الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: بدء ظهوره وقصة قتله
المطلب الأول: بدء ظهور مقالة الجعد
…
المطلب الأول: بدء ظهور مقالة الجعد
تشير بعض المصادر إلى أن الجعد كان في بدء أمره يسكن الجزيرة الفراتية1 من أرض العراق وفيها بدء نشر فكره الضال المنحرف.
قال السمعاني: (الجعد بن درهم مولى سويد بن غفلة وقع إلى الجزيرة وأخذ برأيه جماعة، وكان الوالي بها إذ ذاك مروان بن محمد)
وقال ابن الأثير: (مذهب الجعد بن درهم مولى سويد بن غفلة، صار إلى الجزيرة، وأخذ برأيه جماعة، وكان الوالي حينئذ مروان بن محمد الحمار وإليه ينسب مروان فيقال الجعدي)
وقال الزبيدي: (الجعد بن درهم مولى سويد بن غفلة صاحب رأي أخذ به جماعة بالجزيرة)
ومن أشهر من تأثر بفكر الجعد في هذه الفترة مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، ولهذا يقال له مروان الجعدي، فنسب إليه إذ أن الجعد هو شيخه وأستاذه5 فالجعد كان مؤدباً لمروان بن محمد في الفترة التي كان فيها مروان والياً لهشام بن عبد الملك على الجزيرة من أرض العراق فتعلم مروان من الجعد
1- الأعلام 2/120.
2-
الأنساب 3/265.
3-
اللباب 1/230.
4-
تاج العروس 2/321.
5-
البداية 9/350، 10/19، مختصر تاريخ دمشق 6/50.
مذهبه في القول بخلق القرآن، والقدر وغير ذلك، وكان الناس يذمون مروان لنسبته إليه1 وقيل: إنه كان مؤدبا له في صغره2 فقد كان مولد مروان بالجزيرة في سنة اثنتين وسبعين للهجرة3 وذكر أنه كان مؤدباً له ولولده.4
وبسبب مروان بن محمد انتشر فكر الجعد في الجزيرة الفراتية قال ابن القيم: (وإنما نفق عند الناس لأنه كان معلم مروان بن محمد وشيخه، ولهذا يسمى مروان الجعدي) .5
وانتقل الجعد بعد ذلك من الجزيرة إلى دمشق، وسكنها وهي يوم ذلك عاصمة الخلافة، وحاضرة العلم والعلماء، ولعل المبرر في انتقاله إليها: محاولته لبث فكره المنحرف الضال على نطاق أوسع، لما تمثله دمشق في ذلك الوقت من كونها دار الخلافة ومركز الحضارة والعلم، وملتقى العلماء وطلاب العلم.
ويظهر هذا القصد جلياً في إظهار الجعد لبدعته، ومحاولته لطرحها في مجالس العلماء، ومجادلتهم في ذلك، كما هي حال أمثاله من المبتدعة الزنادقة الذين يستخدمون مثل هذه الأساليب في نشر فكرهم المنحرف.
قال ابن كثير: (سكن الجعد دمشق، وكانت له بها دار بالقرب من القلاسيين إلى جانب الكنيسة)
1- الكامل 5/160، تاج العروس 2/321.
2-
الأعلام 2/120.
3-
سير أعلام النبلاء 6/74.
4-
الفهرست ص401.
5-
مختصر الصواعق 1/226، 227.
6-
البداية 9/350.
