الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شَوَاهِد الْمُقدمَة
1 -
(غَدَا ثره مستشرزات إِلى العُلَا
…
)
قَائِله امْرُؤ الْقَيْس وَتَمَامه
(تَضلُ العِقاصُ فِي مِثنىُّ ومُرسِل
…
)
وَهُوَ من الْبَحْر الطَّوِيل من القصيدة الْمَشْهُورَة الَّتِي هِيَ إِحْدَى المعلقات السَّبع وأولها
(قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
…
بسقط اللوى بَين الدَّخُولِ فحَوملِ)
(فَتوضحَ فالمقراةِ لم يَعفِ رَسمها
…
لما نَسجتها من جنوب وشمأل)
(وقوفا بهَا صحبي على مطيهم
…
يَقُولُونَ لَا تهْلك أسى وتجمَّلِ)
(وبَيضَةِ خِدرٍ لَا يرامُ خِباؤها
…
تمتعتُ مِنْ لَهو بهَا غيرَ مُعجلِ)
(تجاوزتُ أحْراساً إِلَيْهَا ومَعْشَراً
…
عَليَّ حِراصاً لَو يُسِرُّون مَقْتِلي)
(إِذا مَا الثريا فِي السَّمَاء تعرضت
…
تعرض أثْنَاء الوشاح المْفصلِ)
(فَجئتُ وقدْ نَضتْ لِنومٍ ثِيَابهَا
…
لَدى السِّتر إلَاّ لِبسةَ المتفضلِ)
(فَقَالَت يَميُن اللهِ مَا لَك حِيلةٌ
…
وَمَا إِنْ أَرى عَنْك الغوَاية تنَجلِي)
(خَرجتُ بهَا أَمْشِي تجرُّ وَرَاءَنَا
…
عَلى إثرنا أذيال مرط مرحل)
(فَلَمَّا أجَزْنا ساحة الحيِّ وانْتحى
…
بِنَا بطن خبت ذِي حِقاف عقَنْقل)
(هصرتُ بفوْدَىْ رأسِها فتمايلتْ
…
عَليَّ هَضيمِ الكشح ريَّاً المُخلخَلِ)
(مُهفهفةٌ بَيضاءُ غَيرُ مُفاضةٍ
…
تَرائبها مصقولةٌ كالسَّجنجلِ)
(تصد عَن وتبدي أسيلٍ وتَتقي
…
بناظرةٍ من وَحْش وَجْرةَ مُطفلِ)
(وجِيد كجيد الرِّيم لَيْسَ بفاحش
…
إِذا هِيَ نصته وَلَا بمُعَطَّلِ)
(وفَرعٍ يَزينُ المَتن أسودَ فَاحم
…
أثيث كقنو النَّخْلَة المتعثكل) // الطَّوِيل //
وَبعده الْبَيْت وَالْقَصِيدَة طَوِيلَة وَسَيَأْتِي طرف مِنْهَا فِي شَوَاهِد الْإِنْشَاء إِن شَاءَ الله تَعَالَى
والغدائر جمع غديرة الذوائب والاستشراز الرّفْع والارتفاع جَمِيعًا وَالْفِعْل مِنْهُ لَازم إِن كسرت زايه ومتعدٍّ إِن فتحت والعلا جمع علياء تَأْنِيث الْأَعْلَى وَأَرَادَ الْجِهَات الْعلَا والعقاص جمع عقيصة وَهِي الْخصْلَة من الشّعْر تأخذها الْمَرْأَة فتلويها ثمَّ تعقدها حَتَّى يبْقى فِيهَا التواء ثمَّ ترسلها والمثنى من الشّعْر وَغَيره مَا ثني والمرسل ضِدّه
وَمعنى الْبَيْت أَن حبيبته لِكَثْرَة شعرهَا بعضه مَرْفُوع وَبَعضه مثنى وَبَعضه مُرْسل وَبَعضه معقوص ملوي بَين الْمثنى والمرسل
وَالشَّاهِد فِي الْبَيْت التنافر وَهُوَ لَفْظَة مستشزرات لثقلها على اللِّسَان وعسر النُّطْق بهَا
وامرؤ الْقَيْس اسْمه حندج بن حجر بن عَمْرو الْمَقْصُور سمي بذلك لِأَنَّهُ اقْتصر بِهِ على ملك أَبِيه حندج والحندج فِي اللُّغَة رَملَة طيبَة تنْبت ألواناً وَأمه فَاطِمَة وَقيل تملك بنت ربيعَة بن الْحَرْث أُخْت كُلَيْب ومهلهل
وكنية امْرُؤ الْقَيْس أَبُو وهب وَأَبُو الْحَرْث ويلقب ذَا القروح لقَوْله
(وَبُدِّلتُ قَرحاً دَامياً بعدْ صِحَّةٍ
…
لَعلَّ مَنايانْا تحولنَ أبؤُسا) // الطَّوِيل // ويلقب الذائد أَيْضا لقَوْله
(أذُودُ القوافيَ عَني ذيادا
…
) // المتقارب //
وَيُقَال لَهُ الْملك الضليل وَمعنى امْرِئ الْقَيْس رجل الشدَّة والقيس فِي اللُّغَة الشدَّة وَقيل الْقَيْس اسْم صنم وَلِهَذَا كَانَ الْأَصْمَعِي يكره أَن يروي قَوْله يَا امْرأ الْقَيْس فَانْزِل وَيَرْوِيه يَا امْرأ الله فَانْزِل وَهُوَ الَّذِي روى عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ فِيهِ أشعر الشُّعَرَاء وَقَائِدهمْ إِلَى النَّار وَقيل فِي تَأْوِيله إِن المُرَاد شعراء الْجَاهِلِيَّة وَالْمُشْرِكين
وَهُوَ أول من لطف الْمعَانِي وَمن استوقف على الطلول وَشبه النِّسَاء بالظباء والمها وَالْبيض وَشبه الْخَيل بالعقبان والعصي وَفرق بَين النسيب وَمَا سواهُ من القصيد وأجاد الِاسْتِعَارَة والتشبيه
وَكَانَ من حَدِيثه أَن أَبَاهُ طرده لما قَالَ الشّعْر وَإِنَّمَا طرده من أجل زَوجته وَهِي أم الحويريث الَّتِي كَانَ امْرُؤ الْقَيْس يشبب بهَا فِي شعره وَكَانَ
يتنقل فِي أَحيَاء الْعَرَب ويستتبع صعاليكهم وذؤبانهم وَالْعرب تطلق على اللُّصُوص الذؤبان تَشْبِيها بالذئاب وَكَانَ يُغير بهم وَكَانَ أَبوهُ ملك بني أَسد فعسفهم عسفاً شَدِيدا فتمالأوا على قَتله فَلَمَّا بلغه قتل أَبِيه وَكَانَ يشرب الْخمر قَالَ ضيعني صَغِيرا وحملني ثقل الثأر كَبِيرا الْيَوْم خمر وَغدا أَمر فأرسلها مثلا وَقيل بل قَالَ الْيَوْم قحاف وَغدا نقاف والقحاف من القحف وَهُوَ شدَّة الشّرْب والنقاف من نقف الْهَام إِذا قطعهَا
ثمَّ إِنَّه جمع جمعا من بني بكر بن وَائِل وَغَيرهم من صعاليك الْعَرَب وَخرج يُرِيد بني أَسد فَخَبرهُمْ كاهنهم بِخُرُوجِهِ إِلَيْهِم فارتحلوا وتبعهم امْرُؤ الْقَيْس فأوقع ببني كنَانَة وَكَانُوا بني أَسد قد لجأوا إِلَيْهِم ثمَّ ارتحلوا عَنْهُم فَقَتلهُمْ قتلا ذريعاً وَأَقْبل أَصْحَابه يَقُولُونَ يَا لثارات الْهمام فَقَالَت عَجُوز مِنْهُم وَاللات أَيهَا الْملك مَا نَحن بثأرك وَإِنَّمَا ثأرك بَنو أَسد وَقد ارتحلوا فَرفع الْقَتْل عَنْهُم وَقَالَ
(أَلا لَهْفَ نَفسي إِثْر قَومٍ
…
هم كَانُوا الشفَاء فَلم يصُابوا)
(وَقاهمْ جَدُّهمُ ببني عَليٍّ
…
وبالأشْقينَ مَا كانَ العقابُ)
(وأفلتهن عِلباء جَريضاً
…
وَلَو أدركنهُ صَفِرَ الوِطابُ) // الوافر //
وَقيل إِن أَصْحَابه اخْتلفُوا عَلَيْهِ حِين أوقع ببني كنَانَة وَقَالُوا لَهُ أوقعت بِقوم بُرَآء وظلمتهم فَخرج إِلَى الْيمن إِلَى بعض مقاولة حمير واسْمه قرمل فاستجاشه
فثبطه قرمل فَذَلِك حَيْثُ يَقُول
(وكُنا أُناساً قَبلَ غَزوةِ قَرْمل
…
وَرثنَا الغِنَى والمجدَ أكبر أكبرا) // الطَّوِيل //
ثمَّ خرج إِلَى قَيْصر بعد أَن أودع أدراعه وكراعه السموءل ابْن عادياء فَذَلِك حَيْثُ يَقُول
(بَكَى صَاحِبي لما رأى الدَّرْب دونه
…
وأيقن أنَّا لَاحِقانِ بقيصرا)
(فَقلت لَهُ لَا تبك عَيْنك إِنَّمَا نحاول ملكا أَو نَموتَ فَنُعذرَا) // الطَّوِيل //
وَصَاحبه عَمْرو بن قميئة الشَّاعِر وَهُوَ من بني قيس بن ثَعْلَبَة وَكَانَ قد طوى عَنهُ الْخَبَر حَتَّى جَاوز الدَّرْب فَلَمَّا وصل إِلَى قَيْصر اسْتَغَاثَ بِهِ فوعده أَن يرفده بِجَيْش
وَكَانَ امْرُؤ الْقَيْس جميل الْوَجْه وَكَانَ لقيصر ابنةٌ جميلَة فَأَشْرَفت يَوْمًا من قصرهَا فرآها امْرُؤ الْقَيْس فِي دُخُوله إِلَى أَبِيهَا فَتعلق بهَا وراسلها فأجابته إِلَى مَا سَأَلَ فَذَلِك حَيْثُ يَقُول لما وصل إِلَيْهَا
(فَقلت يَمِين الله أبْرح قَاعِدا
…
وَلَو قطعُوا رَأْسِي لديك وأوصالي) // الطَّوِيل //
وَقيل إِن أَبَاهَا زوجه إِيَّاهَا وَقد كَانَ سبق إِلَى قَيْصر رجل من بني أَسد يُقَال لَهُ الطماح فوشى بِهِ إِلَى قَيْصر فَوجه مَعَه جَيْشًا ثمَّ أتبعه رجلا مَعَه حلَّة مَسْمُومَة وَقَالَ لَهُ اقْرَأ عليه السلام وَقل لَهُ إِن الْملك قد بعث إِلَيْك بحلة قد لبسهَا ليكرمك بهَا وَأدْخلهُ الْحمام فَإِذا خرج فألبسه إِيَّاهَا فَلَمَّا فعل تنفط بدنه وَكَانَ يحمل فِي محفة فَذَلِك حَيْثُ يَقُول
(لَقدْ طَمِحَ الطَّماحُ مِنْ بُعْدِ أرضهِ
…
لِيْلُبسني مِنْ دائه مَا تلبسا) // الطَّوِيل //
وَكَانَ الطماح قبل ذَلِك قد عَبث بِامْرَأَة من قومه فسعى بِهِ فهرب فَأَرَادَ كَمَا سعى بِهِ أَن يسْعَى بِهِ
ثمَّ إِن امْرأ الْقَيْس لما بلغ أنقرة طعن فِي إبطه وَارْفض عَنهُ أَصْحَابه وَكَانَ نُزُوله إِلَى جَانب جبل وإِلى جَانِبه قبر لابنَة بعض الْمُلُوك فَسَالَ عَنهُ فَأخْبر فَقَالَ
(أجارتنا إِن الخطوب تَنوبُ
…
وَإِنِّي مقُيمٌ مَا أقامَ عَسيبُ)
(أجَارتنَا إِنَّا غَريبانِ هَاهُنَا
…
وكلُّ غَريبٍ للغريبِ نَسيبُ)
(فإِنْ تَصليني تسعدي بمَوَدَّتي
…
وإنِ تَقطعيني فالغريب غَرِيب) // الطَّوِيل //
ثمَّ مَاتَ هُنَالك فَدفن بأنقرة وَكَانَ آخر مَا تكلم بِهِ
(رُبَ طَعنةٍ مُثْعَنجرَه
…
وَخطُبةٍ مُسحنَفره)
(وَجفنةٍ مُدعترَه
…
وَقصيدَةٍ مُحبَّرَهْ)
(تَبْقَى غَداً بأنْقَرهْ
…
)
2 -
(وفَاحماً وَمرْسِناً مُسَرَّجا
…
)
قَائِله رؤبة بن العجاج وَهُوَ من بَحر الرجز من أرجوزة طَوِيلَة أَولهَا
(مَا هَاج أشْجاناً وَشجواً قد شجا
…
مِنْ طَللٍ كالأتْحمُّى أنهجا)
(أَمْسَى لعافي الرَّامساتِ مَدْرَجَاً
…
واتّخذتهُ الناثجات منأجا)
(مَنازلٌ هَيَّجنَ مَن تَهيجَا
…
مِنْ آل لَيلى قد عَفونَ حِجَجَا)
(والشحطُ قَطاعٌ رَجاء مَن رَجا
…
أزمانَ أبْدتْ وَاضحاً مُفلَّجَا)
(أغرَ برَّاقَاً وَطرفاً أبرجَا
…
وَمقلةً وحاجباً مُزججَا) // الرجز //
وَبعده الْبَيْت وَبعده
(وكَفَلاً وَعْثَاً إِذا ترجرجَا
…
)
الفاحم الْأسود وَأَرَادَ شعرًا فاحماً فَحذف الْمَوْصُوف وَأقَام الصّفة مقَامه والمرسن بِفَتْح السِّين وَكسرهَا الْأنف الَّذِي يشد بالرسن ثمَّ استعير لأنف الْإِنْسَان ومسرجاً مختلفٌ فِي تَخْرِيجه فَقيل من سَرْجه تسريجا بهجة وَحسنه وَقيل من قَوْلهم سيوف سريجية منسوبة إِلَى قين يُقَال لَهُ
سُرَيج شبه بهَا الْأنف فِي الدقة والاستواء وَقيل من السراج وَهُوَ قريب من قَوْلهم سرِج وَجهه بِكَسْر الرَّاء أَي حَسُنَ والزَّجَجُ دقة الحاجبين
وَالْمعْنَى أَن لهَذِهِ الْمَرْأَة الموصوفة مقلة سَوْدَاء وحاجبا مدققا مقوسا وشعرا اسود وأنفاً كالسيف السريجي فِي دقته واستوائه أَو كالسراج فِي بريقه وضيائه
وَالشَّاهِد فِيهِ الغرابة فِي مسرجا للِاخْتِلَاف فِي تَخْرِيجه
ورؤبة قَائِل هَذَا الْبَيْت هُوَ أَبُو مُحَمَّد رؤبة بن العجاج والعجاج لقبه واسْمه عبد الله بن رؤبة الْبَصْرِيّ التَّمِيمِي السَّعْدِيّ سمي باسم قِطْعَة من الْخشب يشعب بهَا الْإِنَاء وَهِي بِضَم الرَّاء وَسُكُون الْهمزَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَبعدهَا هَاء سَاكِنة وَهُوَ وَأَبوهُ راجران مشهوران كلٌّ مِنْهُمَا لَهُ ديوَان رجز لَيْسَ فِيهِ شعر سوى الأراجيز وهما مجيدان فِي رجزهما وَكَانَ رؤبة هَذَا بَصيرًا باللغة قيمًا بحوشياً وغريبها
حكى يُونُس بن حبيب النَّحْوِيّ قَالَ كنت عِنْد أبي عَمْرو بن الْعَلَاء فجَاء شبيل بن عُرْوَة الضبعِي فَقَامَ إِلَيْهِ أَبُو عَمْرو وَألقى لَهُ لبد بغلته فَجَلَسَ عَلَيْهِ ثمَّ أقبل عَلَيْهِ يحدثه فَقَالَ شبيل يَا أَبَا عَمْرو سَأَلت رؤبتكم عَن اشتقاق اسْمه فَمَا عرفه يَعْنِي رؤبة قَالَ يُونُس فَلم أملك نَفسِي عِنْد ذكره فَقلت لَعَلَّك تظن أَن معد بن عدنان أفْصح مِنْهُ وَمن أَبِيه أفتعرف أَنْت مَا الرُّوبَةُ والرُّوبة والرُّوبة والرُّوبة والرُّوبة وَأَنا غُلَام رؤبة فَلم يحر جَوَابا وَقَامَ مغضباً فَأقبل عَليّ أَبُو عَمْرو وَقَالَ هَذَا رجلٌ شرِيف يقْصد مجالسنا وَيَقْضِي حقوقنا وَقد أَسَأْت فِيمَا
وَفعلت مِمَّا واجهته بِهِ فَقلت لم أملك نَفسِي عِنْد ذكر رؤبة فَقَالَ أَبُو عَمْرو أَو سلطت على تَقْوِيم النَّاس ثمَّ فسر يُونُس مَا قَالَه فَقَالَ الروبة خميرة اللَّبن والروبة قِطْعَة من اللَّيْل والروبة الْحَاجة يُقَال فلَان مَا يقوم بروبة أَهله أَي بِمَا اسندوا إِلَيْهِ من حوائجهم والروبة جمام مَاء الْفَحْل والرؤبة بِالْهَمْز الْقطعَة الَّتِي يشعب بهَا الْإِنَاء والجميع بِضَم الرَّاء وَسُكُون الْوَاو إِلَّا رؤبة فَإِنَّهُ بِالْهَمْز
وَقيل ليونس من أشعر النَّاس فَقَالَ العجاج ورؤبة فَقيل لَهُ لم نعن الرجاز قَالَ هما أشعر أهل القصيد وَإِنَّمَا الشّعْر كَلَام وأجوده أشعره قَالَ العجاج
(قد جبر الدّين الْإِلَه فجبر
…
) // الرجز //
فَهِيَ نحوٌ من مِائَتي بَيت مَوْقُوفَة القوافي وَلَو أطلقت قوافيها كلهَا لكَانَتْ مَنْصُوبَة وَكَذَلِكَ عَامَّة أراجيزهما
وَعَن ابْن قُتَيْبَة قَالَ كَانَ رؤبة يَأْكُل الفأر فعوتب فِي ذَلِك فَقَالَ هِيَ وَالله أنظف من دواجنكم ودجاجكم اللَّاتِي تَأْكُل الْعذرَة وَهل يَأْكُل الفأر إِلَّا نقي الْبر ولباب الطَّعَام
