخلت حلق الدرْع فِي جَوْفه ضجر مِنْهَا زَمَانا وَبعث إِلَى ربيعَة الْأَسدي الَّذِي طعنه إِنَّك أخذت خلقا من دِرْعِي بسنانك فَقَالَ لَهُ ربيعَة اطلبها فِي جوفك فَكَانَ ينفث الدَّم وَتلك الْحلق مَعَه فملته امْرَأَته وَكَانَ يكرمها ويعينها على أَهله فَمر بهَا رجل وَهِي قَائِمَة وَكَانَت ذَات كفل وأوراك فَقَالَ لَهَا أيباع هَذَا الكفل فَقَالَت عَمَّا قَلِيل وصخر يسمع ذَلِك فَقَالَ لَئِن اسْتَطَعْت لأقدمنك أَمَامِي ثمَّ قَالَ لَهَا ناوليني السَّيْف أنظر هَل تقله يَدي فَدَفَعته إِلَيْهِ فَإِذا هُوَ لَا يقلهُ فَعندهَا أنْشد الأبيات السَّابِقَة ثمَّ لم يلبث أَن مَاتَ وَكَانَ أَخُوهُ مُعَاوِيَة قد قتل قبله ورثته الخنساء أَيْضا وَكَانَ صَخْر قد أَخذ بثأره وَقتل قَاتله
ثمَّ لما كَانَت وقْعَة بدر وَقتل عتبَة وَشَيْبَة ابْنا ربيعَة والوليد بن عتبَة أَقبلت هِنْد بنت عتبَة ترثيهم وَبَلغهَا تسويم الخنساء هودجها فِي الْمَوْسِم ومعاظمتها الْعَرَب بمصيبتها بأبيها وأخويها وَأَنَّهَا جعلت تشهد الْمَوْسِم وتبكيهم وَقد سومت هودجها براية وَأَنَّهَا تَقول أَنا أعظم الْعَرَب مُصِيبَة وَأَن الْعَرَب عرفت ذَلِك لَهَا فَقَالَت هِنْد بل أَنا أعظم الْعَرَب مُصِيبَة فَأمرت بهودجها قسوم براية أَيْضا وَشهِدت الْمَوْسِم بعكاظ وَكَانَت عكاظ سوقاً تَجْتَمِع فِيهِ الْعَرَب فَقَالَت
اقرنوا جملي بجمل الخنساء فَفَعَلُوا فَلَمَّا دنت مِنْهَا قَالَت لَهَا الخنساء من أَنْت يَا أخية قَالَت أَنا هِنْد بنت عتبَة أعظم الْعَرَب مُصِيبَة وَقد بَلغنِي أَنَّك تعاظمين الْعَرَب بمصيبتك فَبِمَ تعاظمينهم قَالَت بِأبي عَمْرو بن الشريد وأخوي صَخْر وَمُعَاوِيَة فَبِمَ تعاظمينهم أَنْت قَالَت بِأبي عتبَة وَعمي شيبَة وَأخي الْوَلِيد قَالَت الخنساء لسواهم عنْدك ثمَّ أنشأت تَقول
(أبكِّى أبي عمْراً بعينٍ غزيرةٍ
…
قليلٍ إِذا نَام الخليُّ هُجودهَا)
(وَصِنَويَّ لَا أنسي مُعَاوِيَة الَّذِي
…
لَهُ من سَرَاة الحرتين وفودُهَا)
(وصخراً وَمن ذَا مثلُ صَخْر إِذا غَدَا
…
بسَلْهَبةِ الآطال قُبٍّ يقودُها)
(فَذلك يَا هِنْدُ الرَّزِيَّةُ فاعلمي
…
ونيران حَرْب جين شب وقودها) // الطَّوِيل //
فَقَالَت هِنْد بنت عتبَة تجيبها
(أُبكِّي عَميدَ الأبْطَحينِ كليهمَا
…
وحاميَهَا من كل بَاغ يريدُهَا)
(أبي عُتبةُ الْخيرَات ويحَكِ فاعلمي
…
وشَيْبةُ والحامي الذمار وليدهَا)
(أُولَئِكَ آل الْمجد من آل غَالب
…
وَفِي الْعِزّ مِنْهَا حِين يُنْمي عديدُهَا) // الطَّوِيل //
وَقَالَت الخنساء أَيْضا يَوْمئِذٍ
(من حس لي الْأَخَوَيْنِ كالغصنين أَو من رآهمَا
…
)
(قرمين لَا يتظالمان
…
وَلَا يُرام حماهُمَا)
(وَيلي على الْأَخَوَيْنِ والقبر
…
الَّذِي وارَاهُما)
(لَا مِثلَ كهَلي فِي الكهول
…
وَلَا فَتى كفتاهُما)
(رُمْحَيْنِ خطيين فِي
…
كبد السَّمَاء سناهُما)
(مَا خَلَّفَا إِذْ ودَّعا
…
فِي سؤود شرواهما)
(سَادًّا بغيرِ تَكلُّفٍ
…
عَفواً يفِيض نداهما) // من مجزوء الرمل //
وَقد أجمع أهل الْعلم بالشعر أَنه لم تكن امْرَأَة قبلهَا وَلَا بعْدهَا أشعر مِنْهَا
ووفدت على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَعَ قَومهَا من بني سليم فَأسْلمت مَعَهم وَذكروا أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يستنشدهما وَيُعْجِبهُ شعرهَا وَكَانَت تنشده وَهُوَ يَقُول هيه يَا خناس ويومئ بِيَدِهِ صلى الله عليه وسلم
وَعَن أبي وجرة عَن أَبِيه قَالَ حضرت الخنساء بنت عَمْرو السليمية حَرْب الْقَادِسِيَّة وَمَعَهَا بنوها أَرْبَعَة رجال رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ فَقَالَت لَهُم من أول اللَّيْل يَا بني إِنَّكُم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين وَالله الَّذِي لَا إِلَه غَيره إِنَّكُم لبنو رجلٍ وَاحِد كَمَا أَنكُمْ بَنو امْرَأَة وَاحِدَة مَا خُنْت أَبَاكُم وَلَا فضحت خالكم وَلَا هجنت حسبكم وَلَا غيرت نسبكم وَقد تعلمُونَ مَا أعد الله تَعَالَى للْمُسلمين من الثَّوَاب الجزيل فِي حَرْب الْكَافرين وَاعْلَمُوا أَن الدَّار الْبَاقِيَة خير من الدَّار الفانية لقَوْله عز وجل {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابطُوا وَاتَّقوا الله لَعَلَّكُمْ تفلحون} فَإِذا أَصْبَحْتُم غَدا إِن شَاءَ الله سَالِمين فاغدوا إِلَى قتال عَدوكُمْ مستبصرين وَبِاللَّهِ على أعدائه مستنصرين فَإِذا رَأَيْتُمْ الْحَرْب قد شمرت عَن سَاقهَا واضطرمت لظى مساقها فَتَيَمَّمُوا وطيسها وجالدوا رئيسها عِنْد احتدام خميسها تظفروا بالغنم والكرامة فِي دَار الْخلد والمقامة فَخرج بنوها قابلين لنصحها عازمين على قَوْلهَا فَلَمَّا أَضَاء لَهُم الصُّبْح بَادرُوا مراكزهم وَأَنْشَأَ أَوَّلهمْ يَقُول
(يَا إِخوتي إنَّ العجوزَ الناصحَهْ
…
قَدْ نَصحتنا إِذْ دَعَتْنا البارحهْ)
(بِقالةٍ ذَاتِ بَيانٍ وَاضحهْ
…
فَباكُروا الحَربَ الضَّرُوس الكالحهْ)
(وَإِنما تَلقونَ عِندَ الصَّائحهْ
…
منْ آل ساسان كِلابا نابحهْ)
(قدْ أيْقنوا مِنكم بوَقع الجَائحهْ
…
وَأنْتمُ بينَ حَياةٍ صالحهْ)
(وَميتةٍ تورثُ غُنما رابحة
…
) // الرجز //
وَتقدم فقاتل حَتَّى قتل رَحمَه الله تَعَالَى ثمَّ حمل الثَّانِي وَهُوَ يَقُول
(إنَّ العجوزَ ذَاتُ حَزْم وَجَلَدْ
…
والنَّظر الأوْفق والرُأي السَّدَد)
(قَدْ أمَرَتنْا بِالسَدَاد وَالرَّشدْ
…
نَصيحةً مِنْها وَبِرَّاً بِالوَلدْ)
(فَباكرُوا الحَربَ كماةً فِي العُدَدْ
…
إِمَّا بِفوز باردٍ على الْكبدْ)
(أَوْ مِيتةٍ تورثكم غُنْم الأبدْ
…
فِي جَنة الفردَوْس والعيش الرغد) // الرجز //
وَقَاتل حَتَّى اسْتشْهد رَحمَه الله تَعَالَى ثمَّ حمل الثَّالِث أَيْضا وَهُوَ يَقُول
(واللهِ لَا نَعصي العجوزَ حَرْفاً
…
قَدْ أمرتنا حَربًا وَعطف)
(نُصحاً وَبراً صَادِقا وَلطفاً
…
فَبادِرُوا الحَربَ الضَّرُوس زَحفْا)
(حَتى تَلفُّوا آلَ كِسرَى لفّاً
…
أوْ تكشفوهمْ عنْ حِماكم كَشفا)
(إِنا نَرى التَّقصيرَ مِنكم ضَعفاً
…
والقَتلَ فِيكم نجْدَة وَعرفَا) // الرجز //
وَقَاتل أَيْضا حَتَّى اسْتشْهد رحمه الله ثمَّ حمل الرَّابِع وَهُوَ يَقُول
(لَسنا لخَنساء ولَا للأحَزمِ
…
وَلَا لعَمْرو ذِي السَّناء الأقدَم)
(إنْ لم أرَى فِي الجَيش جَيش الْأَعْجَم
…
مَاض على هول خضم خِضرم)
(إِمَّا لِفوز عَاجل ومَغنم
…
أوْ لوفاةٍ فِي السَّبيل الأكرم) // الرجز //
وَقَاتل حَتَّى قتل أَيْضا رَحْمَة الله عَلَيْهِ وعَلى إخْوَته فبلغها الْخَبَر رضي الله عنها فَقَالَت الْحَمد لله الَّذِي شرفني بِقَتْلِهِم وَأَرْجُو من رَبِّي أَن يجمعني مَعَهم فِي مُسْتَقر رَحمته
وَكَانَ عمر بن الْخطاب رضي الله عنه يُعْطِيهَا أرزاق أَوْلَادهَا الْأَرْبَعَة لكل وَاحِد مِنْهُم مِائَتي دِرْهَم إِلَى أَن قبض رحمه الله وَرَضي عَنهُ
