المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌تمهيد هذه تنبيهات أقدمها بين يدي هذا البحث تتمة للفائدة: الأول: أن - من هدي السلف في طلب العلم

[محمد بن مطر الزهراني]

الفصل: ‌ ‌تمهيد هذه تنبيهات أقدمها بين يدي هذا البحث تتمة للفائدة: الأول: أن

‌تمهيد

هذه تنبيهات أقدمها بين يدي هذا البحث تتمة للفائدة:

الأول: أن السلف رحمهم الله قد اهتموا بموضوع أدب الطلب وآداب الطالب وبرنامج التعلُّم والتعليم من وقت مبكر كما اهتموا بغيرها من الفنون والموضوعات، ويدل على ذلك أمران:

1 -

تلك النصوص الكثيرة التي رُويت عنهم في توجيه الطلاب، وبيان المنهج والهدي الذي ينبغي أن يسلكه المعلم والمتعلم، وقد رُوي الكثير من هذه النصوص عن الصحابة والتابعين وأتباعهم 1.

2 -

تلك المؤلفات في هذا الفن، التي ظهرت من وقت مبكر، ككتاب العلم 2 لأبي خيثمة زهير بن حرب المتوفى (234هـ.) ، وكتاب آداب المعلمين والمتعلمين 3 لمحمد بن سحنون المتوفى سنة (256هـ.) ، ثم تتابع التأليف في ذلك إلى أن جاء حافظا المشرق والمغرب، أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي، وأبو عمر يوسف بن عبد البر القرطبي - توفي كلاهما سنة (463هـ.) - ألف الأول كتاب الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، وألف الثاني كتاب جامع بيان العلم وفضله، وقد طُبعا مراراً، وهما من أجمع وأوسع وأشمل ما أُلف في موضوعهما.

1 بل قد ورد كثير من هذه النصوص في السنة المطهرة، وعن ذلك كله انظر: مقدمة سنن الدارمي، ومقدمة سنن ابن ماجه، ومقدمة صحيح الإمام مسلم، والجامع للخطيب، وجامع ابن عبد البر.

2 طبع بتعليق وتخريج الشيخ ناصر الدين الألباني.

3 نشره حسن حسني عبد الوهاب في تونس عام 1931م، وقد قدَّم له بدراسة جيدة الأستاذُ عبد الرحمن بن عثمان حجازي في كتابه المذهب التربوي عند ابن سحنون.

ص: 7

وسلم إذا جلسوا مجلساً كان حديثهم الفقه إلا أن يقرأ رجل سورة أو يأمروا رجلاً أن يقرأ سورة" 1.

وقال ابن القيم (ت 751هـ.) : "صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم على عبده، ما أُعطي عبد عطاءً بعد الإسلام أفضل ولا أجلّ منهما. بل هما ساقا الإسلام وقيامه عليهما، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد مقصدهم، وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم، وهم أهل الصراط المستقيم الذي أُمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة. وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد يميز به بين الصحيح والفاسد والحق والباطل

" 2.

4-

الحرص على تثبيت العلم والتثبت فيه:

ووسائل التثبت فيه عندهم من أهمها:

أ - التلقي على الشيوخ مع انتقاء الذين يُتلقى عليهم العلم، فلا يتلقون على مبتدع، ولا صاحب هوى، ولا من غير الثقة.

قال الإمام محمد بن سيرين (ت 110هـ.) : "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سمّوا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم". وقال أيضاً: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم"3.

وقال الإمام مالك (ت 179هـ.) : "لا يؤخذ العلم من أربعة: معلن السفه،

1 رواه البيهقي في المدخل رقم 419.

2 أعلام الموقعين (1/87) .

3 مقدمة صحيح مسلم (14، 15) .

ص: 8

وصاحب هوىً يدعو الناس إليه، ورجل معروف بالكذب في أحاديث الناس وإن كان لا يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا رجل له فضل وصلاح لا يعرف ما يحدث به" 1.