وَحدث أَبُو زيد الْأنْصَارِيّ النَّحْوِيّ قَالَ دخل رؤبة بن العجاج السُّوق وَعَلِيهِ بركاني أَخْضَر فَجعل الصّبيان يعبثون بِهِ ويغرزون شوك النّخل فِي بركانه ويصيحون بِهِ يَا مردوم يَا مردوم فجَاء إِلَى الْوَالِي فَقَالَ أرسل معي الوزعة فَإِن الصّبيان قد حالوا بيني وَبَين السُّوق فَأرْسل مَعَه أعواناً فَشد عَليّ الصّبيان وَهُوَ يَقُول
(أنحى عَلَى أمّكَ بالمَردومِ
…
أَعْورُ جَعدٌ من بني تَمِيم)
(شراب ألبان خلايا كوم
…
)
قَالَ فَجعلُوا يعدون بَين يَدَيْهِ حَتَّى دخلُوا دَارا فِي الصيارفة فَقَالَ لَهُ الشرطي أَيْن هم قَالَ دخلُوا دَار الظَّالِمين فسميت إِلَى الْآن دَار الظَّالِمين لقَوْل رؤبة وَهِي فِي صيارفة سوق الْبَصْرَة
وَعَن الْمَدَائِنِي قَالَ قدم الْبَصْرَة راجز من رجاز الْمَدِينَة فَجَلَسَ إِلَى حَلقَة فِيهَا الشُّعَرَاء فَقَالَ أَنا أرجز الْعَرَب أَنا الَّذِي أَقُول
(مَروانُ يُعطِي وسَعيدٌ يَمنعُ
…
مَروانُ نَبعٌ وَسَعِيد خروع) // الرجز //
وددت أَنِّي راهنت من أحب فِي الرجز يدا بيد وَالله وَالله لأَنا أرجز من العجاج فليت الْبَصْرَة جمعت بيني وَبَينه قَالَ والعجاج حَاضر وَابْنه رؤبة مَعَه فَأقبل رؤبة على أَبِيه فَقَالَ قد أنصفك الرجل فَأقبل عَلَيْهِ العجاج فَقَالَ هَا أَنا ذَا العجاج فَهَلُمَّ وزحف إِلَيْهِ فَقَالَ وَأي العجاجين أَنْت قَالَ مَا خلتك تَعْنِي غَيْرِي أَنا أَبُو عبد الله الطَّوِيل وَكَانَ يكنى بذلك فَقَالَ لَهُ الْمدنِي مَا عنيتك وَلَا أردتك قَالَ كَيفَ وَقد هَتَفت باسمي قَالَ أَو مَا فِي الدُّنْيَا عجاج سواك قَالَ مَا علمت قَالَ وَلَكِنِّي أعلم وإياه عنيت قَالَ فَهَذَا ابْني رؤبة قَالَ اللَّهُمَّ غفرا مَا بيني وبينكما عمل وَإِنَّمَا مرادي غيركما قَالَ فَضَحِك أهل الْحلقَة وكفا عَنهُ
وَعَن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عَلْقَمَة قَالَ أخرج شاهين بن عبد الله الثَّقَفِيّ رؤبة مَعَه إِلَى أرضه فقعدوا يَلْعَبُونَ بالنرد فَلَمَّا أَتَوا بالخوان قَالَ رؤبة فِيهِ
(يَا إخْوتِي جَاء الخِوانُ فَارفعُوا
…
حَنَّانةً كعَابُها تَقَعْقَعُ)
(لَم أدْرِ مَا ثَلاثُها والأربعُ
…
) قَالَ فضحكنا ورفعناها وَقدم الطَّعَام
وَكَانَ رؤبة مُقيما بِالْبَصْرَةِ فَلَمَّا ظهر بهَا إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن الْحسن بن عَليّ
ابْن أبي طَالب كرم الله وَجهه على الْمَنْصُور وَجَرت الْوَاقِعَة الْمَشْهُورَة خَافَ رؤبة على نَفسه وَخرج إِلَى الْبَادِيَة ليجتنب الْفِتْنَة فَلَمَّا وصل إِلَى النَّاحِيَة الَّتِي قَصدهَا أدْركهُ أَجله بهَا فَتوفي سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَة
وَهَذَا يُخَالف مَا رَوَاهُ يَعْقُوب بن دَاوُد قَالَ لقِيت الْخَلِيل بن أَحْمد يَوْمًا بِالْبَصْرَةِ فَقَالَ يَا أَبَا عبد الله دفنا الشّعْر واللغة والفصاحة الْيَوْم فَقلت لَهُ كَيفَ ذَلِك قَالَ حِين انصرفت من جَنَازَة رؤبة بن العجاج وَكَانَ قد أسن رحمه الله
وَقد سمع أَبَاهُ وَأَبوهُ سمع أَبَا هُرَيْرَة رضي الله عنه وَقَالَ النَّسَائِيّ وَلَيْسَ هُوَ بِالْقَوِيّ وَقد روى رؤبة بن العجاج عَن أبي الشعْثَاء عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي سفر وحاد يَحْدُو
(طافَ الخَيالانِ فَهاجا سَقماً
…
خَيالُ لبُنْيَ وَخيالُ تَكُتماَ)
(قَامتْ تُريك خَشيةً أَن تَصْرما
…
ساقاً بَخنْداةً وكعبا ادرما) // الرجز //
وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يسمع وَلَا يُنكر
وَحدث أَبُو عُبَيْدَة الْحداد قَالَ حَدثنَا رؤبة بن العجاج قَالَ سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة رضي الله عنه يَقُول السِّوَاك يذهب وضر الطَّعَام وَهَذَا الْخَبَر يدل على أَنه سمع من أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه وَالله أعلم
وَمن شعره
(أَيهَا الشامت الْمُعير بالشّيب أقِلّنّ بالشبّابِ افْتخارّا
…
)
(قَدْ لَبستُ الشّبابَ غَضَّاً طَريّا
…
فَوجدتُ الشّبابَ ثوبا معارا) // الْخَفِيف //
3 -
(الْحَمد لله الْعلي الأجْلَلِ
…
)
قَائِله أَبُو النَّجْم وَهُوَ من بَحر الرجز من أرجوزة طَوِيلَة وَبعده
(الوَاهب الفَضلِ الوَهوب المُجزِل
…
أعْطَى فَلمْ يَبخلْ وَلم يُبخَّلِ) // الرجز //
وَالشَّاهِد فِيهِ مُخَالفَة الْقيَاس اللّغَوِيّ فِي قَوْله الأجلل إِذْ الْقيَاس الْأَجَل بِالْإِدْغَامِ
وَأَبُو النَّجْم اسْمه الْفضل بن قدامَة بن عبيد الله الْعجلِيّ وَهُوَ من رجاز الْإِسْلَام والفحول الْمُتَقَدِّمين فِي الطَّبَقَة الأولى مِنْهُم
وَفد على هِشَام بن عبد الْملك وَقد طعن فِي السن فَقَالَ يَا أَبَا النَّجْم حَدثنِي قَالَ أَعنِي أَو عَن غَيْرِي قَالَ بل عَنْك قَالَ إِنِّي لما كَبرت عرض لي الْبَوْل فَوضعت عِنْد رجْلي شَيْئا أبول فِيهِ فَقُمْت من اللَّيْل أبول فَخرج مني صَوت فتشددت ثمَّ عدت فَخرج مني صَوت آخر فأويت إِلَى فِرَاشِي وَقلت يَا أم الْخِيَار هَل سَمِعت شَيْئا قَالَت لَا وَالله وَلَا وَاحِدَة مِنْهُمَا فَضَحِك هِشَام
وَعَن أبي عُبَيْدَة قَالَ مَا زَالَت الشُّعَرَاء تقصر بالرجاز حَتَّى قَالَ أَبُو النَّجْم
(الْحَمد لله الْعلي الأجلل
…
)
وَقَالَ العجاج
(قد جبر الدّين الإلهُ فجبر
…
)
وَقَالَ رؤبة
(وقاتم الأعماق خاوي المخترق
…
) فانتصفوا مِنْهُم
وَعَن أبي عَمْرو الشَّيْبَانِيّ قَالَ قَالَ فتيانٌ من عجلٍ لأبي النَّجْم هَذَا رؤبة بالمربد يجلس فَيسمع شعره وينشد النَّاس ويجتمع إِلَيْهِ فتيَان بني تَمِيم قَالَ أَو تحبون ذَلِك قَالُوا نعم قَالَ فائتوني بِشَيْء من نَبِيذ فَأتوهُ بِهِ فشربه ثمَّ انتفض فَقَالَ
(إِذا اصطبحت أَرْبعا عَرفتني
…
ثمَّ تَجَشمتُ الَّذِي جشمتني) // الرجز //
فَلَمَّا رَآهُ رؤبة أعظمه وَقَامَ لَهُ عَن مَكَانَهُ وَقَالَ هَذَا رجاز الْعَرَب وسألوه أَن ينشدهم فأنشدهم
(الحمدُ لله العليِّ الأجلل
…
)
وَكَانَ من أحسن النَّاس إنشاداً فَلَمَّا فرغ مِنْهَا قَالَ لَهُ رؤبة هَذِه أتم الرجز ثمَّ قَالَ يَا أَبَا النَّجْم قربت مرعاها إِذْ جَعلتهَا بَين رجل وَابْنه يُوهم عَلَيْهِ أَنه حَيْثُ قَالَ
(تَبقَّلَتْ مِنْ أَوّلِ التبَّقِّلِ
…
بَينَ رِماحَيْ مَالك ونهشل) // الرجز // أَنه يُرِيد نهشل بن مَالك بن حَنْظَلَة بن زيد بن مَنَاة فَقَالَ لَهُ أَبُو النَّجْم هَيْهَات الكمر تتشابه أَي إِنَّمَا أُرِيد مَالك بن ضبيعة بن قيس ونهشل قَبيلَة من ربيعَة
وَعَن أبي بَرزَة المربدي قَالَ خرج العجاج محتفلاً عَلَيْهِ جُبَّة من خَز وعمامة من خَز على نَاقَة لَهُ قد أَجَاد رَحلهَا حَتَّى وقف بالمربد وَالنَّاس مجتمعون عَلَيْهِ وأنشدهم
(قد جبر الدّين الإلهُ فَجَبرْ
…
)
وَذكر فِيهَا ربيعَة فهجاهم فجَاء رجل من بني بكر بن وَائِل إِلَى أبي النَّجْم وَهُوَ فِي بَيته فَقَالَ أَنْت جَالس وَهَذَا العجاج يهجونا فِي المربد قد اجْتمع عَلَيْهِ النَّاس فَقَالَ صف لي حَاله وزيه الَّذِي هُوَ فِيهِ فوصف لَهُ فَقَالَ ابغني جملا طحاناً قد أَكثر عَلَيْهِ من الهناء فجَاء بالجمل فَأخذ سَرَاوِيل لَهُ فَجعل إِحْدَى
رجلَيْهِ فِي السَّرَاوِيل واتزر بِالْأُخْرَى وَركب الْجمل وَدفع خطامه إِلَى من يَقُودهُ فَانْطَلق حَتَّى أَتَى المربد فَلَمَّا دنا من العجاج قَالَ اخلع خطامه فخلعه وَأنْشد
(تذكرَّ القلبُ وجهلاً مَا ذكر
…
)
فَجعل الْجمل يدنو من النَّاقة ويتشممها ويتباعد عَنهُ الْحجَّاج لِئَلَّا يفْسد ثِيَابه ورحله بالقطران حَتَّى بلغ قَوْله
(شَيْطَانه أُنْثَى وشيطاني ذكر
…
)
فعلق النَّاس هَذَا الْبَيْت وهرب العجاج مِنْهُ
وَورد أَبُو النَّجْم على هِشَام بن عبد الْملك فِي الشُّعَرَاء فَقَالَ لَهُم هِشَام صفوا إبِلا فقيظوها وأوردوها وأصدروها حَتَّى كأنني أنظر إِلَيْهَا فأنشدوه وأنشده أَبُو النَّجْم
(الْحَمد لله الْعلي الأجْلِلِ
…
)
حَتَّى إِذا بلغ إِلَى ذكر الشَّمْس فَقَالَ
(فِهيِ عِلى الأُفقِ كِعين
…
. .
…
)
فَأَرَادَ أَن يَقُول الْأَحول ثمَّ ذكر حول هِشَام فَلم يتم الْبَيْت وأرتج عَلَيْهِ فَقَالَ هِشَام أجز فَقَالَ كعين الْأَحول وَأمر القصيدة فَأمر هِشَام بوجء عُنُقه وإخراجه من الرصافة وَقَالَ لصَاحب شرطته يَا ربيع إياك وَأَن أرى هَذَا فَكلم وُجُوه النَّاس صَاحب شرطته أَن يقره فَفعل فَكَانَ يُصِيب من فضول أَطْعِمَة النَّاس ويأوي الْمَسَاجِد قَالَ أَبُو النَّجْم وَلم يكن بالرصافة أحد يضيف إِلَّا سليم بن كيسَان الْكَلْبِيّ وَعَمْرو بن بسطَام التغلبي فَكنت آتِي سليما فأتغذى عِنْده وَآتى عمرا فأتعشى عِنْده وَآتى الْمَسْجِد فأبيت قَالَ فاهتم هِشَام لَيْلَة وَأمسى لقس النَّفس وَأَرَادَ مُحدثا يحدثه فَقَالَ لخادم ابغني مُحدثا أَعْرَابِيًا أهوج شَاعِرًا يروي الشّعْر فَخرج الْخَادِم إِلَى الْمَسْجِد فَإِذا هُوَ بِأبي النَّجْم فَضَربهُ
بِرجلِهِ وَقَالَ قُم أجب أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ إِنَّنِي رجل أَعْرَابِي غَرِيب فَقَالَ إياك أبغي هَل تروي الشّعْر قَالَ نعم وأقوله فَأقبل بِهِ حَتَّى أدخلهُ الْقصر وأغلق الْبَاب قَالَ فأيقن أَبُو النَّجْم بِالشَّرِّ ثمَّ مضى بِهِ فَأدْخلهُ على هِشَام فِي بَيت صَغِير بَينه وَبَين نِسَائِهِ ستر رَقِيق والشمع بَين يَدَيْهِ يزهر فَلَمَّا دخل قَالَ لَهُ هِشَام أَبُو النَّجْم قَالَ نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ طريدك قَالَ اجْلِسْ فَسَأَلَهُ وَقَالَ لَهُ أَيْن كنت تأوي وَأَيْنَ مَنْزِلك فَأخْبرهُ قَالَ وَكَيف اجْتمعَا لَك قَالَ كنت أتغذى عِنْد هَذَا وأتعشى عِنْد الآخر قَالَ فَأَيْنَ كنت تبيت قَالَ فِي الْمَسْجِد حَيْثُ وجدني رَسُولك قَالَ وَمَا لَك من الْوَلَد وَالْمَال قَالَ أما المَال فَلَا مَال لي وَأما الْوَلَد فلي ثَلَاث بَنَات وَبني يُقَال لَهُ شَيبَان فَقَالَ هَل أخرجت من بناتك أحدا قَالَ نعم زوجت اثْنَتَيْنِ وَبقيت وَاحِدَة تجمز فِي أبياتها كَأَنَّهَا نعَامَة قَالَ وَمَا أوصيت بِهِ الأولى وَكَانَت تسمى برة بالبراء فَقَالَ
(أوِصيتُ مِنْ بِرِّةِ قِلباً حُرّا
…
بِالكلبِ خِيراً وِالحماةِ شِرّا)
(لَا تِسأِمي ضِرباً لهِا وِجِرِا
…
حِتى ترى حُلوِ الحياةِ مُرّا)
(وِإنْ كِستكِ ذِهباً وِدرّا
…
وِالحيُّ عمُيِّهمْ بشرٍّ طُرّا) // الرجز //
فَضَحِك هِشَام وَقَالَ فَمَا قلت لِلْأُخْرَى قَالَ قلت
(سُبِّي الحِماةِ وابْهتيِ عِليها
…
وِإنْ دِنتْ فازْدَلِفي إِليْهَا)
(وَأوْجعِي بالنَّهزِ رُكبتيهَا
…
وَمِرفقيهَا واضْرِبي جَنبيهَا)
(وَظَاهري الْبَدِيِّ لَهَا عَلَيْهَا
…
لَا تُخْبِرِي الدَّهرَ بِهِ ابْنتيهَا) // الرجز //
قَالَ فَضَحِك هِشَام حَتَّى بَدَت نَوَاجِذه وَسقط على قَفاهُ وَقَالَ وَيحك مَا هَذِه وَصِيَّة يَعْقُوب عليه السلام وَلَده فَقَالَ وَلَا أَنا كيعقوب يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ فَمَا قلت للثالثة قَالَ قلت
(أوصِيكِ يَا بِنْتي فَإِنِّي ذَاهبُ
…
أُوصِيكِ أَن تَحْمَدكِ الأقاربُ)
(والجارُ والضَّيفُ الكريمُ الساغب
…
وَيرجع الْمِسْكِين وهوَ خائبُ)
(ولَا تَني أظْفارُكِ السَّلاهبُ
…
لَهن فِي وجهِ الحماة كاتبُ)
(والزوْجِ إنَّ الزوجَ بئس الصاحب
…
) // الرجز //
قَالَ فَكيف قلت هَذَا وَلم تتَزَوَّج وَأي شَيْء قلت فِي تَأَخّر تَزْوِيجهَا قَالَ قلت
(كَأَن ظَلَاّمةَ أخْتَ شَيبانْ
…
يَتيمةٌ ووالداها حَيَّانْ)
(الرَّأسُ قملٌ كُلُّهُ وصِئْبان
…
ولَيسَ فِي السَّاقين إِلَّا خَيطانْ)
(تِلكَ الَّتِي يَفْزَعُ مِنْهَا الشَّيطانْ
…
) // الرجز //
