المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌إطباق الحفاظ الذين جمعوا في رجال الكتب الستة وغيرهم من الأئمة المحدثين، على إسقاط الجرح في ترجمة أبي حنيفة: - مكانة الإمام أبي حنيفة في الحديث

[محمد عبد الرشيد النعماني]

فهرس الكتاب

- ‌مَكَانَةُ الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الحَدِيثِ

- ‌كَلِمَةُ التَقْدِيمِ:

- ‌تَقْدِمَةُ المُؤَلِّفِ:

- ‌عنايته بطلب الحديث:

- ‌إِمَامَةُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الحَدِيثِ:

- ‌ثَنَاءُ الذَّهَبِيِّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ:

- ‌ثَنَاءُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ:

- ‌أَبُو حَنِيفَةَ مِنَ الأَئِمَّةِ الجِلَّةِ الذِينَ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُمْ وَاشْتَهَرَتْ:

- ‌كَثْرَةُ أَتْبَاعِ أَبِي حَنِيفَةَ وَاشْتِهَارِ مَذْهَبِهِ فِي الآفَاقِ:

- ‌كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ حُجَّةً ثَبْتًا أَعْلَمُ أَهْلَ عَصْرِهِ بِالحَدِيثِ، وَمِنْ صَيَارِفَتِهِ:

- ‌عِدَادُ الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الحُفَّاظِ:

- ‌أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ أَئِمَّةِ الجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ:

- ‌أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى شَرْطِ أَصَحِّ الأَسَانِيدِ:

- ‌إِطْبَاقُ الحُفَّاظِ الذِينَ جَمَعُوا فِي رِجَالِ الكُتُبِ السِتَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الأَئِمَّةِ المُحَدِّثِينَ، عَلَى إِسْقَاطِ الجَرْحِ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي حَنِيفَةَ:

- ‌اِعْتِدَاءُ الأَلْبَانِي عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ:

- ‌رَدُّ الإِمَامِ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ عَلَى الطَّاعِنِينَ فِي الإِمَامِ، وَفِيهِ عِبْرَةٌ لِلأَلْبَانِي لَوْ اعْتَبَرَ:

- ‌جَوَابُ الحَافِظِ ابْنُ التُّرْكُمَانِيِّ عَنْ جُرُوحِ الإِمَامِ:

- ‌رَدُّ ابْنِ الوَزِيرِ اليَمَانِيِّ عَلَى مَنْ حَاوَلَ التَّشْكِيكَ فِي عِلْمِ أَبِي حَنِيفَةَ بِالحَدِيثِ وَالعَرَبِيَّةِ:

الفصل: ‌إطباق الحفاظ الذين جمعوا في رجال الكتب الستة وغيرهم من الأئمة المحدثين، على إسقاط الجرح في ترجمة أبي حنيفة:

أبي رباح، عن ابن عباس، أو عن شيخه حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود.

‌إِطْبَاقُ الحُفَّاظِ الذِينَ جَمَعُوا فِي رِجَالِ الكُتُبِ السِتَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الأَئِمَّةِ المُحَدِّثِينَ، عَلَى إِسْقَاطِ الجَرْحِ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي حَنِيفَةَ:

ثم قد أطبق الأئمة الحفاظ الذين جمعوا رجال الأصول الستة، وَدَوَّنُوا دواوينهم فيها، على الثناء على أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، والتبجيل والتعظيم المفرط له، دون الحط عليه والطعن فيه بسوء الحفظ والغفلة، بل إنهم يذكرون حفظه وجلالته في العلم، ويذكرونه بكل خير، فهذا يدل على أنهم لا يبالون بطعن طاعن فيه أَيًّا مَنْ كَانَ.

فهذا الإمام الحافظ المِزِّيُّ يوسف بن الزَّكِيِّ عبد الرحمن، أبو الحجاج جمال الدين مُحَدِّثُ الشام، العالم الحبر الحافظ الأوحد الدمشقي الشافعي عَمِلَ كتاب " تهذيب الكمال " وذكر فيه ترجمة الإمام أبي حنيفة، فأطال فيها، وكل ما نقله الحافظ السيوطي في " تبييض الصحيفة " مَعْزُوًّا إلى الخطيب، إنما هو منقول من كتابه " تهذيب الكمال ".

وعامة ما ذُكِرَ في " تهذيب الكمال " من أقوال أئمة الجرح والتعديل، هو منقول من كتاب " الجرح والتعديل " لابن أبي حاتم، و" الكامل " لابن عدي، و" تاريخ بغداد " للخطيب، و" تاريخ دمشق " لابن عساكر.

ص: 87

والجدير بالملاحظة أنه لم يذكر الإمام المزي في كتابه " تهذيب الكمال " شَيْئًا لا يليق بمكانة الإمام أبي حنيفة، فلله دَرُّهُ مَا أَدَقَّ نَظَرَهُ! وكيف لا يكون ذلك وقد قال الذهبي في حقه، في " تذكرة الحفاظ " (1):«وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الرِّجَالِ فَهُوَ حَامِلُ لِوَائِهَا، وَالقَائِمُ بِأَعْبَائِهَا، لَمْ تَرَ العُيُونُ مِثْلَهُ» .

وقد أثنى الحافظ الذهبي على صنيعه هذا في " تهذيبه " في ترجمة أبي حنيفة، قائلاً:«قُلْتُ: قَدْ أَحْسَنَ شَيْخُنَا أَبُو الحَجَّاجُ حَيْثُ لَمْ يُورِدْ شَيْئًا يَلْزَمُ مِنْهُ التَّضْعِيفُ» . انتهى.

قُلْتُ: بل نقل في " تهذيب الكمال " توثيقه عن إمام الصنعة سيد الحفاظ يحيى بن معين - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، حيث قال: «وَقَال مُحَمَّدُ بْنِ سَعْدٍ العَوْفِي: سَمِعْتُ يَحْيَى بن مَعِينٍ يَقُولُ: " كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ ثِقَةً، لَا يُحَدِّثُ بِالحَدِيثِ إِلَاّ بِمَا يَحْفَظُهُ، وَلَا يُحَدِّثُ بِمَا لَا يَحْفَظُ ".

وَقََالَ صَالِحُ بْنَ مُحَمَّدٍ الأَسَدِيُّ الحَافِظُ: سَمِعْتُ يَحْيَى بن مَعِين يَقُولُ: " كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ ثِقَةً فِي الحَدِيثِ "، وَقَال أحمد بْن مُحَمَّد بْن القاسم بن محرز، عن يحيى بن مَعِين:" كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا بَأْسَ بِهِ ".

وَقََالَ مَرَّةً: كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ عِنْدَنَا مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ، وَلَمْ يُتَّهَمْ بِالكَذِبِ "». انتهى.

هذا، وقد صرح الحافظ المِزِّي في مقدمة " تهذيب الكمال " بقوله: «وما لم يُذْكَرْ إِسْنَادُهُ فيما بيننا وبين قائله، فما كان من ذلك بصيغة

(1) 4/ 1498.

ص: 88

الجزم، فهو مما لا نعلم بإسناده عن قائله المحكي ذلك عنه بأسًا، وما كان منه بصيغة التمريض، فربما كان في إسناده إلى قائله ذلك نظر». انتهى.

وثبت من هذا التصريح أن توثيق أبي حنيفة الإمام عن ابن معين صحيح ثابت لا شك فيه.

ثم تلاه الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي في كتابه " تذهيب تهذيب الكمال " فقال (1):

«(ت، س) النعمان بن ثابت بن زُوْطَى الإمام أبو حنيفة الكوفي، فقيه العراق، وإمام أصحاب الرأي، قيل: إنه من أبناء فارس، وولاؤه لِبَنِي تيم بن ثعلبة، راى أنسا رضي الله عنه. وروى عن:

1 -

عطاء بن أبي رباح، 2 - ونافع، 3 - وعدي بن ثابت، 4 - وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، 5 - وعكرمة، 6 - ومُحارب بن دثار، 7 - وعلقمة بن مرثد، 8 - وسلمة بن كُهَيْلٍ، 9 - وحماد بن ابي سليمان، 10 - والحكم بن عُتيبة، 11 - وأبي جعفر الباقر، 12 - وقتادة، 13 - وعمرو بن دينار، وخلق سواهم. وقيل إنه روى 14 - عن الشعبي، 15 - وطاوس.

وعنه:

1 -

ابنه حَمَّادٌ، 2 - وحمزة الزيات، 3 - وداود الطائي،

(1) يوجد من هذا الكتاب نسخة مصورة في مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وقد تفضل الأستاذ عبد القيوم السِّنْدِي بإرسال هذه الترجمة إِلَيَّ، فجزاه الله خيرًا.

ص: 89

4 -

وَزُفَرُ بْنُ الهُذَيْل، 5 - ونوح بن أبي مريم، 6 - وأبو يوسف القاضي، 7 - ومحمد بن الحسن، 8 - وابن المبارك، 9 - وأبو يحيى الحِمَّانِيِّ، 10 - ووكيع، 11، وحفص بن عبد الرحمن البلخي، 12 - وسعد بن الصلت، 13 - وأبو نعيم، 14 - وأبو عبد الرحمن المُقْرِي، 15 - والحسن بن زياد اللؤلؤي، 16 - وأبو عاصم النبيل، 17 - وعبد الرزاق، 18 - وعبيد بن موسى، وخلق كثير.

