الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فِي دِينِهِ [وَوَرَعِهِ] وَعِلْمِهِ لَا يُقْدَحُ فِيهِ كَلَامُ أُولَئِكَ وَقَدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُ كَانَ مَحْسُودًا حَكَى أَبُو عُمَرَ فِي كِتَابِ " الاِنْتِقَاءِ فِي فَضَائِلِ الثَّلَاثَةِ الفُقَهَاءِ " عَنْ حَاتِمٍ بْنِ [آدَمَ](*) قَالَ: قُلْتُ لِلْفَضْلِ بْنِ مُوسَى السِّينَانِيِّ (**): مَا تَقُولُ فِي هَؤُلاءِ الذِينَ يَقَعُونَ فِي أَبِي حَنِيفَةَ؟ قَالَ: إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ جَاءَهُمْ بِمَا يَعْقِلُونَهُ وَبِمَا لَا يَعْقِلُونَهُ مِنَ العِلْمِ وَلَمْ يَتْرُكْ لَهُمْ شَيْئًا فَحَسَدُوهُ». انتهى.
رَدُّ ابْنِ الوَزِيرِ اليَمَانِيِّ عَلَى مَنْ حَاوَلَ التَّشْكِيكَ فِي عِلْمِ أَبِي حَنِيفَةَ بِالحَدِيثِ وَالعَرَبِيَّةِ:
وقال الإمام الحافظ العلامة النظار أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن الوزير اليماني المتوفى سنة 840 هـ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، في " الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم "(1) صلى الله عليه وسلم، رَدًّا على السيد جمال الدين علي بن محمد بن أبي القاسم حيث حاول التشكيك في علم أبي حنيفة بالحديث والعربية، قال ما نصه:
«لا يخلو إما أن يُنْكِرَ - هذا المعترض - صدور الفتوى عنه رضي الله عنه ، وينكر نقل الخلف والسلف لمذاهبه في الفقه، أو يقر بذلك، إن أنكره أنكر الضرورة، ولم تكن لمناظرته صورة، وإن لم ينكره فهو يدل على اجتهاده، ولنا في الاستدلال به على ذلك مسالك:
= يَا نُعْمَانُ مَا تَقُولُ فِي كَذَا كَذَا؟ قَالَ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: من أَيْنَ قُلْتَ؟ قَالَ: أَنْت حَدَّثْتَنَا عَنْ فُلَانٍ بِكَذَا. قَالَ الأَعْمَش: «أَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الفُقَهَاءِ الأَطِبَّاءُ وَنَحْنُ الصَّيَادِلَةُ» .
(1)
1/ 158 - 166.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*) ورد في الكتاب المطبوع (عن حاتم بن داود) والصواب (حاتم بن آدم)، انظر " الانتقاء " لابن عبد البر، تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة: ص 211، الطبعة الأولى: 1417 هـ - 1997 م، نشر دار البشائر الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع. بيروت - لبنان.
(**) عقب الشيخ عبد الفتاح أبو غدة على ذلك بقوله: في ك وحدها (السِّينَانِيِّ) مشكولاً، وما أراه إلا خطأ
…
ويرى أن الصواب (السِّمْنَانِي) كما أثبته. (المصدر السابق: الصفحة 211 الحاشية 3).
المسلك الأول: أنه ثبت بالتواتر فضله وعدالته، وتقواه وأمانته، فلو أفتى بغير علم وتأهل لذلك وليس له بأهل لكان جَرْحًا في عدالته، وَقَدْحًا في ديانته وأمانته، وَوَصْمًا في عقله ومروءته، لأن تعاطي الإنسان ما لا يحسنه، ودعواه لمعرفة ما لا يعرفه، من عادات السفهاء، ومن لا حياء له ولا مروءة من أهل الخسة والدناءة، ووجوه مناقبه مصونة عن ابتذالها وتسويدها بهذه الوصمة القبيحة، والمذمة الشنيعة.
المسلك الثّاني: أن رواية العلماء لمذاهبه، وتدوينها في كتب الهداية، وخزائن الإسلام؛ تدل على أنهم قد عرفوا اجتهاده لأنه لا يحل لهم رواية مذهبه إلا بعد المعرفة بعلمه لأن إيهام ذلك من غير معرفة مُحَرَّمٌ، لما يتركب عليه من الأحكام الشرعية المجمع عليها، كانخرام إجماع أهل عصره بخلافه، والمختلف فيها كانخرام إجماع من بعده بخلافه، وجواز تقليده بعد موته.
