الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: مراحل اتساع دائرة التعطيل
مرحلة "المعتزلة"
وقد دخلت المعتزلة في تلك المرحلة في هذه المقالة، وشاركوا الجهمية في بعض أصولهم، (مع أن المعتزلة الذين كانوا في زمن عمرو بن عبيد وأمثاله لم يكونوا جهمية، وإنما كانوا يتكلمون في الوعيد وإنكار القدر، وإنما حدث فيهم نفي الصفات بعد هذا، ولهذا لما ذكر الإمام أحمد في رده على الجهمية1 قول جهم قال: (فاتبعه قوم من أصحاب أبي حنيفة، وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة) .
واشتهر هذا القول عن أبي الهذيل العلاف (235هـ) والنظام (231هـ) وأشباههم من أهل الكلام)
وبدأ اشتهار مقالة التعطيل من حين فتنة الإمام أحمد بن حنبل وغيره من علماء السنة، فالمعطلة للأسماء والصفات في زمن إمارة المأمون (198-218هـ) قووا وكثروا، فإن المأمون كان قد أقام بخراسان مدة، واجتمع بهم، ثم كتب بالمحنة من طرسوس سنة ثماني عشرة ومائتين، وفيها مات المأمون.
وردوا أحمد بن حنبل إلى الحبس ببغداد إلى سنة عشرين ومائتين وفيها كانت محنته مع المعتصم ومناظرته لهم في الكلام. فلما رد عليهم ما احتجوا به عليه، وبين أن لا حجة لهم في شيء من ذلك، وأن طلبهم من الناس أن
1- الرد على الزنادقة والجهمية ص66،67. (ضمن كتاب عقائد السلف) .
2-
شرح الأصفهانية ص65.
يوافقوهم، وامتحانهم إياهم جهل وظلم. وأراد المعتصم إطلاقه، فأشار عليه من أشار بأن المصلحة ضربه حتى لا تنكسر حرمة الخلافة مرة بعد مرة. فلما ضربوه قامت الشناعة عليهم في العامة، وخافوا الفتنة. فأطلقوه.
وكان أحمد بن أبي دؤاد قد جمع له نفاة الصفات القائلين بخلق القرآن من جميع الطوائف، وكانت الطوائف التي تقول بخلق القرآن في ذلك الحين هم المعتزلة، والجهمية أتباع جهم والنجارية أتباع حسين النجار، والضرارية أتباع ضرار بن عمرو ولذلك يخطئ من يظن أن خصوم الإمام أحمد هم المعتزلة فقط، فيظن أن بشر بن غياث المريسي -وإن كان مات قبل محنة الإمام أحمد-، وابن أبي دؤاد ونحوهما كانوا معتزلة وليس كذلك.1
وقد استمرت محنة القول بخلق القرآن أربعة عشر عاماً من سنة ثماني عشرة ومائتين إلى سنة أربع وثلاثين ومائتين للهجرة فقد سار المعتصم (218-227هـ) والواثق (227-232هـ) على طريقة المأمون، فامتحنوا العلماء بذلك وحملوا الكافة على القول بخلق القرآن، فمدت بدعة التعطيل رواقها، وتنفذ أهلها على البلاد والعباد، وصارت المنابر والحلق والقضاء حكراً على هؤلاء المعطلة، وضيق على أهل السنة ونالهم العنت الشديد. وهو أمر لم يسبق له نظير قبله في خلفاء الأمة.
واستمر الأمر كذلك حتى جاء الله بالفرج والنصر لأهل السنة في عهد الخليفة المتوكل رحمه الله سنة أربع وثلاثين ومائتين فانقضى عصر المحنة بعد سنتين من خلافة المتوكل الذي أظهر السنة، وقمع البدعة، وزجر عن القول
1- مجموع الفتاوى 14/351،352. «بتصرف» و 5/554.
بخلق القرآن.)
وظهر للناس وتبين لهم باطن أمر الجهمية، وأنهم معطلة الصفات يقولون إن الله لا يرى، ولا له علم، ولا قدرة، وإنه ليس فوق العرش رب، ولا على السماوات إله، وإن محمداً لم يعرج به إلى ربه، إلى غير ذلك من أقوال الجهمية النفاة، فكثر رد الطوائف عليهم بالقرآن والحديث والآثار تارة وبالكلام الحق تارة، وبالباطل تارة.2
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وكان في أيام "المتوكل" (232-247هـ) قد عز الإسلام، حتى ألزم أهل الذمة بالشروط العمرية، وألزموا الصغار، فعزت السنة والجماعة، وقمعت الجهمية والرافضة ونحوهم.
وكذلك في أيام "المعتضد"(279-289هـ)"والمهدي"(158-169هـ)"والقادر"(381-422هـ) وغيرهم من الخلفاء الذين كانوا أحمد سيرة وأحسن طريقة من غيرهم. وكان الإسلام في زمنهم أعز، وكانت السنة بحسب ذلك.3
1- سير أعلام النبلاء 12/34، مجموع الفتاوى 13/183،184.
2-
مجموع الفتاوى 5/555.
3-
مجموع الفتاوى 4/21،22.
مرحلة الصفاتية:
1-
"الكلابية"
وكان ممن انتدب للرد على الجهمية والمعتزلة أبو محمد عبد الله ابن سعيد بن كلاب القطان.1 فقد جاء عبد الله بن سعيد بن كلاب البصري المتوفي سنة (243هـ) بعد هؤلاء [أي الجهمية والمعتزلة] في زمن محنة القول بخلق القرآن التي سبق ذكرها وكان قد انتشر بين الأمة النزاع في هذه المسائل، فقام أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كُلَاّب القطان البصري، وكان رأس المتكلمين بالبصرة في زمانه، وصنف في الرد على الجهمية والمعتزلة مصنفات، وبين تناقضهم فيها وكشف كثيراً من عوراتهم وكان له فضل وعلم ودين.2
لكن ابن كلاب لما رد على الجهمية لم يهتد لفساد أصل الكلام المحدث الذي ابتدعوه في دين الإسلام، بل وافقهم عليه3 وسلم لهم ذلك الأصل الذي هو ينبوع البدع "وهي مسألة حلول الحوادث".
فاحتاج بذلك إلى أن يقول: إن الرب لا تقوم به الأمور الاختيارية ولا يتكلم بمشيئته وقدرته، ولا نادى موسى حين جاء الطور، بل ولا يقوم به نداء حقيقي، ولا يكون إيمان العباد وعملهم الصالح هو السبب في رضاه ومحبته، ولا كفرهم هو السبب في سخطه وغضبه، فلا يكون بعد أعمالهم لا حب ولا رضا ولا سخط ولا فرح ولا غير ذلك مما أخبرت به نصوص الكتاب والسنة.4
1- مجموع الفتاوى 5/555.
2-
منهاج السنة النبوية 1/312.
3-
مجموع الفتاوى 5/555.
4-
منهاج السنة 1/312.
فابتدع ابن كلاب مسلكاً خاصاً به، حاول أن يلفق فيه بين النصوص الشرعية والنظريات الكلامية، فأنشأ في المسألة ما يعرف "بمذهب الصفاتية" فأصبح قولاً ثالثاً في المسألة بينما كان الأمر في السابق يتنازعه فريقان "المثبتة" وهم أهل السنة والجماعة. و "النفاة" وهم الجهمية والمعتزلة والنجارية والضرارية.1
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (كان الناس قبل أبي محمد بن كلاب صنفين:
فأهل السنة والجماعة يثبتون ما يقوم بالله تعالى من الصفات والأفعال التي يشاؤها ويقدر عليها.
والجهمية من المعتزلة وغيرهم تنكر هذا وهذا.
فأثبت ابن كلاب قيام الصفات اللازمة به، ونفى أن يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها. ووافقه على ذلك أبو العباس القلانسي، وأبو الحسن الأشعري وغيرهما.
وأما الحارث المحاسبي فكان ينتسب إلى قول ابن كلاب، ولهذا أمر أحمد بهجره، وكان أحمد يحذر عن ابن كلاب وأتباعه ثم قيل عن الحارث: إنه رجع عن قوله.2
فهذا النهج الذي أحدثه ابن كلاب هو ما صار يعرف فيما بعد بمنهج "متكلمة الصفاتية" لأن ابن كلاب كان في طريقته يميل إلى مذهب أهل الحديث والسنة، لكن كان في طريقته نوع من البدعة، لكونه أثبت قيام الصفات بذات الله، ولم يثبت قيام الأمور الاختيارية بذاته.