وَكَانَت وفاتها فِي زمن مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان نَحْو سنة خمسين من الْهِجْرَة
65 -
(كأَنَّ عُيُونَ الوَحْشِ حَوْلَ خُبَائِنَا
…
وَأرْحُلِنَا الجزَّعُ الَّذِي لم يِثَقَّبِ)
الْبَيْت لامرىء الْقَيْس من قصيدة من الطَّوِيل أَولهَا
(خليلي مرا بِي على أم جُنْدُب
…
لِنقضيَ حاجاتِ الفؤادِ المُعذَّبِ)
(فإِنكما إنْ تَنظرانيَ سَاعَة
…
مِنَ الدَّهر تَنفْعني لدَى أمِّ جُندبِ)
(ألم تريانِي كلَّما جِئتُ طَارِقًا
…
وَجدتُ بِها طِيباً وَإِنْ لم تَطيَّبِ)
(عَقيلة أخذان لَهَا لَا ذَميمةٌ
…
وَلا ذَاتُ خَلْق إِن تأملتَ جَانِّب) // الطَّوِيل //
إِلَى أَن يَقُول فِيهَا
(وَقلتُ لِفتيانٍ كِرَام ألَا انْزلوا
…
فَعالوا عَلينا فَضلّ بُردٍ مُطنَّبِ)
(فَفِئْنا إِلَى بَيت بعلياء مُرْدَحٍ
…
سماوتهُ منْ أتْحمىٍّ مُعَصَّبِ)
(وَأَوتادهُ عاديَّة وعِمادهُ
…
رُدينية فِيها أسِنةُ قَعضبِ)
(فَلما دَخلناه أضَفنا ظُهورَنا
…
إِلى كلِّ حاريٍّ جَدِيدٍ مُشطبِ)
(فَظَل لنَا يومٌ لذِيذٌ بِنعمةٍ
…
فَقل فِي مَقيل نحْسُه متغيب) // الطَّوِيل //
وَبعده الْبَيْت وَبعده
(نمش بأعرافِ الجِياد أكُفَّنا
…
إِذَا نحنُ قُمنا عنَّ شِواءِ مُضِّهبِ) // الطَّوِيل //
وَهِي طَوِيلَة
قَالَ الْأَصْمَعِي الظبي وَالْبَقَرَة إِذا كَانَا حيين فعيونهما كلهَا سود فَإِذا مَاتَا بدا بياضها وَإِنَّمَا شبهها بالجزع وَفِيه سَواد وَبَيَاض بعد مَا موتت وَالْمرَاد كَثْرَة الصَّيْد يَعْنِي مِمَّا أكلناه كثرت الْعُيُون عندنَا كَذَا فِي شرح ديوَان امرىء الْقَيْس وَبِه يتَبَيَّن بطلَان مَا قيل إِن المُرَاد أَنَّهَا قد طَالَتْ مسايرتهم حَتَّى ألفت الوحوش رحالهم وأخبيتهم
وَالشَّاهِد فِيهِ تَحْقِيق التَّشْبِيه فِي الإيغال لِأَنَّهُ شبه عُيُون الْوَحْش بالجزع وَهُوَ بِفَتْح الْجِيم وتكسر الخرز الْيَمَانِيّ الصيني فِيهِ سَواد وَبَيَاض تشبه بِهِ عُيُون الْوَحْش لكنه أَتَى بقوله لم يثقب إيغالاً وتحقيقاً للتشبيه لِأَن الْجزع إِذا كَانَ غير مثقوب كَانَ أشبه بالعيون
وَقد اشْتَمَل هَذَا الْبَيْت على نوع من أَنْوَاع البديع يُسمى التَّبْلِيغ والتتميم وَيُسمى الإيغال أَيْضا وَهُوَ أَن يتم قَول الشَّاعِر دون مقطع الْبَيْت ويبلغ بِهِ القافية فَيَأْتِي بِمَا يتمم بِهِ الْمَعْنى وَيزِيد فِي فَائِدَة الْكَلَام لِأَن للقافية محلا من الأسماع والخواطر فاعتناء الشَّاعِر بهَا آكِد وَلَا شَيْء أقبح من بنائها على فضول الْكَلَام الَّذِي لَا يُفِيد
وَمن الشواهد عَلَيْهِ قَول ذِي الرمة أَيْضا
(قِف الصَّبْر فِي أطْلَال مَيَّة فأسألِ
…
رُسوماً كأخلاقِ الرِّداء
…
... .) // الطَّوِيل // فتم كَلَامه ثمَّ احْتَاجَ إِلَى القافية فَقَالَ المسلسل فزاده شَيْئا ثمَّ قَالَ
(أظُن الذِي يُجدِي عَليكَ سؤالها
…
دُموعاً كتبديد الجمان
…
.)
فتم كَلَامه ثمَّ احْتَاجَ إِلَى القافية فَقَالَ الْمفصل فزاده شَيْئا
قيل وَكَانَ الرشيد يعجب بقول مُسلم بن الْوَلِيد
(إِذا مَا علت مِنَّا ذؤابةَ شاربٍ
…
تَمشَّتْ بهِ مشي المُقيَّدِ فِي الوحلِ) // الطَّوِيل //
وَكَانَ يَقُول قَاتله الله أما كَفاهُ أَن يجمله مُقَيّدا حَتَّى جعله فِي وَحل
وَمِنْه قَول ابْن الرُّومِي
(لَهَا صَريحٌ كأنهُ ذَهبٌ
…
وَرغوةٌ كاللآلئ الفلق) // المنسرح //
فَزَاد بقوله الفلق تمكيناً فِي التَّشْبِيه
وَمن أبدع مَا وَقع فِيهِ لمتأخر قَول أبي بكر بن مجير
(وَخَلِيفَة ابْن خَليفَة ابْن خَليفَة وَسَتَفْعَلُ
…
) // من مجزوء الْكَامِل //
فَقَوله وستفعل تَبْلِيغ بديع أَفَادَ بِهِ بِشَارَة الممدوح بِأَن سلسلة الْخلَافَة فِي عقبه
وَحكى أَن بعض الشُّعَرَاء قَالَ لأبي بكر بن مجير هَذَا إِنِّي نظمت قصيدة مَقْصُورَة الروي وأعجزني مِنْهَا رُوِيَ بَيت وَاحِد فَمَا أَدْرِي كَيفَ أتممه فَقَالَ لَهُ أَبُو بكر أنشدنيه فانشده قَوْله
(سَليلُ الإِمَام وصنو الإِمام
…
وعمُّ الإِمام
…
... . .) // المتقارب //
فَقَالَ لَهُ من غير تفكير وَلَا روية قل وَلَا مُنْتَهى فَوَضعه فِي قصيدته على مَا تممه لَهُ وَكَانَ أمكن قوافيه وأقواها
وَللسَّيِّد أبي الْقَاسِم شَارِح مَقْصُورَة حَازِم فِي هَذَا النَّوْع قَوْله
(لم يبرحِ المجدُ يسمو ذَاهِبًا بهمُ
…
حَتَّى أجَاز الثريَّا وَهُوَ مَا قنعا) // الْبَسِيط //
فَقَوله وَهُوَ مَا قنعا من التَّبْلِيغ الَّذِي أَفَادَ زِيَادَة فِي الْمَعْنى ظَاهِرَة
66 -
(وَلَسْتَ بمُسْتَبقٍ أَخاً لَا تَلُمُهُ
…
عَلى شَعَثٍ أَيُّ الرِّجَالِ المُهَذَّبُ)
الْبَيْت للنابغة الذبياني من قصيدة من الطَّوِيل يُخَاطب بهَا النُّعْمَان أَولهَا
(أَرسماً جَدِيدا من سعاد تجنب
…
عفَت رَوْضَة الأجداد مِنْهَا فيثُقبُ)
(عَفا آيَهُ نسجُ الْجنُوب مَعَ الصَّبا
…
وأُسحمُ دانٍ مزنُه متصوب) // الطَّوِيل //
يَقُول فِيهَا أَيْضا
(فَلَا تتركنِّي بالوعيد كأنني
…
إِلَى النَّاس مطليٌّ بِهِ القارُ أَجرب)
(أَلم ترَ أَن الله أَعطاك سَوْرَةً
…
يُرى كل مَلك دونهَا يتذبذب)
(فَإنَّك شمس والملوك كواكب
…
إِذا طلعت لم يبد مِنْهُنَّ كَوْكَب) // الطَّوِيل //
وَبعده الْبَيْت وَبعده
(فإِن يكُ مَظْلُوما فعبدٌ ظلمتَهُ
…
وإِن تكُ ذَا عُتْبي فمثلك يُعتبُ)
(أَتاني أبَيْت اللعنَ أنكَ لمتني
…
وَتلك الَّتِي أهتم مِنْهَا وأنصبُ)
والشعث انتشار الْأَمر والمهذب المنقح الفعال المرضي الْخِصَال
وَالْمعْنَى لَا تقدر على اسْتِبْقَاء مَوَدَّة أَخ حَال كونك مِمَّن لَا تلمه وَلَا تصلحه على تفرق وذميم خِصَال
ذكرت هُنَا قَول الشَّاعِر مُعَارضا للنابغة فِي هَذَا الْبَيْت وَهُوَ
(ألومُ زياداً فِي ركاكة عقله
…
وَفِي قَوْله أيُّ الرِّجَال الْمُهَذّب)
(وهلْ يحسنُ التهذيبُ منكَ خلائقاً
…
أرقُّ من المَاء الزلَال وأَطيب)
(تكلمَ والنعمانُ شمسُ سمائه
…
وكل مليك عِنْد نعمانَ كوكبُ)
(وَلَو أبصرتْ عَيناهُ شخصك مرّة
…
لأبصرَ منهُ شمسَهُ وَهُوَ غيهَبُ) // الطَّوِيل //
وَهَذَا نوع من البديع يُسمى التوليد وَسَيَأْتِي الْكَلَام على شَيْء مِنْهُ فِي الْفَنّ الثَّالِث إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَالشَّاهِد فِيهِ التذييل لتأكيد مَفْهُوم فصدر الْبَيْت دلّ بمفهومه على نفي الْكَامِل من الرِّجَال وعجزه تَأْكِيد لذَلِك وَتَقْرِير لِأَن الِاسْتِفْهَام فِيهِ إنكاري أَي لَا مهذب فِي الرِّجَال
وَفِي معنى الْبَيْت قَول أبي الْحسن مُحَمَّد الموقت الْمَكِّيّ
(إِذا الْمَرْء لم يبرحْ يُمَارِي صديقهُ
…
وَلم يحْتَمل مِنْهُ فَكيف يعايشُهْ)
(وأنَى يدومَ الوُد والعهدُ بينهُ
…
وَبَين أَخ فِي كل وَقت يناقشه) // الطَّوِيل //
وَمَا أحسن قَول مؤيد الدّين الطغرائي
(أَخَاك أَخَاك فَهوَ أَجلُّ ذُخرٍ
…
إِذا نابتك نائبة الزمانِ)
(فإِنْ رابَتْ إساءتهُ فهَبْها
…
لما فِيهِ من الشَّيَم الحسانِ)
(تُرِيدُ مُهَذّباً لَا عيب فِيهِ
…
وهلْ عُودٌ يفوحُ بِلَا دُخان) // الوافر //
