الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إذاً فينبغي على طالب العلم أن يعلم اصطلاحات أهل العلم في مصنفاتهم، ليكون على بينة من أحكامهم، ولكي لا يقع في شيء من الخطأ في فهم مراد الحفاظ عليهم رحمة الله.
1-
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في البحر:
«هو الطهور الماؤه، الحل ميتته»
. أخرجه الأربعة، وابن أبي شيبة واللفظ له، وصححه ابن خزيمة والترمذي.
الحديث الأول الذي أورده المصنف عليه رحمة الله هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو ما يسميه أهل العلم بحديث البحر.
قوله عليه رحمة الله: (كتاب الطهارة) :
الكتاب أصل كلمة: كتب، والمراد بها الجمع، يقال " تكتب بنو فلان "، إذا تجمعوا؛ وسميت الكتيبة كتيبة لاجتماع أفرادها بعضهم مع بعض، وكذلك يسمى الكتاب كتاباً لاجتماع أوراقه والتصاقها بعضها مع بعض، وكذلك يسمى المكتوب مكتوباً لاجتماع الحروف في ذلك المكتوب، وإن كانت ورقة واحدة فإنها تسمى كتاباً إذا كان مكتوب فيها، ولا تسمى الورقة الواحدة كتاباً حتى يكتب فيها، فإن المراد بالكتب هنا الجمع، كما قال الشاعر:
لا تأمنن فزارياً خلوت به ......على قلوصك واكتبها بأسيارِ
قوله عليه رحة الله: (الطهارة) :
والطهارة في لغة العرب تطلق على: النَظافة والنزاهة طَهر الثوب من القذر، يعني: تنظيف. وتنزه منه
وفي اصطلاح الشارع تطلقُ على معنيين
الأول: معنوي، وهو طهارة القلب من الشِّرك في عبادة الله، والبغضاء لعباد الله المؤمنين، وهي اهم من طهارة البدن وأولى بالعناية والملاحظة والتدارك
الثَّاني: حسي، وهي ارتفاع الحدث، وما في معناه، وزوال الخَبث.
قوله عليه رحمة الله: (باب المياه) :
المراد بالباب هنا هو: ما يخرج منه ويدخل منه، وهذا معلوم في لغة العرب، وأهل العلم قد اصطلحوا على هذه المسميات:(الكتاب والباب)، على أنها في الغالب عند أهل العلم أن (الكتاب) هو: ما يجمع أبواباً من مسائل العلم أو من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها قول المصنف عليه رحمة الله (كتاب الطهارة)، أراد بالكتاب هنا: الجمع، أي جامع لأحاديث الطهارة وأخبارها التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه عليهم رضوان الله تعالى.
وإيراد المصنف عليه رحمة الله لهذا الخبر خبر أبي هريرة - هو أول حديث في هذا الباب - أراد به بيان طهورية ماء البحر، وأن ماء البحر إذا كان طاهراً فإن غيره أولى منه، وقد جعل أهل العلم هذا الخبر من أصول الطهارة في الشريعة.
وهذا الخبر قد أخرجه كما ذكر المصنف الإمام أحمد وأصحاب السنن، وكذلك قد أخرجه مالك وابن خزيمة وابن حبان والحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن، وكذلك قد رواه جماعة من أهل العلم، كلهم رووه من حديث صفوان بن سليم عن سعيد بن سلمه عن المغيرة بن أبي بردة أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإذا توضأنا به عطشنا! أفنتوضأ به؟ ، فقال صلى الله عليه وسلم:«هو الطهور مائه الحل ميتته» .