وقال ابن عساكر: (كان يسكن دمشق، وله بها دار)
وقال ابن كثير: (وذكر أنه كان يتردد إلى وهب بن منبه2، وأنه كلما راح إلى وهب يغتسل ويقول: أجمع للعقل، وكان يسأل وهباً عن صفات الله عز وجل؛ فقال له وهب يوماً: ويلك يا جعد اقصر المسألة عن ذلك، إني لأظنك من الهالكين، لو لم يخبرنا الله في كتابه أن له يداً ما قلنا ذلك، وأن له عيناً ما قلنا ذلك، وأن له نفساً ما قلنا ذلك وأن له سمعاً ما قلنا ذلك، وذكر الصفات من العلم والكلام وغير ذلك)
وقال عبد الصمد بن معقل: قال الجعد بن درهم: ما كلمت عالماً قط إلا غضب وحل حبوته غير وهب.4
وقد كان لمناظرات الجعد ومجادلاته مع العلماء أثرها العكسي عليه، فلم تحقق ما يصبو إليه من أهداف كزرع الشبه وزعزعة المعتقد وإحداث البلبلة في فكر المسلمين. بل على العكس من ذلك فقد ساعدت تلك المناظرات على كشفه وفضح مقاصده وبيان فساد معتقده ورفع أمره إلى ولي الأمر وخليفة المسلمين هشام بن عبد الملك المعروف بمواقفه من المبتدعة.
ويروي لنا ابن الأثير سبب اكتشاف أمر الجعد وسبب طلب هشام له والقبض عليه فيقول: (وقيل إن الجعد كان زنديقاً، وعظه ميمون بن مهران
1- مختصر تاريخ دمشق 6/50.
2-
وهب بن منبه بن كامل اليماني، العلامة الاخباري القصصي ثقة من الثالثة، مات سنة بضع عشرة ومائة (تقريب التهذيب ص372، سير أعلام النبلاء 4/544) .
3-
البداية 9/350.
4-
سير أعلام النبلاء 4/547، تاريخ دمشق 17/477/ب.
فقال: لشاه قباذ أحب إلي مما تدين به.
فقال له: قتلك الله، وهو قاتلك، وشهد عليه ميمون وطلبه هشام وسيره إلى خالد القسري فقتله) 1 فهذا النص التاريخي يوضح أن الفضل في كشف أمر الجعد ورفع أمره يعود لميمون بن مهران الذي وعظ الجعد في بداية الأمر فلما رأى أن الموعظة لا تنفع شهد عليه؛ فطلبه هشام بن عبد الملك، وقد اختلفت الروايات التاريخية في طريقة إخراج الجعد من دمشق:
فقال ابن الأثير: (وقيل إن الجعد بن درهم أظهر مقالته بخلق القرآن أيام هشام بن عبد الملك، فأخذه هشام وأرسله إلى خالد القسري وهو أمير العراق، وأمره بقتله، فحبسه خالد ولم يقتله، فبلغ الخبر هشاماً، فكتب إلى خالد يلومه ويعزم عليه أن يقتله
…
)
ويروي ابن عساكر وابن كثير رواية تختلف عن رواية ابن الأثير فيقول ابن عساكر: (كان الجعد أول من أظهر القول بخلق القرآن في أمة محمد فطلبه بنو أمية فهرب من دمشق وسكن الكوفة، ومنه تعلم الجهم بن صفوان بالكوفة خلق القرآن)
وقال ابن كثير: (وأما الجعد فإنه أقام بدمشق حتى أظهر القول بخلق القرآن، فتطلبه بنو أمية فهرب منهم، فسكن الكوفة فلقيه فيها الجهم بن صفوان فتقلد هذا القول منه)
1- الكامل 5/429.
2-
الكامل 5/263.
3-
مختصر تاريخ دمشق 6/50.
4-
البداية 9/350.
ويروى أبو محمد اليمني رواية ثالثة في قصة إخراج الجعد من دمشق فيقول: (فبان له [أي هشام بن عبد الملك] بعض زندقته فنفاه إلى البصرة وكان عليها إذ ذاك خالد بن عبد الله القسري فرفع إليه خبره في يوم الأضحى
…
) 1 وذكر قصة ذبحه. والراويات التاريخية تذكر أن للجعد نشاطاً بالبصرة وبالكوفة، فممن أشار إلى نشر الجعد لبدعته بالبصرة الدارمي حيث قال:(كان أول من أظهر شيئاً منه [أي التكذيب بكلام الله] بعد كفار قريش الجعد بن درهم بالبصرة، وجهم بخراسان إقتداءاً بكفار قريش، فقتل الله جهماً شر قتلة. وأما الجعد فأخذه خالد بن عبد الله القسري، فذبحه ذبحاً بواسط يوم الأضحى، على رؤوس من شهد العيد معه من المسلمين، ولا يعيبه به عائب، ولا يطعن عليه طاعن بل استحسنوا ذلك من فعله، وصوبوه من رأيه) 2 فالشاهد قوله إنه "أظهره بالبصرة".
