المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌اعتداء الألباني على الإمام أبي حنيفة: - مكانة الإمام أبي حنيفة في الحديث

[محمد عبد الرشيد النعماني]

فهرس الكتاب

- ‌مَكَانَةُ الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الحَدِيثِ

- ‌كَلِمَةُ التَقْدِيمِ:

- ‌تَقْدِمَةُ المُؤَلِّفِ:

- ‌عنايته بطلب الحديث:

- ‌إِمَامَةُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الحَدِيثِ:

- ‌ثَنَاءُ الذَّهَبِيِّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ:

- ‌ثَنَاءُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ:

- ‌أَبُو حَنِيفَةَ مِنَ الأَئِمَّةِ الجِلَّةِ الذِينَ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُمْ وَاشْتَهَرَتْ:

- ‌كَثْرَةُ أَتْبَاعِ أَبِي حَنِيفَةَ وَاشْتِهَارِ مَذْهَبِهِ فِي الآفَاقِ:

- ‌كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ حُجَّةً ثَبْتًا أَعْلَمُ أَهْلَ عَصْرِهِ بِالحَدِيثِ، وَمِنْ صَيَارِفَتِهِ:

- ‌عِدَادُ الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الحُفَّاظِ:

- ‌أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ أَئِمَّةِ الجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ:

- ‌أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى شَرْطِ أَصَحِّ الأَسَانِيدِ:

- ‌إِطْبَاقُ الحُفَّاظِ الذِينَ جَمَعُوا فِي رِجَالِ الكُتُبِ السِتَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الأَئِمَّةِ المُحَدِّثِينَ، عَلَى إِسْقَاطِ الجَرْحِ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي حَنِيفَةَ:

- ‌اِعْتِدَاءُ الأَلْبَانِي عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ:

- ‌رَدُّ الإِمَامِ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ عَلَى الطَّاعِنِينَ فِي الإِمَامِ، وَفِيهِ عِبْرَةٌ لِلأَلْبَانِي لَوْ اعْتَبَرَ:

- ‌جَوَابُ الحَافِظِ ابْنُ التُّرْكُمَانِيِّ عَنْ جُرُوحِ الإِمَامِ:

- ‌رَدُّ ابْنِ الوَزِيرِ اليَمَانِيِّ عَلَى مَنْ حَاوَلَ التَّشْكِيكَ فِي عِلْمِ أَبِي حَنِيفَةَ بِالحَدِيثِ وَالعَرَبِيَّةِ:

الفصل: ‌اعتداء الألباني على الإمام أبي حنيفة:

‌اِعْتِدَاءُ الأَلْبَانِي عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ:

فهذا ما نقلناه من أركان النقل وأئمة الرجال، الذين عليهم المُعَوَّلُ في هذا الباب، في حق أبي حنيفة الإمام الأعظم - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ -، من الثناء على حفظه وإتقانه وعلمه، وقد قال الحافظ أبو الحجاج المِزِّي في " مقدمة تهذيب الكمال ":«واعلم أن ما كان في هذا الكتاب من أقوال أئمة الجرح والتعديل ونحو ذلك، فعامته منقول من كتاب" الجرح والتعديل " لأبي مُحَمَّدٍ عبد الرحمن بْن أَبي حاتم الرازي الحافظ ابن الحافظ، ومن كتاب" الكامل " لأبي أَحْمَد عَبد اللَّهِ بْن عَدِيٍّ الجرجاني الحافظ، ومن كتاب" تاريخ بغداد " لأبي بَكْر مُحَمَّد بْن علي بْن ثابت الخطيب البغدادي الحافظ، ومن كتاب" تاريخ دمشق " لأبي القاسم عَلِيٍّ بْن الحَسَن بْن هبة الله المعروف بابن عساكر الدمشقي الحافظ، وما كان فيه من ذلك منقولاً من غير هذه الكتب الأربعة، فهو أقل مما كان فيه من ذلك منقولاً منها، أو من بعضها» .

وقد اشتمل هذا الكتاب على ذكر عامة رُوَاةِ العِلْمِ، وَحَمَلَةِ الآثَارِ، وأئمة الدين، وأهل الفتوى والزهد والورع وَالنُّسُكِ، وعامة المشهورين من كل طائفة من طوائف أهل العلم المُشَارِ إليهم من أهل هذه الطبقات، ولم يخرج عنهم إلا القليل.

