الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقال: هذا في سبيل الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد: أقبضه، فكأن زيدا وجد من ذلك في نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله قد قبلها منك» .
وأعتق عبد الله بن عمر نافعا مولاه، وكان أعطاه فيه عبد الله بن جعفر ألف دينار، قالت صفية بنت أبى عبيد: أظنه تأول قول الله- تعالى- لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ.
وقال الحسن البصري: إنكم لن تنالوا ما تحبون إلا بترك ما تشتهون، ولا تدركون ما تؤملون إلا بالصبر على ما تكرهون «1» .
وهكذا نرى أن السلف الصالح قد قدموا ما يحبون من أموالهم وغيرها تقربا إلى الله- تعالى- وشكرا له على نعمائه وعطائه، فرضي الله عنهم وأرضاهم.
ثم عاد القرآن الكريم إلى الرد على اليهود الذين جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من القضايا، بعد أن ذكر في الآيات السابقة طرفا من مسالكهم الخبيثة التي منها تواصيهم فيما بينهم بأن يؤمنوا أول النهار ويكفروا آخره، وقد حكى هنا جدلهم فيما أحله الله وحرمه من الأطعمة فقال- تعالى-:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 93 الى 95]
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَاّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)
ذكر بعض المفسرين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لليهود في معرض مناقشته لهم: أنا على ملة إبراهيم. فقال بعض اليهود: كيف تدعى ذلك وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم، كان ذلك حلالا لإبراهيم فنحن نحله. فقالوا: كل شيء أصبحنا اليوم نحرمه فإنه
(1) تفسير القرطبي ج 4 ص 133.
كان محرما على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا، فأنزل الله هذه الآيات تكذيبا لهم» «1» .
والطعام: مصدر بمعنى المطعوم، والمراد به هنا كل ما يطعم ويؤكل.
وحلا: مصدر أيضا بمعنى حلالا، والمراد الإخبار عن أكل الطعام بكونه حلالا، لا نفس الطعام، لأن الحل كالحرمة مما لا يتعلق بالذوات.
وإسرائيل: هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم- عليهم الصلاة والسلام-.
والمعنى: كل أنواع الأطعمة كانت حلالا لبنى إسرائيل قبل نزول التوراة إلا شيئا واحدا كان محرما عليهم قبل نزولها وهو ما حرمه أبوهم إسرائيل على نفسه، فإنهم حرموه على أنفسهم اقتداء به، فلما أنزل الله التوراة حرم عليهم فيها بعض الطيبات بسبب بغيهم وظلمهم.
هذا هو الحق الذي لا شك فيه، فإن جادلوك يا محمد في هذه المسألة فقل لهم على سبيل التحدي: أحضروا التوراة فاقرءوها ليتبين الصادق منا من الكاذب، إن كنتم صادقين في زعمكم أن ما حرمه الله عليكم فيها كان محرما على نوح وإبراهيم- عليهما الصلاة والسلام-.
فالآية الكريمة قد تضمنت أمورا من أهمها:
أولا: إبطال حجتهم فيما يتعلق بقضية النسخ، إذ زعموا أن النسخ محال، واتخذوا من كون النسخ مشروعا في الإسلام ذريعة للطعن في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم فدحض القرآن مدعاهم وألزمهم الحجة عن طريق كتابهم.
ولذا قال الإمام ابن كثير: الآية مشروع في الرد على اليهود، وبيان بأن النسخ الذي أنكروا وقوعه وجوازه قد وقع، فإن الله- تعالى- قد نص في كتابهم التوراة أن نوحا- عليه السلام لما خرج من السفينة أباح الله له جميع دواب الأرض يأكل منها، ثم بعد هذا حرم إسرائيل على نفسه لحوم الإبل وألبانها فاتبعه بنوه فيما حرم على نفسه، وجاءت التوراة بتحريم ذلك، وبتحريم أشياء زيادة على ذلك- عقوبة لهم بسبب بغيهم وظلمهم. وهذا هو النسخ بعينه» «2» .
وقد صرح ابن كثير وغيره من المفسرين أن ما حرمه إسرائيل على نفسه هو لحوم الإبل وألبانها، وبذلك جاءت بعض الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان تحريمه لها تعبدا وزهادة وقهرا للنفس طلبا لمرضاة الله- تعالى-.
(1) تفسير الآلوسى ج 4 ص 3- بتصرف يسير-. [.....]
(2)
تفسير ابن كثير ج 1 ص 382- بتصرف وتلخيص-.
وقيل إن ما حرمه على نفسه هو العروق. روى ذلك عن ابن عباس والضحاك والسدى موقوفا عليهم.
قالوا: كان يعتريه عرق النسا وهو عرق يخرج من الورك فيستبطن الفخذين ويسبب آلاما شديدة- فنذر إن عوفي منه لا يأكل عرقا، فلما شفاه الله ترك أكل العروق وفاء بنذره.
