الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: ما هو العلم المراد تعلمه
…
ما هو العلم المراد تعلمه؟
أولاً: أنوع العلوم:
قال الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد البر (ت 463هـ.) :
"
…
وحدُّ العلم عند العلماء هو ما استيقنته وتبينته، وكل من استيقن شيئاً وتبينه فقد علمه".
ثم قال: "والعلوم تنقسم إلى قسمين:
1 -
ضروري،
2 -
ومكتسب.
فحد الضروري ما لا يمكن العالم أن يشكك فيه نفسه، ولا يدخل فيه على نفسه شبهة، ويقع له العلم بذلك قبل الفكرة والنظر، ويدرك ذلك من جهة الحس والعقل.
وأما العلم المكتسب فهو ما كان طريقه الاستدلال والنظر، وفيه الخفي والجلي، فما قرب من العلوم الضرورية كان أجلى، وما بعُد منها كان أخفى.
والعلوم عند جميع أهل الديانات ثلاثة: ـ
1 -
علم أعلى2 - علم أوسط 3- علم أسفل.
فالعلم الأعلى عندهم علم الدين الذي لا يجوز لأحد الكلام فيه بغير ما أنزله الله في كتابه وعلى ألسنة أنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم.
والعلم الأوسط هو معرفة علوم الدنيا التي تكون معرفة الشيء منها بمعرفة نظيره، ويستدل عليه بنظيره وبجنسه ونوعه، كعلم الطب والهندسة.
والعلم الأسفل إحكام الصناعات ودروب الأعمال مثل السباحة، والفروسية، والرمي وما أشبه ذلك من الأعمال التي هي أكثر من أن يجمعها كتاب أو يأتي عليها وصف، وإنما تحصل بتدريب الجوارح فيها 1.
فالعلم الأول: علم الأديان، والثاني: علم الأبدان، والثالث: ما دربت على عمله الجوارح. واتفق أهل الأديان أن الأعلى هو علم الدين 2.
وقال أبو إسحاق الحربي 3: "العلوم ثلاثة: علم دنياوي، وعلم دنياوي وأخراوي، وعلم لا للدنيا ولا للآخرة.
العلم الذي للدنيا علم الطب والنجوم وما أشبه ذلك، والعلم الذي للدنيا والآخرة علم القرآن والسنن والفقه فيهما، والعلم الذي ليس للدنيا ولا للآخرة علم الشعر والشغل به" 4.
وقال الحافظ ابن رجب (ت 795هـ.) :
"قد ذكر الله تعالى في كتابه العلم تارة في مقام الحمد، وهو العلم النافع، وتارة في مقام الذم، وهو العلم الذي لا ينفع
…
"، ثم قال: "ولهذا جاءت السنة بتقسيم العلم إلى نافع وإلى غير نافع، والاستعاذة من العلم الذي لا ينفع، وسؤال الله العلم النافع.
"ففي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها" 5.
1 انظر جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/36-40) .
2 جامع بيان العلم وفضله (2/39) .
3 في الطبعة المنيرية "الحوفي" بالواو والفاء، والتصويب من طبعة دار ابن الجوزي تحقيق الزهيري.
4 انظر المصدر السابق (2/40) .
5 انظر صحيح الإمام مسلم، كتاب الذكر والدعاء (4/2088 ح 73) .
وفي سنن ابن ماجه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "سلوا الله علماً نافعاً، وتعوّذوا بالله من علم لا ينفع" 1" 2.
وقال رحمه الله: "فالعلم - كما قال الحسن البصري - علمان: علم اللسان، فذاك حجة على ابن آدم، وعلم في القلب، فذاك العلم النافع، ثم قال: فالعلم النافع هو ما باشر القلب، فأوقر فيه معرفة الله، وعظمته، وخشيته، وإجلاله، وتعظيمه، ومحبته، ومتى سكنت هذه الأشياء في القلب خشع فخشعت الجوارح تبعاً له"3.
