الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: مراحل التعطيل الأولى
"مرحلة الجعد بن درهم"
فالجعد بن درهم هو أول من عرف عنه أنه أظهر في الإسلام مقالة التعطيل.1
قال الهروي: (وأما فتنة إنكار الكلام لله عز وجل فأول من زرعها جعد بن درهم، فلما ظهر جعد قال الزهري -وهو أستاذ أئمة الإسلام وقائدهم-: (ليس الجعد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .2
وقال ابن القيم: (فلما كثرت الجهمية في أواخر عصر التابعين كانوا هم أول من عارض الوحي بالرأي، ومع هذا كانوا قليلين أولاً مقموعين مذمومين عند الأئمة، وأولهم شيخهم الجعد بن درهم، وإنما نفق عند الناس بعض الشيء لأنه كان معلم مروان بن محمد وشيخه، ولهذا كان يسمى مروان الجعدي، وعلى رأسه سلب الله بني أمية الملك والخلافة وشتتهم في البلاد ومزقهم كل ممزق ببركة شيخ المعطلة النفاة.
فلما اشتهر أمره في المسلمين، طلبه خالد بن عبد الله القسري وكان أميراً على العراق، حتى ظفر به، فخطب الناس في يوم الأضحى، وكان آخر ما قال في خطبته: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم، فإنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً ولم يتخذ إبراهيم خليلاً،
1- منهاج السنة 1/309، مجموع الفتاوى 13/177.
2-
ذم الكلام ص304.
تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً. ثم نزل فذبحه في أصل المنبر فكان ضَحِيَّةً، ثم طفئت تلك البدعة فكانت كأنها حصاة رمي بها، والناس إذ ذاك عنق واحد أن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه موصوف بصفات الكمال ونعوت الجلال وأنه كلم عبده ورسوله موسى تكليماً وتجلى للجبل فجعله دكاً هشيماً)
"مرحلة الجهم بن صفوان"
ثم ظهر بهذا المذهب الجهم بن صفوان2 الذي أخذ عن الجعد بن درهم مقالة التعطيل عندما التقى به بالكوفة3 والجهم هو الذي نشر ذلك المذهب وتكلم عليه فبسطه وطراه ودعا إليه، وامتاز عن شيخه الجعد بمزية المبالغة في النفي وكثرة إظهار ذلك والدعوة إليه، نظراً لما كان عليه من سلاطة في اللسان، وكثرة الجدل والمراء.
فهو صاحب ذلك المذهب الخبيث الذي اشتهر بنسبته إليه والذي صار به مذهباً، فلم يزل هو يدعو إليه الرجال، وامرأته "زهرة" تدعو إليه النساء، حتى استهويا به خلقاً من خلق الله كثيراً.
وكانت فتنته بالمشرق، فهناك بسطت ومهدت ثم سارت في البلاد4
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ثم ظهر جهم بن صفوان من ناحية المشرق من ترمذ، ومنها ظهر رأي جهم. ولهذا كان علماء السنة والحديث بالمشرق أكثر
1- الصواعق المرسلة 3/1070-1072
2-
منهاج السنة 1/309.
3-
مختصر تاريخ دمشق 6/50، البداية 9/350.
4-
ذم الكلام للهروي ص305.
كلاماً في رد مذهب جهم من أهل الحجاز، مثل إبراهيم بن طهمان، وخارجة بن مصعب، ومثل عبد الله بن المبارك، وأمثالهم وقد تكلم في ذمهم ابن الماجشون، وغيرهما وكذلك الأوزاعي، وحماد بن زيد وغيرهم.)
وقد ظهر الجهم في آخر دولة بني أمية. وقد قتل في بعض الحروب2 سنة (128هـ) .
"مرحلة اشتهار مقالة التعطيل"
وبعد مقتل الجهم بن صفوان على يد سلم بن أحوز، قام لهذه المقالة أحمد بن أبي داؤد (240هـ) وبشر المريسي (218هـ) فملآ الدنيا محنة والقلوب فتنة دهراً طويلاً.