قال أحمد العِجْلِيُّ: «هو من رهط حمزة الزيات. وكان خَزَّازًا يبيع الخز. وقال محمد بن إسحاق البَكَّائِيُّ، عن عمر بن حماد بن أبي حنيفة قال: زُوْطَى من أهل كَابُلْ، وولد ثابت على الإسلام، وكان أبو حنيفة خَزَّازًا، وَدُكَّانُهُ معروف في دار عَمْرٍو بْنِ حُرَيْثٍ، وقيل: أصله من نَسَا، وقيل من تِرْمِذْ» .

وعن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة قال: «أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادٍ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ ثَابِتٍ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ المَرْزُبَانِ، مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ الأَحْرَارِ، واللهِ مَا وَقَعَ عَلَيْنَا رِِقٌّ قَطُّ

، وُلِدَ جَدِّي فِي سَنَةِ ثَمَانِينَ، وَذَهَبَ ثَابِتٌ إِلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه، وَهُوَ صَغِيرٌ فَدَعَا لَهُ بِالبَرَكَةِ فِيهِ وَفِي ذُرِّيَّتِهِ، وَأَبُوهُ النُّعْمَانُ هُوَ الذِي أَهْدَى لِعَلِيٍّ يَوْمَ النَّيْرُوزِ، فقال:«نَوْرِزُونَا كُلَّ يَوْمِ» .

قال صالح بن محمد جَزَرَةُ وغيره: سمعنا يحيى بن معين يقول: «أَبُو حَنِيفَةَ ثِقَةً فِي الحَدِيثِ» . وروى أحمد بن محمد بن مُحْرِزٍ عن ابن معين: «لَا بَأْسَ بِهِ، لَقَدْ ضَرَبَهُ ابْنُ هُبَيْرَةُ عَلَى أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا فَأَبَى» .

ص: 90

قَالَ ابْنُ كَاسٍ النَّخَعِيُّ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ [خَازِمٍ]، حَدَّثَنَا الوَلِيدُ بنُ حَمَّادٍ، عَنِ الحَسَنِ بنِ زِيَادٍ، عَنْ زُفَرَ بنِ الهُذَيْلِ، سَمِعْتُ أَبَا حَنِيْفَةَ يَقُولُ:

«كُنْتُ أَنظُرُ فِي الكَلَامِ حَتَّى بَلَغتُ فِيهِ (مَبْلَغًا يُشَارُ إِلَيَّ فِيهِ بِالأَصَابِعِ)(1).

وَكُنَّا نَجلِسُ بِالقُرْبِ مِنْ حَلْقَةِ حَمَّادِ بنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، فَجَاءتْنِي امْرَأَةٌ يَوْمًا، فَقَالَتْ لِي: رَجُلٌ لَهُ امْرَأَةٌ أَمَةٌ، أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِلسُّنَّةِ، كَمْ يُطَلَّقُهَا؟

فَلَمْ أَدرِ مَا أَقُولُ، فَأَمَرْتُهَا أَنْ تَسْأَلَ حَمَّادًا، ثُمَّ تَرْجِعَ تُخْبِرَنِي.

فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ:" يُطَلِّقُهَا وَهِيَ طَاهِرٌ مِنَ الحَيْضِ وَالجِمَاعِ تَطْلِيقَةً، ثُمَّ يَترُكُهَا حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَتَيْنِ، فَإِذَا اغْتَسَلتْ، فَقَدْ حَلَّتْ لِلأَزْوَاجِ ".

فَرَجَعَتْ، فَأَخْبَرَتْنِي، فَقُلْتُ: لَا حَاجَةَ لِي فِي الكَلَامِ، وَأَخَذتُ نَعْلِي، فَجَلَستُ إِلَى حَمَّادٍ، فَكُنْتُ أَسْمَعُ مَسَائِلَه، فَأَحْفَظُ قَوْلَه، ثُمَّ يُعِيدُهَا مِنَ الغَدِ، فَأَحْفَظُهَا، وَيُخْطِئُ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ: لَا يَجْلِسْ فِي صَدْرِ الحَلْقَةِ بِحِذَائِي غَيْرُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَصَحِبْتُهُ عَشْرَ سِنِينَ.

ثُمَّ نَازَعَتنِي نَفْسِي الطَّلَبَ لِلرِّئَاسَةِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَعْتَزِلَهُ وَأَجلِسَ فِي حَلْقَةٍ لِنَفْسِي، فَخَرَجتُ يَوْمًا بِالعَشِيِّ وَعَزْمِي أَنْ أَفْعَلَ، فَلَمَّا رَأَيْتُه، لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أَنْ أَعتَزِلَهُ، فَجَاءهُ تِلْكَ اللَّيلَةَ نَعْيُ قَرَابَةٍ لَهُ قَدْ مَاتَ بِالبَصْرَةِ، وَتَرَكَ مَالاً، وَلَيْسَ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُهُ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَجلِسَ مَكَانَه

(1) ما بين القوسين سقط من الأصل: " تذهيب التهذيب " فزدته من " تهذيب الكمال ".

ص: 91

فَمَا هُوَ إِلَاّ أَنْ خَرَجَ، حَتَّى وَرَدَتْ عَلَيَّ مَسَائِلُ لَمْ أَسْمَعْهَا مِنْهُ، فَكُنْتُ أُجِيبُ وَأَكتُبُ جَوَابِي، فَغَابَ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ قَدِمَ، فَعَرَضتُ عَلَيْهِ المَسَائِلَ، وَكَانَتْ نَحْوًا مِنْ سِتِّينَ مَسْأَلَةً، فَوَافَقَنِي فِي أَرْبَعِينَ، وَخَالَفَنِي فِي عِشْرِينَ، فَآلَيْتُ عَلَى نَفْسِي أَلَاّ أُفَارِقَه حَتَّى يَمُوتَ».

وقال محمد بن مُزَاحِمٍ: سمعت ابن المبارك يقول: «لَوْلَا أَنَّ اللهَ أَغَاثَنِي بِأَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ، كُنْتُ كَسَائِرِ النَّاسِ» ، وَقَالَ سُلَيْمان بْنُ أَبِي شَيْخٍ، حَدَّثَنِي حُجْرُ بْنُ عَبْدِ الجَبَّار، قَالَ: قِيلَ لِلْقَاسِمِ بْنِ مَعْن المَسْعُودِيِّ: تَرْضَى أَنْ تَكونَ مِن غِلْمَانِ أَبِي حَنِيفَة؟ قَالَ: «مَا جَلَسَ النَّاسُ إِلَى أحدٍ أَنْفَعَ مِنْ مُجَالَسَة أَبِي حَنِيفَة» .

قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الصَّبَّاحِ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: قِيلَ لِمَالِكٍ: هَلْ رَأَيْتَ أَبَا حَنِيفَةَ؟ قَالَ: «نَعَمْ رَأَيْتُ رَجُلاً لَوْ كَلَّمَكَ فِي هَذِهِ السَّارِيَةِ أَنْ يَجْعَلَهَا ذَهَبًا لَقَامَ بِحُجَّتِهِ» .

وَعَنْ رَوْحٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ جُرَيْجٍ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةَ، فَأَتَاهُ نَعْيُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَاسْتَرْجَعَ وَتَوَجَّعَ وَقَالَ:«أَيُّ عِلْمٍ ذَهَبَ؟!» .

وَقَالَ ضِرَارُ بْنُ صُرْدٍ: وسُئِلَ يَزِِيدُ بْنُ هَارُونٍ أَيُّمَا أَفْقَهُ أَبُو حَنِيفَةَ أَوْ سُفْيَانُ؟ فَقَالَ: «سُفْيَانُ أَحْفَظُ لِلْحَدِيثِ وَأَبُو حَنِيفَةَ أَفْقَهُ» .

وعن ابن المبارك قال: «مَا رَأَيْتُ فِي الفِقْه مِثْلَ أَبِي حَنِيفَةَ» . وعنه قال: «إِذَا اجْتَمَعَ سُفْيَانُ وَأَبُو حَنِيفَةَ فَمَنْ يَقُومُ لَهُمَا فُتْيَا؟» .

وَقَالَ أَبُو عُرُوبَةَ: سَمِعْتُ سَلَمَةُ بْْنَ شَبِيبٍ، سَمِعْتُ عَبْدَ الرَزَّاقِ،

ص: 92

سَمِعْتُ ابْنَ المُبَارَكِ يَقُولُ: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ بِرَأْيِهِ فَأَبُو حَنِيفَةَ» .

وَرَوَى جَنْدَلُ بْنُ وَالِقٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، قَالَ:«كُنْتُ أَخْتَلِفُ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَإِلَى سُفْيَانَ - الثَّوْرِيَّ -، فَآتِي أَبَا حَنِيفَةَ فَيَقُولُ: " مِنْ أَيْنَ جِئْتَ؟ " فَأَقُولُ: " مِنْ عِنْدِ سُفْيَانَ "، فَيَقُولُ: " لَقَدْ جِئْتَ مِنْ عِنْدِ رَجُلٍ لَوْ أَنَّ عَلْقَمَةَ وَالأَسْوَدَ حَضَرَا لاحْتَاجَا إِلَى مِثْلِهِ "، فآتي سُفْيَانَ، فَيَقُولُ لِي: " مِنْ أَيْنَ جِئْتَ؟ " فَأَقُولُ: " مِنْ عِنْدِ أَبِي حَنِيفَةَ "، فَيَقُولُ: " لَقَدْ جِئْتَ مِنْ عِنْدِ أَفْقَهِ أَهْلِ الأَرْضِ "» .

