الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شَوَاهِد الْوَصْل والفصل
47 -
(لَا وَالَّذِي هُوَ عَالم أنَّ النَّوى
…
مُرٌّ وَأَن أَبَا الحُسَينِ كَريمُ)
الْبَيْت لأبي تَمام الطَّائِي من قصيدة من الْكَامِل يمدح بهَا أَبَا الْحُسَيْن مُحَمَّد بن الْهَيْثَم وأولها
(أسْقَى طُلولَهمُ أجَشُّ هَزِيمُ
…
وغَدَتْ عَلَيْهِم نَضْرَةٌ ونَعيمُ)
(جَادَتْ معاهدَهم عِهَادُ سحابةٍ
…
مَا عهدُها عِنْد الديارِ ذَميمُ)
(سَفِهَ الفراقُ عَلَيْك يَوْم تحَمَّلوا
…
رُبمَا أرَاهُ وَهُوَ عَنك حَليمُ)
(ظلمتك ظالمة البريء ظَلومُ
…
وَالظُّلم من ذِي قُدْرة مَذْمُوم)
(زَعمَتْ هَوَاك عَفا الغداةَ كَمَا عفَا
…
مِنْهَا طُلولٌ باللوى ورسوم) // الْكَامِل //
لَا وَالَّذِي هُوَ عَالم
…
. . الْبَيْت وَبعده
(مَا حُلْتُ عَن سنَن الوفاءِ وَلَا غَدَتْ
…
نَفسِي على إلفٍ سواكِ تَحُومُ)
والنوى الْفِرَاق
وَالشَّاهِد فِيهِ أَن شَرط عطف جملَة على جملَة أَن يكون بَينهمَا جِهَة خَاصَّة وَلَا كَذَلِك فِي هَذَا الْبَيْت إِذْ لَا مُنَاسبَة بَين كرم أبي الْحُسَيْن ومرارة النَّوَى سواءٌ كَانَ نَوَاه أَو نوى غَيره فَهَذَا الْعَطف غير مَقْبُول سَوَاء جعل عطف مُفْرد على مُفْرد كَمَا هُوَ الظَّاهِر أَو عطف جملَة على جملَة بِاعْتِبَار وُقُوعه مَوضِع مفعول الْعلم لِأَن وجود الْجَامِع شَرط فيهمَا وَلِهَذَا عيب على أبي تَمام كَمَا سَيَأْتِي فِي أحسن التَّخَلُّص إِن شَاءَ الله تَعَالَى
(وهِمتُ بالأوْطان وجدا بهَا
…
وبالغوانِي أينَ مِني الغوان)
(فقرِّباني بِأبي أَنْتُمَا
…
مِنْ وطني قبلَ اصفرار البنان)
(وقبلَ مَنْعايَ إِلَى نِسوةٍ
…
مَسكَنُها حرَّان والرَّقتان)
(سقى قُصُور الشاذياخ الحَيا
…
منْ بعدِ عهدِي وقصورَ الميان)
(فكم وَكم منْ دَعوةٍ لي بهَا
…
أنْ تتخطاها صُروفَ الزَّمَان) // السَّرِيع //
والترجمان يُقَال بِضَم تائه وجيمه وفتحهما وَفتح التَّاء وَضم الْجِيم وَهُوَ الْمُفَسّر للسان يُقَال تَرْجمهُ وَعنهُ وَالْفِعْل يدل على أَصَالَة التَّاء
وَلَقَد أَجَاد الْغَزِّي فِي تَضْمِينه صدر الْبَيْت بقول
(طول حَيَاة مَالهَا طائل
…
تغض عندِي كلَّ مَا يُشتهي)
(أَصبحتُ مثلَ الطِّفل فِي ضعفهِ
…
تشابهَ المبدأُ والمُنتهى)
(فلَا تَلُمْ سَمعي إِذا خانني
…
إنّ الثَّمَانِينَ وبلغتها) // السَّرِيع //
ولطيف قَول الشهَاب المنصوري رحمه الله
(نَحْو ثمانينَ منَ الْعُمر قدْ
…
قَطعْتها مثلَ عُقُود الجمانْ)
(مَا أَحوجتْ يَوْمًا يَمِيني إِلَى
…
عَصا وَلَا سَمْعي إِلَى ترجمان) // السَّرِيع //
وَالشَّاهِد فِيهِ الِاعْتِرَاض وَيُسمى الِالْتِفَات وَهُوَ أَن يُؤْتى فِي أثْنَاء الْكَلَام أَو بَين كلامين متصلين معنى بجملة أَو أَكثر لَا مَحل لَهَا من الْأَعْرَاب لنكتة سوى دفع الْإِيهَام وَهُوَ هُنَا الدُّعَاء فِي قَوْله وبلغتها لِأَنَّهَا جملَة مُعْتَرضَة بَين اسْم إِن وخبرها وَالْوَاو فِيهِ اعتراضية لَيست عاطفة وَلَا حَالية
48 -
(وَقَالَ رَائِدُهم أرْسُوا نُزَاوِلُهَا
…
)
هُوَ من الْبَسِيط وقائله الأخطل كَذَا ذكره سِيبَوَيْهٍ وَلَيْسَ هُوَ فِي ديوانه وَتَمَامه
(وكل حَتْفِ امرِئِ يجْرِي بمقدارِ
…
)
وَبعده
إِمَّا نموتُ كراماً أَو نَفوز بهَا
…
فواحد الدَّهْر من كدٍّ وأسفار) // الْبَسِيط //
والرائد الْمُرْسل فِي طلب الْكلأ وأرسوا بِقطع الْهمزَة من رست السَّفِينَة ترسو رسوا إِذا وقفت على الأنجر مُعرب لنكر وَهُوَ مرساة السَّفِينَة وَهِي خشبات يفرغ بَينهَا الرصاص الْمُذَاب فَتَصِير كصخرة إِذا رست رست السَّفِينَة أَو هُوَ من رست أَقْدَامهم فِي الْحَرْب أَي ثبتَتْ ونزاولها من المزاولة وَهِي المحاولة والمعالجة فِي تَحْصِيل الشَّيْء وَالضَّمِير للسفينة وَقيل للحرب وَقيل للخمر وَهُوَ لَا يُنَاسب ظَاهر الْبَيْت الَّذِي بعده
وَالشَّاهِد فِي قَوْله نزاولها فَإِنَّهُ فَصله عَن قَوْله أرسوا لِأَن الأول أَمر وَالثَّانِي خبر فَامْتنعَ الْعَطف بَينهمَا لاختلافهما خَبرا وطلباً لفظا وَمعنى
وَمن هَذَا الضَّرْب قَول اليزيدي أَو إِبْرَاهِيم بن الْمُدبر
(ملكتهُ حبلي ولكنهُ
…
ألقَاه من زُهْدٍ على غاربي)
(وقالَ إِنِّي فِي الْهوى كاذبٌ
…
انتقمَ اللهُ من الكاذبِ) // السَّرِيع //
وَحمله الشَّيْخ عبد القاهر على الِاسْتِئْنَاف بِتَقْدِير قلت قَالَ الشِّيرَازِيّ وَهُوَ أنسب بالْمقَام
والأخطل هُوَ غياث بن غوث بن الصَّلْت بن الطارقة يَنْتَهِي نسبه لتغلب ويكنى أَبَا مَالك والأخطل لقبه عَن أبي عُبَيْدَة أَن السَّبَب فِيهِ أَنه هجا رجلا من قومه فَقَالَ لَهُ يَا غُلَام إِنَّك لأخطل والأخطل السَّفِيه وَكَانَ نَصْرَانِيّا من أهل الجزيرة وَمحله فِي الشّعْر أكبر من أَن يحْتَاج إِلَى وصف وَهُوَ وَجَرِير والفرزدق طبقَة وَاحِدَة جعلهَا ابْن سَلام أول طَبَقَات الْإِسْلَام وَلم يَقع إجماعٌ على أحدهم انه أفضلهم وَلكُل وَاحِد مِنْهُم عصبَة تفضله على الْجَمَاعَة
وَقَالَ أَبُو عَمْرو لَو أدْرك الأخطل يَوْمًا وَاحِدًا من الْجَاهِلِيَّة مَا قدمت عَلَيْهِ أحدا
وَقَالَ الْأَصْمَعِي إِنَّمَا أدْرك جرير الأخطل وَهُوَ شيخ قد تحطم وَكَانَ الأخطل أسن من جرير وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَة يشبه الأخطل بالنابغة لصِحَّة شعره وَكَانَ حَمَّاد يفضل الأخطل على جرير والفرزدق فَقَالَ لَهُ الفرزدق إِنَّمَا تفضله لِأَنَّهُ فَاسق مثلك فَقَالَ لَو فضلته بِالْفِسْقِ لفضلتك وَقَالَ الأخطل لعبد الْملك ابْن مَرْوَان يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ زعم ابْن المراغة يَعْنِي جَرِيرًا أَنه يبلغ مدحتك فِي ثَلَاثَة أَيَّام وَقد أَقمت فِي مدحتك
(خف القطين فراحوا مِنْك أَو بَكرُوا
…
)
سنة فَمَا بلغت مَا أردْت فَقَالَ عبد الْملك أسمعناها يَا أخطل فَلَمَّا أنشدها قَالَ لَهُ عبد الْملك أَتُرِيدُ أَن أكتب إِلَى الْآفَاق أَنَّك أشعر الْعَرَب قَالَ اكْتفي بقول أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأمر لَهُ بِجَفْنَة كَانَت بَين يَدَيْهِ فملئت لَهُ دَرَاهِم وألقيت عَلَيْهِ خلع وَخرج بِهِ مولى لعبد الْملك على النَّاس وَهُوَ يَقُول هَذَا شَاعِر أَمِير الْمُؤمنِينَ هَذَا أشعر الْعَرَب
وَأنْشد لعبد الْملك قَول كثير فِيهِ
(فَمَا تركوها عنْوَة عَن مودّةٍ
…
ولكنْ بحدِّ المشرفي استقالها) // الطَّوِيل //
فأعجب بِهِ فَقَالَ لَهُ الأخطل مَا قلت لَك وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أحسن مِنْهُ قَالَ وَمَا قلت قَالَ قلت
(أهَلّوا من الشهرِ الحرامِ فَأَصْبحُوا
…
مَوَاليَ مُلْكٍ لَا طَريفٍ وَلَا غصب) // الطَّوِيل //
جعلته لَك حَقًا وَجعله لَك غصبا قَالَ صدقت
وَأصْبح عبد الْملك يَوْمًا فِي غَدَاة بَارِدَة فتمثل بقول الأخطل
