الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول: أُسس منهج طلب العلم عند السلف
…
أسس منهج طلب العلم عند السلف
أولاً: أول العلم النية
قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 1.
وقال سبحانه وتعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً} 3.
وروى الإمام محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256هـ.) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه"4.
وروى الإمام مسلم بن الحجاج (ت 261هـ.) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: "إن أول من تُسَعَّرُ بهم النار يوم القيامة ثلاثة، فذكرهم وذكر منهم رجلاً تعلّم العلم وعلّمه وقرأ القرآن، فأُتي به فعرَّفه نعمه فعَرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلّمتُ العلمَ وعلَّمتُه وقرأتُ فيك القرآن. قال: كذبتَ، ولكنك تعلمتَ العلمَ ليقال: عالم، وقرأتَ القرآنَ ليقال: هو قارئ، فقد قيل. ثم أُمر به فسُحِب على وجهه حتى أُلقي في النار
…
" الحديث 5.
1 سورة البينة، آية رقم 5.
2 سورة الشورى، آية رقم 20.
3 سورة الإسراء، آية رقم 18.
4 رواه البخاري في صحيحه كتاب بدء الوحي، الحديث الأول. ورواه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب "إنما الأعمال بالنيات"(3/1515 ح 155) .
5 رواه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار (3/1514 ح 152) .
وروى الحافظ أبو عبد الله بن ماجه في مقدمة سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "من تعلّم العلم مما يُبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب عَرَضاً من الدنيا، لم يجد عَرف الجنة يوم القيامة" يعني ريحها 1.
وأخرج بإسناده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "لا تتعلّموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا تخيّروا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار"2.
وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي (ت 463هـ.) : "يجب على طالب الحديث أن يخلص نيته في طلبه، ويكون قصده بذلك وجه الله سبحانه وتعالى".
وقال أيضاً: "وليحذر أن يجعله سبيلاً إلى نيل الأعراض وطريقاً إلى أخذ الأعواض، فقد جاء الوعيد لمن ابتغى ذلك بعلمه،
…
". ثم قال: "وليتق المفاخرة والمباهاة به، وأن يكون قصده نيل الرئاسة واتخاذ الأتباع وعقد المجالس، فإن الآفة الداخلة على العلماء أكثرها من هذا الوجه".
وقال أيضاً: "وليجعل حفظه للحديث حفظ رعاية لا حفظ رواية، فإن رواة العلوم كثير، ورعاتها قليل، ورب حاضر كالغائب وعالم كالجاهل وحامل
1 سنن ابن ماجه، باب الانتفاع بالعلم والعمل به (1/92 ح 252) . ورواه الإمام أحمد في مسنده (2/338) ، وأبو داود في سننه، كتاب العلم، باب في طلب العلم لغير الله (4/71 ح 3464) . وإسناده صحيح.
2 سنن ابن ماجه، المقدمة، باب الانتفاع بالعلم والعمل به (1/93 ح 254) . قال في الزوائد: رجال إسناده ثقات. ورواه ابن حبان في صحيحه (موارد الظمآن ص 51 ح 90، باب النية في طلب العلم) ؛ والحاكم في مستدركه (1/85-86) أول كتاب العلم مرفوعاً وموقوفاً.
للحديث ليس معه منه شيء
…
"، ثم ذكر عن الحسن البصري (ت 110هـ.) قوله: "همة العلماء الرعاية وهمة السفهاء الرواية" 1.
قال بدر الدين بن جماعة (ت 733هـ.) : "يجب أن يقصد المعلم بتعليم طلبته وتهذيبهم وجه الله تعالى، ونشر العلم وإحياء الشرع ودوام ظهور الحق وخمول الباطل، واغتنام ثوابهم وثواب من ينتهي إليه علمه، وبركة دعائهم له وترحمهم عليه، ودخوله في سلسلة العلم بين رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبينهم، وعداده في جملة مبلَّغي وحي الله وأحكامه، قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إن الله تعالى وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جُحرها يصلون على معلم الناس الخير" 2.