1- درء تعارض العقل والنقل 2/6.
2-
درء تعارض العقل والنقل 2/1.
وقد كانت له جهود في الرد على الجهمية1 ولكنه ناظرهم بطريق قياسية سلم لهم فيها أصولاً هم واضعوها من امتناع تكلمه تعالى بالحروف، وامتناع قيام الصفات الاختيارية بذاته مما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال والكلام وغير ذلك.2 فأصبح بعد ذلك قدوة وإماماً لمن جاء بعده من هذا الصنف الذين أثبتوا الصفات وناقضوا نفاتها، لكن شاركوهم في بعض أصولهم الفاسدة التي أوجبت فساد بعض ما قالوه من جهة المعقول ومخالفته لسنة الرسول.)
فابن كلاب أحدث مذهباً جديداً، فيه ما يوافق السلف وفيه ما يوافق المعتزلة والجهمية. فابن كلاب أسس مدرسة ثالثة وهي مدرسة "الصفاتية" التي اشتهرت بمذهب الإثبات، لكن في أقوالهم شيء من أصول الجهمية4
وقد سار على هذا النهج القلانسي والأشعري والمحاسبي وغيرهم، وهؤلاء هم سلف الأشعري والأشاعرة القدماء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وكان أبو محمد بن كلاب هو الأستاذ الذي اقتدى به الأشعري في طريقه هو وأئمة أصحابه كالحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي، وأبي سليمان الدمشقي، وأبي حاتم البستي)
فابن كلاب هو إمام الأشعرية الأول، وكان أكثر مخالفة للجهمية، وأقرب
1- مجموع الفتاوى 12/366.
2-
مجموع الفتاوى 12/376.
3-
مجموع الفتاوى 12/366.
4-
مجموع الفتاوى 12/206.
5-
منهاج السنة 2/327.
إلى السلف من الأشعري.1
ولكن هذا النهج الكلابي ابتعد شيئاً فشيئاً عن منهج السلف، وأصبح يقرب أكثر فأكثر إلى نهج المعتزلة وذلك على يد وارثيه من الأشاعرة.
فابن كلاب كما أسلفنا كان أقرب إلى السلف من أبي الحسن الأشعري، وأبو الحسن الأشعري أقرب إلى السلف من القاضي أبي بكر الباقلاني، والقاضي أبو بكر وأمثاله أقرب إلى السلف من أبي المعالي الجويني وأتباعه.2
ولهذا يوجد في كلام الرازي والغزالي ونحوهما من الفلسفة مالا يوجد في كلام أبي المعالي الجويني وذويه. ويوجد في كلام الرازي والغزالي والجويني من مذهب النفاة المعتزلة ما لا يوجد في كلام أبي الحسن الأشعري وقدماء أصحابه. ويوجد في كلام أبي الحسن الأشعري من النفي الذي أخذه من المعتزلة ما لا يوجد في كلام أبي محمد بن كلاب الذي أخذ أبو الحسن طريقه.
ويوجد في كلام ابن كلاب من النفي الذي قارب فيه المعتزلة ما لا بوجد في كلام أهل الحديث والسنة والسلف والأئمة وإذا كان الغلط شبراً صار في الأتباع ذراعاً ثم باعاً حتى آل إلى هذا المآل والسعيد من لزم السنة.3
وقد تلاشت الكلابية كفرقة، لكن أفكارها حملت بواسطة الأشاعرة، فقد احتفظ الأشعري وقدماء أصحابه بأفكار الكلابية ونشروها، وبذلك اندرست المدرسة الكلابية الأقدم تاريخاً والأسبق ظهوراً في الأشعرية.
1- مجموع الفتاوى 12/202،203.
2-
مجموع الفتاوى 12/203.
3-
بغية المرتاد ص451.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والكلابية هم مشايخ الأشعرية، فإن أبا الحسن الأشعري إنما اقتدى بطريقة أبي محمد بن كلاب، وابن كلاب كان أقرب إلى السلف زمناً وطريقة. وقد جمع أبو بكر بن فورك (ت406هـ) كلام ابن كلاب والأشعري وبين اتفاقهما في الأصول)
فالكلابية أسبق في الظهور من الأشاعرة والماتريدية، فقد نشأت الكلابية في منتصف القرن الثالث، وهي أول الفرق الكلامية بعد الجهمية والمعتزلة، فقد توفى ابن كلاب سنة (243هـ) وفي أول القرن الرابع الهجري نشأت بقية فرق أهل الكلام وهم الأشاعرة المنتسبون إلى أبي الحسن الأشعري المتوفى سنة (324هـ) والماتريدية: أتباع أبي منصور الماتريدي المتوفى سنة (333هـ) وهي الفرق القائمة حتى زماننا هذا.
2-
"الأشعرية"
يعتبر أبو الحسن الأشعري امتداداً للمذهب الكلابي فأبو الحسن الأشعري الذي عاش في الفترة ما بين (260هـ -324هـ) كان معتزلياً إلى سن الأربعين، حيث عاش في بيت أبي علي الجبائي شيخ المعتزلة في البصرة، ثم رجع عن مذهب المعتزلة وسلك طريقة ابن كلاب وتأثر بها لفترة طويلة، ولعل السبب في ذلك أنه وجد في كتب ابن كلاب وكلامه بغيته من الرد على المعتزلة وإظهار فضائحهم وهتك أستارهم، وكان ابن كلاب قد صنف مصنفات رد فيها على الجهمية والمعتزلة وغيرهم. ولكن فات الأشعري أن ابن كلاب وإن رد على المعتزلة وكشف باطلهم وأثبت لله تعالى الصفات اللازمة، إلا أنه
1- الاستقامة 1/105.
وافقهم في إنكار الصفات الاختيارية التي تتعلق بمشيئته تعالى وقدرته، فنفى كما نفت المعتزلة أن الله يتكلم بمشيئته وقدرته. كما نفى أيضاً الصفات الاختيارية مثل الرضى، والغضب، والبغض، والسخط وغيرها.
وقد مضى الأشعري في هذا الطور نشيطاً يؤلف ويناظر ويلقى الدروس في الرد على المعتزلة سالكاً هذه الطريقة.
ثم التقى بزكريا بن يحي الساجي فأخذ عنه ما أخذ من أصول أهل السنة والحديث،1 وكان الساجي شيخ البصرة وحافظها2 ثم لما قدم بغداد أخذ عن حنبلية بغداد أموراً أخرى وذلك بآخر أمره.
ولكن كانت خبرته بالكلام خبرة مفصلة، وخبرته بالسنة خبرة مجملة، فلذلك وافق المعتزلة في بعض أصولهم التي التزموا لأجلها خلاف السنة واعتقد أنه يمكنه الجمع بين تلك الأصول، وبين الانتصار للسنة، كما فعل في مسألة الرؤية والكلام، والصفات الخبرية وغير ذلك.3
وقال عنه السجزي: (رجع في الفروع وثبت في الأصول) 4 أي أصول المعتزلة التي بنوا عليها نفي الصفات، مثل دليل الأعراض وغيره.5
وقال ابن تيمية: (أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كُلَاّب البصري، وأبو الحسن الأشعري كانا يخالفان المعتزلة ويوافقان أهل السنة في جمل أصول
1- مجموع الفتاوى 5/386، تذكرة الحفاظ (2/907) .
2-
العلو ص150، تذكرة الحفاظ (2/907) .
3-
مجموع الفتاوى 12/204.
4-
الرد على من أنكر الحرف والصوت ص168.
5-
موقف ابن تيمية من الأشاعرة 1/367.
السنة. ولكن لتقصيرهما في علم السنة وتسليمهما للمعتزلة أصولاً فاسدة، صار في مواضع من قوليهما مواضع فيها من قول المعتزلة ما خالفا به السنة، وإن كانا لم يوافقا المعتزلة مطلقاً)
وقال أيضاً: (والذي كان أئمة السنة ينكرونه على ابن كلاب والأشعري بقايا من التجهم والاعتزال، مثل اعتقاد صحة طريقة الأعراض وتركيب الأجسام، وإنكار اتصاف الله بالأفعال القائمة التي يشأها ويختارها، وأمثال ذلك) 2 وقد مرت الأشعرية بأطوار ومراحل كان أولها زيادة المادة الكلامية، ثم الجنوح الكبير للمادة الاعتزالية، ثم خلط هذه العقيدة بالمادة الفلسفية.
