المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثناء الذهبي على أبي حنيفة: - مكانة الإمام أبي حنيفة في الحديث

[محمد عبد الرشيد النعماني]

فهرس الكتاب

- ‌مَكَانَةُ الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الحَدِيثِ

- ‌كَلِمَةُ التَقْدِيمِ:

- ‌تَقْدِمَةُ المُؤَلِّفِ:

- ‌عنايته بطلب الحديث:

- ‌إِمَامَةُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الحَدِيثِ:

- ‌ثَنَاءُ الذَّهَبِيِّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ:

- ‌ثَنَاءُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ:

- ‌أَبُو حَنِيفَةَ مِنَ الأَئِمَّةِ الجِلَّةِ الذِينَ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُمْ وَاشْتَهَرَتْ:

- ‌كَثْرَةُ أَتْبَاعِ أَبِي حَنِيفَةَ وَاشْتِهَارِ مَذْهَبِهِ فِي الآفَاقِ:

- ‌كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ حُجَّةً ثَبْتًا أَعْلَمُ أَهْلَ عَصْرِهِ بِالحَدِيثِ، وَمِنْ صَيَارِفَتِهِ:

- ‌عِدَادُ الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الحُفَّاظِ:

- ‌أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ أَئِمَّةِ الجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ:

- ‌أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى شَرْطِ أَصَحِّ الأَسَانِيدِ:

- ‌إِطْبَاقُ الحُفَّاظِ الذِينَ جَمَعُوا فِي رِجَالِ الكُتُبِ السِتَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الأَئِمَّةِ المُحَدِّثِينَ، عَلَى إِسْقَاطِ الجَرْحِ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي حَنِيفَةَ:

- ‌اِعْتِدَاءُ الأَلْبَانِي عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ:

- ‌رَدُّ الإِمَامِ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ عَلَى الطَّاعِنِينَ فِي الإِمَامِ، وَفِيهِ عِبْرَةٌ لِلأَلْبَانِي لَوْ اعْتَبَرَ:

- ‌جَوَابُ الحَافِظِ ابْنُ التُّرْكُمَانِيِّ عَنْ جُرُوحِ الإِمَامِ:

- ‌رَدُّ ابْنِ الوَزِيرِ اليَمَانِيِّ عَلَى مَنْ حَاوَلَ التَّشْكِيكَ فِي عِلْمِ أَبِي حَنِيفَةَ بِالحَدِيثِ وَالعَرَبِيَّةِ:

الفصل: ‌ثناء الذهبي على أبي حنيفة:

‌ثَنَاءُ الذَّهَبِيِّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ:

إن من أصدق الكلمات التي قالها الإمام الذهبي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، - وهو من أهل الاستقراء التام في نقد الرجال - قوله في ترجمة العلامة الإمام فقيه العراق حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: من كتابه " سير أعلام النبلاء "(1):

«فَأَفْقَهُ أَهْلِ الكُوْفَةِ: عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُوْدٍ، وَأَفْقَهُ أَصْحَابِهِمَا: عَلْقَمَةُ، وَأَفْقَهُ أَصْحَابِهِ: إِبْرَاهِيمُ - النخعي -، وَأَفْقَهُ أَصْحَابِ إِبْرَاهِيمَ: حَمَّادٌ، وَأَفْقَهُ أَصْحَابِ حَمَّادٍ: أَبُو حَنِيْفَةَ، وَأَفْقَهُ أَصْحَابِهِ: أَبُو يُوسُفَ.

وَانْتَشَرَ أَصْحَابُ أَبِي يُوسُفَ فِي الآفَاقِ، وَأَفْقَهُهُمْ: مُحَمَّدٌ - بن الحسن -، وَأَفْقَهُ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ: أَبُو عَبْدِ اللهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى -».