(إِذا اصطَبحَ الْفَتى مِنْهَا ثَلَاثًا
…
بِغَيْر المَاء حاوَل أَن يطولَا)
(مَشى قرشيَّةً لَا شكّ فِيهَا
…
وأرْخى من مآزرِهِ فضولا) // الوافر //
ثمَّ قَالَ كَأَنِّي أنظر إِلَيْهِ السَّاعَة مُحَلل الْإِزَار مُسْتَقْبلا للشمس فِي حَانُوت من حوانيت دمشق ثمَّ بعث رجلا يَطْلُبهُ فَوَجَدَهُ كَذَلِك
وَقدم الأخطل مرّة على عبد الْملك بن مَرْوَان فَنزل على سرجون كَاتبه فَقَالَ لَهُ على من نزلت فَأخْبرهُ فَقَالَ لَهُ قَاتلك الله مَا أخْبرك بِصَالح الْمنَازل فَمَا تُرِيدُ أَن ننزلك قَالَ فِي درمك من درمككم هَذَا وَلحم وخمر من بَيت رَأس فَضَحِك عبد الْملك وَقَالَ وَيلك وعَلى أَي شَيْء اقتتلنا إِلَّا على هَذَا ثمَّ قَالَ لَهُ أَلا تسلم فنفرض لَك أَلفَيْنِ فِي عطائك وتوصل بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم قَالَ فَكيف بِالْخمرِ قَالَ وَمَا تصنع بهَا وَإِن أَولهَا لمر وَإِن آخرهَا لسكر قَالَ أما إِن قلت ذَاك فَإِن بَينهمَا لمنزلة مَا ملكك فِيهَا إِلَّا كلعقة من مَاء الْفُرَات بالإصبع فَضَحِك عبد الْملك ثمَّ قَالَ أَلا تزور الْحجَّاج فَإِنَّهُ كتب يستزيرك فَقَالَ أطائع أم كَارِه قَالَ بل طائع قَالَ مَا كنت لأختار نواله على نوالك ولاقربة على قربك إِنِّي إِذا لَكمَا قَالَ الشَّاعِر
(كَمُبتاعٍ لمركبهِ حِماراً
…
يُغيرهُ من الْفرسِ الْكَرِيم) // الوافر //
فَأمر لَهُ بِعشر آلَاف دِرْهَم وَأمره أَن يمدح الْحجَّاج فمدحه بقوله
(صَرمَتْ حِبالَكَ زَينبٌ وَرعومُ
…
وَبدَا المُجمجمُ مِنْهُمَا المكتوم) // الْكَامِل //
وَوجه بالقصيدة مَعَ ابْنه إِلَيْهِ
وَدخل الأخطل على بشر بن مَرْوَان وَعِنْده الرَّاعِي الشَّاعِر فَقَالَ لَهُ بشر أَأَنْت أشعر أم هَذَا قَالَ أَنا أشعر مِنْهُ وَأكْرم فَقَالَ لِلرَّاعِي مَا تَقول فَقَالَ أما اشعر مني فَعَسَى وَأما اكرم مني فَإِن كَانَ فِي أمهاته من ولدت مثل الْأَمِير فَنعم فَلَمَّا خرج الأخطل قَالَ لَهُ رجل أَتَقول لخال الْأَمِير أَنا أكْرم مِنْك فَقَالَ وَيحك إِن أَبَا نسطوس قد وضع فِي رَأْسِي أكؤساً ثَلَاثًا وَالله لَا أَعقل مَعهَا
وَحدث قُحَافَة المري قَالَ دخل الأخطل على عبد الْملك فاستنشده فَقَالَ قد يبس حلقي فَمر من يسقيني فَقَالَ اسقوه مَاء فَقَالَ هُوَ شراب الْحمار وَهُوَ عندنَا كثير قَالَ فاسقوه لَبَنًا قَالَ عَن اللَّبن فطمت قَالَ فاسقوه عسلاً قَالَ شراب الْمَرِيض قَالَ فتريد مَاذَا قَالَ خمرًا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ أَو عهدتني أَسْقِي الْخمر لَا أم لَك لَوْلَا حرمتك بِنَا لفَعَلت وَفعلت فَخرج فلقي فراشا لعبد الْملك فَقَالَ وَيلك إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ استنشدني وَقد صَحِلَ صوتي فاسقني شربة خمر فَسَقَاهُ رطلا فَقَالَ أعدله بآخر فَسَقَاهُ رطلا آخر فَقَالَ تركتهما يعتر كَانَ فِي بَطْني فاسقني ثَالِثا فَسَقَاهُ ثَالِثا فَقَالَ تَرَكتنِي أَمْشِي على وَاحِدَة اعْدِلْ ميلي برابع فَسَقَاهُ رَابِعا فَدخل على عبد الْملك فأنشده
(خفَّ الْقطينُ فراحوا مِنْك أَو بَكرُوا
…
)
فَقَالَ لَا بل مِنْك وَتَطير من قَوْله قَالَ وَمر فِي القصيدة حَتَّى بلغ إِلَى قَوْله
(شمس الْعَدَاوَة حَتَّى يُسْتَقَادَ لَهُم
…
وأعظَمُ النَّاس أحلاماً إِذا قَدرُوا)
فَقَالَ عبد الْملك خُذ بيدَيْهِ يَا غُلَام فَأخْرجهُ ثمَّ ألق عَلَيْهِ من الْخلْع مَا يغمره وَأحسن جائزته ثمَّ قَالَ إِن لكل قوم شَاعِرًا وَإِن شَاعِر بني أُميَّة الأخطل
وَقَالَ أَبُو عبد الْملك كَانَت بكر بن وَائِل إِذا تشاجرت فِي شَيْء رضيت بالأخطل وَكَانَ يدْخل الْمَسْجِد فَيقومُونَ إِلَيْهِ ورأيته بالجزيرة وَقد شكى إِلَيّ القس وَقد أَخذ بلحيته وضربه بعصاه وَهُوَ يصئ كَمَا يصئ الفرخ فَقلت لَهُ أَيْن هَذَا مِمَّا كنت عَلَيْهِ بِالْكُوفَةِ فَقَالَ يَا ابْن أخي إِذا جَاءَ الدّين ذللنا
وَحدث إِسْحَاق بن عبد الله المطلبي قَالَ قدمت الشَّام وَأَنا شَاب مَعَ أبي فَكنت أَطُوف فِي كنائسها ومساجدها فَدخلت كَنِيسَة دمشق فَإِذا الأخطل فِيهَا مَحْبُوس فَسَأَلَ عني فَأخْبر بنسبي فَقَالَ يَا فَتى إِنَّك رجل شرِيف وَأَنا أَسَالَك حَاجَة فَقلت حَاجَتك مقضية فَقَالَ إِن القس قد حَبَسَنِي هُنَا فتكلمه ليخلي عني فَأتيت القس فانتسبت لَهُ فَرَحَّبَ بِي وَعظم فَقلت إِن لي إِلَيْك حَاجَة قَالَ وَمَا حَاجَتك فَقلت الأخطل تخلى عَنهُ فَقَالَ أُعِيذك بِاللَّه من هَذَا فَإِن مثلك لَا يتَكَلَّم فِيهِ فَإِنَّهُ فَاسق يشْتم أَعْرَاض النَّاس ويهجوهم فَلم أزل أطلب إِلَيْهِ حَتَّى مضى مُتكئا على عَصَاهُ فَوقف عَلَيْهِ وَرفع عَصَاهُ وَقَالَ يَا عَدو الله أتعود تَشْتُم النَّاس وتهجوهم وتقذف الْمُحْصنَات وَهُوَ يَقُول لست بعائد وَلَا أفعل ويستخزي لَهُ فَقلت يَا أَبَا مَالك النَّاس يهابونك والخليفة يكرمك وقدرك فِي النَّاس رفيع وَأَنت تخضع لهَذَا هَذَا الخضوع وتستخزي لَهُ قَالَ فَجعل يَقُول لي إِنَّه الدّين
وَحدث الْهَيْثَم قَالَ كَانَت امْرَأَة الأخطل حَامِلا وَكَانَ متمسكاً بِدِينِهِ فَمر
بِهِ الأسقف يَوْمًا فَقَالَ لَهَا الحقيه فتمسحي بِهِ فعدت وَرَاءه فَلم تلْحق إِلَّا ذَنْب حِمَاره فتمسحت بِهِ وَرجعت فَأَخْبَرته فَقَالَ لَهَا هُوَ وذنب حِمَاره سَوَاء
وَسمع هِشَام الأخطل وَهُوَ يَقُول
(وَإِذا افتقرتَ إِلَى الذَّخائِرِ لم تَجِد
…
ذُخْراً يكون كصالح الْأَعْمَال) // الْكَامِل //
فَقَالَ لَهُ هَنِيئًا لَك يَا أَبَا مَالك هَذَا الْإِسْلَام فَقَالَ لَهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا زلت مُسلما فِي ديني
وَحدث أَبُو مُحَمَّد اليزيدي قَالَ خرج الفرزدق يَوْمًا يؤم بعض مُلُوك بني أُميَّة فَرفع لَهُ فِي طَرِيقه بَيت أَحْمَر من أَدَم فَدَنَا مِنْهُ وَسَأَلَ فَقيل لَهُ الأخطل فاستقرى فَقيل لَهُ انْزِلْ فَقَامَ إِلَيْهِ الأخطل وَهُوَ لَا يعرف إِلَّا أَنه ضيف فَجَلَسَا يتحادثان فَقَالَ لَهُ الأخطل مِمَّن الرجل قَالَ من تَمِيم قَالَ فَأَنت إِذن من رَهْط أخي الفرزدق فَهَل تحفظ من شعره شَيْئا قلت نعم كثيرا فَمَا زَالا يتناشدان ويتعجب الأخطل من حفظه شعر الفرزدق إِلَى أَن عمل فِيهِ الشَّرَاب وَقد كَانَ الأخطل قَالَ لَهُ قبل ذَلِك أَنْتُم معشر الحنيفية لَا ترَوْنَ أَن تشْربُوا من شرابنا فَقَالَ الفرزدق
(خَفِّضْ عَلَيْك قَليلاً
…
وهاتِ لي من شرابك) // المجتث //
فَلَمَّا عملت الراح فِيهِ قَالَ وَالله أَنا الَّذِي أَقُول فِي جرير وأنشده فَقَامَ الأخطل وَقبل رَأسه وَقَالَ لَا جَزَاك الله عني خيرا لم كتمتني نَفسك مُنْذُ الْيَوْم وأخذا فِي شرابهما وتناشدا إِلَى أَن قَالَ لَهُ الأخطل وَالله إِنَّك وإياي لأشعر من جرير وَلكنه أُوتِيَ من سير الشّعْر مَا لم نؤته قلت أَنا بَيْتا مَا أعلم أحدا