فالأشعرية المتأخرة مالوا إلى نوع التجهم بل الفلسفة وفارقوا قول الأشعري وأئمة أصحابه)
فقدماء الأشاعرة يثبتون الصفات الخبرية بالجملة، كأبي الحسن الأشعري وأبي عبد الله بن مجاهد وأبي الحسن الباهلي والقاضي أبي بكر الباقلاني، وأبي إسحاق الاسفرائيني، وأبي بكر بن فورك، وأبي محمد بن اللبان، وأبي علي بن شاذان، وأبي القاسم القشيري، وأبي بكر البيهقي وغير هؤلاء.4
لكن المتأخرين من أتباع أبي الحسن الأشعري كأبي المعالي الجويني وغيره لا يثبتون إلا الصفات العقلية، وأما الخبرية فمنهم من ينفيها ومنهم من يتوقف فيها كالرازي والآمدي وغيرهما.
1- الاستقامة 1/212.
2-
درء تعارض العقل والنقل 7/97.
3-
درء تعارض العقل والنقل 7/97.
4-
مجموع الفتاوى 4/147، 148.
ونفاة الصفات الخبرية منهم من يتأول نصوصها ومنهم من يفوض معناها إلى الله تعالى.
وأما من أثبتها كالأشعري وأئمة أصحابه. فهؤلاء يقولون تأويلها بما يقتضي نفيها تأويل باطل، فلا يكتفون بالتفويض بل يبطلون تأويلات النفاة.1
وهذا الاضطراب في العقيدة الأشعرية بين المتقدمين والمتأخرين سببه ما أسلفنا من ميل الأشاعرة بأشعريتهم إلى الإعتزال أكثر فأكثر بل إنهم خلطوا معها الفلسفة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فالأشعرية وافق بعضهم المعتزلة في الصفات الخبرية، وجمهورهم وافقهم في الصفات الحديثية، وأما الصفات القرآنية فلهم قولان:
فالأشعري والباقلاني وقدماؤهم يثبتونها، وبعضهم يقر ببعضها: وفيهم تجهم من جهة أخرى.
فإن الأشعري شرب كلام الجبائي شيخ المعتزلة، ونسبته في الكلام إليه متفق عليها عند أصحابه وغيرهم.
وابن الباقلاني أكثر إثباتاً بعد الأشعري، وبعد ابن الباقلاني ابن فورك، فإنه أثبت بعض ما في القرآن.
وأما الجويني ومن سلك طريقته فمالوا إلى مذهب المعتزلة فإن أبا المعالى كان كثير المطالعة لكتب أبي هاشم، قليل المعرفة بالآثار، فأثر فيه مجموع الأمرين2.
1- منهاج السنة 2/223، 224.
2-
منهاج السنة 2/223،224.
ففما إن جاء أبوبكر الباقلاني (ت403هـ) ، فتصدى للإمامة في تلك الطريقة وهذبها ووضع لها المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة، وجعل هذه القواعد تبعاً للعقائد الإيمانية من حيث وجوب الإيمان بها.1 وأسهم إلى حد كبير في تنظير المذهب الأشعري الكلامي وتنظيمه مما أدى إلى تشابه منهجي بين المذهب الأشعري والمذهب المعتزلي فقد كان الأشعري يجعل النص هو الأساس والعقل عنده تابع، أما الباقلاني فالعقيدة كلها بجميع مسائلها تدخل في نطاق العقل.2 ويعتبر الباقلاني المؤسس الثاني للمذهب الأشعري.3
ثم جاء بعده إمام الحرمين الجويني (ت478هـ) فاستخدم الأقيسة المنطقية في تأييد هذه العقيدة، وخالف الباقلاني في كثير من القواعد التي وضعها. وإن كان الجويني قد استفاد أكثر مادته الكلامية من كلام الباقلاني، لكنه مزج أشعريته بشيء من الاعتزال استمده من كلام أبي هاشم الجبائي المعتزلي على مختارات له، وبذلك خرج عن طريقة القاضي وذويه في مواضع إلى طريقة المعتزلة.
وأما كلام أبي الحسن الأشعري فلم يكن يستمد منه، وإنما ينقل كلامه مما يحكيه عنه الناس.4 وعلى طريقة الجويني اعتمد المتأخرون من الأشاعرة، كالغزالي (ت505هـ) وابن الخطيب الرازي (ت606هـ) وخلطوا مع المادة
1- مقدمة ابن خلدون ص465، ط: مصطفى محمد.
2-
مقدمة التمهيد للباقلاني ص15، بتحقيق الخضيري وأبو ريدة.
3-
نشأة الأشعرية وتطورها ص320.
4-
بغية المرتاد ص448، 451، «بتصرف» .
الاعتزالية التي أدخلها الجويني مادة فلسفية، وبذلك ازدادت الأشعرية بعداً وانحرافاً.
فالغزالي مادته الكلامية من كلام شيخه الجويني في "الإرشاد" و"الشامل" ونحوهما مضموماً إلى ما تلقاه من القاضي أبي بكر الباقلاني. ومادته الفلسفية من كلام ابن سينا، ولهذا يقال أبو حامد أمرضه الشفا، ومن كلام أصحاب رسائل إخوان الصفا ورسائل أبي حيان التوحيدي ونحو ذلك.
وأما الرازي فمادته الكلامية من كلام أبي المعالي والشهرستاني فإن الشهرستاني أخذه عن الأنصاري النيسابوري عن أبي المعالي، وله مادة اعتزالية قوية من كلام أبي الحسين البصري (ت436هـ) . وفي الفلسفة مادته من كلام ابن سينا والشهرستاني ونحوهما.1 والأشعرية الأغلب عليهم أنهم مرجئة في باب الأسماء والأحكام وجبرية في باب القدر، وأما الصفات فليسوا جهمية محضة بل فيهم نوع من التجهم، ولا يرون الخروج على الأئمة بالسيف موافقة لأهل الحديث وهم في الجملة أقرب المتكلمين إلى أهل السنة والحديث2.
وهناك عدة عوامل أدت إلى انتشار الأشعرية واشتهارها لعل من أبرزها ما يلي:
أولاً:- نشأةُ المذهب في "بغداد" التي كانت حاضرة الخلافة العباسية ومحط أنظار طلاب العلم الذين كانوا يفدون إليها من شتى الأقطار، فهذا العامل أدى بدوره إلى تبني البعض للمذهب الأشعري والسعي لنشره في
1- بغية المرتاد ص448، «بتصرف» .
2-
مجموع الفتاوى 6/55.
الأقطار الأخرى1. بسبب تواجد كثير من أعيان المذهب الأشعري في بغداد في ذلك الحين.
ثانياً: التقارب الذي كان موجوداً بين الأشعرية والحنبلية وما نفقت الأشعرية وراجت إلا بتوالفها مع الحنبلية. ولولا ذلك لكان مصيرها مصير المعتزلة الذين كان للحنابلة دور كبير في مقاومتهم والرد عليهم. وقد كان بين الأشعرية والحنبلية شيء من التوالف والمسالمة وكانوا قديما متقاربين.
فإن أبا الحسن الأشعري ما كان ينتسب إلا إلى مذهب أهل الحديث، وإمامهم عنده أحمد بن حنبل، وكان عداده في متكلمي أهل الحديث.
والأشعرية فيما يثبتونه من السنة فرع على الحنبلية كما أن متكلمة الحنبلية فيما يحتجون به من القياس العقلي فرع عليهم.
وإنما وقعت الفرقة بسبب فتنة القشيري2 وكان تلميذاً لابن فورك الذي كان من أشعرية خراسان الذين انحرفوا إلى التعطيل، فلما صنف القاضي أبو يعلى الحنبلي كتابه "إبطال التأويلات" رد فيه على ابن فورك شيخ القشيري وكان الخليفة وغيره مائلين إليه. فلما صار للقشيرية دولة بسبب السلاجقة جرت تلك الفتنة3.
ثالثاً: انتساب بعض الأمراء والوزراء للمذهب الأشعري وتبنيهم له ومن أبرزهم:
1- انظر كتاب موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من الأشاعرة 2/499.