وقال رحمه الله: "كان علماء السلف الناصحون لله ودينه يلقون شبك الاجتهاد لصيد طالب ينتفع الناس به في حياتهم ومن بعدهم، ولو لم يكن للعالم إلا طالب واحد ينفع الناس بعلمه وعمله وهديه وإرشاده لكفاه ذلك الطالب عند الله تعالى؛ فإنه لا يتصل شيء من عمله إلى أحد فينتفع به إلا كان له نصيب من الأجر، كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إذا مات العبد انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" وإذا نظرت وجدت معاني الثلاثة موجودة في معلم العلم" اه. ملخصاً 3.
1 الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/81-85، باب النية في طلب الحديث) . وكلام الحسن في (ص 91) ، وهو أيضا في جامع بيان العلم لابن عبد البر (2/6) .
2 انظر تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم (ص 47) .
والحديث أخرجه الإمام أبو عيسى الترمذي عن أبي أمامة الباهلي في كتاب العلم من جامعه، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، وقال:"هذا حديث حسن صحيح غريب" كما في تحفة الأشراف للحافظ المزي (4/177؛ وتحفة الأحوذي للمباركفوري 3/382) .
3 المصدر السابق (ص 63) ، والحديث رواه مسلم في الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته (3/1255 ح 14) .
وقال أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري المعروف بابن الصلاح (ت 643هـ.) : "علم الحديث علم شريف يناسب مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وينافر مساوئ الأخلاق ومشاني الشيم، وهو من علوم الآخرة لا من علوم الدنيا، فمن أراد التصدي لإسماع الحديث أو لإفادة شيء من علومه، فليقدم تصحيح النية وإخلاصها، وليطهر قلبه من الأغراض الدنيوية وأدناسها، وليحذر بلية حب الرئاسة ورعوناتها"1.
وقال الشيخ عبد الحميد بن باديس: "غاية العالم المسلم أن يهتدي في نفسه وأن يهدي غيره، أما أكثر الطلاب فمنهم من تكون غايتهم الوظيفة، فهم غفلة من أنفسهم وعن غيرهم، ومنهم من تكون غايته أن ينال الشهادة بالعلم، فهو مثل الأول، فأما الغاية الحقيقية التي ذكرنا فما أقل أهلها لأنها لا ذكر لها في برامج التعليم، ولا اهتمام بها من المعلمين. وحق على كل طالب أن تكون هي غايته، وهو مع ذلك نائل العلم ونائل ما يؤهله للوظيفة إن أبى إلا أن تكون الوظيفة من قصده، ولكنه بالقصد إلى تلك الغاية يكون عاملاً في أثناء تعلمه على تهذيب نفسه، ويكون مصدر هداية الناس في المستقبل، لكن هذا إنما يتم للطالب إذا كان شيوخه يهتمون بهذه الغاية، ويعملون لها، ويوجهون تلامذتهم لها. وما أعز هذا الصنف من الشيوخ"2.
1 علوم الحديث، النوع السابع والعشرون (ص 213) .
2 ابن باديس لعمار الطالبي (4/203-204) .
ثانياً: منازل العلم (*)
أخرج أبو عمر بن عبد البر النمري القرطبي (ت 463هـ.) بسنده إلى علي بن الحسن بن شقيق قال: سمعت عبد الله بن المبارك (ت 181هـ.) يقول: "أول العلم النية، ثم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر"1.
وبسنده إلى عبد الرحمن بن مهدي عن محمد بن النضر الحارثي قال: "أول العلم الاستماع، قيل ثم ماذا؟ قال: الحفظ، قيل ثم ماذا؟ قال: العمل، قيل ثم ماذا؟ قال: النشر"2.
وبسنده أيضاً إلى سفيان بن سعيد الثوري (ت 161هـ.) قال: "كان يُقال: أول العلم الصمت، ثم الاستماع له، ثم حفظه، ثم العمل به، ثم نشره وتعليمه"3.
وأخرج أبو نعيم الأصبهاني (ت 430هـ.) بسنده إلى سفيان الثوري قال: "ليس عمل بعد الفرائض أفضل من طلب العلم"4.
وعن عبد الملك بن قريب الأصمعي (ت 216هـ. أو بعدها) قال: "أول العلم الصمت، والثاني: حسن الاستماع، والثالث: جودة الحفظ، والرابع: احتواء العلم، والخامس: إذاعته ونشره".
وعن الضحاك بن مزاحم (ت 106هـ.) قال: "أول باب من العلم: الصمت، والثاني استماعه، والثالث: العمل به، والرابع: نشره وتعليمه"5.