وقال أيضًا في " سير أعلام النبلاء "(2)، في ترجمة الإمام أبي حنيفة - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ -:

الإِمَامُ، فَقِيْهُ المِلَّةِ، عَالِمُ العِرَاقِ، أَبُو حَنِيفَةَ

وَعُنِيَ بِطَلَبِ الآثَارِ، وَارْتَحَلَ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا الفِقْهُ وَالتَّدْقِيقُ فِي الرَّأْيِ وَغوَامِضِهِ، فَإِلَيْهِ المُنْتَهَى، وَالنَّاسُ عَلَيْهِ عِيَالٌ فِي ذَلِكَ».

(1) 5/ 236 من الطبعة الثالثة بيروت سنة 1405 هـ.

(2)

6/ 390 و 392.

ص: 37

وقال أيضًا (1): «الإِمَامَةُ فِي الفِقْهِ وَدَقَائِقِه مُسَلَّمَةٌ إِلَى هَذَا الإِمَامِ، وَهَذَا أَمرٌ لَا شَكَّ فِيْهِ» .

وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي الأَذْهَانِ شَيْءٌ

إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلِ

وقال في ترجمة الإمام مالك رحمه الله (2) بعد أن نقل عن الإمام الشافعي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - أنه قال: «العِلْمُ يَدُورُ عَلَى ثَلَاثَةٍ: مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ» .

قُلْتُ: «بَلْ وَعَلَى سَبْعَةٍ مَعَهُم، وَهُمُ: الأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَعْمَرٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَشُعْبَةُ، وَالحَمَّادَانِ» .

وذكر في ترجمته أيضًا (3)، عن الإمام أبي يوسف أنه قال:«مَا رَأَيْتُ أَعْلَمَ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى» .

ولما حكى في ترجمته (4) الأسطورة التي تعزى إلى محمد والشافعي - رَحِمَهَا اللهُ تَعَالَى - في المقارنة بين علم مالك وأبي حنيفة - رَحِمَهَا اللهُ تَعَالَى -، ولفظها:

«ابْنُ عَبْدِ الحَكَمِ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: قَالَ لِي مُحَمَّدٌ: أَيُّهُمَا أَعْلَمُ، صَاحِبُنَا أَمْ صَاحِبُكُم؟ -يَعْنِي: أَبَا حَنِيفَةَ وَمَالِكًا، قُلْتُ: عَلَى

(1) 6/ 403.

(2)

8/ 94.

(3)

8/ 94.

(4)

8/ 112، 113.

ص: 38

الإِنْصَافِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: أَنْشُدُكَ بِاللهِ، مَنْ أَعْلَمُ بِالقُرْآنِ؟، قَالَ: صَاحِبُكُم، قُلْتُ: مَنْ أَعْلَمُ بِالسُّنَّةِ؟، قَالَ: صَاحِبُكُم. قُلْتُ: فَمَنْ أَعْلَمُ بِأَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ وَالمُتَقَدِّمِيْنَ؟، قَالَ: صَاحِبُكُم.

قُلْتُ: فَلَمْ يَبْقَ إِلَاّ القِيَاسُ، وَالقِيَاسُ لَا يَكُونُ إِلَاّ عَلَى هَذِهِ الأَشْيَاءِ، فَمَنْ لَمْ يَعْرِفِ الأُصُولَ، عَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَقِيسُ؟».

عقب عليها قائلاً:

«قُلْتُ: وَعَلَى الإِنْصَافِ؟، لَوْ قَالَ قَائِلٌ: بَلْ هُمَا سَوَاءٌ فِي عِلْمِ الكِتَابِ، وَالأَوَّلُ أَعْلَمُ بِالقِيَاسِ، وَالثَّانِي أَعْلَمُ بِالسُّنَّةِ، وَعِنْدَهُ عِلْمٌ جَمٌّ مِنْ أَقْوَالِ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، كَمَا أَنَّ الأَوَّلَ أَعْلَمُ بِأَقَاوِيلِ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُوْدٍ، وَطَائِفَةٍ مِمَّنْ كَانَ بِالكُوفَةِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَضِيَ اللهُ عَنِ الإِمَامَيْنِ، فَقَدْ صِرْنَا فِي وَقْتٍ لَا يَقْدِرُ الشَّخْصُ عَلَى النُّطقِ بِالإِنْصَافِ - نَسْأَل اللهُ السَّلَامَةَ -» .