المسلك الثّالث: أن نقول: الإجماع منعقد على اجتهاده، فإن خالف في ذلك مخالف فقد انعقد الإجماع بعد موته، وإنما قلنا بذلك لأن أقواله متداولة بين العلماء الأعلام، سائرة في مملكة الإسلام، في الشرق والغرب واليمن والشام، من عصر التابعين من سَنَةِ خمسين ومائة إلى يوم الناس هذا وهو أول المائة التاسعة بعد الهجرة، لا ينكر على من يرويها ولا على من يعتمد عليها، والمسلمون بين عامل عليها، وساكت عن الإنكار على من يعمل عليها، وهذه الطّريقة هي التي تَثْبُتُ بمثلها دعوى الإجماع في أكثر المواضع.
المسلك الرابع: أنه قد نص كثير من الأئمة والعلماء على أن أحد الطرق الدالة على اجتهاد العالم هي: انتصابه للفتيا، ورجوع [عامة المسلمين] إليه من غير نكير من العلماء والفضلاء، وموضع نصوص العلماء على ذلك في علم أصول الفقه، وهناك يذكر الدليل على أن ذلك كاف في معرفة اجتهاد العالم وجواز تقليده، وممن ذكر ذلك من أئمة الزيدية، وشيوخ المعتزلة المنصور بالله في كتابه:" الصفوة " ، وأبو الحسين البصري في كتابه " المعتمد ".
وهذا في سكوت سائر العلماء عن النكير على المفتي، فكيف بسكوت ركن الإسلام من عصابة التابعين، ونبلاء سادات المسلمين ومن هم من خير القرون بنص سيد المرسلين، فقد كان الإمام أبو حنيفة معاصرًا لذلك الطراز الأول كما سيأتي.
وقد تطابق الفريقان من أهل السنة والاعتزال، على التعظيم لأبي حنيفة والإجلال؛ أما أهل السنة فذلك أظهر من الشمس، وأوضح من أن يدخل فيه اللبس.
وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي الأَفْهَامِ شَيْءٌ
…
إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلٍ
وأما المعتزلة: فقد تشرفوا بالانتساب إليه، والتعويل في التقليد عليه، كأبي عَلِيٍّ، وولده أبي هاشم من متقدميهم، وأبي الحسين البصري، والزمخشري من متأخريهم ، وهم وإن قدرنا دعواهم الاجتهادَ
والخروج من التقليد، فذلك إنما كان بعد طلبهم العلم وطول المدة، وهم قبل ذلك وفي خلال ذلك معترفون باتباع أقواله، وبعد ذلك لم يستنكفوا من الانتساب إلى اسمه والمتابعة في المعارف لرسمه.
وفي كلام عَلَاّمَتِهِمْ الزمخشري: «وَتَدَ اللهُ الأرضَ بالأعلام المُنيفة، كما وطد الحنيفية بعلوم أبي حنيفة، الأئمة الجِلَّةِ الحنفية، أَزِمَّةِ المِلَّةِ الحَنِيفِيَّةِ، الجودُ والحلم حاتمي وأحنفي، والدين والعلم حنيفي وحنفي» .
وقد عقد الحاكم أبو سعيد فصلاً في فضل أبي حنيفة، وعلمه ذكره في كتابه " سفينة العلوم ".
وقد أطبق أهل التاريخ على تعظيمه، وأفرد بعضهم سيرته رضي الله عنه في كتاب سماه " شقائق النعمان في مناقب النعمان ".
ولو كان الإمام أبو حنيفة جاهلاً ومن حلية العلم عاطلاً ما تطابقت جبال العلم من الحنفية على الاشتغال بمذاهبه، كالقاضي أبي يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني، والطّحاوي، وأبي الحسن الكرخي، وأمثالهم وأضعافهم.
فعلماء الطائفة الحنفية في الهند، والشام، ومصر، واليمن، والجزيرة، والحرمين، والعراقين منذ مائة وخمسين من الهجرة إلى هذا التاريخ يزيد على ستمائة سَنَةٍ، فهم ألوف لا ينحصرون، وعوالم لا يحصون من أهل العلم والفتوى، والورع والتقوى.