وبديع قَول ابْن الْحداد أَيْضا
(واصلْ أخاكَ وَإِن أتاكَ بمنكر
…
فخلوص شَيْء قَلما يتمكنُ)
(وَلكُل حُسْنٍ آفةٌ مَوجودة
…
إِنَّ السِّرَاجَ على سناهُ يدخَّنُ) // الْكَامِل //
وَمَا أحسن قَول ابْن شرف أَيْضا
(لَا تسألِ النَّاس والأَيامَ عَن خبر
…
هما يبُثَانِكَ الأخبارَ تفصيلَا)
(وَلَا تعاقِبْ على نقص الطباع أَخا
…
فإِنَّ بدرَ السما لم يُعْطَ تكميلا) // الْبَسِيط //
وَمن النفيس قَول ابْن حمديس
(أَكرمْ صديقكَ عنْ سؤالك
…
عنهُ واحفظ منْهُ ذِمَّهْ)
(فلربما استخبرتَ عَنهُ عدوّه فسمعتَ ذمه
…
) // من مجزوء الْكَامِل //
وَقَول عمر الْخَرَّاط وَهُوَ رجل من القيروان
(لَا تسألنّ عَن الصّديق وسل وسل فُؤَادك عَن فؤادهْ
…
)
(فلربما بحث السُّؤَال
…
على فسادكَ أَو فسادة) // من مجزوء الْكَامِل //
ولمؤلفه فِي مَعْنَاهُ
(لستُ عَن ود صديقي ساثلا
…
غيرَ قلبِي فَهُوَ يدْرِي ودَّه)
(فَكَمَا أعلم مَا عِنْدِي لَهُ
…
فَكَذَا أعلمُ مَالِي عِنْده) // الرمل //
وَمَا أحسن قَول بَعضهم
(عتبي عليكَ مقارنُ الْعذر
…
قدْ رَدَّ عَنكَ حفيظتي صبري)
(فَمَتَى هفوتَ فأنتَ فِي سَعَةٍ
…
وَمَتى جفوتَ فأنتَ فِي عذرِ)
(تَركُ العتابِ إِذا اسْتحق أخٌ
…
مِنكَ العتابَ ذريعةُ الهجر) // الْكَامِل //
وَقَول بَعضهم
(إِذا أَنْت لم تغْفر ذنوباً كَثِيرَة
…
تَرِيبكَ لم يسلم لكَ الدهرَ صاحبُ)
(وَمن لم يغمِّضْ عينه عَن صديقهِ
…
وَعَن بعض مَا فِيهِ يمتْ وَهُوَ عَاتب) // الطَّوِيل //
وَقَول أبي الْفَتْح البستي
(تحمّلْ أخاكَ على مَا بهِ
…
فَما فِي استقامته مطمعُ)
(وأنيَّ لهُ خُلُقٌ وَاحِد
…
وَفِيه طبائعه الْأَرْبَع) // المتقارب //
وَمَا أحسن قَول بَعضهم
(لَا تثقْ من آدميّ
…
فِي وِدَادٍ بصفاءِ)
(كيفَ تَرْجُو مِنْهُ صفواً
…
وَهْوَ مِنْ طين ومَاء) // من مجزوء الرمل //
وَهُوَ كَقَوْل الآخر
(ومنْ يكُ أصلهُ مَاء وطيناً
…
بعيدٌ من جِبلَّتهِ الصفاءُ) // الوافر //
وَمَا أبدع قَول الْجمال بن نباتة
(يَا مشتكي الهمّ دعهُ وانتظرْ فرَجاً
…
ودارِ وقتكَ من حِين إِلَى حِين)
(ولَا تعانِدْ إِذا أمسيتَ فِي كدَر
…
فإِنمَا أنتَ من مَاء وَمن طينِ) // الْبَسِيط //
وللصلاح الصَّفَدِي فِيهِ أَيْضا
(دع الإخوانَ إِن لم تَلْقَ مِنْهُم
…
صفاءَ واستَعِنْ واسْتَغْنِ باللهْ)
(أَلَيس المرءُ من ماءٍ وَطينٍ
…
وأيُّ صفا لهاتيك الجبلة) // الوافر //
وَمِمَّا ينظر إِلَى معنى الْبَيْت المستشهد بِهِ قَول بَعضهم
(إِذا أَنْت لم تتْرك أخاكَ وزلةً
…
أرادَ لَهَا أوشكتما أَن تفَرقا) // الطَّوِيل //
وَقَوله أَيْضا
(صديقَكَ مهما جَنى غَطِّه
…
وَلَا تُخْفِ شَيْئا إِذا أحسْنا)
(وَكن كالظلام معَ النَّار إِذْ
…
يواري الدُّخانَ وَيبْدِي السنَّا) // المتقارب //
ولمؤلفه
(أَخاك اغتفر ذَنبه
…
وسامِحْ إِذا مَا هفَا)
(وغطِّ على عَيبه
…
يَدُمْ منهُ عهدُ الوفا)
(وَإِن رُمْتَ تقويمه
…
تَجِد وُده قد عَفا) // من مجزوء المتقارب //
67 -
(فَسَقى دِيارَكِ غيرَ مُفْسِدِهَا
…
صَوْبُ الرّبيع وديمةٌ تَهْمِي)
الْبَيْت لطرفة بن العَبْد من قصيدة من الْكَامِل يمدح بهَا قَتَادَة بن مسلمة الْحَنَفِيّ وَكَانَ قد أصَاب قومه سنة فَأتوهُ فبذل لَهُم وأولها
(إِن امرَأُ سَرفَ الفَؤادِ يرى
…
عَسَلاً بِمَاء سَحَابَة شَتْمِي)
(وَأَنا امْرُؤ أكوى من الْقصر البادي
…
وأغشى الدُّهمَ بالدهم)
(وأصيبُ شاكلة الرَّمية إِذْ
…
صدّت بصفحتها عَن السهْم)
(وأُجِرُّ ذَا الكفل القَناةَ على
…
أنسائه فَيظل يَستدمي)
(وتَصد عَنْك مخيلة الرجل العريض
…
موضِحةً عَن العَظمِ)
(بحُسام سَيْفك أَو لسَانك والكلم
…
الأصيلُ كأرغَبِ الكَلْمِ)
(أبلغ قتادَةَ غيرَ سائلهِ
…
مني الثوابَ وعاجل الشكم)
(أَبى حَمَدتُكَ للعشيرةِ إِذْ
…
جَاءَت إِلَيْك مُرِقة العَظم)
(ألقوْا إِلَيْك بِكُل أرْمَلةٍ
…
شعثاء تحمل مبقع الْبرم)
(وفتحْتَ بابكَ للمكارم حِين
…
تواصَتِ الأبوابُ بالأزم) // الْكَامِل //
وَبعده الْبَيْت وَهُوَ آخرهَا
وَصوب الرّبيع نزُول الْمَطَر ووقعه فِي الرّبيع والديمة مطر يَدُوم فِي سُكُون بِلَا رعد وَلَا برق أَو يَدُوم خَمْسَة أَيَّام أَو سِتَّة أَو سَبْعَة أَو يَدُوم يَوْمًا وَلَيْلَة أَو أَقَله ثلث النَّهَار أَو اللَّيْل وَأَكْثَره مَا بلغت وَجَمعهَا ديم وديوم وَمعنى تهمى تسيل
وَالشَّاهِد فِيهِ التَّكْمِيل وَيُسمى الاحتراس أَيْضا وَهُوَ أَن يُؤْتى فِي كَلَام يُوهم خلاف الْمَقْصُود بِمَا يَدْفَعهُ وَهُوَ هُنَا قَوْله غير مفسدها فَإِن نزُول الْمَطَر قد يكون سَببا لخراب الدُّنْيَا وفسادها فَدفع ذَلِك بتوسط قَوْله غير مفسدها
وَفِي معنى الْبَيْت قَول جرير
(فَسقاكِ حيثُ حلَلتِ غير فقَيدةٍ
…
هَزَجُ الرِّيَاح وديمةٌ لَا تقلع) // الْكَامِل //
وَمن الاحتراس قَول زُهَيْر بن أبي سلمى
(من يَلقَ يَوْمًا على علَاّته هرِماً
…
يلق السماحَةَ منهُ والندى خلقا) // الْبَسِيط //
وَقَول امرىء الْقَيْس أَيْضا
(على هَيكلٍ يُعطيك قبلَ سؤالهِ
…
أفانينَ جَري غير كزٍّ وَلَا واني) // الطَّوِيل //
وَقَول نَافِع بن خَليفَة الغنوي
(رجال إِذا لم يُقبلِ الْحق منهُمُ
…
ويُعطوهُ عَادوا بالسيُّوفِ القواضب) // الطَّوِيل //
وَمثله قَول عنترة الْعَبْسِي
(أثني عليَّ بِمَا علمت فإنني
…
سَهلٌ محالفتي إِذا لم أظْلم) // الْكَامِل //
وَقَول الآخر
(فَإِنِّي إِن أفُتْكَ يفتُك مني
…
فَلَا تُسْبَقْ بِهِ عِلْقٌ نَفِيس) // الوافر //
وَمن مليح الاحتراس قَول الرَّمَادِي فِي وصف فرس
(قامَتْ قوائمُه لنا بطعَامنا
…
غضّا وَقَامَ الْعرف بالمنديل) // الْكَامِل //
فَقَوله غضا احتراس عَجِيب إِذْ لَو لم يذكر لتوهم أَنهم ينقلون عَلَيْهِ أَزْوَادهم
وطرفة بن العَبْد هُوَ ابْن سُفْيَان بن سعد بن مَالك بن عباد بن صعصعة ابْن قيس بن ثَعْلَبَة وَيُقَال إِن اسْمه عَمْرو وَسمي طرفَة بِسَبَب بَيت قَالَه
وَأمه وردة من رَهْط أَبِيه وفيهَا يَقُول لأخوالها وَقد ظلموها حَقّهَا
(مَا تنْظرُون بحقِّ وردَةَ فيكُمُ
…
صَغُرَ البنونَ ورهط وردة غيب) // الْكَامِل //
وَكَانَ أحدث الشُّعَرَاء سنا وَأَقلهمْ عمرا قتل وَهُوَ ابْن عشْرين سنة فَيُقَال لَهُ ابْن الْعشْرين وَقيل قتل وَهُوَ ابْن سِتّ وَعشْرين سنة وإِلى ذَلِك تُشِير أُخْته حَيْثُ قَالَت ترثيه
(عدَدنا لَهُ سِتا وَعشْرين حِجَّةً
…
فَلَمَّا تَوَفَّاها استوَى سيِّداً ضخْمَا)
(فُجِعنا بِهِ لما رَجونا إيابَهُ
…
على خَير حالٍ لَا وليداً وَلَا فحما) // الطَّوِيل //
وَكَانَ السَّبَب فِي قَتله أَنه كَانَ ينادم عَمْرو بن هِنْد فَأَشْرَفت ذَات يَوْم أُخْته فَرَأى طرفَة ظلها فِي الْجَام الَّذِي فِي يَده فَقَالَ
(أَلا يَأْتِي ليَ الظبي الَّذِي
…
يَبْرق شنفاه)
(وَلَوْلَا الْملك الْقَاعِد
…
قد ألثَمني فاهُ) // الهزج //
فحقد عَلَيْهِ وَكَانَ قد قَالَ أَيْضا قبل ذَلِك
(وليتَ لنا مكانَ الملكِ عَمْرٍو