ثانياً: معرفة الدين على أقسام ورتب
قال أبو عمر بن عبد البر 4:
"واتفق أهل الإسلام على أن الدين تكون معرفته على ثلاثة أقسام:
أولها: معرفة خاصة الإيمان والإسلام، وذلك معرفة التوحيد والإخلاص، ولا يُوصل إلى علم ذلك إلا بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهو المؤدي عن الله، والمُبَيِّنُ لمراده، وبما في القرآن من الأمر بالاعتبار في خلق الله بالدلائل من آثار صبغته في بريته على توحيده وأزليته سبحانه والإقرار والتصديق بكل ما في القرآن بملائكة الله وكتبه ورسله".
وقال الحافظ ابن رجب في شرح حديث أبي الدرداء في طلب العلم: "فأفضل العلم العلم بالله، وهو العلم بأسمائه، وصفاته، وأفعاله التي توجب لصاحبها معرفة الله وخشيته ومحبته وهيبته وإجلاله وعظمته والتبتل إليه
1 سنن ابن ماجه، كتاب الدعاء (2/1263 ح 3843) . وفي الزوائد: إسناده صحيح.
2 انظر فضل علم السلف على علم الخلف (ص 19-24) .
3 انظر شرح حديث أبي الدرداء في طلب العلم لابن رجب (ص 19) .
4 جامع بيان العلم وفضله (2/39-40) .
والتوكل عليه
…
ويتبع ذلك العلم بملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر وتفاصيل ذلك، والعلم بأوامر الله، ونواهيه، وشرائعه، وأحكامه، وما يحبه من عباده من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وما يكرهه من عباده من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
"ومن جمع هذه العلوم من العلماء الربانيين، العلماء بالله العلماء بأمره، وهم أكمل ممن قصر علمه على العلم بالله دون العلم بأمره وبالعكس. وشاهد هذا النظر في حال الحسن، وابن المسيب، والثوري، وأحمد وغيرهم من العلماء الربانيين، وحال مالك بن دينار، والفضيل بن عياض، ومعروف الكرخي، وبشر الحافي وغيرهم من العارفين، فمن قايس الحالين عرف فضل العلماء بالله بأمره على العلماء بالله فقط، فما الظن بتفضيل العلماء بالله وبأمره على العلماء بأمره فقط، فإن هذا واضح لا خفاء فيه"1.
والقسم الثاني:2 معرفة مخرج خبر الدين وشرائعه، وذلك معرفة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي شرح الله الدين على لسانه ويده، ومعرفة أصحابه الذين أدّوا ذلك عنه، ومعرفة الرجال الذين حملوا ذلك عنهم، وطبقاتهم، ومعرفة الخبر الذي يقطع العذر لتواتره وظهوره.
والثالث: معرفة السنن وواجبها وأدبها وعلم الأحكام، وفي ذلك يدخل خبر الخاصة والعدول، ومعرفته، ومعرفة الفريضة من النافلة، ومخارج الحقوق، والتداعي، ومعرفة الإجماع والشذوذ.
قالوا: ولا يوصل إلى الفقه إلا بمعرفة ذلك، وبالله تعالى التوفيق" اه. ملخصاً.
1 - شرح حديث أبي الدرداء في طلب العلم لابن رجب، ص 41.
2 -
هذا يتبع لتقسيم ابن عبد البر السابق ذكره قبل كلام ابن رجب.
وقال الخطيب البغدادي:
"فواجب على كل أحد طلب ما تلزمه معرفته مما فرض الله عليه على حسب ما يقدر عليه من الاجتهاد لنفسه، وكل مسلم بالغ عاقل من ذكر وأنثى حر وعبد تلزمه الطهارة، والصلاة، والصيام فرضاً. فيجب على كل مسلم تعرّف علم ذلك. وهكذا يجب على كل مسلم أن يعرف ما يحل له وما يحرم عليه من المآكل والمشارب والملابس، والفروج، والأموال، والدماء، فجميع هذا لا يسع أحداً جهلُه، وفرضٌ عليهم أن يأخذوا في تعلّم ذلك حتى يبلغوا الحلم وهم مسلمون، أو حين يسلمون بعد بلوغ الحلم. ويجبر الإمام أزواج النساء وسادات الإماء على تعليمهن ما ذكرنا، وفرض على الإمام أن يأخذ الناس بذلك ويرتب أقواماً لتعليم الجهّال، ويفرض لهم الرزق في بيت المال، ويجب على العلماء تعليم الجاهل ليتميز له الحق من الباطل"1.