(فما إن جاء أول المائة الثالثة، وولي على الناس عبد الله المأمون (198هـ - 218هـ) ، وكان يحب أنواع العلوم، وكان مجلسه عامراً بأنواع المتكلمين في العلوم، فغلب عليه حب المعقولات فأمر بتعريب كتب اليونان، وأقدم لها المترجمين من البلاد فعربت له، واشتغل بها الناس، والملك سوق ما سوق فيه جلب إليه، فغلب على مجلسه جماعة من الجهمية ممن كان أبوه الرشيد قد أقصاهم وتتبعهم بالحبس والقتل. فحشوا بدعة التجهم في أذنه وقلبه، فقبلها، واستحسنها، ودعا الناس إليها، وعاقبهم عليها)
قال ابن تيمية: (الجهمية لم يكونوا ظاهرين إلا بالمشرق، لكن قوى أمرهم
1- مجموع الفتاوى 14/351.
2-
مجموع الفتاوى 13/182.
3-
الصواعق المرسلة 3/1072.
لما مات الرشيد وتولى ابنه الملقب بالمأمون بالمشرق وتلقى عن هؤلاء ما تلقاه. ثم لما تولى الخلافة اجتمع بكثير من هؤلاء، ودعا إلى قولهم في آخر عمره، وكتب وهو بالثغر بطرسوس إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب كتاباً يدعو الناس فيه إلى أن يقولوا القرآن مخلوق، فلم يجبه أحد؛ ثم كتب كتاباً ثانياً يأمر فيه بتقييد من لم يجبه وإرساله إليه، فأجاب أكثرهم، ثم قيدوا سبعة لم يجيبوا فأجاب منهم خمسة بعد القيد، وبقي اثنان لم يجيبا: الإمام أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، فأرسلوهما إليه فمات قبل أن يصلا إليه؛ وكان هذا سنة ثماني عشر ومائتين.)
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض حديثه عن تلك الحقبة الزمنية وما قبلها وما بعدها: (وتجد الإسلام والإيمان كلما ظهر وقوى كانت السنة وأهلها أظهر وأقوى، وإن ظهر شيء من الكفر والنفاق ظهرت البدع بحسب ذلك، مثل دولة المهدي (158-169هـ) والرشيد (170-194هـ) ونحوهما ممن كان يعظم الإسلام والإيمان ويغزو أعداءه من الكفار والمنافقين. كان أهل السنة في تلك الأيام أقوى وأكثر، وأهل البدع أذل وأقل. فإن المهدي قتل من المنافقين الزنادقة من لا يحصى عدده إلا الله، والرشيد كان كثير الغزو والحج.
وذلك أنه لما انتشرت الدولة العباسية وكان في أنصارها من أهل المشرق والأعاجم طوائف من الذين نعتهم النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "الفتنة هاهنا"؛ ظهر حينئذ كثير من البدع، وعربت أيضاً إذ ذاك طائفة من كتب الأعاجم
1- مجموع الفتاوى 13/183.
من المجوس الفرس، والصابئين الروم، والمشركين الهنود، وكان المهدي من خيار خلفاء بني العباس، وأحسنهم إيماناً وعدلاً وجوداً، فصار يتتبع المنافقين الزنادقة كذلك.
وفي دولة "أبي العباس المأمون" ظهر "الخرمية" ونحوهم من المنافقين، وعرب من كتب الأوائل المجلوبة من بلاد الروم ما انتشر بسببه مقالات الصابئين، وراسل ملوك المشركين من الهند ونحوهم حتى صار بينه وبينهم مودة.
فلما ظهر ما ظهر من الكفر والنفاق في المسلمين، وقوى ما قوى من حال المشركين وأهل الكتاب، كان من أثر ذلك ما ظهر من استيلاء الجهمية والرافضة وغيرهم من أهل الضلال وتقريب الصابئة ونحوهم من المتفلسفة. وذلك بنوع رأي يحسبه صاحبه عقلاً وعدلاً، وإنما هو جهل وظلم، إذ التسوية بين المؤمن والمنافق، والمسلم والكافر أعظم الظلم، وطلب الهدى عند أهل الضلال أعظم الجهل، فتولد من ذلك محنة الجهمية، حتى امتحنت الأمة بنفي الصفات والتكذيب بكلام الله ورؤيته، وجرى من محنة الإمام أحمد وغيره ما جرى، مما يطول وصفه)
قال الذهبي: (لما تولى المأمون الخلافة على رأس المائتين، نجم التشيع وأبدى صفحته. (وكان المأمون شيعياً)
وبزغ فجر الكلام، وعربت حكمة الأوائل ومنطق اليونان، وعمل رصد الكواكب، ونشأ للناس علم جديد مُرْدٍ مهلك لا يلائم علم النبوة ولا يوافق
1- مجموع الفتاوى 4/20،21.