…
رَغوثاً حول قُبَّتنا تخُورُ)
(لعَمرُك إِن قابوسَ بن هندٍ
…
ليَخلطُ ملكَهُ نوك كثير) // الوافر //
وقابوس هَذَا هُوَ أَخُو عَمْرو بن هِنْد وَكَانَ فِيهِ لين وَيُسمى قينة الْفرس فَكتب لَهُ عَمْرو بن هِنْد إِلَى الرّبيع بن حوثرة عَامله على الْبَحْرين كتابا أَوْهَمهُ فِيهِ أَنه أَمر لَهُ بجائزة وَكتب للمتلمس بِمثل ذَلِك فَأَما المتلمس ففك كِتَابه
وَعرف مَا فِيهِ فبخا كَمَا سَيَأْتِي فِي خَبره وَأما طرفَة فَمضى بِالْكتاب فَأَخذه الرّبيع فَسَقَاهُ الْخمر حَتَّى أثمله ثمَّ فصد أكحله فقبره بِالْبَحْرَيْنِ وَكَانَ لطرفة أَخ يُقَال لَهُ معبد فطالب بديته فَأَخذهَا من الحواثر
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة مر لبيد بِمَجْلِس لنهدٍ بِالْكُوفَةِ وَهُوَ يتَوَكَّأ على عَصا فَلَمَّا جَاوز أمروا فَتى مِنْهُم أَن يلْحقهُ فيسأله من أشعر الْعَرَب فَفعل فَقَالَ لَهُ لبيد الْملك الضليل يَعْنِي امْرأ الْقَيْس فَرجع فَأخْبرهُم فَقَالُوا لَهُ إِلَّا سَأَلته ثمَّ من فَرجع فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ ابْن الْعشْرين يَعْنِي طرفَة فَلَمَّا رَجَعَ قَالُوا ليتك سَأَلته ثمَّ من فَرجع فَقَالَ صَاحب المحجن يَعْنِي نَفسه قَالَ أَبُو عُبَيْدَة طرفَة أجودهم وأجده لَا يلْحق بالبحور يَعْنِي امْرأ الْقَيْس وزهيراً والنابغة وَلكنه يوضع مَعَ أَصْحَابه الْحَارِث بن حلزة وَعَمْرو بن كُلْثُوم وسُويد بن أبي كَاهِل
وَمن شعر طرفَة وَهُوَ صبي قَوْله
(فَلولَا ثَلَاث هنَّ من عيشة الْفَتى
…
وَجدك لم أحفل مَتى قامَ عُوَّدِي)
(فمنهن سبقي العاذلات بشَرْبةٍ
…
كمُيتٍ مَتى مَا تُغلَ بِالماء تزبد)
(وَكَرِّى إذَا نادَى المُضافُ مُحنبا
…
كَسيد الْغضا نَبهتهُ المُتوردِ)
(وَتقصيرُ يَوم الدَّجن والدحن مُعجبٌ
…
بِبهكنَةٍ تحتَ الخباء المعمد) // الطَّوِيل //
وَقد أَخذه عبد الله بن نهيك بن إساف الْأنْصَارِيّ فَقَالَ
(وَلَوْلَا ثلاثٌ هنَّ من عيشة الْفَتى
…
وَجدك لم أحفل مَتى قامَ رامسُ)
(فمنهن سبقي العاذلات بشرْبةٍ
…
كَأَن أخاها مطلعَ الشَّمْس ناعسُ)
(ومنهنَّ تَجْرِيد الكواعب كالدُّمى
…
إِذا ابتُزَّ عَن أكفالهنَّ الملابسُ)
(ومنهنّ تقريطُ الجَواد عنانه
…
إِذا استبق الشَّخْص الْقوي الفوارس) // الطَّوِيل //
وَقد نَاقض عبد الحميد بن أبي الْحَدِيد الْبَغْدَادِيّ أَبْيَات طرفَة السَّابِقَة فَقَالَ
(لَوْلَا ثَلَاث لم أخَفْ صرْعتي
…
ليستْ كَمَا قَالَ فَتى العبدِ)
(أَن أنْصُرَ التوحيدَ والعدلَ فِي
…
كل مكانٍ باذلاً جهدِي)
(وأنْ أُنَاجِي اللهَ مُستمتعاً
…
بخلوةٍ أحلى منَ الشهدِ)
(وأنْ أتيهَ الدهرَ كِبراً على
…
كلِّ لئيم أَصْغَر الخدِّ)
(لذاكَ أهوَى لَا فتاةٍ وَلَا
…
خمرٍ وَلَا ذِي ميعة نهد) // السَّرِيع //
وَمِمَّا سبق إِلَيْهِ أَيْضا وَكَانَ يتَمَثَّل بِهِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَوْله
(ستبدِي لكَ الأيامُ مَا كنتَ جَاهِلا
…
ويأتيك بالأخبار من لم تزَود) // الطَّوِيل //
وَقَالَ غَيره
(ويأتيك بالأخبار من لم تبعْ لهُ
…
بتاتاً وَلم تضربْ لَهُ وقتَ موعدِ) // الطَّوِيل //
وَمِمَّا يستجاد من قصيدته الَّتِي مِنْهَا الْبَيْت السَّابِق على هَذَا قَوْله
(أَلا أيُّهاذا الزّاجري أحضرَ الوغى
…
وأنْ أشهدَ اللَّذَّات هلْ أنتَ مُخلدِي)
(فَإِن كنت لَا تَسْتَطِيع دفع منيتي
…
فذرني أبادرها بِمَا ملكت يدِي)
(أَرَى قبرَ نحَّام بخيلٍ بمالهِ
…
كقبرِ غويٍٍّ فِي البطالةِ مُفسدِ)
(أَرَى العيشَ كنزاً نَاقِصا كلّ ليلةٍ
…
وَمَا تنقصُ الأيامُ والدَّهرُ ينفدِ)
(لعمركَ إنَّ الموتَ مَا أَخطَأ الْفَتى
…
لكالطَّوَلِ المُرْخَى وثنياه بِالْيَدِ) // الطَّوِيل //
وَمِمَّا يعاب من شعره قَوْله يمدح قوما
(أسدغيل فإِذا مَا شربوا
…
وَهبوا كلَّ أمون وطمرّ)
(ثمّ راحوا عَبَقُ المسكِ بهمْ
…
يُلْحفونَ الأرضَ أهدابَ الْأرز) // الرمل //
ذكر أَنهم يُعْطون إِذا سَكِرُوا وَلم يشْتَرط ذَلِك فِي صحوهم كَمَا قَالَ عنترة
(وإِذا شربتُ فإِنني مُستهلكٌ
…
مَالِي وعِرضي وافرٌ لم يكلم)
(وَإِذا صحوتُ فَمَا أقصرُ عنْ نَدىً
…
وَكما علمت شمائلي وتكرمي) // الْكَامِل //
قَالُوا والجيد هُوَ قَول زُهَيْر بن أبي سلمى
(أَخُو ثقةٍ لَا يُتْلِفُ الخمرُ مالَهُ
…
ولكنهْ قدْ يُتلفُ المَال نائله) // الطَّوِيل //
وَقَالَ بعض الْمُحدثين
(فَتى لَا يلوكُ الخمرُ شحمةَ مالهُ
…
ولكنْ عطاياهُ ندًى وبواد) // الطَّوِيل //
وَمَا ألطف قَول ابْن حمديس فِي معنى قَول عنترة
(يعيدُ عطايا سكرهِ عندَ صحوهِ
…
ليُعلم أَنّ الجودَ منهُ على علم)
(وَيسلم فِي الإِنعام مِنْ قَول قَائِل
…
تكرمَ لما خامرتهُ ابنةُ الْكَرم) // الطَّوِيل //
68 -
(إِن الثَّمَانِينَ وبلغتها
…
قَدْ أحْوَجَتْ سمْعي إِلى تَرْجُمَانْ)
الْبَيْت لعوف بن ملحم الشَّيْبَانِيّ من قصيدة من السَّرِيع قَالَهَا لعبد الله بن طَاهِر وَكَانَ قد دخل عَلَيْهِ فَسلم عَلَيْهِ عبد الله فَلم يسمع فَأعْلم بذلك فَدَنَا مِنْهُ ثمَّ ارتجل هَذِه القصيدة وأولها
(يَا ابنَ الذِي دانَ لَهُ المشرقانْ
…
طُرّاً وقدْ دانَ لَهُ المغربان) // السَّرِيع //
وَبعده الْبَيْت وَبعده
(وبدَّلَتْني بالشّطاط انحنا
…
وكنتُ كالصَّعدة تَحت السِّنانْ)
(وعوَّضتني منْ زماع الْفَتى
…
وهمتي همَّ الجبان الْهِدَنْ)
(وقارَبتْ مني خُطاً لم تكن
…
مقارباتٍ وثنتْ منْ عنانْ)
(وأنشأتْ بيني وَبَين الوَرَى
…
سَحَابَة لَيستْ كنسجِ الْعَنَان)
(وَلم تدعْ فيَّ لِمُستمتعٍ
…
إِلَّا لساني وبحبسي لِسان)
(أدْعو بهِ الله وأُثني بهِ
…
على الْأَمِير المُصعَبِيِّ الهجان)
وَمن الِاعْتِرَاض أيضاُ قَول كثير عزة
(وَلَو أنّ عزة حاكَمَتْ شمسَ الضُّحَى
…
فِي الْحسن عندَ موفَّقٍ لقضى لَهَا) // الْكَامِل //
وَهُوَ معترض إِذْ لَا بُد فِيهِ من ذكر موفق لِأَنَّهُ لَا يتم الْمَعْنى بِدُونِهِ وَمِنْه قَول كثير أَيْضا
(لَو أنّ الباخلينَ وأنتِ منهمْ
…
رَأوكِ تعلَّموا منكِ المِطالَا) // الوافر //
وَمن مليح مَا سمع فِيهِ قَول نصيب وَكَانَ أسود
(فكدتُ وَلم أُخْلَقْ من الطيرِ إِن بدَا
…
سنَا بارق نَحْو الْحجاز أطير) // الطَّوِيل //
يرْوى أَن الَّتِي قيل فِيهَا هَذَا الْبَيْت لما سمعته تنفست نفسا شَدِيدا فصاح ابْن أبي عَتيق أوه قد وَالله أَجَابَتْهُ بِأَحْسَن من شعره وَالله لَو سَمعك لنعق وطار فَجعله غراباً لسواده
وَمن المستحسن فِيهِ أَيْضا قَول الْعَبَّاس بن الْأَحْنَف
(قدْ كنتُ أبْكِي وأنتِ راضية
…
حِذَارَ هَذَا الصدود والغضبِ)
(إِن تمَّ ذَا الهجرُ يَا ظلومُ وَلَا
…
تَمَّ فَمَالِي فِي الْعَيْش من أرب) // المنسرح //
وَمَا أحسن قَول أبي الْفَتْح البستي
(أرَاحَ الله قلبِي من زَمان
…
مَحَتْ يدهُ سروري بالإساءهْ)
(فإِنْ حَمِدَ الكريمُ صباح يَوْم
…
وأنى ذاكَ لم يحمَدْ مساءه) // الوافر //
