المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث: البرنامج العملي للطالب أثناء تعلمه - من هدي السلف في طلب العلم

[محمد بن مطر الزهراني]

الفصل: ‌الفصل الثالث: البرنامج العملي للطالب أثناء تعلمه

‌الفصل الثالث: البرنامج العملي للطالب أثناء تعلمه

البرنامج العملي للطالب أثناء تعلمه

هذا البرنامج ذكره الحافظ بدر الدين بن جماعة (ت 733هـ.) في الباب الثالث من كتابه القيّم تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم 1، وذلك جمعاً وتلخيصاً من أقوال وكتب الأئمة السابقين له، كالخطيب البغدادي (ت 463هـ.) 2، والحافظ أبي عمر بن عبد البر (ت 463هـ.) 3، والإمام النووي (ت 676هـ.) 4 وغيرهم، مضيفاً إلى ذلك ما توصل إليه اجتهاده وخبراته في طلب العلم والتعليم.

وقد خصص رحمه الله هذا الباب لآداب الطالب:

أولاً: في نفسه، ثانياً: مع شيخه، ثالثاً: في درسه.

واقتصرت هنا على أهم تلك الآداب التي نقلها عن السلف، مما له تعلق بالبرنامج العملي لطالب العلم، ومما يحتاجه طالب العلم اليوم، مضيفاً إليه ما وجدته في هذا الباب عند غيره مما له تعلق به.

1 انظر الباب الثالث منه (ص 67-163) .

2 للخطيب البغدادي في هذا الفن ثلاثة كتب:

1-

اقتضاء العلم العمل.

2-

الفقيه والمتفقه.

3-

الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع.

3 لابن عبد البر في هذا الفن كتاب قيم ومهم، وهو جامع بيان العلم وفضله.

4 للنووي في هذا المجال كتابة مطولة ومفيدة جداً، وذلك في مقدمة كتابه المجموع شرح المهذب.

ص: 47

أولاً: آداب الطالب في نفسه

1 -

تطهير القلب من كل غش وغل وحسد وسوء معتقد أو خلق، ليصلح بذلك لقبول العلم وحفظه.

2 -

حسن النية في طلب العلم بأن يقصد به وجه الله تعالى، والعمل به، وإحياء السنة، وتنوير قلبه، وتحلية باطنه.

قال سفيان الثوري رحمه الله: "ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي"1.

وقال أبو يوسف القاضي رحمه الله: "يا قوم أريدوا بعلمكم الله تعالى، فإني لم أجلس مجلساً قط أنوي فيه أن أتواضع إلاّ لم أقم حتى أعلوهم، ولم أجلس مجلساً قط أنوي فيه أن أعلوهم إلا لم أقم حتى أفتضح. والعلم عبادة من العبادات وقربة من القرب"2.

3 -

المبادرة إلى تحصيل العلم في وقت الشباب، ولا يغتر بخدع التسويف والتأميل، فإن كل ساعة تمضي من عمره لا بدل لها ولا عوض. ويقطع ما يقدر على قطعه من العلائق الشاغلة والمانعة من تمام الطلب، وبذلك الاجتهاد والجد في التحصيل، ولذلك استحب السلف التغرب عن الأهل والبعد عن الوطن أثناء الطلب.

وما أكثر الذين غرتهم خدع التسويف والتأميل من الطلبة اليوم، فتجد الطالب منهم في مرحلة الدارسة يؤجل كثيراً من الأمور المهمة كحفظ كتاب الله، وحفظ المتون، والتدرج في أساسيات العلم وغير ذلك، وذلك بحجة أنه بعد التخرج سيتفرغ لكل هذه الأمور وغيرها، ثم يفاجأ بعد التخرج من الدراسة

1 تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة (ص 68) .

2 المصدر نفسه (ص 69) .

ص: 48

بكثير من الأعمال والمشاغل التي ما كانت تلزمه وهو طالب، إذ بعد تخرجه يصبح مدرساً، أو موظفاً ورب أسرة، وكل ذلك له مسؤولياته. ومن المقطوع به أن الشاب في مرحلة الطلب أفرغ ما يكون حيث لا علائق ولا مشكلات - في الغالب - لكن كثيراً من الطلبة يهدرون أوقاتهم في الأكل والنوم والجدل والخصومات، والاشتغال بما لا يلزمهم الاشتغال به في هذه المرحلة، عكس ما كان عليه السلف رحمهم الله، من الجد والمثابرة والحرص على التحصيل، واغتنام الفرص والأوقات في مرحلة الطلب لحفظ العلم والتفقه فيه والعمل به.

وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: "اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك"1.

4 -

أن يقنع من القوت بما تيَسَّر ومن اللباس بما يستر مثله، وإن كان خَلِقاً، فبالصبر على ضيق العيش ينال سعة العلم ويجمع شمل القلب من مفترقات الآمال. وقال الإمام الشافعي رحمه الله:"لا ينال أحد هذا العلم بالمال وعز النفس فيفلح، ولكن من طلبه بذل النفس وضيق العيش وخدمة العلماء أفلح"2.

5 -

أن يقسّم أوقات ليله ونهاره، ويغتنم ما بقي من عمره، فإن بقية العمر لا قيمة له، وأجود الأوقات للحفظ الأسحار، وللبحث الإبكار، وللكتابة وسط النهار، وللمطالعة والمذاكرة الليل.

قال الخطيب البغدادي رحمه الله: "أجود أوقات الحفظ الأسحار ثم وسط

1 رواه الحاكم في المستدرك (4/306) ، والخطيب في اقتضاء العلم العمل حديث رقم 170. وصححه الشيخ ناصر الألباني كما في حاشية الاقتضاء، وانظر صحيح الجامع ح رقم 1088.

2 شرح التبصرة والتذكرة للعراقي (2/224) ؛ وجامع بيان العلم وفضله (1/98) .

ص: 49

النهار ثم الغداة، وحفظ الليل أنفع من حفظ النهار، ووقت الجوع أنفع من وقت الشبع، وأجود أماكن الحفظ الغرف، وكل موضع بعيد عن الملهيات. وليس بمحمود الحفظ بحضرة النبات، والخضرة، والأنهار، وقوارع الطرق، وضجيج الأصوات، لأنها تمنع من خلو القلب غالباً" 1.