وروى بكر بن يحيى بن زَبَّانَ، عن أبيه: قَالَ لِي أَبُو حَنِيفَةَ: «يَا أَهْلَ البَصْرَةِ، أَنْتُمْ أَوْرَعُ مِنَّا، وَنَحْنُ أَفْقَهُ مِنْكُمْ» .

وعن شداد بن حكيم قال: «مَا رَأَيْتُ أَعْلَمَ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ» ، وعن مكي بن إبراهيم قال:«كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ أَعْلَمَ أَهْلَ زَمَانِهِ» . وقال يحيى بن معين: سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: «لَا نَكْذِبُ اللهَ، مَا سَمِعْنَا أَحْسَنَ مِنْ رَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ أَخَذْنَا بِأَكْثَرَ أَقْوَالِهِ» ، وقال الربيع وغيره عن الشافعي قال:«النَاسُ فِي الفِقْهِ عِيَالٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ» .

وقال أبو الفضل عباس بن عزيز القطان، ثنا حرملة، سمعت الشافعي يقول:«النَّاسُ عِيَالٌ عَلَى هَؤُلَاءِ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَبَحَّرَ فِي الفِقْهِ فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَبَحَّرَ فِي المَغَازِي فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى ابْنِ إِسْحَاقَ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَبَحَّرَ فِي التَّفْسِيرِ فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى مُقَاتِلٍ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَبَحَّرَ فِي الشِّعْرِ فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى زُهَيْرٍ بْنِ أَبِي سُلْمَى، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَبَحَّرَ فِي النَّحْوِ فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى الكِسَائِيِّ» .

ص: 93

وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ قُرَيْشٍ عَنْ أَسَدٍ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: «صَلَّى أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَا حُفِظَ عَلَيْهِ صَلَاةَ الفَجْرِ بِوُضُوءِ العِشَاءِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ عَامَّةَ اللَّيْلِ يَقْرَأُ جَمِيعَ القُرْآنَ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَانَ يُسْمَعُ بُكَاؤُهُ بِاللَّيْلِ حَتَّى يَرْحَمَهُ جِيرَانُهُ، وَحُفِظَ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَتَمَ القُرْآنَ فِي المَوْضِعِ الذِي تُوُفِّيَ فِيهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَرَّةٍ» .

قُلْتُ: هذه حكاية منكرة، وفي رواتها من لا يُعْرَفُ، رواها عبد الله بن محمد بن يعقوب الحارثي البخاري الفقيه، ثَنَا أحمد بن الحسين البلخي، ثَنَا حَمَّادٌ فذكرها.

قَالَ الحَارِثِيُّ أيضًا: وَحَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ أََبِي قَيْسٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ المِرْوَزِيَّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادٍ بْنُ أََبِي حَنِيفَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:«لَمَّا مَاتَ أَبِي سَأَلْنَا الحَسَنَ بْنَ عُمَارَةَ أَنْ يَتَوَلَّى غَسْلَهُ فَفَعَلَ، فَلَمَّا غَسَّلَهُ قَالَ: " رَحِمَكَ اللهُ وَغَفَرَ لَكَ، لَمْ تُفْطِرْ مُُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةٍ، وَلَمْ تَتَوَسَّدْ يَمِينَكَ بِاللَّيْلِ مُُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةٍ، وَقَدْ أَتْعَبْتَ مَنْ بَعْدَكَ، وَفَضَحْتَ القُرَّاءَ"» (**).

وَرَوَى بِشْرُ بْنُ الوَلِيدِ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ، إِذْ سَمِعْتُ رَجُلاً يَقُولُ لِرَجُلٍ: هَذَا أَبُو حَنِيفَةَ، لَا يَنَامُ اللَّيْلَ، فَقَالَ:«وَاللهِ لَا يُتَحَدَّثُ عَنِّي بِمَا لَمْ أَفْعَلْ» ، فَكَانَ يُحْيِي اللَّيْلَ صَلَاةً، وَدُعَاءً، وَتَضَرُّعًا».

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ بْنِ عَفَّانَ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ البَزَّارُ، سَمِعْتُ حَفْصَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، سَمِعْتُ مِسْعَرًا يَقُولُ:«دَخَلْتُ المَسْجِدَ لَيْلَةً فَرَأَيْتُ رَجُلاً يُصَلِّي فَقَرَأَ سُبْعًا، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ، ثُمَّ قَرَأَ الثُّلُثَ ثُمَّ النِّصْفَ، فَلَمْ يَزَلْ يَقْرَأُ حَتَّى خَتَمَ فِي رَكْعَةٍ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ أَبُو حَنِيفَةَ» .

[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:

(*) قارن نفس القول بما ورد في صفحة 59 من هذا الكتاب.

(**) قارن نفس القول بما ورد في صفحة 113 من هذا الكتاب.

ص: 94

وَعَنْ خَارِجَةَ بْنَ مُصْعَبٍ قَالَ: «خَتَمَ القُرْآنَ فِي رَكْعَةٍ أَرْبَعَةٌ: عُثُمَّانُ [بْنُ عَفَّانَ]، وَتَمِيمٌ الدَّارِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ» .

وَعَنْ يَحْيَى بْنِ نَصْرٍ، قَالَ:«(أَبُو حَنِيفَةَ) (1) رُبَّمَا خَتَمَ القُرْآنَ فِي رَمَضَانَ سِتِّينَ خَتْمَةٍ» .

وَقَالَ سَلِيمَانُ بْنُ الرَّبِيعِ، ثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى، سَمِعْتُ اِبْنَ المُبَارَكِ يَقُولُ: قَدِمْتُ الكُوفَةُ فَسَأَلْتُ عَنْ أَوَرَعِ أَهْلِهَا، فَقَالُوا: أَبُو حَنِيفَةً. قَالَ سَلِيمَانُ: فَسَمِعْتُ مُكِيَّ بْنَ إِبْرَاهِيمَ يَقُولُ: «جَالَسَتْ الكُوفِيِّينَ فَمَا رَأَيْتُ فِيهِمْ أَوَرَعِ مِنْ أَبِي حَنِيفَةً» .، وَقَالَ حامد بْنُ آدم:«سَمِعْتُ اِبْنَ المُبَارَكِ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَوَرَعِ مِنْ أَبِي حَنِيفَةً، قَدْ جُرِّبَ بِالسِّياطِ وَالأَمْوَالِ» .

وَعَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ الرَّقِّيَّ قَالَ: «كَلَّمَ اِبْنُ هُبَيْرَةَ أَبَا حَنِيفَةً أَنْ يَلِيَ قَضَاءَ الكُوفَةِ، فَأَبَى فَضَرِبَهُ مِائَةَ سَوْطٍ وَعَشَرَةَ أَسْوَاطٍ، فِي كُلِّ يَوْمٍ عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ، ثَمَّ خَلَاّهُ» .

وَقاَلَ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْخٍ: حَدَّثَنِي الرَّبِيعُ بْنُ عَاصِمٍ، قَالَ:«أَرْسَلَنِي يَزِيدُ بْنُ عُمَرَ بْنُ هُبَيْرَةَ، فَأَتَيْتُهُ بِأَبِي حَنِيفَةَ، فَأَرَادَهُ عَلَى بَيْتِ المَالِ، فَأَبَى، فَضَرَبَهُ أَسْوَاطًا» .

وَعَنْ مُغِيثٍ بْنَ بَدِيلٍ، قَالَ خَارِجَةَ بْنِ مُصْعَبٍ: «أَجَازَ المَنْصُورُ أَبَا حَنِيفَةَ بِعَشْرَةِ آلافِ دِرْهَمٍ، فَدُعِيَ لِيَقْبِضَهَا، فَشَاوَرَنِي، وَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ إِنْ رَدَدْتُهَا عَلَيْهِ غَضِبَ، [وَإِنْ قَبِلْتُهَا دَخَلَ عَلَيَّ فِي دِينِي مَا أَكْرَهُهُ]، فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا المَالَ عَظِيمٌ فِي عَيْنِهِ، أَفَإِذَا دُعِيتَ

(1) لفظ (أبو حنيفة) سقط من الأصل: " تذهيب التهذيب "، فزدته من " تهذيب الكمال ".

ص: 95

لِتَقْبِضَهَا، فَقُلْ: لَمْ يَكُنْ هَذَا أَمَلِي مِنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ، فَدُعِيَ لِيَقْبِضَهَا فَقَالَ ذَلِكَ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ خَبَرُهُ فَحَبَسَ الجَائِزَةَ».

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ الدَّقِيقِيُّ: سَمِعْتُ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ، يَقُولُ:«أَدْرَكْتُ النَّاسَ فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَعْقَلَ، وَلا أَوْرَعَ، وَلا أَفْضَلَ، مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ» .