وقال في ترجمة الإمام مالك أيضًا (1) ما نصه:

«فَالمُقَلَّدُونَ صحَابَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِشَرْطِ ثُبُوتِ الإِسْنَادِ إِلَيْهِم، ثُمَّ أَئِمَّةُ التَّابِعِينَ كَعَلْقَمَةَ، وَمَسْرُوقٍ، وَعَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ، وَسَعِيدِ بنِ المُسَيِّبِ، وَأَبِي الشَّعْثَاءِ، وَسَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ، وَعُبَيْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ اللهِ، وَعُرْوَةَ، وَالقَاسِمِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ.

ثُمَّ كَالزُّهْرِيِّ، وَأَبِي الزِّنَادِ، وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَطَبَقَتِهِم.

(1) 8/ 91، 92.

ص: 39

ثُمَّ كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالأَوْزَاعِيِّ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَمَعْمَرٍ، وَابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَالحَمَّادَيْنِ، وَشُعْبَةَ، وَاللَّيْثِ، وَابْنِ المَاجِشُونِ، وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ.

ثُمَّ كَابْنِ المُبَارَكِ، وَمُسْلِمٍ الزَّنْجِيِّ، وَالقَاضِي أَبِي يُوْسُفَ، وَالهِقْلِ بنِ زِيَادٍ، وَوَكِيعٍ، وَالوَلِيدِ بنِ مُسْلِمٍ، وَطَبَقَتِهِم.

ثُمَّ كَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَالبُوَيْطِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ بنِ أَبِي شَيْبَةَ.

ثُمَّ كَالمُزَنِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ الأَثْرَمِ، وَالبُخَارِيِّ، وَدَاوُدَ بنِ عَلِيٍّ، وَمُحَمَّدِ بنِ نَصْرٍ المَرْوَزِيِّ، وَإِبْرَاهِيْمَ الحَرْبِيِّ، وَإِسْمَاعِيلَ القَاضِي.

ثُمَّ كَمُحَمَّدِ بنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ بنِ خُزَيْمَةَ، وَأَبِي عَبَّاسٍ بنِ سُرَيْجٍ، وَأَبِي بَكْرٍ بنِ المُنْذِرِ، وَأَبِي جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ الخَلَاّلِ.

ثُمَّ مِنْ بَعْدِ هَذَا النَّمَطِ تَنَاقَصَ الاجْتِهَادُ، وَوُضِعَتِ المُخْتَصَرَاتُ، وَأَخلَدَ الفُقَهَاءُ إِلَى التَّقْلِيدِ، مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي الأَعْلَمِ، بَلْ بِحَسَبِ الاتِّفَاقِ، وَالتَّشَهِّي، وَالتَّعْظِيْمِ، وَالعَادَةِ، وَالبَلَدِ.

فَلَو أَرَادَ الطَّالِبُ اليَوْمَ أَنْ يَتَمَذْهَبَ فِي المَغْرِبِ لأَبِي حَنِيْفَةَ، لَعَسُرَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَمَذْهَبَ لابْنِ حَنْبَلٍ بِبُخَارَى وَسَمَرْقَنْدَ، لَصَعُبَ عَلَيْهِ، فَلَا يَجِيءُ مِنْهُ حَنْبَلِيٌّ، وَلَا مِنَ المَغْرِبِيِّ حَنَفِيٌّ، وَلَا مِنَ الهِنْدِيِّ مَالِكِيٌّ».انتهى.