6 -

أن يقلل من نومه ما لم يلحقه ضرر في بدنه وذهنه، ولا يزيد في نومه في اليوم والليلة عن ثمان ساعات، وهي ثلث الزمان، فإن احتمل حاله أقل منها فعل.

ولا بأس أن يريح نفسه، وقلبه، وبصره إذا كلّ شيء من ذلك، أو ضعف بتنزه في المتنزهات، بحيث يعود إلى حاله ولا يضيع عليه زمانه، ولا بأس بمعاناة المشي ورياضة البدن به، فقد قيل إنه ينعش الحرارة ويذيب فضول الأخلاط وينشط البدن.

7 -

من أعظم الأسباب المعينة على الاشتغال بالعلم والفهم وعدم الملال أكل القدر اليسير من الحلال. وسبب ذلك أن كثرة الأكل جالبة لكثرة الشرب، وكثرته جالبة للنوم والبلادة وقصور الذهن والفتور الحواس، وكسل الجسم، هذا مع ما فيه من الكراهية الشرعية والتعرض لخطر الأسقام البدنية، ولم يوصف أحد من الأولياء والأئمة العلماء بكثرة الأكل، ولا حُمِدَ به، وإنما يُحمد كثرة الأكل من الدواب التي لا تعقل.

1 تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة (ص 73) ، وانظر الفقيه والمتفقه للخطيب (2/103-104) .

ص: 50

قال أبو محمد عبد الله بن محمد الأندلسي القحطاني في نونيته:

لا تحشُ بطنَك بالطعام تَسَمُّناً

فَجُسُومُ أهلِ العلمِ غيرُ سِمانِ

أقلِلْ طعامَك ما استطعتَ فإنهُ

نَفعُ الجُسومِ وصحَّةُ الأَبْدانِ

واملِكْ هواك بضبطِ بَطنِكَ

إنهُ شرُّ الرِّجالِ العاجزُ البَطنَانِ

والأولى أن أكثر ما يأخذ من الطعام ما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "ما ملأ ابن آدم وِعاءً شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لُقيمات يُقِمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلثٌ لطعامِه، وثلثٌ لشرابه، وثلث لنفَسِهِ"1.

8 -

أن يقلل استعمال المطاعم التي هي من أسباب البلادة وضعف الحواس كالتفاح الحامض، والباقلاء، وشرب الخل وكذلك استعمال ما يسبب البلغم المبلد للذهن، المثقل للبدن، ككثرة الألبان، والسمك وأشباه ذلك. وينبغي أن يستعمل ما جعله الله تعالى سبباً لجودة الذهن كمضغ اللبان، والمصطكى حسب العادة، وأكل الزبيب بكرة، ولعق العسل ونحو ذلك.

كان الإمام الزهري (ت 124هـ.) يحث تلاميذه على حفظ الحديث، ويقول:"من أحب أن يحفظ الحديث فليأكل الزبيب"، وكان رحمه الله يتصبح بلعق العسل 2.

9 -

أن يأخذ نفسه بالورع في جميع شأنه ويتحرى الحلال في طعامه، وشرابه، ولباسه، ومسكنه، وفي جميع ما يحتاج إليه هو وعياله ليستنير قلبه

1 رواه الإمام أحمد في المسند (4/132) من حديث المقدام بن معدي كرب، والترمذي في كتاب الزهد من جامعه، باب ما جاء في كراهية كثرة الأكل، وقال: هذا حديث حسن صحيح (4/590 ح 2380) .

2 انظر الجامع للخطيب (2/262) ؛ وسير أعلام النبلاء (5/335، 347) من ترجمة الزهري؛ وزاد المعاد (4/319) .

ص: 51

ويصلح لقبول العلم ونوره، والنفع به، ولا يقنع لنفسه بظاهر الحل شرعاً مهما أمكنه التورع، ولم تلجئه حاجة، أو يجعل حظه الجواز بل يطلب الرتبة العالية، ويقتدي بمن سلف من العلماء الصالحين في التورع عن كثير مما كانوا يفتون بجوازه.

قال أبو الدرداء: "تمام التقوى أن يتقي الله العبدُ حتى يتقيَه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يُرى أنه حلال خشية أن يكون حراماً، حجاباً بينه وبين الحرام".

وعن ابن عمر قال: "إني لأحب أن أدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال لا أخرقها"1.

وعن ميمون بن مهران: "لا يسلم للرجل الحلال حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزاً من الحلال"2.

وعن سفيان بن عيينة: "لا يصيب عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزاً من الحلال"3.

وأحق من يقتدى به في ذلك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

ومن نظم عبد الله بن المبارك 4:

يا طالبَ العلمِ بادِرِ الورعاَ

وهاجرِ النومَ واهجُرِ الشبعا

10 -

ينبغي لطالب العلم أن لا يخالط إلا من يفيده أو يستفيد منه، فإن تسرع أو تعرض لصحبة من يضيع عمره معه ولا يفيده ولا يستفيد منه، ولا يعينه على

1 جامع العلوم والحكم لابن رجب (1/209) .

2 الحلية لأبي نعيم (4/84) .

3 الحلية (7/288) .

4 جامع بيان العلم وفضله (1/192) .

ص: 52

ما هو بصدده فليتلطف في قطع عشرته من أول الأمر قبل تمكنها، فإن الأمور إن تمكنت عسُرت إزالتُها. فإن احتاج إلى من يصحبه فليكن صاحباً صالحاً ديِّناً تقياً ورِعاً ذكياً 1، كثير الخير قليل الشر، حسن المداراة قليل المماراة، إن نسي ذكَره، وإن ذكر أعانه وإن احتاج واساه، وإن ضجر صبّره.

قال الزرنوجي: "وأما اختيار الشريك فينبغي أن يختار المُجد الورع، وصاحب الطبع المستقيم والمتفهم، ويفر من الكسلان والمعطل والمكثار والمفسد والفتان 2"3.

1 قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يُحذِيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة. ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة". رواه البخاري في الذبائح، باب المسك، ح 5534.

2 انظر تعليم المتعلم للزرنوجي (ص 8) .

3 هذه التوجيهات سديدة ونصائح مفيدة لطالب العلم ليتجنب مصاحبة مَنْ هذه صفاته، وما أكثر الذين يتصفون بهذه الصفات من الشباب في كل عصر، حتى أصبح الأصل في كثير منهم الكسل، والبطالة، وكثرة الهرج، فضلاً عن خوضهم في الفتن واستشرافهم لها.