فمن أراد زيادة اطلاع على ذلك فعليه بعد هذه الكتب الأربعة

ص: 117

بكتاب " الطبقات الكبرى " لمحمد بن سعد كاتب الواقدي، وكتاب " التاريخ " لأبي بكر بن أحمد بن أبي خيثمة زُهير بن حرب، وكتاب " الثقات " لأبي حاتم محمد بن حبان البُسْتِيِّ، وكتاب " تاريخ مصر " لأبي سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى الصَّدَفِيِّ، وكتاب " تاريخ نيسابور " للحاكم أبي عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري الحافظ، وكتاب " تاريخ أصبهان " لأبي نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني الحافظ، فهذه الكتب العشرة أمهات الكتب المصنفة في هذا الفن» (1). انتهى.

ومعلوم أن ابْنَ عَدِيٍّ قَدْ تَعَدَّى وَجَاوَزَ الحَدَّ في الوقيعة في الإمام الأعظم، وكذا الخطيب البغدادي قد استوعب مَثَالِبَ الإمام، فأتى بِقَاذُورَاتٍ لا تغسلها البحار!.

وكانت عامة كتب الجرح والتعديل في متناول أهل العلم الذين نقلنا مناقب الإمام الأعظم من تصانيفهم، كالسمعاني والنووي والمِزِّي والذهبي وابن كثير والحُسيني والبرهان الحلبي وابن حجر العسقلاني.

وهؤلاء كلهم من أئمة هذا الشأن، ومع ذلك لم يلتفتوا إلى ما قيل في أبي حنيفة أصلاً، بل على رغم هؤلاء الطاعنين يَعُدُّونَهُ فِي الحُفَّاظِ، وَيُوَثِّقُونَهُ ويجعلونه من أئمة النقد الذين يُرْجَعُ إلى اجتهادهم في التزييف والتصحيح، والجرح والتعديل، ويذكرون أقواله في هذا الباب.

(1)" تهذيب الكمال ": 1/ 3 طبع دار المأمون للتراث، الطبعة الأولى: سنة 1402 هـ.

ص: 118

فهذا الإمام أبو الحجاج المزي كل ما ذكره في ترجمة أبي حنيفة في كتابه " تهذيب الكمال " إنما أخذه من كتاب " تاريخ بغداد " للخطيب البغدادي، وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَى مَا ذُكِرَ فيه من قَدْحِهِ أصلاً، عِلْمًا منه أن كلام من تكلم فيه إنما صدر عن هوى وعصبية، والإمام بَرِيءٌ عَمَّا رُمِيَ بِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ، فلا ينبغي أن يذكر منه شيء.

وقد صَرَّحَ الإمام الذهبي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: «أَنَّ كِتَابَ " تَهْذِيبِ الكَمَالِ " يَنْبُوعُ مَعْرِفَةِ الثِّقَاتِ» (1)، وقد أثنى على صنيعه هذا قائلاً:

«قَدْ أَحْسَنَ شَيْخُنَا أَبُو الحَجَّاجِ حَيْثُ لَمْ يُورِدْ شَيْئًا يَلْزَمُ مِنْهُ التَّضْعِيفُ» . انتهى كما مَرَّ سَابِقًا (2).

وعلى منواله جرى من أتى بعده كالذهبي، وابن كثير، والحسيني، والبرهان الحلبي، وابن حجر، وكلهم من السادة الشافعية - رَحِمَهُمْ اللهُ تَعَالَى -، وَهَلُمَّ جَرًّا إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، إلا أن بعض منتحلي الحديث من أهل عصرنا - وهو الشيخ ناصر الدين الألباني - قد شَذَّ وَحَادَ عن الطريق فأخذ يَقَعُ في مثل هذا الإمام، وَيَتَكَلَّمُ في حفظه وإتقانه، وَيُضَعِّفُهُ وَيَرْمِيهِ بِسُوءِ الحفظ وينفي عنه الضبط والحفظ.

وَتَعَامَى عن نصوص مُوَثِّقِيهِ أمثال الإمام الحُجَّةِ الحافظ شيخ الإسلام أَبِي بِسْطَامََ شُعْبَةُ بْنُ الحَجَّاجِ الأَزْدِيِّ، والإمام العَلَمُ سَيِّدَ

(1) من " الموقظة في علم مصطلح الحديث " للإمام الذهبي: ص 79، بتحقيق العلامة أبو غدة، الناشر: مكتبة المطبوعات الإسلامية بحلب، الطبعة الأولى سَنَةَ 1405 هـ.