وأما عن نشاطه في الكوفة فقد تقدم قول ابن كثير: (فهرب من دمشق وسكن الكوفة ومنه تعلم الجهم بالكوفة خلق القرآن.)
فالذي يستنتج من تلك الروايات أن الجعد كان يتردد بين الكوفة والبصرة، لكن تبقى مسألة نفيه محل النظر فمثل هذه المسألة لا يكون حلها بالنفي، إلا أن يكون المقصود بالنفي السجن، وبالتالي إذا كان هذا هو المراد فإن هذه الرواية تتفق مع رواية ابن الأثير.
1- عقائد الثلاث والسبعين فرقة 1/287.
2-
الرد على الجهمية ص7.
ويستنتج من الأخبار السابقة الأمور التالية:
1-
أن بدعة الجعد ظهرت بوادرها في الجزيرة الفراتية من أرض العراق، ثم أظهرها الجعد بدمشق لما انتقل إليها وسكن فيها، فطلبه بنو أمية لما علموا بأمره، فهرب منها إلى الكوفة فلقيه فيها الجهم بن صفوان فتقلد هذا القول عنه.
2-
أن زمن ظهور بدعة الجعد كان في أيام خلافة هشام بن عبد الملك الذي تولى الخلافة في الفترة ما بين 105-125هـ.
3-
أن الفضل في الإنكار على الجعد والأمر بقتله يعود في المقام الأول إلى هشام بن عبد الملك، وليس لخالد بن عبد الله القسري فهشام هو الذي طلب الجعد لما أظهر بدعته بدمشق، ولكن الجعد هرب إلى الكوفة، فأرسل هشام في طلبه كما في خبر ابن كثير، وابن عساكر. أو أن هشاما نفاه إلى البصرة كما في خبر اليماني. أو أن هشاماً قبض عليه، وأرسله إلى عامله بالعراق خالد القسري، وأمره بقتله، لكن خالد اكتفى بحبسه ولم يقتله، فبلغ الخبر هشاماً، فكتب إلى خالد يلومه ويعزم عليه أن يقتله. كما أشار إلى ذلك ابن الأثير.
والذي يترجح عندي أن خبر ابن كثير وابن عساكر أقرب للصواب لأن الجعد عندما كان في الكوفة أخذ منه الجهم بن صفوان مقالته. وعموماً فإن جميع الروايات توضح أن الفضل يعود في الدرجة الأولى لهشام ابن عبد الملك، وإن كان الفضل يرجع لخالد القسري في طريقة إعلانه لهذا الأمر في مجمع الناس بعيد الأضحى، ففي ذلك ترهيب لكل مبتدع. ولقد كان هشام شديداً على أهل البدع، وليست هذه هي المنقبة الوحيدة له. فقد كان من مناقبه في حرب أهل البدع والأهواء قتله لغيلان الدمشقي الذي أظهر القول بنفي القدر في أيام
عمر بن عبد العزيز، فأحضره عمر، واستتابه، فتاب. ثم عاد للكلام فيه أيام هشام، فأحضره من ناصرة ثم أحضر له الأوزاعي لمناظرته، فأفتى الأوزاعي بقتله، فأمر به فقطعت يداه ورجلاه، ثم أمر به فصلب.1
فقد أخرج عبد الله بن الإمام أحمد بسنده عن أبي جعفر الخطمي قال: شهدت عمر بن عبد العزيز وقد دعا غيلان لشيء بلغه في القدر فقال له: ويحك يا غيلان ما هذا الذي بلغني عنك؟
قال: يُكذَب عليَّ يا أمير المؤمنين، ويُقالُ عليَّ ما لم أقل.