فكيف يجترىء هذا المعترض، ويجوز عليهم أنهم تطابقوا على الاستناد إلى عامي جاهل لا يعرف أن البَاءَ تَجُرُّ ما بعدها، ولا يدري ما يخرج من رأسه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ما هذا إلا كلام عامي أو أعمى، يخبط من الجهل في ظلماء.
وَهَبْكَ تَقُولُ هَذَا الصُّبْحَ لَيْلٌ
…
أَيَعْمَى العَالِمُونَ عَنْ الضِّيَاءِ.
وأمّا ما قدح به على الإمام أبي حنيفة من عدم العلم باللغة العربية فلا شك أن هذا كلام متحامل، متنكب عن سبيل المحامل، فقد كان الإمام أبو حنيفة من أهل اللسان القويمة واللغة الفصيحة.
وَلَيْسَ بِنَحْوِيٍّ يَلُوكُ لِسَانَهُ
…
وَلَكِنْ سَلِيقِيٌّ يَقُولُ فَيُعْرِبُ
وذلك لأنه أدرك زمان العرب، واستقامة اللسان، فعاصر جريرًا والفرزدق، ورأى أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين، وقد توفي أنس بن مالك سَنَةَ ثلاث وتسعين من الهجرة ، والظاهر أن أبا حنيفة ما رآه وهو في المهد، بل رآه بعد التمييز، يدل على ذلك أن أبا حنيفة كان من المعمرين، وتأخرت وفاته إلى سَنَةِ خمسين ومائة، وقد جاوز التسعين من العمر (1).
وهذا يقتضي أنه بلغ الحُلُمَ وأدرك بعد موت رسول الله - صَلََّى اللهُ
(1) هذا على قول من قال إن مولد أبي حنيفة سَنَةَ إحدى وستين، والصحيح أنه ولد سَنَةَ ثمانين، وهذا لا يؤثر على استدلال ابن الوزير، بل يبقى صحيحًا على الحالين كما لا يخفى.
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقدر الثمانين سنة لأنه عليه السلام توفي بعد مضي عشر من الهجرة، وهذا يدل على تقدم أبي حنيفة وإدراكه زمان العرب، وهو أقدم الأئمة وأكبرهم سِنًّا، فهذا مالك على تقدمه توفّي بعده بنحو ثلاثين سنة، ولا شك أن تغير اللسان في ذلك الزمان كان يسيرًا، وأنه لم يشتغل في ذلك الزمان بعلم اللغة وفن الأدب أحد من مشاهير العلماء المتبوعين المعتمد عليهم في التقليد، لعدم مسيس الحاجة إلى ذلك في ذلك العصر كما أشار إلى ذلك أبو السعادات ابن الأثير في ديباجة كتابه:" النهاية " ، وكما لا يخفي ذلك على من له أنس بعلم التّاريخ.
فلو أوجبنا قراءة علم العربية في ذلك الزمان على المجتهد لم نقتصر على أبي حنيفة، ولزم أن لا يصح احتجاج علماء العربية بأشعار جرير والفرزدق، وهذا ما لم يقل به أحد، وإنما اختل اللسان الاختلال الكثير في حق بعض الناس بعد ذلك العصر، وقد سلم من تغير اللسان من لم يخالط العجم في الأمصار من خلص العرب، وأدرك الزمخشري كثيرًا منهم ممن لزم البادية، وأكثر ما أسرع التغير إلى العامة ومن لا تمييز له.
وقد قال الأمير العالم الحسين بن محمد في كتاب " شِفَاءُ الأُوَامِ ": إن الإمام يحيى بن الحسين رضي الله عنه كان عربي اللسان حجازي اللغة من غير قراءة، وروى عَلَاّمَةُ الشيعة علي بن عبد الله بن أبي الخير
أنه - أي الإمام يحيى - قرأ في العربية أربعين يومًا، وهذا قد توفي على رأس ثلاث مائة سنة من الهجرة.