أخرج الخطيب البغدادي في الجامع عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي (ت 227هـ.) قال:
"بينا أنا عند شعبة ذات يوم إذ جاءه رجل غريب، فقال: يا أبا بسطام حدثني بحديث حماد عن إبراهيم أنه قال: لأن يلبس الرجل في طلب العلم النعلين زمامهما من حديد، فلم يحدثه شعبة به. فقال: يا أبا بسطام أنا رجل من أهل المغرب، أتيتك لهذا الحديث من مسيرة ستة أشهر. فقال: ألا تعجبون من هذا جاء من مسيرة ستة أشهر يسألني عن حديث لا يُحل حراماً ولا يُحرِّم حلالاً!! اكتبوا: حدثني قتادة، عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" ثم قال له: إذا سألت يا أخا أهل المغرب فَسَلْ عن مثل هذا، وإلا فقد ذهبت رحلتك باطلاً"2.
1 الفقيه والمتفقه (1/46) .
2 2/226.
وأخرج أيضاً في تاريخه 1 عن ابن جريج قال: "أتيت عطاءً وأنا أريد هذا الشأن، وعنده عبد الله بن عبيد بن عمير. فقال لي عبد الله بن عبيد: قرأت القرآن؟ قلت: لا. قال: فاذهب فاقرأِ القرآن ثم اطلب العلم. قال: فذهبت فغبرت زماناً حتى قرأت القرآن، ثم جئت إلى عطاء، وعنده عبيد الله بن عبيد فقال: تعلمت القرآن - أو قرأت القرآن -؟ قلت: نعم. قال تعلمت الفريضة؟ قلت: لا. قال: تعلم الفريضة ثم اطلب العلم. قال: فطلبت الفريضة ثم جئت فقال: تعلمت الفريضة؟ قلت: نعم. قال: الآن اطلب العلم. قال فلزمت عطاءً سبع عشرة سنة".
وعن أحمد بن حبان المعروف بشامط قال: دخلت على أبي عبد الله أحمد بن حنبل فقلت: أتوضأ بماء النورة؟ فقال: ما أحب ذلك. قلت: أتوضأ بماء الباقلاء؟ قال: ما أحب ذلك. قلت: أتوضأ بماء الورد؟ قل ما أحب ذلك. فقمتُ فتعلّق بثوبي ثم قال: أَيْشٍ تقول إذا دخلت المسجد؟ فسكتُّ. فقال: أَيْشٍ تقول إذا خرجت من المسجد؟ فسكتُّ. فقال: اذهب فتعلّمْ هذا" 2.
ثم قال ابن عبد البر - في باب رتب طلب العلم 3:
"طلب العلم درجات ورتب لا ينبغي تعدّيها، ومن تعدّاها جملة فقد تعدّى سبيل السلف رحمهم الله، ومن تعدّى سبيلهم عامداً ضلّ، ومن تعدّاه مجتهداً زلّ.
فأول العلم حفظ كتاب الله عز وجل وتفهُّمه، وكل ما يعين على فهمه فواجب طلبه معه. ولا أقول إن حفظه كله فرض، لكن أقول إن ذلك واجب لازم على من أحب أن يكون عالماً، وليس من باب الفرض".
1 تاريخ بغداد (10/401-402) ؛ تهذيب الكمال (18/346) .
2 طبقات الحنابلة (1/41) .
3 انظر جامع بيان العلم وفضله (2/166) .
وذكر بإسناده إلى الضحاك بن مزاحم في قوله تعالى: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ} 1 قال: "حق على كل من تعلّم القرآن أن يكون فقيهاً"2.
وقال ابن جرير الطبري رحمه الله (ت 310هـ.) بعد ذكره لأقوال السلف في تفسير هذه الآية:
"فالربانيون إذاً هم عماد الناس في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا، ولذلك قال مجاهد: هم فوق الأحبار، لأن الأحبار هم العلماء، والرباني الجامع إلى العلم والفقه والبصر بالسياسة والتدبير، والقيام بأمور الرعية، وما يصلحهم في دينهم ودنياهم"3.