(2)

في ص 95.

ص: 119

الحفاظ أبي سعيد يحيى بن سعيد القطان، والإمام الحافظ قدوة أصحاب الجرح والتعديل أبي الحسن علي بن المديني، والإمام الفرد سيد الحفاظ أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، وغيرهم من أئمة هذا الشأن، حيث يقول في كتابه " سلسلة الأحاديث الضعيفة "(1)، عند الكلام على حديث «إِذَا طَلَعَ النَّجْمُ رُفِعَتِ العَاهَةُ عَنْ أَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ» ما نصه:

«ضعيف، أخرجه الإمام محمد بن الحسن في " كتاب الآثار " (ص 159): أخبرنا أبو حنيفة قال: حدثنا عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة مرفوعًا، ومن طريق أبي حنيفة أخرجه الثقفي في " الفوائد " (3/ 12 / 1) وكذا الطبراني في " المعجم الصغير " (ص 20) وفي " الأوسط " (1/ 140 / 2) وعنه أبو نعيم في " أخبار أصبهان " (1/ 121) وقال: «وَالنَّجْمُ: هُوَ الثُّرَيَّا» .

وهذا إسناد رجاله ثقات إلا أن أبا حنيفة رحمه الله على جلالته في الفقه قد ضعفه من جهة حفظه البخاري، ومسلم، والنسائي، وابْنُ عَدِيٍّ، وغيرهم من أئمة الحديث، ولذلك لم يزد الحافظ ابن حجر في " التقريب " على قوله في ترجمته:«فَقِيهٌ مَشْهُورٌ» !. انتهى.

ونحن نسأل الألباني إذا كان ضَعْفُ أبي حنيفة مُتَحَقِّقًا عند ابن

(1) في المجلد الأول، الجزء الرابع: ص 77، 78، من منشورات المكتب الإسلامي.

ص: 120

ابن حجر، فَلِمَ لَمْ يُضَعِّفْهُ واكتفى بقوله:«فَقِيهٌ مَشْهُورٌ» مع تصريحه في مقدمة " تقريبه "(*) بقوله: «إِنَّنِي أَحْكُمُ عَلَى كُلِّ شَخْصٍ مِنْهُمْ بِحُكْمٍ يَشْمَلُ أَصَحَّ مَا قِيلَ فِيهِ، وَأَعْدَلَ مَا وُصِفَ بِهِ، بِأَلْخَصِ عِبَارَةٍ، وَأَخْلَصَ إِشَارَةٍ» . انتهى.

فهل قرأ الألباني في كتاب من كتب المصطلح أن كلمة «فَقِيهٌ مَشْهُورٌ» ، تدل على ضعف الراوي تصريحًا أو تلويحًا، بَيِّنْهُ لَنَا مَأْجُورًا، وهل اتصاف رَاوٍ بالفقه والشهرة يدل على ضعفه وتركه، أم يُخْرِجُهُ من الجهالة والستر إلى الشُّهْرَةِ والمعرفة، ويفيد تبجيله بالعلم والجلالة، وَيُثْبِتُ له كل خير، فقد ثبت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال:«مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» ، فهل بعد الفقه خَيْرٌ يُرْجَى لَهُ، ولفظ «الفَقِيهِ» في عُرْفِ السَّلَفِ كان لا يُطْلَقُ إلا على المجتهد، فما بال الألباني يجعل الثناء ذَمًّا؟! ويعكس الأمر! وَاللهُ حَسِيبُهُ.

وأما قوله: «لم يزد الحافظ ابن حجر في " التقريب " على قوله: " فَقِيهٌ مَشْهُورٌ "» فهو كذب وَبُهْتٌ! ونفي الزيادة لَا يَصِحُّ، كيف وقد أَقَرَّ الحافظ ابن حجر بإمامته في موضعين! فقد جاء في «الكُنَى» من " التقريب " ما نصه:«أَبُو حَنِيفَةَ النَّعْمَانُ بْنُ ثَابِتٍ، الإِمَامُ المَشْهُورُ» . وقال في حرف النون، مَا نَصُّهُ:«النَّعْمَانُ بْنُ ثَابِتٍ الكُوفِيُّ، أَبُو حَنِيفَةَ الإِمَامُ، يُقَالُ أَصْلُهُ مِنْ فَارِسَ، وَيُقَالُ مَوْلَى بَنِي تَيْمٍ، فَقِيهٌ مَشْهُورٌ، مِنَ السَّادِسَةِ، مَاتَ سَنَةَ خَمْسِينَ - وَمِائَةَ - عَلَى الصَّحِيحِ وَلَهُ سَبْعُونَ سَنَةً» . انتهى.