والمتأخرون يسمون هَذَا الِاعْتِرَاض حَشْو اللوزينج وَمَا أبدع قَول ابْن الساعاتي فِيهِ
(حالَ من دونكِ يَا أُخْت الكِللْ
…
مُقَلُ الحيّ وفُرْسان الأسَلْ)
(ومواضٍ مُرْهَفاتٌ فتكتْ
…
بِي وحاشاكِ وَلَا مثل الكَحَلْ) // الرمل //
وَقَول أبي الْحُسَيْن الجزار
(ويهتز للجدوى إِذا مَا مدحتهُ
…
كَمَا اهتز حاشا وَصفه شاربُ الْخمر) // الطَّوِيل //
وَقد أَخذه من ابْن الساعاتي فَإِنَّهُ قَالَ
(يهزُّهُ الْمَدْح هز الْجُود سائلَه
…
أَولا وحاشاهُ هزَّ الشَّارِب الثمل) // الْبَسِيط //
وَمَا أحسن قَول الْفَقِيه عمَارَة اليمني
(لهُ راحةٌ ينهلُّ جوداً بنانُها
…
وَوَجهٌ إِذا قابلتَه يتهلَّلُ)
(يرَى الْحق للزوار حَتَّى كأنهُ
…
عَلَيْهِم وحاشا قدره يتطفلُ) // الطَّوِيل //
وَالْكل أخذُوا لَفْظَة حاشا من أبي الطّيب المتنبي حَيْثُ يَقُول
(ويحتقرُ الدُّنْيَا احتقارَ مجرِّبٍ
…
يرَى كل مَا فِيهَا وحاشاه فانيا) // الطَّوِيل //
وَمَا أحسن أَيْضا قَوْله فِيهِ
(وخُفُوقُ قلبٍ لَو رأيتَ لهيبهُ
…
يَا جنتي لَوَجَدْتَ فِيهِ جهنما) // الْكَامِل //
وللقاضي مهذب الدّين الغسساني
(وَمَالِي إِلَى ماءٍ سوى النّيل غلةٌ
…
وَلَو أَنه أسْتَغْفر الله زَمْزَم) // الطَّوِيل //
وبديع قَول أبي الْوَلِيد مُحَمَّد بن يحيى بن حرم
(أتجزع من دمعي وأنتَ أسلتهُ
…
وَمن نَار أحشائي ومنك لهيبها)
(وتزعمُ أنَّ النفسَ غَيرَك عُلِّقتْ
…
وأنْتَ وَلَا منٌّ عَلَيْك حبيبها) // الطَّوِيل //
وَمن الحشو الَّذِي زَاد حلاوة قَول الْجمال بن نباتة
(لوْ ذُقتَ بَرْدَ رُضاب من مُقَبِّلِهِ
…
يَا حارِ مَا لمتَ أعطافي الَّتِي ثملت) // الْبَسِيط //
وَقَول السراج الْوراق
(إنّ عَيْني وَهِي عُضْو دَنِفٌ
…
مَا على مَا كابدَتْهُ جلدُ)
(مَا كفاها بُعدُها عَنْك إِلَى
…
أَن دَهاهَا وكُفِيتَ الرمد) // الرمل //
وَمَا أحسن قَول ابْن اللبانة فِي نَاصِر الدولة صَاحب ميورقة
(وغمرْتَ بِالْإِحْسَانِ أهل ميورقة
…
وبنيتَ فِيهَا مَا بنى الْإِسْكَنْدَر)
(فَكَأَنَّهَا بغدادُ أنتَ رَشيدهَا
…
ووزيرها وَله السَّلامَة جَعْفَر) // الْكَامِل //
قَوْله وَله السَّلامَة من أَمْلَح الحشو وأحلاه قَالُوا وَهُوَ أَمْلَح وأوضح من قَول المتنبي ويحتقر الدُّنْيَا. . الْبَيْت الْمَار
وَمن المضحك فِيهِ قَول الجزار
(لئنْ قطعَ الغيثُ الطريقَ فبغلتي
…
وحاشاكَ قبقابي وجوختيَ الدارُ)
(وَإِن قيلَ لي لَا تخش فَهُوَ عبورة
…
خشيتُ على علمي بأنيَ جزار) // الطَّوِيل //
وَمَا ألطف قَوْله فِي معنى رقة الْحَال وَإِن لم يكن من هَذَا الْبَاب
(لي منَ الشمسِ حلَّة صفراءُ
…
لَا أُبالي إِذا أَتَانِي الشتاءُ)
(ومنَ الزمْهريرِ إِن حدثَ الغَيمُ ثِيَابِي وطيلساني الهواءُ
…
)
(بيتيَ الأرضُ والفضافيهِ سورٌ
…
لي مدَار وسقفُ بَيْتِي السماءُ)
(شَنَّعَ الناسُ أنني جاهلي
…
ثانوىّ وَمَا لَهُم أهواءُ)
(أخذُوني بظاهِرِي إِذْ رأوني
…
عبدَ شمس تسوءُني الظلماءُ) // الْخَفِيف //
وَمَا ألطف قَول الْبَهَاء زُهَيْر فِي هَذَا الْمَعْنى
(أدرِكوني فَبِي منَ البردِ همّ
…
ليسَ يُنْسَى وَفِي حشاي التهاب)
(كلما ازرق لونُ جسمي منَ الْبرد
…
تخيَّلْتُ أَنه سِنجابُ) // الْخَفِيف //
رَجَعَ إِلَى الِاعْتِرَاض
وَمِنْه قَول أبي مُحَمَّد الميطراني وَكتب بِهِ إِلَى صديق لَهُ رأى عِنْده غُلَاما استخدمه
(رأيتُ ظَبْيًا يطوف فِي حَرَمكْ
…
أغرَّ مستأنسا إِلَى كرَمكْ)
(أطمعني فِيهِ أنهُ رَشأ
…
يرشي ليخشى وَلَيْسَ من خدمك)
(فاشَغْلُه بِي سَاعَة إِذا فرَغَتْ
…
دَوَاتُهُ إِن رَأيت من قلمك) // المنسرح //
وَمن بديعه مَعَ الرقة والانسجام قَول ريسم بن شادلويه صَاحب أذربيجان
(سُعادُ تسُبُّني ذُكرَت بِخَير
…
وتزعُم أنني مَلِقٌ خَبيثُ)
(وَأَن موَدَّتي كذبٌ ومَيْن
…
وَأَنِّي بِالَّذِي أَهْوى بَثُوثُ)
(ولَيسَ كَذا وَلَا ردٌّ عَلَيْهَا
…
ولكنَّ الملولَ هُوَ النكوثُ)
(رأَت شَغَفي بهَا ونحولَ جسمي
…
فصَدَّت هَكَذَا كَانَ الحَدِيث) // الوافر //
وَمَا ألطف قَول الْبَهَاء زُهَيْر يهجو
(صديقٌ لي سأذكرهُ بخيرٍ
…
وإِن عَرَّفتُ باطنهُ الخبيثا)
(وحاشا السامعينَ يُقالُ عَنْهُم
…
وَبِاللَّهِ اكتموا هَذَا الحديثا) // الوافر //
وَبَالغ ابْن الساعاتي بقوله
(تودُّ نجُوم اللَّيْل لَو نَصَلت بهَا
…
وَإِن لَقِيتْ بُؤساً ذوابلُ مُلدِهِ)
(وَلَو تملكُ الحكم الأهلَّةُ لم تكن
…
وَيَا فخرها إِلَّا نعالاً لجرده) // الطَّوِيل //
وعَوْف بن ملحم الْخُزَاعِيّ أَبُو الْمنْهَال هُوَ أحد الْعلمَاء الأدباء الروَاة الفهماء الندماء الظرفاء الشُّعَرَاء الفصحاء وَكَانَ صَاحب نَوَادِر وأخبار وَمَعْرِفَة بأيام النَّاس واختصه طَاهِر بن الْحُسَيْن بن مُصعب لمنادمته ومسامرته فَلَا يُسَافر إِلَّا وَهُوَ مَعَه فَيكون زميله وعديله ويعجب بِهِ وَقَالَ مُحَمَّد بن دَاوُد إِن سَبَب اتِّصَاله بطاهر أَنه نَادَى على الجسر بِهَذِهِ الأبيات أَيَّام الْفِتْنَة بِبَغْدَاد وطاهرٌ منصرف فِي حراقة لَهُ بدجلة فَأدْخلهُ مَعَه وأنشده إِيَّاهَا وَهِي
(عجبتُ لحرَّاقَة ابْن الحسَين كيفَ تَعومُ وَلَا تغرقُ
…
)
(وبحرانِ من تحتهَا واحدٌ
…
وآخرُ من فَوْقهَا مُطْبقُ)
(وأعجَبُ من ذاكَ عيدانُها
…
وَقد مَسَّها كَيفَ لَا تورق) // المتقارب //
وَأَصله من حران وَبَقِي مَعَ طَاهِر ثَلَاثِينَ سنة لَا يُفَارِقهُ وَكلما استأذنه فِي الِانْصِرَاف إِلَى أَهله ووطنه لَا يَأْذَن لَهُ فَلَمَّا مَاتَ ظن أَنه تخلص وَأَنه يلْحق بأَهْله فقر بِهِ عبد الله بن طَاهِر وأنزله مَنْزِلَته من أَبِيه وَأفضل عَلَيْهِ حَتَّى كثر مَاله وَحسنت حَاله وتلطف بِجهْدِهِ أَن يَأْذَن لَهُ فِي الْعود إِلَى أَهله فاتفق أَنه خرج عبد الله من بَغْدَاد إِلَى خُرَاسَان فَجعل عوفاً عديله فَلَمَّا شَارف الرّيّ سمع صَوت عندليب يغرد أحسن تغريد فأعجب ذَلِك عبد الله والتفت إِلَى عَوْف وَقَالَ يَا ابْن ملحم هَل سَمِعت بأشجى من هَذَا فَقَالَ لَا وَالله فَقَالَ عبد الله قَاتل الله أَبَا كَبِير حَيْثُ يَقُول
(أَلا يَا حمام الأيك إلفك حَاضر
…
وغصنك مياد فَفِيمَ تَنوحُ)
(أفق لَا تنج من غير بَين فأنني
…
بَكَيْتُ زَمَانا والفؤادُ صَحيحُ)
(وَلوعاً فَشَطَّتْ غُربةً دارُ زَيْنَب
…
فها أَنا أبْكِي والفؤادُ قريحُ) // الطَّوِيل //
فَقَالَ عَوْف أحسن وَالله وأجاد أَبُو كَبِير إِنَّه كَانَ فِي الهذليين مائَة وَثَلَاثُونَ شَاعِرًا مَا فيهم إِلَّا مفلق وَمَا كَانَ فيهم مثل أبي كَبِير وَأخذ يصفه فَقَالَ لَهُ عبد الله أَقْسَمت عَلَيْك إِلَّا أجزت قَوْله فَقَالَ لَهُ قد كبر سني وفني ذهني وَأنْكرت كل مَا كنت أعرفهُ فَقَالَ عبد الله بِحَق طَاهِر إِلَّا فعلت فابتدر عَوْف فَقَالَ
(أَفِي كل عَام غُربَةٌ ونزُوحُ
…
أما للنوى من ونْيَةٍ فتريحُ)
(لقد طَلَّحَ البينُ المشِتُّ ركائبي
…
فَهَل أرَيَنَّ البينَ وَهُوَ طليحُ)