(*) هذا العنوان مقتبس بنصه من كتاب جامع بيان العلم وفضله، للحافظ ابن عبد البر (1/118) ، ومعظم فقراته منقول منه كما في الحواشي الآتية.
1 انظر جامع بيان العلم وفضله (1/118) .
2 المصدر السابق (1/118) ؛ وانظر الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب (1/194) .
3 جامع بيان العلم (1/118) ؛ حلية الأولياء لأبي نعيم (6/362-363) .
4 حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني (6/362-363) .
5 الجامع للخطيب البغدادي (1/194) .
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب (ت 1206هـ.) رحمه الله في مطلع رسالة الأصول الثلاثة: "اعلم - رحمك الله - أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل: الأولى: العلم، وهو معرفة الله ومعرفة نبيه ومعرفة دين الإسلام بالأدلة. الثانية: العمل به. الثالثة: الدعوة إليه. الرابعة: الصبر على الأذى فيه. والدليل قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنسانَ لَفِي خُسرٍ إِلَاّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَواَصَواْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَواْ بِالصَّبْرِ} "1.
قال ابن القيم رحمه الله (ت 751هـ.) : "
…
والعلم ست مراتب: أولها: حسن السؤال. الثانية: حسن الإنصات والاستماع. الثالثة: حسن الفهم. الرابعة: الحفظ. الخامسة: التعليم. السادسة: وهي ثمرته، وهي العمل به، ومراعاة حدوده. فمن الناس من يحرمه لعدم سؤاله، إما لأنه لا يسأل بحال، أو يسأل عن شيء وغيره أهم إليه منه، كمن يسأل عن فضوله التي لا يضر جهله بها، ويدع ما لا غنى له عن معرفته، وهذا حال كثير من الجهال المتعلمين.
ومن الناس من يحرمه لسوء إنصاته، فيكون الكلام والمماراة آثر عنده وأحب إليه من الإنصات، وهذه آفة كامنة في أكثر النفوس الطالبة للعلم، وهي تمنعه علماً كثيراً، ولو كان حَسَنَ الفهم.
ذكر ابن عبد البر عن بعض السلف أنه قال: من كان حَسَنَ الفهم، رديئَ الاستماع لم يقم خيره بشره.
وذكر عبد الله بن أحمد في كتاب العلل له قال: كان عروة بن الزبير يحب مماراة ابن عباس، فكان يخزن علمه عنه، وكان عبيد الله بن عبد الله بن عتبة يلطف له في السؤال فيعزه بالعلم عزاً" اه. 2.
1 وانظر زاد المعاد لابن القيم (3/10) ، فقد فصل القول في هذه المسائل الأربع.
2 مفتاح دار السعادة (1/202) .
ثالثاً: الأدب قبل الطلب
اشتهر عند السلف إرسال الصبيان عند بلوغهم سنّ التمييز إلى مؤدب، يُحفّظهم القرآن ويُعلّمهم مبادئ القراءة والكتابة ويشرف على تأديبهم وتربيتهم وتعليمهم السمت والهدي والخلق الحسن، فإذا بلغوا سنَّ التكليف أحضرهم مجالس بعض العلماء ليقتدوا بهم في السمت والهدي والعبادة والعمل، ثم بعد ذلك يخرجهم إلى حلقات العلم.
وقد أُطلق لقب "مؤدب" على جماعة ممن تفرغ لتأديب الصبيان، وعُرف بذلك.
قال أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري (ت 161هـ.) :
"كانوا لا يخرجون أبناءهم لطلب العلم حتى يتأدبوا ويتعبدوا عشرين سنة"1.
وقال عبد الله بن المبارك (ت 181هـ.) :
"طلبت الأدب ثلاثين سنة، وطلبت العلم عشرين سنة، وكانوا يطلبون الأدب ثم العلم"2.
وقال أيضاً: "كاد الأدب يكون ثلثي العلم"3.
وأخرج الخطيب في الجامع بسنده إلى مالك بن أنس قال: قال محمد بن سيرين (ت 110هـ.) :
"كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم"4.