وقال في ترجمة يحيى بن آدم (1)، بعد ما نقل عن مَحْمُوْدٍ بْنِ

(1)" السير ": 9/ 525، وفيه (محمد بن غيلان) بدل (محمود بن غيلان)، وهو خطأ.

ص: 40

غَيْلَانَ: سَمِعْتُ أَبَا أُسَامَةَ يَقُولُ: كَانَ عُمَرُ فِي زَمَانِهِ رَأْسَ النَّاسِ وَهُوَ جَامِعٌ، وَكَانَ بَعْدَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي زَمَانِهِ، وَبَعدَهُ: الشَّعْبِيُّ فِي زَمَانِهِ، وَكَانَ بَعْدَهُ: سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَكَانَ بَعْدَ الثَّوْرِيِّ: يَحْيَى بنُ آدَمَ».

قال الذهبي بعد هذا:

«قُلْتُ: قَدْ كَانَ يَحْيَى بنُ آدَمَ مِنْ كِبَارِ أَئِمَّةِ الاجْتِهَادِ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ كَمَا قَالَ فِي زَمَانِهِ.

ثُمَّ كَانَ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَمُعَاذٌ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ.

ثُمَّ كَانَ بَعْدَهُم فِي زَمَانِهِ زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ، وَعَائِشَةُ، وَأَبُو مُوسَى، وَأَبُو هُرَيْرَةَ.

ثُمَّ كَانَ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ.

ثُمَّ عَلْقَمَةُ، وَمَسْرُوْقٌ، وَأَبُو إِدْرِيسَ، وَابْنُ المُسَيِّبِ.

ثُمَّ عُرْوَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَطَاوُوسٌ، وَعِدَّةٌ.

ثُمَّ الزُّهْرِيُّ، وَعُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ، وَقَتَادَةُ، وَأَيُّوْبُ.

ثُمَّ الأَعْمَشُ، وَابْنُ عَوْنٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَعُبَيْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ.

ثُمَّ الأَوْزَاعِيُّ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَمَعْمَرٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَشُعْبَةُ.

ثُمَّ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَحَمَّادُ بنُ زَيْدٍ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ.

ثُمَّ ابْنُ المُبَارَكِ، وَيَحْيَى القَطَّانُ، وَوَكِيْعٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَابْنُ وَهْبٍ.

ص: 41

ثُمَّ يَحْيَى بنُ آدَمَ، وَعَفَّانُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَطَائِفَةٌ.

ثُمَّ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَعَلِيُّ بنُ المَدِينِيِّ، وَابْنُ مَعِينٍ.

ثُمَّ أَبُو مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيُّ، وَمُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيلَ البُخَارِيُّ، وَآخَرُونَ مِنْ أَئِمَّةِ العِلْمِ، وَالاجْتِهَادِ».

وقال في ترجمة ابن حزم (1)، بعد نقل قوله: أنا أتبع الحق، وأجتهد، ولا أتقيد بمذهب، ما نصه:

«قُلْتُ: نَعَمْ، مَنْ بَلَغَ رُتْبَةَ الاجْتِهَادِ وَشَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ عِدَّةٌ مِنَ الأَئِمَّةِ لَمْ يَسُغْ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ كَمَا أَنَّ الفَقِيهَ المُبتَدِئَ وَالعَامِيَّ الذِي يَحفَظُ القُرْآنَ أَوْ كَثِيرًا مِنْهُ لَا يَسوَغُ لَهُ الاجْتِهَادُ أَبَدًا فَكَيْفَ يَجْتَهِدُ وَمَا الذِي يَقُولُ؟ وَعلَامَ يَبنِي؟ وَكَيْفَ يَطيرُ وَلَمَّا يُرَيِّشُ؟

وَالقِسم الثَّالِث: الفَقِيهُ المُنْتَهِي اليَقِظُ الفَهِمُ المُحَدِّثُ الذِي قَدْ حَفِظ مُخْتَصَرًا فِي الفُرُوعِ وَكِتَابًا فِي قوَاعد الأُصُول وَقرَأَ النَّحْوَ وَشَارَكَ فِي الفضَائِلِ مَعَ حِفْظِهِ لِكِتَابِ اللهِ وَتشَاغُلِهِ بتَفْسِيرِهِ وَقوَةِ مُنَاظرتِهِ.