قَالَ أهجى مِنْهُ قلت وَمَا هُوَ قَالَ الأخطل قلت
(قَومٌ إِذا اسْتَنْبَحَ الأضيافُ كلبهُمُ
…
قَالُوا لأمِّهُم بولِي على النَّار) // الْبَسِيط //
فَلم يروه إِلَّا حكماء أهل الشّعْر وَقَالَ هُوَ
(والتَّغْلَبيُّ إِذا تَنحنَح للقِرى
…
حَكَّ استْهُ وتمثل الامثالا) // الْكَامِل //
فَلم تبْق سفلَة وَلَا أَمْثَالهَا إِلَّا رَوَوْهُ قَالَ فقضوا لَهُ أَنه أَسِير شعرًا مِنْهُمَا
وَعَن مُحَمَّد بن سَلام قَالَ قيل إِنَّه لما حضرت الأخطل الْوَفَاة قيل لَهُ يَا أَبَا مَالك أَلا توصي قَالَ بلَى ثمَّ قَالَ
(أُوَصِّي الفَرزدقَ عِنْد المماتِ
…
بِأم جَريرٍ وأعْيارِها)
(وزارَ القبورَ أَبُو مالكٍ
…
برغم العداة واوتارها) // المتقارب //
49 -
(أقولُ لَهُ ارحَلْ لَا تقيمن عندنَا
…
وَإِلَّا فكُنْ فِي السِّر والجهرِ مُسلِما)
الْبَيْت من الطَّوِيل وَلَا أعرف قَائِله وَكَذَلِكَ ذكر الْعَيْنِيّ فِي شواهده
وَمَعْنَاهُ إِن لم ترحل فَكُن على مَا يكون عَلَيْهِ الْمُسلم من اسْتِوَاء الْحَالين فِي السهر والجهر
وَالشَّاهِد فِيهِ كَون الجملتين بَينهمَا كَمَال الِاتِّصَال لكَونه الثَّانِيَة أوفى بتأدية المُرَاد من الأولى فَنزلت منزلَة بدل الاشتمال فَلم تعطف عَلَيْهَا وهما هَهُنَا قَوْله ارحل وَقَوله لَا تقيمن عندنَا لِأَن فِي قَوْله ارحل كَمَال إِظْهَار الْكَرَاهَة لإِقَامَة الْمُخَاطب وَقَوله لَا تقيمن عندنَا أَو فِي بتأدية المُرَاد لدلالته على إِظْهَار الْكَرَاهَة لإقامته بالمطابقة مَعَ التَّأْكِيد الْحَاصِل من اللَّفْظَيْنِ
50 -
(أقسَمَ بِاللَّه أَبُو حَفْصٍ عمر
…
)
هُوَ من الرجز قَائِله أَعْرَابِي وَبعده
(مَا إِن بهَا من نَقبٍ وَلَا دَبَرْ
…
اغْفِر لَهُ اللَّهُمَّ إِن كَانَ فجر) الرجز
يرْوى أَن هَذَا الْأَعرَابِي جَاءَ إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رضي الله عنه فَقَالَ إِن أَهلِي ببادية بعيدَة وَإِنِّي على نَاقَة دبراء عجفاء نقباء واستحمله فَظَنهُ كَاذِبًا فَلم يحملهُ فَانْطَلق الْأَعرَابِي فَحل نَاقَته ثمَّ اسْتقْبل الْبَطْحَاء وَجعل يَقُول الأبيات وَعمر رضي الله عنه مقبل من أَعلَى الْوَادي فَجعل إِذا قَالَ اغْفِر لَهُ اللَّهُمَّ إِن كَانَ فجر قَالَ اللَّهُمَّ صدق حَتَّى التقيا فَأخذ بِيَدِهِ وَقَالَ لَهُ ضع عَن راحلتك فَوضع فَإِذا هِيَ كَمَا وصف فَحَمله على بعير وزوده وكساه
والنقب رقة الأخفاف والدبر قرحَة الدَّابَّة
وَالشَّاهِد فِيهِ جعل عمر بَيَانا وتوضيحاً لأبي حَفْص
51 -
(وتَظُنُّ سَلمى أنني أبغي بهَا
…
بَدَلاً أَرَاهَا فِي الضلال تهيمُ)
الْبَيْت من الْكَامِل وَلَا أعرف قَائِله وَكَذَلِكَ ذكر الْعَيْنِيّ أَيْضا والضلال ضد الْهدى
وَالشَّاهِد فِيهِ عدم عطف الْجُمْلَة الثَّانِيَة لكَونه موهماً لَهُ على غَيرهَا لِأَن بَين الجملتين الخبريتين وهما وتظن سلمى واراها مُنَاسبَة ظَاهِرَة لاتحادهما فِي الْمسند لِأَن معنى أَرَاهَا أظنها والمسند إِلَيْهِ فِي الأولى مَحْبُوب وَفِي الثَّانِيَة محب فَلَو عطف أَرَاهَا على تظن لتوهم أَنه عطف على أبغى وَهُوَ أقرب إِلَيْهِ فَيكون من مظنونات سلمى وَلَيْسَ كَذَلِك
(قَالَ لي كَيفَ أَنْت قُلتُ عَليلُ
…
سَهرٌ دَائِم وحزن طَوِيل)
الْبَيْت من الْخَفِيف وَتقدم فِي شَوَاهِد الْمسند إِلَيْهِ
وَالشَّاهِد فِيهِ هُنَا وُقُوع الْجُمْلَة الثَّانِيَة مستأنفة جَوَابا عَن الْجُمْلَة الأولى المتضمنة للسؤال عَن سَبَب مُطلق أَي مَا بَال علتك فَقَالَ سهر وَذَلِكَ لِأَن الْعَادة جرت بِأَنَّهُ إِذا قيل فلَان عليل أَن يسْأَل عَن سَبَب علته لَا أَن يُقَال هَل سَبَب علته كَذَا وَكَذَا لَا سِيمَا السهر والحزن فَإِنَّهُ قَلما يُقَال هَل سَبَب مَرضه السهر والحزن لِأَنَّهُ أبعد أَسبَابه فَعلم أَن السُّؤَال عَن السَّبَب الْمُطلق دون السَّبَب الْخَاص وَعدم التوكيد يشْعر بِهِ
وَمثله قَول أبي الْعَلَاء المعري
(وَقد غَرِضْتُ من الدُّنْيَا فَهَل زمني
…
مُعط حَياتِي لِغرٍّ بَعْدَمَا غَرضَا)
(جرَّبتُ دهري وأهْليهِ فَمَا تَركَتْ
…
لِيَ التجاربُ فِي وُدِّ امْرِئ غَرضا) // الْبَسِيط //
أَي لم تَقول هَذَا وَمَا ألجأك إِلَيْهِ فَقَالَ جربت إِلَخ
52 -
(زعَمَ العَواذلُ أنني فِي غَمْرَةٍ
…
صَدَقوا وَلَكِن غْمَرتي لَا تَنْجَلي)
الْبَيْت من الْكَامِل وَلَا أعرف قَائِله
والعواذل جمع عاذلة بِمَعْنى جمَاعَة عاذلة لَا امْرَأَة عاذلة بِدَلِيل قَوْله صدقُوا وغمرة الشَّيْء شدته ومزدحمه
وَالشَّاهِد فِيهِ وُقُوع الْجُمْلَة المستأنفة جَوَابا للسؤال عَن غير سَبَب مُطلق أَو خَاص كَأَنَّهُ قيل اصدقوا فِي هَذَا الزَّعْم أم كذبُوا فَقَالَ صدقُوا وفصله عَمَّا قبله لكَونه استئنافاً
وَمِنْه قَول جُنْدُب بن عمار
(زعمَ العواذِلُ أَن ناقةَ جُندَبٍ
…
بجَنوب خَبْتٍ عُرَّيَتْ وأُجِمَّتِ)
(كذبَ العواذل لَو رأينَ مُناخنَا
…
بالقادسيَّةِ قُلْنَ لَجَّ وذلت) // الْكَامِل //
وَمثله قَول لبيد
(عَرَفْتُ الْمنزل الْخَالِي
…
عَفا من بعْدِ أحوالِ)
(عفاه كل هَتّان
…
عَسوف الوبْلِ هَطَّالِ) // الهزج //
وَقَول أبي الطّيب المتنبي
(وَمَا عفتِ الرياحُ لَهُم مَحَلاً
…
عفاه مَن حدا بهمُ وساقا) // الوافر //
53 -
(زعمتم أَن إخوتكم قُرَيْشٌ
…
لَهُمْ إِلْفٌ وَلَيْسَ لكم إلاف)
الْبَيْت لمساور بن هِنْد بن قيس بن زُهَيْر من الوافر يهجو بني أَسد وَبعده
(أُولَئِكَ أومِنُوا جُوعاً وخَوْفاً
…
وَقد جاعتْ بَنو أَسد وخافوا) // الوافر //
والزعم ادِّعَاء الْعلم وَمِنْه قَوْله صلى الله عليه وسلم (زَعَمُوا مَطِيَّة الْكَذِب) وَعَن شُرَيْح رحمه الله لكل شَيْء كنية وكنية الْكَذِب زَعَمُوا لَكِن سِيبَوَيْهٍ رحمه الله يكثر فِي كِتَابه من قَول زعم الْخَلِيل لَا يُرِيد بذلك إبِْطَال قَوْله وَقَالَ أَبُو طَالب للنَّبِي صلى الله عليه وسلم
(ودعوتَنِي وزعمْتَ أَنَّك صادقٌ
…
وَلَقَد صدقتَ وكنتَ ثَمَّ أمينَا) // الْكَامِل //
وقريش هِيَ الْقَبِيلَة الْمَشْهُورَة سموا بذلك لتجمعهم فِي الْحرم أَو لأَنهم كَانُوا يتقرشون المبتاعات فيشترونها أَو لَان النَّضر بن كنَانَة اجْتمع فِي ثَوْبه فَقيل تقرش أَو لِأَنَّهُ جَاءَ إِلَى قومه فَقَالُوا كَأَنَّهُ جملٌ قُرَيْش أَي شَدِيد أَو سموا بمصغر القرش وَهُوَ دَابَّة بحريّة تخافها دَوَاب الْبَحْر كلهَا والإلف
والإيلاف الْعَهْد وَشبه الْإِجَازَة بالخفارة وَأول من أَخذهَا هَاشم من ملك الشَّام فَكَانَ هَاشم يولف إِلَى الشَّام وَعبد شمس إِلَى الْحَبَشَة وَالْمطلب إِلَى الْيمن وَنَوْفَل إِلَى فَارس وَكَانَ تجار قُرَيْش يتخلفون إِلَى هَذِه الْأَمْصَار بحبال هَذِه الْإِخْوَة فَلَا يتَعَرَّض لَهُم أحد وَكَانَ كل أَخ مِنْهُم قد أَخذ حبلاً من ملك نَاحيَة سَفَره أَمَانًا لَهُ