وبسنده إلى إبراهيم بن حبيب الشهيد (ت 203هـ.) قال: قال لي أبي: "يا بُني إيت الفقهاء والعلماء، وتعلّم منهم وخُذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم، فإن
1 انظر حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني (6/316) .
2 غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري (1/446) .
3 صفة الصفوة لابن الجوزي (4/120) .
4 الجامع لأخلاق الراوي آداب السامع (1/79) .
ذاك أحب إليَّ لك من كثير من الحديث" 1.
وبسنده أيضاً إلى عبد الله بن المبارك قال: قال لي مخلد بن الحسين (ت 191هـ.) :
"نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث"2.
وعن أبي زكريا يحيى بن محمد العنبري (ت 344هـ.) قال: "علم بلا أدب كنار بلا حطب، وأدب بلا علم كجسم بلا روح"3.
وعن عيسى بن حماد زغبة (ت 248هـ.) قال: سمعت الليث بن سعد (ت 175هـ.) يقول - وقد أشرف على أصحاب الحديث فرأى منهم شيئاً -: "ما هذا؟ أنتم إلى يسير من الأدب أحوج منكم إلى كثير من العلم"4.
وقال سفيان بن عيينة (ت 198هـ.) : نظر عبيد الله بن عمر (ت 147هـ.) إلى أصحاب الحديث وزحامهم فقال: "شنتم العلم وذهبتم بنوره، لو أَدْركَنا وإياكم عمرُ بن الخطاب لأوْجَعَنا ضرباً"5.
وعن محمد بن عيسى الزجاج قال:
"سمعت أبا عاصم يقول: من طلب هذا الحديث فقد طلب أعلى أمور الدنيا، فيجب أن يكون خير الناس"6.
قال الخطيب البغدادي:
"وقد رأيت خلقاً من أهل هذا الزمان ينتسبون إلى الحديث، ويَعُدُّون أنفسهم من أهله المختصين بسماعه ونقله، وهم أبعد الناس مما يَدّعون، وأقلُّهم معرفة بما إليه ينتسبون. يرى الواحد منهم إذا كتب عدداً قليلاً من
1 المصدر السابق (1/80) .
2 المصدر السابق (1/80) .
3 انظر الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي (1/80) ؛ وأدب الإملاء للسمعاني (ص 2) .
4 انظر شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي (ص 122) .
5 المصدر السابق (ص 123) .
6 انظر الجامع للخطيب (1/78) .
الأجزاء، واشتغل بالسماع برهة يسيرة من الدهر، أنه صاحب حديث على الإطلاق، ولمّا يجهد نفسه ويتعبها في طلابه، ولا لحقتْهُ مشقة الحفظ لصنوفه وأبوابه".
وقال: "وهم مع قلة كَتْبِهم له وعدم معرفتهم به، أعظم الناس كبراً وأشد الخلق تيهاً وعُجْباً، ولا يراعون لشيخ حرمة، ولا يوجبون لطالب ذمة، يخْرقون - يجهلون - بالراوين ويعنّفون على المتعلمين، خلاف ما يقتضيه العلم الذي سمعوه، وضد الواجب مما يلزمهم أن يفعلوه
…
" اه. ملخصاً 1.
هذا كلام الخطيب البغدادي الذي عاش ما بين عامي 392هـ. و463هـ. في بعض محدثي أهل زمانه فماذا سيقول لو أدرك زماننا اليوم مطلع القرن الخامس عشر الهجري، كم من منتسب للعلم اليوم وليس من أهله ومتصدر للتدريس والفتوى وهو ليس من أهل ذلك الشأن، وكم من سالٍّ لسانه وقلمه ولمّا يحط علمه ببعض مسائل العلم فضلاً عن كثير منها، فادعى علم ما لم يعلم وإحسان ما لم يحسن، ورمى غيره بما هو أولى به منه، فإلى الله المشتكى وعند الله تجتمع الخصوم.
رابعاً: اقتران العلم بالعمل
قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} 2.
وفي صحيح الإمام مسلم 3 عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول:
"يُؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق
1 الجامع (1/75، 77) .
2 سورة الصف، آية 2، 3.
3 كتاب الزهد، باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يأتيه
…
(4/2290 ح 51) ، وهو في البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة النار (الفتح 6/331 ح 3267) .
أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرَّحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان، ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى قد كنتُ آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه".