ب - تمييز الصحيح من السقيم وحديث الثقة من غير الثقة، والحافظ من سيئ الحفظ. قال الإمام عبد الرحمن بن مهدي (ت 198هـ.) :"لا يجوز أن يكون الرجل إماماً حتى يتعلم ما يصح مما لا يصح، وحتى لا يحتج بكل شيء، وحتى يعلم مخارج العلم"2. وقال الإمام مسلم في مقدمة صحيحه 3: "واعلم وفقك الله تعالى، أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها، وثقات الناقلين لها من المتهمين أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه، والستارة في ناقليه، وأن يتقي منها ما كان منها عن أهل التهمة والمعاندين من أهل البدع".

وأما وسائل تثبيت العلم فمن أهما:

أ - حسن الفهم: وقد سبقت الإشارة إلى اهتمام السلف به.

ب - حفظه والعمل به: قال عامر بن شراحيل الشعبي (ت 103هـ.) : "كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل، ونستعين على طلبه بالصوم"4.

وقد أُثِر عن غير واحد من السلف واشتهر عن إمام أهل السنة أحمد بن حنبل قوله: "ما بلغني حديث إلا عملت به، وما عملت به إلا حفظته". وقال وكيع بن

1 جامع بيان العلم (2/48) .

2 الجامع للخطيب (2/90) .

3 صحيح مسلم (1/8) .

4 جامع بيان العلم (2/11) .

ص: 9

الجراح (ت 197هـ.) : "إذا أردت أن تحفظ الحديث فاعمل به"1.

ج - مذاكرته مع الشيوخ والأقران:

لم يكتف السلف رحمهم الله بالحث على المذاكرة وبيان أهميتها وأوقاتها المناسبة، بل تجاوزوا ذلك إلى التطبيق العملي، فمارسوا مذاكرة العلم بشتى الصور مع الشيوخ والأقران.

قال أنس بن مالك رضي الله عنه: "كنا نكون عند النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فنسمع منه الحديث، فإذا قمنا تذاكرناه فيما بيننا حتى نحفظه"2.

وقال الخطيب: "وأفضل المذاكرة مذاكرة الليل، وكان جماعة من السلف يبدؤون في المذاكرة من العشاء، فربما لم يقوموا حتى يسمعوا أذان الصبح"3.

د - الصبر والمثابرة والدأب في التحصيل: ولا أدَلّ على ذلك من تلك الرحلات إلى البلدان المختلفة وتحمّل المشاق في سبيل تحصيل العلم، وقد بدأها الصحابة الكرام رضي الله عنهم حيث كان أحدهم يرحل في الحديث الواحد مسيرة شهر 4.

قال سعيد بن المسيب (ت 94هـ.) : "إن كنت لأَسيرُ في طلب الحديث الواحد مسيرة الليالي والأيام"5.

1 علوم الحديث لابن الصلاح (ص 223) .

2 الجامع للخطيب (1/236) .

3 تذكرة السامع والمتكلم (ص 144) .

4 انظر في ذلك كتاب الرحلة للخطيب البغدادي وقد خصصه لرحلات من رحل لحديث واحد.

5 طبقات ابن سعد (5/120) ؛ المعرفة والتاريخ (1/468) .

ص: 10

التنبيه الثاني: أن الحافظ بدر الدين بن جماعة المتوفى سنة (733هـ.) لما وَقف على تلك المصنفات الكثيرة في هذا الفن، وما كتب من ذلك في أبواب أو فصول ضمن كتب أخرى ككتب المصطلح وغيرها، جمع كل ذلك وأعاد تصنيفه وترتيبه في أبواب وفصول وأنواع، مختصراً مطوله ومسدداً خلل مختصره، وذلك في كتابه تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم 1. فجاء كتابه في هذا الموضوع جامعاً وبالفوائد والفرائد حافلاً.

وقد وقع كتابه في خمسة أبواب فيها ثمانية فصول اشتملت على ستة وتسعين نوعاً، خصص الباب الثاني لآداب العالم، والباب الثالث لآداب المتعلم. فرسم في هذين البابين برنامجاً علمياً للمُعلم مع نفسه، ثم مع درسه، ثم مع طلبته، وبرنامجاً عملياً للمتعلم في نفسه، ومع شيخه، وفي درسه.

