المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الملحق الأول: طريقة تعليم المتعلم، وإرشاد المعلم في تعليمه - من هدي السلف في طلب العلم

[محمد بن مطر الزهراني]

الفصل: ‌الملحق الأول: طريقة تعليم المتعلم، وإرشاد المعلم في تعليمه

‌الملحق الأول: طريقة تعليم المتعلم، وإرشاد المعلم في تعليمه

(كما يراها ابن خلدون، وابن بدران، وابن باديس)

أولاً: طريقة تعليم المتعلم

1-

قال عبد الرحمن بن محمد بن خلدون (ت 808هـ.) :

"اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيداً إذا كان على التدريج شيئاً فشيئاً، وقليلاً قليلاً. يُلقى عليه أولاً مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب، ويقرب له شرحها على سبيل الإجمال، ويراعى في ذلك قوة ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلا أنها جزئية وضعيفة، وغايتها أنها هيأتها لفهم الفن وتحصيل مسائله. ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها، ويستوفي الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال، ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه، وإلى أن ينتهي إلى آخر الفن، فتجود ملكته، ثم يرجع به وقد شدَّ فلا يترك عويصاً ولا مهماً ولا مغلقاً إلا وضّحه وفتح له مقفله، فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته" 1 ثم قال: "هذا وجه التعليم المفيد، وهو كما رأيت إنما يحصل في

1 في كتاب المدخل إلى مذهب الإمام أحمد في العقد السابع في ذكر الكتب المشهورة في المذهب قال المؤلف رحمه الله (ص 233) : "وذلك أن موفق الدين ابن قدامة (ت 620هـ.) راعى في مؤلفاته أربع طبقات: فصنف "العمدة" للمبتدئين، ثم ألف "المقنع" لمن ارتقى عن درجتهم ولم يصل إلى درجة المتوسطين، فلذلك جعله عرياً عن الدليل والتعليل، غير أنه يذكر الروايات عن الإمام ليجعل لقارئه مجالاً إلى كد ذهنه ليتمرن على التصحيح. ثم صنف للمتوسطين "الكافي"، وذكر فيه كثيراً من الأدلة لتسمو نفس قارئه إلى درجة الاجتهاد في المذهب حينما يرى الأدلة وترتفع نفسه إلى مناقشتها، ولم يجعلها قضية مسلمة. ثم ألف "المغني" لمن ارتقى درجة عن المتوسطين، وهناك يطلع قارئه على الروايات وعلى خلاف الأئمة وعلى كثير من أدلتهم، على ما لهم وما عليهم من الأخذ والرد، فمن كان فقيه النفس حينئذٍ مرّن نفسه على السمو إلى الاجتهاد المطلق إن كان أهلاً لذلك وتوفرت فيه شروطه

، فهذه هي مقاصد ذلك الإمام في مؤلفاته الأربع، وذلك ظاهر من مسالكه لمن تدبرها".

ص: 73

ثلاث تكرارات، وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك" 1.

2 -

قال عبد القادر بن أحمد بن بدران (ت 1346هـ.) :

"واعلم أن للمطالعة وللتعليم طرقاً ذكرها العلماء، وإننا نثبت هنا ما أخذناه بالتجربة، ثم نذكر بعضاً من طرقهم لئلا يخلو كتابنا هذا من هذه الفوائد. إذا تمهد هذا فاعلم أننا اهتدينا بفضله تعالى أثناء الطلب إلى قاعدة، وهي أننا كنا نأتي إلى المتن أولاً، فنأخذ منه جملة كافية للدرس، ثم نشتغل بحل تلك الجملة من غير نظر إلى شرحها، ونزاولها حتى نظن أننا فهمناها، ثم نقبل على الشرح فنطالعه المطالعة الأولى امتحاناً لفهمنا، فإن وجدنا فيما فهمناه غلطاً صححناه، ثم أقبلنا على تفهّم الشرح على نمط ما فعلناه في المتن، ثم إذا ظننا أننا فهمناه راجعنا حاشيته إن كان له حاشية مراجعة امتحان لفكرنا، فإذا علمنا أننا فهمنا الدرس تركنا الكتاب واشتغلنا بتصوير مسائله في ذهننا فحفظناه حفظ فهم وتصور، لا حفظ تراكيب وألفاظ. ثم نجتهد على أداء معناه بعبارات من عندنا غير ملتزمين تراكيب المؤلف، ثم نذهب إلى الأستاذ للقراءة. وهناك نمتحن فكرنا في حل الدرس، نقوّم ما عساه أن يكون من اعوجاج، ونوفر الهمة على ما يورده الأستاذ مما هو زائد على المتن والشرح. وكنا نرى أن من قرأ كتاباً واحداً من فن على هذه الطريقة سَهُلَ عليه جميع كتب هذا الفن مختصراتها ومطولاتها، وثبتت قواعده في ذهنه"2.