[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:

(*) انظر: " تقريب التهذيب "، تحقيق الشيخ محمد عوامة، المقدمة، ص: 73، الطبعة الأولى: 1406 هـ - 1986 م، نشر دار الرشيد - سوريا

ص: 121

ولفظ الإمام إذا أطلق ولم يُقَيَّدْ في كتب الجرح والتعديل من أعلى مراتب التوثيق، وهو أرفع من ثقة، أو مُتْقِنٍ، أو ثَبْتٍ، أو عدل، ولكن الإنسان إذا وقع في كبار الأئمة ينزل عليه المقت، وَيُسْلَبُ عقله فيخبط كخبط عشواء.

وظهر من هذا أن الحافظ ابن حجر - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - لم يقبل تضعيف هؤلاء في حق الإمام أبي حنيفة أصلاً، وفي لفظ «الفَقِيهِ» وَ «الإِمَامِ» إشارة إلى ترجيح روايته على رواية غير الفقيه وغير الإمام من عامة الرواة، ولم يتفطن له الألباني أصلاً - إن لم نقل: عَمِلَهُ وَكَتَمَهُ! - بل عَكَسَ الأَمْرَ، وزعم أن الوصف بـ «فَقِيهٌ مَشْهُورٌ» يدل على ضعف الراوي، فسبحان قاسم العقول!.

وقد ذكر الإمام الزكي يوسف بن الحجاج المِزِّي رحمه الله في مقدمة " تهذيب الكمال "(1):

«وَقَال أَبُو بَكْرُ بْنُ خُزَيْمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هَاشِمٍ الطُّوسِيِّ: كُنَّا عِنْدَ وَكِيعٍ، فَقَالَ:" الأَعْمَشُ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، أَوْ سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ? " فَقُلْنَا: " الأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ أَقْرَبُ "، فَقَالَ:" الأَعْمَشُ شَيْخٌ، وَأَبُو وَائِلٍ شَيْخٌ، وَسُفْيَانٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةُ عَنْ عَبْدِ اللهِ: فَقِيهٌ عَنْ فَقِيهٍ عَنْ فَقِيهٍ عَنْ فَقِيهٍ ".

زَادَ غَيْرُهُ، قَالَ:" وَحَدِيثٌ يتدَاولهُ الفُقَهَاءُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ حَدِيثٍ يَتَدَاوَلُهُ الشُّيُوْخُ "». انتهى.

(1) 1/ 5.

ص: 122

ثم لا يخفى أن الحافظ ابن حجر العسقلاني في سائر تصانيفه لم ينقل عن أحد من أهل العلم شيئًا في تضعيف الإمام أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، على رغم أنف الألباني، بل نقل توثيق الإمام نَصًّا في كتابه " تهذيب التهذيب " (1) عن إمام الصنعة يحيى بن معين - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - وهذا نصه:«وَقَال مُحَمَّدُ بْنِ سَعْدٍ العَوْفِي: سَمِعْتُ يَحْيَى بن مَعِينٍ يَقُولُ: " كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ ثِقَةً، لَا يُحَدِّثُ بِالحَدِيثِ إِلَاّ بِمَا يَحْفَظُهُ، وَقََالَ صَالِحُ بْنَ مُحَمَّدٍ الأَسَدِيُّ عَنْ ابْنِ مَعِين: " كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ ثِقَةً فِي الحَدِيثِ "» . انتهى.

وقال أيضًا - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: قَالَ ابْنُ أَبِي دَاوُدُ، عَنْ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ، سَمِعْتُ ابْنَ دَاوُدَ يَعْنِي الخُرَيْبِيَّ يَقُولُ:«النَّاسُ فِي أَبِي حَنِيفَةَ حَاسِدٌ وَجَاهِلٌ» .

وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ قَاضِي الرَّيِّ عَنْ أَبِيهِ: كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عَائِشَةَ، فَذَكَرَ حَدِيثًا لأَبِي حَنِيفَةَ ثُمَّ قَالَ: «أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ رَأَيْتُمُوهُ لأَرَدْتُمُوهُ، فَمَا مَثَلُهُ وَمَثَلُكُمْ إِلَاّ كَمَا قِيلَ:

أَقِلُّوا عَلَيْهِمْ وَيْلَكُمْ لَا أَبَا لَكُمْ

مِنَ اللَّوْمِ أَوْ سُدُّوا المَكَانَ الذِي سَدُّوا».

وختم ترجمته بقوله: «وَمَنَاقِبُ الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، فَرَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ وَأَسْكَنَهُ الفِرْدَوْسَ آمِينْ» .

(1) 10/ 452.

ص: 123

وَالخُرَيْبِيُّ هو الإمام الحافظ القدوة أبو عبد الرحمن عبد الله بن داود بن عامر الهَمْدَانِيُّ الشعبي الكوفي، كان يسكن محلة الخُرَيْبَةَ بالبصرة، ذكره الذهبي في " تذكرة الحفاظ ".

وقال الحافظ في " التقريب " في ترجمة الخُرَيْبِيِّ هذا: «(خ، عـ) عبد الله بن داود بن عامر الهمداني أبو عبد الرحمن الخريبي، بمعجمة وموحدة مُصَغَّرًا كوفي الأصل ثقة عابد من التاسعة، مات سنة ثلاث عشرة - ومائتين - وله سبع وثمانون سَنَةً أمسك عن الرواية قبل موته، فلذلك لم يسمع منه البخاري» . انتهى.

وقال في " تهذيب التهذيب ": «قال ابن سعد: " كَانَ ثِقَةً عَابِدًا نَاسِكًا "، وقال معاوية بن صالح عن ابن معين: " ثِقَةٌ صَدُوقٌ مَأْمُونٌ "،وقال عثمان الدارمي: " سألت ابن معين عنه وعن أبي عاصم فقال: " ثِقَتَانِ "، قال الدارمي: " الخُرَيْبِيُّ أَعْلَى "، وقال أبو زرعة والنسائي: " ثِقَةٌ "، وقال أبو حاتم: " كَانَ يَمِيلُ إِلَى الرَّأْيِ وَكَانَ صَدُوقًا "، وقال الدارقطني: " ثِقَةٌ زَاهِدٌ " وقال ابن عيينة: " ذَاكَ أَحَدُ الأَحَدَيْنِ "، وَقَالَ مَرَّةً: " ذَاكَ شَيْخُنَا القَدِيمُ "» . انتهى.

فانظر أيها الألباني المتعصب - ولا تُغمض عينيك - ماذا يقول أحد الأحدين الخريبي شيخ ابن عُيينة الثقة الصدوق الزاهد العابد الناسك المأمون: «النَّاسُ فِي أَبِي حَنِيفَةَ حَاسِدٌ وَجَاهِلٌ» ، فلا تغتر بما قاله الحُسَّادُ والجاهلون في هذا الإمام.

وأما ابن عائشة فهو أبو عبد الرحمن عُبيد الله بن محمد بن حفص

ص: 124

العَيْشِي بتحتانية ومعجمة، ذكره الحافظ في " التقريب "، فقال:«(ر، ت، س) عبيد الله بن محمد بن عائشة اسم جده حفص بن عمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر التَّيْمِيِّ وقيل له ابن عائشة، وَالعَائِشِيُّ وَالعَيْشِيُّ نِسْبَةً إلى عائشة بنت طلحة لأنه من ذريتها، ثقة جواد، رمي بالقدر وَلَمْ يَثْبُتْ من كبار العاشرة، مات سنة ثمان وعشرين - ومائتين -» .