ومن أهم مصادره فيما ظهر لي ما كتبه كل من: محمد بن سحنون، ثم الخطيب البغدادي، والحافظ أبو عمر ابن عبد البر، وكذلك ابن الصلاح والنووي 2 وغيرهم رحمهم الله جميعاً.

وقد تميّز عمن سبقه بذكر هذا البرنامج العملي للعالم والمتعلم بصورة واضحة ودقيقة، ويمكن أن يستفيد منها - غالباً - كل عالم ومتعلم في كل عصر، ولذلك اعتمدتُُ على كتابه كثيراً في بحثي هذا وبخاصة في فصل البرنامج العملي للطالب في أثناء تعلُّمه.

1 طبع في الهند بتحقيق وتعليق محمد هاشم الندوي ثم أعيد تصويره في بيروت.

وقد أعدَّ الدكتور حسن بن إبراهيم بن عبد العال عنه دراسة تحليلية واسعة في كتابه فن التعليم عند بدر الدين ابن جماعة، نشرها مكتب التربية العربي لدول الخليج.

2 في النوع السابع والعشرين والثامن والعشرين من علوم الحديث لابن الصلاح، وفي مقدمة المجموع للنووي.

ص: 11

التنبيه الثالث: من خلال مطالعتي وبحثي فيما كتبه السلف رحمهم الله وخاصة المتقدم منها، ألفيتُ أن للسلف منهجاً علمياً وهدياً وسمتاً عملياً في طلب العلم، ولعل من أهم معالمه ما يأتي:

1-

إخلاص النية في طلب العلم لوجه الله عز وجل، فلا يبتغون بذلك منصباً ولا جاهاً عند أحد كائناً من كان، ولا تكثّراً من الأموال، ورائدهم في ذلك قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم:"من تعلَّم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب عَرَضاً من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة"1.

2-

التدرج في طلب العلم وفق برنامج علمي وعملي، فكانوا يبدؤون بالتأدب والتعبد أولاً - ويحفظ الطالب أثناء ذلك كتاب الله العزيز - ثم يشرع بعد ذلك في طلب العلم على أهله المعروفين.

قال سفيان بن سعيد الثوري (ت 161هـ.) :

"ليس عمل بعد الفرائض أفضل من طلب العلم، وكان الرجل لا يطلب العلم حتى يتأدب ويتعبد قبل ذلك عشرين سنة"2.

وقال عبد الله بن المبارك (ت 181هـ.) :

"كانوا يطلبون الأدب ثم العلم"3.

وأول ما يبدأ به الطالب تعلم فروض الأعيان حتى يعرف العلم والعمل بها ثم يتدرج بعد ذلك في فروض الكفاية وجزئيات العلم.

وليكن ابتداؤه بعلوم الغاية، وهي العقيدة والفقه المبنيان على الأدلة من

1 انظر تخريجه في أول الفصل الأول من هذا البحث.

2 انظر حلية الأولياء لأبي نعيم (6/361) .

3 انظر غاية النهاية في طبقات القراء (1/446) .

ص: 12

الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح، ثم علوم الوسائل ثانياً، كأصول التفسير، وعلوم القرآن، وعلوم الحديث، وأصول الفقه ونحو ذلك، ولا يجوز تقديم علوم الوسائل على علوم الغاية.

قال ابن خلدون (ت 808هـ.) : اعلم أن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين: علوم مقصودة بالذات كالشرعيات، من التفسير، والحديث، والفقه

، وعلوم هي وسيلة آليّة لهذه العلوم، كالعربية، والحساب وغيرهما

فأما العلوم التي هي مقاصد فلا حرج في توسعة الكلام فيها وتفريع المسائل واستكشاف الأدلة والأنظار

وأما العلوم التي هي آلة لغيرها، فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط، ولا يوسع فيها الكلام، ولا تفرع المسائل، لأن ذلك مخرج لها عن المقصود، إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير. اه. ملخصاً 1.

3-

الحرص على الفهم الصحيح، فقد نصّ كثير من السلف على أن أُسس طلب العلم حسن الفهم.

قال الخطيب البغدادي: "العلم هو الفهم والدراية، وليس الإكثار والتوسع في الرواية"2.