1 مقدمة ابن خلدون، الفصل التاسع والعشرون (ص 533) .

2 المدخل إلى مذهب الإمام أحمد (267-268) .

ص: 74

3 -

قال الشيخ عبد الحميد بن باديس (ت 1359هـ.) :

"فهم قواعد العلم وتطبيقها حتى تحصل ملكة استعمالها، هذا هو المقصود من الدرس على الشيوخ، فأما توسيع دائرة الفهم والاطلاع فإنما يتوصل إليها الطالب بنفسه بمطالعته للكتب ومزاولته للتقرير والتحرير. ثم إن الدروس إنما تحصل فيها قواعد بعض العلوم، وتبقي فنون كثيرة من فنون العلم يصل إليها الطالب بمطالعته بنفسه وحده، أو مع بعض رفاقه، فلا ينتهي من مدة دراسته العلمية في الدروس إلا وقد اتسع نطاق معلوماته بفنون كثيرة. ونرى الطلاب اليوم في أكبر المعاهد - كالزيتونة - لا يخرج الطالب عن كتبه الدراسية إلى مطالعة شيء بنفسه مما يكسبه علماً أو خبرةً بالحياة، فيخرج الطالب بعد تحصيل الشهادة وهو غريب عن الحياة. فعلى الطلبة والمتولين أمر الطلبة أن يسيروا على خطة التحصيل الدرسي، والتحصيل النفسي ليقتصدوا في الوقت ويتسعوا في العلم، ويوسعوا نطاق التفكير"1.

ثانياً: إرشاد المعلم في تعليمه:

1-

عن ذلك يقول ابن خلدون:

"وقد شاهدنا كثيراً من المعلمين في هذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفادته، ويُحْضِرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم، ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها، ويَخلِطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها، وقبل أن يستعد لفهمها. فإن قبول العلم والاستعداد لفهمه تنشأ تدريجياً، ويكون المتعلم أول الأمر عاجزاً عن الفهم بالجملة إلا في الأقل، وعلى سبيل التقريب والإجمال والأمثال الحسية. ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلاً قليلاً بمخالفة مسائل ذلك الفن وتكرارها عليه، وإذا ألقيت عليه الغايات في البداءات وهو حينئذٍ عاجز عن الفهم والوعي،

1 ابن باديس، حياته وآثاره، للدكتور عمار الطالبي (4/203) .

ص: 75

وبعيد عن الاستعداد له كَلَّ ذهنه عنها وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه، فتكاسل عنه وانحرف عن قبوله، وتمادى في هجرانه، وإنما أتى ذلك من سوء التعليم" 1.

2 -

ويرى الشيخ عبد القادر بن بدران أن من أسباب تنفير الطالب من العلم:

الجهل بطرق التعليم فيقول: "وهذا وقع فيه غالب المعلّمين، فتراهم يأتي إليهم الطالب المبتدئ ليتعلم النحو مثلاً فيشغلونه بالكلام على البسملة، ثم على الحمدلة أياماً بل شهوراً ليوهموه سعة مداركهم، وغزارة علمهم. ثم إذا قدر له الخلاص من ذلك أخذوا يلقنونه متناً أو شرحاً بحواشيه وحواشي حواشيه. ويحشرون له خلاف العلماء، ويشغلونه بكلام من رد على القائل، وما أجيب به عن الرد، ولا يزالون يضربون له على ذلك الوَتَر حتى يرتكز في ذهنه أن نوال هذا الفن من قبيل الصعب الذي لا يوصل إليه"2.

ثم ذكر صنفاً آخر من المعلمين على عكس الصنف السابق، وهم من أنزل نفسه منزلة العلماء المحققين وجلس للتعليم، فيأتيه الطالب بكتاب مطول أو مختصر، فيتلقاه منه سرداً لا يفتح له منه مغلقاً ولا يحل له طلسماً فإذا سأله ذلك الطالب المسكين عن مشكل انتفخ أنفُه وورم، وقابله بالسب والشتم، وأشاع عنه أنه يطلب الاجتهاد.

ثم قال: "ومن هؤلاء من يقول: إنما نقرأ الكتب للتبرك بمصنفيها!!

" 3.

3 -

قال ابن خلدون أيضاً: "ولا ينبغي للمعلم أن يزيد متعلمه على فهم كتابه

1 انظر: الفصل التاسع والعشرين من مقدمة ابن خلدون (ص 533-534) .

2 انظر: المدخل إلى مذهب الإمام أحمد (ص 265) .

3 المصدر السابق (ص 265) .