وأما سنة ثمانين من الهجرة، فليس أحد من أهل التمييز يعتقد أن أهل العلم في ذلك الزمان كانوا لا يتمكنون من معرفة معاني كلام الله ورسوله إلا بعد القراءة في علم العربية، ولو كان ذلك منهم لنقل ذلك، وعرف شيوخ التابعين فيه، وليت شعري من كان شيخ علقمة بن قيس، وأبي مسلم الخولاني، ومسروق بن الأجدع، وجبير بن نفير، وكعب الأحبار؟ ، ومن كان شيوخ من بعدهم من التابعين كالحسن، وأبي الشعثاء ، وزين العابدين، وإبراهيم التيمي، والنخعي، وسعيد بن جُبير، وطاووس، وعطاء والشعبي ومجاهد، وأضرابهم، فما خص أبا حنيفة بوجوب تعلم العربية، وفي أي المصنفات البسيطة يقرأ في ذلك الزمان؟.
وأما قوله: «بأبا قبيس» فالجواب عنه من وجوه:
الأول: أن هذا يحتاج إلى طرق صحيحة، والمعترض قد شدد في نسبة الصحاح إلى أهلها مع اشتهار سماعها، والمحافظة على ضبطها، فكيف بمثل بهذه الرواية؟.
الثاني: أنه إن ثبت بطرق صحيحة، فإنه لم يشتهر، ولم يصح مثل شهرة صدور الفتيا، ودعوى الاجتهاد عن الإمام أبي حنيفة، وقد تواتر
علمه وفضله، وأجمع عليه، وليس يقدح في المعلوم بالمظنون، بل بما لا يستحق أن يسمى مظنونًا.
الثالث: أنا لو قدرنا أن ذلك صح عنه بطريق معلومة لم يقدح به لأنه ليس بلحن بل هو لغة صحيحة، حكاها الفراء عن بعض العرب وأنشد:
إِنَّ أَبَاهَا وَأَبَا أَبَاهَا
…
قَدْ بَلَغَا فِي المَجْدِ غَايَتَاهَا
الرابع: سلمنا أن هذا لحن لا وجه له، فإنه لا يدل على عدم المعرفة، فإن كثيرًا من علماء العربية يتكلم بلسان العامة ويتعمد النطق باللحن، بل قد يتكلم العربي بالعجمية ولا يقدح ذلك في عربيته.
وعلى الجملة؛ فكيف ما دارت المسألة فإن ذلك لا يدل على قصور الإمام أبي حنيفة، بل يدل على غفلة المعترض به وتغفيله، وجرأته على وصم هذا الإمام الجليل وتجهيله.
وأما قدحه عليه بالرواية عن المضعفين، وقوله: إن ذلك ليس إلا لقلة معرفته بالحديث؛ فهو وَهْمٌ فاحش، لا يتكلم به منصف.
والجواب على ذلك يتبين بذكر محامل:
المحمل الأول: أنه قد علم من مذهب أبي حنيفة رحمه الله أنه يقبل المجهول، وإلى ذلك ذهب كثير من العلماء كما قدمناه (1) ، ولا شك أنهم إنما يقبلونه حيث لا يعارضه حديث الثقة المعلوم العدالة، لأن الترجيح بزيادة الثقة والحفظ عند التعارض أمر مجمع عليه.
(1) في 1/ 20 - 26 من " الروض الباسم ".
ولا شك أن الغالب على حملة العلم النبوي في ذلك الزمان العدالة، ويشهد لذلك الحديث الثابت المشهور:«خَيْرُ [النَّاسِ] قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الكَذِبُ» .
وقد كان عَلِيٌّ رضي الله عنه يَتَّهِمُ بعض الرواة فيستحلفه ثُمَّ يَقْبَلُهُ ، وهذا إنما يكون في حديث من فيه جهالة أو نحوها، ولذا لم يستحلف المقداد لما أخبره بحكم المذي.
وقد روى الحافظ ابن كثير في جزء جمعه في أحاديث السِّبَاقِ عن الإمام أحمد بن حنبل أنه كان يرى العمل بالحديث الذي فيه ضعف إذا لم يكن في الباب حديث صحيح يدفعه ، وأنه روى في " المسند " أحاديث كثيرة من هذا القبيل، وذلك على سبيل الاحتياط من غير جهل بضعف الحديث، ولا بمقادير الضعف، وما يحرم معه قبول الحديث بالإجماع، وما فيه خلاف.