قَالَ فَضَحِك هِشَام حَتَّى ضحك النِّسَاء لضحكه وَقَالَ للخصي كم بَقِي من نَفَقَتك قَالَ ثَلَاثمِائَة دِينَار قَالَ أعْطه إِيَّاهَا ليجعلها فِي رجل ظلامة مَكَان الْخَيْطَيْنِ
وَدخل أَبُو النَّجْم يَوْمًا على هِشَام وَقد مَضَت لَهُ سَبْعُونَ سنة فَقَالَ لَهُ هِشَام مَا رَأْيك فِي النِّسَاء قَالَ إِنِّي لأنظر إلَيْهِنَّ شزراً وينظرن إِلَى حذرا فوهب لَهُ جَارِيَة وَقَالَ لَهُ اغْدُ عَليّ فَأَخْبرنِي مَا كَانَ مِنْك فَلَمَّا أصبح غَدا عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ مَا صنعت شَيْئا وَلَا قدرت على شَيْء وَقلت فِي ذَلِك أبياتاً
(نَظرتْ فأعجبها الذِي فِي دِرْعِها
…
مِن حُسنه ونظرتُ فِي سرباليا)
(ظيقا يَعضُّ بكلِّ عَردٍ نَالهُ
…
كالصدغِ أَو صدع يرى متجافيا)
(فرأت لَهَا كَفلاً ينوء بخَصْرها
…
وَعْثاً رَوادفُه وأجثْمَ نابيا)
(وَرَأَيْت منتشر العَجانِ مُقلّصاً
…
رخْواً مَفاصلهُ وجلداً باليَا)
(أُدِنى لهُ الرِّكبَ الحَليقَ كأنَّما
…
أُدنى إِلَيْهِ عقَارباً وأفَاعيَا)
(إِن الندامة والسدامة فاعلمن
…
لَو قد خبرتك للمواسي حاليا)
(مَا بالُ رأسكَ من ورائي طالعاً
…
أظَننتَ أنَّ حِرَ الفَتاةِ وَرائِيا)
(فاذهبْ فإِنكَ مَيِّتٌ لَا تَرُتّجَي
…
أبَد الأبيد وَلو عمرت لَياليَا)
(أنْتَ الْغرُور إِذا خبرت وربَّما
…
كَانَ الْغرُور لمن رجاه شَافيَا)
(لَكنّ أيْرِي لَا يُرجَّى نَفعُه
…
حَتَّى أعُودَ أخَا فتَاءٍ ناشيا) // الْكَامِل //
فَضَحِك هِشَام وَأمر لَهُ بجائزة أُخْرَى
وَحدث أَبُو الْأَزْهَر ابْن بنت أبي النَّجْم عَن أبي أمه أَنه كَانَ عِنْد عبد الْملك ابْن مَرْوَان وَيُقَال عِنْد سُلَيْمَان بن عبد الْملك يَوْمًا وَعِنْده جمَاعَة من
الشُّعَرَاء وَكَانَ أَبُو النَّجْم فيهم والفرزدق وَجَارِيَة واقفة على رَأس سُلَيْمَان أَو عبد الْملك تذب عَنهُ فَقَالَ من صحبني بقصيدة يفتخر فِيهَا وَصدق فِي فخره وهبته هَذِه الْجَارِيَة قَالَ فَقَامُوا على ذَلِك ثمَّ قَالُوا إِن أَبَا النَّجْم يغلبنا بمقطعاته يعنون الرجز فَقَالَ أَلا أَقُول إِلَّا قصيداً فَقَالَ من ليلته قصيدته الَّتِي فَخر فِيهَا وَهِي
(عَلقَ الْفُؤَاد حَبائِل الشعْثَاء
…
) // الْكَامِل //
ثمَّ أصبح وَدخل عَلَيْهِ وَمَعَهُ الشُّعَرَاء فأنشده حَتَّى بلغ إِلَى قَوْله
(منَّا الذِي رَبعَ الجيوشَ لِصُلبهِ
…
عِشرونَ وَهْوَ يُعدُّ فِي الأحْياء)
قَالَ لَهُ عبد الْملك أَو سُلَيْمَان قف إِن كنت صدقت فِي هَذَا الْبَيْت فَلَا تزد مَا وَرَاءه فَقَالَ الفرزدق أَنا أعرف مِنْهُم سِتَّة عشر وَمن ولد وَلَده أَرْبَعَة كلهم قد ربع فَقَالَ عبد الْملك أَو سُلَيْمَان ولد وَلَده هم وَلَده ادْفَعْ إِلَيْهِ الْجَارِيَة يَا غُلَام قَالَ فَغَلَبَهُمْ يَوْمئِذٍ
وَحدث الْأَصْمَعِي قَالَ قَالَ أَبُو النَّجْم للعديل بن الفرخ أَرَأَيْت قَوْلك
(فَإِن تَكُ مِنْ شَيبانَ أمَّي فإنَّني
…
لأَبْيضَ مجليّ عَريض المفارق) // الطَّوِيل //
أَكنت شاكاً فِي نسبك حَتَّى قلت مثل هَذَا فَقَالَ العديل أشككت فِي نَفسك أَو فِي شعرك حِين قلت
(أنَا أبُو النَّجم وَشِعرِي شِعرِي
…
لله دَرّى مَا يِجنِّ صَدْرِي) // الرجز //
فَأمْسك أَبُو النَّجْم واستحيا وَكَانَت وَفَاته آخر دولة بني أُميَّة
4 -
(كَريمُ الجِرِشَّي شَرِيفُ النَّسَبْ
…
) قَائِله أَبُو الطّيب المتنبي من قصيدة من بَحر المتقارب وَكَانَ سيف الدولة ابْن حمدَان صَاحب حلب قد أنفذ إِلَيْهِ كتابا بِخَطِّهِ إِلَى الْكُوفَة بِأَمَان وَسَأَلَهُ الْمسير إِلَيْهِ فَأَجَابَهُ بِهَذِهِ القصيدة
(فَهمتُ الكِتابَ أبَرَّ الكتَبْ
…
فَسمعاً لأمْرِ أَمير العَربْ)
(وطَوعاً لَهُ وابتهاجاً بهِ
…
وَإِن قَصَّرَ الفِعلُ عمَّا وَجبْ)
(وَمَا عَاقنِي غيَرُ خَوفِ الوُشاة
…
فإِن الوشاة طريقُ الكِذبْ)
(وَتكثيرُ قومٍ وتَقليلهم
…
وتقَريبهُم بَيْننَا والخَبَبْ)
(وَقَد كَانَ ينصرهم سَمعهُ
…
وينصرُنِي قلبه والحَسبْ)
(وَمَا قُلتُ للبدر أنتَ اللجَينُ
…
وَلَا قلتُ للشمس أنْتِ الذَهبْ)
(فَيقْلقَ مِنهُ البَعيدُ الأناةِ
…
ويغَضبَ مِنْهُ البَطيءُ الغَضبْ)
(ومَا لاقنيِ بَعدكُم بَلدةُ
…
وَلا اعتْضْتُ مِنْ رَبٍّ نُعماىَ رَب)
(ومنْ رَكبَ الثَّوْرَ بعد الْجواد
…
أنكرَ أظلافهُ وَالغبَبْ)
(ومَا قِستْ كلَّ مُلوِك البلادِ
…
فَدعْ ذِكرَ بَعضِ بِمنْ فِي حَلبْ)
(وَلو كنُتُ سَميّتهمْ باسمهِ
…
لَكانَ الحديدَ وكانوُا الخشبْ)
(أَفِي الرَّأْي يُشْبَهُ أمْ فِي السخاء
…
أمْ فِي الشجاعةِ أمْ فِي الأدبِّ)
(مُباركُ الاسِم أغرُّ اللقَّبْ
…
كَريمُ الجرشيَّ شَريفُ النسبْ)
(أَخُو الحربِ يُخدمُ مِمَّا سَبَى
…
قَناهُ وَيخْلعُ مِمَّا سَلبْ)
(إِذَا حازَ مَالا فَقدْ حَازهُ
…
فَتى لَا يُسرُّ بِما لَا يهب) // المتقارب //
والجرشي بِكَسْر الْجِيم وَالرَّاء مَقْصُورا النَّفس وَأَشَارَ بقوله مبارك اللاسم إِلَى أَن اسْم الممدوح عَليّ وَهُوَ اسْم مبارك يتبرك بِهِ لمَكَان عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه وَلِأَنَّهُ مُشْتَقّ من الْعُلُوّ والعلو مبارك وَمعنى أغر اللقب مَشْهُور لِأَنَّهُ سيف الدولة والأغر من الْخَيل الَّذِي فِي وَجهه غرَّة وَهِي الْبيَاض استعير لكل وَاضح مَعْرُوف
وَالشَّاهِد فِيهِ كَرَاهَة السّمع للفظة تكون فِي الْبَيْت كالجرشي هُنَا
وَأَبُو الطّيب اسْمه أَحْمد بن الْحُسَيْن بن الْحسن بن عبد الصَّمد الْجعْفِيّ الْكِنْدِيّ الْكُوفِي المتنبي الشَّاعِر الْمَشْهُور وَإِنَّمَا قيل لَهُ المتنبي لِأَنَّهُ ادّعى النُّبُوَّة فِي بادية السماوة وَتَبعهُ خلق كثير من بني كلب وَغَيرهم فَخرج إِلَيْهِ لُؤْلُؤ
أَمِير حمص نَائِب الأخشيدية فَأسرهُ وتفرق أَصْحَابه وحبسه طَويلا ثمَّ استتابه وَأطْلقهُ
وَكَانَ قد قَرَأَ على الْبَوَادِي كلا مَا ذكر أَنه قُرْآن أنزل عَلَيْهِ فَمِنْهُ والنجم السيار والفلك الدوار وَاللَّيْل وَالنَّهَار إِن الْكَافِر لفي أخطار امْضِ على سننك وَاقِف أثر من كَانَ قبلك من الْمُرْسلين فَإِن الله قامع بك زيغ من ألحد فِي الدّين وضل عَن السَّبِيل
وَكَانَ إِذا جلس فِي مجْلِس سيف الدولة وَأَخْبرُوهُ عَن هَذَا الْكَلَام فينكره ويجحده
وَلما أطلق من السجْن الْتحق بالأمير سيف الدولة بن حمدَان ثمَّ فَارقه وَدخل مصر سنة سِتّ وَأَرْبَعين وثلاثمائة ومدح كافوراً الأخشيدي وأنوجور بن الأخشيد وَكَانَ يقف بَين يَدي كافور وَفِي رجلَيْهِ خفان وَفِي وَسطه سيف ومنطقة ويركب بحاجبين من مماليكه وهما بِالسُّيُوفِ والمناطق وَلما لم يرضه هجاه وفارقه لَيْلَة عيد النَّحْر سنة خمسين وثلاثمائة فَوجه كافور خَلفه عدَّة رواحل فَلم يلْحق وَقصد بِلَاد فَارس ومدح عضد الدولة بن بويه الديلمي فأجزل صلته وَلما رَجَعَ من عِنْده عرض لَهُ فاتك بن أبي جهل الْأَسدي فِي عدَّة من أَصْحَابه فقاتله فَقتل المتنبي وَابْنه محسد وَغُلَامه مُفْلِح بِالْقربِ من النعمانية فِي مَوضِع يُقَال لَهُ الصافية من الْجَانِب الغربي من سَواد بَغْدَاد وَيُقَال إِنَّه قَالَ شَيْئا فِي عضد الدولة فَدس عَلَيْهِ من قَتله لِأَنَّهُ لما وَفد عَلَيْهِ وَصله بِثَلَاثَة آلَاف دِينَار وَثَلَاثَة أَفْرَاس مسرجة محلاة وَثيَاب مفتخرة ثمَّ دس عَلَيْهِ من سَأَلَهُ أَيْن هَذَا الْعَطاء من عَطاء سيف الدولة فَقَالَ هَذَا أجزل إِلَّا أَنه عَطاء متكلف وَسيف الدولة كَانَ يُعْطي طبعا فَغَضب عضد الدولة فَلَمَّا انْصَرف جهز عَلَيْهِ قوما من بني ضبة فَقَتَلُوهُ بعد أَن قَاتل قتالاً
شَدِيدا ثمَّ انهزم فَقَالَ لَهُ غُلَامه أَيْن قَوْلك
(الخيلُ واللَّيلُ وَالبَيدَاءُ تَعرفُنْيِ
…
وَالطَّعنُ والضَّربُ والقرطاس والقلم) // الْبَسِيط //
فَقَالَ قتلتني قَتلك الله ثمَّ قَاتل فَقتل
وَيُقَال إِن الخفراء جَاءُوهُ وطلبوا مِنْهُ خمسين درهما ليسيروا مَعَه فَمَنعه الشُّح وَالْكبر فتقدموه فَوَقع لَهُ مَا وَقع
وَكَانَ قَتله يَوْم الْأَرْبَعَاء لست بَقينَ وَقيل لثلاث بَقينَ وَقيل لليلتين بَقِيَتَا من شهر رَمَضَان سنة أَربع وَخمسين وثلثمائة
ومولده كَانَ فِي سنة ثَلَاث وثلثمائة بِالْكُوفَةِ فِي محلّة تسمى كِنْدَة وَلَيْسَ هُوَ من كِنْدَة الَّتِي هِيَ قَبيلَة بل هُوَ جعفي
وَقيل إِن أَبَاهُ كَانَ سقاء بِالْكُوفَةِ وَكَانَ يلقب بعبدان ثمَّ انْتقل إِلَى الشَّام بولده وإِلى هَذَا أَشَارَ بعض الشُّعَرَاء فِي هجوه فَقَالَ
(أيُّ فَضلٍ لِشاعرٍ يطْلب الْفضل
…
مِنَ النَّاسِ بُكرةً وَعشيَّا)
(عَاشَ حِيناً يَبيعُ فِي الكُوفةِ المَاء
…
وَحيناً يَبيعُ ماءَ الْمحيا) // الْخَفِيف //
وَلَقَد أولع بعض شعراء عصره بهجوه حسداً لَهُ على فَضله وتمكنه من الْمُلُوك ومراعاة لتيهه وتكبره وَمِمَّنْ أفحش فِي ذَلِك ابْن حجاج فَقَالَ جَارِيا على عَادَته فِي السخف والمجون
(يَا ديمةَ الصَّفع صُبيٍّ
…
علَى قَفا المُتنبُّي)
(وَيَا قَفاهُ تَقدَّمْ
…
حَتَّى تَصيرَ بْجَنْبِي)
(وَأنتَ يَا ريحَ بَطنِي
…
عَلَى سباليه هبي) // المجتث //
وَيَقُول فِيهَا
(إِنْ كُنت أنتَ نَبياً
…
فَالقِرِدُ لَا شكَّ رَبيِّ)
وَقَالَ فِيهِ أَيْضا من قصيدة
(قل لي وطر طورك هذَا الّذي
…
فِي غَايةِ الحُسنِ شَوابيرهُ)
(مَا ضرهُ إِذْ جَاء فَصلُ الشِّتَا
…
لَوْ أنَّ شَعَرَ استي سموره) // السَّرِيع //
وَلَقَد كَانَ المتنبي من المكثرين من نقل اللُّغَة والمطلعين على غريبها وحوشيها وَلَا يسال عَن شَيْء إِلَّا وَيسْتَشْهد فِيهِ بِكَلَام الْعَرَب من النّظم والنثر حَتَّى قيل إِن الشَّيْخ أَبَا عَليّ الْفَارِسِي قَالَ لَهُ يَوْمًا كم لنا من الجموع على وزن فِعْلى فَقَالَ المتنبي فِي الْحَال حِجلى وظربي قَالَ الشَّيْخ أَبُو عَليّ فطالعت كتب اللُّغَة ثَلَاث لَيَال على أَن أجد لهذين الجمعين ثَالِثا فَلم أجد وحسبك من يَقُول أَبُو عَليّ فِي حَقه هَذِه الْمقَالة
وَقَالَ أَبُو الْفَتْح بن جني قَرَأت ديوَان المتنبي عَلَيْهِ فَلَمَّا بلغت إِلَى قَوْله فِي كافور الأخشيدي
(أَلَا لَيتَ شِعري هَلْ أقُولُ قَصيدةً
…
فَلَا أَشْتكي فِيها وَلَا أَتَعَتَّبُ)
(وَبيِ مَا يذُودُ الشِّعرَ عَنيِّ أقَلُّهُ
…
وَلكنَّ قَلبي يَا ابنةَ الْقَوْم قلب) // الطَّوِيل //
قلت لَهُ يعز عَليّ كَون هَذَا الشّعْر فِي غير سيف الدولة فَقَالَ حذرناه وأنذرناه فَمَا نفع أَلَسْت الْقَائِل فِيهِ
(أخَا الجُودِ أعطِ النَّاسَ مَا أنتَ مالِكٌ
…
وَلا تُعطينَّ النَّاسَ مَا أَنا قَائِله) // الطَّوِيل //
فَهُوَ الَّذِي أَعْطَانِي كافوراً بِسوء تَدْبيره وَقلة تَمْيِيزه
وَالنَّاس فِي شعره على طَبَقَات فَمنهمْ من يرجحه على أبي تَمام وَمن بعده وَمِنْهُم من يرجح أَبَا تَمام عَلَيْهِ ورزق فِي شعره السَّعَادَة واعتنى الْعلمَاء بديوانه
فشرحوه حَتَّى قيل إِنَّه وجد لَهُ مَا يزِيد على أَرْبَعِينَ شرحاً
وَمن شعره مِمَّا لَيْسَ فِي ديوانه بل رَوَاهُ الشَّيْخ تَاج الدّين الْكِنْدِيّ بِسَنَد صَحِيح مُتَّصِل بيتان وهما
(أَبِعَين مُفتقرٍ إِليكَ نَظَرْتَنِي
…
فَأهنتني وَقذَفتني مِنْ حاَلقِ)
(لَستَ الملُومَ أَنا الملُومُ لأنني
…
أنْزَلتُ آمَالي بِغَيْر الْخَالِق) // الْكَامِل //
وَلما قتل رثاه أَبُو الْقَاسِم المظفر بن عَليّ الطبسي بقوله
(لَا رعَى اللهُ سِربَ هَذا الزَّمان
…
إِذ دَهانَا فِي مِثلِ ذاكَ اللَّسانِ)
(مَا رَأى النَّاسُ ثانيَ المُتنبيّ
…
أَيُّ ثَانٍ يُرَى لبكْر الزّمانِ)
(كانَ مِنْ نَفسهِ الكَبيرة فِي جَيش
…
وَفي كِبرياءِ ذِي سُلطانِ)
(هُوَ فِي شِعرهِ نَبيٌّ ولكنْ
…
ظَهرتْ مُعجزاتهُ فِي الْمعَانِي) // الْخَفِيف //
ويحكى أَن الْمُعْتَمد بن عباد اللَّخْمِيّ صَاحب قرطبة وإشبيلية أنْشد يَوْمًا فِي مَجْلِسه بَيت المتنبي الَّذِي هُوَ من جملَة قصيدته الْمَشْهُورَة وَهُوَ