وَالشَّاهِد فِيهِ حذف الِاسْتِئْنَاف وَقيام شَيْء مقَامه فكأنهم قَالُوا أصدقنا فِي هَذَا الزَّعْم أم كذبنَا فَقيل كَذبْتُمْ فَحذف هَذَا الِاسْتِئْنَاف وأقيم قَوْله لَهُم إلْف وَلَيْسَ لكم إلاف مقَامه لدلالته عَلَيْهِ
ومساور بن هِنْد بن قيس بن زُهَيْر الْعَبْسِي شَاعِر وَكَانَ جده قيس مَشْهُورا فِي الْجَاهِلِيَّة وَلَا سِيمَا فِي حَرْب داحس والغبراء وَذكر الْأَصْمَعِي مَا يدل على أَن لَهُ إدراكاً للنَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ وَكَانَ نَحْو أبي عَمْرو بن الْعَلَاء رحمهمَا الله فِي السن وَقَالَ حَدثنِي من رأى مساور بن هِنْد أَنه ولد فِي حَرْب داحس والغبراء قبل الْإِسْلَام بِخَمْسِينَ عَاما وَذكره المرزباني فِي مُعْجم الشُّعَرَاء وَذكر لَهُ قصَّة مَعَ عبد الْملك بن مَرْوَان وَفِي حِكَايَة الْأَصْمَعِي أَنه لما عمر صغرت عَيناهُ وَكَبرت أذنَاهُ فَجعلُوا فِي بَيت صَغِير ووكلوا بِهِ امْرَأَة فَرَأى ذَات
يَوْم غَفلَة فَخرج فَجَلَسَ فِي وسط الْبَيْت وكوم كومة من تُرَاب ثمَّ أَخذ بعرتين فَقَالَ هَذِه فُلَانَة وَهَذِه فُلَانَة ثمَّ أحس بِالْمَرْأَةِ فَقَامَ وهرب وَقَالَ الْأَصْمَعِي بَلغنِي أَنه أَتَى بِهِ إِلَى الْحجَّاج فَقَالَ لَهُ مَا تصنع بِقَوْلِك الشّعْر وَقد كَبرت فَقَالَ أَسْقِي بِهِ المَاء وأرعى بِهِ الْكلأ وتقضي لي بِهِ الْحَاجة فَإِن كفيتني ذَلِك تركته
وَقَالَ المرزباني كَانَ أَعور وَهُوَ من الْمُتَقَدِّمين فِي الْإِسْلَام هُوَ وَأَبوهُ وجده أَشْرَاف من بني عبس شعراء فرسَان وَهُوَ الْقَائِل
(جزى الله خيرا غَالِبا من قَبيلَةٍ
…
إِذا حَدَثانُ الدَّهْر نابت نوائِبهْ)
(إِذا أخذت بُزْلُ الْمَخَاض سِلاحَها
…
تجرد فيهم مُتْلفَ المالِ كاسبه) // الطَّوِيل //
يُقَال أخذت الْإِبِل سلاحها إِذا استحياها صَاحبهَا فَلم يذبحها
(ثَلَاثَة تشرق الدُّنْيَا بِبَهْجَتِهَا
…
)
هُوَ من الْبَسِيط وَتَمَامه
(شمسُ الضُّحَى وَأَبُو إِسْحَاق والقمرُ
…
)
وَقد تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ فِي شَوَاهِد الْمسند
وَالشَّاهِد فِيهِ هُنَا بَيَان أَن الْجَامِع بَين الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة فِيهِ وهمي وَهُوَ مَا بَينهَا من شبه التَّمَاثُل حمل الْوَهم على أَن يحتال فِي اجتماعها فِي المفكرة وإبرازها فِي معرض الْأَمْثَال مُتَوَهمًا أَنَّهَا من نوع وَاحِد وَإِنَّمَا اخْتلفت بالعوارض والمشخصات بِخِلَاف الْعقل فَإِنَّهُ إِذا خلى وَنَفسه حكم بِأَن كلا مِنْهَا من نوع
آخر وَإِنَّمَا اشتركت فِي عَارض هُوَ إشراق الدُّنْيَا ببهجتها على أَن ذَلِك فِي أبي إِسْحَاق مجَاز
وَنَظِيره قَول الآخر
(إِذا لم يكن للمرءِ فِي الْخلق مطمعٌ
…
فذو التَّاج والسقَّاءُ والذَرُّ واحدُ) // الطَّوِيل //
54 -
(فَلَمَّا خَشِيتُ أظَافِيرَهُمْ
…
نَجَوْتُ وَأَرْهَنُهُمْ مَالِكَا) الْبَيْت لعبد الله بن همام السَّلُولي من المتقارب وَبعده
(عريفاً مُقيما بدَارِ الهوان
…
أهوِنْ عليَّ بِهِ هَالكا) // المتقارب // وَهَذَانِ البيتان من جملَة أَبْيَات مِنْهَا
(فقلتُ أجرْني أَبَا خالدٍ
…
وإلاّ تجدني امْرأ هَالكا) // المتقارب //
يُرِيد بَابي خَالِد هُنَا يزِيد بن مُعَاوِيَة وَالَّذِي خشيه عبيد الله بن زِيَاد وَكَانَ قد توعده فهرب إِلَى الشَّام واستجار بِيَزِيد فَأَمنهُ وَكتب إِلَى عبيد الله يَأْمُرهُ بالصفح عَنهُ وَمَالك الْمَذْكُور هُوَ عريفه والأظافير جمع ظفر وأظفور وَيجمع أَيْضا على أظفار
وَالْمعْنَى لما خشيت حَملته وإنشاب أَظْفَاره ونجوت وخليت بَينه وَبَين مَالك
وَالشَّاهِد فِيهِ دُخُول وَاو الْحَال على الْمُضَارع الْمُثبت الْمُمْتَنع دُخُولهَا عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَة الفعلية الْوَاقِعَة حَالا من ضمير صَاحبهَا الْغَيْر الخالية مِنْهُ إِذْ قد قيل إِنَّه عَليّ حذف الْمُبْتَدَأ أَي وَأَنا أرهنهم فَتكون اسميه فَيصح دُخُولهَا وَعَلِيهِ
قَوْله تَعَالَى {لم تؤذونني وَقد تعلمُونَ أَنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم} أَي وَأَنْتُم قد تعلمُونَ وَقيل ضَرُورَة وَقَالَ عبد القاهر هِيَ فِيهِ للْعَطْف وَالْأَصْل ورهنتهم عدل إِلَى الْمُضَارع لحكاية حَال مَاضِيَة وَمَعْنَاهُ أَنه يفْرض مَا كَانَ فِي الزَّمن الْمَاضِي وَاقعا فِي هَذَا الزَّمَان فَعبر عَنهُ بِلَفْظ الْمُضَارع كَمَا فِي قَول الشَّاعِر
(وَلَقَد أمرَ عَليّ اللَّئِيم يسبني
…
) // الْكَامِل //
أَي مَرَرْت وروى وأرهنتهم وَالْأول رِوَايَة الْأَصْمَعِي وَاسْتَحْسنهُ ثَعْلَب
وَعبد الله هُوَ أَبُو عبد الرَّحْمَن السَّلُولي الْكُوفِي من بني مرّة بن صعصعة
من قيس عيلان وَبَنُو مرّة يعْرفُونَ ببني سلول وَهِي أمّهم وَهِي بنت ذهل ابْن شَيبَان بن ثَعْلَبَة وهم رَهْط أبي مَرْيَم السَّلُولي وَكَانَت لَهُ صُحْبَة وَعبد الله هُوَ الْقَائِل فِي الفلاقس
(أقليّ عليَّ اللومَ يَا ابْنة مالكٍ
…
وذُمِّي زَمَانا سادَ فِيهِ الفلاقسُ)
(وساعٍ مِن السلطانِ ليسَ بِناصحٍ
…
ومحترسٍ من مثلهِ وهِو حارسُ)
وَهُوَ الْقَائِل ليزِيد بن مُعَاوِيَة لما مَاتَ أَبوهُ رضي الله عنه
(اصبرْ يزيدُ فقدْ فَارَقت ذامقة
…
واشكرُ حباءَ الَّذِي بالملكِ ردّاكَا)
(لَا رُزْءَ أعظمُ بالأقوام إذْ عَلمُوا
…
ممّا رُزِئْتَ وَلَا عُقبىَ كعقبَاكَا)
(أصبحتَ راعيَ أهلِ الدّين كلهمُ
…
فأنتَ ترعاهمُ واللهُ يرعَاكَا)
(وَفِي مُعاويةَ الْبَاقِي لنَا خلَفٌ
…
إِذَا نُعِيتَ وَلَا نسْمع بمنعاكا) // الْبَسِيط //
55 -
(خرجت مَعَ الْبَازِي عَلىَّ سَوَادُ
…
) قَائِله بشار بن برد من أَبْيَات من الطَّوِيل قَالَهَا فِي خَالِد بن برمك
وَكَانَ قد وَفد عَلَيْهِ وَهُوَ بِفَارِس فأنشده قَوْله
(أخَالدُ لمْ أهبطْ عليكَ بذِمّةِ
…
سِوَى أنني عَافٍ وأنْتَ جَوَادُ)
(أخَالدُ إِنَّ الأجرَ والحمدَ حَاجَتي
…
فأيَّهمَا تَأتي فأنْتَ عِمَادُ)
(فإِن تعطني أُفرغْ عَليكَ مدائحي
…
وإنْ تأبَ لم تُضرَبْ عليَّ سدادُ)
(رِكَابي على حرْفِ وقلبي مشيع
…
وَمَالِي بِأَرْضِ البَاخلينَ بلادُ)
(إِذَا أنْكرَتني بَلدةٌ أوْ نكرتهَا
…
خَرَجْتُ مَعَ الْبَازِي على سَوَادُ)
فَدَعَا خَالِد بأَرْبعَة آلَاف فِي أَرْبَعَة أكياس فَوضع وَاحِدًا مِنْهَا عَن يَمِينه وَآخر عَن شِمَاله وَأخر بَين يَدَيْهِ وَآخر من وَرَائه وَقَالَ يَا أَبَا معَاذ هَل اسْتَقل الْعِمَاد فلمس الأكياس بيدَيْهِ ثمَّ قَالَ اسْتَقل وَالله أَيهَا الْأَمِير
وَمعنى الْبَيْت إِذا لم يعرف قدري أهل بَلْدَة وَلم أعرفهم خرجت عَنْهُم وفارقتهم متنكراً مصاحباً للبازي الَّذِي هُوَ أبكر الطُّيُور مُشْتَمِلًا على شَيْء من ظلمَة اللَّيْل غير منتظر لإسفار الصُّبْح فَقَوله عَليّ سَواد أَي بَقِيَّة من اللَّيْل