فعلى الطالب أن لا يصاحب إلا صاحب التقى والورع والعبادة، الذي يزداد بصحبته إيماناً، وبقربه قرباً من الله عز وجل. وليحذر أشد الحذر من المتحذلق عليم اللسان، المتظاهر بالورع المتكلف في العبادة، وهو أضعف الناس عبادة وأقلهم ورعاً. إذا خاصم فجر، وإذا حدّث كذب، يضمر في قلبه خلاف ما لاكه لسانه. وفي الحلية لأبي نعيم (7/46) :"قيل لسفيان: من نجالس؟ قال: من تذكركم بالله رؤيتُه، ويرغبكم في الآخرة عملُه، ويزد في علمكم منطقُه". وفي الإبانة للحافظ ابن بطة (1/205 رقم 44) قال الحافظ عمرو بن قيس الملائي: "إذا رأيت الشاب أول ما ينشأ مع أهل السنة والجماعة فارجه، وإذا رأيته مع أهل البدع فايئس منه، فإن الشاب على أول نشؤه".

وفيه برقم 43 عن عبد الله بن شوذب قال: "إن من نعمة الله على الشاب إذا تنسك أن يواخي صاحب سنة يحمله عليها".

وفي الإبانة أيضاً (2/479-480) عن يوسف بن عطية عن قتادة قال: "إنا والله ما رأينا الرجل يصاحب من الناس إلا مثله وشكله، فصاحبوا الصالحين من عباد الله لعلكم أن تكونوا معهم أو مثلهم".

وفيه رقم 512 عن مالك بن دينار قال: "الناس أجناس كأجناس الطير: الحمام مع الحمام، والغراب مع الغراب، والبط مع البط، والصعو - نوع من الطيور - مع الصعو، وكل إنسان مع شكله".

ثم قال ابن بطة: "فانظروا رحمكم الله من تصحبون وإلى من تجلسون واعرفوا كل إنسان بخدنه وكل أحد بصاحبه، أعاذنا الله وإياكم من صحبة المفتونين ولا جعلنا وإياكم من إخوان العابثين ولا من أقران الشياطين، وأستوهب الله لي ولكم عصمة من الضلال وعافية من قبح الأفعال".

ص: 53

11 -

قال الخطيب البغدادي: "يجب على طالب الحديث أن يتجنب اللعب والعبث والتبذل في المجالس بالسخف والضحك، والقهقهة، وكثرة التنادر، وإدمان المزاح، والإكثار منه. وإنما يستجاز من المزاح يسيره ونادره، وطريفه الذي لا يخرج عن حد الأدب وطريقة العلم. فأما متصله، وفاحشه، وسخيفه، وما أوغر منه الصدور، وجلب الشر فإنه مذموم، وكثرة المزاح والضحك يضع من القدر ويزيل المروءة"1.

ثانياً: آداب الطالب مع شيخه 2

1 -

ينبغي للطالب أن يقدم النظر، ويستخير الله فيمن يأخذ العلم عنه، ويكتسب حسن الأخلاق والآداب منه، وليكن إن أمكن ممن كملت أهليته وتحققت شفقته، وظهرت مروءته، وعُرفت عفّته، واشتهرت صيانته، وكان أحسن تعليماً وأجود تفهيماً، ولا يرغب الطالب في زيادة علم مع نقص في ورع، أو دين، أو عدم خلق جميل. فقد رُوي عن كثير من السلف قولهم:"إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم"3.

قال الخطيب: "ينبغي للمتعلم أن يقصد من الفقهاء من اشتهر بالديانة وعُرف

1 الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/156) .

2 تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة (ص 85) .

3 انظر هذا الأثر عن ابن سيرين في مقدمة صحيح الإمام مسلم (1/24) ، وقد رُوي عن غيره أيضاً.

ص: 54

بالستر والصيانة، قد رسم نفسه بآداب العلم من استعمال الصبر والحلم، والتواضع للطالبين، والرفق بالمتعلمين، ولين الجانب، ومداراة الصاحب وقول الحق، والنصيحة للخلق وغير ذلك من الأوصاف الحميدة

" 1.

قال بدر الدين بن جماعة:"إذا سبرت أحوال السلف والخلف لم تجد النفع يحصل غالباً والفلاح يدرك طالباً إلا إذا كان للشيخ من التقوى نصيب وافر، وعلى شفقته ونصحه للطلبة دليل ظاهر، وكذلك إذا اعتبرت المصنفات وجدت الانتفاع بتصنيف الأتقى والأزهد أوفر، والفلاح بالاشتغال به أكثر"2.

ولا يأخذ ممن أخذ علمه من بطون الأوراق، ولم يُعرف بصحبة المشايخ الحذاق. وقال بعضهم:"من أعظم البلية تشييخ الصُّحُفِيَّة - أي الذين تعلموا من الصحف".

وقال ثور بن يزيد: "لا يفتى الناس الصحفيون". وقال أبو زرعة: "لا يفتى الناس صحفي ولا يقرئهم مصحفي"3.

2 -

تقديره وتواضعه وإجلاله لشيخه، وبذل الجهد في خدمته وعدم التقدم بين يديه.

قال الإمام شعبة بن الحجاج الواسطي (ت 160هـ.) :

"كنت إذا سمعت من الرجل الحديث كنتُ له عبداً ما حيي"4.

1 الفقيه والمتفقه (2/96) .

2 في مقدمة التمهيد للحافظ ابن عبد البر (1/86) : قيل للإمام مالك: شغلت نفسك بعمل هذا الكتاب، وقد شركك فيه الناس وعملوا أمثاله. فقال:"لتعلمُنَّ إنه لا يرتفع من هذا إلا ما أُريد به وجه الله". قال الراوي: فكأنما ألقيت تلك الكتب في الآبار، وما سُمع لشيء منها بعد ذلك بذكر. اه.

3 الفقيه والمتفقه للخطيب (2/97) .

4 جامع بيان العلم وفضله (1/127) .

ص: 55

ويعظم حرمته، ويرد غيبته، ويغضب لها، فإن عجز عن ذلك قام وفارق ذلك المجلس. وينبغي أن يدعوا له، وأن يرعى له حقه في ذريته وأقاربه من بعده 1.

وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي: "وينبغي للمتعلم أن يحسن الأدب مع معلمه، ويحمد الله إذ يسر له من يعلمه من جهله، ويحييه من موته، ويوقظه من سِنَتِه، وينتهز الفرصة كل وقت في الأخذ عنه، ويكثر الدعاء له حاضراً وغائباً

" 2.