قَالَ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيَّ: «كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَتَبِينُ عَقْلُهُ فِي مَنْطِقِهِ، [وَفِعْلِهِ]، وَمَشْيِهِ، وَمَدْخَلِهِ، وَمَخْرَجِهِ» .

وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عُثْمَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادٍ بْنِ أََبِِي حَنِيفَةَ، قَالَ:«كَانَ لَنَا جَارٌ طَحَّانٌ رَافِضِيٌّ، وَكَانَ لَهُ بَغْلَانِ، سَمَّى أَحَدَهُمَا: أَبَا بَكْرٍ، وَالآخَرَ عُمَرَ، فَرَمَحَهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ أَحَدُهُمَا فَقَتَلَهُ، فَقَالَ أَبُو حنيفة،: " انْظُرُوا [البَغْلَ] الذِي رَمَحَهُ الذِي سَمَّاهُ عُمَرَ؟ " فَنَظَرُوا فَكَانَ ذَلِكَ» .

وقال يعقوب بن شيبة: أَمْلَى عَلَيَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَبْيَاتًا لابْنِ المُبَارَكِ:

رَأيتُ أبَا حَنيفَة َ كُلَّ يَومٍ

يزيدُ نَبَالَة ً وَيَزِيدُ خَيْرَا

وَيَنْطِقُ بِالصَّوَابِ وَيَصْطَفِيهِ

إِذَا مَا قالَ أَهلُ الجَوْرِ جُورَا

يُقَايِسُ مَنْ يُقَايِسُهُ بِلُبٍّ

فَمَنْ ذَا يَجْعَلُونَ لَهُ نَظيرَا

كَفَانَا فَقْدُ حَمَّادٍ وَكَانَتْ

مُصِيبَتُنَا بِهِ أَمْرًا كَبِيرَا

فَرَدَّ شَمَاتَةَ الأَعْدَاءِ عَنَّا

وَأَبْدَى بَعْدَهُ عِلْمًا كَثِيرَا

رَأَيْتُ أَبَا حَنِيفَةَ حِينَ يُؤْتَى

وَيُطْلَبُ عِلْمُهُ بَحْرًا غَزِيرَا

إِذَا مَا المُشْكِلَاتُ تَدَافَعَتْهَا

رِجَالُ العِلْمِ كَانَ بِهَا بَصِيرَا

ص: 96

رَوَى نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ الخُرَيْبِيِّ، قَالَ:«النَّاسُ فِي أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله حَاسِدٌ وَجَاهِلٌ، وَأَحْسَنُهُمْ عِنْدي حَالاً الجَاهِلُ» .

وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبٍ: سَمِعْتُ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ يَقُولُ: «أَبُو حَنِيفَةَ رَجُلٌ مِنَ النَّاسِ، خَطَؤُهُ كَخَطَأِ النَّاسِ، وَصَوَابُهُ كَصَوَابِ النَّاسِ» .

تُوُفِّيَ أَبُو حَنِيفَةَ بِبَغْدَادَ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ وَغَيْرُهُ: فِي رَجَبَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةَ، وَمَنْ قَالَ: سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ أَوْ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ فَقَدْ وَهِمَ. وَعَنْ الحَسَنِ بْنِ يُوسُفَ قَالَ: «صُلِّيَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ سِتُّ مَرَّاتٍ مِنْ كَثْرَةِ الزِّحَامِ» .

روى له الترمذي في " العلل " قوله: «مَا رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْ عَطَاءٍ» ، (وقال عوص: وقد روى له النسائي في " سننه الكبير " في - باب من وقع على بهيمة -: قال النسائي: [أَخْبَرَنَا] عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ:[أَخْبَرَنَا] عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنِ النُّعْمَانِ يَعْنِي أَبَا حَنِيفَةَ، عَنْ عَاصِمٍ هُوَ ابْنُ بَهْدَلَةَ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:«لَيْسَ عَلَى مَنْ أَتَى [بَهِيمَةً] حَدٌ» ) (1).

قُلْتُ: قَدْ أَحْسَنَ شَيْخُنَا أَبُو الحَجَّاجُ حَيْثُ لَمْ يُورِدْ شَيْئًا يَلْزَمُ مِنْهُ التَّضْعِيفُ. انتهى.

فهذا ما ذكره الإمام، الحافظ، محدث العصر، وخاتمة الحفاظ، ومؤرخ الإسلام، وَفَرْدُ الدهر، والقائم بأعباء هذه الصناعة، شمس الدين

(1) ما بين الهلالين ليس في الأصل، وإنما هو في الحاشية بلفظ:(وَقَالَ عوص، و (عوص) كذلك في المخطوطة، والحديث المذكور في " السنن الكبرى " للنسائي: 4/ 322، 323 في أبواب التعزيرات والشهود.

ص: 97

أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز التركماني ثم الدمشقي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -.

وقال الإمام الحافظ المؤرخ أبو المحاسن محمد بن علي بن الحسن الحُسيني، في كتابه " التذكرة بمعرفة رجال العشرة "(1)، وهي " الكتب الستة "، و" الموطأ "، و" مسند أحمد "، و" مسند الشافعي "، و" مسند أبي حنيفة ":

«(فع، أ، ت، ن)(2) النعمان بن ثابت التيمي، أبو حنيفة الكوفي، فقيه أهل العراق، وإمام أصحاب الرأي، وقيل: إنه من أبناء فارس.

رأى أنس بن مالك، وروى عن حماد بن أبي سليمان، وعطاء، وعاصم بن أبي النجود، والزهري، وقتادة، وأبي الزبير، ومحمد بن المنكدر، وأبي جعفر الباقر، والشعبي، وخلق.

وعنه ابنه حماد، ووكيع بن الجراح، وعيسى بن يونس، وعبد الرزاق، وأبو يوسف القاضي، ومحمد بن الحسن، وزُفَرُ بن الهذيل، وخلق كثير.

قال العجلي: كوفي تيمي من رهط حمزة الزيات، وكان خَزَّازًا

(1) وتوجد لهذا الكتاب (*) نسخة على ميكروفلم في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة تحت رقم 123، وقد تفضل الأستاذ العالم المقرئ مسعود أحمد السيد بإرسال ترجمة الإمام إلينا، جزاه الله تعالى عني وعن سائر أهل الإسلام خيرًا.

(2)

هذه رموز لمن أخرج له «فع» للشافعي، و «أ» لأحمد، و «ت» للترمذي، و «ن» للنسائي.

[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:

(*) قام بتحقيق هذا الكتاب الدكتور رفعت فوزي عبد المطلب، أستاذ الشريعة بجامعتي القاهرة وأم القرى، نشر مكتبة الخانجي بالقاهرة.

ص: 98

يبيع الخز، وقال محمد بن سعد العوفي: سمعت يحيى بن معين يقول: «كان أبو حنيفة ثقة، لا يحدث من الحديث إلا بما يحفظه، ولا يحدث بما لا يحفظه» ، وقال مرة:«كان من أهل الصدق ولم يُتَّهَمْ بالكذب، ولقد ضربه ابن هبيرة على القضاء فأبى أن يكون قاضيًا» .

وَقَالَ ضِرَارُ بْنُ صُرْدٍ: وسُئِلَ يَزِِيدُ بْنُ هَارُونٍ أَيُّمَا أَفْقَهُ أَبُو حَنِيفَةَ أَوْ سُفْيَانُ؟ فَقَالَ: «سُفْيَانُ أَحْفَظُ لِلْحَدِيثِ وَأَبُو حَنِيفَةَ أَفْقَهُ» (*).، وقال ابن المبارك:«مَا رَأَيْتُ فِي الفِقْه مِثْلَهُ إِذَا اجْتَمَعَ سُفْيَانُ وَأَبُو حَنِيفَةَ فَمَنْ يَقُومُ لَهُمَا عَلَى فُتْيَا» ، وَقَالَ مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ:«كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ أَعْلَمَ أَهْلَ زَمَانِهِ، وَقَدْ جَالَسْتُ الكُوفِيِّينَ فَمَا رَأَيْتُ فِيهِمْ أَوْرَعَ مِنْهُ» .

«لَا نَكْذِبُ اللهَ، مَا [سَمِعْنَا] أَحْسَنَ مِنْ رَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ أَخَذْنَا بِأَكْثَرَ أَقْوَالِهِ»

وقال ابن معين: سمعت يحيى القطان يقول: «لَا نَكْذِبُ اللهَ، مَا [سَمِعْنَا] أَحْسَنَ مِنْ رَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ أَخَذْنَا بِأَكْثَرَ أَقْوَالِهِ» . قال ابن معين: «وَكَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ يَذْهَبُ فِي الفَتْوَى إِلَى قَوْلِ الكُوفِيِّينَ وَيَخْتَارُ قَوْلَهُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ، وَيَتْبَعُ رَأْيَهُ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ» .

وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول: «النَاسُ فِي الفِقْهِ عِيَالٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ مِمَّنْ وُفِّقَ لَهُ الفِقْهُ» .

قال الربيع عن الشافعي: سئل أبو حنيفة عن الصائم يأكل ويشرب ويطأ إلى طلوع الفجر، وكان عنده رجل نبيل (1) فقال:«أَرَأَيْتَ إِنْ طَلَعَ الفَجْرُ نِصْفَ اللَّيْلِ؟ فَقَالَ: الزَمْ الصَّمْتَ يَا أَعْرَجُ» .