(إذَا ظَفَرْت مِنكَ العُيونُ بِنظرةٍ
…
أثَابَ بهَا مُعيي المَطيِّ ورارمه) // الطَّوِيل //
وَجعل يردده اسْتِحْسَانًا لَهُ وَفِي مَجْلِسه أَبُو مُحَمَّد عبد الْجَلِيل بن وهبون الأندلسي فَأَنْشد ارتجالاً
(لَئِن جَادَ شِعُر ابْن الحُسينِ فَإِنَّمَا
…
تُجيدُ العَطايَا واللُّها تَفتحُ اللَّهَا)
(تَنبأ عُجباً بالقَريض وَلَو درَى
…
بأنَّكَ تَروِي شِعرهُ لَتألَّهَا) // الطَّوِيل //
وَهَذَا مثل قديم قَالَه أَبُو سعيد الْقصار فِي جَعْفَر بن يحيى
(لابْنِ يَحيى مآثرٌ
…
بلغت بِي إِلَى السُّها)
(جادَ شِعرِي بجودهِ
…
واللُّها تَفتحُ اللها) // من مجزوء الْخَفِيف //
واللها بِالضَّمِّ العطايا وبالفتح جمع لهاة الْحلق
ورثاه أَيْضا مُحَمَّد بن عبد الله الْكَاتِب النصيبي بقصيدة يستجيش فِيهَا عضد الدولة على مدحضي قدمه ومريقي دَمه فَمِنْهَا
(قَرتْ عُيونُ الأَعادي يَومَ مَصرعهِ
…
وطالما سَخِنتْ فِيهِ مِنَ الْحَسَد) // الْبَسِيط //
وَمِنْهَا
(أبَا شُجاعٍ فتَى الهَيجا وَفَارسها
…
وَمُشترِي الشُّكر بالإِنفاقِ والصفَّدِ)
(هذي بنَو أسدٍ جَاءَت بُمؤيدةٍ
…
صَماء نائحة هَدَّت ذُرَى أحُد)
(سَطتْ عَلَى المتنبي مِنْ فوارسها
…
سبَعونَ جَاءَتْهُ فِي مَوْج من الزَّردِ)
(حَتَّى أَتَت وَهُوَ فِي أمنٍ وَفِي دعةٍ
…
يسيرُ فِي سِتَّة إِن تحص لم تزد)
(كَرَّتْ عَلَيْهِ سِراعاً غيرَ وانيةٍ
…
فَغادرته قرينَ التُّرب والثَّأْدِ)
(من بعد مَا أعملت فيهم أسنَّتهُ
طَعنا يُفرق بَين الرَّوحِ والجسدِ)
(فَاطْلبْ بثأر فَتى مَا زِلتَ تَعضُدُهُ
…
لله دَركَ منْ كَهفٍ وَمِنْ عَضُدِ)
(أزْكِ العُيون عَليهم أيَّةً سَلكوا
…
وضَيَّقِ الأرضَ والأقْطارَ بالرَّصدِ)
(شَردْهمُ بجُيوش لَا قَوامَ لَهَا
…
تَأتِي عَلى سَبدِ الأَقوامِ واللبد) // الْبَسِيط //
ورثاه أَيْضا ثَابت بن هَارُون الرقي النَّصْرَانِي بقصيدة يستشير فِيهَا عضد الدولة على فاتك وَبني أَسد يَقُول فِي أَولهَا
(الدهرُ أنْكى واللَّيالي أنْكَدُ
…
مِنْ أَنْ تعيشَ لأهلهَا يَا أحمَدُ)
(قصَدَتْكَ لمَّا أَن رأتْكَ نَفيسها
…
بُخْلاً بمثلكَ والنَّفائَسُ تُقصدُ)
(ذُقْتَ الكرِيهة بَغْتَةً وفقَدْتَها
…
وكريهُ فقدِكَ فِي الوَرى لَا يفقدُ)
(قلْ لي إِن اسطعْتَ الْجَواب فإِنني
…
صبُّ الفؤادِ إِلَى خطابِكَ مكمد) // الْكَامِل //
وَمِنْهَا
(أَتركْتَ بعدكَ شَاعِرًا وَالله لَا
…
لمْ يَبقَ بَعدَك فِي الزَّمانِ مُقصَّدُ)
(أَمَّا العُلومُ فإِنَّها يَا رَبَّهَا
…
تَبكي عليكَ بأدَمُعٍ لَا تَجمُدُ)
(يَا أَيُّها الملكُ المؤيَّدُ دعْوَةً
…
مِمَّن حَشاهُ بالأسى يتوقَّدُ)
(هذِي بَنو أَسد بضيفِكَ أوقعَتْ
…
وحَوَتْ عطاءك إذَّ حَوَاهُ الفرقَدُ)
(وَلهُ عليكَ بقصدِهِ يَا ذَا العُلَا
…
حَقّ التحرَّمِ والذَّمامُ الأوكَدُ)
(فارع الذِّمامَ وكُنْ لضيفِكَ طالِباً
…
إِنَّ الذّمامَ على الكرِيم مُؤبَّدُ) وأخبار المتنبي وَمَا جرى لَهُ كَثِيرَة وَسَيَأْتِي طرف مِنْهَا وَمن شعره فِي أثْنَاء هَذَا الْكتاب
5 -
(وقَبْر حَرْبٍ بِمكَانٍ قَفْرِ
…
ولَيْس قُرْبَ قبر حَرْب قبر)
الْبَيْت من الرجز وَلَا يعرف قَائِله وَيُقَال أَنه من شعر الْجِنّ قَالُوهُ فِي حَرْب بن أُميَّة بن عبد شمس لما قَتَلُوهُ بثأر حيةٍ مِنْهُم قَتلهَا القفل الَّذِي كَانَ فِيهِ وَدفن ببادية بعيدَة وَكَانَ حربٌ الْمَذْكُور مصافياً لمرداس السّلمِيّ أبي الْعَبَّاس الصَّحَابِيّ فَقَتَلَهُمَا الْجِنّ جَمِيعًا وَهَذَا شَيْء قد ذكرته الروَاة فِي أَخْبَارهَا وَالْعرب فِي أشعارها
ذكر أَبُو عُبَيْدَة وَأَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ أَن حَرْب بن أُميَّة لما انْصَرف من حَرْب عكاظ هُوَ وإخواته مر بالقرية وَهِي إِذْ ذَاك غيضة شجر ملتف لَا يرام فَقَالَ لَهُ مرداس بن أبي عَامر أما ترى هَذَا الْموضع قَالَ بلَى فَمَا لَهُ قَالَ نعم المزدرع هُوَ فَهَل لَك أَن تكون شَرِيكي فِيهِ ونحرق هَذِه الغيضة ثمَّ نزرعه بعد ذَلِك قَالَ نعم فأضرما النَّار فِي الغيضة فَلَمَّا استطارت وَعلا لهبها سمع من الغيضة أنينٌ وضجيج كثير ثمَّ ظَهرت مِنْهَا حياتٌ بيض تطير حَتَّى قطعتها وَخرجت مِنْهَا فَقَالَ مرداس فِي ذَلِك
(إِنِّي انْتَخَبْتُ لَهَا حَرْباً وإِخوَتَهُ
…
إنِّي بحبلٍ وَثيقِ العْهَدْ دسَّاسُ)
(إِنِّي أُقوِّمُ قبل الأَمرِ حُجَّتَهُ
…
كَيما يُقَال وَلِيّ الْأَمر مرداس) // الْبَسِيط //
قَالَ فَسَمِعُوا هاتفاً يَقُول لما احترقت الغيضة
(وَيلٌ لحرْبٍ فارِسَا
…
مُطاعِناً مُخالسَا)
(وَيلٌ لحرْبٍ فارِسَا
…
إِذْ لبِسُوا القوانسَا)
(لنَقْتُلَنْ بقَتلهِ
…
جَحاجِحاً عنَابِسَا) // من مجزوء الرجز //
وَلم يلبث حَرْب ابْن أُميَّة ومرداس أَن مَاتَا فَأَما مرداس فَدفن بالقرية ثمَّ ادَّعَاهَا بعد ذَلِك كُلَيْب بن عَمْرو السّلمِيّ ثمَّ الظفري فَقَالَ فِي ذَلِك عَبَّاس بن مرداس
(أكُلَيبُ مَالك كلَّ يومٍ ظَالماً
…
وَالظُّلمُ أنكدُ وَجْههُ ملعُونُ)
(عجبا لقوْمِكَ يَحسبونك سيِّداً
…
وَإِخالُ أَنَّك سيِّد مغيُونُ)
(فإِذا رَجعتَ إِلَى نسائكَ فادَّهنْ
…
إِنَّ المسالمَ رَأسُه مَدهونُ)
(وَافعلْ بِقومكَ مَا أَرَادَ بوائلٍ
…
يومَ الغَدير سَميُّكَ المطعونُ)
(وَإِخالُ أَنَّك سَوف تلقى مثلهَا
…
فِي جانِبيكَ سنانها المسنونُ)
(إنَّ القرَّيةَ قد تبيَّنَ أَمرُهَا
…
إنْ كَانَ ينفعُ عنْدك التبْيِينُ)
(حِينَ انْطَلَقت تخطها ظَالماً
…
وَأبو يَزيدَ بجوها مدفون) // الْكَامِل //
وَقد روى الْبَيْت بِلَفْظ
(ومَا بقُربِ قبر حَرْب قبر
…
)
وَيُقَال إِنَّه لَا يتهيأ لأحد أَن ينشده ثَلَاث مَرَّات مُتَوَالِيَات فَلَا يتتعتع
وَقرب وَقع خَبرا لليس وَكَانَ من حَقه أَن يَقُول قرب قَبره فَأتي بِالظَّاهِرِ مَوضِع الْمُضمر ليدل على لُزُوم التوجع
وَالشَّاهِد فِيهِ التنافر لما فِي هَذِه الْأَلْفَاظ من ثقل النُّطْق بهَا وَلذَلِك هرب أَرْبَاب الفصاحة من اللَّفْظَيْنِ المتقاربين إِلَى الْإِدْغَام لانتقال اللِّسَان فِيهِ إِلَيْهِمَا انتقالةً وَاحِدَة وشبهوا النُّطْق بالمتقاربين بمشي الْمُقَيد
6 -
(كَرِيمٌ مَتّى أمْدَحْهُ أمْدَحْهُ والوَرَى
…
)
قَائِله أَبُو تَمام الطَّائِي وَتَمَامه
(مَعِي وَإذَا مَا لمتهُ لمُتهُ وَحدِي
…
)
وَهُوَ من قصيدة من الطَّوِيل يمدح بهَا أَبَا الْغَيْث مُوسَى بن إِبْرَاهِيم وَيعْتَذر إِلَيْهِ وأولها
(شهدتُ لقد أقْوتْ مَعالمكم بَعدِي
…
ومَحْت كَمَا مَحتْ وشائعُ مِنْ بُرد)
(وأنجدتُمُ من بعد إتهام داركم
…
فيا دمع أنجدني على سَاكِني نجدِ)
(لعمري لقد أخلقتمُ جِدّةَ البكا
…
بكاءَ وجَدَّدتم عليّ بِلَى الْوجدِ) إِلَى أَن قَالَ فِي مديحها
(أَتانِي مَعَ الركْبَان ظن ظننته
…
نَكسْتُ لهُ رَأْسِي حَياءَ من المجدِ)
(لَقد نكب الْغدرُ الْوَفَاء بساحتي
…
إِذا وَسرحتُ الذَمَّ فِي مَسرح الحْمدِ)
(وَهتَّكْتُ بالقولِ الخَنا حُرمةَ العلَا
…
وأسْلكت حُرَّ الشِّعر فِي مسلكِ الْبعد)
(نسيت إِذا كم من يَد لَك شاكلت
…
يدَ الْقرب أعدت مستهاما على الْبعد)
(وَمنْ زَمنٍ ألْبستنيهِ كأنهُ
…
إِذا ذُكرتْ أيَّامه زمنُ الوردِ)
(وَإنكَ أحكمتَ الَّذِي بينَ فِكرتِي
…
وبَينَ القوافِي منْ ذِمامِ ومنْ عَهْدِ)
(وأصْلتَّ شِعرِي فَاعتلى رَونقَ الضُّحى
…
ولولاكَ لم يَظهرْ زَماناً من الغِمدِ)
(وَكيفَ وَمَا أخْللتُ بَعدَك بالحِجا
…
وَأنتَ فَلم تُخلِلْ بِمكرمةٍ بعدِي)
(أسَرْبِلُ هُجرَ القولِ مَنْ لوْ هَجوتهُ
…
إِذاً لهجانِي عنهُ مَعروفهُ عِندِي)
وَبعده الْبَيْت وَبعده
(ولوْ لم يَزعنِي عنَكَ غَيركَ وَازعٌ
…
لأعديتنِي بالحِلم إنَّ العُلا تُعدِي)
وَمعنى الْبَيْت هُوَ كريم إِذا مدحته وَافقنِي النَّاس على مدحه فيمدحونه لإسداء إحسانه إِلَيْهِم كإشسدائه إِلَيّ وَلَا أمدحه بِشَيْء إِلَّا صدقني النَّاس فِيهِ أَو أَن النَّاس وافقوني على وجود مَا يُوجب الْمَدْح للْإنْسَان من صِفَات الْكَمَال فِيهِ وَإِذا لمته لَا يوافقني أحد على لومه لعدم وجود الْمُقْتَضِي لَهُ فِيهِ
وَفِي مَعْنَاهُ قَول الآخر
(وَإذَا شكوتك لم أجد لي مُسعداً
…
وَرُمِيتُ فِيمَا قُلتُ بالبهتان) // الْكَامِل //
وَقد نَاقض هَذَا الْمَعْنى ابْن أبي طَاهِر بقوله
(يَشركُنيِ الْعَالم فِي ذَمِّهِ
…
لَكننِي أمدحُهُ وحدي) // السَّرِيع //
وطاهر العتابي الْمَعْرُوف بالمعتمد الْبَغْدَادِيّ بقوله
(مَدحتهمُ وَحدِي فلمَّا هَجوتهمْ
…
هَجوتهمُ والنَّاسُ كلهم معي) // الطَّوِيل //
وَالشَّاهِد فِيهِ التنافر أَيْضا لما فِي قَوْله أمدحه من الثّقل لقرب مخرج الْحَاء من مخرج الْهَاء لِأَن المخارج كلما قربت كَانَت الْأَلْفَاظ مكدودة قلقة غير مُسْتَقِرَّة فِي أماكنها وَإِذا بَعدت كَانَت بعكس الأول وَلِهَذَا لم يُوجد فِي كَلَام الْعَرَب الْعين مَعَ الْغَيْن وَلَا مَعَ الْحَاء وَلَا مَعَ الْخَاء وَلَا الطَّاء مَعَ التَّاء حذرا مِمَّا مر وَأَيْضًا فِيهِ ثقل من جِهَة التّكْرَار فِي أمدحه ولمته
وَمن قَبِيح التّكْرَار قَول الشَّاعِر
(وأزورَّ مَنْ كَانَ لهُ زَائِرًا
…
وعاف عافي العُرْفِ عرْفانهُ) // السَّرِيع //
وَأَبُو تَمام اسْمه حبيب بن أَوْس بن الْحَرْث بن قيس بن الْأَشَج بن يحيى ابْن مَرْوَان يَنْتَهِي إِلَى طَيء قَالَ أَبُو الْقَاسِم الْحسن بن بشر الْآمِدِيّ وَالَّذِي عِنْد أَكثر النَّاس فِي نسب أبي تَمام أَن أَبَاهُ كَانَ نَصْرَانِيّا من أهل جاسم قَرْيَة من قرى الجيدور من أَعمال دمشق يُقَال لَهُ تدوس الْعَطَّار فجعلوه أَوْسًا وَولد أَبُو تَمام بالقرية الْمَذْكُورَة سنة تسعين وَقيل سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَقيل سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَنَشَأ بِمصْر وَقيل إِنَّه كَانَ يسْقِي المَاء بالجرة فِي جَامع مصر وَقيل كَانَ يخْدم حائكاً وَيعْمل عِنْده ثمَّ اشْتغل وتنقل إِلَى أَن صَار وَاحِد عصره فِي ديباجة لَفظه وفصاحة شعره وَحسن أسلوبه وَكَانَ لَهُ من المحفوظات مَا لَا يلْحقهُ فِيهِ غَيره حَتَّى قيل إِنَّه كَانَ يحفظ أَرْبَعَة عشر ألف أرجوزة للْعَرَب غير المقاطيع والقصائد وَله كتاب الحماسة الَّذِي دلّ على غزارة فَضله وإتقان مَعْرفَته وَحسن اخْتِيَاره وَله مَجْمُوع آخر سَمَّاهُ فحول الشُّعَرَاء جمع فِيهِ طَائِفَة كَثِيرَة من شعراء الْجَاهِلِيَّة والمخضرمين والإسلاميين وَله كتاب الاختيارات من شعر الشُّعَرَاء ومدح الْخُلَفَاء وَأخذ جوائزهم
وَكَانَ فِي لِسَانه حبسة وَفِي ذَلِك يَقُول ابْن المعذل أَو أَبُو العميثل
(يَا نبيَّ الله فِي الشِّعرِ ويَا عِيسَى ابْن مريَمْ
…
)
(أنْتَ من أشعرِ خلْقِ الله مَا لم تَتَكَلَّم
…
) // من مجزوء الرمل //
وَهَذَا نوع من البديع يُسمى الهجاء فِي معرض الْمَدْح وَمن مليح مَا جَاءَ فِيهِ قَول ابْن سناء الْملك فِي قواد
(لي صاحبٌ أفْديه من صاحبٍ
…
حُلْو التّأتِّي حسنِ الاحتيَالِ)
(لَو شاءَ منْ رقةِ ألفاظهِ
…
ألَّفَ مَا بَين الهدَى والضلالِ)
(يكْفيكَ منهُ أنَّه ربُما
…
قادَ إِلَى المهجورِ طيْفَ الخيال) // السَّرِيع //
وَمِنْه قَول ابْن أبي الإصبع يهجو فَقِيها ذَا ابْنة
(ابنُ فُلَانِ أكرمُ النَّاس لَا
…
يَمنعُ ذَا الحاجةِ منْ فلْسهِ)
(وَهوَ فقيهٌٌ ذُو اجتهادٍ وقدْ
…
نَصَّ على التَّقليدِ فِي دَرسهِ)
(يستحسنُ البحْثَ على وَجههِ
…
ويوجبُ الفِعلَ على نَفسه) // السَّرِيع //
ووفد أَبُو تَمام إِلَى الْبَصْرَة وَبهَا عبد الصَّمد بن المعذل الشَّاعِر فَلَمَّا سمع بوصوله وَكَانَ فِي جمَاعَة من أَتْبَاعه وغلمانه خَافَ من قدومه أَن يمِيل النَّاس إِلَيْهِ ويعرضوا عَنهُ فَكتب إِلَيْهِ قبل دُخُوله الْبَلَد
(أَنْت بَين اثْنَتَيْنِ تبرز للنَّاس
…
وتلقاهُم بوجهٍ مُذالِ)
