المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌«إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث» - من شرح بلوغ المرام للطريفي

[عبد العزيز الطريفي]

الفصل: ‌«إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث»

ففيه المخالفة من أن الماء إذا تغير أحد أوصافه فإذا كان نجساً يعد نجساً، وإذا كان بطاهر فإنه يبقى على طهوريته، إلا أنه حينئذٍ لا يرفع الحدث، وأنه إذا مس جسد الإنسان أو مس لباسه فإنه ليس في عداد النجس، بل إنه في عداد الطاهرات؛ إلا أنه لا يرفع الحدث للعبادة.

***************************************

4-

وللبيهقي: ‌

«الماء طاهر إلا إن تغير ريحه، أو طعمه، أو لونه؛ بنجاسةٍ تحدث فيه»

.

هذا قد أخرجه البيهقي عليه رحمة الله من طريق عطية بن بقية بن الوليد عن أبيه عن ثور عن راشد بن سعد عن أبي أمامة، وعطية بن بقية محله الصدق، كما حكى ذلك ابن أبي حاتم عن أبيه كما في الجرح والتعديل ، إلا أن أباه بقية بن الوليد هو في عداد المدلسين، ومجيء هذا الخبر من هذا الطريق فيه شيء من النكارة والغرابة ، فهذا الطريق لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد تكلم الكلام عليه فيما سبق.

قوله صلى الله عليه وسلم: «بنجاسة تحدث فيه» :

استدل به من قال أن الماء لا ينجس بالمجاورة، وذكرنا أن هذا القول قول شاذ حُكي عن ابن ماجشون، بل إن الماء إذا تغير أحد أوصافه بممازجة أو بمجاورة؛ فإنه يعد نجس ولا يجوز التطهر به، فإنه لا يرفع الحدث ولا النجس.

***************************************

5-

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ‌

«إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث»

وفي لفظ: «لم ينجس» ، أخرجه الأربعة، وصححه ابن خزيمة وابن حبان.

هذا الحديث هو ما يسميه أهل العلم بحديث القلتين، وهو مروي من حديث حماد بن أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن عباد بن جعفر عن عبيد الله بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

ص: 33

وهذا الخبر قد أعله بعض أهل العلم، وصححه جماعة وهم الأكثر ، قد أُعل بالاضطراب في إسناده، فقد روي عن الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر بن الزبير بدل محمد بن عباد بن جعفر، وروي في بعض طرقه عبد الله بن عبد الله بدل عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب عليهما رضوان الله تعالى.

واختلفت أقوال أهل العلم في ترجيح تلك الأوجه، فقد رجح أبو داود السجستاني في سننه رواية محمد بن عباد بن جعفر، وخالفه في ذلك جماعة من الحفاظ كابن منده وابن حبان وأبي حاتم، فإنهم رجحوا رواية محمد بن جعفر بن الزبير، ورجح الوجهين جماعة أيضاً من الحفاظ كالإمام البيهقي، والدارقطني، وكذلك قد رجحه الزيلعي؛ فرجح هؤلاء الوجهين.

وقد ضعفه بعض أهل العلم ، فقد ضعفه ابن القيم وابن دقيق العيد، وضعفه أبوبكر ابن العربي متعقباً الشافعي عليه رحمة الله في كتابه (أحكام القرآن) ، وكذلك في شرحه على سنن الإمام الترمذي عليه رحمة الله.

ولكنه أغرب حينما أعلّّه بالوليد بن كثير ، فالوليد بن كثير ثقة حافظ، قد أخرج له الجماعة ولم يطعن فيه أحد من أهل العلم سوى ابن سعد عليه رحمة الله؛ فإنه قال ليس بذاك ، والوليد ابن كثير هو من الثقات المعروفين الذين قد أخرج لهم الجماعة ، وجرح ابن سعد عليه رحمة الله له ليس بمقبول في مقابل كلام الحفاظ عليهم رحمة الله.

وهذا الخبر قد صححه أيضاً جماعة من أهل العلم، صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وكذلك روي عن الدارقطني تصحيحه وعن البيهقي ومن المتاخرين ابن تيمية وغيرهم من أهل العلم.