2-
سير أعلام النبلاء 10/281.
توحيد المؤمنين، وقد كانت الأمة منه في عافية، وقويت شوكة الرافضة والمعتزلة، وحمل المأمون المسلمين على القول بخلق القرآن، ودعاهم إليه فامتحن العلماء فلا حول ولا قوة إلا بالله. إن من البلاء أن تعرف ما كنت تنكر وتنكر ما كنت تعرف، وتُقَدَّم عقول الفلاسفة، ويُعْزَلَ منقول أتباع الرسل، ويُمارى في القرآن، ويتبرم بالسنن والآثار، وتقع في الحيرة. فالفرار قبل حلول الدمار، وإياك ومضلات الأهواء ومجاراة العقول، ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم)
فالمأمون أول من أعلن بدعة القول بخلق القرآن من السلاطين ودعا إليها بقوة السلطان، (وكان كلامه في القرآن سنة اثنتي عشرة ومائتين فأنكر الناس ذلك واضطربوا ولم ينل مقصوده ففتر إلى وقت) 2 (ولكنه لم يرجع عن قوله وصمم على امتحان العلماء في سنة ثمان عشرة وشدد عليهم فأخذه الله.)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ما أظن أن الله يغفل عن المأمون، ولابد أن يقابله على ما اعتمده مع هذه الأمة من إدخال هذه العلوم الفلسفية بين أهلها)
قال السيوطي: (أول من أدخل المنطق والفلسفة وسائر علوم اليونان في ملة الإسلام وأحضرها من جزيرة قبرص المأمون.)
وفي هذه المرحلة قويت شوكت التعطيل واتسعت دائرته ونشط دعاته وكثرت
1- تذكرة الحفاظ 1/328.
2-
سير أعلام النبلاء 10/281.
3-
سير أعلام النبلاء 10/283، فوات الوفيات 2/238.
4-
لوامع الأنوار البهية 1/9.
5-
الوسائل إلى مسامرة الأوائل ص118.
طوائفه. فبعد أن كان خصوم أهل السنة هم الجهمية فقط، ظهر المعتزلة الذين حملوا راية التعطيل ووجهوا دفته، ودخلوا فيه بقوة هيأها لهم المأمون ومن بعده المعتصم ثم الواثق. وشايعهم على ذلك العديد من الفرق الضالة، فجمعت المعتزلة من ذلك الوقت بين بليتين "بلية نفي الصفات" و"بلية نفي القدر". وفي هذه المرحلة ظهر القرامطة، وبدؤوا يظهرون قولهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وكانت "محنة الإمام أحمد" سنة عشرين ومائتين، وفيها شرعت القرامطة الباطنية يظهرون قولهم، فإن كتب الفلاسفة قد عربت وعرف الناس أقوالهم فلما رأت الفلاسفة أن القول المنسوب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل بيته هو هذا القول الذي يقوله المتكلمون الجهمية ومن اتبعهم، ورأوا أن هذا القول الذي يقولونه فاسد من جهة العقل؛ طمعوا في تغيير الملة. فمنهم من أظهر إنكار الصانع، وأظهر الكفر الصريح، وقاتلوا المسلمين، وأخذوا الحجر الأسود، كما فعلته قرامطة البحرين.)
وفي هذه المرحلة أيضاً ظهرت "الصفاتية" وهم وإن كانوا من أقرب المتكلمين إلى السنة إلا أنهم خالفوا قول أهل السنة بنفيهم للصفات الاختيارية، وعلى رأس أولئك عبد الله بن سعيد بن كلاب (234هـ) والحارث بن أسد المحاسبي (ت234) وأبو العباس القلانسي وغيرهم.
ومنذ ذلك الحين اتسعت دائرة التعطيل وعظم خطره وكثر خصوم السنة.
1- مجموع الفتاوى 5/558.