(لَستَ تنفكُّ راجياً لوصَالِ
…
منْ حَبيبٍ أَو رَاغِبًا فِي نَوال)
(أيُّ ماءٍ يَبْقَى لوَجهكَ هذَا
…
بَعدَ ذلِّ الهوَى وذل السُّؤَال) // الْخَفِيف //
فَلَمَّا وقف على الأبيات أعرض عَن مقْصده وَرجع وَقَالَ قد شغل هَذَا مَا يَلِيهِ فَلَا حَاجَة لنا فِيهِ
وَقد تبعه الْأَمِير مجير الدّين بن تَمِيم بقوله
(أَنْت بَين اثْنَتَيْنِ يَا نجل يَعْقُوب
…
وكِلتاهمَا مَقرُّ السِّيادهْ)
(لَستَ تنفكُّ رَاكِبًا أيْرَ عَبدٍ
…
مُسبطِرّاً أَو حَامِلا خُفَّ غادهْ)
(أيُّ ماءٍ لحرِّ وَجهَكَ يَبقى
…
بَينَ ذلِّ البغَا وذل القيادة) // الْخَفِيف //
وَلما أنْشد أَبُو تَمام أَبَا دلف الْعجلِيّ قصيدته البائية الَّتِي أَولهَا
(على مثلهَا من أَربع وملاعب
…
أُذِيلتْ مَصونْاتُ الدُّموع السواكب) // الطَّوِيل //
استحسنها وَأَعْطَاهُ خمسين ألف دِرْهَم وَقَالَ وَالله إِنَّهَا لدوّنَ شعرك ثمَّ قَالَ وَالله مَا مثل هَذَا القَوْل فِي الْحسن إِلَّا مَا رثيت بِهِ مُحَمَّد بن حميد الطوسي فَقَالَ أَبُو تَمام وَأي ذَلِك أَرَادَ الْأَمِير قَالَ قصيدتك الرائية الَّتِي أَولهَا
(كَذَا فليجل الْخطب وليفدح الْأَمر
…
وَلَيْسَ لعين لم يفض مَاؤُهَا عذر) // الطَّوِيل //
وددت وَالله أَنَّهَا لَك فيَّ فَقَالَ بل أفدي الْأَمِير بنفسي وَأَهلي وأكون الْمُقدم قبله فَقَالَ إِنَّه لم يمت من رثي بِهَذَا الشّعْر
وَحدث الرياشي قَالَ كَانَ خَالِد الْكَاتِب مغرماً بالغلمان المرد ينْفق عَلَيْهِم كل مَا يُفِيد فهوى غُلَاما يُقَال لَهُ عبد الله وَكَانَ أَبُو تَمام الطَّائِي يهواه أَيْضا فَقَالَ فِيهِ خَالِد
(قَضيبُ بَان جنَاهُ وَرْدُ
…
يحملهُ وَجْنةٌ وَخَدُّ)
(أثْنِ طرْفِي إلَيهِ إِلَاّ
…
مَاتَ عَزَاءٌ وَعاشَ وَجْدُ)
(مُلِّكَ طوْعَ النفوسِ حَتَّى
…
عَلمه الزَّهوَ حِين يَبْدو)
(فَاجْتمع الصدُّ فِيه حَتَّى
…
لَيْسَ لخلقٍ سواهُ صد) // من مخلع الْبَسِيط //
وَبلغ أَبَا تَمام ذَلِك فَقَالَ فِيهِ أبياتاً مِنْهَا قَوْله
(شعرُك هَذَا كُله مُفْرِطٌ
…
فِي بَردِهِ يَا خالدُ البارِدُ) // السَّرِيع //
فعلقها الصّبيان وَلم يزَالُوا يصيحون بِهِ يَا خَالِد يَا بَارِد حَتَّى وسوس وَقد هجا أَبَا تَمام فِي هَذِه الْقِصَّة فَقَالَ فِيهِ
(يَا معشر المرْدِ إِنِّي ناصحٌ لَكُم
…
والمرءُ فِي القَوْل بَين الصدْق وَالْكذب)
(لَا ينكحنَّ حبيباً مِنْكُم أحدٌ
…
فدَاء وَجْعائِهِ أعدى من الجَرَبِ)
(لَا تأمَنوا أَن تحولوا بعدَ ثالثةٍ
…
فتركبوا عمُداً لَيستْ من الخَشبِ) // الْبَسِيط //
وَلما قصد أَبُو تَمام عبد الله بن طَاهِر بخراسان وامتدحه بالقصيدة الَّتِي أَولهَا
(أهُنَّ عوادي يُوسُف وصواحبه
…
) // الطَّوِيل //
أنكر عَلَيْهِ أَبُو العميثل وَقَالَ لَهُ لم لَا تَقول مَا يفهم فَقَالَ لَهُ لم لَا تفهم مَا يُقَال فَاسْتحْسن مِنْهُ هَذَا الْجَواب على البديهة
وَذكر الصولي أَنه امتدح أَحْمد بن المعتصم أَو ابْن الْمَأْمُون بقصيدة سينية فَلَمَّا انْتهى إِلَى قَوْله فِيهَا
(إقدام عمر وَفِي سماحةِ حاتمٍ
…
فِي حِلم أحنْفَ فِي ذكاء إِيَاس) // الْكَامِل //
قَالَ لَهُ الْكِنْدِيّ الفيلسوف وَكَانَ حَاضرا الْأَمِير فَوق مَا وصفت فَأَطْرَقَ قَلِيلا ثمَّ رفع رَأسه وَأنْشد
(لَا تنُكروا ضربي لَهُ مَنْ دونه
…
مَثلا شَروداً فِي الندى وَالباسِ)
(فاللُه قد ضَرب الأقَلَّ لنوره
…
مثلا مِنَ الْمِشكاةِ والنِّبراسِ)
فعجبوا من سرعَة فطنته
وَمَا ذكر من أَنه أنْشد القصيدة للخليفة وَأَن الْوَزير قَالَ أَي شَيْء طلبه فأعطه فَإِنَّهُ لَا يعِيش أَكثر من أَرْبَعِينَ يَوْمًا لِأَنَّهُ قد ظهر فِي عَيْنَيْهِ الدَّم من
1 -
2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 رَأى أسَدَ العَرينِ فَهالهُ
…
حتىَّ إِذا وَلىَّ تولىَّ يَنهقُ)
(هَيْهاتَ غالك أَن تَنالَ مآثِرِي
…
إِسْتٌ بهَا سَعةٌ وَباعٌ ضَيِّقُ)
(قُلْ مَا بدا لَكَ يَا ابْنَ برما فالصَّدَى
…
بمهذب العقيان لَا يَتعلَّقُ)
(أنعشتَ حتىَّ عبْتَهُمْ قُلْ لي متىَ
…
فَرْزنْتَ سُرْعة مَا أرى يَا بَيْدق)
(إياكَ يَعنِي الْقائِلوُنَ بِقولهمْ
…
إِنَّ الشَّقِي بِكلِّ حَبْلٍ يخنْقُ)
(فلتعْلمنَّ حَريمَ مَنْ وَإهَابَ مَنْ
…
وَقَديمَ مَنْ وَحَدِيثَ مَنْ يَتَمزَّقُ) // الْكَامِل //
وَقَوله من قصيدة أُخْرَى
(أَعوامُ وَصل كادَ يُنسِي طيبَهَا
…
ذِكرُ النَّوَى فَكَأَنَّهَا أيامُ)
(ثُمَّ انبَرَتْ أيامُ هَجرٍ أردفَتْ
…
نَحوي أسىً فَكَأَنَّهَا أَعوامُ)
(ثمَّ انقضتْ تِلكَ السِّنونَ وَأهلهُا
…
فَكَأَنَّهَا وَكَأَنَّهُم احلام) // الْكَامِل //
وَقد اختصر معنى هَذِه الأبيات المتنبي فِي قَوْله
(قصُرَتْ مدةُ اللَّيَالِي المواضي
…
فأطَالتْ بهَا اللَّيَالِي الْبَوَاقِي) // الْخَفِيف //
وَلابْن الفارض رحمه الله هَذَا الْمَعْنى بِعَيْنِه مَعَ الِاخْتِصَار المعجز وَهُوَ
(أعوامُ إقباله كَالْيَوْمِ فِي قِصَر
…
ويومُ إعراضِه فِي الطول كالحجج) // الْبَسِيط //
وديوان نظمه مَشْهُور وَقد نثرت من لآلئه فِي أثْنَاء هَذَا الْمُؤلف مَا فِيهِ غنى إِن شَاءَ الله تَعَالَى
7 -
(وَمَا مثله فِي النَّاسِ إِلَاّ مُملَّكاً
…
أُبُو أُمَّهِ حَيٌّ أَبُوهُ يُقارِبُهْ) الْبَيْت للفرزدق من قصيدة من الطَّوِيل يمدح بهَا إِبْرَاهِيم بن هِشَام بن إِسْمَاعِيل المَخْزُومِي خَال هِشَام بن عبد الْملك بن مَرْوَان
وَالشَّاهِد فِيهِ التعقيد وَهُوَ أَن لَا يكون الْكَلَام ظَاهر الدّلَالَة على المُرَاد
إِمَّا لخلل فِي نظم الْكَلَام فَلَا يتَوَصَّل مِنْهُ إِلَى مَعْنَاهُ أَو لانتقال الذِّهْن من الْمَعْنى الأول إِلَى الْمَعْنى الثَّانِي الَّذِي هُوَ لَازمه وَالْمرَاد بِهِ ظَاهرا وَالْأول هُوَ الشَّاهِد فِي الْبَيْت
وَالْمعْنَى فِيهِ وَمَا مثله يَعْنِي الممدوح فِي النَّاس حيٌّ يُقَارِبه أَي أحد يُشبههُ فِي الْفَضَائِل إِلَّا مملكاً يَعْنِي هشاماً أَبُو أمه أَي أَبُو أم هِشَام أَبوهُ أَي أَبُو الممدوح فَالضَّمِير فِي أمه للمملك وَفِي أَبوهُ للممدوح ففصل بَين أَبُو أمه وَهُوَ مُبْتَدأ وَأَبوهُ وَهُوَ خَبره بأجنبي وَهُوَ حيٌّ وَكَذَا فصل بَين حَيّ ويقاربه وَهُوَ نَعته بأجنبي وَهُوَ أَبوهُ وَقدم المستثني على الْمُسْتَثْنى مِنْهُ فَهُوَ كَمَا ترَاهُ فِي غَايَة التعقيد وَكَانَ من حق النَّاظِم أَن يَقُول وَمَا مثله فِي النَّاس أحد يُقَارِبه إِلَّا مملك أَبُو أمه أَبوهُ
وَمن التعقيد قَول الفرزدق أَيْضا
(إِلى مَلكِ مَا أمه من محَارب
…
أبُوه وَلا كانَتْ كُلَيْب تصاهره) // الطَّوِيل //
أَي إِلَى ملك أَبوهُ مَا أمه من محَارب أَي مَا أمه مِنْهُم
وَمثله قَول الشَّاعِر
(فَمَا من فَتى كُنا مِن النَّاسِ وَاحداً
…
بهِ نَبتغي مِنْهُم عديلا نبادله) // الطَّوِيل //
أَي فَمَا من فَتى من النَّاس كُنَّا نبتغي وَاحِدًا مِنْهُم عديلا نبادله بِهِ
وَقَول الآخر
(وَمَا كنت أخْشَى الدَّهرَ إحلاس مُسلماً
…
من النَّاس دينا جَاءهُ وَهُوَ مُسلم) // الطَّوِيل //
أَي وَمَا كنت أخْشَى الدَّهْر إحلاس مُسلم مُسلما من النَّاس دينا جَاءَهُ وَهُوَ أَي جاآه مَعًا
وَمثله قَول أبي تَمام
(كاثْنينِ فِي كَبدِ السماءِ وَلم يَكنْ
…
كاثْنينِ ثانٍ إِذْ همَا فِي الغَارِ) // الْكَامِل //
والفرزدق رحمه الله اسْمه همام بن غَالب بن صعصعة التَّمِيمِي أَبُو فراس صَاحب جرير وَكَانَ أَبوهُ غالبٌ من جلة قومه وَمن سراتهم وكنيته أَبُو الأخطل لولد كَانَ لَهُ اسْمه الأخطل وَهُوَ شَاعِر أَيْضا وَوهم بَعضهم فِيهِ فَظَنهُ الأخطل التغلبي النَّصْرَانِي وَجعله أَخا للفرزدق وَهَذَا من أعجب الْعجب إِذْ الفرزدق مُسلم وَأَبوهُ وجده صعصعة صَحَابِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَكيف يتَصَوَّر أَن يكون الأخطل النَّصْرَانِي أَخا لَهُ وصعصعة رضي الله عنه لَهُ صُحْبَة لكنه لم يُهَاجر وَهُوَ الَّذِي أَحْيَا الوئيدة وَبِه افتخر الفرزدق فِي قَوْله
(وجَدِّي الَّذِي مَنعَ الوَائدات
…
فأحيا الوئيدَ فَلم توأد) // المتقارب //
قيل إِنَّه رضي الله عنه أَحْيَا ألف موءودة وَحمل على ألف فرس
وَأم الفرزدق ليلى بنت حَابِس أُخْت الْأَقْرَع بن حَابِس رضي الله عنه
روى الفرزدق رحمه الله عَن عَليّ بن أبي طَالب وَأبي هُرَيْرَة وَالْحُسَيْن
وَابْن عمر وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم أَجْمَعِينَ
ووفد على الْوَلِيد وَسليمَان ابْني عبد الْملك ومدحهما قَالَ ابْن النجار وَلم أر لَهُ وفادة على عبد الْملك بن مَرْوَان وَقَالَ الْكَلْبِيّ رضي الله عنه وَفد على مُعَاوِيَة وَلم يَصح روى مُعَاوِيَة بن عبد الْكَرِيم عَن أَبِيه قَالَ دخلت على الفرزدق فَتحَرك فَإِذا فِي رجلَيْهِ قيد قلت مَا هَذَا يَا أَبَا فراس قَالَ حَلَفت أَن لَا أخرجه من رجْلي حَتَّى أحفظ الْقُرْآن وَكَانَ كثير التَّعْظِيم لقبر أَبِيه فَمَا جَاءَهُ أحد واستجار بِهِ إِلَّا قَامَ مَعَه وساعده على بُلُوغ عرضه
وَقد اخْتلفت أهل الْمعرفَة بالشعر فِيهِ وَفِي جرير فِي المفاضلة بَينهمَا وَالْأَكْثَرُونَ على أَن جَرِيرًا أشعر مِنْهُ وَقد أنصف الْأَصْفَهَانِي فَقَالَ أما من كَانَ يمِيل إِلَى جودة الشّعْر وفخامته وَشدَّة أسره فَيقدم الفرزدق وَأما من كَانَ يمِيل إِلَى أشعار المطبوعين وإِلى الْكَلَام السَّمْح الْغَزل فَيقدم جَرِيرًا
وَكَانَ جرير قد هجا الفرزدق بقصيدة مِنْهَا
(وكنتُ إذَا نَزَلت بدار قوم
…
رحَلْتَ بخَزْيةٍ وتَركتَ عارا) // الوافر //
فاتفق أَن الفرزدق بعد ذَلِك نزل بِامْرَأَة من أهل الْمَدِينَة وَجرى لَهُ مَعهَا قصَّة يطول شرحها وَمُلَخَّص الْأَمر أَنه راودها عَن نَفسهَا بعد أَن كَانَت أضافته وأحسنت إِلَيْهِ فامتنعت عَلَيْهِ وَبلغ الْخَبَر عمر بن عبد الْعَزِيز رحمه الله وَهُوَ يَوْمئِذٍ وَالِي الْمَدِينَة المنورة فَأمر بِإِخْرَاجِهِ مِنْهَا فأركب على نَاقَة لينفى فَقَالَ قَاتل الله ابْن المراغة يَعْنِي جَرِيرًا كَأَنَّهُ شَاهد هَذَا الْحَال حِين قَالَ وَذكر الْبَيْت السَّابِق
وَمن شعره لما كَانَ فِي الْمَدِينَة المنورة
(هُمَا دلَّتاني مِنْ ثَمَانِينَ قامةً
…
كَمَا انْقَضَّ بازٍ أَقتم الرَّيش كاسرُه)
(فَلَمَّا استَوتِ رِجلايَ فِي الأَرْض قَالَتَا
…
أحَيٌّ يُرجَّى أم قتيلٌ نحاذره)
(فَقُلتُ ارْفَعُوا الأسبْابَ لَا يَشعُروا بِنَا
…
وأَقْبلتُ فِي أعجاز ليلٍ أبادرُه)
(أحَاذر بوَّابَيْنِ قد وكِّلَا بِنا
…
وأسْوَدَ مِن ساجِ تَصر مسامره) // الطَّوِيل //
فَقَالَ جرير لما بلغه ذَلِك
(لقَد وَلدَتْ أمُّ الفرزدق فاجِراً
…
فجاءَتْ بوَزْوَازٍ قصير القوادمِ)
(يُوصِّلُ حِبْلَيِهِ إِذا جَنَّ ليلُهُ
…
ليرْقى إِلَى جارَاته بِالسلَالمِ)
(تدلَّيتَ تَزْنِي مِن ثمانينَ قامةً
…
وقصَّرْت عَن باعِ العُلا وَالمكارمِ)
(هُو الرِّجس ُيا أهلَ الْمَدِينَة فاحذرُوا
…
مدَاخِل رِجْس بالخبيثات عالمِ)
(لقدْ كانَ إِخراجُ الفَرْزدق عنكمُ
…
طَهُوراً لما بَين الْمصلى وواقم) // الطَّوِيل //
فَأجَاب الفرزدق عَنْهَا بقصيدة طَوِيلَة مِنْهَا
(وَإِنَّ حَرَامًا أَن أسبَّ مقاعساً
…
بآبائيَ الشُّم الكِرام الخَضارمِ)
(وَلكنَّ نصفا لَو سببْتُ وسبَّني
…
بنُو عبدِ شمسٍ من منافٍ وَهاشمِ)
(أُولَئِكَ آبَائِي فَجِئنِي بِمِثْلِهمْ
…
وأعتدُّ أَن أهجو كليبا بدارم) // الطَّوِيل //
وَلما سمع أهل الْمَدِينَة أَبْيَات الفرزدق الأول جاؤا إِلَى مَرْوَان بن الحكم وَهُوَ وَالِي الْمَدِينَة من قبل مُعَاوِيَة فَقَالُوا مَا يصلح هَذَا الشّعْر بَين أَزوَاج رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَقد أوجب على نَفسه الْحَد فَقَالَ مَرْوَان لست أحده وَلَكِن أكتب إِلَى من يجده وَأمره بِأَن يخرج من الْمَدِينَة وأجله ثَلَاثَة أَيَّام لذَلِك فَقَالَ الفرزدق