3 -

ملازمته لشيخه للاستفادة من أدبه وأخلاقه وسمته.

قال أبو الدرداء: "مِن فقه الرجل ممشاه ومدخله ومخرجه مع أهل العلم"3.

وقال إبراهيم النخعي (ت 96هـ.) :

"كنا نأتي مسروقاً فنتعلم من هديه ودلِّه".

وعن ابن وهب قال: "ما تعلمت من أدب مالك أفضل من علمه".

ولقد أحسن عبد الله بن المبارك حيث يقول 4:

أيُّها الطالب عِلماً

ائتِ حمادَ بنَ زَيْدِ

فَالْتَمِسْ حِلْماً وعِلْماً

ثمَّ قيِّدْهُ بِقَيْدِ

4 -

أن يتأدب في الجلوس بين يديه ويشد ذهنه إليه ويُحضر له كامل حواسه، ولا يقصر في الإصغاء فيتشاغل بفكر، أو حديث أو نحو ذلك. وعن الحسن بن

1 تذكر السامع والمتكلم (ص 90) .

2 الفتاوى السعدية (ص 101-102) .

3 جامع بيان العلم وفضله (1/127) .

4 المصدر السابق في الموضع نفسه.

ص: 56

علي رضي الله عنهما قال لابنه: "يا بُنيّ! إذا جالست العلماء فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلم حسن الصمت، ولا تقطع على أحد حديثاً وإن طال حتى يمسك"1.

5 -

أن يصبر على جفوة تصدر من شيخه، أو سوء خلق، ولا يصده ذلك عن ملازمته، وحسن عقيدته، ويحمل أفعاله التي يظهر أن الصواب خلافها على أحسن محمل، ويتأولها على أحسن تأويل، والتماس العذر له 2.

عن سعيد بن المسيب أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:

"إن من حق العالم ألا تُكثر عليه بالسؤال، ولا تُعنته في الجواب، وألا تُلحَّ عليه إذا كسل، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا تفشينّ له سراً، ولاتغتابنّ عنده أحداً، ولا تطلبنّ عثرته، وإن زلّ قبلت معذرته، وعليك أن توقره، وتعظمه لله، ما دام يحفظ أمر الله، ولا تجلسنّ أمامه، وإن كانت له حاجة سبقتَ القوم إلى خدمته"3.

6 -

إذا سمع من شيخه شيئاً قد سمعه أو يحسنه فليصغ إليه إصغاء من يسمع ذلك لأول مرة. قال عطاء بن أبي رباح (ت 114هـ.) :

"إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به منه فأُريه من نفسي أني لا أحسن منه شيئاً"4.

وقال أيضاً: "وإني لأسمع الشاب ليتحدث بالحديث فأسمع له كأني لم أسمع به، ولقد سمعته قبل أن يُولد"5.

1 المصدر نفسه (1/130) .

2 تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة (ص 91) .

3 جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (1/129) .

4 في الحلية لأبي نعيم (3/311) ترجمة عطاء بن أبي رباح: "عن معاذ بن سعد الأعور قال: كنت جالساً عند عطاء بن أبي رباح فحدث بحديث فعرض رجل من القوم في حديث، فغضب وقال: ما هذه الأخلاق؟ وما هذه الطبائع؟ إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم منه به

".

5 ذكره الحافظ الذهبي في ترجمة عطاء في سير أعلام النبلاء (5/86) عن ابن جريج، عن عطاء

ص: 57

ولا يسبق الشيخ إلى شرح مسألة، أو جواب سؤال منه، أو من غيره، ولا يساوقه فيه" 1.

7 -

أن لا يستحي من السؤال عما أشكل عليه فهمه بتلطف وحسن خطاب وحسن أدب، ولا يسأل عن شيء في غير موضعه، وإذا سكت الشيخ عن الجواب لم يلح عليه، وإن أخطأ في الجواب تلطف في التصحيح 2.

8 -

قال عبد الملك بن قريب الأصمعي (ت 216هـ.) :

"إذا كانت في العالم خصال أربع، وفي المتعلم خصال أربع، اتفق أمرهما وتمَّ، فإن نقصت من واحد منها خصلةٌ لم يتِمَّ أمرهما. أما اللاتي في العالم: فالعقل، والصبر، والرفق، والبذل. وأما اللاتي في المتعلم: فالحرص، والفراغ، والحفظ، والعقل؛ لأن العالم إن لم يحسن تدبير المتعلم بعقله خلط عليه أمره، وإن لم يكن له صبر عليه ملَّهُ، وإن لم يرفق به بغّض إليه العلم، وإن لم يبذل له علمه لم ينتفع به. وأما المتعلم فإن لم يكن له عقل لم يفهم، وإن لم يكن له حرص لم يتعلم، وإن لم يفرِّغ للعلم قلبه لم يعقل عن معلمه، وساء حفظه، وإذا ساء حفظه كان ما يكون بينهما مثل الكتاب على الماء"3.

ثالثاً: آداب الطالب في درسه وبرنامجه فيه

1 -

قال أبو عمر بن عبد البر (ت 463هـ.) :

"طلب العلم درجات ومناقل ورتب لا ينبغي تعدّيها، ومن تعدّاها جملة فقد تعدّى سبيل السلف - رحمهم

1 تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة (ص 106) وفيه (ص 107) : "وينبغي أن لا يقطع على الشيخ كلامه أي كلام كان، ولا يسابقه، بل يصبر حتى يفرغ الشيخ من كلامه، ثم يتكلم، ولا يتحدث مع غيره والشيخ يتحدث معه أو مع عامة المجلس

".

2 تذكرة السامع والمتكلم (ص 104) .

3 الجامع للخطيب (1/343) .

ص: 58

الله - ومن تعدّى سبيلهم عامداً ضلّ، ومن تعدّاه مجتهداً زلّ. فأول العلم حفظ كتاب الله جلّ وعزّ، وتفهّمه، وكل ما يعين على فهمه فواجب طلبه معه، ولا أقول إن حفظه كله فرض، ولكن أقول إن ذلك واجب لازم على من أحب أن يكون عالماً، ليس من باب الفرض" 1.

وقال الحافظ ابن جماعة (ت 733هـ.) :

"يبتدئ أولاً بكتاب الله عز وجل فيتقنه حفظاً، ويجتهد على إتقان تفسيره وسائر علومه، فإنه أصل العلوم وأمها وأهمها"2.

