المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌«لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب» - من شرح بلوغ المرام للطريفي

[عبد العزيز الطريفي]

الفصل: ‌«لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب»

فخبر القلتين هنا يؤخذ منه أن الماء إذا كان كثيراً؛ من قلتين فأكثر أن يقل احتمال ورود النجاسة عليه، وأنه إن كان دون القلتين فإنه حينئذٍ يغلب على الظن ورود النجاسة وغلبتها عليه، مع لزوم ذلك الضابط وهو: أن يتغير ريحه أو لونه أو طعمه من تلك النجاسة التي تحدث فيه.

***************************************

6-

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ‌

«لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب»

. أخرجه مسلم.

وللبخاري: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه» .

ولمسلم: «منه» .

ولأبي داود: «ولا يغتسل فيه من الجنابة» .

هذا الحديث قد أخرجه الإمام مسلم عليه رحمة الله فقال حدثنا هارون حدثنا بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج عن أبي السائب مولى هشام بن زُهرة عن أبي هريرة رضي الله عنه.

قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يغتسل أحدكم» :

اللام هنا: لام النهي وهي ناهية، واختلف أهل العلم في دلالة ذلك النهي هل هو على التحريم أم لا؟

- فذهب المالكية وقالوا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه» ، على خلافٍ في الروايات عند البخاري ومسلم وعند أبي داود عليهم رحمة الله، قالوا: أن ذلك يُحمل على الكراهة، وأن ذلك محمول على كراهة التنزيه عنه صلى الله عليه وسلم، وعللوا ذلك؛ قالوا: أن الماء باقٍ على طهوريته وأنه ليس بنجس، إذا فهذا يدل على أن النهي هنا هو نهي للكراهة وليس للتحريم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينهى عن شيء مع أن الغاية هو طهارة الماء حتى وإن فعله العبد.

ص: 39

- وذهب الحنابلة وقول الظاهرية على أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم هنا هو للتحريم، وعللوا ذلك بعللًٍ كثيرة؛ قالوا: أن الأصل من نهي النبي صلى الله عليه وسلم هو التحريم، ولا يصرف ذلك إلا لعلّة ظاهرة أو لقرينة ظاهرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أو من عمل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

(والماء الدائم) : هو الباقي الماكث الساكن الذي لا يجري، لا يتحرك إلا بفعل فاعل من آدمي أو حيوان ونحو ذلك.

والعلة في ذلك؛ من النهي عن الاغتسال في الماء الدائم سواء من غسل جنابة ونحو ذلك، قالوا أن الماء الدائم يغلب عليه أن النجاسة تبقى فيه، وأن الجاري يتطهر بجريانه وكذلك بمكاثرة الماء فيه، ولذلك قال الشاعر:

إني رأيت وقوف الماء يفسده.........إن سال طاب وإن لم يجرِ لم يطبِ

وهذا معلوم؛ فإن الماء إذا كان ساكناً فإنه كلما أتته النجاسة وطرأت عليه فإنه ينجس في الغالب اذا كان قليلا، أما الذي يجري فإنه يلتقي بغيره وكذلك فإن النجاسة تزول عنه بجريانه في الأرض.

واختلف أهل العلم إذا اغتسل الجنب في الماء الدائم، ما حكم ذلك الماء؟

على اختلاف عندهم في القدر الذي يكون به الماء قليلا فلا يدفع النجاسة وهذا الخلاف في الماء القليل وأما الكثير عندهم فلا يكون مستعملا كالنهر والبحر والغدير ونحوه مما يخرج عن حد القلة بإجماعهم لكنهم اختلفوا في حد القليل وعليه يبنى خلافهم في نجاسه المستعمل من الماء فقد اختلف أهل العلم على ثلاثة أقوال؛ وهن روايات عن الإمام أحمد عليه رحمة الله إلا إحدى الروايات فهي تعدّ غريبة.

القول الأول: قالوا أنه باقٍ على طهارته إلا أن ليس بمطهّر، وقالوا أنه يشرب ويطبخ به إلا أنه لا يزال به الحدث من وضوء وغسل جنابة وهو المشهور عن احمد وقول الشافعيه.

ص: 40

القول الثاني: قالوا أنه نجس، إذا اغتسل الجنب في الماء الدائم أن ذلك يدل على نجاسته، فلا يشرب ولا يطبخ به ولا يغتسل به، ولا يتوضأ به من باب أولى.

وهو قول ابي حنيفه وهذه كما ذكرنا رواية لإمام أحمد، وقد تأولها بعض الأصحاب كأبي يعلى الحنبلي، وابن عقيل وغيره وهي رواية بعيدة عنه عليه رحمة الله، ولعل فهم بعض الأصحاب قول أحمد على غير وجهه فحكوه على أن الماء إذا اغتسل فيه الجنب بنجس، وإلا ففقه الإمام أحمد عليه رحمة الله هو أبعد من ذلك.