فَهَذِهِ رُتْبَةُ مِنْ بلغَ الاجْتِهَادَ المُقيَّدَ وَتَأَهَّلَ لِلنظرِ فِي دلَائِلِ الأَئِمَّةِ فَمَتَى وَضَحَ لَهُ الحَقُّ فِي مَسْأَلَةٍ وَثبت فِيهَا النَّصُّ وَعَمِلَ بِهَا أَحَدُ الأَئِمَّةِ الأَعْلَامِ كَأَبِي حَنِيْفَةَ مِثْلاً أَوْ كَمَالِكٍ أَوِ الثَّوْرِيِّ أَوِ الأَوْزَاعِيِّ أَوِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاق فَلْيَتَّبِعْ فِيهَا الحَقَّ وَلَا

(1) 18/ 191.

ص: 42

يَسْلُكِ الرُّخَصَ وَلِيَتَوَرَّعْ وَلَا يَسَعُهُ فِيهَا بَعْدَ قيَام الحُجَّة عَلَيْهِ تَقْلِيدٌ».

وقد سَرَدَ الإمام الحافظ الذهبي في ترجمة أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - (1)،الأسطورة التي رواها الخطيب البغدادي في " تاريخه "، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة، في ابتداء طلبه العلم، واختياره الفقه من سائر العلوم، وَحَكَمَ عليها بالوضع والاختلاق، فأفاد وأجاد، قال - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -:

«أَخْبَرَنَا ابْنُ عَلَاّنَ كِتَابَةً، أَنْبَأَنَا الكِنْدِيُّ، أَنْبَأَنَا القَزَّازُ، أَنْبَأَنَا الخَطِيبُ، أَنْبَأَنَا الخَلَاّلُ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ عَمْرٍو الحَرِيرِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بنِ كَاسٍ النَّخَعِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْمُودٍ الصَّيْدَنَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعِ بْنِ الثَّلْجِيِّ، حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ، قَالَ:

قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: " لَمَّا أَرَدْتُ طَلَبَ العِلْمِ، جَعَلتُ أَتَخَيَّرُ العُلُومَ، وَأَسْأَلُ عَنْ عَوَاقِبِهَا. فَقِيْلَ: تَعَلَّمِ القُرْآنَ.

فَقُلْتُ: إِذَا حَفِظتُه فَمَا يَكُونَ آخِرُهُ؟

قَالُوا: تَجْلِسُ فِي المَسْجِدِ، فَيَقرَأُ عَلَيْكَ الصِّبْيَانُ وَالأَحدَاثُ، ثُمَّ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَخْرُجَ فِيْهِم مَنْ هُوَ أَحْفَظُ مِنْكَ، أَوْ مُسَاوِيكَ، فَتَذهَبُ رِئَاسَتُكَ.

قُلْتُ: - القائل الذهبي - مَنْ طَلَبَ العِلْمَ لِلرِّئَاسَةِ قَدْ يُفَكِّرُ فِي هَذَا، وَإِلَاّ فَقَدْ ثَبَتَ قَوْلُ المُصْطَفَى - صَلَوَاتُ اللهُ عَلَيْهِ -:(أَفْضَلُكُم مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ).

يَا سُبْحَانَ اللهِ! وَهَلْ مَحَلٌّ أَفْضَلُ مِنَ المَسْجِدِ؟ وَهَلْ نَشْرٌ لِعِلمٍ يُقَارِبُ تَعْلِيمَ القُرْآنِ؟ كَلَاّ وَاللهِ، وَهَلْ طَلَبَةٌ خَيْرٌ مِنَ الصِّبْيَانِ الذِينَ

(1) 6/ 395 - 397.