(وأَرَّقَني بالريِّ نوحُ حمامةٍ
…
فَنُحتُ وَذُو اللبِّ الغريبُ ينوحُ)
(على أَنَّهَا ناحَتْ وَلم تُذْر دمْعَةً
…
ونحتُ وأسْرابُ الدُّمُوع سُفوحُ)
(وناحت وفَرْخَاها بحيثُ تراهما
…
وَمن دون أفراخي مهامه فيح)
(أَلا يَا حمام الأيك إلفك حَاضر
…
وغصنك مياد فَفِيمَ تنوح)
(عَسى جُودَ عبد الله أَن يعكس النَّوَى
…
فَتُلفَي عَصا التَّطواف وَهِي طَريحُ)
(فَإِن الغنِي يُدْني الْفَتى من صدِيقهِ
…
وعُدْمُ الْفَتى بالمغربين طروح) // الطَّوِيل //
فاستعبر عبد الله ورق لَهُ وَجَرت دُمُوعه وَقَالَ وَالله إِنَّنِي لضنين بمفارقتك شحيح على الْفَائِت من محاضرتك وَلَكِن وَالله لَا أعملت معي خفاً وَلَا حافراً إِلَّا رَاجعا إِلَى أهلك وَأمر لَهُ بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم فَقَالَ عَوْف الأبيات الْمَشْهُورَة وَسَار رَاجعا إِلَى أَهله فَلم يصل إِلَيْهِم وَمَات فِي حُدُود الْعشْرين والمائتين
وَمن شعره رَحمَه الله تَعَالَى قَوْله
(وكنتُ إِذا صَحِبت رجالَ قوم
…
صحبُتُهُم ونِيَّتَي الوفاءُ)
(فأحسِنُ حِين يحسنُ محسنوهم
…
وأجتنب الإساءةَ إِن أَساءَوا)
(وأُبصر مَا يريبُهمُ بعينٍ
…
عَلَيْهَا من عُيوبهِمُ غِطاءُ) // الوافر //
وَمِنْه قَوْله
(وصَغيرَةٍ عُلِّقتُها
…
كَانَت من الفِتنِ الكِبارِ)
(بلْهاء لم تَعرف لغرتها
…
اليمينَ من اليسارِ)
(كالبدرِ إلَاّ أَنَّهَا
…
تبقى على ضوءِ النَّهَار) // من مجزوء الْكَامِل //
69 -
(واعْلمْ فَعلمُ المرْءِ يَنْفَعهُ
…
أَن سَوْفَ يآتي كل مَا قُدِرا)
الْبَيْت من السَّرِيع وأنشده أَبُو عَليّ الْفَارِسِي وَلم يعزه إِلَى أحد
وَأَن هُنَا مُخَفّفَة من الثَّقِيلَة وَضمير الشَّأْن مَحْذُوف يَعْنِي أَن الْمَقْدُور آتٍ لَا محَالة وَإِن وَقع فِيهِ تَأْخِير وَفِي هَذَا تَسْلِيَة وتسهيل لِلْأَمْرِ
وَالشَّاهِد فِيهِ الِاعْتِرَاض بالتنبيه وَهُوَ قَوْله فَعلم الْمَرْء يَنْفَعهُ وَهُوَ جملَة مُعْتَرضَة بَين اعْلَم ومعموليه وَالْفَاء اعتراضية وفيهَا شَائِبَة من السَّبَبِيَّة
70 -
(يَصُدُّ عَن الدُّنْيَا إِذا عَن سؤود
…
)
هُوَ من الطَّوِيل وَتَمَامه
(وَلَو برزَتْ فِي زِيِّ عذراءَ ناهِدِ
…
)
وقائله أَبُو تَمام من قصيدة يمدح بهَا أَبَا الْحُسَيْن مُحَمَّد بن الْهَيْثَم أَولهَا
(قفوا جدِّدوا من عهدكم بالمهاهد
…
وَإِن هِيَ لم تَسمع لِنِشدان ناشِدِ)
(لقد أطرق الرّبع المحيلُ لفقدهم
…
وبَيْنهمُ إطراقَ ثكْلان فَاقِد)
(وأبقَوْا لضيف الشوقِ منِّيَ بعدهمْ
…
قرى من جَوًى سارٍ وطيفٍ معاود)
(سقته ذعاقا عَادة الدَّهْر فيهمُ
…
وسم اللَّيَالِي فَوق سم الأساود)
(بِهِ عِلّة صماء للبين لم تُصخْ
…
لبرءِ وَلم توجِبْ عيادةَ عَائِد)
(وَفِي الكِلَّةِ الورديَّةِ اللَّوْن جؤذر
…
من العينِ وردي الخدود المجاسد)
(رمته بخلف بعد مَا عَاشَ حِقْبةً
…
لَهُ رَسَفَانٌ فِي قيود المواعد)
(غدَتْ مُغْتَدَي الغضبي وأوصت خيالها
…
بهجران نِضْوِ العيس نِضْو الخرائد)
(وقالتْ نكاحُ الْحبّ يفْسد شكلهُ
…
وَكم نكحوا حبا وليسَ بفاسد) // الطَّوِيل //
وَهِي طَوِيلَة يَقُول فِي مديحها
(هُم حسدوهُ لَا مَلُومينَ مجدَهُ
…
وَمَا حاسدٌ فِي المكرُمَات بحاسدِ)
(قرَاني اللُّهى والوُدَّ حَتَّى كَأَنَّمَا
…
أفادَ الْغَنِيّ من نائلي وفوائدي)
(فأصبحتُ يلقاني الزمانُ مِنَ أجلهِ
…
بإِعظام مَوْلُود وإشفاق والدِ)
وَبعده الْبَيْت وَبعده
(إِذا الْمَرْء لم يزهد وَقد صُبِغَتْ لهُ
…
بعصفُرِها الدُّنْيَا فَلَيْسَ بزاهد)
(فواكبدي الحرى وواكبد النوَى
…
لأيامهِ لَو كنَّ غيرَ بوائدِ)
(وَهيهاتَ مَا ريبُ الزمانِ بمِخْلِدٍ
…
غَرِيبا وَلَا ريبُ الزَّمَان بِخَالِد)
والزي بِكَسْر الزَّاي الْهَيْئَة والعذراء الْبكر والناهد الَّتِي نهد ثديها أَي ارْتَفع
وَالشَّاهِد فِيهِ وَصفه بالإيجاز بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَلَام آخر مساوٍ لَهُ فِي أصل الْمَعْنى وَهُوَ الْبَيْت الْآتِي بعده وَهُوَ إِذا الْمَرْء لم يزهد إِلَخ
71 -
(ولستُ بمَيَّالٍ إِلَى جانبِ الغنىَ
…
إِذا كَانَت العَلْيَاءُ فِي جَانب الفقرِ)
الْبَيْت من الطَّوِيل وَهَكَذَا رويته وَإِن كَانَ فِي التَّلْخِيص بِلَفْظ نظار بدل ميال وقائله وقائله المعذل بن غيلَان أَبُو عبد الصَّمد أحد الشاعرين الْمَشْهُورين روى ذَلِك عَنهُ الْأَخْفَش عَن الْمبرد وَمُحَمّد بن خلف الْمَرْزُبَان عَن الربعِي وَبعد الْبَيْت
(وَقد قَالَ الأديب مقَال صدقٍ
…
رآهُ الْآخرُونَ لَهُم إِمَامَا)
(إِذا كرمتكم وأهنتموني
…
وَلم أغضبْ لذلكم فداما) // الوافر //
قَالَ وَانْصَرف فبكر إِلَيْهِ عبد الله بن سوار فَقَالَ لَهُ رَأَيْتُك أَبَا عبد الله مغضباً فَقَالَ أجل مَاتَت بنت أُخْتِي وَلم تأتني قَالَ مَا علمت ذَلِك قَالَ ذَنْبك أيسر من عذرك وَمَالِي أَنا أعرف خبر حقوقك وَأَنت لَا تعرف خبر حقوقي فَمَا زَالَ عبد الله يعْتَذر إِلَيْهِ حَتَّى رَضِي عَنهُ
وَحدث الجماز قَالَ هجا أبان اللاحقي المعذل بن غيلَان فَقَالَ
(كنتُ أَمْشِي مَعَ المعذل يَوْمًا
…
ففسا فَسْوَةً فكدتُ أطيرُ)
(فتلفَّتُّ هَل أرَى ظَرِباناً
…
من ورائي والأرضُ بِي تستديرُ)
(فإِذا ليسَ غَيره وَإِذا إعصارُ ذاكَ الفساءِ منهُ يفورُ
…
)
(فتعجبتُ ثمَّ قلتُ لقدْ أعرقَ فِي ذَا فِيمَا أرى خِنْزِير
…
) // الْخَفِيف //
فَأَجَابَهُ المعذل بقوله
(صحَّفَتْ أُمُّكَ إِذْ سمتكَ
…
فِي المهد أَبَانَا
…
)
(صيرت بَاء مَكَان التاءِ
…
فاللُه أعانَا)
(قطعَ اللُه وشيكاً
…
من مسميكَ اللسانا) // الرمل //
وَقد روى عَن المعذل وَأَبِيهِ شَيْء من الْأَخْبَار والْحَدِيث واللغة لَيْسَ بالكثير وَمن شعره
(إِلَى الله أَشْكُو لَا إِلَى النَّاس أَنني
…
أَرى صَالح الْأَعْمَال لَا أستطيعها)
(أَرى خَلَّةً فِي إخْوَة وقرابة
…
وَذي رحم مَا كَانَ مثلي يضيعها)
(فَلَو ساعدتني فِي المكارم قدرَة
…
لفاضَ عَلَيْهِم بالنوال ربيعها) // الطَّوِيل //
وَأما ابْن المعذل عبد الصَّمد فَكَانَ شَاعِرًا فصيحاً من شعراء الدولة العباسية وَكَانَ هجاء خَبِيث اللِّسَان شَدِيد الْمُعَارضَة وَكَانَ أَخُوهُ أَحْمد شَاعِرًا أَيْضا إِلَّا أَنه كَانَ عفيفاً ذَا مُرُوءَة وَدين وَتقدم عِنْد الْمُعْتَزلَة وجاه وَاسع فِي بَلَده وَعند سُلْطَانه لَا يُقَارِبه عبد الصَّمد فِيهِ وَكَانَ يحسده ويهجوه فيحلم عَنهُ وَعبد الصَّمد أشعرهما وَمن هجاء أَحْمد لِأَخِيهِ عبد الصَّمد قَوْله وَهُوَ فِي غَايَة الأذي مَعَ مَا فِيهِ من اللطافة
(قَالَ لي أَنْت أَخُو الْكَلْب وَفِي
…
ظنَّهِ أَن قد هجاني واجتهدْ)
(أحمدُ الله تَعَالَى أنهُ
…
مَا درى أَنِّي أَخُو عبد الصمدْ) // الرمل //
72 -
(وتُنْكرُ إِن شئَنا على النَّاس قولهُمْ
…
وَلَا يُنكرُونَ القولَ حِين نقولُ)
الْبَيْت للسموأل بن عادياء الْيَهُودِيّ من قصيدة من الطَّوِيل أَولهَا
(إِذا الْمَرْء لم يَدْنَسْ من اللؤم عرضُه