وقال الخطيب البغدادي (ت 463هـ.) :

"ينبغي للطالب أن يبدأ بحفظ كتاب الله عز وجل، إذ كان أجلّ العلوم وأولاها بالسبق والتقديم"3.

2 -

ثم يحفظ من كل فنٍّ مختصراً يجمع فيه بين طرفي الحديث وعلومه، والفقه وأصوله، والنحو والتصريف، ولا يشغله ذلك عن مدارسة القرآن وتعهده وملازمته وِرده من كل يوم أو أيامٍ أو جمعةٍ، وليحذر من نسيانه بعد حفظه، فقد ورد فيه أحاديث تزجر عنه 4.

3 -

ثم يشتغل بشرح تلك المختصرات على المشايخ، وليحذر من الاعتماد في ذلك على الكتب أبداً، بل يعتمد في كل فن من هو أحسن تعليماً له، وأكثر تحقيقاً فيه وتحصيلاً منه، وأخبرهم بالكتاب الذي قرأه، بعد مراعاة الصفات التي تقدم ذكرها من الصلاح، والاستقامة، وحسن المعتقد، الورع ونحو ذلك 5.

1 جامع بيان العلم وفضله (2/166) .

2 تذكرة السامع والمتكلم (ص 112-113) .

3 الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/106) .

4 تذكرة السامع والمتكلم (ص 113) .

5 تذكرة السامع والمتكلم (ص 113-114) .

ص: 59

4 -

وليأخذ من الحفظ والشرح ما يمكنه ويطيقه حاله من غير إكثار يُملّ، ولا تقصير يُخلّ بجودة التحصيل.

قال الخطيب البغدادي: "ولا يأخذ الطالب نفسه بما لا يطيقه، بل يقتصر على اليسير الذي يضبطه ويُحكم حفظه ويُتقنه".

ثم ذكر بإسناده إلى إسماعيل بن علية قال: "كنت أسمع من أيوب خمسة أحاديث، ولو حدثني بأكثر من ذلك ما أردت".

وعن سفيان الثوري قال: "كنت آتي الأعمش ومنصوراً فأسمع أربعة أحاديث، خمسة، ثم أنصرف كراهة أن تكثر وتفلت".

وفي ترجمة سفيان الثوري في الحلية لأبي نعيم الأصبهاني:

عن زيد بن الحُباب قال: "سمعت الثوري وسأله شيخ عن حديث فأجابه، ثم عن آخر فأجابه، ثم عن ثالث فأجابه، ثم سأله في الرابعة، فقال: إنما كنت أقرأ على الشيوخ الحديثيْن والثلاثة، لا أزيد حتى أعرف العلم والعمل بها. فألح الشيخ عليه فلم يجبه. فجلس الشيخ يبكي، فقال له سفيان: يا هذا تريد ما أخذتُه في أربعين سنة تأخذه أنت في يوم واحد؟ ".

وعن شعبة أيضاً قال: "كنت آتي قتادة فأسأله عن حديثيْن، فيحدثني، ثم يقول: أزيدك؟ فأقول: لا، حتى أحفظهما وأُتقنهما"1.

وعن يونس بن يزيد قال: قال لي ابن شهاب: "يا يونس، لا تكابر العلم، فإن العلم أودية بأيها أخذت فيه قطع بك قبل أن تبلغه، ولكن خذه مع الأيام والليالي. ولا تأخذِ العلم جملةً، فإن من رام أَخْذَه جملةً ذهب عنه جملةً، ولكن الشيء بعد الشيء مع الأيام والليالي"2.

1 انظر هذه النصوص وغيرها في الجامع للخطيب (1/231-232) .

2 جامع بيان العلم وفضله (1/104) .

ص: 60

وعن عبد الرزاق عن معمر قال: سمعت الزهري يقول: "من طلب العلم جُملةً فاتَه جملةً، وإنما يدرك العلم حديث وحديثان"1.

وعن أبي عمرو الأوزاعي قال: "عرضنا على مالك "الموطأ" في أربعين يوماً، فقال: كتاب ألفته في أربعين سنة أخذتموه في أربعين يوماً! قلما تفقهون فيه"2.

5 -

إذا شرح محفوظاته المختصرات وضبط ما فيها من الإشكالات والفوائد المهمات، انتقل إلى بحث المبسوطات 3 مع المطالعة الدائمة وتعليق ما يمر به، أو يسمعه من الفوائد النفيسة والمسائل الدقيقة. ولا يستقلُّ فائدة يسمعها، أو يتهاون بقاعدة يضبط بها، بل يبادر إلى تعليقها وحفظها. ولتكن همته في طلب العلم عالية، فلا يكتفي بقليل العلم مع إمكان كثيره، ولا يقتنع من إرث الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم بيسيره، ويغتنم وقت فراغه ونشاطه، وزمن عافيته، وشرخ شبابه، ونباهة خاطره، وقلة شواغله قبل عوارض البطالة، أو موانع الرياسة 4.

قال عمر رضي الله عنه: "تفقهوا قبل أن تسودوا"5.

1 الجامع للخطيب (1/232) .

2 التمهيد (1/77) .

3 هكذا يكون التدرج في طلب العلم: يبدأ المتعلم بحفظ كتاب الله عز وجل، ثم يحفظ من كل فنٍّ متناً مختصراً، ثم يطلب شرح تلك المختصرات على الشيوخ المتخصصين، ثم ينتقل بعد التأهيل إلى المطالعة والبحث في المبسوطات. أما حال كثير من المتعلمين اليوم فهو عكس ذلك، حيث تجد كثيراً منهم لم يثن ركبه عند شيخ ولا أنهى حفظ متن من أساسيات العلم، ومع ذلك فهو لا يطالع ويقرأ أو يبحث إلا في المطولات والمبسوطات، كالمغني لابن قدامة، أو مجموع الفتاوى لابن تيمية، أو فتح الباري، والمحلى، ونيل الأوطار ونحو ذلك. ثم فجأة يتصدر للتأليف والفتوى، فيأتي بالعجائب والغرائب.

4 تذكرة السامع والمتكلم (133-134) .

5 الدارمي، المقدمة (1/69) ؛ الفقيه والمتفقه (2/78-79) . وانظر جامع بيان العلم وفضله (1/86) .