وهذا الخبر قد تلقته الأمة بالقبول، وقد صححه جماعة من أهل العلم، كالإمام البخاري كما في علل الترمذي المفرد والترمذي وابن خزيمة والدارقطني جوده كما في علله، وكذلك البيهقي وابن عبد البر والحاكم وابن حبان وغيرهم من أهل العلم، وقد صححه جماعة من أهل العلم يزيدون على ثلاثين إماماً، ولم أرَ أحداً من أهل العلم ضعّف هذا الخبر سوى ابن دقيق العيد وابن القطان الفاسي، فإنهما قد أعلاه بسعيد بن سلمة وقالا بجهالته، فإن سعيد بن سلمة قد قال عن النسائي عليه رحمة الله: ثقة، وذكره ابن حبان في كتابه الثقات، إلا أن المجاهيل أو من هو مستور الحال عند أهل العلم لا يرد حديثه مطلقاً، وإنما يعتبر في بعض الأحوال بأحاديثه وتقوى أحاديثه ببعض القرائن، وإنما قبل أهل العلم حديث سعيد بن سلمة في هذا الخبر؛ لأن أهل العلم قد تلقوا خبره بالقبول، وشاع عندهم فكان قرينة لقبول الخبر، وأهل العلم في بعض الأحيان يعتمدون على شهرة الخبر عن الاحتجاج بالإسناد وهذا في أحوال نادرة، وأيضاً فإن الحفاظ يقوون في الأحيان أحاديث من لا يعرف فيه جرحاً ولا تعديلا، في بعض ما يرويه إذا إحتفت القرائن على صدقه بحيث لا يأتي بما ينكر، ولا يغرب بالألفاظ وقد صحح البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن حبان وابن خزيمة والدارقطني لجماعة لم يوجد فيهم جرح ولا تعديل، وذلك بعد سبر حديثهم فوجد مستقيماً، ولا يعد هذا تساهلاً منهم، وذلك أن جهلهم بحال الراوي لا يعني جرحاً حتى يخشى من التقوية له، ومعرفة صدق الراوي وضبطه وعدالته تكون بسبر حديثه وتتبعه كما تكون بملاصقته واختباره، والتساهل إنما هو بتقوية أحاديث الضعفاء وبتصحيح خبر المجاهيل مع غرابة حديثهم ونكارته وتفردهم به مع أن احوال المجاهيل تختلف من شخص لآخر، ومن طبقة لأخرى ومن بلد لآخر، وبحسب الرواة عنهم أيضا فمجاهيل متقدمي التابعين ليسوا كمن بعدهم ومن روى عنه الشعبي وابن سيرين ليس كمن روى عنه
أقل منهم حفظا وتثبتا وان كثر عددهم مع قرائن كثيرة يُعملها الحفاظ في قبولهم لحديث بعض المجاهيل، ولذا لا تجد للائمة الحفاظ منهجا واحدا يعملونه في قبول ورد روايات المجاهيل كما لا يخفى فتجدهم يصححون حديث ويوثقون من لا يعرف له إلا حديث واحد وهو معدود في المجاهيل من جهة قلة روايته وتجدهم يردون من له أكثر من حديثين او ثلاثه او اربعة او خمسة وذلك لتفاوت القرائن المحتفة بكل واحد منهم فلأسود بن سعيد لا أعلم له غير حديث (تقتل عمار الفئة الباغية) مع هذا وثقه يحي بن معين وابن حبان ونحوه هارون بن رئاب وهو من المقلين جداً، قال سفيان بن عيينة:(كان عنده أربعة أحاديث) ومع هذا وثقه أحمد بن حنبل ويحي ابن معين والنسائي، بل قد أخرج الشيخان لمن هو من المستورين ولا يعرف بجرح ولا تعديل كإبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة فقد أخرج له البخاري ولا أعلم من وثقه، وقد أخرج مسلم من حديث أبي عوانة عن عثمان بن عبد الله بن موهب عن جعفر بن أبي ثور عن جابر بن سمرة قال أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أأتوضأ من لحوم الغنم قال إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا توضأ قال أتوضأ من لحوم الإبل قال نعم فتوضأ من لحوم الإبل. وجعفر بن أبي ثور لا أعلم له موثق سوى ابن حبان، ومع هذا أخرج له مسلم في صحيحه وتقلى الأئمة الحفاظ حديثه بالقبول حتى قال الحافظ ابن خزيمه في صحيحه: لم نر خلافا بين علماء أهل الحديث أن هذا الخبر صحيح من جهة النقل. وفي الصحيحين من الرواة عدد غير قليل ممن هم في عداد المستورين.
