المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 14 الى 17] - التفسير الوسيط لطنطاوي - جـ ٢

[محمد سيد طنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌[المجلد الثاني]

- ‌تفسير سورة آل عمران

- ‌مقدّمة

- ‌تعريف بسورة آل عمران

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 6]

- ‌[سورة آل عمران (3) : آية 7]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 8 الى 9]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 10 الى 13]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 14 الى 17]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 18 الى 20]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 21 الى 22]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 23 الى 25]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 26 الى 27]

- ‌[سورة آل عمران (3) : آية 28]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 29 الى 32]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 33 الى 37]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 38 الى 41]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 42 الى 47]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 48 الى 51]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 52 الى 57]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 58 الى 63]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 64 الى 71]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 72 الى 74]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 75 الى 76]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 77 الى 78]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 79 الى 80]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 81 الى 83]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 84 الى 85]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 86 الى 89]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 90 الى 92]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 93 الى 95]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 96 الى 97]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 98 الى 105]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 106 الى 109]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 110 الى 112]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 115]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 116 الى 117]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 118 الى 120]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 121 الى 129]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 130 الى 136]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 137 الى 143]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 144 الى 148]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 149 الى 151]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 152 الى 155]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 156 الى 158]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 159 الى 164]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 165 الى 168]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 169 الى 175]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 176 الى 180]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 181 الى 188]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 189 الى 200]

- ‌فهرس إجمالى لتفسير سورة «آل عمران»

الفصل: ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 14 الى 17]

قال الفخر الرازي ما ملخصه: «واعلم أن العلماء ذكروا في تفسير كون تلك الواقعة آية بينة وعبرة واضحة- وجوها: منها أن المسلمين كان قد اجتمع فيهم من أسباب الضعف عن المقاومة أمور منها قلة العدد، وأنهم خرجوا غير قاصدين للحرب فلم يتأهبوا، ومنه قلة السلاح، ومنها أنها كانت ابتداء غارة في الحرب لأنها أول غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم وكان قد حصل للمشركين أضداد هذه المعاني من الكثرة والتأهب وغير ذلك ومع هذا فقد انتصر المؤمنون، ولما كان ذلك خارجا عن العادة كان معجزا» «1» .

وبذلك تكون الآيات الكريمة قد أنذرت الكافرين بسوء العاقبة إذا ما استمروا على كفرهم، وساقت لهم ما يؤيد ذلك من واقع ما شاهدوه، وبشرت المؤمنين بنصر الله لهم، وحثتهم على الاتعاظ والاعتبار، لأن من شأن المعتبرين أن يكونوا مراقبين الله- تعالى- ومنفذين لأوامره، ومبتعدين عن نواهيه، ومن كان كذلك كان الله معه بنصره وتأييده.

ثم بين- سبحانه- أهم الشهوات التي يؤدى الانهماك في طلبها إلى الانحراف في التفكير، وإلى عدم التبصر والاعتبار، ودعا الناس إلى التزود من العمل الصالح الذي يفضى بهم إلى رضاه- سبحانه- فقال:

[سورة آل عمران (3) : الآيات 14 الى 17]

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17)

(1) تفسير الفخر الرازي ج 7 ص 203.

ص: 45

فأنت ترى في هذه الآيات الكريمة بيانا حكيما من الله- تعالى- لأهم متع الحياة الدنيا وشهواتها، ولما هو خير من هذه المتع والشهوات، مما أعده الله لعباده المتقين من جنات وخيرات.

وقوله زُيِّنَ من التزيين وهو تصيير الشيء زينا أى حسنا. والزينة هي ما في الشيء من المحاسن التي ترغب الناظرين في اقتنائه.

قال الراغب: «والزينة بالقول المجمل ثلاث: زينة نفسية كالعلم والاعتقادات الحسنة، وزينة بدنية كالقوة وطول القامة، وزينة خارجية كالمال والجاه.. وقد نسب الله التزيين في مواضع إلى نفسه كما في قوله- تعالى- وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ونسبه في مواضع إلى الشيطان كما في قوله وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وذكره في مواضع غير مسمى فاعله كما في قوله- تعالى- زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ «1» .

والشهوات جمع شهوة، وهي ثوران النفس وميلها نحو الشيء المشتهى. والمراد بها هنا الأشياء المشتهاة من النساء والبنين.. إلخ. وعبر عنها بالشهوات للإشارة- كما يقول الآلوسى- إلى ما ركز في الطباع من محبتها والحرص عليها حتى لكأنهم يشتهون اشتهاءها كما قيل لمريض: ما تشتهي؟ فقال: أشتهى أن أشتهى. أو تنبيها على خستها: لأن الشهوات خسيسة عند الحكماء والعقلاء ففي ذلك تنفير عنها وترغيب فيها عند الله، ثم قال: والتزيين للشهوات يطلق ويراد به خلق حبها في القلوب، وهو بهذا المعنى مضاف إليه- تعالى- حقيقة لأنه لا خالق إلا هو. ويطلق ويراد به الحض على تعاطى الشهوات المحظورة فتزيينها بالمعنى الثاني مضاف إلى الشيطان تنزيلا لوسوسته وتحسينه منزلة الأمر بها والحض على تعاطيها» «2» .