(توعدَّنِي وأجَّلني ثَلَاثًا
…
كَمَا وُعِدَتْ لمُهلكِهَا ثَمُود) // الوافر //
ثمَّ كتب مَرْوَان إِلَى عَامله كتابا يَأْمُرهُ أَن يحده ويسجنه وأوهمه أَنه كتب لَهُ بجائزة ثمَّ نَدم مَرْوَان على مَا فعل فَوجه سفيراً وَقَالَ للفرزدق إِنِّي قد قلت شعرًا فاسمعه
(قُلْ للفرزدق والسَّفَاهةُ كاسْمهَا
…
إِن كُنتَ تَاركَ مَا أمرْتك فاجلس)
(وَدَعِ المدينةَ إنهَّا مَرهوبة
…
واقصدْ لِمكَّةَ أوْ لبيتِ الْمُقَدّس)
(وَإِن اجْتنبت من الأمورِ عَظيمةً
…
فَخذنْ لِنفسك بالعظيم الأكيس) // الْكَامِل //
فَلَمَّا وقف الفرزدق عَلَيْهَا فطن لما أَرَادَ مَرْوَان فَرمى الصَّحِيفَة وَقَالَ
(يَا مَرْوُ إنَّ مَطيَتيِ مَحبوسَةٌ
…
تَرجوُ الحِباءَ وَرَبُّها لم يَيأسِ)
(وَحبوتنِي بِصحيفةٍ مَخْتُومةٍ
…
يُخشى عليّ بهَا حِباءُ النُّقْرِسِ)
(ألقِِ الصَّحيفةَ يَا فَرزدقُ لَا تكنْ
…
نكدَاءَ مِثلَ صَحيفةِ المُتلمَسِ)
وأتى سعيد بن الْعَاصِ الْأمَوِي وَعِنْده الْحسن وَالْحُسَيْن وَعبد الله تَعَالَى بن جَعْفَر رضي الله عنهم فَأخْبرهُم الْخَبَر فَأمر لَهُ كل وَاحِد بِمِائَة دِينَار وراحلة وَتوجه إِلَى الْبَصْرَة فَقيل لمروان أَخْطَأت فِيمَا فعلت فَإنَّك عرضت عرضك
لشاعر مُضر فَوجه إِلَيْهِ رَسُولا وَمَعَهُ مائَة دِينَار وأرحله خوفًا من هجائه
وَنزل يَوْمًا فِي بني منقر والحي خلوف فَجَاءَت أَفْعَى فَدخلت مَعَ جَارِيَة فراشها فصاحت فاحتال الفرزدق فِيهَا حَتَّى انسابت ثمَّ ضم الْجَارِيَة إِلَيْهِ فزبرته ونحته عَنْهَا فَقَالَ
(وأهْوَنُ عَيْبٍِ المِنْقَريَّةِ أنَّها
…
شَدِيدٌ ببَطنِ الحنظليّ لُصُوقها)
(رَأَتْ مِنقراً سُودًا قِصاراً وأبْصرَت
…
فَتَى دارميّاً كالهلال يَروقُها)
(وَمَا أَنا هجْتُ المِنقريةَ للصِّبا
…
وَلكنهَا اسْتَعصتْ عَليّ عروقها) // الطَّوِيل //
فَمَا هجاها استعدت عَلَيْهِ زياداً فهرب إِلَى مَكَّة المشرفة فأظهر زِيَاد أَنه لَو أَتَاهُ لحباه فَقَالَ الفرزدق
(دَعانِي زِيادٌ لِلعطاء وَلم أكن
…
لأقربَهُ مَا سَاق ذُو حَسبٍ وَقرَا)
(وَعندَ زِيادٍ لَو يُريدُ عَطاءهمْ
…
رِجالٌ كَثيرٌ قَدْ يَرَى بِهمُ فَقْرَا)
(وإِنِّي لأخشى أنْ يَكون عطَاؤه
…
إِذا هَمَّ سُوداً أَو مُحدرجةً سُمْراً) // الطَّوِيل //
قَالَ ابْن قُتَيْبَة سُودًا يَعْنِي السِّيَاط والمحدرجة الْقُيُود وَهَذِه الْجَارِيَة يُقَال لَهَا ظمياء وَهِي عمَّة اللعين الشَّاعِر الْمنْقري
وَدخل الفرزدق مَعَ فتيَان من آل الْمُهلب فِي بركَة يتبردون فِيهَا وَمَعَهُمْ ابْن أبي عَلْقَمَة الماجن فَجعل يتفلت إِلَى الفرزدق وَيَقُول دَعونِي أنكحه فَلَا يهجونا أبدا وَكَانَ الفرزدق من أجبن النَّاس فَجعل يستغيث وَيَقُول لَا يمس جلده جلدي فَيبلغ ذَلِك جَرِيرًا فَيُوجب عَليّ أَنه قد كَانَ مِنْهُ إِلَيّ الَّذِي يَقُول فَلم يزل يناشدهم حَتَّى كفوه عَنهُ
وَركب يَوْمًا بغلته وَمر بنسوة فَلَمَّا حاذاهن لم تتمالك البغلة ضراطاً فضحكن مِنْهُ فَالْتَفت إلَيْهِنَّ وَقَالَ لَا تضحكن فَمَا حَملتنِي أُنْثَى إِلَّا ضرطت فَقَالَ إِحْدَاهُنَّ مَا حملك أَكثر من أمك فأراها قد قاست مِنْك ضراطاً عَظِيما فحرك بغلته وهرب
وَيُقَال إِنَّه مر وَهُوَ سَكرَان على كلاب مجتمعة فَسلم عَلَيْهِم فَلَمَّا لم يسمع الْجَواب أنشأ يَقُول
(فَمَا ردّ السَّلامَ شيوخُ قَومٍ
…
مَررتُ بهم على سِكَك البريدِ)
(ولَا سيمَا الذِي كانتْ عَليهِ
…
قطيفة أرجُوَانٍ فِي الْقعُود) // الوافر //
وَقَالَ مَا أعياني جوابٌ قطّ إِلَّا جَوَاب دهقان مرّة قَالَ لي أَنْت الفرزدق الشَّاعِر قلت نعم قَالَ إِن هجوتني تخرب ضيعتي قلت لَا قَالَ فتموت عيشونة ابْنَتي قلت لَا قَالَ فرجلي إِلَى عنقِي فِي حر أمك فَقلت وَيحك لم تركت رَأسك قَالَ حَتَّى أنظر أَي شَيْء تصنع يَا ابْن الزَّانِيَة
وَكَانَ الفرزدق يَقُول خير السّرقَة مَا لَا يقطع فِيهِ يَعْنِي بذلك سَرقَة الشّعْر
وَقَالَ قد علم النَّاس أَنِّي أفحل الشُّعَرَاء وَرُبمَا أَتَت عَليّ السَّاعَة وَقلع ضرس من أضراسي أَهْون عَليّ من قَول بَيت
وَمن جيد شعره قَوْله
(قَالَت وَكَيف يميلُ مِثلكَ لِلصِّبا
…
وعَليكَ مِنْ سِمةِ الحَليم وقارُ)
(والشَّيبُ يَنهضُ فِي الشَّبابِ كأنهُ
…
لَيلٌ يَصيحُ بجانبيهِ نَهَار) // الْكَامِل //
وَقيل للعين الْمنْقري اقْضِ بَين جرير والفرزدق فَقَالَ
(سأقضي بَين كلب بَني كليْبٍ
…
وبينَ القَينِ قَينِ بني عِقال)
(فإنَّ الكلبَ مَطعمُهُ خَبيثٌ
…
وإنَّ القَينَ يَعملُ فِي سِفال)
(فَمَا بُقْيَا عَليَّ تركْتماني
…
ولكنْ خِفتُما صرد النِّبال) // الوافر //
وَقَالَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء حضرت الفرزدق وَهُوَ يجود بِنَفسِهِ فَمَا رَأَيْت أحسن ثِقَة مِنْهُ بِاللَّه تَعَالَى
توفّي سنة عشر وَمِائَة وَقيل سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَقيل سنة أَربع عشرَة ورثاه جرير بِأَبْيَات مِنْهَا قَوْله
(فَلَا وَلدتْ بعَدَ الفَرزدقِ حامِلٌ
…
وَلا ذاتُ بَعلٍ من نِفَاس تعلت)
(هُوَ الوَافدُ الميمونُ والراتِقُ الثَّأَي
…
إِذا النَّعلُ يَوْمًا بالعشيرةِ زلَّتِ) // الطَّوِيل //
ورثاه أَيْضا بِغَيْر ذَلِك
وَقَالَ ابْنه لبطة: رَأَيْت أبي فِي الْمَنَام فَقلت مَا فعل الله بك قَالَ نفعتني الْكَلِمَة الَّتِي نازعت فِيهَا الْحسن عِنْد الْقَبْر وَذَلِكَ أَن الْحسن الْبَصْرِيّ لما وقف على قبر النوار زَوْجَة الفرزدق والفرزدق وَاقِف مَعَه وَالنَّاس ينظرُونَ فَقَالَ الْحسن مَا للنَّاس فَقَالَ الفرزدق ينظرُونَ خير النَّاس وَشر النَّاس فَقَالَ إِنِّي لست بخيرهم وَلست بشرهم وَلَكِن مَا أَعدَدْت لهَذَا المضطجع فَقَالَ شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله مُنْذُ سبعين سنة
ورؤي فِي النّوم فَقيل لَهُ مَا فعل الله بك قَالَ غفر لي بإخلاصي يَوْم الْحسن وَقَالَ لَوْلَا شيبتك لعذبتك بالنَّار
وقصته فِي تزَوجه بالنوار ابْنة عَمه شهيرةٌ ورزق مِنْهَا أَوْلَادًا وهم لبطه وسبطة وكلطة وَلَيْسَ لوَاحِد مِنْهُم عقب 8
(سَأطلُبُ بعد الدَّار عَنْكُم لتقربوا
…
وتسكب عَيْنَايَ الدُّمُوع لتجمدا) // الطَّوِيل // الْبَيْت للْعَبَّاس بن الْأَحْنَف من أبياتٍ من الطَّوِيل
وَالشَّاهِد فِيهِ السَّبَب الثَّانِي الْحَاصِل بِهِ التعقيد وَهُوَ الِانْتِقَال فَإِن معنى الْبَيْت أطلب وَأُرِيد الْبعد عَنْكُم أَيهَا الْأَحِبَّة لتقربوا إِذْ من عَادَة الزَّمَان الْإِتْيَان بضد المُرَاد فَإِذا أُرِيد الْبعد يَأْتِي الزَّمَان بِالْقربِ وَأُرِيد وأطلب الْحزن الَّذِي هُوَ لَازم الْبكاء ليحصل السرُور بِمَا هُوَ من عَادَة الزَّمَان فَأَرَادَ
أَن يكني عَمَّا يُوجِبهُ دوَام التلاقي من السرُور بالجمود لظَنّه أَن الجمود هُوَ خلو الْعين من الْبكاء مُطلقًا من غير اعْتِبَار شَيْء آخر وَأَخْطَأ فِي مُرَاده إِذْ الجمود هُوَ خلو الْعين من الْبكاء حَالَة إِرَادَة الْبكاء مِنْهَا كَقَوْل أبي عَطاء يرثي ابْن هُبَيْرَة
(أَلَا إنَّ عَيْناً لم تَجُدْ يَومَ وَاسِطٍ
…
عَلَيْكَ بِجَارِي دمعها لجمود) // الطَّوِيل //
وَقَول كثير عزة
(وَلم أدْرِ أنَّ العَيْنَ قَبْلَ فِرَاقِهَا
…
غَدَاة الشبا مِنْ لاّعِجِ الوَجْدِ تَجْمُدُ) // الطَّوِيل // فَلَا يكون الجمود كِنَايَة عَن السرُور بل عَن الْبُخْل فَيكون الِانْتِقَال من جمود الْعين إِلَى بخلها بالدموع لَا إِلَى مَا قَصده من السرُور وَلَو كَانَ فِي الجمود صلاحيةٌ لِأَن يُرَاد بِهِ عدم الْبكاء حَال المسرة لجَاز أَن يُقَال فِي الدُّعَاء لَا زَالَت عَيْنك جامدة كَمَا يُقَال لَا أبكى الله عَيْنك وَهَذَا غير مَشْكُوك فِي بُطْلَانه وَعَلِيهِ قَول أهل اللُّغَة سنةٌ جماد أَي لَا مطر فِيهَا وناقة جماد أَي لَا لبن فِيهَا
وَقد فسر الْمبرد فِي الْكَامِل هَذَا الْبَيْت بِغَيْر هَذَا فَقَالَ هَذَا رجل فَقير يبعد عَن أهل ويسافر ليحصل مَا يُوجب لَهُم الْقرب وتسكب عَيناهُ الدُّمُوع فِي بعده عَنْهُم لتجمدا عِنْد وُصُوله إِلَيْهِم وَأنْشد
(تقَولُ سُلَيْمى لَو أقمتَ بِأرضنا
…
وَلم تَدْرِ أَنِّي للِمُقَامِ أَطُوف) // الطَّوِيل //
وَمِنْه قَول الرّبيع بن خَيْثَم وَقد صلى طول ليلته حَتَّى أصبح وَقَالَ لَهُ رجل أَتعبت نَفسك فَقَالَ راحتها أطلب وَمثله قَول روح بن حَاتِم بن قبيصَة ابْن الْمُهلب وَنظر إِلَيْهِ رجل وَاقِفًا بِبَاب الْمَنْصُور فِي الشَّمْس فَقَالَ لَهُ الرجل قد طَال وقوفك فِي الشَّمْس فَقَالَ روح ليطول قعودي فِي الظل
وَقَالَ الزّجاج فِي أَمَالِيهِ أخبرنَا أَبُو الْحسن الْأَخْفَش قَالَ كنت يَوْمًا يحضرة
ثَعْلَب فأسرعت الْقيام قبل انْقِضَاء الْمجْلس فَقَالَ لي إِلَى أَيْن مَا أَرَاك تصبر عَن مجْلِس الْخُلْدِيِّ يَعْنِي الْمبرد فَقلت لَهُ لي حَاجَة فَقَالَ لي إِنِّي أرَاهُ يقدم البحتري على أبي تَمام فَإِذا أَتَيْته فَقل لَهُ مَا معنى قَول أبي تَمام
(أآلِفةَ النَّحيبْ كم افْتراقٍ
…
أظلَّ فكانَ دَاعِيَة اجْتِمَاع) // الوافر //
قَالَ أَبُو الْحسن فَلَمَّا صرت إِلَى أبي الْعَبَّاس الْمبرد سَأَلته عَنهُ فَقَالَ معنى هَذَا أَن المتحابين والمتعاشقين قد يتصارمان ويتهاجران دلالاً لَا عزماً على القطيعة فَإِذا حَان الرحيل وأحسا بالفراق تراجعا إِلَى الوداد وتلاقيا خوف الْفِرَاق وَأَن يطول الْعَهْد بالالتقاء بعده فَيكون الْفِرَاق حِينَئِذٍ سَببا للاجتماع كَمَا قَالَ الآخر
(مُتِّعا بالفِراقِ يَومَ الفراقِ
…
مُستجيرَيْنِ بالبُكا والعناقِ)
(وأَظَلَّ الفِراقُ فَالْتَقَيَا فِيهِ
…
فِراقٌ أتاهُمَا باتَّفاقِ)
(كَيفَ أَدْعُو على الفراقِ بحَتْفٍ
…
وَغدَاةً الفِراق كَانَ التلاقي) // الْخَفِيف //
قَالَ فَلَمَّا عدت إِلَى مجْلِس ثَعْلَب سَأَلَني عَنهُ فَأَعَدْت عَلَيْهِ الْجَواب والأبيات فَقَالَ مَا أَشد تمويهه مَا صنع شَيْئا إِنَّمَا معنى الْبَيْت أَن الْإِنْسَان قد يُفَارق محبوبه رَجَاء أَن يغنم فِي سَفَره فَيَعُود إِلَى محبوبه مستغنياً عَن التَّصَرُّف فَيطول اجتماعه مَعَه أَلا ترَاهُ يَقُول فِي الْبَيْت الثَّانِي
(ولَيستْ فَرحةُ الأوْباتِ إلَاّ
…
لِمَوقوفٍ عَلى تَرح الوَدَاعِ)
وَهَذَا نَظِير قَول الآخر بل مِنْهُ أَخذ أَبُو تَمام
(سَأْطلبُ بُعدَ الدَّار عَنْكُم لتقربوا
…
وتسكب عَيْنَايَ الدُّمُوع لِتجمُدَا)
هَذَا ذَاك بِعَيْنِه
وَذكرت بِمَا تقدم آنِفا من أَن عَادَة الزَّمَان الْإِتْيَان بضد المُرَاد أَي وَإِن كَانَ على وفْق الْإِرَادَة الإلهية قَول الباخرزي
(ولَطالمَا اخترتُ الفراقَ مُغالِطاً
…
واحتْلتُ فِي اسثمار غَرسِ ودادي)
(ورَغِبتُ عَن ذِكِر الوصَالِ لِأَنَّهَا
…
تُبنَى الأمُورُ على خِلافِ مرادي) // الْكَامِل //
وَالْعَبَّاس بن الْأَحْنَف هُوَ خَال إِبْرَاهِيم بن الْعَبَّاس الصولي وَهُوَ حَنَفِيّ يمامي وَكَانَ رَقِيق الْحَاشِيَة لطيف الطباع وَله مَعَ الرشيد أَخْبَار قَالَ بشار مَا زَالَ غُلَام من بني حنيفَة يدْخل نَفسه فِينَا ويخرجها حَتَّى قَالَ
(أبْكِي الذينَ أذاقوني مودَّتَهمُ
…
حَتَّى إِذا أيْقظونِي لِلهوى رقدُوا)
(وَاستنهضوني فَلَمَّا قُمتُ مُنتصباً
…
بثقل مَا حمَّلوني مِنهمُ قعدُوا)
(لأخْرجنَّ من الدُّنيا وحبُّهم
…
بَين الجَوانح لم يَشعرْ بِهِ أحد) // الْبَسِيط //
وَكَانَ فِي الْعَبَّاس آلَات الظّرْف كَانَ جميل المنظر نظيف الثَّوْب فاره الْمركب حسن الْأَلْفَاظ كثير النَّوَادِر شَدِيد الِاحْتِمَال طَوِيل المساعدة