وقال الحافظ أبو عبد الله بن منده: إن أبا داود يخرج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره لأنه أقوى عنده من رأي الرجال. انتهى.
وفي هذا شهادة واضحة على أن رواية الحديث الضعيف لا تستلزم الجهل بالحديث، فأحمد وأبو داود من أئمة علم الأثر بلا مدافعة، وهذا الحديث الضعيف الذي ذكروه، ليس حديث الكذابين، ولا الفساق المصرحين، فذلك عندهم لا يستحق اسم الضعف، وإنما يقال فيه: إنه باطل، أو موضوع، أو ساقط، أو متروك، أو نحو ذلك.
وإنما الضعيف حديث الراوي الصدوق الذي ليس بحافظ، أو المعلومُ بالاختلاف في رفعه أو إسناده، والمضطرب اضطرابًا يسيرًا، أو نحو ذلك مما اختلف العلماء في التعليل للحديث به، أو الجرح للراوي به، ولا تظهر قوة في دليل رَدِّهِ، ولا دليل قبوله.
وأكثر التضعيف إنما يكون من جهة الحفظ، وعند الأصوليين: أنه لا يقدح به حتى يكون الخطأ راجحًا على الصواب، أو مُسَاوِيًا له، وفي المساوي خلاف عندهم، وقد تقدم ذكر هذه المسألة، وهي مقررة في كتب علوم الحديث وكتب الأصول ، فعلى هذا الوجه تكون رواية الإمام أبي حنيفة عن بعض الضعفاء مَذْهَبًا واختيارًا، لا جهلاً واغترارًا.
المحمل الثّاني: أن يكون ضعف أولئك الرواة الذين روى عنهم مختلفًا فيه، ويكون مذهبه وجوب قبول حديثهم، وعدم الاعتداد بذلك التضعيف؛ إما لكونه غير مفسر لسبب، أو لأجل مذهب، أو غير ذلك، وقد جرى ذلك لغير واحد من العلماء والحفاظ، بل لم يسلم من ذلك صَاحِبَا " الصحيح ".
وكذلك أئمة العلم: هذا الإمام الشافعي رضي الله عنه أكثر من الرواية عن إبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي، وَوَثَّقَهُ، وقد خالفه الأكثرون في ذلك. وقال ابن عبد البر في " تمهيده ":«أَجْمَعُوا عَلَى تَجْرِيحِ ابْنِ أَبِي يَحْيَى، إِلَاّ الشَّافِعِيُّ» .
قلت: أما الإجماع على تجريحه فليس بِمُسَلَّمٍ، فقد وافق الشافعي على توثيقه أربعة من كبار الحُفَّاظِ، وَهُمْ: ابن جُريج، وحمدان بن محمد الأصبهاني، وَابْنُ عَدِيٍّ، وَابْنُ عُقْدَةَ.
وقال الذّهبي في " التذكرة ": «لَمْ يَكُنْ ابْنُ أَبِي يَحْيَى فِي وَزْنِ مَنْ يَضَعُ الحَدِيثَ» انتهى، ولكن تضعيفه قول الجماهير. وهو المصحح عند أئمة الحديث من الشافعية كالنووي، والذهبي، وابن كثير، وابن النحوي - وهو ابْنُ المُلَقَّنِ شيخ الحافظ ابن حجر -، وغيرهم.
وكذلك روى الشافعي عن ابن أبي خالد الزنجي المكي ، وهو مختلف في توثيقه، وكذلك الإمام أحمد يروي عن جماعة مختلف فيهم.
وكذلك القاسم بن إبراهيم، ويحيى بن الحسين [الهادي]رضي الله عنه قد رَوَيَا عن ابن أبي أُوَيْسٍ، وهو مختلف فيه.
وقد ذكر أهل علم الرجال ذلك الاختلاف، وبينوا في علوم الحديث ما يقبل من الجرح والتعديل، ومراتبهما، وكيفية العمل عند تعارضهما.
المحمل الثالث: أن يكون إنما روى عن أولئك الضعفاء على سبيل المتابعة والاستشهاد، وقد اعتمد على غير حديثهم من عموم آية، أو حديث، أو قياس، أو استدلال، مثل: ما صنع مالك في الرواية عن عبد الكريم بن أبي المُخَارِقِ البصري، قال ابن عبد البر في " تمهيده ":
وكذلك القاسم بن إبراهيم، وحفيده يحيى بن الحسين من أئمة الزيدية قد أكثر من رواية أحاديث الأحكام، والاحتجاج عليها من حديث ابن أبي ضَمْرَةَ وأهل الرواية متفقون على تجريحه، والقدح في روايته.