ثانيا: تضمنت أيضا تكذيبهم في دعواهم أن ما حرم عليهم لم يكن سبب تحريمه ظلمهم أو بغيهم، وإنما كان محرما على غيرهم ممن سبقهم من الأمم.
وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف فقال: «وهو- أى ما اشتملت عليه الآية- رد على اليهود وتكذيب لهم، حيث أرادوا براءة ساحتهم مما نعى عليهم في قوله- تعالى- فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وحيث أرادوا جحود ما غاظهم بسبب ما نطق به القرآن من أن تحريم الطيبات عليهم كان لأجل بغيهم وظلمهم فقالوا: لسنا بأول من حرمت عليه هذه الأشياء، وما هو إلا تحريم قديم، كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعده من بنى إسرائيل وهلم جرا، إلى أن انتهى التحريم إلينا، فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا.
وغرضهم تكذيب شهادة الله عليهم بالبغي والظلم والصد عن سبيل الله وأكل الربا. وما عدد من مساويهم التي كلما ارتكبوا منها كبيرة حرم الله عليهم نوعا من الطيبات عقوبة لهم» «1» .
ثالثا: تضمنت الآية كذلك أمرا من الله- تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يتحداهم بالتوراة ويبكتهم بما نطفت به، وذلك بقوله- تعالى- في الآية الكريمة قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
فكأنه- سبحانه- يقول لهم: ما دمتم- يا معشر اليهود- قد زعمتم أن ما حرم عليكم بسبب بغيكم وظلمكم ليس تحريما حادثا، وإنما هو تحريم قديم على الأمم قبلكم، فها هي ذي التوراة قريبة منكم فأحضروها واتلوها بإمعان وتدبر إن كنتم صادقين في مدعاكم.
والتعبير ب «إن» يشير إلى عدم صدقهم، لأنها تدل على الشك في الشرط.
أى: هم ليسوا صادقين فيما يزعمون، ولذلك لا يتلون ولا يقرءون، ولو جاءوا بها لكانت مؤيدة لما أخبر به القرآن الكريم، ولذلك لم يجسروا على إخراج التوراة، وبهتوا وانقلبوا صاغرين. وفي ذلك الحجة البينة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مستثنى من اسم كان، والتقدير: كل الطعام كان
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 385.
حلالا لبنى إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه فإنه قد حرم عليهم في التوراة، وليس منه ما زادوه من محرمات وادعوا صحة ذلك.
ثم توعدهم- سبحانه- على كذبهم وجحودهم فقال- تعالى-: فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
افترى: من الافتراء وهو اختلاق الكذب، وأصله من فرى الأديم إذا قطعه لأن الكاذب يقطع القول من غير حقيقة له في الوجود.
أى: فمن تعمد الكذب على الله- تعالى- بأن زعم بأن ما حرمته التوراة على بنى إسرائيل من المطاعم بسبب ظلمهم وبغيهم، كان محرما عليهم وعلى غيرهم قبل نزولها، فأولئك الذين قالوا هذا القول الكاذب هم المتناهون في الظلم: المتجاوزون للحدود التي شرعها الله- تعالى-، وسيعاقبهم- سبحانه- على هذا الظلم والافتراء عذابا أليما لا مهرب لهم منه ولا نصير.
والفاء في قوله فَمَنِ افْتَرى
للتفريع، ومِنْ
يحتمل أن تكون شرطية وأن تكون موصولة، وقد روعي في الآية الكريمة لفظها ومعناها.
وقوله مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
متعلق بافترى، واسم الإشارة ذلك يعود إلى أمرهم بإحضار التوراة وما يترتب عليه من قيام الحجة وظهور البينة.
واسم الإشارة «أولئك» يعود إلى «من» وهو عبارة عن هؤلاء اليهود الذين جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم بالباطل وافتروا على الله الكذب.
ويحتمل أن يكون المشار إليه وهو مِنْ
عاما لكل كاذب ويدخل فيه اليهود دخولا أوليا.
وقد أكد الله- تعالى- وصفهم بالظلم بضمير الفصل الدال على أنهم كاملون فيه، وموغلون في اقترافه والتمسك به.
ثم أمر الله- تعالى- نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى اتباع ملة إبراهيم إن كانوا حقا يريدون اتباعها فقال- تعالى-: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أى: قل- يا محمد- لهؤلاء اليهود الذين جادلوك بالباطل ولكل من كان على شاكلتهم في الكذب والظلم، قل لهم جميعا: صدق الله فيما أخبرنا به في قوله- تعالى- كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ وفي كل ما أخبرنا به في كتابه وعلى لسان رسوله. وأنتم الكاذبون في دعواكم.
وإذ كنتم تريدون الوصول إلى الطريق القويم حقا فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أى فاتبعوا