وَقَالَ في " تهذيب التهذيب ": «قَالَ أَبُو طَالِبٍ عَنْ أَحْمَدَ: " صَدُوقٌ فِي الحَدِيثِ "، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ:" صَدُوقٌ ثِقَةٌ، رَوَى عَنْهُ أَحْمَدُ، وَكَانَ عِنْدَهُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ تِسْعَةَ آلَافٍ، وَكَانَ عِنْدَهُ دَقَائِقَ وَفَصَاحَةً وَحُسْنَ خُلُقٍ وَسَخَاءٍ "، وَقَالَ الآجُرِّيُّ: عن أبي داود: " سَمِعَ عِلْمًا كَثِيرًا "

قَالَ السَّاجِيُّ: " وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ أَهْلِ البَصْرَةِ غَيْرَ مُدَافِعٍ، وَكَانَ كَرِيمًا سَخِيًّا. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الحَرْبِيُّ: " مَا رَأَتْ عَيْنِي مِثْلَهُ "

وَقَالَ ابن حبان: " كَانَ حَافِظًا عَالِمًا بِأَنْسَابِ العَرَبِ "». انتهى باختصار.

وَحَلَاّهُ الذهبي في " سير أعلام النبلاء " بقوله: «الإِمَامُ العَلَاّمَةُ الثِّقَةُ

الأَخْبَارِيُّ، الصَّادِقُ». انتهى.

فهذا شيخ الإمام أحمد العلامة الأخباري الحافظ الصدوق الثقة، حامل العلم الكثير، من سادات أهل البصرة: يذكر حديثًا لأبي حنيفة، فقال بعض من حضر: لا نريده (كما يقول الألباني في عصرنا هذا) فيقول له: «أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ رَأَيْتُمُوهُ لأَرَدْتُمُوهُ،، وَمَا أَعْرِفُ لَهُ وَلَكُمْ مَثَلاً إِلَاّ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

ص: 125

أَقِلُّوا عَلَيْهِمْ وَيْلَكُمْ لَا أَبَا لَكُمْ

مِنَ اللَّوْمِ أَوْ سُدُّوا المَكَانَ الذِي سَدُّوا» (1).

وفي ذلك عبرة للألباني لو كان من أولي الألباب والأمانة.

وَلَمَّا «كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ ثِقَةٌ لَا يُحَدِّثُ بِالحَدِيثِ إِلَاّ بِمَا يَحْفَظُهُ، وَلَا يُحَدِّثُ بِمَا لَا يَحْفَظُهُ» ، كما ينقله ابن حجر عن ابن معين وَيُقِرُّهُ، ولا يتعقب عليه، فكيف يُظَنُّ به أنه قد تأثر بجرح المخالفين له، فما بال الألباني لا يتفطن لهذا الأمر الظاهر المكشوف؟ وَمَا حَجَبَهُ عَنْ رُؤْيَةِ هذا الكلام وفهمه إلا تعصبه وحَنَقُهُ الأسود على الإمام أبي حنيفة!.

وفي " الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر " تأليف الإمام شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي، ما نصه: «وَسُئِلَ - أي الحافظ ابن حجر - عما ذكره النسائي في " الضعفاء والمتروكين ": عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه: ليس بقوي في الحديث، وهو كثير الغَلَطِ وَالخَطَأِ على قلة روايته، هل هو صحيح؟ وهل وافقه على هذا أحد من أئمة المحدثين أم لا؟

فأجاب: النسائي من أئمة الحديث، والذي قاله إنما هو حسب ما ظهر له وأداه إليه اجتهاده، وليس كل أحد يؤخذ بجميع قوله (2)، وقد

(1) والحافظ ذكر هذه القصة في " تهذيب التهذيب " بالإجمال، وهي بتمامها في " تهذيب الكمال ": 29/ 442 من طبعة مؤسسة الرسالة - بيروت.

(2)

والظاهر أن النسائي رجع عن تضعيف الإمام أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، فقد أخرج في " السنن الكبرى ": 4/ 322، 323 في أبواب التعزيرات والشهود، باب من وقع =

ص: 126

وَافَقَ النَّسَائِيَّ على مُطْلَقِ القولِ جماعةٌ من المحدثين، واستوعب الخطيب في ترجمته من " تاريخه " أقاويلهم، وفيها ما يُقْبَلُ وَمَا يُرَدُّ، وقد اعتذر عن الإمام بأنه كان يرى أنه لا يُحَدِّثُ إلا بما حفظه منذ سَمِعَهُ إلى أن أَدَّاهُ، فلهذا قَلَّتْ الرواية عنه، وصارت روايته قليلة بالنسبة لذلك

= على بهيمة، حديثَ الإمام أبي حنيفة عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:«لَيْسَ عَلَى مَنْ أَتَى بَهِيمَةً حَدٌ» قَالَ النسائي: «هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ ضَعِيفٌ فِي الحَدِيثِ» .

