الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأحواله في العلم والحفظ والصيانة والإتقان، والاجتهاد في تحصيل العلم والفقه ونشرهما، والصبر على ترك مناصب السلطان، وبذل النفس وإشاعة العلم والعبادة والكرم، وهوان الدنيا عنده وعدم المبالاة بحطام هذه الفانية الزائلة، مع الدين والسلامة وجمع أنواع الخير: أكثر من أن يُحْصَرَ، وأشهر من أَنْ يُشَهَّرَ.
وقد انعقد الإجماع على إمامته وجلالته وَعُلُوِّ مرتبته، وكمال فضيلته، وأقاويل السلف كثيرة مشهورة في الثناء عليه في ورعه وزهده وعبادته، ومجانبته السلطان وإنكاره ولاية القضاء، ووفور علمه وكثرة حديثه، وبراعته في الفقه واتباعه السُنَّةَ، وأخبار إجلال أعيان أئمة زمانه من جميع الأقطار إياه واعترافهم بمزاياه وفيرة مستفيضة، وكل ذلك مُدَوَّنٌ في كتب التواريخ والرجال، لا حاجة لنا بذكرها.
عنايته بطلب الحديث:
وقد شهد له أئمة النقد وكبار المُحَدِّثِينَ بعنايته بطلب الحديث وارتحاله في ذلك ومعاناته في تحصيله.
قال الحافظ الذهبي في ترجمة أبي حنيفة في كتاب " سير أعلام النبلاء "(1): «وَعُنِيَ بِطَلَبِ الآثَارِ، وَارْتَحَلَ فِي ذَلِكَ» . اهـ.
وقال أيضًا (2): «إِنَّ الإِمَامَ أَبَا حَنِيفَةَ طَلَبَ الحَدِيثَ وَأَكْثَرَ مِنْهُ فِي سَنَةِ مِائَةٍ وَبَعْدَهَا» . اهـ.
(1) 6/ 392 من الطبعة الثالثة ببيروت سَنَةَ 1405 هـ.
(2)
6/ 396.
وقال أيضًا في جزئه الذي صنفه في " مناقب أبي حنيفة " في ذكر شيوخه (1): «وَسَمِعَ الحَدِيثَ مِنْ عَطَاءٍ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ بِمَكَّةَ، وَقَالَ: " مَا رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْ عَطَاءٍ "» .
قلت: وكان عطاء أيضًا يُفَضِّلُهُ على تلامذته، فكان أبو حنيفة إذا حضر مجلس السماع أوسع له وأدناه كما سيأتي.
وقال في " دول الإسلام "(2): «وأكبر شيوخه عطاء بن أبي رباح، وشيخه في الفقه حماد بن أبي سليمان» . اهـ.
وقال الإمام المحدث الفقيه شيخ الخطيب البغدادي، القاضي
(1)" مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه ": ص 11 طبع مصر.
(2)
" دول الإسلام " للذهبي: 1/ 79 طبع دائرة المعارف النظامية بحيدر آباد الدكن بالهند سنة 1337.
(3)
13/ 331.
أبو عبد الله بن علي الصيمري في كتابه " أخبار أبي حنيفة وأصحابه "(1): «أخبرنَا عبد الله بن مُحَمَّد قَالَ حدثَنَا مُكَرَّمٌ قَالَ: حدثَنَا عبد الصَّمَدِ بن عبيد الله، عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن نوح، قَالَ: ثَنَا حَفْص بن يحيى، قَالَ ثَنَا مُحَمَّد بن أبان عَن الحَارِث بْن عبد الرَّحْمَن قَالَ:" كُنَّا نَكُون عِنْد عَطاء بَعْضنَا خلف بعض، فَإِذا جَاءَ ابو حنيفَة أوسع لَهُ وَأَدْنَاهُ» . اهـ.