قال: ما تقول في العلم؟
قال: قد نفذ العلم.
قال: فأنت مخصوم، اذهب الآن فقل ما شئت، ويحك يا غيلان إنك إن أقررت بالعلم خصمت، وإن جحدته كفرت، وإنك أن تقر به فتخصم خير لك من أن تجحده فتكفر.
ثم قال: تقرأ ياسين؟
قال: نعم.
فقال: اقرأ {ياسين والقرآن الحكيم} 2
فقرأ: {ياسين والقرآن الحكيم} 3 إلى قوله: {لقد حقَّ القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون} 4
فقال: قف، كيف ترى؟
قال: كأني لم أقرأ هذه الآية يا أمير المؤمنين.
قال: زد. فقرأ {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون
1- الكامل لابن الأثير 5/263، الأعلام 5/124.
2-
الآيتان 1-2 من سورة يس.
3-
الآيتان 1-2 من سورة يس.
4-
الآية 7 من سورة يس.
وجعلنا من بين أيدهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون} 1
قال: قال عمر رحمه الله: قل {فأغشيناهم فهم لا يبصرون وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} 2 قال: كيف ترى؟
قال: كأني لم أقرأ هذه الآيات قط، وإني لأعاهد الله أن لا أتكلم في شيء مما كنت أتكلم فيه أبداً.
قال: اذهب، فلما ولى. قال: اللهم إن كان كاذباً فيما قال فأذقه حر السلاح.
قال: فلم يتكلم زمن عمر رحمه الله، فلما كان زمن يزيد بن عبد الملك جاء رجل لا يهتم لهذا ولا ينظر فيه فتكلم غيلان، فلما ولي هشام أرسل إليه فقال: أليس عاهدت الله عز وجل لعمر أن لا تتكلم في شيء من هذا الأمر أبداً؟
قال: أقلني فوالله لا أعود.
قال: لا أقالني الله إن أقلتك هل تقرأ فاتحة الكتاب؟
قال: نعم.
قال: فاقرأ.
فقرأ {الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين} 3
قال: قف، علام استعنته؟ على أمر بيده لا تستطيعه إلا به، أو على أمر في يدك أو بيدك؟ اذهبوا فاقطعوا يديه ورجليه واضربوا عنقه واصلبوه.)
1- الآيتان 8،9 من سورة يس.
2-
الآية 10 من سورة يس.
3-
الآيات 1-5 من سورة الفاتحة.
4-
السنة لعبد الله بن الامام أحمد 2/429، 430 رقم 948، وأخرجه الآجري في الشريعة (ص228) ، وانظر التنبيه والرد للملطي ص168.
وأخرج الآجري بسنده وكذا ابن حبان عن إبراهيم بن أبي عبلة قال: "كنت عند عبادة بن نُسَيٍّ، فأتاه رجل. فأخبره أن أمير المؤمنين هشاماً قطع يد غيلان ولسانه وصلبه، فقال له: حقاً ما تقول؟
قال: نعم.
قال: أصاب والله السنة والقضية، ولأكتبن إلى أمير المؤمنين فلأحسنن له ما صنع"1
ومن مناقب هشام كذلك إصداره أمراً لواليه بخراسان نصر بن سيار بقتل الجهم بن صفوان تلميذ الجعد بن درهم فقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق صالح بن الإمام أحمد بن حنبل قال: قرأت في دواوين هشام ابن عبد الملك إلى نصر بن سيار عامل خراسان: أما بعد فقد نجم قبلك رجل يقال له جهم من الدهرية فإن ظفرت به فاقتله) 2 ولكن هشام توفي قبل ذلك فقد كانت وفاته سنة (126هـ) والجهم قتل سنة (128هـ) .
فهذه ثلاث مناقب لهشام تظهر شدته على أهل البدع.
1- الشريعة للأجري ص229، المجروحين لابن حبان 2/200.
2-
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي 3/381، رقم 637، وفتح الباري 13/346.