وقال ابن عبد البر: "فمن حفظه قبل بلوغه ثم فرغ إلى ما يستعين به على فهمه من لسان العرب كان له ذلك عوناً كبيراً على مراده منه ومن سنن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم ينظر في ناسخ القرآن ومنسوخه وأحكامه، ويقف على اختلاف العلماء في ذلك، وهو أمر قريب على من قرّبه الله عليه. ثم ينظر في السنن المأثورة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فبها يصل الطالب إلى مراد الله عز وجل في كتابه وهي تفتح له أحكام القرآن فتحاً، وفي سيرة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تنبيه على كثير من الناسخ والمنسوخ في السنن.
"ومن طلب السنن فليكن معوله على حديث الأئمة الثقات الحفاظ الذين جعلهم الله خزائن العلم وأمناء سنن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كمالك بن أنس ومن جرى مجراه من ثقات علماء الحجاز، والعراق، والشام كشعبة، وسفيان الثوري، والأوزاعي، ومعمر وسائر الأئمة رحمهم الله جميعاً".
1 سورة آل عمران، آية 79.
2 انظر تفسير ابن كثير (2/55) .
3 تفسير الطبري بتحقيق محمود شاكر (6/543-544) .
وقال رحمه الله: "ويلزم صاحب الحديث أن يعرف الصحابة الذين نقلوا الدين عن نبيهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ويُعنى بسيرهم وفضائلهم، ويعرف أحوال الناقلين عنهم وأخبارهم حتى يقف على معرفة العدول منهم من غير العدول، وهو أمر قريب كله على من اجتهد"1.
وقال أيضاً:
"فعليك يا أخي بحفظ الأصول والعناية بها، واعلم أن من عُنِيَ بحفظ السنن والأحكام المنصوصة في القرآن ونظر في أقاويل الفقهاء فجعلها عوناً له على اجتهاده ومفتاحاً لطرائق النظر، وتفسيراً لجمل السنن المحتمل للمعاني، ولم يقلد أحداً منهم تقليد السنن التي يجب الانقياد إليها على كل حال دون نظر، ولم يرح نفسه مما أخذ العلماء به أنفسهم من حفظ السنن وتدبرها واقتدى بهم في البحث والتفهم والنظر، فهذا هو الطالب المتمسك بما عليه السلف الصالح، وهو المصيب لحظه والمعاين لرشده والمتبع لسنة نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهدي صحابته رضي الله عنهم، ومن أعفى نفسه من النظر وأضرب عما ذكرنا وعارض السنن برأيه ورام أن يردها إلى مبلغ نظره فهو ضال مضلّ، ومن جهل ذلك كله أيضاً وتقحم في الفتوى بلا علم فهو أشر عمى وأضل سبيلاً"2.
وقال الحافظ ابن رجب (ت 795هـ.) رحمه الله: "واعلم أن علم الحلال والحرام علم شريف ومنه ما تعلُّمه فرض عين، ومنه ما هو فرض كفاية. وقد نصّ العلماء على أن تعلّم - يعني فرض الكفاية - أفضل من نوافل الطاعات، منهم أحمد، وإسحاق بن راهويه. وكان أئمة السلف يتوقَّون الكلام فيه تورعاً، لأن المتكلم فيه مخبر عن الله بأمره ونهيه، ومبلّغ عنه شرعه ودينه. كان ابن سيرين إذا سُئل عن شيء من الحلال والحرام تغير لونه وتبدل حتى كأنه ليس بالذي كان.
1 جامع بيان العلم وفضله (2/169) .
2 المصدر نفسه (2/172) .
قال عطاء بن السائب: أدركت أقواماً إن كان أحدهم ليُسأل عن الشيء فيتكلم وإنه ليرعد. كان الإمام أحمد شديد التورع في إطلاق الحلال والحرام ودعوى النسخ ونحو ذلك مما يجسر عليه غيره كثيراً" 1.
1 شرح حديث أبي الدرداء في طلب العلم (ص 24-25) .