ص: 34

وقد صنف في الكلام عليه وعلى طرقه جماعة من أهل العلم، فقد صنف العلائي عليه رحمة الله جزءاً في جمع طرق هذا الخبر، وصنف كذلك محمد بن عبد الواحد المقدسي جزءاً في جمع طرقه راداً على الحافظ ابن عبد البر عليه رحمة الله في تضعيفه لهذا الخبر، فإن ابن عبد البر عليه رحمة الله قد ضعّف هذا الخبر وشدد في تضعيفه، وتعقبه المقدسي عليه رحمة الله في جزءٍ له، وقد أُعلّ أيضاً باضطراب متنه من أنه روي في بعض الطرق الشك، فجاء في بعض الطرق قلتين أو ثلاثاً ولم يقل قلتين فحسب، وهذا مروي من حديث حماد بن أسامة عن عاصم بن المنذر عن عبيد الله بن عبد الله عن عبد الله بن عمر، وحماد بن أسامة قد تغير بآخره، وقد خالف الثقات في روايته هنا فوقع في الشك، وقوله هنا مرجوح في مخالفته للثقات، وهذا الشك في عداد الشذوذ، وقد بين ذلك الحافظ البيهقي عليه رحمة الله، وبين أن هذه الرواية رواية مرجوحة.

وكذلك مما وقع فيه أنه جاء في بعض الروايات أن هذه القلال هي قلال هجر، كما أخرج ذلك ابن عدي في كامله من حديث المغيرة بن سقلاب عن محمد بن إسحاق عن نافع عن عبد الله بن عمر، والمغيرة بن سقلاب منكر الحديث، وقد بيَّن الدارقطني عليه رحمة الله، أن هذا الطريق وَهْم كما بيّن ذلك في علله، وبيَّن أن الصواب هو عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله عن عبد الله بن عمر بن الخطاب عليهما رضوان الله تعالى.

ص: 35

وهذا الخبر مهما يكن من الكلام على طرقه فقد صححه جماعة وضعفه آخرون، ومنهم من قال أن إعلاله بالاضطراب سواءً في متنه أو إسناده أنه ليس بمضعّفٍ له، وإنما اضطراب المتن يدل على ضعف تلك الأوجه، أما أصل الحديث فإنه ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما اضطراب السند فقد أجاب عنه بعض أهل العلم بأجوبة، ومنهم من رجّح الوجهين، وقال أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذين الوجهين، كما هو قول الإمام الدارقطني وقول البيهقي وقول الزيلعي عليهم رحمة الله وقد توسع ابن القيم في تضعيف هذا الخبر ورده على من قواه بكلام نفيس متين قوي.

(والقُلَّة) هي: بضم القاف مأخوذة من الارتفاع، يقال: قلة الجبل أي أعلاه، واختلف أهل العلم في مقدار القلة في خبر النبي صلى الله عليه وسلم، والقدر الذي تعرف به القُلّة على أقوال:

- فقد روي أن المراد بالقلة أنها قربتين وجاء ذلك في كتاب الأم للشافعي، فقد أخرج عليه رحمة الله في كتابه الأم وكذا في مسنده فقال: أخبرنا مسلم بن خالد عن ابن جريج قال: قلال هَجَر قربتين أو قربتين وشيئاً.

- وهناك قول آخر وهو القول الثاني في قدر القلّة، وهو مروي عن الإمام الشافعي والإمام أحمد وكذا مروي عن أبي ثور عليهم رحمة الله، وقالوا: أن القُلّة تَسع قربتين ونصفا، واستدلوا بما روي عن ابن جريج السابق، وقالوا أن قول ابن جريج أن القلة تسع قربتين أو قربتين وشيئاً، قوله (شيئاً) هنا: أكثر ما يطلق عليه لفظ الشيء هو الشطر وهو النصف، قالوا فيقال بالاحتياط أن القلة تسع قربتين ونصفاً، وهذا كما ذكرنا مروي عن الإمام الشافعي وأحمد وأبي ثور.

- وثمة قول ثالث: قالوا بأن القلة هي تسع ستة قرب، وهذا مروي عن إسحاق بن راهويه عليه رحمة الله.