وقال أبو يوسف: «بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ، إِذْ سَمِعْتُ رَجُلاً

(1) كذا في الأصل! ولعله «مُغَفَّلٌ» .

[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:

(*) قارن في هذا القول بما ورد في صفحة 92 من هذا الكتاب.

ص: 99

يَقُولُ: هَذَا أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَنَامُ اللَّيْلَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:" وَاللهِ لَا يُتَحَدَّثُ عَنِّي بِمَا لَمْ أَفْعَلْ "، فَكَانَ يَقُومُ يُحْيِي اللَّيْلَ صَلَاةً، وَدُعَاءً، وَتَضَرُّعًا».

قال أبو نعيم وجماعة: «ولد سنة ثمانين، ومات سنة خمسين ومائة» . وقال ابن معين: «مات سنة إحدى وخمسين» . وقال غيره: «سنة ثلاث وخمسين ومائة» .

أخبرنا الحافظ الحُجَّةُ أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن المِزِّيِّ بقراءتي عليه سنة أربعين وسبع مائة، قال: أنا الزاهد أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن الواسطي، أنا أبو علي الحسن بن إسحاق بن الجَوَالِيقِي، أنا أبو بكر محمد بن عبيد الله الزَّاعُونِي، أنا أبو القاسم علي بن أحمد البُنْدَارُ، أنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن البَزَّازُ، أنا أبو حامد محمد بن هارون الحضرمي، ثنا يوسف بن موسى، ثنا وكيع، ثنا أبو حنيفة، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ [فَمَالُهُ] لِلْبَائِعِ، إِلَاّ أَنْ يَشْتَرِطَهُ المُبْتَاعُ» رواه (د) في البيوع، (ن) في العتق وفي الشروط من حديث عطاء عن جابر». انتهى.

وقال سِبْطُ بْنُ العَجْمِي الإمام العلامة برهان الدين أبو الوفاء إبراهيم بن محمد بن خليل الطرابلسي ثم الحلبي الشافعي، شيخ البلاد الحلبية بِلَا مُدَافِعٍ، في كتابه " نهاية السُّول في رجال الستة الأصول " (1):

(1) في " لحظ الألحاظ بذيل تذكرة الحفاظ " اسمه " غاية السول " وهذا الكتاب له نسخة عكسية موجودة في خزانة «الجامعة الإسلامية» بالمدينة المنورة، وقد تفضل =

ص: 100

«(ت، س) النعمان بن ثابت بن زُوطَى كَسُلْمَى، الإمام المجتهد أبو حنيفة الكوفي، فقيه العراق، وإمام أصحاب الرأي، قيل: إنه من أبناء فارس، وولاؤه لبني تيم الله بن ثعلبة، وأما زُوطَى فإنه من أهل كَابُلْ، وولد ثابت على الإسلام، وكان زُوطَى مَمْلُوكًا لبني تيم الله بن ثعلبة، فَأُعْتِقَ، فولاؤه لبني تيم الله بن ثعلبة» .

وقال إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة: «أنا إسماعيل بن حماد بن النعمان بن ثابت بن النعمان بن المرزبان: من أبناء فارس الأحرار، واللهِ مَا وَقَعَ عَلَيْنَا رِِقٌّ قَطُّ، وكان أبو حنيفة خَزَّازًا، ودكانه معروف في دار عمرو بن حُريث» .

وقال أبو نعيم الفضل - دُكَيْنٍ -: «أَصْلُ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ كَابُلْ» ، وقال أبو عبد الرحمن المقرئ:«كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ أَهْلِ بَابِلَ» .

وقال يحيى بن نصر القريشي: «كَانَ وَالِدُ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ نَسَا» ، وقال الحارث بن إدريس:«أَصْلُ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ تِرْمِذْ» . وقال إسحاق بن البُهْلُولِ عن أبيه، قال:«ثَابِتُ وَالِدُ أَبِي حَنِيفَةَ مِنَ الأَنْبَارِ» .

رأى أبو حنيفة أَنَسًا. وكان في زمن أبي حنيفة - كما قال أبو إسحاق الفيروزآبادي - أربعة من الصحابة: أنس، وعبد الله بن أبي أَوْفَى، وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، وأبو الطُّفَيْلِ، ولم يأخذ عن أحد منهم. انتهى، وقيل: إنه روى عن الشعبي، وطاوس، انتهى.

= الأستاذ العالم المقرئ مسعود أحمد السيد الموقر، بإرسال عكس ترجمة الإمام إلينا جزاه الله تعالى عنا خير الجزاء، لكن النسخة سقيمة الخط جِدًّا صَعْبَةَ القراءة، وقد طمست بعض الأسطر في العكس، فلا تكاد تقرأ.

ص: 101

وَقَدْ رَوَيْنَا عن قاضي القضاة جمال الدين محمود بن أحمد بن السراج، أن أبا حنيفة رَوَى عن سبعة من الصحابة، ونظمهم في بيتين، والله أعلم. وأخرج جُزْءًا يُرْوَى، سَمَّاهُ " ما رواه أبو حنيفة عن الصحابة "

ورأيت لبعض الفضلاء من الحنفية بِسَنَدِ مُلَاّ يَعْقُوب ما رواه أبو حنيفة عن الصحابة. يعني أن ما موصولة بمعنى الذي - إلى آخره -.

قال الخطيب البغدادي في " تاريخه ": «رأى أنس بن مالك، وسمع عطاء بن أبي رباح، وأبا إسحاق السبيعي، ومحارب بن دثار، وحماد بن أبي سليمان، والهيثم بن حبيب الصراف، وقيس بن مسلم، وَمُحَمَّد بن المنكدر، ونافعًا مولى ابن عُمَرَ، وهشام بن عروة، ويزيد الفقير، وسماك بن حرب، وعلقمة بن مرثد، وعطية العوفي، وعبد العزيز بن رفيع، وعبد الكريم أبا أمية، وغيرهم» .

وروى عنه أبو يحيى الحِمَّانِي، وَهُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ، وَعَبَّادُ بْنُ العَوَّامِ، وعبد الله بن المبارك، ووكيع بن الجراح، ويزيد بن هارون، وعلي بن عاصم، ويحيى بن نصر، وأبو يوسف القاضي، ومحمد بن الحسن، وعمرو بن محمد العَنْقَزِي، وَهَوْذَةُ بْنُ خَلِيفَةَ، وأبو عبد الرحمن المقرئ، وعبد الرزاق بن همام، وآخرون.

وهو من أهل الكوفة، ونقله أبو جعفر المنصور إلى بغداد. وقال الشيخ أبو إسحاق في " الطبقات ": «ولد سنة 70 من الهجرة، وتوفي في بغداد سنة 150، وهو ابن 80 سنة.

ص: 102

أخذ الفقه عن حماد بن أبي سليمان، ومناقبه كثيرة معروفة في الكتب، وكذا زُهْدُهُ وَصَلَاتُهُ، وَعِبَادَتُهُ كُلُّهُ معروف، وقد أفردت مناقبه بالتصنيف.

والصحيح أنه توفي في السجن، دعاه أبو جعفر المنصور إلى القضاء فأبي عليه، فحبسه، وقصته معروفة مذكورة في الكتب - رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ -». انتهى كلام سبط بن العجمي البرهان الحلبي الشافعي.

وجرى على منوال المِزِّي والذهبي والحُسَيْنِي والبرهان الحلبي، شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي العسقلاني الشافعي الحافظ ابنُ حجر شيخ الإسلام، وإمام الحفاظ في زمانه، وحافظ الديار المصرية - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، فلم يذكر في كتابه " تهذيب التهذيب "، في ترجمة الإمام أبي حنيفة - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - شيئًا يلزم منه تضعيفه.

وهؤلاء الأئمة: المزي والذهبي، والعراقي، وابن حجر، هم الذين يقول في حقهم الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي في " ذيل تذكرة الحفاظ " (1) ما نصه:«وَالذِي أَقُولُهُ: إِنَّ المُحَدِّثِينَ عِيَالٌ الآنَ فِي الرِّجَالِ وَغَيْرِهَا مِنْ فُنُونِ الحَدِيثِ عَلَى أَرْبَعَةٍ: المِزِّيُّ، وَالذَّهَبِيُّ وَالعِرَاقِيُّ، وَابْنُ حَجَرَ» . انتهى.

وكذلك فعل الإمام المحدث الحافظ المفيد البارع عماد الدين

(1) ص 348.

ص: 103

الحافظ ابن كثير أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي الشافعي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، فذكر له في كتابه " البداية والنهاية " ترجمة حسنة حيث قال في وفيات سنة خمسين ومائة:

«وَفِيهَا تُوُفِّيَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ

، وَاسْمُهُ النُّعْمَانُ بْنُ ثَابِتٍ التَّيْمِيُّ، مَوْلَاهُمُ الْكُوفِيُّ، فَقِيهُ العِرَاقِ، وَأَحَدُ أَئِمَّةِ الإِسْلَامِ، وَالسَّادَةِ الأَعْلَامِ، وَأَحَدُ أَرْكَانِ العُلَمَاءِ، وَأَحَدُ الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ أَصْحَابِ المَذَاهِبِ المُتَّبَعَةِ، وَهُوَ أَقْدَمُهُمْ وَفَاةً; لأَنَّهُ أَدْرَكَ عَصْرَ الصَّحَابَةِ، وَرَأَى أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، قِيلَ: وَغَيْرَهُ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ رَوَى عَنْ سَبْعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَرَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ مِنْهُمْ; الحَكَمُ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَسَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَنَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ.

وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ; ابْنُهُ حَمَّادٌ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الأَزْرَقُ، وَأَسَدُ بْنُ عَمْرٍو القَاضِي، وَالحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ اللُّؤْلُؤِيُّ، وَحَمْزَةُ الزَّيَّاتُ، وَدَاوُدُ الطَّائِيُّ، وَزُفَرُ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ، وَهُشَيْمٌ، وَوَكِيعٌ، وَأَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي.

قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: " كَانَ ثِقَةً، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ، وَلَمْ يُتَّهَمْ بِالكَذِبِ، وَلَقَدْ ضَرَبَهُ ابْنُ هُبَيْرَةَ عَلَى الْقَضَاءِ فَأَبَى أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا ". [قَالَ]: " وَقَدْ

ص: 104

كَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ يَخْتَارُ قَوْلَهُ فِي الْفَتْوَى "، وَكَانَ يَحْيَى يَقُولُ: " لَا نَكْذِبُ اللهَ، مَا سَمِعْنَا أَحْسَنَ مِنْ رَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ أَخَذْنَا بِأَكْثَرَ أَقْوَالِهِ".

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: " لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَغَاثَنِي بِأَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ لَكُنْتُ كَسَائِرِ النَّاسِ

".

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ الخُرَيْبِيُّ: " يَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يَدْعُوا فِي صَلَاتِهِمْ لأَبِي حَنِيفَةَ (*) ; لِحِفْظِهِ الفِقْهَ وَالسُّنَنَ عَلَيْهِمْ ".

وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُبَارَكِ: " كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ أَفْقَهَ أَهْلِ الأَرْضِ فِي زَمَانِهِ ".

وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: " كَانَ صَاحِبَ غَوْصٍ فِي المَسَائِلِ ".

وَقَالَ مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: " كَانَ أَعْلَمَ أَهْلِ الأَرْضِ "». انتهى باختصار.

وكذلك فعل صاحب " المشكاة " الشيخ الإمام العلامة ولي الدين محمد بن عبد الله الخطيب التبريزي الشافعي في " أسماء رجاله "، فقال في ترجمة الإمام:

قَالَ شَرِيكٌ النَّخَعِيُّ: «كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ طَوِيلَ الصَّمْتِ دَائِمَ الفِكْرِ، قَلِيلَ الْمُحَادَثَةِ لِلنَّاسِ» . وهذا من أوضح الأمارات على علم الباطن، والاشتغال بمهمات الدين، فمن أوتي الصمت والزهد فقد أوتي العلم كله. ولو ذهبنا إلى شرح مناقبه وفضائله لأطلنا الخطب، ولم نصل إلى الغرض، فإنه كان عالمًا عاملاً، وَرِعًا زاهدًا، إمامًا في علوم الشريعة. والغرض بإيراد ذكره في هذا الكتاب وإن لم نَرْوِ عنه حديثًا في " المشكاة " التَّبَرُّكُ بِهِ لِعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ ووفور علمه». انتهى.

وَقَبْلَهُمْ النووي الإمام الحافظ الأوحد شيخ الإسلام، عَلَمُ الأولياء

[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:

(*) قارن في هذا القول بما ورد في صفحة 32 من هذا الكتاب.

ص: 105

محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف ابن مُرِّي الحِزَامِي الحَوْرَانِيُّ الشافعي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في كتابه " تهذيب الأسماء واللغات "، فلم يذكر في ترجمته شيئًا سوى فضائله، ومناقبه، والثناء عليه في علمه وورعه.

وقبله العلامة البارع الأوحد، البليغ القاضي الرئيس مَجْدُ الدين أبو السعادات المبارك بن محمد الشيباني الجَزَرِي ثم المَوْصِلِي الشافعي، الكاتب، ابن الأثير، المتوفى سنة 606 هـ، صاحب " جامع الأصول "، و" النهاية في غريب الحديث والأثر "، حيث ذكر ترجمة الإمام في الركن الثالث من كتابه " جامع الأصول "(1)، وأثنى عليه ثناء بليغًا، وَرَدَّ على طاعنيه فقال:

«النعمان بن ثابت: هو أبو حنيفة النعمانُ بنُ ثابت بن زُوْطَى بن ماه، الإِمام الفقيه الكوفي مولى تيم الله بن ثعلبة، وهو من رهط حَمْزَةَ الزَّيَات، وكان خَزَّازًا يَبِيعُ الخَزَّ، لَهُ ذِكْرٌ فِي الأَشْعَارِ مِنْ كِتَابِ الحَجِّ، وكان جده زُوْطى من أهل كَابُلْ، وقيل: من أهل بَابِلْ، وقيل: من الأنْبار، وكان مملوكًا لبني تيم الله بن ثعلبة فأُعتِقَ، ووُلِدَ أبوه ثابت على الإسلام.

(1) رأيت من هذا الكتاب نسخة خطية جيدة الخط، في خزانة محمد آباد طونك من أعمال راجبوتانه بالهند، وقد تفضل علينا الأستاذ الشيخ العالم عِمران خان بن عرفان خان المرحوم الطونكي بنقل هذه الترجمة من " جامع الأصول "، جزاه الله تعالى عنا وعن أهل العلم خيرًا.

ص: 106

قال إسماعيل بن حماد بن [بن ثابت] بن أبي حنيفة: «أنا إسماعيل بن حماد بن النعمان بن ثابت بن النعمان بن المرزبان من أبناء الفُرْسِ من الأحرار، والله ما وقع علينا رِقٌّ قط، وُلِدَ جدي في سنة ثمانين، وذهب ثابت إلى عَلِيِّ بن أبي طالب، وهو صغير فدعا له بالبركة فيه وفي ذريته، ونحن نرجو أَنْ يَكُونَ اللهُ قد استجابَ ذلك لِعَلِيٍّ [فِينَا]» .

وُلِدَ سنةَ ثمانين، ومات ببغدادَ سنة خمسين ومائة، وقيل: إحدى وخمسين وقيل: سنة ثلاث وخمسين، والأول أصح وأكثر، ودُفِنَ بمقابرِ الخَيْزُرَانِ، وقبرُه معروف ببغداد. وكان في أيام أبي حنيفة أربعة من الصحابة: أنسُ بن مالك بالبصرة، وعبد الله بن أبي أوفى بالكوفة، وسهل بن سعد السَّاعدي بالمدينة، وأبو الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ بمكة، ولم يَلْقَ أحدًا منهم ولا أخَذَ عنه؛ وأصحابُه يقولون: إنه لقي جماعة من الصحابة وروى عنهم، ولا يثَبتُ ذلك عند أهل النقل (1).

(1) قال العلامة شمس الدين القُهُسْتَانِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، في مقدمة " جامع الرموز شرح مختصر الوقاية " المُسَمَّى بـ " النُّقَايَةِ ": 1/ 6، طبع كلكته سَنَةَ 1274 هـ ما نصه:«إن الإمام من التابعين، رأى أنس بن مالك، كما قال الشيخ الجَزَرِي في " أسماء القراء "، بل من أكابرهم كما في " كشف الكشاف " في سورة النور. ولا يضره ما في " جامع الأصول ": أن ذلك مما لا يثبت، فإنه قال في آخر كلامه: إن أصحابه أعلم بحاله من غيرهم، فالرجوع إلى ما نقلوه عنه أولى من غيرهم» .

وقال العلامة القُهُسْتَانِيُّ محمد شمس الدين المفتي ببخارى، من مشاهير أهل العلم، كان إمامًا عالمًا زاهدًا فقيهًا متبحرًا، يقال: إنه ما نَسِيَ قَطُّ مَا طَرَقَ بِسَمْعِهِ، وترجمته مذكورة في " شذرات الذهب "، في وفيات سَنَةِ 953 هـ.

ص: 107

وأخذ الفقه عن حمادِ بن أبي سليمان.

وسمع عطاء بن أبي رباح، وأبا إسحاق السَّبيعي، ومُحارب بن دِثار، والهيثم بن حبيب، ومحمد بن المنكدر، ونافعًا مولى ابن عمر، وهِشام بن عروة، وسِماك بن حرب.

روى عنه عبدُ الله بن المبارك، ووكيعُ بن الجرَّاح، ويزيدُ بن هارون، وعلي بن عاصم، والقاضي أبو يُوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني وغيرهُم.

نقله المنصورُ من الكوفة إلى بغدادَ فأقامَ بها إلى أن مات فيها، وكان أكرهه ابنُ هُبَيْرة أيامَ مروان بن محمد الأموي على القضاء بالكوفة فأبى فضربه مائة سوط في عشرة أيام، كل يوم عشرة، فلمَّا رأى ذلك خلَّى سبيلَه، ولما أَشْخَصَهُ المنصورُ إلى بغداد أَرَادَهُ على القضاء، فأبى، فحلفَ عليه ليفعلنَّ، وحلفَ أبو حنيفة لا يفعل، وتكررت الأَيْمَانُ منهما فحبسَه المنصورُ، ومات في الحبسِ، وقيل: إنه افتدى نفسَه بأن تولى عَدَدَ اللَّبِنِ وَلَمْ يَصِحَّ.