طلبه يحيى بن خَالِد الْبَرْمَكِي يَوْمًا فَقَالَ إِن مَارِيَة هِيَ الْغَالِبَة على أَمِير الْمُؤمنِينَ وَإنَّهُ جرى بَينهمَا عتب فَهِيَ بعزة دَالَّة المعشوق تأبى أَن تعتذر وَهُوَ بعز الْخلَافَة وَشرف الْملك وَالْبَيْت يَأْبَى ذَلِك وَقد رمت الْأَمر من قبلهمَا فأعياني وَهُوَ أَحْرَى أَن تستفزه الصبابة فَقل شعرًا تسهل بِهِ عَلَيْهِ هَذِه الْقَضِيَّة وَأَعْطَاهُ دَوَاة وقرطاساً فَطَلَبه الرشيد فَتوجه إِلَيْهِ ونظم الْعَبَّاس قَوْله
(العاشقانِ كِلاهما مُتغضِّبُ
…
وكِلاهما مُتوجِّدٌ مُتجنِّبُ)
(صَدَّتْ مُغاضِبةً وصَدّ مُغاضِباً
…
وكِلاهما مِمَّا يُعالج مُتعَبُ)
(رَاجعْ أحبتَّكَ الذينَ هجرتهمْ
…
إنّ المُتيَّم قَلما يتجنَّبُ)
(إنْ التجنُّبَ إنْ تَطاولَ مِنكما
…
دبّ السُّلُوُّلهُ فَعزَّ الْمطلب) // الْكَامِل //
ثمَّ قَالَ لأحد الرُّسُل أبلغ الْوَزير إِنِّي قد قلت أَرْبَعَة أَبْيَات فَإِن كَانَ فِيهَا مقنع وجهت بهَا إِلَيْهِ فَعَاد الرَّسُول وَقَالَ هَاتِهَا فَفِي أقل مِنْهَا مقنع فَكتب الأبيات وَكتب تحتهَا أَيْضا
(لَا بدَّ لِلعاشقِ مِنْ وَقفةٍ
…
تَكونُ بَين الوَصلِ وَالصَّرْمِ)
(حَتَّى إذَا الهجرُ تَمادى بهِ
…
رَاجعَ مَنْ يَهوَى على رغم) // السَّرِيع //
فَدفع يحيى الرقعة إِلَى الرشيد فَقَالَ وَالله مَا رَأَيْت شعرًا أشبه بِمَا نَحن فِيهِ من هَذَا الشّعْر وَالله لكَأَنِّي قصدت بِهَذَا فَقَالَ وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأَنت الْمَقْصُود بِهِ فَقَالَ الرشيد يَا غُلَام هَات نَعْلي فإنني وَالله أرَاجعهَا على رغم فَنَهَضَ وأذهله السرُور أَن يَأْمر للْعَبَّاس بِشَيْء ثمَّ إِن مَارِيَة لما علمت بمجيء الرشيد إِلَيْهَا تَلَقَّتْهُ وَقَالَت كَيفَ ذَلِك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَأَعْطَاهَا الشّعْر وَقَالَ هَذَا الَّذِي جَاءَ بِي إِلَيْك قَالَت فَمن قَالَه قَالَ الْعَبَّاس بن الْأَحْنَف قَالَت فَبِمَ كوفئ قَالَ مَا فعلت بعد شَيْئا فَقَالَت وَالله لَا أَجْلِس حَتَّى يكافأ فَأمر لَهُ بِمَال كثير وَأمرت هِيَ لَهُ بِدُونِ ذَلِك وَأمر لَهُ يحيى بِدُونِ مَا أمرت بِهِ وَحمل على برذون ثمَّ قَالَ لَهُ الْوَزير من تَمام النِّعْمَة عنْدك أَن لَا تخرج من الدَّار حَتَّى نؤثل لَك بِهَذَا المَال ضَيْعَة فَاشْترى لَهُ ضيَاعًا بجملة من ذَلِك المَال وَدفع إِلَيْهِ بَقِيَّته
وَحدث أَبُو بكر الصولي عَن أبي زَكَرِيَّا الْبَصْرِيّ قَالَ حَدثنِي رجل من قُرَيْش قَالَ خرجت حَاجا مَعَ رفْقَة لي فعرجنا عَن الطَّرِيق لنصلى فجاءنا غُلَام
فَقَالَ لنا هَل فِيكُم أحد من أهل الْبَصْرَة فَقُلْنَا كلنا من أهل الْبَصْرَة فَقَالَ إِن مولَايَ من أَهلهَا ويدعوكم إِلَيْهِ فقمنا إِلَيْهِ فَإِذا هُوَ نَازل على عين مَاء فَجَلَسْنَا حوله فأحس بِنَا فَرفع طرفه وَهُوَ لَا يكَاد يرفعهُ ضعفا وَأَنْشَأَ يَقُول
(يَا بَعيدَ الدَّارِ عَنْ وَطنهْ
…
مُفرداً يَبكي على شَجنهْ)
(كلمَّا جَدَّ الرَّحيلُ بِهِ
…
زادتِ الأسْقَام فِي بدنه) // الرمل //
ثمَّ أُغمي عَلَيْهِ طَويلا وَنحن جُلُوس حوله إِذْ أقبل طَائِر فَوَقع على أعالي شَجَرَة كَانَ تحتهَا وَجعل يغرد فَفتح عَيْنَيْهِ وَجعل يسمع تغريد الطَّائِر ثمَّ أنشأ يَقُول
(ولَقدْ زَادَ الفُؤادَ شَجًى
…
طائرٌ يَبكي على فَنَنِهْ)
(شَفَّهُ مَا شَفّنِي فَبكى
…
كُلنا يَبكي على سَكنهْ)
ثمَّ تنفس نفسا فاضت مَعَه نَفسه فَلم نَبْرَح عِنْده حَتَّى غسلناه وكفناه وتولينا الصَّلَاة عَلَيْهِ فَلَمَّا فَرغْنَا من دَفنه سَأَلنَا الْغُلَام عَنهُ فَقَالَ هَذَا الْعَبَّاس بن الْأَحْنَف
وَكَانَت وَفَاته سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَمِائَة وَقيل سنة اثْنَتَيْنِ وَمَا ذكر من أَنه مَاتَ هُوَ وَالْكسَائِيّ وَإِبْرَاهِيم الْموصِلِي وهشيمة الخمارة فِي يَوْم وَاحِد وَأَن الرشيد أَمر الْمَأْمُون أَن يُصَلِّي عَلَيْهِم وَأَنه قدم الْعَبَّاس بن الْأَحْنَف رحمه الله لقَوْله
(وسَعَى بهَا قَومٌ وَقَالُوا إنَّها
…
لَهيَ الَّتِي تَشقىَ بِها وتُكابِدُ)
(فَجَحدتُهمْ ليكونَ غَيركَ ظَنُّهم
…
إِنِّي لَيُعجبني المحِبُّ الجاحِدُ) // الْكَامِل //
فَفِيهِ نظر لِأَن الْكسَائي مَاتَ سنة تسع وَثَمَانِينَ وَمِائَة على خلاف فِيهِ وَمَا كَانَ الْمَأْمُون مِمَّن يقدم الْعَبَّاس على مثل الْكسَائي وَأَيْضًا فقد روى الصولي أَنه رأى الْعَبَّاس بن الْأَحْنَف بعد موت الرشيد بمنزله بِبَاب الشَّام وَالله أعلم أَي ذَلِك كَانَ
وَمن شعره
(وحَدَّثْنَي يَا سَعْدُ عَنْهُم فزدني
…
جنونا فودني مِنْ حدَيثكَ يَا سَعْدُ)
(هَواها هَوىً لم يَعرِفِ القَلبُ غَيره
…
فَليسَ لَهُ قَبلٌ ولَيسَ لَهُ بعد) // الطَّوِيل //
وَمِنْه أَيْضا
(إِذا أَنْت لم تَعطفْكَ إِلَّا شفَاعةٌ
…
فَلَا خير فِي وُدٍّ يَكونُ بِشافعِ)
(وأقسِمُ مَا تَركى عِتابَكَ عَنْ قِلًى
…
وَلكنْ لِعلمي أَنه غيرُ نافعِ)
(وإنِّيَ إِن لم ألزَمِ الصَّبرَ طَائعاً
…
فَلَا بدَّ مِنه مُكرهاً غير طائع) // الطَّوِيل //
وَمن رَقِيق شعره قَوْله من جملَة قصيدة
(يَا أَيهَا الرِّجلُ المعذِّب نَفسهُ
…
أقْصر فَإِن شِفاءكَ الإِقصارُ)
(نزف البكاءُ دُموع عَينكَ فَاسْتَعِرْ
…
عَيناً يُعينكَ دَمعُها المِدرارُ)
(من ذَا يُعيركَ عَينه تبْكي بهَا
…
أَرَأَيْت عَيناً للبكاء تعار) // الْكَامِل //
وشعره كُله جيد وجميعه فِي الْغَزل لَا يكَاد يُوجد فِيهِ مديح رَحمَه الله تَعَالَى
9 -
(سبوح لَهَا مِنْهَا عَليْهَا شَوَاهِدُ
…
)
قَائِله أَبُو الطّيب المتنبي من قصيدة من الطَّوِيل يمدح بهَا سيف الدولة ابْن حمدَان أَولهَا
(عَواذلُ ذَات الخالِ فيَّ حواسِدُ
…
وإنَّ ضَجيعَ الخودِ منِّي لَماجدُ)
(يَرُدُّ يدا عنْ ثوبها وهُو قادرٌ
…
ويَعصي الهوَى فِي طَيفها وهُو رَاقدُ)
(مَتى يَشتفي من لاعج الشَّوق فِي الحشا
…
مُحبٌّ لَهَا فِي قُرْبهِ مُتباعدُ)
(إِذا كُنت تخشى العارَ فِي كلِّ خلْوَة
…
فَلم تتصباك الحِسانُ الخرائدُ)
(أَلحَّ عَليَّ السُّقُم حَتَّى ألفتُهُ
…
ومَلَّ طَبيبي جَانِبي والعوائدُ)
(أهُمَّ بِشيءِ والليالي كَأَنَّهَا
…
تُطاردني عَن كَونهِ وأطَاردُ)
(وحِيدٌ منَ الخِلَاّنِ فِي كل بَلدَة
…
إِذا عَظُمَ المطْلوبُ قَلَّ المسَاعدُ)
(وتُسعدُني فِي غَمرة بَعْدَ غَمرة
…
سَبوح لَهَا مِنْهَا عَلَيْهَا شَوَاهِد) // الطَّوِيل //
وَمِنْهَا قَوْله فِي المديح
(خَليليِّ إِنِّي لَا أرى غير شاعرٍ
…
فَكم منهمُ الدَّعْوَى ومني القصائد)
(فَلَا تَعَجبا إِن السيوف كَثِيرَة
…
وَلَكِن سيف الدولة الْيَوْم واحِدُ)
وَهِي طَوِيلَة
والسبوح الْفرس الْحسن الجري يُقَال فرسٌ سابح وسبوح وخيل سوابح
لسبحها بِيَدَيْهَا فِي مسيرها وسبوح اسْم فرس لِرَبِيعَة بن جشم وَهُوَ مَرْفُوع على أَنه فَاعل تسعدني
وَالْمعْنَى وتعينني على توارد الغمرات فِي الحروب فرس سبوح يشْهد بكرمها خِصَال هِيَ لَهَا مِنْهَا أَدِلَّة عَلَيْهَا
وَالشَّاهِد فِيهِ كَثْرَة التّكْرَار وتتابع الإضافات وَهِي قَوْله لَهَا مِنْهَا عَلَيْهَا وَالله تَعَالَى أعلم
10 -
(حَمَامَةَ جَرْعَا حَوْمَةِ الجَنْدَلِ اسْجَعي
…
)
قَائِله ابْن بابك الشَّاعِر الْمَشْهُور من قصيدة من الطَّوِيل وَتَمَامه
(فَأنْتِ بِمَرأى من سُعادَ ومَسمع
…
)
والجرعاء هِيَ الرملة الطّيبَة المنبت لَا وعوثة فِيهَا أَو الأَرْض ذَات الحزونة تشاكل الرمل أَو الدعص لَا ينْبت أَو الْكَثِيب جانبٌ مِنْهُ حِجَارَة وجانب رمل وحومة الْقِتَال معظمه وَكَذَلِكَ من المَاء والرمل وَغَيره والجندل الْحِجَارَة والسجع هدير الْحمام وَنَحْوه
وَالْمعْنَى يَا حمامة جرعاء هَذَا الْموضع اسجعي وترنمي طريا فَأَنت بمرأى من الحبيبة ومسمع فجدير لَك أَن تطربي إِذْ لَا مَانع لَك مِنْهُ
وَالشَّاهِد فِيهِ تتَابع الإضافات فَإِنَّهُ أضَاف حمامة إِلَى جرعا وحومة إِلَى الجندل وَهُوَ من عُيُوب الْكَلَام
قَالَ الْقزْوِينِي وَفِيه نظر لِأَن ذَلِك إِن أفْضى بِاللَّفْظِ إِلَى الثّقل على اللِّسَان فقد حصل الِاحْتِرَاز عَنهُ بِمَا تقدم أَي بقوله من تنافر الْكَلِمَات مَعَ فصاحتها وَإِلَّا فَلَا يخل بالفصاحة كَيفَ وَقد جَاءَ فِي التَّنْزِيل {مثل دَاب قوم نوح} وَقد
قَالَ صلى الله عليه وسلم الْكَرِيم ابْن الْكَرِيم ابْن الْكَرِيم ابْن الْكَرِيم يُوسُف بن يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم
قيل لَا نسلم وجود تتَابع الإضافات فِي الحَدِيث الشريف إِذْ لَفْظَة الابْن صفة لما قبلهَا وَلَيْسَ مَا قبلهَا مُضَافا إِلَيْهَا
وَعَن الصاحب بن عباد إياك والإضافات المتداخلة فَإِنَّهَا لَا تحسن
وَذكر الشَّيْخ عبد القاهر أَنَّهَا تسْتَعْمل فِي الهجاء كَقَوْل الْقَائِل
(يَا عَليّ بن حَمْزَة بن عُمارهْ
…
أنتَ وَالله ثَلجةٌ فِي خِيَاره) // الْخَفِيف //
قَالَ وَلَا شكّ فِي ثقل ذَلِك لكنه إِذا سلم من الاستكراه ملح وظرف وَمِمَّا حسن فِيهِ قَول ابْن المعتز
(وظَلَّتْ تُديرُ الراحَ أَيدي جآذرٍ
…
عِتاقِ دَنانيرِ الوجُوهِ مِلاحِ) // الطَّوِيل //
(وَقَول الخالدي
(ويَعرفُ الشِّعرَ مِثلَ مَعْرِفتي
…
وهْوَ على أَن يزِيد مُجْتَهد)
(وصَيرفِيُّ القَريضِ وزَّانُ دِينَار
…
المعاتي الدِّقاق مُنتقدُ) // المنسرح //
وَهَذَانِ البيتان لسَعِيد بن هِشَام الخالدي الشَّاعِر الْمَشْهُور من قصيدة يصف فِيهَا غُلَاما لَهُ وَهِي بديعة فَأَحْبَبْت ذكرهَا وَهِي
(مَا هُوَ عَبدٌ لكنَّهُ ولدُ
…
خولنيه المهين الصَّمدُ)
(وَشدَّ أزرِي بحُسن خِدمتهِ
…
فَهْو يَدِي والذراعُ وَالعضُدُ)
(صَغيرُ سِنٍّ كَبيرُ مَنفعةٍ
…
تَمازجَ الضعفُ فِيه وَالجلَدُ)
(فِي سنِّ بَدِر الدُّجا وَصوُرَتِه
…
فَمثلهُ يَصطفَى وَيُعتَقدُ)
(مُعشَّقُ الطْرفِ كُحله كَحَلٌ
…
مُعَطّلُ الْجيدِ حَلْيهُ الجَيَدُ)
(وَوردُ خَدَّيْهِ والشقائِقُ وَالتفاحُ
…
والجُلّنارُ مُنتضدُ)
(رِياضُ حُسنٍ زَواهرٌ أبدا
…
فِيهنَّ مَاءُ النَّعيم مُطّردُ)
(وَغصنُ بَانٍ إِذا بَدا وَإِذا
…
شَدَا فَقُمْرِيُّ بَانةٍ غَرِدُ)
(مُبارك الوجِهِ مُذْ حَظيتُ بهِ
…
بَالي رَخيٌّ وَعيشتي رَغدُ)
(أُنْسى وَلهوِي وَكلُّ مَأرَبَتي
…
مجتمعٌ فِيه لِي وَمُنفرِدُ)
(مُسامرِي إِنْ دَجَا الظَّلامُ فَلي
…
مِنهُ حَدِيثٌ كَأنهُ الشَّهدُ)
(ظريفُ مَزْحٍ مَليحُ نَادرَةٍ
…
جَوْهرُ حسنٍ شَرارهُ يَقدُ)
(خازنُ مَا فِي دارِي وَحَافظهُ
…
فَليسَ شيءٌ لَديُّ مُفتقَدُ)
(وَمنفقٌ مُشفقٌ إِذا أنَا أَسْرفتُ
…
وَبذَرْتُ فهْو مُقتصدُ)
(يَصون كُتبي فكلُّها حَسنٌ
…
يَطوي ثِيَابِي فَكلُّها جَدُد)
(وَأبصرُ النَّاس بالطبيخ فكالمسك
…
القلايا والعنبر الثردُ)
(وْهو يُديرُ المدامَ إنْ جُليتْ
…
عَروسُ دَنً نقابها الزَّبد)
(يَمنح كأسي يدا أناملهُا
…
تَنْحلُّ منْ لِينها وتنعقدُ)
(ثَقَّفهُ كَيسهُ فَلَا عِوجٌ
…
فِي بعض أخلاقهُ وَلَا أود)
وَبعده البيتان وبعدهما أَيْضا
(وَكاتبٌ تُوجدُ البلاغةُ فِي
…
ألفاظهِ والصوابَ وَالرشَدُ)
(وَواجدٌ بِي من المحبةِ وَالرأفةِ
…
أضعافَ مَا بِهِ أجدُ)
(إِذا تَبسَّمتُ فَهوَ مُبتهجٌ
…
وَإِن تَنمردتُ فَهوَ مُرتعدُ)
(ذَا بَعضُ أوْصافهِ وَقدْ بَقيتْ
…
لهُ صِفاتٌ لمْ يحوها أحدُ)
وَقد عارضها الشهَاب مَحْمُود بقصيدة يذم فِيهَا غُلَاما لَهُ وَهِي
(مَا هُوَ عبد علا ولَا ولدُ
…
إلَاّ عناءٌ تَضنى بِهِ الكبِدُ)
(وَفرط سقمٍ أَعْيا الأساةَ فلَا
…
جِلْدٌ عليهِ يَبقى وَلَا جَلَدُ)
(أقبحُ مَا فِيهِ كلُّه وَلقدْ
…
تَساوتِ الروحُ مِنْهُ والجسدُ)
(أشبهُ شيءٍ بالقردِ فهوَ لهُ
…
إنْ كَانَ لِلقرد فِي الْورى ولدُ)
(ذُو مُقلةٍ حشوُ جَفنها عَمَصٌٌ
…
تَسيلُ دَمعاً وَما بهَا رَمدُ)
(وَوجنةٍ مِثل صبغةِ الوَرْسِ
…
لكنْ ذاكَ صافٍ وَلونها كمِدُ)
(كَأَنَّمَا الخدُّ فِي نَظافتهِ
…
قدْ أكِلَتْ فَوق صَحنهِ غُدَدُ)
(يقطر سُمّاً فَضحكهُ أبدا
…
شرّ بُكاءٍ وَبِشرهُ حَرَدُ)