2-
مجموع الفتاوى 6/52-53.
3-
مجموع الفتاوى 6/52-54.
أ- الوزير نظام الملك الذي تولى الوزارة لسلاطين السلاجقة فتولى الوزارة لألب أرسلان وملكشاه مدة ثلاثين سنة وذلك من سنة (455هـ- إلى 485هـ) .
وفي عهده أنشئت المدارس النظامية نسبة إليه وذلك في عدة مدن منها البصرة، وأصفهان، وبلخ، وهراة، ومرو، والموصل، وأهمها وأكبرها المدرسة النظامية في نيسابور وبغداد.
وكان نظام الملك معظماً للصوفية والأشعرية، إذ كان هؤلاء الذين يلقون الدروس في هذه المدارس، فكان لذلك دوره الكبير في نشر أصول العقيدة الأشعرية1.
ب- المهدي بن تومرت (524هـ) صاحب دولة الموحدين واسمه أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن تومرت، الذي تلقب بالمهدي، وكان قد ظهر في المغرب في أوائل المائة الخامسة، وكان قد دخل إلى بلاد العراق، وتعلم طرفاً من العلم، وكان فيه طرف من الزهد والعبادة، ولما رجع إلى المغرب صعد إلى جبال المغرب ونشر دعوته بين أناس من البربر وغيرهم من الجهال الذي لا يعرفون من دين الإسلام إلا ما شاء الله فعلمهم بعض شرائع الإسلام واستجاز أن يظهر لهم أنواعاً من المخاريق ليدعوهم بها إلى الدين، وادعى أنه المهدي الذي بشر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعظم اعتقاد أتباعه فيه، واستحلوا بسبب ما علمهم من المعتقد الأشعري والفلسفي دماء ألوف مؤلفة من أهل المغرب المالكية الذين كانوا على
1- انظر موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من الأشاعرة 2/500.
معتقد أهل السنة واتهموهم زوراً وبهتاناً أنهم مشبهة مجسمة ولم يكونوا من أهل هذه المقالة1. فكان ابن تومرت هو السبب في إدخال العقيدة الأشعرية في بلاد المغرب التي كانت قبل ذلك سنية سلفية فحسبنا الله ونعم الوكيل.
جـ- صلاح الدين الأيوبي
وكان صلاح الدين الأيوبي أشعرياً، فقد حفظ في صباه عقيدة ألفها له قطب الدين أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري أحد أعلام الأشعرية وصار يحفظها صغار أولاده، ولذلك نشأ هو وأولاده على المعتقد الأشعري، فحمل صلاح الدين الكافة على عقيدة أبي الحسن الأشعري، وتمادى الحال على ذلك في جميع أيام ملوك بني أيوب، ثم في أيام مواليهم الملوك من الأتراك2.
وقد كان لذلك دوره الكبير في نشر الأشعرية في سائر انحاء العالم الإسلامي، فمصر التي كانت مقر الدولة الأيوبية كانت هي حاضرة العلم في تلك العصور وقد كان للأزهر دور كبير في نشر العقيدة الأشعرية التي ادخلها صلاح الدين في مصر بعد أن قضى على الدولة العبيدية الإسماعلية، ومنذ زمن صلاح الدين والأزهر يقرر عقيدة الأشاعرة إلى يومنا هذا
1- انظر مجموع الفتاوى 11/475-
2-
الخطط للمقريزي 2/358.
"الماتريدية"
تعد الماتريدية شقيقة الأشعرية، وذلك لما بينهما من الائتلاف والإتفاق حتى لكأنهما فرقة واحدة، ويصعب التفريق بينهما. ولذلك يصرح كل من الأشاعرة والماتريدية بأن كلاً من أبى الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي هما إماما أهل السنة على حد تعبيرهم1.
ولعل هذا التوافق مع كونه يرجع في سببه الرئيسي إلى توافق أفكار الفرقتين وقلة المسائل الخلافية بينهما وبخاصة مع الأشعرية المتأخرة، إلا أن هناك أسباباً مهمة يجب اعتبارها وأخذها في الحسبان ولعل أهمها التزامن في نشأة الفرقتين مع كون كل فرقة استقلت بأماكن نفوذ لم تنازعها فيها الفرقة الأخرى. فالماتريدية انتشرت بين الأحناف الذين كانوا متواجدين في شرق العالم الإسلامي وشماله فقل أن تجد حنفياً على عقيدة الأشاعرة إلا ما ذكر من أن أبا جعفر السمناني -وهو حنفي- كان أشعرياً.
بينما نجد الأشعرية قد انتشرت بين الشافعية والمالكية وهم اليوم يتواجدون في وسط وغرب وجنوب وجنوب شرق العالم الإسلامي، فجل الشافعية والمالكية على الأشعرية. ولست اعني بذلك عوامهم وإنما الطبقة المثقفة منهم.
والماتريدية تنسب إلى أبي منصور محمد بن محمد بن محمود بن محمد الماتريدي المتوفى سنة (333هـ)
1- مفتاح السعادة 2/151،152 تأليف: طاش كبرى زاده
2-
انظر ترجمته في كتاب الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات 1/209 للدكتور شمس الدين الأفغاني.
كان معدوداً في فقهاء الحنفية، وكان صاحب جدل وكلام ولم يكن له دراية بالسنن والآثار1، وقد نهج منهجاً كلامياً في تقرير العقيدة يشابه إلى حد كبير منهج متأخري الأشاعرة، وعداده في أهل الكلام من الصفاتية من أمثال ابن كلاب وأبي الحسن الأشعري وأمثالهما.
وقد تابع الماتريدي ابن كلاب في مسائل متعددة من مسائل الصفات وما يتعلق بها2.
ومن المعلوم أن الأحناف وأهل المشرق عموماً كانوا من أسبق الناس تأثراً بعلم الكلام، فقد كانت بداية الجهم من تلك الجهات، وفي هذا يقول الإمام أحمد في معرض كلامه عن الجهم:(وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة..)
فبشر بن غياث المريسي (228هـ) والقاضي أحمد بن أبي دؤاد (240هـ) وغيرهما كانوا من الأحناف، فلا غرابة أن يكون الماتريدي الحنفي من أولئك الذين ناصروا علم الكلام وسعوا في تأسيسه وتقعيده، إلى أن أصبح علماً من أعلامه وصاحب إحدى مدارس الكلام التي صارت فيما بعد تعرف باسمه.
فالماتريدي لا يبعد كثيراً عن أبي الحسن الأشعري (في طوره الثاني) فهو خصم لدود للمعتزلة، إلا أنه كان متأثراً بالمنهج الكلامي على طريقة ابن كلاب من الاعتماد على المناهج الكلامية في تقرير المسائل الإعتقادية. شأنه في ذلك شأن أبي الحسن الأشعري، فكلاهما يعتبر امتداداً لمدرسة ابن كلاب
1- العقيدة السلفية في كلام رب البرية (279) تأليف: عبد الله بن يوسف الجديع.
2-
مجموع الفتاوى 7/433، كتاب الإيمان 414، منهاج السنة 2/362.
3-
الرد على الجهمية ص103-105.
التي عرفت كمدرسة ثالثة بعد أن كان الخلاف دائراً بين أهل السنة والجماعة من جهة والجهمية والمعتزلة من جهة أخرى، فجاء ابن كلاب وأحدث منهجاً ثالثاً حاول فيه التلفيق بين النصوص الشرعية والمناهج الكلامية كما سبق الإشارة إلى ذلك عند الحديث عن الكلابية.
فالمذهب الكلابي كان له وجوده في العراق والري وخراسان وكان له انتشار في بلاد ما وراء النهر التي كانت تغص بمختلف الطوائف والفرق1.
ولم تتعرض الماتريدية للتطور الذي حصل على العقيدة الأشعرية والذي سبق بيانه في الحديث عن الأشعرية فالماتريدية بقيت على ما كانت عليه.
وقد مرت الماتريدية بأدوار تاريخية لخصها الباحث الدكتور شمس الأفغاني على النحو التالي2:
أولاً: الدور التأسيسي (258-333هـ)
ويمتاز هذا الدور بأنه دور النشأة والتأسيس، وعرف فيه الماتريدي بآرائه الكلامية التي سخرها للرد على المعتزلة سالكاً في ذلك طريقة الصفاتية من أهل الكلام ومن أشهر مؤلفاته في ذلك كتاب التوحيد.