…
فَكل رِدَاء يرتديه جميلُ)
(وإِنْ هُوَ لم يحمل على النَّفس ضَيْمَهَا
…
فَلَيْسَ إِلَى حسن الثَّنَاء سبيلُ)
(تُعيِّرنا أَنا قَلِيل عديدُنا
…
فَقلت لَهَا إِن الْكِرَام قليلُ)
(وَمَا قَلَّ مَنْ كَانَت بقاياه مثلنَا
…
شباب تسامت للعلا وكهولُ)
(وَإِنَّا لَقَوْمٌ لَا نرى الْقَتْل سُبة
…
إِذا مَا رَأَتْهُ عَامر وسلول)
(يقرب حب الْمَوْت آجالنا لنا
…
وتكرهه آجالهمْ فتطولُ)
(وَمَا ماتَ منَّا سيِّدٌ فِي فِراشهِ
…
وَلَا طُلَّ منّا حيثُ كانَ قتيلُ)
(تَسيلُ على حدِّ الظُّبات نفوسُنَا
…
وَلَيْسَ على غير السُّيوف تسيلُ) // الطَّوِيل //
إِلَى أَن يَقُول فِيهَا
(فنحنُ كماءِ المُزن مَا فِي نِصالنا
…
كَهَامٌ وَلَا فِينا يعدُّ بخيلُ)
وَبعده الْبَيْت وَبعده
(إِذا سيدٌ منَّا خلَا قامَ سيدٌ
…
قؤولٌ لما قالَ الكرامُ فَعُولُ)
(وَما أُخمِدتْ نارٌ لنا دُون طَارق
…
وَلَا ذمَّنا فِي النَّازلينَ نَزيلُ)
(وأيامُنا مشهورَةٌ فِي عدُونا
…
لَهَا غُرَر معرُوفة وحُجُولُ)
(وأسْيافُنَا فِي كلِّ شرقٍ ومغربٍ
…
بهَا منْ قِراع الدَّارعينَ فلولُ)
(مُعَوَّدة أنْ لَا تُسلَّ نِصالها
…
فتغمدَ حَتَّى يُستباحَ قتيلُ)
(سلى إنْ جهلتِ النَّاسَ عنّا وعنهمُ
…
فليسَ سواءَ عَالم وجهول) // الطَّوِيل //
وَمعنى الْبَيْت إِنَّا نغير مَا نُرِيد تَغْيِيره من قَول غَيرنَا وَلَا يَجْسُر أحد على الِاعْتِرَاض علينا انقيادا لهوانا واقتداء بحرمنا يصف رياستهم ونفاذ حكمهم وَرُجُوع النَّاس فِي الْمُهِمَّات إِلَى رَأْيهمْ
وَالشَّاهِد فِيهِ وَصفه بالإطناب بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَوْله تَعَالَى لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وَهُوَ يسْأَلُون وَوصف الْآيَات الْكَرِيمَة بالإيجاز بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ
وَفِي قَوْله من القصيدة وَإِنَّا لقوم لَا نرى الْقَتْل سبة
…
الْبَيْت نوع من البديع يُسمى الاستطراد وَهُوَ أَن يرى الشَّاعِر أَنه يُرِيد وصف شَيْء وَهُوَ إِنَّمَا يُرِيد غَيره وَمِنْه قَول الفرزدق
(كأنّ فقاحَ الأزْد حَوْلَ ابْن مِسمعٍ
…
إِذا اجْتمعوا أفْوَاهُ بكر بن وَائِل) // الطَّوِيل //
وَقَول جرير
(لما وضعتُ على الفرزْدق مِيسمى
…
وضغا البعيثُ جدعتُ أنفَ الأخطل) // الْكَامِل //
ويروى أَن الفرزدق وقف على جرير بِالْبَصْرَةِ وَهُوَ ينشد قصيدته الَّتِي هجا فِيهَا الرَّاعِي فَلَمَّا بلغ إِلَى قَوْله
(بهَا برصٌ بِأَسْفَل أسكَتيها
…
)
وضع الفرزدق يَده على فِيهِ وغطى عنفقته فَقَالَ جرير
(كَعَنْفقَةِ الفرزْدقِ حِينَ شَابًّا
…
)
فَانْصَرف الفرزدق وَهُوَ يَقُول اللَّهُمَّ اخزه وَالله لقد علمت حِين بَدَأَ بِالْبَيْتِ أَنه لَا يَقُول غير هَذَا ولكنني طمعت أَن لَا يَأْتِي بِهِ فغطيت وَجْهي فَمَا أغْنى ذَلِك شَيْئا وَيُقَال إِن يُونُس كَانَ يَقُول مَا أرى جَرِيرًا قَالَ هَذَا المصراع إِلَّا حِين غطى الفرزدق عنفقته فَإِنَّهُ نبهه عَلَيْهِ بتغطيته إِيَّاهَا
وَمن الاستطراد قَول أبي تَمام فِي وصف فرس
(فَلَو ترَاهُ مشيخا والحَصا فِلقٌ
…
تَحت السَّنابكِ مِنْ مَثْنَي ووُحدانِ)
(حَلَفْتَ إنْ لم تَثَبَّتْ أَنَّ حافِرهُ
…
من صخْرِ تدْمُرَ أوْ منْ وجهِ عُثْمَان) // الْبَسِيط //
وَقَول بكر بن النطاح فِي مَالك بن طوق
(عرضتُ عَلَيْهَا مَا أَرَادَت منَ المُنى
…
لتَرْضَى فقالتْ قمْ فجئني بِكوكبِ)
(فقلتُ لَهَا هذَا التَّعنُّتُ كلُّه
…
كمَن يَشْتَهِي منْ لحم عنْقاء مُغربِ)
(سلى كلَّ أمرٍ يستقيمُ طِلَابهُ
…
وَلَا تذهبي يَا درتي كلَّ مذهبِ)
(فاقسمُ لَو أَصبَحت فِي عزِّ مالكٍ
…
وقدرتهِ أعْيا بِما رُمتِ مطلبي)
(فَتى شقيَتْ أموالُه بعُفاتهِ
…
كَمَا شقيتْ قيسٌ بأرماح تغلب) // الطَّوِيل //
وَقَول بَعضهم يمدح الْوَزير المهلبي
(بِأبي منْ إِذا أرادَ سِراري
…
عَبَّرَتْ لي أنفاسهُ عنْ عبيرِ)
(وسبانِي ثغرٌ كُدرٍّ نظيم
…
تحتهُ مَنْطقٌ كَدرٍّ نثيرِ)
(ولهُ طَلْعةٌ كنَيْلِ الْأَمَانِي
…
أَو كشعر المهلبي الْوَزير) // الْخَفِيف //
وَقَول أبي الطَّاهِر الْخُزَاعِيّ
(وليل كوجه البرقعيدي ظُلمةً
…
وبردِ أَغانيهِ وَطول قُرُونهِ)
(قَطَعْتُ دَياجيهِ بنوْمٍ مُشرَّدٍ
…
كعقل سُليمانَ بن فَهْدٍ ودِينهِ)
(على أوْلَقٍ فيهِ التفاتٌ كأنهُ
…
أَبُو جابرٍ فِي خبَّطه وجنونه)
(إِلَى أَن بدا ضوءُ الصَّباح كأنهُ
…
سنا وجهِ قِرْواشٍ وضوء جَبينه) // الطَّوِيل //
وَقَول إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم يهجو أَحْمد بن هِشَام
(وصافيةٍ يغشى العُيونَ صفاؤها
…
رَهينةِ عامٍ فِي الدِّنان وعامِ)
(أدرنابها الكأسَ الرَّوِيَّةَ مَوْهِناً
…
منَ اللَّيل حَتَّى انجابَ كلُّ ظلامِ)
(فَمَا ذَر قرْنُ الشَّمس حَتَّى رأيتُنا
…
منَ العيِّ نحكي أَحْمد بن هِشَام) // الطَّوِيل //
وَقَول الْحُسَيْن بن عَليّ القمي
(جاوزتُ أجبالاً كأنّ صخورها
…
وَجنَاتُ نجم ذِي الْحيَاء الباردِ)
(والشَّوْكُ يعملُ فِي ثِيَابِي مِثلَ مَا
…
عملَ الهجاءُ بِعرْض عبد الْوَاحِد) // الْكَامِل //
وَقَول أبي الْفرج الببغاء
(لنا روْضة فِي الدّار صيغَ لزهرها
…
قلائدُ من حلي النَدَى وشُنوفُ)
(يطيفُ بِنَا مِنها إِذا مَا تنفستْ
…
نسيمٌ كعقل الخالدِيّ ِضعيفُ) // الطَّوِيل //
وَمن ظريف الاستطراد وغريبه قَول بَعضهم
(اكْشفي وجهكِ الذِي أَو حلتني
…
فيهِ منْ قبل كَشفهِ عيناكِ)
(غَلَطِي فِي هواكِ يشبه عندِي
…
غَلطي فِي أبي عَليّ بن زاكي) // الْخَفِيف //
وَقَول أبي بكر الْخَوَارِزْمِيّ
(وصفراءَ كالدَّينار بنت ثلاثةٍ
…
شَمَالٍ وأَنْهار ودهرٍ مُجرّمٍ)
(مَسَرْةِ محزونٍ وعُذْر مُعربدٍ
…
وكنز مجوسيٍّ وفتنةِ مُسلمِ)
(مماتٌ لأحياء حياةٌ لميتٍ
…
وعُدْمٌ لمن أثرَى ثراءٌ لمعدِم)
(يدورُ بِها ظبيٌ تدورُ عيونُنا
…
على عينهِ مِنْ شَرط يِحيى بن أكْثم)
(ينزِّهنا من ثغرهِ ومُدَامه
…
وخدّيه فِي شمسٍ وبدرٍ وأنجُم)
(نهضتُ إِلَيْهَا والظَّلَام كأنهُ
…
معاشُ فقيرٍ أَو فؤاد معلم) // الطَّوِيل //
وَقَوله
(ولقدْ بكيتُ عليكَ حَتَّى قدْ بدَا
…
دَمعي يُحاكِي لفظكَ المنظوما)
(وَلَقَد حزنتُ عَلَيْك حَتَّى قد حكى
…
قلبِي فؤادَ حسودك المحموما) // الْكَامِل //
وَمِنْه قَول ابْن رَشِيق وَكتب بِهِ إِلَى بعض الرؤساء
(إِنِّي لَقيتُ مَشقّهْ
…
فَابْعَثْ إليَّ بشُقهْ)
(كَمثلِ وَجهك حسنا
…
ومِثل دينيَ رِقهْ) // المقتضب //
فَقَالَ لَهُ الرئيس أما مثل دينك رقة فَلَا يُوجد بِوَزْن أَمْثَال رمال الرقة
ولشرف الدّين ابْن عنين الشَّاعِر على هَذَا الأسلوب فِي فقيهين كَانَا بِدِمَشْق يدعى أَحدهمَا بالبغل وَالْآخر بالجاموس
البَغلُ والجاموسُ فِي جَدَليهما
…
قد أصبحا عظةً لكل مُناظرِ)
(برزَا عَشيَّة ليلةٍ فتباحثَا
…
هَذَا بقَرْنَيْهِ وذَا بالحافرِ)
(مَا أتْقنا غيرَ الصِّياح كَأَنَّمَا
…
لقيا جدالَ المرْتضى بن عساكرِ)