فَأَعَلَّ الحديث بعاصم شيخ أبي حنيفة، ولو كان أبو حنيفة كما قاله النسائي في " الضعفاء والمتروكين " لأَعَلَّ الحديث أولاً بأبي حنيفة، ولكنه لم يفعل، بل اكتفى بإعلاله بعاصم، فالظاهر أنه رجع عما قاله في حق الإمام أبي حنيفة في كتاب " الضعفاء ".

وكم يقع مثل هذا الرجوع من النُقَّادِ إذ يتجلى لهم غير ما حكموا به من قبل.

ثم إن النسائي ظن أن عاصمًا شيخ أبي حنيفة هو عاصم بن عمر المدني، وهو ضعيف، والواقع أنه عاصم بن بَهْدَلَةَ أَبِِي النُّجُودِ كما جاء مُصَرَّحًا به في كتاب " الآثار " للإمام أبي حنيفة رواية الإمام محمد عنه: ص 311 (باب درء الحدود)، وكذا قال الحافظ ابن حجر في " تهذيب التهذيب ": 10/ 415، وتصحف في المطبوع من " التهذيب "(أَبِِي النُّجُودِ) إلى (أَبِي ذَرٍّ) فليصحح، ولم يذكر المزي في " تهذيب الكمال " عاصم بن عمر من شيوخ أبي حنيفة، بل ذكر عاصم بن بهدلة أبي النجود، وكتب أمامه (س) إشارة إلى أن حديث أبي حنيفة عنه في كتاب النسائي، وليس لأبي حنيفة في كتاب النسائي إلا هذا الحديث، فظهر أن المِزِّي أيضًا لم يتابع النسائي في قوله: إن عاصمًا راوي الحديث هو عاصم بن عمر.

وعاصم بن بهدلة هو المقرئ المعروف، حديثه في " الكتب الستة "، وقد قال فيه النسائي:«لَا بَأْسَ بِهِ، وَوَثَّقَهُ طَائِفَةٌ، وَإِنْ تَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ فِي حِفْظِهِ، فَالحَدِيثُ جَيِّدٌ إِنُ شََاءَ اللهُ تَعَالَى» .

ص: 127

وإلا فهو في نفس الأمر كثير الرواية.

وفي الجملة: تَرْكُ الخَوْضِ في مثل هذا أولى، فإن الإمام وأمثاله مِمَّنْ قَفَزُوا القَنْطَرَةَ، فما صار يُؤَثَّرُ في أحد منهم قول أحد، بل هم في الدَّرَجَةِ التي رفعهم اللهُ تعالى إليها، من كونهم مَتْبُوعِينَ يُقْتَدَى بهم، فَلْيُعْتَمَدْ هَذَا، والله ولي التوفيق». انتهى (1).

فعلى الألباني أن يتقي الله تعالى فيما يقول، وليجتنب الخداع والتقويل لابن حجر - وغيره - ما لم يقله، والله ولي التوفيق.

وبهذا ظهر الجواب عمن شارك النسائي في الجرح للإمام، وقد حَثَّ أَبَرُّ أصحاب ابن حجر إليه الإمام الحافظ السخاوي، في كتابه " الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ " (2) على الاجتناب عن اقتفاء الجارحين والطاعنين فيه يُوصِي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - قائلاً: «ويلتحق بذلك (أي التأويل والتجنب عن ذكره) ما وقع بين الأئمة سيما المتخالفين في المناظرات والمباحثات وأما ما أسنده الحافظ أبو الشيخ بن حَيَّانَ في كتاب " السنة " له من الكلام في حق بعض الأئمة المقلدين وكذا الحافظ أبو أحمد ابن عَدِيٍّ في " كامله " والحافظ أبو بكر الخطيب في " تاريخ بغداد " وآخرون ممن قبلهم كابن

(1) نقله صديقنا العلامة المحقق الشيخ محمد عوامة في كتابه " أثر الحديث الشريف في اختلاف الأئمة [الفقهاء] رضي الله عنهم ": ص 116 و 117، الطبعة الثانية، نشرته دار السلام للطباعة والنشر، سنة 1407 هـ.

(2)

ص 65، طبع القدسي بدمشق عام 1349 هـ.

ص: 128