ثانياً: الدور التكويني (333-400هـ)
وهو دور تلامذة الماتريدي الذي تأثروا به، وسعوا في نشر أفكاره والدفاع عنها ومن أشهر تلاميذه:
1- أبو القاسم إسحاق بن محمد بن اسماعيل بن ابراهيم بن زيد الحكيم
1-
انظر أحسن التقاسيم للمقدسي ص323.
2-
انظر كتاب الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات 1/262-268 «بتصرف»
السمرقندي (342هـ)
2-
أبو محمد عبد الكريم بن موسى بن عيسى البزدوي (390هـ) .
3-
أبو الحسن علي بن سعيد الرُّسُتُغْفَنى (
…
)
4-
أبو أحمد بن أبي نصر أحمد بن العباس العياضي (
…
)
5-
أبو عبد الرحمن بن أبي الليث البخاري (
…
)
ثالثاً: الدور البزدوي (400-500هـ)
وهو دور تلامذة التلاميذ، وهو امتداد للدور السابق وقد سعى فيه أصحابه في التأليف والنشر لهذه العقيدة ومن أعيان هذا الدور:
1-
أبو اليسر محمد بن محمد البزدوي (493هـ)
2-
محمد بن الفضل البلخي (419هـ)
3-
محمد بن المظفر البغدادي (488هـ)
4-
أبو العلاء صاعد بن محمد الاستوائي (432هـ)
رابعاً: الدور النسفي (500-700)
ويعتبر هذا الدور من أهم أدوار الماتريدية لاحتوائه على مشاهيرهم ومن أعيان هذا الدور:
1-
أبو المعين ميمون بن محمد المكحولي النسفي (508هـ)
ودوره في الماتريدية يماثل دور الباقلاني والغزالي في الأشعرية1 وله كتاب "تبصرة الأدلة" ويأتي هذا الكتاب في المرتبة الثانية بعد كتاب التوحيد
1-
مقدمة كتاب التوحيد ص5-6، تأليف فتح الله خليف.
للماتريدية من حيث الأهمية.
2-
نجم الدين أبو حفص عمر بن محمد النسفي (537هـ)
هو من كبار الماتريدية وكتابه "العقائد النسفية" هو عمدة الماتريدية في مناهجهم الدراسية إلى يومنا هذا وهو المعتمد عند علماء الأزهر، وقد ألف حوله أكثر من مائة كتاب من أشهرها شرح التفتازاني.
3-
أبو محمد نور الدين أحمد بن محمد الصابوني (580هـ)
4-
حافظ الدين أبو البركات عبد الله بن أحمد النسفي (710هـ) وهو من كبار الماتريدية ولمؤلفاته أهمية بالغة عندهم.
خامساً: الدور العثماني (700-1300هـ)
نسبة إلى الدولة العثمانية ويعد هذا الدور قمة أدوار الماتريدية بسبب الحضور السياسي، لأن الدولة العثمانية كانت دولة حنفية الفروع ماتريدية العقيدة. الأمر الذي ساعد في نشر العقيدة الماتريدية واتساع رقعتها الجغرافية، فقد كان جل القضاة والمفتين والخطباء ورؤساء المدارس من الماتريدية الأحناف ومن أعيان هذا الدور:
1-
صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود المحبوبي (747هـ)
2-
سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني (792هـ)
3-
أبو الحسن علي بن محمد المعروف "بالسيد سند الجرجاني"(816هـ)
4-
كمال الدين محمد بن عبد الواحد المعروف بابن الهمام (861هـ)
5-
زين الدين أبو العدل قاسم بن قُطُلْوبْغَا (879هـ)
6-
علي بن سلطان محمد أبو الحسن الهروي المكي المعروف بملا علي القاري (1014هـ)
7-
مصطفى بن عبد الله الرومي القسطنطيني المعروف "بملا كاتب شلبي" و"حاجي خليفة"(1067هـ)
سادساً: الدور الديوبندي (1283-....)
نسبة إلى جامعة ديوبند بالهند والتي تفرع عنها الكثير من المدارس في القارة الهندية. وهذا الدور الديوبندي يسير على خطين:
أحدهما: "تعليمي" ويتمثل في المدارس الديوبندية المنتشرة في عموم شبه القارة الهندية (الهند -الباكستان -بنجلاديش -أفغانستان) وهي أقوى المدارس الماتريدية في الوقت الراهن.
الخط الثاني: "دعوى" وهو ما يعرف "بجماعة التبليغ" والذي يعد في حقيقته امتداداً للمنهج الماتريدي والصوفي وكما قيل كل إناء بما فيه ينضح، فهذه الجماعة جذورها كلامية ماتريدية، ومناهجها صوفية طرقية1.
1- لي كلمة أقولها جواباً على زعم من يقول إن لهذه الجماعة حسنات.
وهي أن المعيار الحقيقي لأي موازنة يجب أن تقوم على أساس العرض على أصلي هذا الدين ألا وهما:
1-
التوحيد الذي هو شهادة «أن لا إله إلا الله»
2-
الاتباع الذي هو شهادة «أن محمداً رسول الله»
فإن استقام الأمر في هذين الأصلين نظر لما بعدهما فلا حسنة مع اختلال التوحيد لأن الله يقول: {لئن أشركت ليحبطن عملك}
وأيضاً لا قيمة للعمل إذا لم يكن وفق سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فهو القائل: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»
فهذا هو المنهج الصحيح في أي موازنة تعقد، ومن ينظر إلى أصول هذه الجماعة يدرك أنها أخلت بالأصلين فهم في الأصل الأول متكلمة ماتريدية، وفي الأصل الثاني صوفية طرقية.
سابعاً: الدور الكوثري (1296هـ-....)
وهو منسوب إلى محمد بن زاهد الكوثري الجركسي المتوفى سنة (1371هـ) المعروف والمشهور بعدائه للدعوة السلفية وأعلامها.
ومن تلاميذ هذا الدور وأعيانه الذين يعدون امتداداً له في عصرنا الحاضر عبد الفتاح أبو غدة ومن على شاكلته.
مرحلة ظهور الفلاسفة والباطنية:
بعد ظهور الجهمية والمعتزلة والكلابية والأشاعرة والماتريدية حدث بعد هذا في الإسلام "الملاحدة من المتفلسفة وغيرهم" حدثوا وانتشروا بعد انقراض العصور المفضلة، وصار كل زمان ومكان يضعف فيه نور الإسلام يظهرون فيه.1
(وكان من أسباب ظهورهم أن أهل العراق لما اشتغلوا في أواخر المائة الثالثة وأول الرابعة بالفلسفة وعلوم أهل الإلحاد، سلط عليهم القرامطة2 الباطنية)
فكان من أسباب ظهورهم أنهم ظنوا أن دين الإسلام ليس إلا ما يقوله أولئك المبتدعون، ورأوا ذلك فساداً في العقل. فرأوا دين الإسلام المعروف فاسداً في العقل.
فكان غلاتهم طاعنين في دين الإسلام بالكلية -باليد والسنان- كالخرمية
1- منهاج السنة 1/316.
2-
(القرامطة نسبة إلى رجل يقال له حمدان قرمط، كان أحد دعاتهم في الابتداء فاستجاب له جماعة فسموا قرامطة وقرمطة. وهم قوم يدعون الإسلام ويميلون إلى الرفض) تلبيس ابليس لإبن الجوزي (ص144-149) .
قال ابن القيم: (القرامطة لا يؤمنون بمبدأ ولا معاد، ولا رب خالق، ولا رسول مبعوث جاء من عند الله تعالى، وهم زنادقة يتسترون بالرفض ويبطنون الالحاد المحض) انظر إغاثة اللهفان 2/266.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فالقرامطة الذين يضاهئون الصابئة الفلاسفة والمجوس الثانوية عطلوا وحرفوا الإيمان بالله، وكذلك الإيمان باليوم الآخر، وكذلك العمل الصالح، حتى جعلوا ما جاءت به الشريعة من أسماء الأعمال إنما هي رموز وإشارات إلى حقائقهم كقولهم: إن الصلاة معرفة اسرارنا والصيام كتمان أسرارنا والحج زيارة شيوخنا المقدسين وأمثال ذلك) انظر بغية المرتاد ص490،491.
3-
إغاثة اللهفان 2/269.