وقال ابن عبد البر: "والذي عليه جماعة فقهاء المسلمين وعلمائهم ذم الإكثار دون تفقه ولا تدبر"3.

وقال أبو سعيد الخدري: "كان أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله

1 مقدمة ابن خلدون، 536، الفصل الثلاثون.

2 الجامع (2/174) .

3 جامع بيان العلم (2/124) .

ص: 13

وكان كثير من السلف يوصي تلاميذه بالصبر والتحمل وعدم التعجل. قال يونس بن يزيد: "قال لي الزهري: لا تأخذ العلم جملة، فإن من رام أخذه جملة ذهب عنه جملة، ولكن الشيء بعد الشيء مع الأيام والليالي"1. وفي رواية معمر عن الزهري: "من طلب العلم جملة فاته جملة، وإنما يدرك العلم حديث وحديثان" 2.

5 -

الورع مع الحرص على نشر العلم وإخفاء العمل:

عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأنصار ما فيهم من أحد يسأل عن شيء إلا ودّ أن أخاه كفاه، ولا يحدث حديثاً إلا ودّ أن أخاه كفاه"3.

وعن مطرّف بن عبد الله بن الشخير قال: "فضل العلم أحب إليّ من فضل العبادة، وخير دينكم الورع"4.

وفي باب (كيف يُقبض العلم) من كتاب العلم من صحيح البخاري: "كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولتُفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يُعلَّم من لا يعلم فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً".

1 جامع بيان العلم (1/104) .

2 الجامع للخطيب (1/232) .

3 كتاب العلم لأبي خيثمة (ص 10 ح 21) .

4 كتاب العلم لأبي خيثمة (ص 8 ح 13) . قال محققه الشيخ ناصر الدين الألباني: ثبت هذا مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، رواه الطبراني عن ابن عمر، وحذيفة، وحسن إسناده المنذري. رواه الحاكم عن سعد بن أبي وقاص، وصححه ووافقه الذهبي.

ص: 14

وقال بشر بن الحارث: "إنما يراد من العلم العمل، اسمع وتعلم واعلم وعلّم واهرب، ألم تر إلى سفيان الثوري كيف طلب العلم، فعلِم وعلّم وهرب، وهكذا العلم إنما يدل على الهرب عن الدنيا ليس على طلبها"1.

6 -

ومن تلك المعالم أيضاً ترك الجدل والمماراة في العلم والبعد عن مجادلة ومجالسة أهل الأهواء، وقد أكثر السلف رحمة الله عليهم من ذم أصحاب الأهواء والتحذير من مجالستهم، أو مجادلتهم، أو الاشتغال بالرد عليهم. وقد أورد أبو عبد الله بن بطة العُكبرى (ت 387هـ.) في كتاب "الإبانة الكبرى" عن ذلك أكثر من ثلاثمائة وأربعين نصاً ثم عقب على ذلك بقوله:

"فاعلم يا أخي أني لم أر الجدال والمناقضة والخلاف والمماحلة والأهواء المختلفة والآراء المخترعة من شرائع النبلاء، ولا من أخلاق العقلاء، ولا من مذاهب أهل المروءة، ولا مما حُكي لنا عن صالحي هذه الأمة، ولا من سير السلف، ولا من شيمة المرضيين من الخلف، وإنما هو لهوٌ يُتعلم ودراية يُتفكه بها، ولذة يُستراح إليها، ومهارشة العقول وتذريب اللسان بمحق الأديان، وضراوة على التغالب واستمتاع بظهور حجة المخاصم، وقصد إلى قهر المناظر، ومغالطة في القياس، وبُهت في المقالة، وتكذيب الآثار، ومكابرة لنص التنزيل، وتهاون بما قال الرسول، ونقض لعقدة الإجماع، وتشتيت الألفة وتفريق لأهل الملة، وشكوك تدخل على الأمة وضرواة السلاطة وتوغير للقلب، وتوليد للشحناء في النفوس عصمنا الله وإياكم وأعاذنا من مجالسة أهله"2.

1 جامع بيان العلم (2/8) .

2 انظر الإبانة لابن بطة (2/531) .

ص: 15