وَالشَّاهِد فِيهِ كَونه حَالا ترك فِيهِ الْوَاو
وَمثله قَول أُميَّة بن أبي الصَّلْت يمدح ابْن ذى يزن
(اشرَبْ هَنِيئًا عَلَيْك َالتاجُ مرتفقاً
…
فِي رَأَس غمْدَانَ دَارا منكَ محلالا)
وَالشَّاهِد فِي قَوْله عَلَيْك التَّاج وغمدان اسْم قصر بِالْيمن مَبْنِيّ على أَرْبَعَة أوجه أَحْمَر وأبيض وأصفر وأخضر وَفِي دَاخله قصر مَبْنِيّ بسبعة سقوف بَين كل سقفين أَرْبَعُونَ ذِرَاعا وَيرى ظله إِذا طلعت عَلَيْهِ الشَّمْس من ثَلَاثَة أَمْيَال والمحلال بِمَعْنى الْمنزل صِيغَة مُبَالغَة
وَمثله قَول الآخر يهجو خَطِيبًا
(لَقَدْ صبَرتْ للدُّلّ أعوادُ مِنْبرِ
…
تَقُومُ عَلَيها فِي يَديكَ قَضيبُ)
وبشار بن برد بن يرجوخ يَنْتَهِي نسبه للهراسف وَكَانَ يرجوخ من طخارستان من سبي الْمُهلب بن أبي صفرَة ويكنى بشار أَبَا معَاذ وَمحله فِي الشّعْر وتقدمه طَبَقَات الْمُحدثين فِيهِ بِإِجْمَاع الروَاة ورياسته عَلَيْهِم من غير اخْتِلَاف فِي ذَلِك يُغني عَن وَصفه والإطالة بِذكرِهِ
وَهُوَ من شعراء مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية وَقد اشْتهر فيهمَا ومدح وهجا وَأخذ سني الجوائز مَعَ الشُّعَرَاء
وَعَن يحيى بن الجون الْعَبْدي رِوَايَة بشار بن برد قَالَ قَالَ بشار لما دخلت على الْمهْدي قَالَ لي فِيمَن تَعْتَد يَا بشار فَقلت أما اللِّسَان والزي فعربي وَأما الأَصْل فعجمي كَمَا قلت فِي شعري يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ
(ونُبئتُ قوما بهمْ جِنّةٌ
…
يقولونَ مَنْ ذَا وكنتُ العَلمْ)
(أَلا أَيهَا السائلي جَاهِلا
…
لِيعرَفني أَنا أنفُ الكرمْ)
(نَمتْ فِي الكرَامِ بني عامرٍ
…
فُرُوعي وأصلي قُريشُ العجمْ)
(وَإِنِّي لأغني مقامَ الْفَتى
…
وأصبي الفتاةَ فَمَا تعتصم) // المتقارب //
قَالَ وَكَانَ أَبُو دلامة حَاضرا فَقَالَ كلا لوجهك أقبح من ذَلِك ووجهي مَعَ وَجهك فَقلت كلا وَالله مَا رَأَيْت رجلا أصدق على نَفسه وأكذب على جليسه مِنْك وَالله إِنِّي لطويل الْقَامَة عَظِيم الهامة تَامّ الألواح أسجح الْخَدين ولرب مسترخي المذروين للعين مِنْهُ مُرَاد مثلك قد جلس من الفتاة حجزةً وَجَلَست مِنْهَا حَيْثُ أُرِيد فَأَنت مثلي يَا مرقعان قَالَ فَسكت عني ثمَّ قَالَ لي الْمهْدي فَمن أَي الْعَجم أصلك قلت من أَكْثَرهَا فِي الفرسان وأشدها على الأقران أهل طخارستان فَقَالَ بعض الْقَوْم أُولَئِكَ الصغد فَقلت لَا الصغد تجار فَلم يردد ذَلِك الْمهْدي
وَكَانَ يلقب بالمرعث لقَوْله
(قَالَ ريم مرعت
…
ساحِرُ الطرْف والنظرْ)
(لستَ وَالله نائلي
…
قلت أَو يغلبَ القَدَرْ)
(أَنْتَ إِن رمْتَ وصلَنَا
…
فَانْجُ هلْ يدْرك الْقَمَر) // من مجزوء الْخَفِيف //
وَقيل لقب بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ لقميصه جيبان جيب عَن يَمِينه وجيب عَن شِمَاله فَإِذا أَرَادَ لبسه ضمه عَلَيْهِ من غير أَن يدْخل رَأسه فِيهِ وَإِذا أَرَادَ نَزعه حل أزراره وَخرج مِنْهُ فشبهت تِلْكَ الْجُيُوب بالرعاث لاسترسالها وتدليها وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة لقب بالمرعث لِأَنَّهُ كَانَت فِي آذانه وَهُوَ صَغِير رعاث وَاحِدهَا رعثة وَهِي القرط ورعثة الديك اللَّحْم المتدلي تَحت حنكه
وَقَالَ الْأَصْمَعِي كَانَ بشار ضخماً عَظِيم الْخلق وَالْوَجْه مجدوراً طَويلا جاحظ الحدقتين قد تغشاهما لحم أَحْمَر فَكَانَ أقبح النَّاس عمى وأفظعهم منْظرًا وَكَانَ إِذا أَرَادَ أَن ينشد صفق بيدَيْهِ وتنحنح وبصق عَن يَمِينه وشماله ثمَّ ينشد فَيَأْتِي بالعجب
وَقَالَ ولد بشار أعمى فَمَا نظر إِلَى الدُّنْيَا قطّ وَكَانَ يشبه الْأَشْيَاء فِي شعره بَعْضهَا بِبَعْض فَيَأْتِي بِمَا لَا يقدر البصراء أَن يَأْتُوا بِمثلِهِ
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة قَالَ بشار الشّعْر وَلم يبلغ عشر سِنِين ثمَّ بلغ الْحلم وَهُوَ يخْشَى معرة اللِّسَان قَالَ وَكَانَ بشار يَقُول هجوت جَرِيرًا فَأَعْرض عني واستصغرني وَلَو أجابني لَكُنْت أشعر النَّاس
وَكَانَ بشار وَهُوَ صَغِير إِذا هجا قوما جاؤا إِلَى أَبِيه فشكوه إِلَيْهِ فيضربه ضربا مبرحاً فَكَانَت أمه تَقول كم تضرب هَذَا الصَّبِي الصَّغِير الضَّرِير أما ترحمه فَيَقُول بلَى وَالله إِنِّي لأرحمه وَلكنه يتَعَرَّض للنَّاس فيشكونه إِلَيّ فَسَمعهُ بشار فطمع فِيهِ فَقَالَ يَا أَبَت إِن هَذَا الَّذِي يشكونه إِلَيْك مني هُوَ قولي الشّعْر وَإِنِّي إِن أتممت عَلَيْهِ أغنيتك وَسَائِر أَهلِي فَإِذا شكوني فَقل لَهُم أَلَيْسَ الله عز وجل يَقُول {لَيْسَ على الْأَعْمَى حرج} فَلَمَّا أعادوا شكواه قَالَ لَهُم ذَلِك فانصرفوا وهم يَقُولُونَ فقه برد أَغيظ لنا من شعر بشار
وَحكى الْأَصْمَعِي أَن بشاراً كَانَ من أَشد النَّاس تبرماً بِالنَّاسِ وَكَانَ يَقُول
الْحَمد لله الَّذِي حجب بَصرِي فَقيل لَهُ وَلم يَا أَبَا معَاذ قَالَ لِئَلَّا أرى من أبْغض
وَكَانَ بِالْبَصْرَةِ رجل يُقَال لَهُ حمدَان الْخَرَّاط فَاتخذ جَاما لإِنْسَان وَكَانَ بشار عِنْده فَسَأَلَهُ بشار أَن يتَّخذ لَهُ جَاما فِيهِ صُورَة طير يطير فاتخذه لَهُ وَجَاء بِهِ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ مَا فِي هَذَا الْجَام قَالَ صُورَة طير يطير فَقَالَ لَهُ قد كَانَ يَنْبَغِي أَن تتَّخذ فَوق هَذَا الطير طيرا من الْجَوَارِح كَأَنَّهُ يُرِيد صَيْده فَإِنَّهُ كَانَ أحسن قَالَ لم أعلم قَالَ بلَى قد علمت وَلَكِنَّك قد علمت أنني أعمى لَا أبْصر شَيْئا وتهدده بالهجاء فَقَالَ لَهُ حمدَان لَا تفعل فَإنَّك تندم قَالَ أَو تهددني أَيْضا قَالَ نعم قَالَ وَأي شَيْء تصنع بِي إِن هجوتك قَالَ أصورك على بَاب دَاري فِي صُورَتك هَذِه وَأَجْعَل من خَلفك قرداً ينكحك حَتَّى يمر بك الصَّادِر والوارد فَقَالَ بشار اللَّهُمَّ أخزه أَنا أمازحه وَهُوَ يَأْبَى إِلَّا الْجد
وَحدث مُحَمَّد بن الْحجَّاج السوادي قَالَ كُنَّا عِنْد بشار وَعِنْده رجل ينازعه فِي اليمانية والمضرية إِذْ أذن الْمُؤَذّن فَقَالَ لَهُ بشار رويداً تفهم قَوْله فَلَمَّا قَالَ الْمُؤَذّن أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله قَالَ لَهُ بشار أَهَذا الَّذِي نُودي باسمه مَعَ اسْم الله عز وجل من مُضر هُوَ أم من صداء وعك وحمير فَسكت الرجل
وَحدث حَمَّاد عَن أَبِيه قَالَ كَانَ بشار جَالِسا فِي دَار الْمهْدي وَالنَّاس ينتظرون الْإِذْن فَقَالَ بعض موَالِي الْمهْدي لمن حضر مَا عنْدكُمْ فِي قَول الله عز وجل {وَأوحى رَبك إِلَى النَّحْل أَن اتخذي من الْجبَال بُيُوتًا} فَقَالَ لَهُ بشار النَّحْل الَّتِي يعرفهَا النَّاس قَالَ هَيْهَات يَا أَبَا معَاذ النَّحْل بَنو هَاشم وَقَوله تَعَالَى {يخرج من بطونها شراب مُخْتَلف ألوانه فِيهِ شِفَاء للنَّاس} يَعْنِي الْعلم فَقَالَ لَهُ بشار أَرَانِي الله شرابك وطعامك وشفاءك مِمَّا يخرج من بطُون بني هَاشم فقد أوسعتنا