وكذلك قد روى شعبة على جلالته وتشدده عن أبان بن أبي عياش مع قول شعبة فيه: «لأَنْ أَشْرَبَ مِنْ بَوْلِ حِمَارٍ حَتَّى أَرْوَى أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ: حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ» ، رواه شعيب بن جرير عنه، وروى ابن إدريس وغيره عن شعبه أنّه قال:«لأَنْ يَزْنِي الرَّجُلُ خَيْرٌ مِنَ أَنْ يَرْوِي عَنْ أَبَانَ» .
فإن قلت: فكيف روى عنه مع اعتقاده تحريمه.
قلت: إنّما أراد تحريم ذلك على من لا يعرف الحديث الباطل من غيره ، وتحريم رواية العارف عن المتروكين في حضرة من لا يعرف واجب، فإن الثوري نهى عن الرواية عن بعض المتروكين، فقيل له: ألست تروي عنه؟ فقال: «إِنِّي أَرْوِي مَا أَعْرِفُ» ، وهذا من لطيف علم الحديث.
وقد قدمنا عن مسلم أنه ربما أخرج الإسناد الضعيف لِعُلُوِّهِ واقتصر عليه، وترك إيراد الإسناد الصحيح لنزوله، ومعرفة أهل الشأن له، روى ذلك النووي
عن مسلم تنصيصًا كما تقدم، وفيه دلالة على أن رواية العالم لحديث الرجل الضعيف لا تدل على جهله بضعفه.
وكذلك البخاري قد ضَعَّفَ هُوَ بَعْضَ من روى عنه في " الصحيح " ، ذكر ذلك الذهبي في " الميزان "(1) ، وهذا يدل على أنه لم يعتمد على ذلك الراوي الذي ضَعَّفَهُ، لولا شواهد لحديثه ومتابعات، وهذا من لطائف علم الحديث.
ولذا قال الإمام النووي: «إِنَّ مَنْ صَحَّحَ حَدِيثًا عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ لِكَوْنِ رَاوِيهِ مِنْ رُوَّاةِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ؛ فَقَدْ وَهِمَ فِي ذَلِكَ» .
المحمل الرابع: أن تكون رواية الإمام أبي حنيفة من قبيل تدوين ما بلغه من الحديث صحيحه وضعيفه، كما هو عادة كثير من مُصَنِّفِي الحفّاظ أهل السنن والمسانيد، وغرضهم بذلك حفظ الحديث للأمة لينظر في توابعه وشواهده، فإن صح منه شيء عُمِلَ بِهِ وإن بطل شيء حُذِّرَ من العمل به، وإن احتمل شيء الخلاف كان للناظر من العلماء أن يعمل فيه باجتهاده.
وفي الرواية المشهورة عن البخاري أنه كان حفظ ثلاث مائة ألف حديث، منها: مئتا ألف غير صحاح.
وقال إسحاق بن راهويه: «أَحْفَظُ مَكَانَ مِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَأَحْفَظُ سَبْعِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ صَحِيحَةً عَنْ ظَهْرِ قَلْبِي، وَأَحْفَظُ أَرْبَعَةَ آلَافِ حَدِيثٍ مُزَوَّرَةً» . فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ: «لأَجْلِ إِذَا مَرَّ بِي مِنْهَا حَدِيثٌ فِي الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فَلَيْتُهُ فَلْيًا» .
المحمل الخامس: أن يكون كثيرٌ من الأحاديث المنسوبة إلى الإمام أبي حنيفة ضعيفة من قبيل ما روي عنه، لا من جهته، ولا من جهة شيوخه ومن فوقهم، كما في كثير من الأحاديث المنسوبة إلى جعفر الصادق، وكثير من الثقات، فقد روى الذهبي في " الميزان " عن الحافظ ابن حبان:«أَنَّ أَبَانَ بْنَ جَعْفَرٍ (1) وَضَعَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ حَدِيثٍ، مَا حَدَّثَ بِهَا أَبُو حَنِيفَةَ قَطُّ» ، رواه الذهبي في ترجمة أبان بن جعفر.