القول الثالث: قالوا أن الماء إذا اغتسل فيه الجنب أنه باقٍ على طهوريته، وأنه طاهر مطهِّر، وهذا الذي عليه جمهور أهل العلم، فقد روي عن سفيان الثوري وكذا مالك بن أنس والشافعي واحمد، وعليه المحققون من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله، فقالوا: أن الماء إذا اغتسل فيه الجنب باقٍ على أصله ولا ينتقل من أصله إلا بدليل عن النبي صلى الله عليه وسلم، فنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن اغتسال الجنب في الماء الدائم ليس بمتعلق بطهارة الماء أو نجاسته بعد الاغتسال منه، ولكن لعلّة: إما أن تكون تأديب من النبي صلى الله عليه وسلم، أو منع من الغسل في الدائم لكي لا يتهاون المرء بالاغتسال فيه على أي حال فيسفد معه الماء بتغير أوصافه أو غير ذلك مما تخفى حكمته، ولا يقال بنجاسة الماء ونقله من أصله إلا بدليل أو علة ظاهرة قد نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: وللبخاري: «لا يبولنّ أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه» .

هذه الرواية التي أخرجها البخاري عليه رحمة الله قال: حدثنا أبو اليمان قال اخبرنا شعيب عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وفيه قوله: «ثم يغتسل فيه» :

ص: 41

وهذه الرواية جاءت بحكمٍ أخذه منه بعض أهل العلم قالوا: أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم مرتبط بالجمع، أي لا يبول الرجل في الماء الدائم ثم يغتسل فيه، أما أن يغتسل فيه من غير بول فلا بأس، ومن قال بهذا القول فإنه استمسك بهذه الرواية.

قوله: ولمسلم: «منه» :

رواية الإمام مسلم عليه رحمة الله بقوله: «منه» قد أخرجها عليه رحمة الله فقال حدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق عن معمّر بن راشد عن همام ابن منبّه عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وفيها دلالة على قولٍ لبعض أهل العلم أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم ليس بخاص أن ينغمس الجنب في الماء، ولكن نهيه صلى الله عليه وسلم يشمل أيضاً أن يغتسل من ذلك الماء حتى وإن اغترف منه.

وهذه الرواية يظهر والله أعلم أنها رويت بالمعنى وإلا فنهي النبي صلى الله عليه وسلم ظاهر من تفسير أبي هريرة رضي الله عنه، لما سأله أبو السائب عليه رحمة الله قال: كيف يصنع يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولاً، وهذا يخالف تفسير أبي هريرة رضي الله عنه لهذه الرواية.

قوله: ولأبي داود: «ولا يغتسل فيه من الجنابة» :

ص: 42

هذه الرواية قد أخرجها أبو داود عليه رحمة الله، فقال: حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقد رواه الامام احمد عن يحي عن ابن عجلان به وبظاهر الإسناد فمحمد بن عجلان وأبوه هم من الثقات، وأحاديثهم مستقيمة، لكن مخالفة ابن عجلان في هذه الرواية توجب النظر والتوقف فيها فلم يرو الجمع بين الاغتسال في الماء الدائم والنهي عن الاغتسال للجنب في الماء الدائم الا محمد بن عجلان وانفراده يوجب الشك في ثبوت هذا اللفظ، بل الذي يظهر هو شذوذه حيث ان الخبر واحد وخالف فيه الثقات مع كون ابن عجلان فيه خفه في الضبط فليس هو من الثقات الحفاظ فالحديث معروف عن ابي هريرة رواه جماعة من اصحابه كالاعرج وابن سيرين وهمام وحميد بن عبد الرحمن وغيرهم وانفرد ابن عجلان عن ابيه بهذا اللفظ.

ومما يجب معرفته لزوم العناية والتنبه لمثل هذا الاختلاف في احاديث الاحكام وكثيرا ما يغفل هذا الفقهاء فترى الاقوال تختلف باختلاف تعدد الفاظ الحديث كما في هذا الخبر ولو جمعت الالفاظ لبان ذلك، وهذا يرد كثيرا جدا في كتب الفقه، فالاحاديث كثيرا ما تروى من طريق واحد ومخرج واحد فتتعدد الفاظها لكونها رويت بالمعنى او رويت من غير ضبط ومع هذا تتعدد اقوال الفقهاء بتعدد هذه الروايات، وهذا ما ينلغي التنبه له في كثير من مسائل الفقه وادلته، ولو حررت هذه الالفاظ المتعددة للحديث الواحد وعرف الصحيح منها لضعفت الاقوال المعتمدة عليها.

ص: 43