ثم بين- سبحانه- أهم المشتهيات التي يحبها الناس، وتهفو إليها قلوبهم، وترغب فيها نفوسهم، فأجملها في أمور ستة.

(1) المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص 218.

(2)

تفسير الآلوسى ج 3 ص 99. بتلخيص.

ص: 46

أما أولها: فقد عبر عنه القرآن بقوله: «من النساء ولا شك أن المحبة بين الرجال والنساء شيء فطري في الطبيعة الإنسانية، ويكفى أن الله- تعالى- قد قال في العلاقة بين الرجل والمرأة هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ «1» .

وقال- تعالى- في آية ثانية وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً «2» وإن بعض الرجال قد يستهين بكل شيء في سبيل الوصول إلى المرأة التي يهواها ويشتهيها والأمثال على ذلك كثيرة ولا مجال لذكرها هنا وصدق رسول الله حيث يقول: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء» «3» ، ولذا قدم القرآن اشتهاءهن على كل شهوة. ومِنَ في قوله مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ بيانية، وهي مع مجرورها في محل نصب على الحال من الشهوات. واكتفى القرآن بذكر محبة الرجل للمرأة مع أن المرأة كذلك تحب الرجل بفطرتها لأن ذكر محبة أحدهما للآخر يغنى عن ذكر الطرفين معا، وما يستفاد بالإشارة يستغنى فيه عن العبارة خصوصا في هذا المجال الذي يحرص في القرآن على تربية الحياء والأدب في النفوس، ولأن المرأة في هذا الباب يهمها أن تكون مطلوبة لا طالبة. وحتى لو كانت محبتها للرجل أشد فإنها تحاول أن تثير فيه ما يجعله هو الذي يطلبها لا هي التي تطلبه.

وأما ثانى المشتهيات: فقد عبر عنه القرآن بقوله وَالْبَنِينَ جمع ابن، وهو معطوف على ما قبله، وقد ذكر حب البنين بعد حب النساء لأن البنين ثمرة حب النساء، واكتفى بذكر البنين، لأنهم موضع الفخر في العادة وحب الأولاد طبيعة في النفس البشرية فهم ثمرات القلوب، وقرة الأعين ومهوى الأفئدة، ومطمح الآمال، ولقد تمنى الذرية جميع الناس حتى الأنبياء فهذا سيدنا إبراهيم يقول: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ وسيدنا زكريا يقول: رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ.

والإنسان في سبيل حبه لأولاده يضحى براحته، وقد يجمع المال من أجلهم من حلال ومن حرام، وقد يرتكب بعض الأعمال التي لا يريد ارتكابها إرضاء لهم، وقد يمتنع عن فعل أشياء هو يريد فعلها لأن مصلحتهم تقتضي ذلك.

وصدق الله إذ يقول: أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ

وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم حيث يقول:

«الولد ثمرة القلب، وإنه مجبنة مبخلة محزنة» أى أن الأبناء يجعلون آباءهم يجبنون خوفا من

(1) سورة البقرة الآية ص 187.

(2)

سورة الروم آية 21.

(3)

أخرجه البخاري في كتاب النكاح. باب ما يتقى من شؤم المرأة ج 7 ص 11 طبعة المجلس سنة 1345.

ص: 47

الموت لئلا يصيب أبناءهم اليتم وآلامه، ويجعلونهم يبخلون فلا ينفقون فيما ينبغي أن ينفق فيه إيثارا لهم بالمال، ويجعلونهم يحزنون عليهم إن أصابهم مرض ونحوه.

أما الأمر الثالث من المشتهيات: فقد عبر عنه القرآن بقوله وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ والقناطير جمع قنطار، وهو مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه، تقول العرب: قنطرت الشيء إذا أحكمته، ومنه سميت القنطرة لإحكامها.

قال الفخر الرازي «القنطار مال كثير يتوثق الإنسان به في دفع أصناف النوائب وحكى أبو عبيدة عن العرب أنهم يقولون: إنه وزن لا يحد. واعلم أن هذا هو الصحيح، ومن الناس من حاول تحديده. فعن ابن عباس: القنطار ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم وهو مقدار الدية» «1» .

ولفظ الْمُقَنْطَرَةِ مأخوذ من القنطار. ومن عادة العرب أن يصفوا الشيء بما يشتق منه للمبالغة أى والقناطير المضاعفة المتكاثرة المجموعة قنطارا قنطارا كقولهم: دراهم مدرهمة وإبل مؤبلة.

وقوله مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بيان للقناطير، وهو في موضع الحال منها.

والمراد أن الإنسان محب للمال حبا شديدا، قال- تعالى- وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ وقال تعالى- وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا. وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا.

وفي الحديث الشريف الذي رواه الشيخان عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا. ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. ويتوب الله على من تاب» والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.

وقالت السيدة- عائشة- رضى الله عنها- «رأيت ذا المال مهيبا، ورأيت ذا الفقر مهينا» .

وقالت: «إن أحساب ذوى الدنيا بنيت على المال» «2» .