فعلى هذا يُعلم أن أمر المجهول يتفاوت بحسب ما ذكرناه فقد يكون الراوي عند الأئمة الحفاظ مجهولا على الرغم من رواية أكثر من واحد عنه، وقد يكون عندهم معروفا بل يكون ثقة وصحيح الحديث مع كونه لم يرو عنه إلا راو واحد فحسب، على هذا لا تكون مسألة المجهول ورفع الجهالة عنه متوقفة على عدد من روى عنه كما يذكره كثير من أهل الاصطلاح والأصول،.
وإعلال ابن القطان الفاسي وابن دقيق لحديث ماء البحر بجهالة راويه فيه نظر فابن القطان الفاسي ممن يتشدد جدا في هذا الباب ويعمل الاخذ بظاهر الاسانيد وهو قليل الاخذ بالقرائن كحال جمع من اهل العلم كابن حزم والخطيب وكثير من المتأخرين.
وطهورية ماء البحر هي مما لا خلاف فيها عند أهل العلم إلا قول يسير يروى عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله هنا في ابتداء الخبر: (إنا نركب البحر) ، فيه دليل على إباحة ركوب البحر، وأن الأصل فيه الجواز والإباحة، وهذا الذي يدل عليه كتاب الله سبحانه وتعالى، فإن الله جل وعلا قد ذكر ركوب الفلك وركوب البحر في غير ما موضع من كتابه سبحانه وتعالى،قال الله تعالى:{هو الذي يسيركم في البر والبحر} ، والمسير هو: ركوب الدابة في البر، وكذلك السير على الأقدام، وكذلك المسير في البحر المراد به: ركوب الفلك والسفن، وكذلك قوله سبحانه وتعالى:{والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس} .
أما في حالة غلبة الظن بالهلاك كالموج ونحوه فإنه يحرم، ولذا قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأخبار التي هي ضعيفة، منها ما أخرجها سعيد وعن سعيد أبو داود والبيهقي من حديث مطرف بن طريف عن بشر أبي عبد الله عن بشير بن مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يركبن رجل بحراً إلا غازياً أو معتمراً أو حاجاً، وإن تحت البحر ناراً وتحت النار بحراً» ، وهذا الخبر قد ضعفه بعض أهل العلم فهو مضطرب وضعيف سندا منكر متنا، وضعفه الإمام البخاري عليه رحمة الله كما في تاريخه وقال ابن عبد البر: مظلم الاسناد، وما روي من نهي من بعض السلف عن ركوب البحر يحمل على حالة الظن بالهلكة من اشتداد الموج واشتداد الريح ونحو ذلك، فإنه ينهى عن ذلك ويكون محرماً، ولذا توقف الشافعي في إيجاب الحج على من وراء البحر فقد قال رحمه الله: ما يبين لي أن أوجب الحج علي من وراء البحر ولا أدري كيف استطاعته، وقد روي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما أخرجه عبد الرازق في مصنفه من حديث معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال:(كان عمر يكره أن يحمل المسلمين غزاة في البحر) وهو صحيح عن عمر وإن لم يسمع ابن المسيب من عمر فهو محمول على الاتصال وقد صحح حديثه عن عمر عامة الحفاظ المتقدمين، ولا أعلم في ذلك مخالفاً سوى الترمذي في بعض المواطن يصححه وبعضها يعله وممن نص على تصحيحه الامام أحمد وابو حاتم وابن المديني وغيرهم، وهذا الأثر يحمل في حال شدة الموج وكذلك شدة الريح وغلبة الظن بالهلكة فإنه حينئذ يكره ذلك بل يكون محرماً، وقد رخص عمر في غير تلك الحاله كما رواه البيهقي عن نافع عن بن عمر أن تميم الداري سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن ركوب البحر وكان عظيم التجارة في البحر فأمره بتقصير الصلاة. ومن ذلك أيضاً ما روي عن عبد الله بن عمر كما أخرجه عبد الرازق من حديث ليث عن
مجاهد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه (أنه كان يكره ركوب البحر إلا لثلاث غازياً أو حاجاً أو معتمراً) ، وهذا الخبر لا يصح عن عبد الله بن عمر في إسناده ليث بن أبي سليم وهو ضعيف بإتفاق الحفاظ عليهم رحمة الله، وأحاديثه عن مجاهد تعتبر ضعيفة إلا في حديثه عن مجاهد عن عبد الله بن عباس في التفسير فإنها قد تمشى لأنها من كتاب، كما ذكر ذلك ابن حبان عليه رحمة الله، فإنها يرويها من حديث ليث بن أبي سُليم ويرويها ليث عن القاسم بن أبي بزة عن مجاهد بن جبر عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه، وبقية أحاديث ليث بن أبي سُليم عن مجاهد بن جبر وعن غيره تعد ضعيفة عند أهل العلم.