غثاثة فَغَضب وَشتم بشاراً فَبلغ الْمهْدي الْخَبَر فَدَعَا بهما وسألهما عَن الْقِصَّة فحدثه بشار بهَا فَضَحِك حَتَّى أمسك على بَطْنه ثمَّ قَالَ للرجل أجل فَجعل الله طَعَامك وشرابك مِمَّا يخرج من بطُون بني هَاشم فَإنَّك بَارِد غث
وَدخل يزِيد بن مَنْصُور الْحِمْيَرِي على الْمهْدي وبشار بَين يَدَيْهِ ينشده قصيدة امتدحه بهَا فَلَمَّا فرغ مِنْهَا أقبل عَلَيْهِ يزِيد بن مَنْصُور وَكَانَت فِيهِ غَفلَة فَقَالَ لَهُ يَا شيخ مَا صناعتك فَقَالَ لَهُ أثقب اللُّؤْلُؤ فَضَحِك الْمهْدي ثمَّ قَالَ لبشار اعزب وَيلك أتتنادر على خَالِي قَالَ وَمَا أصنع بِهِ يرى شَيخا أعمى قَائِما ينشد الْخَلِيفَة شعرًا يسْأَله عَن صناعته
ووقف بعض المجان على بشار وَهُوَ ينشد شعرًا فَقَالَ لَهُ اسْتُرْ شعرك هَذَا كَمَا تستر عورتك فَصَفَّقَ بشار بيدَيْهِ وَغَضب وَقَالَ لَهُ من أَنْت وَيلك قَالَ أَنا أعزّك الله رجلٌ من باهلة وأخوالي من سلول وأصهاري من عكل واسمي كلب ومولدي بأضاخ ومنزلي بنهر بِلَال فَضَحِك بشار وَقَالَ اذْهَبْ وَيلك فَأَنت عَتيق لؤمك قد علم الله أَنَّك استترت مني بحصون من حَدِيد
وَحدث رجل من أهل الْبَصْرَة مِمَّن كَانَ يتَزَوَّج النهاريات قَالَ تزوجت امْرَأَة
مِنْهُنَّ فاجتمعت مَعهَا فِي علو بَيت وبشار تحتنا أَو كُنَّا فِي اسفل بَيت وبشار فِي علوه مَعَ امْرَأَة فنهق حمَار فِي الطَّرِيق فجاوبه حمَار آخر فِي بَيت الْجِيرَان وحمار فِي الدَّار فارتجت النَّاحِيَة بنهيقها وَضرب الْحمار الَّذِي فِي الدَّار بِرجلِهِ الأَرْض وَجعل يدقها دقاً شَدِيدا فَسمِعت بشاراً يَقُول للْمَرْأَة نفخ يعلم الله فِي الصُّور وَقَامَت الْقِيَامَة أما تسمعين كَيفَ يدق على أهل الْقُبُور حَتَّى يخرجُوا مِنْهَا وَلم تلبث أَن فزعت شَاة كَانَت فِي السَّطْح فَقطعت حبلها وعدت فَأَلْقَت طبقًا من نُحَاس فِيهِ غضارة إِلَى الدَّار فَانْكَسَرت فتطاير حمام ودجاج كَانَ فِي الدَّار لصوت الغضارة والطبق وَبكى من ذَلِك صبي فِي الدَّار فَقَالَ بشار صَحَّ يعلم الله الْخَبَر وَنشر أهل الْقُبُور من قُبُورهم أزفت يشْهد الله الآزفة وزلزلت الأَرْض زِلْزَالهَا فعجبت من كَلَامه وغاطنى فسالت من الْمُتَكَلّم فَقيل لي بشار فَقلت قد علمت أَنه لَا يتَكَلَّم بِمثل هَذَا الْكَلَام غَيره
وَمر بشار بِرَجُل قد رمحته بغلته وَهُوَ يَقُول الْحَمد لله شكرا فَقَالَ لَهُ بشار استزده يزدك
وَمر قوم يحملون جَنَازَة وَهُوَ يسرعون الْمَشْي بهَا فَقَالَ مَا لَهُم مُسْرِعين أَترَاهُم قد سرقوها فهم يخَافُونَ أَن يلْحقُوا فتؤخذ مِنْهُم
وَرفع غُلَامه إِلَيْهِ فِي حِسَاب نَفَقَته جلاء مرْآة عشرَة دَرَاهِم فصاح بِهِ بشار وَقَالَ وَالله مَا فِي الدُّنْيَا أعجب من جلاء مرْآة أعمى بِعشْرَة دَرَاهِم وَالله لَو صدأت عين الشَّمْس حَتَّى بَقِي الْعَالم فِي ظلمَة مَا بلغت أُجْرَة من يجلوها عشرَة دَرَاهِم
وَعَن خَلاد قَالَ قلت لبشار إِنَّك لتجيء بالشي المهجر المتفاوت قَالَ
وَمَا ذَاك قلت لَهُ تَقول شعرًا تثير بِهِ النَّقْع وتخلع بِهِ الْقُلُوب مثل قَوْلك
(إِذَا مَا غَضِبنا غَضبةً مُضَريَّةَ
…
هَتكنا حجابَ الشَّمْس أَو قطَرَت دَمًا)
(إِذَا مَا أعرَنا سيداً من قبيلةٍ
…
ذُرى مِنبر صلَّى علينا وسلما) // الطَّوِيل //
إِلَى أَن تَقول
(ربابَةُ رَبْةُ البيتِ
…
تصُبُّ الْخلّ فِي الزَّيْت)
(لَهَا عَشرُ دجاجاتٍ
…
وديكٌ حَسنُ الصَّوْت) // من الوافر المجزوء //
فَقَالَ لكل شَيْء وجهٌ وَمَوْضِع فَالْقَوْل الأول جد وَهَذَا قلته فِي جاريتي ربابة وَأَنا لَا آكل الْبيض من السُّوق فربابة هَذِه لَهَا عشر دجاجات وديك فَهِيَ تجمع الْبيض وَتَحفظه فَهَذَا عِنْدهَا أحسن من قَول قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
…
عنْدك
وَقَالَ هِلَال لبشار وَكَانَ صديقا لَهُ يمازحه إِن الله عز وجل لم يذهب بصر أحد إِلَّا عوضه مِنْهُ شَيْئا فَمَا الَّذِي عوضك قَالَ الطَّوِيل العريض قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ لَا أَرَاك وَلَا أمثالك من الثُّقَلَاء ثمَّ قَالَ لَهُ يَا هِلَال أتطيعني فِي نصيحة أخصك بهَا قَالَ نعم قَالَ إِنَّك كنت تسرق الْحمير زَمَانا ثمَّ تبت وصرت رَافِضِيًّا فعد إِلَى سَرقَة الْحمير فَهِيَ وَالله خير لَك من الرَّفْض
وَعَن أبي دهمان العلائي قَالَ مَرَرْت ببشار يَوْمًا وَهُوَ جَالس على بَاب
دَاره وَحده وَلَيْسَ مَعَه أحد وَبِيَدِهِ مخصرة يلْعَب بهَا وقدامه طبق فِيهِ تفاح وأترج فَلَمَّا رَأَيْته وَلَيْسَ عِنْده أحد تاقت نَفسِي إِلَى أَن أسرق مِمَّا بَين يَدَيْهِ فَجئْت من خَلفه قَلِيلا قَلِيلا وَهُوَ كافٌ يَده حَتَّى مددت يَدي لأتناول مِنْهُ فَرفع الْقَضِيب وَضرب بِهِ يَدي ضَرْبَة كَاد يكسرها فَقلت لَهُ قطع الله يدك يَا ابْن الفاعلة أَنْت الْآن أعمى فَقَالَ يَا أَحمَق فَأَيْنَ الْحس
وَقعد إِلَى بشار رجلٌ فاستثقله فضرط عَلَيْهِ بشار ضرطة فَظن الرجل أَنَّهَا أفلتت مِنْهُ ثمَّ ضرط أُخْرَى فَقَالَ أفلتت ثمَّ ضرط ثَالِثَة فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا معَاذ مَا هَذَا فَقَالَ مَه أَرَأَيْت أم سَمِعت قَالَ لَا بل سَمِعت صَوتا قبيحاً فَقَالَ لَهُ لَا تصدق حَتَّى ترى
وَحدث مُحَمَّد بن الْحجَّاج قَالَ جَاءَنَا بشار يَوْمًا وَهُوَ مُغْتَم فَقُلْنَا لَهُ مَا لَك مغتماً فَقَالَ مَاتَ حماري فرأيته فِي النّوم فَقلت لَهُ لم مت ألم أكن أحسن إِلَيْك فَقَالَ
(سَيِّدي خُذ بِي أَتَانَا
…
عِنْد بابِ الإِصبهاني)
(تَيَّمتني ببنانٍ
…
وبِدَلٍّ قد شجاني)
(تَيَّمتني يَوْم رحنا
…
بثناياها الحسان)
(وبِغَنْجٍ وَدلالٍ
…
سلَّ جسمي وبراني)
(وَلها خدٌّ أَسيلٌ
…
مثلُ خدِّ الشَّنْفَرَانِي)
(فَلِذَا مُتُّ وَلَو عِشْت إِذاً طَال هواني
…
) // من مجزوء الرمل //
فَقلت لَهُ مَا الشنفراني قَالَ مَا يدريني هَذَا من غَرِيب الْحمار فَإِذا لَقيته فَاسْأَلْهُ عَنهُ
وَقَالَ الجاحظ كَانَ بشارٌ يدين بالرجعة وَيكفر جَمِيع الْأُمَم ويصوب رَأْي إِبْلِيس عَلَيْهِ اللَّعْنَة فِي تَقْدِيم عنصر النَّار على الطين وَذكر ذَلِك فِي شعره فَقَالَ
(الأرضُ مظلمةٌ والنارُ مشرقةٌ
…
والنارُ معبودةٌ مذ كانتِ النارُ) // الْبَسِيط //