قلت: وصنيعه هذا معه يدل على أن الإمام أبا حنيفة كان من أنجب تلامذته في الحديث، وقد ذكر الإمام عبد الوهاب الشعراني في كتابه " الميزان الكبرى " (2) سَنَدَ: أبو حنيفة، عن عطاء، عن ابن عباس، كما ذكر سَنَدَ: مالك، عن نافع، عن ابن عمر، حينما تعرض لبيان أسانيد المجتهدين في الكتاب والسنة.
كذلك شيخه في الفقه حماد بن أبي سليمان أيضًا يجلسه في صدر الحلقة حذاءه، قال الحافظ أبو بكر الخطيب في " تاريخ بغداد " (3): «أَخْبَرَنَا الخلال، قَالَ: أَخْبَرَنَا الحريري، أن النخعي حدثهم قال: حَدَّثَنِي جعفر بن مُحَمَّد بن حازم، قَالَ: حَدَّثَنَا الوليد بن حماد، عن الحسن بن زياد، عن زفر بن الهذيل، قال: سمعت أبا حنيفة، يقول: " كنت أنظر في الكلام حتى بلغت فيه مبلغًا يشار إلي فيه بالأصابع، وكنا نجلس بالقرب من
(1) ص 83 طبع حيدر آباد الدكن بالهند سَنَةَ 1394 هـ.
(2)
1/ 48.
(3)
13/ 332، 333.
حلقة حماد بن أبي سليمان، فجاءتني امرأة يومًا، فقالت لي:" رجل له امرأة أمة أراد أن يطلقها للسنة، كم يطلقها؟ "، " فلم أدر ما أقول، فأمرتها أن تسأل حماد ثم ترجع فتخبرني "، فسألت حمادًا، فقال:" يطلقها وهي طاهر من الحيض والجماع تطليقة، ثم يتركها حتى تحيض حيضتين، فإذا اغتسلت فقد حلت للأزواج "، فرجعت فأخبرتني، فقلت:" لا حاجة لي في الكلام، وأخذت نعلي فجلست إلى حماد، فكنت أسمع مسائله، فأحفظ قوله، ثم يعيدها من الغد فأحفظها، ويخطئ أصحابه "، فقال:" لا يجلس في صدر الحلقة بحذائي غير أبي حنيفة "». اهـ.
قلتُ: هذا يدل على جودة حفظ الإمام وإتقانه.
هكذا وقع في المطبوع من " تاريخ بغداد "، والصواب «عَنْ إِبْرَاهِيمَ
(1) 13/ 334.
عَنْ أَصِْحَابِ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ
…
الخ». صرح به العَلَاّمَةُ الكوثري في " التأنيب "(1).
قلتُ: وقد فاق الإمام في طلب الحديث على مشايخ عصره فقد روى الحافظ الذهبي في " مناقب أبي حنيفة "(2) عن الإمام مِسْعَرٍ بْنِ كِدَامٍ، قَالَ:«طَلَبْتُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ الحَدِيثَ فَغَلَبَنَا، وَأَخَذْنَا فِي الزُّهْدِ فَبَرَعَ عَلَيْنَا، وَطَلَبْنَا الفِقْهَ فَجَاءَ مِنْهُ مَا تَرَوْنَ» . اهـ.
قلتُ: ومسعر بن كدام هذا ذكره الذهبي في " تذكرة الحفاظ " وَحَلَاّهُ في كتابه " سير أعلام النبلاء " بالإمام الثبت شيخ العراق الحافظ.
وقال صدر الأئمة المكي: «وكان مسعر بن كدام أحد مفاخر الكوفة في حفظه وزهده وكان من شيوخ أبي حنيفة، روى عنه في " مسنده "» (3).
(1)" تأنيب الخطيب ": ص 29.
(2)
ص 27.
(3)
من " مناقب الإمام الأعظم " لصدر الأئمة الموفق: 2/ 37، طبع دائرة المعارف بحيدر آباد الدكن بالهند.