إذا عرفت هذا، فاعلم أن الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه طلب العلم بعد أن أَسَنَّ (2). وقد كان الحافظ المشهور بالعناية في هذا الشأن إذا كَبُرَ وَأَسَنَّ تَنَاقَصَ حِفْظُهُ، فلهذا لم يكن في الحفظ في أرفع المراتب، وكذلك غيره من الأئمة، فقد كان الإمام أحمد بن حنبل أوسع الأئمة الأربعة معرفة بالحديث وحفظًا له، ولم يكن ذلك عيبًا فيهم ولا قدحًا في اجتهادهم، وقد كان حديث ابن المسيب، ومحمد بن سيرين، وإبراهيم النخعي: أَصَحَّ وَأَقْوَى من حديث عطاء، والحسن البصري، وأبي قلابة، وأبي العالية. وكان ابن المسيب أَصَحَّ الجماعة حديثًا من غير قدح في علم من هو دونه.
(1) ويقال فيه (أباء بن جعفر)، وهو النَّجِيرَمِيُّ.
(2)
سبق عن الحافظ الذهبي ص 42، أن الإمام طلب الحديث في سنة مائة وبعدها وكان وقتئذٍ ابن عشرين سنة، فإن مولده سنة ثمانين على الصحيح، وابنُ الوزير مشى على القول بأن مولده سنة إحدى وستين.
ولهذا السبب تكلم بعض الحفّاظ في حديث الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه؛ فظن بعض الجُهَّالِ أن ذلك يقتضي القدح في اجتهاده، وإمامته، وليس كذلك، فغاية ما في الباب أن غيره أحفظ منه، وذلك لا يستلزم أن غيره أفضل منه، ولا أعلم منه على الإطلاق، فقد كان أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ الصحابة رضي الله عنهم، ولم يكن أعلمهم، ولا أفقههم، ولا أفضلهم، وقد كان معاذ أفقههم، وزيد أفرضهم، وَعَلِيٌّ أقضاهم، وَأُبَيٌّ أَقْرَأَهُمْ، والخلفاء أفضلهم.
وبعد؛ فالمناقب مواهب يهب الله منها ما يشاء لمن يشاء.
وقد أشار الذهبي إلى الاعتذار عن ذكر الإمام أبي حنيفة وأمثاله، وإلى أنه لا قدح عليه بما ذكر فيه من الاختلاف، فقال في خطبة " الميزان ":«وَكَذَا لَا أَذْكُرُ مِنَ الأَئِمَّةِ المَتْبُوعِينَ فِي الفُرُوعِ أَحَدًا لِجَلَالَتِهِمْ فِي الإِسْلَامِ، وَعَظَمَتِهِمْ فِي النُّفُوسِ، فَإِنْ ذَكَرْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ فَأَذْكُرُهُ عَلَى الإِنْصَافِ، وَمَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ عِنْدَ اللهِ، وَلَا عِنْدَ النَّاسِ، إِنَّمَا يَضُرُّ الإِنْسَانَ الكَذِبُ، وَالإِصْرَارُ عَلَى كَثْرَةِ الخَطَأِ، وَالتَّجَرِّي عَلَى تَدْلِيسِ البَاطِلِ، فَإِنَّهُ خِيَانَةٌ وَجِنَايَةٌ، فَالمَرْءُ المُسْلِمُ يَطْبَعُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ إِلَاّ الخِيَانَةِ وَالكَذِبِ» . انتهى كلامه (1).
(1) ترجمة الإمام أبي حنيفة في بعض نسخ " الميزان " مقحمة من قلم غير المؤلف الذهبي كَمَا بَيَّنْتُهُ في " الإمام ابن ماجه وكتابه السنن "، وكما أوضحه بدلائله وشواهده الشيخ العلامة البارع المحدث عبد الفتاح أبو غدة - حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَى - في تعليقه على " الرفع والتكميل ": ص 121 - 126 من الطبعة الثالثة، وتلك الترجمة المقحمة المدسوسة غير منصفة يقينًا، والذهبي اشترط على نفسه الإنصاف في ذكر الأئمة المتبوعين، وإذا وازن =
فانظر كيف تَأَدَّبَ أبو عبد الله الذهبي، وذكر جلالة الأئمة المتبوعين في الإسلام، وَنَصَّ على أن ذكرهم في كتب الجرح والتعديل لا يضرهم عند الله، ولا عند الناس. وهكذا فليكن ذكر العالم لمن هو أعلم منه؛ بأدب، وتواضع، وتعظيم، وتوقير، جعلنا الله ممن عرف قدر الأئمة، وعصمنا من مخالفة إجماع الأئمة.