وَكَانَ الشَّرّ قد نشب بَين بشار وَحَمَّاد عجرد لأمور يطول ذكرهَا فَكَانَا يتقارضان الهجاء فأجمع عُلَمَاء الْبَصْرَة أَنه لَيْسَ فِي هجاء حَمَّاد عجرد لبشار شَيْء جيد إِلَّا أَرْبَعِينَ بَيْتا مَعْدُودَة ولبشار فِيهِ من الهجاء أَكثر من ألف بَيت جيد وكل وَاحِد مِنْهُمَا هُوَ الَّذِي هتك صَاحبه بالزندقة وأظهرها عَلَيْهِ وَكَانَا يَجْتَمِعَانِ عَلَيْهَا فَسقط حَمَّاد عجرد وتهتك بِفضل بلاغة بشار وجودة مَعَانِيه وَبَقِي بشار على حَاله لم يسْقط وَعرف مذْهبه فِي الزندقة فَقتل بِهِ
وَكَانَ رجل من أهل الْبَصْرَة يدْخل بَين حَمَّاد وبشار على اتِّفَاق مِنْهُمَا وَرَضي بِأَن ينْقل إِلَى كل وَاحِد مِنْهُمَا مَا يَقُول الآخر من الشّعْر فَدخل يَوْمًا على بشار فَقَالَ لَهُ بشار إيه يَا فلَان مَا قَالَ ابْن الزَّانِيَة فِي من الشّعْر فأنشده
(إِن تاه بَشَّار عَلَيْكُم فقد
…
أمكنتْ بَشَّاراً من التِّيهِ) // السَّرِيع //
فقاق بشار بِأَيّ شَيْء وَيحك فَقَالَ
(وَذَاكَ إِذْ سميتُه باسمِهِ
…
وَلم يكن حُرٌّ يُسَمِّيهِ)
فَقَالَ سخنت عينه فَبِأَي شَيْء كنت أعرف إيه فَقَالَ
(فَصَارَ إنِساناً بِذِكْرِي لهُ
…
مَا يَبْتَغِي من بعدِ ذِكْرِيه)
فَقَالَ مَا صنع شَيْئا إيه وَيحك فَقَالَ
(لم أهْجُ بَشَّاراً ولكنني
…
هجوْتُ نَفسِي بِهِجَائِيهِ)
فَقَالَ على هَذَا الْمَعْنى دَار وَحَوله حام إيه أَيْضا وَأي شَيْء قَالَ فأنشده
(أَنت ابنَ بُرْدٍ مثل برد
…
فِي النذالةِ والرَّذالَهْ)
(مَن كَانَ مثلَ أبيكَ يَا
…
أعمى أبوهُ فَلَا أبَاً لَهُ) // من مجزوء الْكَامِل //
وَحدث خالدٌ الأرقط قَالَ أنْشد بشاراً رِوَايَته قَول جماد عجرد فِيهِ
(دُعِيتَ إِلَى بُرْدٍ وَأنت لغيرِهِ
…
فَهَبْكَ لِبُرْدٍ نكت أمّك من برد) // الطَّوِيل //
فَقَالَ بشار لروايته هَا هُنَا أحد قَالَ لَا فَقَالَ أحسن وَالله مَا شَاءَ ابْن الزَّانِيَة
وَقَالَ بشار يَوْمًا لراوية حَمَّاد مَا هجاني بِهِ الْيَوْم حَمَّاد فأنشده
(أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ عني الَّذِي والِدُهُ برد
…
) // الهزج //
قَالَ صدق ابْن الفاعلة فَمَا قَالَ بعده فأنشده
(إذَا مَا نُسِبَ الناسُ
…
فَلَا قبلٌ وَلَا بعدُ)
فَقَالَ كذب أَيْن الفاعلة وَأَيْنَ هَذِه العرضات من عقيل فَمَا قَالَ فأنشده
(وأعمَى قلْطُبَانٌ مَا
…
على قاذِفِهِ حَدُّ)
فَقَالَ كذب ابْن الفاعلة بل ثَمَانُون جلدَة عَلَيْهِ هِيهِ فَقَالَ
(وأعمى يُشْبِهُ القِرْدَ
…
إِذا مَا عَمِىَ الْقِرْدُ)
فَقَالَ وَالله مَا أَخطَأ ابْن الزَّانِيَة حِين شبهني بقرد حَسبك حَسبك ثمَّ صفق بيدَيْهِ وَقَالَ مَا حيلتي يراني فيشبهني وَلَا أرَاهُ فأشبهه
وَفِي حَمَّاد عجردٍ يَقُول بشار
(مَا لُمْتُ حمّاداً على فسْقِهِ
…
يَلومُهُ الجَاهلُ والْمَائِقُ)
(وَمَا هُمَا مِنْ أيره واسته
…
مَلَّكَهُ إِيّاهُمَا الخالِقُ)
(مَا بَات إِلَّا فْوقَهُ فاسقٌ
…
يَنيكه أَو تَحْتَهُ فَاسق) // السَّرِيع //
قَالَ ابْن أبي سعيد وأبلغ مَا هجا بِهِ حَمَّاد عجرد بشاراً قَوْله
(نَهارُه أخبثُ من ليلهِ
…
ويومُهُ أَخبثُ مِنْ أمْسِهِ)
(وَلَيْسَ بالْمُقْلِع عَن غَيِّهِ
…
حَتَّى يُوارَي فِي ثرى رمسه) // السَّرِيع //
قَالَ وَكَانَ أغْلظ على بشار من ذَلِك كُله وأوجعه لَهُ قَوْله فِيهِ
(لوْ طُليَتْ جِلدَتُهُ عنَبراً
…
لأفْسَدَتْ جِلدَتُهُ العنبرا)
(أوْ طُلِيَتْ مِسكاً ذَكِياً إذَا
…
تحوّلَ المسكُ عليهِ خرا) // السَّرِيع //
قَالَ وَكَانَ حَمَّاد عجردٍ قد اتَّصل بِالربيعِ يُؤَدب وَلَده فَكتب إِلَيْهِ بشار رقْعَة فأوصلت إِلَى الرّبيع فَإِذا فِيهَا مَكْتُوب
(يَا أَبَا الْفضل لَا تَنمْ
…
وقعَ الذئبُ فِي الغنمْ)
(إنَّ حَمَّادَ عَجرَدٍ
…
إِن رَأى غفَلةً هجمْ)
(بَينَ فَخذَيهِ حربةٌ
…
فِي غِلَاف منَ الأدمْ)
(إِنْ خَلَا الْبَيْتُ سَاعَةً
…
مَجْمَجَ المِيمَ بالقَلَمْ) // من مجزوء الْخَفِيف //
فَلَمَّا قَرَأَهَا الرّبيع قَالَ صيرني حَمَّاد دريئة الشُّعَرَاء أخرجُوا عني حماداً فَأخْرج
وَقد فعل مثل هَذَا بِعَيْنِه حَمَّاد عجرد بقطرب حِين اتخذ مؤدباً لبَعض ولد الْمهْدي وَكَانَ هُوَ يطْمع فِي ذَلِك فَلم يتم لَهُ لشهرته فِي النَّاس بِمَا قَالَه فِيهِ بشار فَلَمَّا تمكن قطرب فِي مَوْضِعه صَار حَمَّاد كالملقي على الرصد فَجعل يقوم وَيقْعد بقطرب فِي النَّاس ثمَّ أَخذ رقْعَة فَكتب فِيهَا
(قُلْ لِلإمام جزَاكَ اللهُ صَالِحَة
…
لَا تَجْمَعِ الدهرَ بينَ السخل والذِّيبِ)
(السَخْلُ غِرٌّ وهمُّ الذئبِ فرْصته
…
والذئبُ يعلمُ مَا فِي السخل من طيب) // الْبَسِيط //
فَلَمَّا قَرَأَ الْمهْدي هذَيْن الْبَيْتَيْنِ قَالَ انْظُرُوا لَا يكون هَذَا الْمُؤَدب لوطياً ثمَّ قَالَ انفوه عَن الدَّار فَأخْرج عَنْهَا وَجِيء بمؤدب غَيره ووكل بولده تسعون خَادِمًا بنوابها يَحْفَظُونَهُ فَخرج قطرب هَارِبا مِمَّا شهر بِهِ إِلَى الكرج فَأَقَامَ هُنَالك إِلَى أَن مَاتَ
وَكَانَ بشار بلغه أَن حماداً عليلٌ ثمَّ نعى إِلَيْهِ قبل مَوته فَقَالَ بشار
(لَو عَاشَ حَمّادٌ لَهْونَا بهِ
…
لَكنهُ صارَ إِلَى النَّارِ) // السَّرِيع //
فَبلغ هَذَا الْبَيْت حماداً قبل مَوته وَهُوَ فِي السِّيَاق فَقَالَ يرد عَلَيْهِ
(نُبئتُ بشاراً نعانِي وللموْتِ بِرَاني الخَالقُ البارِي
…
)
(يَا لَيْتَني مِتُّ وَلم أهْجُهُ
…
نَعمْ ولوْ صرتُ إِلَى النَّارِ)
(وأيُّ خِزْيٍ هُوَ أخْزَى من أَن
…
يُقَال لي يَا سِبّ بشار) // السَّرِيع //
وَكَانَ حَمَّاد قد نزل بالأهواز على سليم بن سَالم فَأَقَامَ عِنْده مُدَّة مستتراً من
مُحَمَّد بن سُلَيْمَان ثمَّ خرج من عِنْده يُرِيد الْبَصْرَة فَمر بشيراز فِي طَرِيقه فَمَرض بهَا فاضطر إِلَى الْمقَام بهَا بِسَبَب علته وَاشْتَدَّ مَرضه فَمَاتَ هُنَاكَ وَدفن على تلعة
ثمَّ إِن الْمهْدي لما قتل بشاراً بالبطيحة اتّفق أَنه حمل إِلَى منزله مَيتا فَدفن مَعَ حَمَّاد على تِلْكَ التلعة فَمر بهما هِشَام الْبَاهِلِيّ الشَّاعِر الْبَصْرِيّ الَّذِي كَانَ يهاجي بشاراً فَوقف على قبريهما وَقَالَ
(قدْ تبعَ الأعمَى قَفَا عَجْرَدٍ
…
فأصبحَا جارَين فِي دَار)
(قالتْ بقَاعُ الأَرْض لَا مَرْحباً
…
بقُرْبِ حَمَادٍ وبشارِ)
(تجاوَرَا بعدَ تنائِيهمَا
…
مَا أبغضَ الجارَ إِلَى الجارِ)
(صارَا جَمِيعًا فِي يَدي مالكٍ
…
فِي النارِ والكافِرُ فِي النَّار) // السَّرِيع //
وَكَانَ السَّبَب فِي قتل الْمهْدي بشاراً أَنه كَانَ نَهَاهُ عَن التشبيب فمدحه بقصيدة فَلم يحظ مِنْهُ بِشَيْء فهجاه فَقَالَ من قصيدة
(خَليفةٌ يَزْني بعمّاتِهِ
…
يَلْعَبُ بالدّبُّوقِ والصَّولجَانْ)
(أَبدَلنَا الله بهِ غيرَهُ
…
ودسَّ مُوسَى فِي حِرِ الخيزُرَانْ) // السَّرِيع //
وأنشدها فِي حَلقَة يُونُس النَّحْوِيّ فسعى بِهِ إِلَى يَعْقُوب بن دَاوُد الْوَزير وَكَانَ بشار قد هجاه بقوله
(بنِي أميةَ هُبّوا طَالَ نوْمُكْمُ
…
إنّ الخليفةَ يعقوبُ بنُ دَاوُد)
(ضاعتْ خلافَتُكُمْ يَا قومُ فالْتَمِسُوا
…
خَليفةَ الله بَين الزق وَالْعود) // الْبَسِيط //