ص: 43

لَمْ يَعْمَلُوا الذُّنُوبَ؟! وَأَحسِبُ هَذِهِ الحِكَايَةَ مَوْضُوعَةً، فَفِي إِسْنَادِهَا مَنْ لَيْسَ بِثِقَةٍ.

تَتِمَّةُ الحِكَايَةِ: «قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ سَمِعْتُ الحَدِيثَ وَكَتَبتُهُ حَتَّى لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا أَحْفَظُ مِنِّي؟

قَالُوا: إِذَا كَبِرتَ وَضَعُفْتَ، حَدَّثْتَ، وَاجْتَمَعَ عَلَيْكَ هَؤُلَاءِ الأَحْدَاثُ وَالصِّبْيَانُ، ثُمَّ لَمْ تَأمَنْ أَنْ تَغلَطَ، فَيَرمُوكَ بِالكَذِبِ، فَيَصِيرُ عَارًا عَلَيْكَ فِي عَقِبِكَ.

فَقُلْتُ: لَا حَاجَةَ لِي فِي هَذَا.

قُلْتُ: - القائل الذهبي - الآنَ كَمَا جَزَمْتُ بِأَنَّهَا حِكَايَةٌ مُختَلَقَةٌ، فَإِنَّ الإِمَامَ أَبَا حَنِيفَةَ طَلَبَ الحَدِيثَ، وَأَكْثَرَ مِنْهُ فِي سَنَةِ مائَةٍ وَبَعدَهَا، وَلَمْ يَكُنْ إِذْ ذَاكَ يَسْمَعُ الحَدِيثَ الصِّبْيَانُ، هَذَا اصْطِلَاحٌ وُجِدَ بَعْدَ ثَلَاثِ مائَةِ سَنَةٍ، بَلْ كَانَ يَطْلُبُهُ كِبَارُ العُلَمَاءِ، بَلْ لَمْ يَكُنْ لِلْفُقَهَاءِ عِلْمٌ بَعْدَ القُرْآنِ سِوَاهُ، وَلَا كَانَتْ قَدْ دُوِّنَتْ كُتُبُ الفِقْهِ أَصلاً.

ثُمَّ قَالَ: قُلْتُ: أَتَعَلَّمُ النَّحْوَ.

فَقُلْتُ: إِذَا حَفِظتُ النَّحْوَ وَالعَرَبِيَّةَ، مَا يَكُونَ آخِرُ أَمْرِي؟

قَالُوا: تَقعُدُ مُعَلِّمًا، فَأَكْثَرُ رِزْقِكَ دِينَارَانِ إِلَى ثَلَاثَةٍ.

قُلْتُ: وَهَذَا لَا عَاقِبَةَ لَهُ.

قُلْتُ: فَإِنْ نَظَرْتُ فِي الشِّعْرِ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَشعَرُ مِنِّي؟

قَالُوا: تَمدَحُ هَذَا فَيَهَبُ لَكَ، أَوْ يَخْلَعُ عَلَيْكَ، وَإِنْ حَرَمَكَ هَجَوتَهُ.

قُلْتُ: لَا حَاجَةَ فِيهِ.

قُلْتُ: فَإِنْ نَظَرْتُ فِي الكَلَامِ، مَا يَكُونُ آخِرُ أَمْرِِهِ؟

قَالُوا: لَا يَسْلَمُ مَنْ نَظَرَ فِي الكَلَامِ مِنْ مُشَنَّعَاتِ الكَلَامِ، فَيُرْمَى بِالزَّنْدَقَةِ، فَيُقتَلُ، أَوْ يَسْلَمُ مَذْمُوْمًا.

قُلْتُ - القائل الذهبي -: قَاتَلَ اللهُ مَنْ وَضَعَ هَذِهِ الخُرَافَةَ، وَهَلْ كَانَ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ وُجِدَ عِلْمُ الكَلَامِ؟

ص: 44

قَالَ: قُلْتُ: فَإِنَّ تَعَلَّمتُ الفِقْهَ؟

قَالُوا: تُسْأَلُ، وَتُفْتِي النَّاسَ، وَتُطلَبُ لِلْقَضَاءِ، وَإِنْ كُنْتَ شَابًّا.