وبهذه الجملة تم كشف عوار هاتين الشُّبْهَتَيْنِ الضَّعِيفَتَيْنِ في علم إمام أكثر أهل الإسلام، الذي أجمع على إمامته العلماء الأعلام. وقد أحببت التقرب إلى الله تعالى، والتشرف بخدمة مناقبه العزيزة، والذب عن معارفه الغزيرة، بذكر هذه الأحرف الحقيرة اليسيرة، ولم أقصد التعريف بمجهول من فضائله، ولا الرفع لمخفوض من مناقبه، فهو من ذلك أرفع مكانًا، وَأَجَلَّ شَأْنًا.
وَالشَّمْسُ فِي صَادِعِ أَنْوَارِهَا
…
غَنِيَّةٌ عَنْ صِفَةِ الوَاصِفِ
انتهى كلام ابن الوزير بطوله، وفيه وفي ما تقدم من نصوص الأئمة
= القارئ الترجمة بما ترجمه به الذهبي نفسه في " تذكرة الحفاظ " و" سير أعلام النبلاء "، و" تهذيب التهذيب " لرأى بينهما بُعْدَ المشرقين، وقد سبق في ص 87، نص ترجمة أبي حنيفة بتمامه من " تهذيب التهذيب "، كما نقلنا سابقًا نصوص الذهبي من " سير أعلام النبلاء " في تقريظه البالغ لأبي حنيفة رضي الله عنه، فمن قرأ تلك النصوص ونص ترجمة " التذهيب " لازداد يقينًا بدس الترجمة الموجودة في بعض نسخ " الميزان "، وعذر ابن الوزير في هذا الاعتذار عن الذهبي - ولم يكن إليه أي حاجة - عدم وقوفه على نسخ " الميزان " الصحيحة، وابن الوزير يشكو في " العواصم والقواصم ": قلة كتب المحدثين عنده.
المتقدمين، والحفاظ الجهابذة المتأخرين من المالكية، والشافعية، والحنابلة، وغيرهم، في تقريظ الإمام أبي حنيفة، والثناء على سَعَةِ علمه بالكتاب وَالسُنَّةِ، والرد على جارحيه والإنكار عليهم بالحُجَجِ الواضحة والأدلة النيرة: إِبْطَالٌ لِطَعْنِ الشَّائِنِينَ المُتَحَامِلِينَ عَلَى الإِمَامِ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ -، في هذا الزمن المتأخر!
وفي كل ذلك أيضًا ما يزيل الغِشَاوَةَ عن عيونهم الرَّمْدَاءَ، ونفوسهم المريضة، إذا هُدُوا وَوُفِّقُوا، وفي كل ما تقدم أيضًا مَا تَقْرُّ بِهِ أَعْيُنُ طلبة العلم وأهله الذين رزقهم اللهُ تعالى التأدب مع أئمة الدين - رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -.
ونرجو من الله تعالى أن ينفع بهذا الكتاب كُلَّ قَارِئٍ له وواقف عليه، وَيُوَفِّقَنِي للمزيد من بيان مقام هذا الإمام الجليل وَالنِّفَاحِ عن رفيع مرتبته، بفضله وَمَنِّهِ، إنه ولي التوفيق، وبالإجابة جدير، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
وكتبه في كراتشي
15 من شهر ربيع الأول سنة 1415 هـ
الفقير إليه تعالى
محمد عبد الرشيد النعماني.
قال العبد الضعيف عبد الفتاح أبو غدة - فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ - وغفر لمشايخه وله ولوالديه: فرغت من النظر في هذا الكتاب: " مكانة الإمام أبي حنيفة في الحديث "، وخدمته بحسب ما تيسر لي، في 1 من ذي الحجة سنة 1415 هـ بمدينة الرياض، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.