(لفظٌ طويلٌ تحتَ معنى قاصرٍ
…
كالعقل فِي عبدِ اللَّطيف النَّاظرِ)
(اثْنَان مالَهُمَا وحقكَ ثالثٌ
…
إْلاّ رَقاعة مدلوية الشَّاعِر) // الْكَامِل //
وَمِنْه قَول ابْن جَابر الأندلسي
(تطولُ بهِ للمجدِ أشرفُ هِمةٍ
…
فَمَا باعهُ عنْ غايةٍ بقصير)
(سما لاقِتناص المكرُمات كَمَا سَمَا
…
بعمرٍو إِلَى الزَبَّاء سعي قصير) // الطَّوِيل //
وَقَوله أَيْضا
(سراةٌ كِرامٌ من ذُؤابةِ هاشمٍ
…
يقولونَ للأضيافِ أَهلا ومَرْحَبَا)
(ويفعلُ فِي فقر المُقلِّينَ جودهمْ
…
كَفعل عليٍّ يومَ حاربَ مرْحَبًا) // الطَّوِيل //
والسموأل هُوَ ابْن غريض بن عادياء ذكر ذَلِك أَبُو خَليفَة عَن مُحَمَّد بن سَلام والسكري عَن الطوسي وَأبي حبيب وَذكر أَن النَّاس يدرجون غريضاً فِي النّسَب وينسبونه إِلَى عادياء جده وَقَالَ عَمْرو بن شيبَة هُوَ السموأل ابْن عادياء وَلم يذكر غريضاً وَقد قيل إِن أمه كَانَت من غَسَّان وَكلهمْ قَالَ إِنَّه صَاحب الْحصن الْمَعْرُوف بالأبلق بتيماء وَقيل بل هُوَ من ولد الكاهن بن هَارُون بن عمرَان وَكَانَ هَذَا الْحصن لجده عادياء واحتفر فِيهِ بِئْرا عذبة روية وَقد ذكرته الشُّعَرَاء فِي أشعارها قَالَ السموأل
(فبالأبلق الفردِ بَيْتِي بهِ
…
وَبَيت النَّضِير سوى الأبلق) // المتقارب //
وَكَانَت الْعَرَب تنزل بِهِ فيضيفها وتمتار من حصنه وَيُقِيم هُنَاكَ سوقاً وَبِه يضْرب الْمثل فِي الْوَفَاء لِأَنَّهُ رَضِي بقتل ابْنه وَلم يخن أَمَانَته فِي أَدْرَاع أودعها وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك إِن امْرأ الْقَيْس بن حجر الْكِنْدِيّ لما سَار إِلَى الشَّام يُرِيد قَيْصر نزل على السموأل بن عادياء بحصنه الأبلق بعد إِيقَاعه ببني كنَانَة على أَنهم
بَنو أَسد وَكَرَاهَة من مَعَه لفعله وتفرقهم عَنهُ حَتَّى بَقِي وَحده وَاحْتَاجَ إِلَى الْهَرَب وَطَلَبه الْمُنْذر بن مَاء السَّمَاء وَوجه إِلَى طلبه جيوشاً وخذلته حمير وَتَفَرَّقَتْ عَنهُ فلجأ إِلَى السموأل بن عادياء وَكَانَ مَعَه خَمْسَة أَدْرَاع الفضفاضة والضافية والمحصنة والخريق وَأم الذيول وَكَانَت لبني آكل المرار يتوارثونها ملك عَن ملك وَمَعَهُ ابْنَته هِنْد وَابْن عَمه يزِيد بن الْحَارِث بن مُعَاوِيَة بن الْحَارِث وَسلَاح وَمَال وَكَانَ بَقِي مِمَّا كَانَ مَعَه رجل من بني فَزَارَة يُقَال لَهُ الرّبيع وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ امْرُؤ الْقَيْس
(بَكَى صَاحِبي لما رأى الدَّرْب دونه
…
وأيقنَ أنَّا لَا حِقانِ بقيْصرَا)
(فقلتُ لَهُ لَا تبك عَيْنك إِنَّمَا
…
نحاول ملكا أَو نموت فنعذرا) // الطَّوِيل //
فَقَالَ لَهُ الْفَزارِيّ قل فِي السموأل شعرًا تمدحه بِهِ فَإِن الشّعْر يُعجبهُ فَقَالَ فِيهِ امْرُؤ الْقَيْس قصيدته الَّتِي مطْلعهَا
(طَرَقَتْكَ هِنْد بعدَ طولِ تَجَنُّبٍ
…
وَهْناً وَلم تكُ قبلَ ذَلِك تطرق) // الْكَامِل //
فَقَالَ لَهُ الْفَزارِيّ إِن السموأل يمْنَع مِنْهَا وَهُوَ فِي حصن حُصَيْن وَمَال كثير فَقدم بِهِ على السموأل وعرفه إِيَّاه وأنشده الشّعْر فَعرف لَهما حَقّهمَا وَضرب على هِنْد قبَّة من أَدَم وَأنزل الْقَوْم فِي مجْلِس لَهُ فأقاموا عِنْده مَا شَاءَ الله ثمَّ إِن امْرأ الْقَيْس سَأَلَهُ أَن يكْتب لَهُ إِلَى الْحَارِث بن أبي شمر الغساني
أَن يوصله إِلَى قَيْصر فَفعل واستصحب رجلا يدله على الطَّرِيق وأودع ابْنَته وَمَاله وأدراعه السموأل ورحل إِلَى الشَّام وَخلف ابْن عَمه مَعَ ابْنَته هِنْد
قَالَ وَنزل الْحَارِث بن ظَالِم فِي بعض غاراته بالأبلق وَيُقَال بل كَانَ الْمُنْذر وَجهه فِي خيل وَأمره بِأخذ مَال امرىء الْقَيْس من السموأل فَلَمَّا نزل بِهِ تحصن مِنْهُ وَكَانَ لَهُ ابْن قد يفع وَخرج إِلَى قنصٍ لَهُ فَلَمَّا رَجَعَ أَخذه الْحَارِث بن ظَالِم ثمَّ قَالَ للسموأل أتعرف هَذَا قَالَ نعم هَذَا ابْني فَقَالَ أفتسلم مَا قبلك أَو أَقتلهُ قَالَ شَأْنك بِهِ فلست أَخْفَر ذِمَّتِي وَلَا أسلم مَال جاري فَضرب الْحَارِث وسط الْغُلَام فَقتله وقطعه قطعتين وَانْصَرف عَنهُ فَقَالَ السموأل فِي ذَلِك
(وفيت بأدراع الكندِيِّ إِني
…
إِذا مَا ذّم أقوامٌ وفيتُ)
(وأوْصى عادِياً يَوْمًا بِأن لَا
…
تُهدِّمَ يَا سموألُ مَا بنيتُ)
(بنى لي عادِياً حِصناً حصينا
…
وبئرا كلما شِئْت استقيت) // الوافر //
وَفِي ذَلِك يَقُول الْأَعْشَى وَكَانَ قد استجار بشريح بن السموأل من رجل كَلْبِي قد هجاه ثمَّ ظفر بِهِ فَأسرهُ وَهُوَ لَا يعرفهُ فَنزل بِابْن السموأل فَأحْسن ضيافته وَمر بالأسرى فناداه الْأَعْشَى من جملَة أَبْيَات
(كن كالسموأل إِذْ طافَ الهمامُ بهِ
…
فِي عَسْكَر كسواد اللَّيْل جرار)
(إذَ سامهُ خُطَّتَيْ خَسْفٍ فقالَ لهُ
…
قُل مَا تشاءُ فإِني سامعٌ حَار)
(فَقَالَ غَدْرٌ وثُكْلٌ أنتَ بَينهمَا
…
فاخترْ وَمَا فِيهَا حَظٌّ لمختار)
(فشكَّ غيرَ طويلٍ ثمَّ قَالَ لهُ
…
اقتلْ أسيركَ إِنِّي مانعٌ جاري)
(وسوف يُعْقبنيهِ إِنْ ظفرْتَ بهِ
…
ربٌّ كريمٌ وبِيضٌ ذاتُ أطْهار)
(لَا سرُّهنّ لدَينا ذاهبٌ أبدا
…
وحافظات إِذا استُودِعْنَ أَسراري) فاختارَ أَدْراعهُ كَيْلا يُسَبَّ بهَا
…
وَلم يكنْ وعدهُ فِيهَا بختار) // الْبَسِيط //
فجَاء شُرَيْح إِلَى الْكَلْبِيّ فَقَالَ لَهُ هَب لي هَذَا الْأَسير المضرور فَقَالَ هُوَ لَك فَأَطْلقهُ وَقَالَ لَهُ أقِم عِنْدِي حَتَّى أكرمك وأجيزك فَقَالَ لَهُ الْأَعْشَى إِن تَمام صنيعك أَن تُعْطِينِي نَاقَة نَاجِية فَأعْطَاهُ نَاقَة نجية فركبها وَمضى من سَاعَته وَبلغ الْكَلْبِيّ أَن الَّذِي وهب لشريح هُوَ الْأَعْشَى فَأرْسل إِلَى شُرَيْح ابْعَثْ إِلَى الْأَسير الَّذِي وهبته لَك حَتَّى أحبوه وأعطيه فَقَالَ قد مضى فَأرْسل الْكَلْبِيّ وَرَاءه فَلم يلْحقهُ
وشعية بن غريض أَخُو السموأل شَاعِر أَيْضا وَمن شعره
(إِنا إِذا مالتْ دَواعِي الهوَى
…
وأنصتَ السّامعُ للقائل)
(لَا نجعلُ الباطلَ حقّاًً وَلَا
…
نُلِظُّ دُون الْحق بِالْبَاطِلِ)
(نَخَاف أنْ تَسْفَهَ أَحلامُنَا
…
فنخملَ الدَّهرَ معَ الخامل) // السَّرِيع //
عَن الْعُتْبِي قَالَ كَانَ مُعَاوِيَة رضي الله عنه كثيرا مَا يتَمَثَّل إِذا اجْتمع النَّاس فِي مَجْلِسه بِهَذَا الشّعْر
وَعَن يُوسُف بن الْمَاجشون قَالَ كَانَ عبد الْملك بن مَرْوَان إِذا جلس للْقَضَاء بَين النَّاس أَقَامَ وصيفاً على رَأسه فأنشده هَذِه الأبيات ثمَّ يجْتَهد فِي الْحق بَين الْخَصْمَيْنِ
قد تمّ بعون الله تَعَالَى وَحسن تيسيره طبع الْجُزْء الأول من كتاب معاهد التَّنْصِيص على شَوَاهِد التَّلْخِيص للشَّيْخ عبد الرَّحِيم بن أَحْمد العباسي ويتلوه إِن شَاءَ الله تَعَالَى الْجُزْء الثَّانِي مفتتحا بشواهد الْفَنّ الثَّانِي وَهُوَ علم الْبَيَان نسْأَل الَّذِي بِيَدِهِ مقاليد الْأُمُور أَن يعين على إكماله وييسر سَبِيل اختتامه آمين