قُلْتُ: لَيْسَ فِي العُلُومِ شَيْءٌ أَنفَعُ مِنْ هَذَا، فَلَزِمْتُ الفِقْهَ، وَتَعَلَّمْتُهُ».

وقال الحافظ الذهبي أيضًا، في ترجمة الإمام سفيان الثوري من كتابه " تذكرة الحفاظ " (1) مُعَلِّقًا على قوله - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -:

«ليس طلب الحديث من عُدَّةِ الموت لكنه علة يتشاغل بها الرجل» ،ما نصه:

«قلت: صدق والله إن طلب الحديث شيء غير الحديث فطلب الحديث اسم عُرْفِيٌّ لأمور زائدة على تحصيل ماهية الحديث وكثير منها مَرَاقٍ إلى العلم وأكثرها أمور يُشْغَفُ بها المحدث من تحصيل النسخ المليحة، وتطلب العالي، وتكثير الشيوخ، والفرح بالألقاب والثناء وتمني العمر الطويل ليروي، وحب التفرد إلى أمور عديدة لازمة للأغراض النفسانية، لا الأعمال الربانية.

فإذا كان طلبك الحديث النبوي محفوفًا بهذه الآفات فمتى خلاصك منها إلى الإخلاص؟!، وإذا كان علم الآثار مدخولاً فما ظنك بعلم المنطق والجدل وحكمة الأوائل التي تسلب الإيمان، وتورث الشكوك والحيرة التي لم تكن والله من علم الصحابة ولا التابعين ولا من علم الأوزاعي، والثوري، ومالك، وأبي حنيفة، وابن أبي ذئب، وشعبة

(1) 1/ 204، 205.

ص: 45

ولا وَاللهِ عرفها ابن المبارك، ولا أبو يوسف القائل:" مَنْ طَلَبَ الدِّينَ بِالكَلَامِ تَزَنْدَقَ "، ولا وكيع، ولا بن مهدي، ولا ابن وهب، ولا الشافعي، ولا عفان، ولا أبو عبيد، ولا ابن المديني، وأحمد، وأبو ثور، والمزني، والبخاري، والأثرم، ومسلم، والنسائي، وابن خزيمة، وابن سريج، وابن المنذر، وأمثالهم، بل كانت علومهم القرآن، والحديث والفقه والنحو وشبه ذلك نعم.

وقال سفيان أيضًا فيما سمعه منه الفريابي: " مَا مِنْ عَمَلٍ أَفْضَلَ مِنْ طَلَبِ الْحَدِيثِ إِذَا صَحَّتِ النِيَّةُ فِيهِ "».

وقال في خاتمة الطبقة الخامسة (1)، التي ذكر فيها أبا حنيفة، ومالكًا والأوزاعي، وسفيان: «وفي زمان هذه الطبقة، كان الإسلام وأهله في عِزٍّ تَامٍّ وعلم غزير

وكان في هذا الوقت [من الصالحين مثل إبراهيم بن أدهم وداود الطائي وسفيان الثوري]

ومن الفقهاء كأبي حنيفة ومالك والأوزاعي الذين مروا». انتهى.

قلتُ: فقد ثبت مما نقلناه من تصريحات الحافظ الذهبي أمور:

1 -

كانت علوم أبي حنيفة رحمه الله القرآن، والحديث، والفقه، والنحو، وشبه ذلك.

2 -

أن الإمام أبا حنيفة طلب الحديث وأكثر منه في سنة مائة وبعدها، بل لم يكن إذ ذاك للفقهاء علم بعد القرآن سواه، وقد عُنِيَ الإمام بطلب الآثار، وارتحل في ذلك.

(1) 1/ 244.

ص: 46