أتباع بابك الخرمي1 وقرامطة البحرين أتباع أبي سعيد الجنابي2 وغيرهم.
وأما مقتصدوهم وعقلاؤهم فرأوا أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فيه من الخير والصلاح ما لا يمكن القدح فيه، بل اعترف حذاقهم بما قاله ابن سينا وغيره من أنه لم يقرع العالم ناموس أفضل من ناموس محمد صلى الله عليه وسلم، وكان هذا موجب عقلهم وفلسفتهم.3 فلم يطعنوا في دين محمد صلى الله عليه وسلم كما طعن أولئك المظهرون للزندقة من الفلاسفة، ورأوا أن ما يقوله أولئك المتكلمون فيه ما يخالف صريح المعقول، فطعنوا بذلك عليهم.4
وكان لهؤلاء الفلاسفة أقوال فاسدة تلقوها من أسلافهم الفلاسفة، ولما رأوا أن ما تواتر عن الرسل يخالفها، سلكوا طريقهم الباطنية فقالوا: إن الرسل لم
1- بابك الخرمي من زعماء الباطنية من أتباع «الخُرَّمِيَّة» أو «الخرمدينية» وهي لفظة أعجمية وهي عبارة عما يستلذ ويشتهى وترتاح به الأنفس، وقد لقبوا بها لأن حاصل مذهبهم راجع إلى رفع التكليف، وتسليط الناس على اتباع الشهوات من المباحات والمحرمات، وقد ظهر بابك في جبل البدين بناحية أذريبجان، وكثر أتباعه فاستحلوا المحرمات، وأباحوا وقتلوا الكثير من المسلمين، وحاربته جيوش المعتصم مدة طويلة إلى أن أسرته فصلبته وقتلته سنة 223هـ بسر من رأى.
انظر كتاب بيان مذهب الباطنية وبطلانه ص24، 25، تاريخ الطبري 9/11،55، الملل والنحل 1/216.
2-
أبو سعيد الحسن بن بهرام الجنَّابي، رأس القرامطة وداعيتهم، كان دقاقا من أهل جنابة (بفارس) ونفى منها، فأقام في البحرين تاجراً، وأقامه حمدان قرمط داعية في فارس الجنوبية، وقد حارب الجنابي الدولة العباسية، واستولى على هجر والأحساء والقطيف وسائر بلاد البحرين، وأحرق المصاحف والمساجد. وفي عام (301هـ) اغتاله خادم له صقلي في الحمام بهجر.
انظر البداية 11/121، الأعلام 2/185، الفرق بين الفرق ص169،174.
3-
منهاج السنة 1/316،317.
4-
منهاج السنة 1/321.
تبين العلم والحقائق التي يقوم عليها البرهان في الأمور العلمية، ثم منهم من قال: إن الرسل علمت ذلك وما بينته، ومنهم من يقول: إنها لم تعلمه وإنما كانوا بارعين في الحكمة العملية دون الحكمة العلمية، ولكن خاطبوا الجمهور بخطاب تخييلي، خيلت لهم في أمر الإيمان بالله واليوم الآخر ما ينفعهم اعتقاده في سياستهم، وإن كان ذلك اعتقاداً باطلاً لا يطابق الحقائق.
وهم يقرون بالعبادات، ولكن يقولون مقصودها إصلاح أخلاق النفس، وقد يقولون إنها تسقط عن الخاصة العارفين بالحقائق فكانت بدعة أولئك المتكلمين مما أعانت إلحاد هؤلاء الملحدين)
(وهؤلاء القرامطة والباطنية والملاحدة هم جنود إبليس حقاً المعارضون لما جاءت به الرسل بعقولهم وآرائهم، ودعوتهم تقوم على الدعوة إلى العقل المجرد، وقالوا نحن أنصار العقل الداعين إليه المخاصمين به المحاكمين إليه.
وقد جرى على الإسلام وأهله منهم ما جرى، وكسروا عسكر الخليفة مراراً عديدة، وقتلوا الحاج قتلاً ذريعاً، وانتهوا إلى مكة فقتلوا بها من وصل من الحاج إليها، وقلعوا الحجر الأسود من مكانه، وقويت شوكتهم، واستفحل أمرهم وعظمت بهم الرزية. واشتدت بهم البلية، وفي زمانهم استولى الكفار على كثير من بلاد الإسلام في الشرق والغرب، وكاد الإسلام أن ينهد ركنه لولا دفاع الذي ضمن حفظه إلى أن يرث الأرض ومن عليها.
ثم خمدت دعوة هؤلاء في المشرق، وظهرت من المغرب قليلاً قليلاً على أيدي العبيديين، حتى استفحلت وتمكنت واستولى أهلها على كثير من بلاد
1- منهاج السنة 1/321،322. «بتصرف»
المغرب، ثم أخذوا يطوون البلاد حتى وصلوا إلى بلاد مصر فملكوها وبنوا بها القاهرة، وأقاموا على هذه الدعوة مصرحين بها غير متحاشين منها، هم وولاتهم وقضاتهم وأتباعهم، وفي زمنهم صنفت رسائل إخوان الصفا، والإشارات، والشفا، وكتب ابن سينا،1 فإنه قال: كان أبي من أهل الدعوة الحاكمية.
وعطلت في زمانهم السنة وكتبها والآثار جملة إلا في الخفية بحيث يكون قارئها وذاكرها وكاتبها على أعظم خطر، وشعار هذه الدعوة العبيدية تقديم العقل على الوحي، واستولوا على بلاد المغرب، ومصر، والشام، والحجاز، واستولوا على العراق سنة، وأهل السنة فيهم كأهل الذمة بين المسلمين، بل كان لأهل الذمة من الأمان والجاه والعز عندهم ما لم يصل إليه أحد من أهل السنة ولا يطمع فيه، فكم أغمدت سيوفهم في أعناق العلماء، وكم مات في سجونهم من ورثة الأنبياء، وكم ماتت بهم سنة وقامت بهم بدعة وضلالة. حتى استنقذ الله الأمة من أيديهم في أيام نور الدين محمود بن زنكي (ت569هـ) وابن أخيه صلاح الدين الأيوبي (ت589هـ) فأبل وبرأ الإسلام من علته بعد ما وطن المسلمون أنفسهم على العراء، وانتعش بعد طول الخمول، حتى استبشر أهل
1- هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا، ولد سنة 370هـ وتوفي سنة 428هـ، وكان ابن سينا كما أخبر عن نفسه فقال: أنا وأبي من أهل دعوة الحاكم، فكان من القرامطة الباطنية الذين لا يؤمنون بمبدأ ولا معاد، ولا رب خالق، ولا رسول مبعوث جاء من عند الله تعالى وقد رام ابن سينا بجهده تقريب رأي الفلاسفة الملاحدة من قول أهل الملل، فإنه قرب مذهب سلفه الملاحدة من دين الإسلام بجهده، وغاية ما أمكنه أن قربه من أقوال الجهمية الغالين في التجهم. انظر إغاثة اللهفان 2/261، 266.
الأرض والسماء، وأبدر هلاله بعد أن دخل في المحاق، وثابت إليه روحه بعدما بلغت التراقي وقيل من راق، واستنقذ الله سبحانه بعبده وجنوده بيت المقدس من أيدي عبدة الصليب، أخذ كل من أنصار الله ورسوله من نصرة دينه بنصيب. وعلت كلمة الإسلام والسنة وأذن بها على رؤوس الأشهاد.1
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وكذلك السلطان "نور الدين محمود" الذي كان بالشام، عز أهل الإسلام في زمنه، وذل الكفر وأهل البدع ممن كان بالشام ومصر وغيرهما من الرافضة والجهمية ونحوهم) 2 (فعاش الناس في ذلك النور مدة، حتى استولت الظلمة على بلاد المشرق، وطفي نور النبوة والوحي، بسبب اشتغالهم بالمنطق والفلسفة، وتقديم العقول والآراء والسياسة والأذواق والرأي على الوحي، فظهرت فيهم الفلسفة والمنطق وتوابعها، سلط عليهم عساكر التتار، فجاسوا خلال الديار، وعاثوا في القرى والأمصار، فأبادوا أكثر الديار الشرقية، واستولوا عليها، وكاد الإسلام أن يذهب اسمه وينمحي رسمه. وكان مستشار التتار وقاضيهم وعالمهم ووزير هولاكو نصير الكفر والشرك والإلحاد وزير الملاحدة النصير الطوسي شيخ شيوخ المعارضين بين الوحي والعقل، ولا يعلم في عصره أحد عارض بين العقل والنقل معارضته، فهو الذي رام إبطال السمع بالكلية، وإقامة الدعوة الفلسفية، وهو الذي أشار على التتار بمذبحة بغداد فشفا لنفسه من أتباع الرسل وأهل دينه، فعرضهم على السيف حتى شفا إخوانه من الملاحدة، واشتفى هو، فقتل الخليفة والقضاة والفقهاء والمحدثين، فاستعرض علماء الإسلام وأهل القرآن والسنة على
1- الصواعق المرسلة 3/1074،1077.