وأخرج الخطيب البغدادي بسنده عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم:
"لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسألَ عن أربعٍ: عن عُمُره فيمَ أفناه، وعن علمه ماذا عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وعن جسمه فيمَ أبلاه"1.
وأخرج أبو محمد الدارمي (ت 255هـ.) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "كيف أنتم إذا لبستكم فتنةٌ يهرم فيها الكبير، ويربوا فيها الصغير، ويتخذها الناس سنة فإذا غيرت قالوا: غيرت السنة؟ قالوا: ومتى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: إذا كثُر قرَّاؤُكم وقلّت فقهاؤُكم، كثُرت أُمراؤكم وقلّت أُمناؤُكم، والتُمست الدنيا بعمل الآخرة"2.
وقال الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري (ت 125هـ.) :
"إن للعلم غوائل، فمن غوائله أن يترك العمل به حتى يذهب، ومن غوائله النسيان، ومن غوائله الكذب فيه، وهو شر غوائله"3.
وقال الإمام عامر بن شراحيل الشعبي (ت 103هـ.) :
"كنا نستعين على حفظ
1 انظر اقتضاء العلم العمل (ص 16 ح 1) . والحديث أخرجه الترمذي في كتاب القيامة، الباب الأول، (4/611 ح 2417)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه أيضاً الحافظ أبو محمد الدارمي في مقدمة سننه (ص 110 ح 543) .
2 سنن الدارمي، المقدمة باب تغيير الزمان وما يحدث فيه (ص 58 ح 91، 92) . وانظر جامع بيان العلم لابن عبد البر (1/188) .
3 جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (1/107-108) .
الحديث بالعمل به، وكنا نستعين على طلبه بالصوم" 1.
وعن أبي قِلابَة عبد الله بن زيد الجَرْمي (ت 104هـ.) قال:
"يا أيوب - يعني ابن أبي تميمة السختياني (ت 131هـ.) - إذا أحدث الله لك علماً فأَحْدِث له عبادة، ولا يكن همك أن تحدّث به"2.
وعن الحسن البصري (ت 110هـ.) قال:
"كان الرجل يطلب العلم فلا يلبث أن يُرى ذلك في تخشّعه وهديه ولسانه ويده"3.
وقال سفيان الثوري (ت 161هـ.) :
"يهتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل"4.
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن المبارك: سُئل سفيان الثوري: طلب العلم أحب إليه أو العمل؟ فقال: "إنما يراد العلم للعمل، فلا تدع طلب العلم للعمل، ولا تدع العمل لطلب العلم"5.
وعن المرُّوذي، قال: قال لي أحمد:
"ما كتبت حديثاً عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا وقد عملت به، حتى مرّ بي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم احتجم وأعطى أبا طيبة الحجّام ديناراً، فاحتجمتُ وأعطيتُ الحجّام ديناراً"6.
1 المصدر السابق (2/11) . وورد نحوه عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمّع. انظر الجامع للخطيب (2/258-259) .
2 المصدر السابق (1/188؛ 2/10) ؛ واقتضاء العلم العمل للخطيب (ص 34-35 رقم 38) .
3 الزهد لعبد الله بن المبارك (ص 26 رقم 79) ؛ وسنن الدارمي (1/89 رقم 391) ؛ وجامع بيان العلم لابن عبد البر (1/60، 127) . وزاد الدارمي وابن عبد البر: "
…
وصلاته وزهده".
4 جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/10) ؛ اقتضاء العلم العمل (35-36 رقم 40، 41) لكنه عزاه فيه إلى علي بن أبي طالب، وابن المنكدر.
5 حلية الأولياء (7/12) . وعزاه في اقتضاء العلم العمل (ص 37 رقم 44) إلى الفضيل بن عياض.
6 الجامع للخطيب (1/144 رقم 184) ؛ وسير أعلام النبلاء (11/213) ؛ وشرح التبصرة للعراقي (2/228) ؛ وفتح المغيث للسخاوي (3/284) .
قال الحافظ ابن الصلاح (ت 643هـ.) : ورُوينا عن وكيع قال: "إذا أردت أن تحفظ الحديث فاعمل به"1.