إلا أن الإمام مالك عليه رحمة الله في مسألة ركوب البحر، قد فرق بين الرجل والمرأة، فقد روي عنه أنه كان يكره ركوب المرأة في البحر مطلقاً؛ وحمل ذلك على أن المرأة إذا ركبت السفينة فإنها حينئذٍ تحتاج إلى كشف عورتها من قضاء حاجة ونحو ذلك، فإنها تتكشف، وهذا يغتفر في الرجل ما لا يغتفر في المرأة، وكذلك في ركوب السفينة فإنها حينئذٍ قد ترى عورات الرجال، وترى أجساد الرجال في السفن لأن ركوب السفن بحاجة إلى مشقة وكد مما يلزم منها ابداء الصدر والبطن والظهر وكذلك بحاجة إلى كشف العورة للضرورة، مما استدل به الإمام مالك عليه رحمة الله على منع المرأة وكراهية ركوب البحر لها، إلا أن ذلك في الغالب منتفي وخاصة في وقتنا هذا، فإنه حينئذٍ تبقى المرأة على الأصل من إباحة ركوب البحر لها.
قوله صلى الله عليه وسلم: «هو الطهور ماؤه» :
الطهور إذا جاء بالفتح (الطَهور) فالمراد به الماء بذاته، وهو الذي يُطهّر المتطهِر به، وإذا جاء بالضم فالمراد به فعل المتطهِر، ومثله: الوضوء والغسل، فإنه إذا جاء بالضم فالمراد حالة الغسل وفعل الغسل وحالة الوضوء وحال الطهارة، وإذا جاء بالفتح فالمراد به الذي يُغتسل به والذي يُتطهر به والذي يُتوضأ به، حكاه النووي عن الجمهور.
قوله صلى الله عليه وسلم: «هو الطهور ماؤه» :
وهذا كما ذكرنا هو محل إجماع عند أهل العلم، إلا ما روي من خلاف يسير عند بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه لا يعتد به في مقابل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روي طهورية ماء البحر عن جماعة من الصحابة عليهم رضوان الله تعالى ونصوا عليه، منهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه كما أخرج ذلك أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه من حديث عبيد الله بن عمر عن عمرو بن دينار عن أبي الطفيل قال: سئل أبو بكر الصديق: أيتوضأ من ماء البحر؟ فقال: (هو الطهور ماؤه الحلال ميتته) ، وروي ذلك أيضاً عن عمر بن الخطاب، وابن عباس وابن سيرين والحسن وعكرمة وطاووس وعطاء، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى طهارة ماء البحر، ولكنهم جعلوا العذب أولى منه، وألا يُلجأ إلى التطهر بماء البحر إلا عند فقدان الماء العذب، وذلك مروي عن سعيد بن المسيب، وكذلك عن النخعي كما أخرج ابن أبي شيبة من حديث شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال:(إذا ألجئت إليه فلا بأس) ، يعني إذا ألجئت إلى التطهر بماء البحر فلا بأس، مما يشير إلى أنه يرى التطهر بالماء الذي ليس بمالح وإنما هو عذب، وكذلك روي عن إبراهيم النخعي كما أخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفيهما عن سفيان عن الزبير بن عدي عن إبراهيم النخعي قال:(ماء البحر يجزئ، والعذب أحب إلي منه) ، إلا أن ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على التساوي بين الماء العذب وماء
البحر، وأما قول سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي فإنه لا يقابل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ذهب كما ذكرنا بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم قلّة، منهم: عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص عليهم رضي الله عنهم، إلى عدم طهارة ماء البحر وعدم مشروعية التوضؤ به، فقد أخرج ابن أبي شيبة من حديث شعبة عن قتادة عن عقبة، قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: (التيمم أحب إلي من الوضوء من ماء البحر) ، فعدل عبد الله بن عمر إلى التيمم وهو بدل، ولا يكون ذلك إلا في فقدان الماء.