2-
مجموع الفتاوى 4/22.
السيف فلم يبق منهم إلا من أعجزه قصداً لإبطال الدعوة الإسلامية.
واستبقى الفلاسفة، والمنجمين، والطبائعيين، والسحرة، والملاحدة والمنطقيين. ونقل أوقاف مساجد ومدارس المسلمين وأربطتهم لهؤلاء النجسة. وجعلهم خاصته وأولياءه، ونصر في كتبه قدم العالم، وبطلان المعاد وأنكر صفات الرب جل جلاله، من علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره، وزعم أنه لا داخل العالم ولا خارجه، وليس فوق العرش إله يعبد البتة.
واتخذ للملاحدة مدارس، ورام جعل إشارات إمام الملحدين ابن سينا مكان القرآن فلم يقدر وقال هذه عقليات قطعية برهانية قد عارضت تلك النقليات الخطابية، وقال: هذا قرآن الخواص وذلك قرآن العوام، ورام إبطال الأذان، وتحويل الصلاة إلى القطب الشمالي، وتغيير الصلاة وجعلها صلاتين، فلم يتم له الأمر، وتعلم السحر في آخر الأمر فكان ساحراً يعبد الأصنام.1
وفي ذلك العصر قام سوق الفلسفة والمنطق وعلوم أعداء الرسل وفقه الشياطين، وصارت الدولة والدعوة لأرباب هذه العلوم، وخرجت آراء وأفكار لم تكن تعرف من قبل مثل جست2 العميدي3 وحقائق ابن عربي.4
1- الصواعق المرسلة 3/1075،1078، إغاثة اللهفان 2/267،269.
2-
جَسْت: كلمة فارسية معناها البحث، وقد أصبحت تطلق على نوع من فروع الخلاف، وقد تضم الجيم. (انظر وفيات الأعيان وحاشيته 4/257)
3-
العميدي: هو محمد بن محمد بن محمد العميدي السمرقندي، أبو حامد، كان إماماً في فن الخلاف والجدل وخصوصاً «الجست» وهو أول من أفرده بالتصنيف، توفي ببخارى سنة 615هـ.
4-
هو محمد بن علي بن محمد الحاتمي الطائي الاندلسي، أبوبكر، المعروف بابن عربي، ولد سنة 560هـ، وتوفي سنة 638هـ، صنف التصانيف في تصوف الفلاسفة وأهل وحدة الوجود، فقال أشياء منكرة، عدها طائفة من العلماء مروقاً وزندقة، (ميزان الاعتدال 3/659،660)
وقال ابن تيمية: (إن مقالة ابن عربي في فصوص الحكم مع كونها كفراً، إلا أنه أقرب أهل الوحدة إلى الإسلام لما يوجد في كلامه من الكلام الجيد كثيراً، ولأنه لا يثبت على الاتحاد ثبات غيره، بل هو كثير الاضطراب فيه، وإنما هو قائم مع خياله الواسع الذي يتخيل فيه الحق تارة والباطل آخرى)(انظر مجموعة الرسائل والمسائل 4/6)
وتشكيكات الرازي1 وكان خروج هؤلاء نتيجة للانحطاط الفكري الذي أصاب الأمة الإسلامية بسبب بعدها عن منهج الوحي.
ثم نظر الله لعباده وانتصر لكتابه ودينه، وأقام جنداً تغزو ملوك هؤلاء بالسيف والسنان، وجنداً تغزو علماءهم بالحجة والبرهان.
ثم نبغت نابغة منهم على رأس القرن الثامن، فأقام الله لدينه شيخ الإسلام أبا العباس ابن تيمية قدس الله روحه، فأقام على غزوهم مدة حياته باليد والقلب واللسان وكشف للناس باطلهم وبين تلبيسهم وتدليسهم وقابلهم بصريح المعقول وصحيح المنقول وشفى واشتفى، وبين مناقضتهم ومفارقتهم لحكم العقل الذي به يدلون وإليه يدعون، وأنهم أترك الناس لأحكامه وقضاياه فلا وحي ولا عقل، فأرداهم في حفرهم، ورشقهم بسهامهم، وبين أن صحيح معقولاتهم خدم لنصوص الأنبياء شاهدة لها بالصحة. وتفصيل هذه الجملة موجود في كتبه2 التي حصل بها من الخير والنفع الكبير ما لا يحصيه إلا الله، ولا نزال ونحن في القرن الخامس عشر من الهجرة ننهل من معينها الصافي،
1- فخر الدين محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري يقال له «ابن خطيب الري» ولد في الري سنة 544هـ وتوفي في هراة سنة 606هـ. وهو منظر الأشعرية المتأخرة، أخذ مادته الكلامية من كلام أبي المعالي الجويني والشهرستاني، ومن كلام أبي الحسين البصري، ومادته الفلسفية من كلام ابن سينا والشهرستاني أيضاً.
(انظر البداية والنهاية 13/53،54)(بغية المرتاد 450،451) .
2-
الصواعق المرسلة 3/1074،1080 «بتصرف»
فقد نفع الله بهذا الإمام وبكتبه وبتلاميذه، منفعة عظيمة تثلج صدر كل صاحب سنة، فقد أحيا الله به معالم ما اندرس من السنن، وأقام به لواء التوحيد بعد ما كان الناس فيه من انحراف وبعد بسبب المناهج الفلسفية الفاسدة والطرق الصوفية المنحرفة فقمع البدعة وأحيا السنة ورجع بالناس إلى طريقة السلف من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، وحارب كل بدعة مستحدثة في هذا الدين، وخلص الدين مما لحق به من أوضار، وشابه من فساد، وفند لكل فرقة من فرق الزيغ والضلال أقوالها وبين زيف آرائها. فكان بحق شيخ الإسلام وقدوة الأنام، وأحد المجددين لهذا الدين، على رغم أنف كل أشعري وماتريدي وصوفي ورافضي وباطني وملحد.
ولقد نذر هذا الإمام حياته كلها لخدمة هذا الدين والدفاع عن حياضه بلسانه وسنانه وبنانه وبيانه، وقد ترك لنا ثروة علمية امتلأت بها خزائن المكتبات وتداولها الناس في جميع الأقطار والأمصار.
وقد أصبحت مؤلفات هذا الإمام جامعة كبرى تتلمذ عليها أناس كثيرون، أصبحوا شموس علم ومنارات هداية من أمثال ابن القيم (751هـ) والذهبي (748هـ) والمزي (742هـ) وابن كثير (774هـ) ومحمد بن أحمد ابن عبد الهادي (744هـ) وغيرهم كثير.
ولا نزال إلى زماننا هذا نتتلمذ على تلك المؤلفات والتي تعتبر باعتراف الكثير من الباحثين هي منطلق الدعوة السلفية المعاصرة، التي بدء انطلاقها على يد الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، الذي أحيا الله بدعوته المباركة ما اندرس من معالم السنن وكان بحق إماماً من أئمة الهدى، فقد دعا الناس إلى صراط الله المستقيم، وأرشدهم إلى الطريق القويم، فنفى عن
كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام انتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين وتحريف الغالين، وشرح للناس حقيقة الدين في زمن فترة استحكمت فيه غربة الإسلام، وغلب على أهله الجهل والبدع، فقد انتشرت العقائد الكلامية والطرق الصوفية، فقد كانت الدولة العثمانية (700-1300هـ) دولة ماتريدية العقيدة سعت في نشر تلك العقيدة الكلامية في شرق الأرض وغربها مستغلة في ذلك مالها من نفوذ وسلطة وأضف إلى ذلك انتشار العقيدة الأشعرية وهي شقيقة الماتريدية وتتفق معها في مجمل المسائل الاعتقادية، حتى لكأنهما فرقة واحدة ومن المعلوم أن كلا من الأشعرية والماتريدية هما مراتع خصبة للطرق الصوفية المنحرفة التي بسببها انتشرت الخرافة وعمت البدع وطمت.