وأخرج ابن عبد البر بسنده إلى سفيان الثوري قال: "العلماء إذا علموا عملوا، فإذا عملوا شُغِلو، فإذا شُغِلوا فُقِدوا، فإذا فُقِدوا طُلبوا، فإذا طُلبوا هربوا"2.
وعن حبيب بن حجر القيسي قال:
"كان يُقال: ما أحسن الإيمان ويزينه العلم، وما أحسن العلم ويزينه العمل، وما أحسن العمل ويزينه الرفق، وما أضيف شيء إلى شيء مثل حلم إلى علم"3.
وأخرج ابن عبد البر بسنده إلى علقمة عن ابن مسعود قال:
"ما استغنى أحد بالله إلا احتاج إليه الناس، وما عمل أحد بما علّمه الله إلا احتاج الناس إلى ما عنده"4.
وقال عمرو بن قيس الملائي (ت بعد 140هـ.) :
"إذا بلغك شيء من الخير فاعمل به ولو مرة تكن من أهله"5.
وعن أبي عصمة عاصم بن عصام البيهقي قال: "بتُّ ليلة عند الإمام أحمد،
1 علوم الحديث (ص 223) .
2 جامع بيان العلم لابن عبد البر (2/8) . ثم عقب على كلام الثوري بقول بشر بن الحارث: "إنما يراد من العلم العمل. اسمع، وتعلّم، وعلّم واهرب. ألم تر إلى سفيان كيف طلب العلمَ فعلِم وعلَّم وهرب. وهكذا العلم إنما يدل على الهرب عن الدنيا ليس على طلبها".
3 انظر: المعرفة والتاريخ للفسوي (3/505) ؛ والجامع للخطيب (1/94) ، وجامع ابن عبد البر (1/126) .
4 جامع بيان العلم لابن عبد البر (2/10) .
5 الحلية لأبي نعيم الأصبهاني (5/102) ؛ الجامع للخطيب (1/144) ، وعلوم الحديث لابن الصلاح (ص 123) .
فجاء بالماء فوضعه، فلما أصبح نظر إلى الماء فإذا هو كما كان، فقال: سبحان الله رجل يطلب العلم لا يكون له وِرد بالليل" 1.
وقال الخطيب البغدادي:
"ينبغي لطالب العلم والحديث أن يتميز في عامة أموره عن طرائق العوام باستعمال آثار الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما أمكنه، وتوظيف السنة على نفسه، فإن الله تعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} 2"3.
هكذا كان هدي السلف الصالح ومنهجهم في طلب العلم: إنما هو لبلوغ رضوان الله بامتثال أمره واجتناب نهيه. لذلك كان لا يلبث الرجل منهم إذا طلب العلم أن يُرى أثر ذلك في هديه وسمته وتخشعه وعبادته. وكانوا سريعي الاستجابة، حريصين على الامتثال. فعندما يبلغ أحدهم سنةٌ عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يُبادر إلى العمل والالتزام بها؛ كما كانوا حريصين على الفقه في الدين والاستزادة من العلم النافع والعمل الصالح في كل يوم وكل لحظة. وقدوتهم في ذلك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي كان من دعائه في جوف الليل:"اللهم انفعني بما علّمتَني وعلِّمني ما ينفعني وزدني علماً"4.
قال إبراهيم الحربي: "لقد صحِبتُ أحمد بن حنبل عشرين سنة: صيفاً وشتاءً، حراًّ وبرداً، ليلاً ونهاراً فما لقيته لَقَاةً في يوم إلا هو زائد عليه بالأمس"5.
1 المدخل للبيهقي (ص 330) ؛ الجامع للخطيب (1/143) ؛ سير أعلام النبلاء (11/298) .
2 سورة الأحزاب، أية 21.
3 الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/142) .
4 رواه الترمذي من حديث أبي هريرة في الزهد، باب في العفو والعافية، رقم 3599. وهو في المستدرك عن أنس (1/510) بنحوه.
5 طبقات الحنابلة (1/92) .
ولم يكن من هديهم طلب العلم للتصدر والتحدث به في المجالس، بل كان همهم العبادة لله، والدعوة إلى دين الله على هدي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه.
وهذا بخلاف ما عليه كثير ممن ينتسب إلى طلب العلم اليوم، إذ همُّ أكثرهم التصدر والتحدث في المجالس، لجذب الأنظار إلى شخصه، نسأل الله العافية!!