(يجمعُ كَفّيهِ مِنْ مَهانتهِ
كَأَنَّهُ فِي الهّجيرِ مُرتعدُ)
(يُطرِق لَا مِنْ حَيا وَلا خَجلٍ
…
كأنّهُ لِلترابِ مُنتقدُ)
(ألَكنُ إِلَاّ فِي الشتمِ يَنبحُ كالْكلبِ
…
وَلوْ أنَّ خَصمهُ الأَسدُ)
(يَشتمني الناسُ حِينَّ يَشتمهمْ
…
إذْ لَيْسَ يرضى بشمته أحدُ)
(كَسلانُ إلَاّ فِي الأ كل فَهُوَ إِذا
…
مَا حضر الأ كل جَمَرةٌ تَقِدُ)
(كَالنارِ يَوْمَ الرِّياحِ فِي الْحطب اليابسِ
…
تأتِي على الَّذِي تجدُ)
(يَرفُلُ فِي حُلةٍ منبته
…
من قمله رقم طرزها طرد)
(أجملُ أوْصافهِ النميمةُ وَالْكذب
…
وَنقل الْحديثِ وَالحَسدُ)
(كُلُّ عُيوب الورَى بِهِ اجْتَمعتْ
…
وَهو بأضعافِ ذَاكَ مُنفردُ)
(إِنْ قُلتُ لَمْ يَدرِ مَا أقولُ وَإنْ
…
قالَ كِلَانَا فِي الْفَهم مُتحد)
(كأنّ مَا لي إِذا تَسلّمَهُ
…
مَاءٌ قَرَاحٌ وَكَفُّهُ سرد)
(حَملتهُ لِي دُوَيَّة حَسنتْ
…
كُنتُ عَليها فِي الظَّرفِ أعْتمدُ)
(كَمثلِ زَهرِ الرِّياضِ مَا وَجدَتْ
…
عَيني لهَا مُشبهاً وَلا تجدُ)
(فمرَّ يَوْماً بهَا عَلى رَجُلٍ
…
لَديهِ عِلمُ اللُّصوصِ يَستندُ)
(أوْدَعها عنِدهُ فَفرَ بهَا
…
وَما حَواهُ مِنْ بَعدها الْبلدُ)
(فَجاء يَبكي فَظَلْتُ أضحكُ مِنْ
…
فِعلي وَقلبي بِالغيظِ يَتْقدُ)
(وَقالَ لِي لَا تَخفْ فحليتهُ
…
مَسهورةُ الشكل حِينَ يُفتقدُ)
(عَليه ثَوبٌ وَعمةٌ ولهُ
…
ذَقنٌ وَوجهٌ وَساعدٌ ويدُ)
(وَقائلٍ بعهُ قُلتُ خُذهُ وَلَا
…
وَزنٌ تُجازِي بِهِ وَلَا عددُ)
(فَفي الذِي قَدْ أضاعهُ عِوضٌ
…
وَهُوَ على أَن يزِيد مُجْتَهد) // المنسرح //
وَمثله قَول رَاشد الْكَاتِب فِي غُلَام لَهُ قد بَاعه وَكَانَ اسْمه نفيساً فَسَماهُ خسيسا
(بعْنا خَسيسْاً فَلم يحزن لَهُ أحد
…
وَغابَ عَنا فَغابَ الهمُّ والنكدُ)
(أهْونْ بهِ خَارِجا منْ بَين أظْهرنا
…
لم نَفتقده وكلبُ الدَّارِ يُفتقدُ)
(قَدْ عَرِّيتْ مِنْ صُنوفِ الخَير خِلقتهُ
…
فَلَا رُواءٌ ولَا عَقلٌ ولَا جلدُ)
(يَدعُو الفحولَ إِلى مَا تَحتَ مِئزره
…
دُعاء منْ فِي استه النيرانُ تتقد) // الْبَسِيط //
وَقَالَ فِيهِ أَيْضا
(عَرضنا خَسيساً فاحتمى كلُّ تاجرٍ
…
شِراهُ وأعْيا بَيْعهُ كلَّ دَلالِ)
(وَمَا باتَ فِي قَومٍ يَحبُّونَ قُربهُ
…
فأصبحَ إلَاّ وَالمحبُّ لهُ قالي)
(فَمَا فِي يديهِ خِدمةٌ يُشتهى لهَا
…
ولَا عِندهُ مَعنىً يُرادُ على حالِ)
(بَلى لَيس يَخلو من مَعايبِ أهلهِ
…
وَإنْ أَصبْحوا فِي ذِروةِ الشَّرفِ العالي)
(إِذا لم يجدْ فيهمْ مقَالا رَماهمُ
…
بِبعض عيوبِ النَّاسِ فِي الزَّمنِ الْخَالِي)
(وَيحتالُ فِي اسْتخراجِ مَا فِي بُيوتهمْ
…
بِما قَصرتْ عَنهُ يَدا كلِّ مُحتال)
(وَإِن حملوه سر أَمرٍ أذاعَهُ
…
وكادَهُمُ فِيهِ كِيادةَ مغُتالِ)
(ويَعبثُ بالجيرانِ حَتَّى يُملَّهمْ
…
وَيُبرِمُ أهلَ الدَّار بالقِيلِ والقَالِ)
(يُريهمْ صُروفَ الدَّهرِ مِن حَمقاته
…
أعاجيِبَ لم تَخْطر بوَهِم وَلَا بَال)
(أَقولُ وَقدْ مَروا بِهِ يَعرضونهُ
…
إِلَى النَّار فاذهبْ لَا رَجَعْتَ وَلَا مَالِي) // الطَّوِيل //
وَقَالَ الْعَلامَة ابْن الوردي رحمه الله يهجو عبدا لَهُ اسْمه بهادر
(بَهادرُ عَبدٌ لَا بَهاءٌ وَلَا دُرُّ
…
فَما أَنا حرٌ يومَ قوَلي لَهُ حر) // الطَّوِيل //
وَأما ابْن بابك فَهُوَ عبد الصَّمد بن مَنْصُور بن الْحسن بن بابك الشَّاعِر الْمَشْهُور أحد الشُّعَرَاء المجيدين المكثرين وَهُوَ بغدادي وَله ديوَان كَبِير وأسلوب رائق فِي نظم الشّعْر طَاف الْبِلَاد ومدح الأكابر كعضد الدولة والصاحب بن عباد وَغَيرهمَا وأجزلوا لَهُ الجوائز وَذكر صَاحب الْيَتِيمَة أَنه كَانَ يشتو فِي حَضْرَة الصاحب بن عباد ويصيف فِي وَطنه وَقد ذكر ذَلِك فِي بعض قصائده قَالَ وقرأت للصاحب فصلا فِي ذكره فاستملحته وَهُوَ أما ابْن بابك وَكَثْرَة غشيانه بابك فَإِنَّمَا تغشي منَازِل الْكِرَام والمنهل العذب كثير الزحام
وَمن شعره فِي وصف الْخمر من قصيدة
(عُقارٌ عَليها منْ دَم الصَّبِّ نُقطةٌ
…
ومنْ عَبراتِ المستهام فواقع)
(معودة غضب الْعُقُول كَأَنَّمَا
…
لَهَا عِند ألبابِ الرِّجال وَدائعُ)
(تَحَيَّرَ دَمعُ المزنِ فِي كأسها كَمَا
…
تحيرُ فِي وَردِ الخدودِ الْمدامعُ) // الطَّوِيل //
وَله من أُخْرَى فِي وصف إضرام النَّار فِي بعض غِيَاض طَرِيقه إِلَى الصاحب
(وَمقلةٍ فِي مَجرّ الشَّمْس مَسحبها
…
أرْعيتها فِي شباب السُّدفة الشهُّبا)
(حَتَّى أرَتني وعينُ الشَّمْس فاترةٌ
…
وجهَ الصَّباح بذيل اللَّيْل منتقبا)
(وَلَيْلَة بتُّ أَشْكُو الهمَّ أوَلها
…
وَعدتُ آخرِهَا أستنجد الطَّربا)
(فِي غَيضةٍ مِنْ غِياضِ الْحسن دَانيةٍ
…
مَدَّ الظَّلامُ على أرْواقها طُنبا)
(يُهدِي إِلَيْهَا مُجاج الخمرِ ساكِنُها
…
وكلمَّا دبَّ فِيهَا أثمرت لهبا)
(حَتى إِذا النَّار طاشتْ فِي ذَوائِبها
…
عادَ الزُّمردُ مِن عيدانِها ذَهبا)
(مَرقتُ مِنها وَثغرُ الصُّبح مُبتسم
…
إِلَى أغرَّ يرَى المذْخورَ مَا وَهبا) // الْبَسِيط //
وَله أَيْضا
(أحببته أسودَ الْعَينَيْنِ والشعره
…
فِي عَيْنَيْهِ عِدةٌ لِلوصل مُنتظَرَهْ)
(لدنَ المقلَّد مَخطوف الحشا ثَملاً
…
رَخصَ العظامِ أشمَّ الأنفِ وَالقَصَرَهْ)
(لِلظبي لَفتتهُ والغصنِ قامتَهُ
…
وَالرَّوضِ مَا بثَّه وَالرَّمل مَا سَتَرهْ)
(تكادُ عَيني إِذا خاضتْ محاسنَهُ
…
إليهِ تَشربهُ منْ رِقةِ الْبشرهْ)
(حَتَّى إِذا قلت قد أمْلَلْتُها شَرهتْ
…
شَوقاً إليهِ وَفِي عَينِ المحبِّ شَرهْ) // الْبَسِيط //
وَمِنْه
(زَمرُ الغروبِ وأصواتُ النَّواعيرِ
…
والشَّربُ فِي ظلّ أكواخِ المناظيرِ)
(وَصرعة بينَ إِبريقٍ وباطية
…
ونقرة بينَ مِزمارٍ وطَنبورِ)
(أشهى إِلَيّ من البَيْدَاء أعسْفِهُا
…
ومِنْ طُلوع الثَّنايا الشُّهبِ والقورِ)
(يَا رُبَّ يَوْمٍ على القَاطُولِ جَاذْبني
…
صُبح الزُّجاجةِ فيهِ فَضلَةُ النُّور)
(صَدَعْتُ طُرتهُ والشَّمسُ قاصِدَة فِي يَلمق مِن ضَبابِ الدجْنِ مَزرُورِ)
(كأنَّ مَا انْهَلّ مِنْ أهْدَاب مُزْنتهِ
…
دَمعٌ تَساقَطَ مِن أجفانِ مَهجورِ)
(فَمِنْ رشاشٍ عَلى الرِّيحانِ مُقتحمٍ
…
ومِنْ رَذاذٍ على المنْثور منثور) // الْبَسِيط //
وَمن شعره أَيْضا
(وغدير مَاء أفغمت أطْرَافهُ
…
كالدَّمع لما ضَاقَ عَنهُ مَجالُ)
(قَمرُ الرياض إِذا الغُصُونُ تَعَدَّلت
…
وإِذا الغُصونُ تهَدَّلت فهِلَالُ) // الْكَامِل //
وَمِنْه وَهُوَ غَرِيب التَّشْبِيه
(وافى الشِّتاءُ فَبزَّ النَّوْرُ بهجته
…
فِعلَ المشيب بشَعر اللِّمَّةِ الرجِلِ)
(وَرْدٌ تفتَّحَ ثُمَّ ارتَدَّ مُجتمِعاً
…
كمَا تجمَّعَتِ الأَفْوَاه للقبل) // الْبَسِيط //
وَقد أَخذه الْأَمِير مجير الدّين بن تَمِيم مَعَ بن زِيَادَة التَّضْمِين فَقَالَ
(سِيقَتْ إلَيْكَ مِنَ الحَدَائق ورْدَة
…
وأتتْكَ قبل أوانها تطفلا)
(طَمعت بِلثمِكَ إذْ رأتك فَجمَّعت
…
فَمَها إِلَيْك كطالب تقبيلا) // الْكَامِل //
وَهَذَا التَّضْمِين من بَيت للمتنبي فِي وصف النَّاقة وَهُوَ
(ويُغيرُني جذْبُ الزِّمام لقلبها
…
فَمها إليكِ كطالب تقبيلا) // الْكَامِل //
فنقله ابْن تَمِيم إِلَى وصف زر الْورْد فَأحْسن غَايَة الْإِحْسَان وَهُوَ من قَول مُسلم بن الْوَلِيد
(وَالعيسُ عَاطفةُ الرؤسِ كَأَنَّمَا
…
يَطلبنَ سرّ محدثٍ فِي المجلسِ) // الْكَامِل //
وَفِي مثل قَول ابْن تَمِيم قَول الخباز الْبَلَدِي دوبيت
(ووردة تحكي بسبق الْورْد
…
طَلِيعَة تسرعتْ من جنُد)
(قَد ضمَها فِي الْغُصْن قرص الْبرد
…
ضم فمٍ لقُبلةٍ من بُعْدِ)
وَذكرت بِهَذَا مَا قَالَه صاعد اللّغَوِيّ صَاحب كتاب الفصوص يصف باكورة ورد حملت إِلَى أبي عَامر مُحَمَّد بن أبي عَامر الملقب بالمنصور
(أتَتكَ أَبا عَامر وَردةٌ
…
يُحاكِي لكَ الْمسك أنفاسها)
(كعذراء أبصرهَا مبصر
…
فغطت بأكمامها راسها) // المتقارب //
فَاسْتحْسن الْمَنْصُور مَا جَاءَ بِهِ فحسده الْحُسَيْن بن العريف فَقَالَ هِيَ للْعَبَّاس ابْن الْأَحْنَف فناكره صاعد فَقَامَ ابْن العريف إِلَى منزله وَوضع أبياتاً وأثبتها فِي صفح دفتر وَقد نقض بعض أسطاره وأتى بهَا قبل افْتِرَاق الْمجْلس وَهِي
(عَشوتُ إِلَى قَصرِ عَباسةٍ
…
وَقدْ جَدْلَ النَّومُ حُراسَهَا)
(فألْفيتها وَهيَ فِي خِدْرها
…
وَقدْ صَدَعَ السكر أنَّاسها)
(فَقالتْ أسارٍ على هَجَعة
…
فَقلتُ بَلى فَرمتْ كاسها)
(ومدَّت إِلَى وردةٍ كَفَّها
…
يُحاكي لَك الْمسك أنفاسها)
(كعذراء أبصرهَا مبصر
…
فغطت بأكمامِها رَاسها)
(وقالَتْ خَفِ الله لَا تَفضحنِّ
…
فِي ابْنةِ عَمك عبَاسَها)
(فَوليت عَنها على غفَلةٍ
…
وَلَا خنُتُ ناسي وَلَا ناسها) // المتقارب //
قَالَ فَخَجِلَ صاعد وَحلف فَلم يقبل مِنْهُ وافترق الْمجْلس على أَنه سَرَقهَا
وتمكنت فِي صاعد لِأَنَّهُ كَانَ يُوصف بِغَيْر الثِّقَة فِيمَا يَنْقُلهُ
وَمن شعر أبن بابك يصف زِمَام النَّاقة وَهُوَ معنى جيد
(ولَقدْ أتَيتُ إِليكَ تحملُ بزَّتي
…
حَرفٌ يُسكَّنُ طَيشهَا الذأَلانُ)
(يَنفِي الزَّفيرُ خُطامهَا فكأنهُ
…
غَارٌ يُحاول نقبه ثعبان) // الْكَامِل //
وَقد زَاد فِيهِ على المتنبي وَقد ذكر الْخَيل
(نجاذبُ فِيهَا لِلصباحِ أعِنَّةً
…
كأنَّ على الأعناقِ مِنْهَا أفاعيَا
وَهُوَ من قَول ذِي الرمة // من الطَّوِيل //
(رَجيعة أسْقَامٍ كَأنَّ زِمامَها
…
شُجاعٌ على يُسرَي الذِّراعَيْنِ مطرق) // الطَّوِيل //
على أَن ذَا الرمة لم يزدْ على التَّشْبِيه شَيْئا والمتنبي أَتَى بِهِ فِي عرض بَيته وَزَاد مقصداً آخر وَهُوَ أَن الْخَيل لَا تتْرك إِلَّا عنة تَسْتَقِر فِي أَيدي فرسانها لما فِيهَا من سُورَة المرح وَحسن الْبَقِيَّة بعد طول السرى فَكَأَنَّمَا الأعنة أفاع تلدغ أعناقها إِذا باشرتها فتجاذبها الفرسان الأعنة وَهِي تجاذبهم إِيَّاهَا وَهَذَا لم يَقْصِدهُ ذُو الرمة وَلَا يُؤْخَذ من بَيته
وَمن شعر أبن بابك بَيت من قصيدة فِي غَايَة الرقة وَهُوَ
(ومَرَّ بيَ النَّسيمُ فَرقَّ حتَّى
…
كَأَنِّي قد شَكوتُ إليهِ مَا بِي) // الوافر //
وَنقل بَعضهم أَن ابْن بابك لما وَفد على الصاحب بن عباد وأنشده مدائحه فِيهِ طعن عَلَيْهِ بعض الْحَاضِرين وَذكر أَنه منتحل وَأَنه ينشد قصائد قد قَالَهَا ابْن نباتة السَّعْدِيّ فَأَرَادَ الصاحب ابْن عباد أَن يمتحنه فاقترح عَلَيْهِ أَن يَقُول قصيدة يصف فِيهَا الْفِيل على وزن قَول عَمْرو بن معدي كرب
(أَعدَدْت للحدثان سابغة
…
وعداء علندي) // الْكَامِل //
فَقَالَ
(قَسماً لَقَدْ نَشر الحيا
…
بمنَاكب العَلَميْنِ بُرْدا)
(وتَنفّستْ يمَنِيةٌ
…
تَستضْحك الزّهر المنَدّى)
(وجريحَة اللَّبّاتِ تَنْثُرُ
…
مِنْ سَقيطِ الدَّمعِ عقدَا)
(نازعتها حلب الشؤن
…
وقلّما استَعَبرْتُ وجْدَا)
(ومُسَاجِلٍ لِي قَدْ شَقَقْتُ
…
لِدَائهِ فِي فيّ لَحْدَا)
(لَا تَرْم بِي فَأَنا الَّذِي
…
صيرت حُرّ الشِّعرِ عَبْدَا)
(بشوارد شمس القياد
…
يَزِدن عِنْدَ القُربِ بُعدَا)
(ومُمَسّكِ البُرْديْنِ فِي
…
شِبهِ النّقا شِيةً وقَدَّا)
(وكأنما نَسَجَتْ عَلَيْهِ
…
يَدُ الغمامَ الجَون جلْدَا)
(وَإذا لَوَتْكَ صِفاته
…
أعْطاك نَسَّ الرّوم نَقْدَا)
(فكأنّ مِعصم غادة
…
فِي مَا ضغيه إِذا تَصَدّى)
(وَكأنّ عودا عَاطلاً
…
فِي صَفحتيهِ إذَا تَبدَّى)
(يَحدُو قَوائمَ أَرْبعاً
…
يَتركنَ بالتلعاتِ وَهدَا)
(جأبُ المطوق قد تفرد
…
بالكراهةِ واسْتبدَّا)
(فَإِذا تَجللَ هَضبةً
…
فكأنّ ظِلّ اللَّيلِ مَدَّا)
(وَإذا هَوَى فكانَّ رُكنا
…
منْ عُمانٍ قدْ تردّى)
(وَإذا اسْتقلَّ رَأيتَ فِي
…
أعْطافهِ هَزلاً وَجِدَا)
(مُتقرطاً أذنا تَعي
…
زَجرَ العسوفِ إِذَا تَعدّى)
(خَرقاء لَا يجد السرَار
…
إِذا تَوَلَّجَهَا مَردّا)
(أوطأته صرعى بسيفي
…
وَاجتنيتُ وِصال سَعُدَي)
(مَلك رَأى الإِحسانَ مِنْ
…
عُدَدِ النَّوائبِ فَاستْعدّا)
(كَافِي الكُفاةِ إِذا انثنتْ
…
مُقلُ القنا الخطَّارِ رُمدَا)