وقد وصف أحد الكتاب الغربيين تلك الفترة -أي القرن الثامن عشر الميلادي- فقال: (كان العالم الإسلامي قد بلغ من التضعضع أعظم مبلغ، ومن التدني والانحطاط أعمق دركة، فاربد جوه، وطبقت الظلمة كل صقع من أصقاعه ورجاً من أرجائه، وانتشر فيه فساد الأخلاق والآداب.... إلى أن قال:
وأما الدين فقد غشيته غاشية سوداء، فألبست الوحدانية التي علمها صاحب الرسالة الناس، سجفاً من الخرافات، وقشور الصوفية، وخلت المساجد من أرباب الصلوات، وكثر عديد الأدعياء الجهلاء، وطوائف الفقراء والمساكين يخرجون من مكان إلى مكان، ويحملون في أعناقهم التمائم والتعاويذ والسبحات، ويوهمون الناس بالباطل والشبهات، ويرغبونهم في الحج إلى قبور الأولياء، ويزينون للناس التماس الشفاعة من دفناء القبور.
وغابت عن الناس فضائل القرآن، فصار يشرب الخمر والأفيون في كل
مكان. وانتشرت الرذائل وهتكت ستر الحرمات على غير خشية ولا استحياء. ونال مكة المكرمة والمدينة المنورة، ما نال غيرهما من سائر مدن الإسلام.
وعلى الجملة فقد بدل المسلمون غير المسلمين، وهبطوا مهبطاً بعيد القرار.
فلو عاد صاحب الرسالة إلى الأرض في ذلك العصر، ورأى ما كان يدعى الإسلام، لغضب وأطلق اللعنة على من استحقها من المسلمين، كما يلعن المرتدون وعبدة الأوثان.
وفيما العالم الإسلامي مستغرق في هجعته، ومدلج في ظلمته، إذا بصوت يدوى في قلب صحراء شبه الجزيرة مهد الإسلام، يوقظ المؤمنين، ويدعوهم إلى الإصلاح والرجوع إلى سواء السبيل والصراط المستقيم.
فكان الصارخ بهذا الصوت إنما هو المصلح المشهور الشيخ محمد ابن عبد الوهاب........)
فقام هذا الإمام في النصف الثاني من القرن الثاني عشر الهجري بالدعوة إلى الله سبحانه بقلمه ولسانه وأوضح للناس حقيقة ما بعث الله به نبيه عليه الصلاة والسلام. وما ألصقه به الجهال والضلال وهو بريء منه من الشرك والبدع والخرافات.
فقام الشيخ بموجب الدعوة حق القيام حتى ظهر الحق وانتشرت عقيدة السلف في أرجاء الجزيرة العربية وما حولها، وقد أزره ونصره في دعوته الإمام
1- هذا الكلام لستودارد الأمريكي مؤلف «حاضر العالم الإسلامي» الذي علق عليه الأمير شكيب ارسلان وقد نقلته من كتاب: (الشيخ محمد بن عبد الوهاب عقيدته السلفية ودعوته الاصلاحية وثناء العلماء عليه) للشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي ص104،105.
الهمام محمد بن سعود جد الأسرة السعودية الحاكمة لهذه البلاد، الذي قام بنصرة الشيخ ومساعدته حتى كتب الله لهذه الدعوة القبول والانتشار ولا تزال هذه الدولة السعودية تحمل على عاتقها نصرة دعوة التوحيد فقد أعز الله على يد ملوكها، أتباع المنهج السلفي فقامت بواجب نشر هذا المنهج حق القيام فأكرمت علماء السنة ونشرت كتب أعلام أهل السنة وأنشأت الجامعات لتعليم هذا المنهج السلفي ونشره. ومن تلك الجامعات الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية التي خصصت لتعليم أبناء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وتدريسهم عقيدة السلف الصالح، فأصبحت بحمد الله منار علم لنشر العقيدة الصحيحة، وأصبح لخريجيها دور ريادي في نشر الدعوة إلى التوحيد الصحيح في بلدانهم وأوطانهم.
فقل أن تخلو منطقة أو بلد من خريجي هذه الجامعة المباركة الذين أخذوا في نشر الدعوة السلفية والصدع بها، ومحاربة كل ما يناقضها ويضادها.
وقد قامت هذه الدولة المباركة ببعث الدعاة وكفالتهم وإرسالهم إلى شتى أرجاء المعمورة، حرصاً منها على رفع الجهل والقضاء على الانحرافات التي تسببت بها تلك المناهج المنحرفة من طرق صوفية وآراء كلامية صد بها أصحابها الناس عن طريق الله المستقيم والنهج النبوي السليم.
وقد أتت هذه الجهود ثمارها وظهرت بركاتها فقد أسهمت هذه الجهود في انتشار الدعوة السلفية وانحسار المناهج الكلامية والطرق الصوفية بعد أن كانت العقيدة السلفية في غربة، وقلة أنصار.
وما نشاهده اليوم من جامعات ومعاهد ومدارس تقرر النهج السلفي، وما
نراه ينتشر ويخرج من كتب التراث السلفي، ومؤلفات تحمل النهج الصحيح لأصدق دليل على أن الدعوة السلفية تعيش بحمد الله عصر ازدهار وتقدم، وأن المناهج الفلسفية الكلامية والطرق الصوفية البدعية تعيش عصر انحسار وتقهقر.
فالحمد لله على ما من به من نصره وتوفيقه وتأييده على أن الحقيقة التي يجب أن تقرر في هذا المقام أن مقالة التعطيل لم تندثر ولم يقض عليها قضاءً نهائياً فهناك عدد من الطوائف يحمل تلك المقالة وينادى بها فعلى سبيل المثال لا تزال مقالة المعتزلة التي تقوم في هذا الباب على إنكار صفات الله، يحملها وينادى بها عدد من الفرق ومنهم الرافضة الإمامية الذين تأثروا بالمعتزلة في هذه المسألة ولا يزالون إلى يومنا هذا على هذا المعتقد الفاسد الذي يضاف إلى جملة معتقداتهم الفاسدة.
وكذا الزيدية يقولون بقول المعتزلة وينفون جميع الصفات.
وكذا الإباضية من الخوارج وهم من بقايا الفكر الخارجي يوافقون المعتزلة في هذه المسألة ويقولون بقولهم.
وأضف إلى ذلك ما يقوم به المستشرقون في جامعاتهم الغربية من محاولة لدفع تلامذتهم من أبناء المسلمين إلى دراسة الفكر المعتزلي وتحقيق تراثه والحصول على درجتي الماجستير والدكتوراة في هذه الجوانب، وهم يسعون من وراء ذلك إلى إحياء أفكار المعتزلة ونشر تراثهم العفن بواسطة تلامذتهم الذين يرجعون إلى العالم الإسلامي بشهادات عالية تمكنهم من التدريس في جامعات المسلمين الأمر الذي يسهل لهم بث تلك الأفكار وإعادة نشرها من
جديد.
وإذا نظرنا كذلك إلى الفكر الفلسفي الباطني فإنا نجد أن بقايا أتباع هذا الفكر لا يزالون يعيشون إلى يومنا هذا فالإسماعلية الباطنية لا تزال فرقهم موجودة إلى يومنا هذا فهناك البهرة والسليمانية والأغاخانية والمكارمة والنصيرية وغيرهم.
وكذلك الفكر الفلسفي الاتحادي الذي لا يزال بعض المتصوفة يقدسون أصحابه من أمثال ابن عربي وابن سبعين وابن الفارض وغيرهم.
وهناك أيضاً أتباع أكبر الفرق الكلامية "الأشعرية""والماتريدية"
فالأشعرية تنتشر في كثير من البلدان التي يتبع أهلها المذهب الشافعي أو المالكي والماتريدية تنتشر في البلدان التي يتبع أهلها المذهب الحنفي.
ولكل منهما مدارسه ومعاهده التي تسعى لنشر فكره ولذلك فإن حلقة الصراع قائمة لا يمكن تجاهلها فالسعيد من لزم السنة ونجا من البدعة.
فالله المستعان.