ص: 76

الذي أكبَّ على التعلم منه بحسب طاقته، وعلى نسبة قبوله للتعليم، مبتدئاً كان أو منتهياً. ولا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتى يعيه من أوله إلى آخره، ويحصِّل أغراضه ويستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره، لأن المتعلم إذا حصّل ملكة ما في علم من العلوم استعد بها لقبول ما بقي، وحصل له نشاط في طلب المزيد والنهوض إلى ما فوق، حتى يستولي على غايات العلم. وإذا خُلِطَ عليه الأمر عجز عن الفهم، وأدركه الكلال، وانطمس فكره ويئس من التحصيل، وهجر العلم والتعليم، والله يهدي من يشاء".

ثم قال: "وكذلك ينبغي لك أن لا تطول على المتعلم في الفن الواحد بتفريق المجالس، وتقطيع ما بينها لأنه ذريعة إلى النسيان، وانقطاع مسائل الفن بعضها من بعض، فيعسر حصول الملكة بتفريقها

، ومن المذاهب الجميلة والطرق الواجبة في التعليم أن لا يُخلَط على المتعلم علمان معاً، فإنه قلّ أن يظفر بواحد منهما، لما فيه من تقسيم البال، وانصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر فيستغلقان معاً

وإذا تفرغ الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصراً عليه، فربما كان ذلك أجد لتحصيله والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب" 1.

4 -

يرى الشيخ عبد القادر بن بدران أن الواجب على المعلم إذا أراد إقراء المبتدئين أن يقرئهم متناً مختصراً، ويشرح لهم ذلك المتن بلا زيادة ولا نقصان، بحيث يفهم ما اشتمل عليه، وأن يصور مسائله في ذهنه، ولا يشغله بما زاد على ذلك.

ثم ذكر عن شيخه محمد بن عثمان الحنبلي المعروف بخطيب دوما (ت 1308هـ.) أنه قال:

"لا ينبغي لمن يقرأ كتاباً أن يتصور أنه يريد قراءته مرة ثانية،

1 انظر: مقدمة ابن خلدون (ص 534) .

ص: 77

لأن هذا التصور يمنعه عن فهم جميع الكتاب، بل يتصور أنه لا يعود إليه مرة ثانية أبداً".

وكان يقول: "كل كتاب يشتمل على مسائل ما دونه وزيادة فحقق مسائل ما دونه لتوفر جدك على فهم الزيادة" اه.

ثم قال: "ولما أخذت نصيحته مأخذ القبول لم أحتج في القراءة على الأساتذة في العلوم والفنون إلى أكثر من ست سنين، فجزاه الله خيراً

" 1.

5 -

وقال رحمه الله: "ثم إن الأولى في تعليم المبتدئ أن يجنبه أستاذه عن إقرائه الكتب الشديدة الاختصار العسِرة على الفهم ك- "مختصر الأصول" لابن الحاجب، و"الكافية" له في النحو، لأن الاشتغال بمثل هذين الكتابين المختصرين إخلال بالتحصيل لما فيهما وفي أمثالهما من التخليط على المبتدئ بإلقاء الغايات من العلم عليه، وهو لم يستعد لقبولها بعد، وهو من سوء التعليم. ثم فيه مع ذلك شغل كبير على المتعلم بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتزاحم المعاني عليها وصعوبة استخراج المسائل من بينها، فينقطع في فهمها حظ صالح من الوقت

".

ثم قال: "وحاصل الأمر أن الأستاذ ينبغي أن يكون حكيماً يتصرف في طرق التعليم بحسب ما يراه موافقاً لاستعداد المتعلم، وإلا ضاع الوقت بقليل من الفائدة، وربما لم توجد الفائدة أصلاً. وطرق التعليم أمر ذوقي، وأمانة مودعة عند الأساتذة، فمن أداها أثيب على أدائها، ومن جحدها كان مطالباً بها"2.

6 -

قال الشيخ عبد الحميد بن باديس (ت 1359هـ.) : "أغلب المعلمين في

1 انظر: المدخل إلى مذهب الإمام أحمد (ص 266) .

2 المصدر السابق (ص 268-269) .

ص: 78

المعاهد الإسلامية الكبرى كالأزهر لا يتصلون بتلامذتهم، إلا اتصالاً عاماً لا يتجاوز أوقات التعليم، فيتخرج التلامذة في العلوم والفنون، لكن بدون تلك الروح الخاصة التي ينفخها المعلم في تلميذه - إذا كان للمعلم روح - ويكون لها الأثر البارز في أعماله العلمية في سائر حياته. فعلى المعلم الذي يريد أن يكوّن من تلامذته رجالاً أن يشعرهم - واحداً واحداً - أنه متصل بكل واحد منهم اتصالاً خاصاً زيادة على الاتصال العام، وأن يصدق لهم هذا بعنايته خارج الدرس بكل واحد منهم عناية خاصة في سائر نواحي حياته حتى يشعر كل واحد منهم أنه في طور تربية وتعليم، في كفالة أب روحي يعطف عليه ويُعنى به مثل أبيه أو أكثر" 1.

1 ابن باديس، حياته وآثاره، للدكتور عمار الطالبي (4/202) .

ص: 79