كان رَبْعَة من الرِّجالِ، وقيل: كان طُوَالاً تعلوه سمرة حَسَنُ الوجه، أحسنُ الناسِ منطقًا وأحلاهم نَغْمَةً، حسن المجلس، شَدِيدَ الكرم، حسن المواساة لإخوانه.

قال الشافعي رحمه الله: قِيلَ لِمَالِكٍ: هَلْ رَأَيْتَ أَبَا حَنِيفَةَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، رَأَيْتُ رَجُلاً لَوْ كَلَّمَكَ فِي هَذِهِ السَّارِيَةِ أَنْ يَجْعَلَهَا ذَهَبًا لَقَامَ بِحُجَّتِهِ» .

وقال الشافعي: «مَنْ أَرَادَ الحَدِيثَ فَعَلَيْهِ بِمَالِكٍ، وَمَنْ أَرَادَ الجَدَلَ فَعَلَيْهِ بِأَبِي حَنِيفَةَ» .

وقال الشافعي رحمه الله: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَبَحَّرَ فِي الفِقْهِ فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ» .

ص: 108

ولو ذهبنا إلى شرح مناقبه وفضائله لأطلْنا الخُطَبَ، وَلَمْ نَصِلْ إلى الغرض منها، فإنه كان عالمًا عاملاً، زاهدًا، عابدًا، وَرِعًا، تقيًّا، إمامًا في علوم الشريعة مرضيًا.

وقد نُسِبَ إليه وقيل عنه من الأقاويل المختلفة التي يُجَلُّ قَدْرُهُ عنها [ويتنزه منها]؛ من القول بخلقِ القرآن، والقول بالقدر، والقول بالإرجاء، وغير ذلك مما نُسب إليه.

ولا حاجة إلى ذكرها ولا إلى ذكر قائليها، والظاهر أنه كان مُنَزَّهًا عنها.

ويدل على صحة نزاهته عنها، ما نشر الله تعالى له من الذِّكْرِ المنتشر في الآفاق، والعلم الذي طبق الأرض، والأَخْذ بمذهبه وفقهه والرجوع إلى قوله وفعله، وإن ذلك لو لم يكن للهِ فيه سِرٌّ خَفِيٌّ، ورضى إِلهيٌّ، وفقه اللهُ له لما اجتمع شَطْرُ الإسلامِ أو ما يقاربهُ على تقليده، والعمل برأيه ومذهبه حتى قد عُبِدَ اللهُ وَدِينَ بِفِقْهِهِ، وَعُمِلَ برأيه، ومذهبه، وأُخذَ بقوله إلى يومنا هذا ما يقارب أربعمائة وخمسين سَنَةً، وفي هذا أدل دليل على صحة مذهبه، وعقيدته، وأن ما قيل عنه هو مُنَزَّهٌ عنه، وقد جمع أبو جعفر الطحاوي - وهو من أكبر الآخذين بمذهبه - كتابًا سماه " عقيدةُ أبي حنيفةَ رحمه الله " وهي عقيدةُ أهل السُّنَّة والجماعة، وليس فيها شيء مما نُسبَ إليه وقيل عنه، وَأَصْحَابُهُ أَخْبَرُ بحاله وبقوله من غيرهم، فالرجوعُ إلى ما نقلوه عنه أَوْلَى مما نقله غيرُهم عنه (1).

(1) قال الإمام ابن القيم في " إعلام الموقعين ": 3/ 222: «فَالوَاجِبُ عَلَى مَنْ شَرَحَ =

ص: 109

و [قد] ذُكِرَ أيضًا سبب قول من قال عنه ما قال، والحامل له على ما نُسِبَ إليه، ولا حاجة بنا إلى ذكر ما قالوه، فإن مثل أبي حنيفة وَمَحَلُّهُ في الإسلام لا يحتاجُ إلى دليل يُعْتَذَرُ به مما نُسب إليه. والله أعلم. انتهى».

وقبل هؤلاء كلهم الحافظ البارع العلامة تاج الإسلام أبو سعد عبد الكريم السَّمْعَانِيُّ المَرْوَزِيُّ الشافعي، ترجم له في كتاب " الأنساب " ترجمة حسنة، وذكر فضائله ومناقبه، ولم يعرج على شيء من مثالبه.

وعلى هذا المنوال جَرَى من أتى بعد هؤلاء العلماء الأكابر المذكورين، من الحفاظ الجهابذة والأئمة المحدثين وغيرهم من أهل العلم، الذين ترجموا للإمام أبي حنيفة - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - أو أفردوا في أخباره كُتُبًا وأجزاءً، فلم يذكروا شيئًا سوى فضائله ومناقبه والثناء عليه في دينه وورعه، وَسَعَةَ علمه بالكتاب والسنة.

وَأُورِدُ هنا كلام واحد من هؤلاء الأجلة أحد كبار علماء القرن الحادي عشر، وهو الإمام العلامة ابْنُ عَلَاّنَ، محمد بن علي بن محمد بن عَلَاّنَ بن إبراهيم الصِدِّيقِي العَلَوِي، الشافعي، محيي السُنَّةِ بالديار الحجازية، وأحد المفسرين والأئمة المحدثين في تلك الديار، المولود سَنَةَ 996 هـ والمتوفى سَنَةَ 1057 هـ، - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، وقد ترجم

= اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ - إذَا بَلَغَتْهُ مَقَالَةٌ ضَعِيفَةٌ عَنْ بَعْضِ الأَئِمَّةِ - أَنْ لَا يَحْكِيَهَا لِمَنْ يَتَقَلَّدُهَا، بَلْ يَسْكُتُ عَنْ ذِكْرِهَا إنْ تَيَقَّنَ صِحَّتَهَا، وَإِلَاّ تَوَقَّفَ فِي قَبُولِهَا؛ فَكَثِيرًا مَا يُحْكَى عَنْ الأَئِمَّةِ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ» (عبد الفتاح أبو غدة).

ص: 110

للإمام أبي حنيفة في كتابه " الفتوحات الربانية على الأذكار النووية "(1)، حيث جاء ذكر الإمام في متن " الأذكار " فقال ما نصه:

«الإمام أبو حنيفة هو الإمام الأعظم، وَالعَلَمُ المُفْرَدُ المُكَرَّمُ، إمام الأئمة، المُتَّفَقُ على عُلُوِّ مرتبته، ووفور علمه، وزهده، وَتَمَلِّيهِ من العلوم الباطنة فضلاً عن الظاهرة بما فاق به أهل عصره، وفاق بحسن الثناء عليه وإذاعة ذكره من أكابر التابعين: النعمان بن ثابت بن زُوطَى - بضم الزاي وفتح الطاء - بُنُ مَاهْ، مولى تيم الله بن ثعلبة الكوفي.

روى الخطيب بإسناده عن حفيده عُمَرَ بْنِ حَمَّادٍ بْنِ أبي حنيفة: أن ثابتا وُلِدَ على الإسلام، وَزُوطَى كان مملوكًا لبني تيم فأعتقوه، فصار وَلَاؤُهُ لهم، وأنكر إسماعيل أخو عمر حفيد أبي حنيفة ذلك، وقال: إن والد ثابت من أبناء فارس، وأنهم أحرار، - قال -:" واللهِ مَا وَقَعَ عَلَيْنَا رِِقٌّ قَطُّ، قال: وَذَهَبَ - زُوطَى - بِثَابِتٍ ابْنِهِ إِلَى عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ صَغِيرٌ فَدَعَا لَهُ بِالبَرَكَةِ فِيهِ وَفِي ذُرِّيَّتِهِ، وَنَحْنُ نَرْجُو اللهَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَدْ اسْتُجِيبَ فِينَا "». اهـ.

وهو كما رَجَا - إسماعيلُ - فقد بارك الله في جده أبي حنيفة بركة لا نهاية لأقصاها، ولا حَدَّ لمنتهاها، وبارك الله في أتباعه، فكثروا في سائر الأقطار، وظهر عليهم من بركة إخلاصه وصدقه ما اشتهر به في سائر الأمصار.

(1) 2/ 155، 156 (باب تكبيرة الإحرام).

ص: 111

أخذ الفقه عن حماد بن أبي سليمان وأدرك أربعة من الصحابة، بل ثمانية، منهم أنس، وعبد الله بن أبي أوفى، وسهل بن سعد، وأبو الطفيل، وقد نظم بعضم أسماء بعض من روى عنه الإمام أبو حنيفة من الصحابة، فقال:

أَبَو حَنِيفَةَ زَيْنُ التَّابِعِينَ رَوَى

عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ جَزْءٍ وَالرِّضَا أَنَسْ

وَمَعْقِلٍ وَحُرَيْثِيٍ (1) وَوَاثِلَةَ

وَبِنْتِ عَجْرَدٍ، عِلْمَ الطَيِّبِينَ قَبَسْ

وقيل لم يلق أحدًا منهم.

وسمع من عطاء وأهل طبقته، وروى عنه ابن المبارك ووكيع بن الجراح وآخرون.

وطلب منه المنصور أن يلي القضاء فامتنع، فحبسه على ذلك وضربه وهو مُصِرٌّ على الامتناع، حتى مات في السجن رضي الله عنه.