ص: 61

وقال الشافعي: "تفقه قبل أن ترأس، فإذا رأست فلا سبيل إلى التفقه"1.

6 -

أن يرغّب بقية الطلبة في التحصيل ويدلهم على مظانه ويصرف عنهم الهموم المشغلة عنه، ويهون عليهم مؤنته ويذاكرهم بما حصله من الفوائد والقواعد والضوابط، وينصحهم في الدين، فبذلك يستنير قلبه، ويزكو عمله، ومن بخل عليهم بعلمه لم يثبت عمله، وإن ثبت لم يثمر، ولا يفخر على بقية الطلبة أو يعجب بجودة ذهنه، بل يحمد الله تعالى على ذلك، ويستزيده منه بدوام شكره 2.

7 -

التبكير بسماع الحديث، ولا يهمل الاشتغال به وبعلومه والنظر في إسناده ورجاله ومعانيه وأحكامه، ويعتني بالصحيحين، ثم السنن، والموطأ، والمسانيد، وبقية كتب الحديث، ويعتني بمعرفة صحيح الحديث، وحسنه، وضعيفه، ومسنده، ومرسله، وسائر أنواعه، فإنه أحد جناحي العالم بالشريعة، والآخر هو القرآن. ولا يكتفي بمجرد السماع، بل يعتني بالدراية أشد من اعتنائه بالرواية.

قال الخطيب البغدادي: "من أول ما ينبغي أن يستعمله الطالب شدّة الحرص على السماع، والمسارعة إليه والملازمة للشيوخ

" ثم قال: "ويبتدئ بسماع الأمهات من كتب أهل الأثر والأصول الجامعة للسُّنن، وأحقها بالتقديم كتاب "الجامع" والمسند الصحيحان لمحمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج النيسابوري. ومما يتلو الصحيحين سنن أبي داود، وأبي عبد الرحمن النسائي، وأبي عيسى الترمذي، وكتاب محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري، الذي شرط فيه على نفسه إخراج ما اتصل سنده بنقل العدل عن العدل إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

1 الفقيه والمتفقه (2/78) ؛ تذكرة السامع والمتكلم (ص 134) .

2 تذكرة السامع والمتكلم (ص 162-163) .

ص: 62

ثم كتب المسانيد الكبار، كمسند الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل، وأبي يعقوب إسحاق بن راهويه، ومسند أبي بكر بن أبي شيبة، وعبد بن حُميد الكشي وغيرهما

" إلى أن قال: "وأما موطأ الإمام مالك بن أنس فهو المقدم في هذا النوع، ويجب أن يبتدئ بذكره على كل كتاب غيره، ثم الكتب المتعلقة بعلل الحديث، منها: كتب أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وأبي حاتم الرازي، وأبي علي الحافظ النيسابوري، وأبي الحسن الدارقطني، وكتاب "التمييز" لمسلم بن الحجاج. ثم تواريخ المحدثين وكلامهم في أحوال الرواة، مثل كتاب ابن معين، الذي يرويه عنه عباس الدوري، وكتاب خليفة بن خياط العصفري، ويعقوب بن سفيان الفسوي، وأبي خيثمة النسائي، وأبي زرعة الدمشقي، وحنبل بن إسحاق الشيباني، ومحمد بن إسحاق النيسابوري، وكتاب "الجرح والتعديل" لعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، ويُربي على هذه الكتب كلها "تاريخ محمد بن إسماعيل البخاري" فإذا أحرز صدراً مما ذكرناه فلا عليه أن يشتغل بالسماع والكَتْبِ للفوائد المنثورة غير المدونة المجموعة، يَعْمد إلى استيعابها دون انتخابها" اه. ملخصاً 1.

وقال الحافظ ابن عبد البر:

"واعلم - رحمك الله - أن طلب العلم في زماننا هذا، وفي بلدنا قد حاد أهله عن طريق سلفهم وسلكوا في ذلك ما لم يعرفه أئمتهم، وابتدعوا في ذلك ما بان به جهلهم وتقصيرهم عن مراتب العلماء قبلهم. فطائفة منهم تروي الحديث وتسمعه، قد رضيت بالدؤوب في جمع ما لا تفهم، وقنعت بالجهل في حمل ما لا تعلم، فجمعوا الغث والسمين، والصحيح والسقيم، والحق والكذب في كتاب واحد، وربما في ورقة واحدة. ويدينون بالشيء وضده، ولا يعرفون ما في ذلك عليهم. قد شغلوا أنفسهم بالاستكثار

1 الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/182-187) .

ص: 63

عن التدبر والاعتبار، فألسنتهم تروي العلم، وقلوبهم قد خلت من الفهم، غاية أحدهم معرفة الكتب الغريبة، والاسم الغريب، والحديث المنكر. وتجده قد جهل ما لا يكاد يسع أحداً جهلُه من علم صلاته، وحجه، وصيامه، وزكاته. وطائفة هي في الجهل كتلك أو أشد، لم يُعْنَوا بحفظ سُنَّة ولا الوقف على معانيها، ولا بأصل من القرآن ولا اعتنوا بكتاب الله عز وجل، فحفظوا تنزيله، ولا عرفوا ما للعلماء في تأويله، ولا وقفوا على أحكامه، ولا تفقهوا في حلاله وحرامه، قد اطّرحوا علم السنن والآثار، وزهدوا فيها، وأضربوا عنها فلم يعرفوا الاجتماع من الاختلاف، ولا فرقوا بين التنازع والائتلاف، بل عوّلوا على حفظ ما دُوّن لهم من الرأي والاستحسان الذي كان عند العلماء آخر العلم والبيان، وكان الأئمة يبكون على ما سلف وسبق لهم من الفتوى فيه، ويودُّن أن حظهم السلامة فيه

" اه. مختصراً 1.

وعن عبد الله بن وهب عن مالك بن أنس قال:

"إن العلم ليس بكثرة الرواية، إنما العلم نور يجعله الله في القلب"2.

وقال الخطيب البغدادي:

"العلم هو الفهم والدراية، وليس بالإكثار والتوسع في الرواية"3.

وقال أيضاً:

"وليجعل حفظه للحديث حفظ رعاية لا حفظ رواية، فإن رواة العلوم كثير، ورعاتها قليل. ورب حاضر كالغائب، وعالم كالجاهل، وحامل للحديث ليس معه منه شيء، إذ كان في اطِّراحه لحكمه بمنزلة الذاهب عن معرفته وعلمه"4.