ص: 36

- وثمة قول رابع في مقدار القلة: أنها تسع فرقين، وهذا مروي عن يحيى بن عقيل كما أخرج ذلك الدارقطني في سننه عليه رحمة الله من حديث ابن جريج عن محمد بن يحيى عن يحيى بن عقيل قال: رأيت قلال هَجَر، فرأيت القُلّة تسع فرقين.

- وروي في ذلك قول خامس أيضاً قالوا: أن القلة ليس لها قدرٌ معين معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مروي عن عبد الرحمن بن مهدي، ومرويٌ أيضاً عن وكيع ويحيى بن آدم وجماعة من أهل العلم، وكذلك هو مروي عن أبي عبيد عليهم رحمة الله.

فالقول الحق في ذلك بإذن الله تعالى، أن القلتين ليس لها قدر معين عند أهل العلم؛ ولكن المراد بالقلّة هي قلال هَجَر، كما حكى ذلك بعض أهل العلم، فقلال هجر معروفة عند العرب، واشتهرت حتى وصلت شهرتها المدينة، بل جاءت على لسان النبي صلى الله عليه وسلم في خبر صحيح، كما في قصة الإسراء والمعراج عنه صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث قتادة عن أنس عن مالك بن صعصة رضي الله عنه في خبر طويل، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، فرأيت نبقها كأنه قلال هَجَر» ، وهذا يدل على أن قلال هجر معروفة عند العرب ومعروفة على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أقرب ما تكون من إرادة النبي صلى الله عليه وسلم لها.

والقلة كما ذكرنا أنها تنصرف عند التحقيق لمن تأمل أخبار النبي صلى الله عليه وسلم إلى قلال هجر، وإذا عُلم أيضاً أن قلال هجر ليس لها قدر معين؛ عُلم أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر أنه غلبة الضن وليس القطع.

قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث» :

قول النبي صلى الله عليه وسلم إن صحّ: «إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث» ، له دلالة منطوق ودلالة مفهوم.

ص: 37

* فدلالة منطوقه: أن الماء إذا كان قلتين على اختلاف في قدر القلتين فإنه لا يحمل الخبث، إلا إذا تغيّر طعمه أو ريحه أو لونه بنجاسة تحدث فيه، وهذا محل إجماع عند أهل العلم.

* ودلالة مفهوم هذا الخبر: أن ما كان دون القلتين فإنه في غلبة الظن أنه تطرأ عليه النجاسة.

ولكن اختلف أهل العلم في دلالة المفهوم هنا، هل ما كان دون القلتين بملاقاة النجاسة ينجس، حتى وإن لم يتغير طعمه أو لونه أو ريحه؟

على خلاف عند أهل العلم، فذهب الحنفية والشافعية وقول عند الحنابلة وهو رواية عن الإمام أحمد عليه رحمة الله: على أن النجاسة إذا لاقت الماء القليل فإنه ينجس، حتى وإن لم يتغير ريحه أو طعمه أو لونه.

ولكن هؤلاء الذين قالوا بهذا القول وهو قول الجمهور، اختلفوا في الماء القليل:

- فذهب الحنفية قالوا: أن الماء القليل هو إذا حُرّك طرفه تحرّك طرفه الآخر

- وذهب الحنابلة وكذلك الشافعية إلى أن الماء القليل هو: ما كان دون القلتين مما قدّرَه النبي صلى الله عليه وسلم.

- وذهب وهو القول الثاني جماعة من أهل العلم وهو قول ابن المسيب والحسن والثوري والإمام مالك عليه رحمة الله وابن مهدي ورواية عن احمد وعليه المحققون من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية: على أن الماء إذا لاقته نجاسة وهو قليل حتى وإن كان دون قلتين أنه لا ينجس، إلا إن تغير طعمه أو لونه أو ريحه من تلك النجاسة، وهذا هو القول الحق.

فإن دلالة المفهوم من هذا الخبر إن صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، تعارضها دلالة المنطوق عنه صلى الله عليه وسلم في الأخبار المتقدمة:«إن الماء طهور لا ينجسه شيء» ، وهذا كلام عام لا يستثنى منه شيء قليل أو كثير.

ص: 38