ومعلوم أن من تيمم في حال وجود الماء وهو مستطيع قادر على استعماله فإنه حينئذٍ تعتبر طهارته باطلة وتعتبر الصلاة باطلة بالاجماع، إلا لعذر يحمله على التيمم من مرض وبرد ونحو ذلك، أما إذا كان ليس بمعذور فإنه حينئذً يعد تيممه باطلاً وطهارته باطلة وعليه أن يتوضأ بالماء، فلما عدل عبد الله بن عمر إلى التيمم وترك التطهر بماء البحر، عُلم أنه لا يرى طهورية ماء البحر، إلا أن ذلك لا يقابل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، كما أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي من حديث هشام عن قتادة عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو قال:(ماء البحر لا يجزئ من وضوء ولا جنابة، إن تحت البحر نارا ثم ماءٌ ثم نار) ، وهذا عن عبد الله بن عمرو كما هو عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، فإنهما لا يريان الإجزاء بماء البحر، وهذا لا يقابل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روي ذلك عن أبي هريرة في مصنف ابن أبي شيبة ولا يصح، وعن أبي العالية الرياحي وهو رفيع بن مهران، كما أخرج ذلك ابن أبي شيبة من حديث أبي جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية أنه ركب البحر فنفذ ماؤه، فتوضأ بنبيذ وكره أن يتوضأ بماء البحر، وهو من كبار التابعين عليه رحمة الله، هذا لا يثبت لحال إسناده.
إذاً فماء البحر طهور والخلاف فيه غير معتبر، وقد حكى إجماع أهل العلم على طهورية ماء البحر جماعة من أهل العلم، منهم الحافظ ابن عبد البر عليه رحمة الله وغيره.
قوله صلى الله عليه وسلم: «الحل ميتته» :
أي الحلال، كما جاء في بعض الروايات عند الدارقطني عليه رحمة الله وغيره من أهل العلم وفي صحة اللفظة نظر، وميتة البحر هي حلال بإجماع أهل العلم، إلا أن أهل العلم اختلفوا في استثناء بعض ميتة البحر، فقد قال أبو حنيفة عليه رحمة الله: أن ميتة البحر حلال، إلا ما كان على صورة حيوان كالكلب أو صورة الآدمي ونحو ذلك، وذهب الإمام أحمد وهو المشهور عنه عليه رحمة الله: إلى أن ميتة البحر حلال إلا الحية والضفدع والتمساح، وقال بأن الحية والضفدع هي من المستخبثات وأن التمساح يعد ممن قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ذو ناب ونهى عنه، والذي عليه جمهور أهل العلم أن ميتة البحر كلها تعد مباحة وحلال بنص قول النبي صلى الله عليه وسلم، أما ما استثناه أبو حنيفة عليه رحمة الله ما كان على صورة حيوان ونحو ذلك، فإن ذلك لا دليل عليه ولا يقابل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أطلق الإباحة بميتة البحر، وما جاء عن الإمام أحمد من استثناء الضفدع والتمساح فإن الضفدع لا يعد من ميتة البحر فإنه لا يمكث في البحر دوماً، ولا يمكث في البر فإنه بينهما فلا يعد من ميتة البحر، ولا يعد كذلك من حيوان البر، ومثله التمساح فإنه يعيش بين البر والبحر وإطلاق النبي صلى الله عليه وسلم أراد به ميتة البحر، أي إذا أُخرج الحيوان من البحر فإنه حينئذٍ يموت، إذن فالنبي صلى الله عليه وسلم أطلق الإباحة لميتة البحر مطلقاً من غير استثناء وما علم ضرره من ميتة البحر فإنه حينئذٍ يحرم لضرره، فإنه لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، ولا يستثنى من ميتة البحر إلا ما ثبت ضرره، وأما ما كان بين البر والبحر من الحيوانات، فإنه لا يعد حيوانا بحريا ويبقى على الأصل من الإباحة فيه، فإن كان من المستخبثات فإنه يعد مستخبثاً، وما كان كذلك من الحيوانات الضارة، فإنه حينئذ يحرم لضرره، فلا