1 جامع بيان العلم وفضله (2/169-170) ، باب رتب الطلب، والنصيحة في المذهب.

2 الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/174) .

3 المصدر نفسه.

4 الجامع (1/87) .

ص: 64

وروى بإسناده إلى الحسن البصري (ت 110هـ.) رحمه الله قال: "تعلموا ما شئتم أن تعلموا، فلن يجازيكم الله على العلم حتى تعملوا، فإن السفهاء همتهم الرواية، وإن العلماء همتهم الرعاية"1.

وقال أبو عمر يوسف بن عبد البر (ت 463هـ.) :

"

أما طلب الحديث على ما يطلبه كثير من أهل عصرنا اليوم دون تفقه فيه ولا تدبر لمعانيه، فمكروه عند جماعة أهل العلم" 2.

وقال أيضاً: "الذي عليه جماعة فقهاء المسلمين وعلمائهم ذم الإكثار دون تفقه ولا تدبر، والمكثر لا يأمن مواقعة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لروايته عمن يؤمن وعمن لا يؤمن" ثم ذكر بإسناده إلى ابن شبرمة قال: "أقلل الرواية وتفقه"3.

وقال الحافظ ابن القيم (ت 751هـ.) :

"صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أُعطيَ عبد عطاءً بعد الإسلام أفضل، ولا أجل منهما، بل هما ساقا الإسلام، وقيامه عليهما، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم، وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم، وهم أهل الصراط المستقيم الذي أُمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة. وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد، يميز به بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل

، ويمده حسن القصد وتحري الحق وتقوى الرب في السر والعلانية، ويقطع مادته اتباع الهوى وإيثار الدنيا، وطلب محمدة الخلق، وترك التقوى" 4.

1 المصدر نفسه (1/91) .

2 جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/127) .

3 المصدر نفسه (2/127) .

4 أعلام الموقعين (1/87) .

ص: 65

8 -

ينبغي أن يتذاكر مع زملائه ما وقع في مجلس الشيخ من الفوائد والقواعد والضوابط وغير ذلك، وأن يعيدوا ما سمعوه بينهم، فإن في المذاكرة نفعاً عظيماً.

قال الخطيب البغدادي: "وأفضل المذاكرة مذاكرة الليل، وكان جماعة من السلف يبدؤون في المذاكرة من العشاء فربما لم يقوموا حتى يسمعوا أذان الصبح"1.

"فإن لم يجد الطالب من يذاكره ذاكر نفسه بنفسه، وكرر معنى ما سمعه ولفظه على قلبه، فإن تكرار المعنى على القلب كتكرار اللفظ على اللسان سواء بسواء، وقل ما يفلح من يقتصر على حضور الفكر والعقل في مجلس الشيخ خاصة، ثم يتركه ويقوم ولا يعاوده بالمذاكرة"2.

وقال رحمه الله: "وإذا لم يجد الطالب من يذاكره، أدام ذكر الحديث مع نفسه وكرره على قلبه"3.

1 ذكر الخطيب نماذج في ذلك وأقوالهم فيه منها:

عن مجاهد قال: "لا بأس بالسمر في الفقه". (الفقيه والمتفقه 2/128) .

وعن محمد بن فضيل عن أبيه قال: "كان ابن شبرمة، والمغيرة، والحارث العكلي، والقعقاع بن يزيد وغيرهم يسمرون في الفقه" وفي رواية: "

يصلون العشاء الآخرة، ثم يجلسون فيتطارحون الفقه، وربما أذن المؤذن الفجر ولم يتفرقوا". (المصدر السابق 2/129؛ وكتاب العلم لأبي خيثمة ص 27 ح 108) .

وعن علي بن الحسن بن شقيق قال: "كنت مع عبد الله بن المبارك في المسجد في ليلة شتوية باردة، فقمنا لنخرج، فلما كان عند باب المسجد ذاكرني بحديث أو ذاكرته بحديث، فما زال يذاكرني وأذاكره حتى جاء المؤذن فأذّن لصلاة الصبح". (الجامع 2/276) .

2 تذكرة السامع والمتكلم (ص 144) .

ويراجع الملحق الأول في آخر هذا البحث، وبخاصة كلام ابن بدران.

ص: 66

ومما ورد عن السلف في المذاكرة وبيان أهميتها ما يأتي:

- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:

"كنا نكون عند النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فنسمع منه الحديث، فإذا قمنا تذاكرناه فيما بيننا حتى نحفظه"1.

- وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:

"تزاوروا وتدارسوا الحديث، ولا تتركوه يَدرُس"2.

- وعن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:

"إذا سمعتم مني حديثاً فتذاكروه بينكم"3.

- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:

"تحدثوا وتذاكروا، فإن الحديث يذكر بعضُه بعضاً"4.

- وعن ابن أبي ليلى عن عطاء قال:

"كنا نكون عند جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فيحدثنا، فإذا خرجنا من عنده تذاكرنا حديثه" قال: "فكان أبو الزبير أحفظنا للحديث"5.

- قال أبو هريرة رضي الله عنه:

"جزأت الليل ثلاثة أجزاء: ثلثاً أصلي، وثلثاً أنام، وثلثاً أذاكر فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم"6.

- وعن ابن جرير:

"كان عمرو بن دينار يُجزى الليل ثلاثة أجزاء: ثلثاً ينام، وثلثاً يصلي، وثلثاً يذاكر فيه الحديث"7.

وقال عبد الله بن المعتز " من أكثر مذاكرة العلماء لم ينس ما علم، واستفاد مالم يعلم".

1 انظر الجامع للخطيب (1/236-238) ، وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (1/101-104) .

2 المصدر السابق.

3 المصدر السابق.

4 المصدر السابق.

5 المصدر السابق.

6 الجامع للخطيب (2/264) .

7 الجامع للخطيب (2/264) .

ص: 67

- وعن عبد العزيز بن أبي حازم قال: قال لي أبي:"كان الناس فيما مضى من الزمان الأول إذا لقي الرجل من هو أعلم منه قال: اليوم يوم غُنمي، فيتعلم منه، وإذا لقي من هو مثله قال: اليوم يوم مذاكرتي فيذاكره، وإذا لقي من هو دونه علّمه ولم يَزْهُ عليه" قال: "حتى صار هذا الزمان، فصار الرجل يعيب من فوقه ابتغاء أن ينقطع منه حتى لا يرى الناسُ أن له إليه حاجة، وإذا لقي من هو مثله لم يذاكره، فهلك الناس عند ذلك"1.