فَدخل يَعْقُوب على الْمهْدي فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن هَذَا الْأَعْمَى الملحد الزنديق قد هجاك قَالَ بِأَيّ شَيْء قَالَ بِمَا لَا ينْطق بِهِ لساني وَلَا يتوهمه فكري فَقَالَ بحياتي أَنْشدني إِيَّاه فَقَالَ وَالله لَو خيرتني بَين إنشادي إِيَّاه وَضرب عنقِي لاخترت ضرب عنقِي فَحلف عَلَيْهِ الْمهْدي بالأيمان الَّتِي لَا فسحة لَهُ فِيهَا فَقَالَ أما لفظا فَلَا ولكنني أكتب ذَلِك فَكَتبهُ وَدفعه فكاد ينشق غيظاً وَعمل على الانحدار إِلَى الْبَصْرَة لينْظر فِي أمرهَا وَمَا فِي فكره غير بشار فانحدر فَلَمَّا بلغ إِلَى البطيحة سمع أذاناً فِي وَقت إضحاء النَّهَار فَقَالَ انْظُرُوا مَا هَذَا الْأَذَان فَإِذا بشار سَكرَان فَقَالَ لَهُ يَا زنديق يَا عاض بظر أمه عجبت أَن يكون هَذَا من غَيْرك أتلهو بِالْأَذَانِ فِي غير وَقت صَلَاة وَأَنت سَكرَان ثمَّ دَعَا بِابْن نهيك فَأمره بضربه بِالسَّوْطِ فَضَربهُ بَين يَدَيْهِ على صدر الحراقة سبعين سَوْطًا أتْلفه فِيهَا فَكَانَ إِذا أَصَابَهُ السَّوْط يَقُول حس وَهِي كلمة تَقُولهَا الْعَرَب للشَّيْء إِذا أوجع فَقَالَ انْظُر إِلَى زندقته يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ يَقُول حس وَلَا يَقُول بِسم الله فَقَالَ وَيلك أطعام هُوَ فأسمي عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ آخر أَفلا قلت الْحَمد لله فَقَالَ أَو نعْمَة هِيَ فَأَحْمَد الله عَلَيْهَا فَلَمَّا استوفى السّبْعين بَان الْمَوْت فِيهِ فألقي فِي سفينة حَتَّى مَاتَ ثمَّ رمى بِهِ فِي البطيحة فجَاء بعض أَهله فَحَمَلُوهُ إِلَى الْبَصْرَة فدفنوه إِلَى جَانب حَمَّاد عجرد كَمَا قدمْنَاهُ
وَقَالَ أَبُو هِشَام الْبَاهِلِيّ فِيهِ
(يَا بؤس ميتٍ لم يبكه أحدُ
…
أجلْ وَلم يفتقدهُ مُفتَقِدُ)
(لَا أمُّ أَوْلَاده بَكتهُ وَلم
…
يَبْكِ عَلَيْهِ لفُرقةٍ أحَدُ)
(وَلَا ابنُ أختٍ يبكي وَلَا ابْن أَخ
…
وَلَا حَميمٌ رَقَّتْ لَهُ كَبِدُ)
(بَلْ زَعَمُوا أَن أهَلُه فَرحا
…
لما أَتَاهُم نَعِيُّه سجدوا) // المنسرح //
وَكَانَ بشار يُعْطي أَبَا الشمقمق فِي كل سنة مِائَتي دِرْهَم فاتاه فِي بعض السنين فَقَالَ لَهُ هَلُمَّ الْجِزْيَة يَا أَبَا معَاذ فَقَالَ وَيحك أوجزية هِيَ أَيْضا قَالَ هُوَ مَا تسمع فَقَالَ لَهُ بشار يمازحه أَنْت أفْصح مني قَالَ لَا قَالَ فَأعْلم مني بمثالب النَّاس قَالَ لَا قَالَ فأشعر مني قَالَ لَا قَالَ فَلم أُعْطِيك قَالَ لِئَلَّا أهجوك فَقَالَ لَهُ إِن هجوتني هجوتك فَقَالَ لَهُ أَبُو الشمقمق أَو هَكَذَا هُوَ قَالَ نعم فَقل مَا بدا لَك فَقَالَ أَبُو الشمقمق
(إِني إِذا مَا شاعِرٌ هَجانيهْ
…
ولَجَّ فِي القَوْلِ لَهُ لِسانِيهْ)
(أدخَلْتُه فِي أسْتِ أمه علانيهْ
…
بشارُ يَا بشار
…
... . .) // الرجز //
وَأَرَادَ أَن يَقُول يَا ابْن الزَّانِيَة فَوَثَبَ بشار فَأمْسك فَاه وَقَالَ أَرَادَ وَالله أَن يَشْتمنِي ثمَّ دفع إِلَيْهِ مِائَتي دِرْهَم وَقَالَ لَا يسمعن مِنْك هَذَا الصّبيان
وَحدث الْأَصْمَعِي قَالَ أَمر عقبَة بن سلم لبشار بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم فَأخْبر أَبُو الشمقمق بذلك فَوَافى بشاراً فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا معَاذ إِنِّي مَرَرْت بصبيان فَسَمِعتهمْ ينشدون
(هللينه هللينه
…
طعْنُ قِثَّاةٍ لتينَهْ)
(إِن بشار بن برد
…
تَيْس أعمى فِي سفينة) // من مجزوء الرمل //
فَأخْرج لَهُ بشار مِائَتي دِرْهَم وَقَالَ خُذ هَذِه وَلَا تكن رِوَايَة للصبيان يَا أَبَا الشمقمق
وَلما ضرب بشار وَطرح فِي السَّفِينَة قَالَ لَيْت عين أبي الشمقمق تراني حَيْثُ يَقُول
(إِن بشار بن برد
…
تَيْس أعمى فِي سفينة)
وَكَانَ قَتله سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَمِائَة وَقد بلغ نيفاً وَتِسْعين سنة
وَمن شعره قَوْله
(طالَبْتُها دَيْناً فَضّنت بِهِ
…
وأمسَكت قَلبي مَعَ الدينِ)
(فَرُحتُ كالْعَيْرِ غَدا يَبْتَغِي
…
قَرْناً فَلم يرجع بأذنينِ)
(أعتقتُ مَا أمْلِكُ إِن لم أكُنْ
…
أحب أَن ألقاكِ فالقَيْني)
(وَالله لَو نِلْتُكِ لَا أتَّقي
…
عينا لقَبَّلتُكِ أَلفَيْنِ) // السَّرِيع //
قَوْله فرحت كالعير الْبَيْت مثل قَول بَعضهم
(ذهبَ الحمارُ ليَستفيدَ لنفسهِ
…
قرنا فآب وَمَاله أذنان) // الْكَامِل //
وَمن شعره قَوْله
(خيرُ إخوانِكَ المُشارك فِي المرِّ وأينَ الشَّريكُ فِي المر أيناش
…
)
(الَّذِي إِن شَهِدْتَ سَرَّك فِي الحيِّ وَإِن غِبْتَ كانَ أذنا وعَينا
…
)
(مثلُ سرِّ الياقوتِ إِن مسَّه النَّار جَلاهُ البلاءُ فازدادَ زَينَا
…
)
(أَنْت فِي مَعشرٍ إِذا غبتَ عَنْهُم
…
بَدَّلوا كل مَا يزينُكَ شيْنَا)
(وَإِذا مَا رأَوْكَ قَالُوا جَميعاً
…
أَنْت من أكْرم البَرَايا عَلَينا)
(مَا أرَى للأنام وُدَّاً صَحِيحا
…
عادَ كل الوِداد زوراً ومَيْنَا) // الْخَفِيف //
56 -
(فَقُلْتُ عَسى أَن تُبْصِريني كَأَنَّمَا
…
بَنِىَّ حوالَيَّ الأسودُ الحوارِدُ)
الْبَيْت من الطَّوِيل قَائِله الفرزدق من جملَة أَبْيَات قَالَهَا مُخَاطبا لزوجته النوار
وَكَانَ قد مكث زَمَانا لَا يُولد لَهُ فَعَيَّرْته بذلك وَأول الأبيات
(وَقَالَت أراهُ وَاحِدًا لَا أَخا لَهُ
…
يُؤَمِّلُهُ يَوْمًا هُوَ وَالِد) // الطَّوِيل //
وَبعده الْبَيْت وَبعده
(فَإِن تَميماً قبلَ أَن يلد الْحَصَا
…
أقامَ زَمَانا وَهُوَ فِي النَّاس واحدُ) // الطَّوِيل //
والحوارد من حرد إِذا غضب
وَالشَّاهِد فِيهِ ترك الْوَاو فِي الْجُمْلَة الإسمية الحالية لدُخُول حرف على الْمُبْتَدَأ أيحصل بِهِ نوع من الارتباط وَهُوَ هُنَا كَأَن إِذْ لَو لم تدخل لما حسن الْكَلَام إِلَّا بِالْوَاو وَبني إِلَخ جملَة اسمية وَقعت حَالا من مفعول تبصرني وَمعنى حوالي فِي أكنافي وجوانبي وَهُوَ حَال من بنى لما فِي حرف التَّشْبِيه من معنى الْفِعْل
57 -
(وَالله يُبْقيك لنَا سالما
…
بُردَاكَ تبجيلٌ وتَعظيمُ)
الْبَيْت لِابْنِ الرُّومِي من قصيدة من السَّرِيع مِنْهَا قبل الْبَيْت
(قَلَّ لَهُ الملْكُ وَلَو أَنه
…
مجموعَةٌ فِيهِ الأقاليم) // السَّرِيع //
والتبجيل التَّعْظِيم
وَالشَّاهِد فِيهِ ترك الْوَاو فِي الْجُمْلَة الإسمية الحالية وَهِي برداك إِلَخ لوقوعها بعقب حَال مُفْرد وَهُوَ سالما إِذْ لَو لم يتقدمها لم يحسن فِيهَا ترك الْوَاو والحالان أَعنِي الْجُمْلَة وسالماً يجوز أَن يَكُونَا من الْأَحْوَال المترادفة وَهِي أَن تكون أَحْوَال المتداخلة وَهِي أَن يكون صَاحب الْحَال الْمُتَأَخِّرَة الِاسْم الَّذِي يشْتَمل عَلَيْهِ الْحَال السَّابِقَة مثل أَن يَجْعَل قَوْله برداك تَعْظِيم حَالا من الضَّمِير فِي سالما
وَابْن الرُّومِي تقدم ذكره فِي شَوَاهِد الْمسند إِلَيْهِ