قال عبد الله بن المبارك في حقه: «أَتَذْكُرُونَ رَجُلاً عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا فَفَرَّ مِنْهَا» .

وكان حسن الثياب، طيب الريح، يعرف بريح الطيب إذا أقبل، حسن المجلس، كثير الكرم، حسن المواساة لإخوانه، ربعة، وقل: كان طُوَالاً، أحسن الناس منطقًا، وأحلاهم نغمة.

قال: «قَدِمْتُ البَصْرَةَ فَظَنَنْتُ أَنِّي لَا أُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ إِلَاّ أَجَبْتُ عَنْهُ، فَسَأَلُونِي عَنْ أَشْيَاءَ لَمْ يَكُنْ عِنْدِي فِيهَا جَوَابٌ ; فَجَعَلْتُ عَلَى نَفْسِي

(1) يعني: عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ المَخْزُومِيَّ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ -

ص: 112

أَنْ لَا أُفَارِقَ حَمَّادًا حَتَّى يَمُوتَ، فَصَحِبْتُهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ مَا صَلَّيْتُ صَلَاةً مُنْذُ مَاتَ إِلَاّ اسْتَغْفَرْتُ لَهُ قَبْلَ وَالِدَيَّ، وَإِنِّي لأَسْتَغْفِرُ لِمَنْ تَعَلَّمْتُ مِنْهُ عِلْمًا، أَوْ تَعَلَّمَ مِنِّي عِلْمًا».

قَالَ سَهْلٌ بْنُ مُزَاحِمٍ: «بُذِلَتْ لَهُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِدْهَا، وَضُرِبَ عَلَيْهَا بِالسِّيَاطِ فَلَمْ يَقْبَلْهَا» .

وكان خزازًا يبيع الخز، ودكانه في دار عمرو بن حُرَيْثٍ.

ولما بلغ ابنَ جُرَيْجٍ موته تَوَجَّعَ، وقال:«أَيُّ عِلْمٍ ذَهَبَ؟!» .

وقال الفضيل بن عياض - وناهيك بها شهادة من هذا الحَبْرِ -: «كَانَ أََبُو حَنِيفَةَ [رَجُلاً فَقِيهًا] مَعْرُوفًا بِالفِقْهِ، مَشْهُورًا بِالوَرَعِ، وَاسِعَ [العِلْمِ]، مَعْرُوفًا بِالإِفْضَالِ عَلَى [كُلِّ مَنْ يَطِيفُ بِهِ]، صَبُورًا عَلَى تَعْلِيمِ العِلْمِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، [حَسَنُ اللَّيْلِ، كَثِيرُ الصَّمْتِ]، قَلِيلُ الكَلَامِ، حَتَّى تَرِدَ مَسْأَلَةٌ فِي حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ» (*).

وفضائله كثيرة

ولما غَسَّلَهُ الحسن بن عمارة - قاضي بغداد - قال له: «[رَحِمَكَ اللهُ] وَغَفَرَ لَكَ، لَمْ تُفْطِرْ مُُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةٍ، وَلَمْ تَتَوَسَّدْ يَمِينَكَ بِاللَّيْلِ مُُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةٍ» (**).

ولد رضي الله عنه سنة ثمانين من الهجرة، وتوفي ببغداد - قيل: في السجن، على أن يلي القضاء - سنة خمسين على المشهور، أو إحدى أو ثلاث وخمسين ومائة، في شهر رجب. وقبره ببغداد، يُزَارُ.

ومن فضله قول إمامنا الشافعي: «النَاسُ فِي الفِقْهِ عِيَالٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -» . انتهى كلام ابن عَلَاّنٍ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -.

[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:

(*) قارن هذا القول بما ورد في صحفة 65 من هذا الكتاب.

(**) انظر نفس القول في صفحة 94 من هذا الكتاب.

ص: 113

فهؤلاء الحفاظ النقاد أئمة الجرح والتعديل لم يُورِدُوا في تصانيفهم شيئًا مما ذكر أعداؤه وَحُسَّادُهُ من مطاعنه ومثالبه، فثبت من صنيع هؤلاء جميعًا أَنَّ كُلَّ مَا ذُكِرَ في بعض كتب الرجال من جرحه، ينبغي أن يُرْمَى به عُرِْضَ الحائط.

ولا شك أنه ما طعن أحد في قول من أقواله إلا لجهله به، إما من حيث دليله، وإما من حيث دقة مداركه عليه، - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وقد أجمع السلف والخلف على كثرة علمه، وورعه، وعبادته، ودقة مداركه واستنباطاته، ولا عبرة بقول الجُهَّالِ وَالحُسَّادِ والأعداء على كل حال. ولقد صدق الإمام عبد الوهاب الشعراني - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - حيث يقول في " الميزان الكبرى " (1): «وأما ما نُقِلَ عن الأئمة الأربعة رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ - في ذم الرأي، فأولهم تَبَرِّيًا من كل رأي يخالف ظاهر الشريعة الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان بن ثابت رضي الله عنه، خلاف ما يضيفه إليه بعض المتعصبين، ويا فضيحته يوم القيامة من الإمام إذا وقع الوجه في الوجه، فإن من كان في قلبه نور لا يتجرأ أن يذكر أحدًا من الأئمة بسوء.

وأين المقام من المقام؟ إذ الأئمة كالنجوم في السماء، وغيرهم كأهل الأرض الذين لا يعرفون من النجوم إلا خيالها على وجه الماء! وقد روى الشيخ محيي الدين في " الفتوحات المكية " بسنده إلى الإمام

(1) 1/ 54 و 55.

ص: 114

أبي حنيفة رضي الله عنه أنه كان يقول: " إِيَّاكُمْ وَالقَوْلَ فِي دِينِ اللهِ تَعَالَى بِالرَّأْيِ وَعَلَيْكُمْ بِاتِّبَاعِ السُنَّةِ، فَمَنْ خَرَجَ عَنْهَا ضَلَّ "».

وقال أيضًا - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى (1) -: «والعلماء أمناء الشارع على شريعته من بعده، فلا اعتراض عليهم فيما بَيَّنُوهُ لِلْخَلْقِ، واستنبطوه من الشريعة، لا سيما الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه، فلا ينبغي لأحد الاعتراض عليه، لكونه من أجل الأئمة، وأقدمهم تدوينًا للمذهب، وأقربهم سَنَدًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَمُشَاهِدًا لِفِعْلِ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ مِنَ الأَئِمَّةِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ -» .

وكيف يليق بأمثالنا الاعتراض على إمام عظيم، أجمع الناس على جلالته، وعلمه، وورعه، وزهده، وَعِفَّتِهِ، وعبادته، وكثرة مراقبته لله عز وجل، وخوفه منه طول عمره، ما هذا والله إلا عَمَى في البصيرة

وإياك أن تخوض مع الخائضين في أعراض الأئمة بغير علم فتخسر في الدنيا والآخرة، فإن الإمام رضي الله عنه كان مُتَقَيِّدًا بِالكِتَابِ وَالسُنَّةِ مُتَبَرِّئًا مِنَ الرَّأْيِ، كما قدمنا لك في عدة مواضع من هذا الكتاب.

ومن فَتَّشَ مذهبه رضي الله عنه وجده من أكثر المذاهب احتياطًا في الدين، ومن قال غير ذلك فهو في جملة الجاهلين المتعصبين

(1) 1/ 69.

ص: 115

المنكرين على أئمة الهُدَى بفهمه السقيم، وحاشا ذلك الإمام الأعظم من مثل ذلك حاشاه، بل هو إمام عظيم مُتَّبَعٌ إلى انقراض المذاهب كلها.

وأتباعه لن يزالوا في ازدياد كلما تقارب الزمان، وفي مزيد اعتقادٍ في أقواله، وأقوال أتباعه، وقد قدمنا قول إمامنا الشافعي رضي الله عنه:«النَاسُ فِي الفِقْهِ عِيَالٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ» .

وقد ضُرِبَ بَعْضُ أتباعه وَحُبِسَ لِيُقَلَّدَ غيره من الأئمة، فلم يفعل، وما ذلك واللهِ سُدَى، ولا عبره بكلام بعض المتعصبين في حق الإمام ولا بقولهم: إنه من جملة أهل الرأي، بل كلام من يطعن في هذا الإمام عند المحققين يُشْبِهُ الهَذَيَانَ. ولو أن هذا الذي طعن في الإمام، كان له قدم في معرفة منازع المجتهدين، ودقة استنباطهم، لَقَدَّمَ الإمامَ أبا حنيفة في ذلك على غالب المجتهدين، لخفاء مُدْرِكِه رضي الله عنه.

واعلم يا أخي، أنني ما بسطتُ لك الكلام على مناقب الإمام أبي حنيفة أكثر من غيره، إلا رحمة بِالمُتَهَوِّرِينَ فِي دِينِهِمْ من بعض طلبة المذاهب المخالفة له، فإنهم ربما وقعوا في تضعيف شيء من أقواله، لخفاء مُدْرَكِهِ عَلَيْهِمْ، بخلاف غيره من الأئمة، فإن وجوه استنباطاتهم من الكتاب والسنة ظاهرة لغالب طلبة العلم، الذين لهم قَدَمٌ في الفهم ومعرفة المدارك». انتهى.

ص: 116