هناك محاذير يجب على الطالب تجنبها 2 منها:

أ - يحذر في ابتداء أمره من الاشتغال بالخلافيات بين العلماء أو بين الناس مطلقاً في السمعيات أو العقليات، فإنه يحير الذهن، ويدهش العقل، بل عليه أن يتقن أولا كتاباً واحداً في فن واحد، أو كتباً في فنون إن كان يحتمل ذلك على طريقة يرتضيها له شيخه.

ب - يحذر في ابتداء طلبه من المطالعات في تفاريق المصنفات، فإنه يضيع زمانه، ويفرق ذهنه، بل يعطي الكتاب الذي يقرؤه أو الفن الذي يأخذه كليّته حتى يتقنه.

ج - وكذلك يحذر من التنقل من كتاب إلى كتاب، أو من شيخ إلى شيخ من غير موجب، فإنه علامة الضجر وعدم الفلاح.

أما إذا تحققت أهليته، وتأكدت معرفته فأولى أن لا يدع فناً من علوم الشريعة

1 الجامع للخطيب (2/276) .

هذا كلام أبي حازم سلمة بن دينار الأعرج الذي توفي في خلافة أبي جعفر المنصور، عن أهل زمانه، فكيف لو رأى أهل زماننا؟ ماذا سيقول رحمه الله؟

وعن صفة مذاكرة السلف ونماذج منها راجع حواشي تذكرة السامع والمتكلم (ص 143-146) .

2 عن هذه المحاذير وغيرها راجع تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة (ص 116-120) .

ص: 68

إلا نظر فيه، فإن ساعده القدر وطول العمر على التبحر فيه فذاك، وإلا فقد استفاد منه ما يخرج به من عداوة الجهل بذلك العلم.

د - يحذر من تقديم المهِمّ على الأهمّ بل الأهمّ ثم المهِمّ.

هـ - يحذر من الغفلة عن العمل الذي هو المقصود بالعلم.

و وليحذر من النظر إلى نفسه بعين الكمال والاستغناء عن المشايخ، فإن ذلك عين الجهل، وقلة المعرفة، وما يفوته أكثر مما حصله. وقد قال سعيد بن جبير رحمه الله:"لا يزال الرجل عالماً ما تعلّم، فإذا ترك التعلّم وظن أنه قد استغنى فهو أجهل ما يكون".

وقال ابن جماعة:

"لا يستنكف أن يستفيد ما لا يعلمه ممن هو دونه، بل يكون حريصاً على الفائدة حيث كانت، والحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها. وكان جماعة من السلف يستفيدون من طلبتهم ما ليس عندهم. قال الحُميدي - وهو تلميذ الشافعي -: صحبت الشافعي من مكة إلى مصر، فكنت أستفيد من المسائل، وكان يستفيد مني الحديث. وصح رواية جماعة من الصحابة عن التابعين"1.

وعن وكيع، وسفيان بن عيينة، وأبي عبد الله البخاري قالوا:

"لا يكون المحدث كاملاً أو الرجل عالماً حتى يحدث عمن هو فوقه، وعمن هو مثله، وعمن هو دونه"2.

ز - وليحذر الاشتغال بالغرائب والشواذ من العلم. قال عبد الرحمن بن مهدي: "لا يكون إماماً في العلم من أخذ بالشاذ من العلم"3.

1 التذكرة (ص 28-29) .

2 الجامع للخطيب (2/218) ؛ هدي الساري (ص 479) .

3 التمهيد (1/64) ؛ شرح علل الترمذي (1/411) .

ص: 69

وقال أحمد بن حنبل: "شر الحديث الغرائب التي لا يعمل بها، ولا يعتمد عليها"1.

متى يتصدَّر للتصنيف والتأليف:

قال ابن جماعة (ت 73هـ.) :

"فإذا كملت أهليته، وظهرت فضيلته، ومرّ على أكثر كتب الفن، أو المشهور منها بحثاً، ومراجعة، ومطالعة، اشتغل بالتصنيف وبالنظر في المذاهب، سالكاً الإنصاف فيما يقع له من الخلاف"2.

وقال أيضاً:

"والأولى أن يعتني بما يعم نفعه وتكثر الحاجة إليه، وليكن اعتناؤه بما لم يسبق إلى تصنيفه متحرياً إيضاح العبارة في تأليفه، معرضاً عن التطويل الممل، والإيجاز المخل مع إعطاء كل مصنف ما يليق به"3.

وقال الخطيب البغدادي (ت 463هـ.) :

"ينبغي أن يُفرِّغ المصنف للتصنيف قلبه، ويجمع له همَّه، ويصرف إليه شغله، ويقطع به وقته

".

ثم قال:

"ولا يضع من يده شيئاً من تصانيفه إلا بعد تهذيبه وتحريره، وإعادة تدبره وتكريره"4.

وقال أيضاً:

"قلَّ ما يتمهر في علم الحديث، ويقف على غوامضه، ويستثير الخفي من فوائده، إلا من جمع متفرقه، وألف مشتته، وضم بعضه إلى بعض، واشتغل بتصنيف أبوابه، وترتيب أصنافه، فإن ذلك الفعل مما يقوّي النفس، ويثبت الحفظ، ويذكي القلب، ويشحذ الطبع، ويبسط اللسان، ويجيد البيان،

1 شرح علل الترمذي (1/408) .

2 تذكرة السامع والمتكلم (ص 135) .

3 المصدر نفسه (ص 30) .

4 الجامع للخطيب (2/282، 283) .

ص: 70

ويكشف المتشبه، ويوضح الملتبس، ويكسب أيضاً جميل الذكر وتخليده إلى آخر الدهر" 1.

وقال ابن جماعة:

"الاشتغال بالتصنيف والجمع والتأليف - لكن مع تمام الفضيلة وكمال الأهلية - يُطلع على حقائق الفنون، ودقائق العلوم للاحتياج إلى كثرة التفتيش، والمطالعة، والتنقيب، والمراجعة، وهو كما قال الخطيب البغدادي: يثبت الحفظ، ويذكي القلب، يشحذ الطبع، ويجيد البيان، ويكسب جميل الذكر وجزيل الأجر، ويخلده إلى آخر الدهر"2.

1 المصدر نفسه (2/280) .

2 تذكرة السامع والمتكلم (ص 29-30) .

ص: 71