وإنما كان الذهب والفضة محبوبين، لأنهما- كما يقول الرازي- جعلا ثمنا لجميع الأشياء، فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء» وصفة المالكية هي القدرة، والقدرة صفة كمال، والكمال محبوب لذاته، فلما كان الذهب والفضة أكمل الوسائل إلى تحصيل هذا الكمال الذي هو محبوب لذاته- وما لا يوجد المحبوب إلا به فهو محبوب- لا جرم كانا محبوبين» «3» .

(1) التفسير الكبير للفخر الرازي ج 7 ص 210.

(2)

التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول ج 5 ص 162 للشيخ منصور على ناصف.

(3)

التفسير الكبير للفخر الرازي ج 7 ص 211.

ص: 48

وأما المشتهيات الرابعة والخامسة والسادسة فتتجلى في قوله- تعالى- وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ.

ولفظ الخيل يرى سيبويه أنه اسم جمع لا واحد له من لفظه، بل مفردة فرس فهو نظير قوم ورهط ونساء. ويرى الأخفش أنه جمع تكسير وواحده خائل، فهو نظير راكب وركب، وطائر وطير.

وهو مشتق من الخيلاء لأنها تختال في مشيتها.

والمسومة: أى الراعية في المروج والمسارح. يقال: سوم ماشيته إذا أرسلها في المرعى. أو المطهمة الحسان، من السيما بمعنى الحسن أو المعلمة ذات الغرة والتحجيل من السمة بمعنى العلامة.

والخيل كانت وما زالت زينة محببة مرغوبة، مهما تفنن البشر في اختراع صنوف من المراكب برّا وبحرا وجوّا فمع وجود هذه المراكب المتنوعة ما زال للخيل عشاقها الذين يعجبهم ما فيها من جمال وانطلاق وألفة. ويقتنونها للركوب والمسابقات.. وَالْأَنْعامِ جمع نعم، وهي الإبل والبقر والغنم. ولا يقال للجنس الواحد منها نعم إلا للإبل خاصة فإنها غلبت عليها.

والأنعام فيها زينة. والإنسان في حاجة شديدة إليها في مركبه ومطعمه وغير ذلك. قال- تعالى- وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ «1» .

والْحَرْثِ مصدر بمعنى المفعول أى المحروث. والمراد به المزروع سواء أكان حبوبا أم بقلا، أم ثمرا إذ من هذه الأشياء يتخذ الإنسان مطعمه وملبسه وأدوات زينته.

تلك هي أهم المشتهيات في هذه الحياة إلى نفس الإنسان قد جمعها القرآن في آية واحدة، وقد اختصها- سبحانه- بالذكر لأنها أوضح من غيرها في الاحتياج إليها والتلذذ بها، ولأن فيها إشارة إلى أنواع المتع كلها سواء أكانت متعة جسدية أم روحية، أم مالية، أم غير ذلك من ألوان المتع، ومن مستلزمات الحياة.

وقد ختم- سبحانه- الآية بقوله ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ. واسم الإشارة ذلِكَ يعود إلى كل ما تقدم ذكره من الأمور الستة التي سبق الحديث عنها، والمآب:

مصدر ميمى بوزن مفعل، من آب. كقال- إيابا وأوبا ومآبا، إذا رجع. وأصله مأوب نقلت حركة الواو إلى الهمزة ثم قلبت الواو ألفا مثل مقال.

(1) سورة النحل الآية 5- 7.

ص: 49

أى ذلك المذكور من النساء والبنين وما عطف عليهما هو موضع الزينة، ومطلب الناس الذي يستمتعون به، ويرغبون فيه، ويشتهونه اشتهاء عظيما في حياتهم، والله- تعالى- عنده المرجع الحسن وهو الجنة، فهي الأحق بالرغبة فيها لبقائها دون المتع الفانية.

فأنت ترى أن الآية الكريمة قد ذكرت المشتهيات التي جبل الإنسان على الميل إليها، وصياغة الفعل للمجهول زُيِّنَ لِلنَّاسِ للإشارة إلى أن محبة هذه الأشياء واشتهاءها مركوز في الفطرة الإنسانية منذ أوجد. الله الإنسان في هذه الحياة الدنيا.

وهذه المتشهيات ليست خسيسة في ذاتها، ولا يقصد الإسلام إلى تخسيسها في ذاتها أو إلى التنفير منها، وإنما الإسلام يريد من أتباعه أن يقتصدوا في طلبها، وأن يطلبوها من وجوهها المشروعة، وأن يضعوها في مواضعها المشروعة، وأن يشكروا الله عليها، وألا يجعلوها غاية مقصدهم في هذه الحياة إن الإسلام لا يحارب الفطرة الإنسانية التي تشتهي هذه الأشياء، وإنما يهذبها ويضبطها ويرشدها إلى أن تضع هذه الأشياء في موضعها المناسب، بحيث لا تطغى على غيرها ولا تستعمل في غير ما خلقها الله من أجله، وبذلك يسعد الإنسان في دينه ودنياه وآخرته.

وللإمام ابن كثير كلام حسن عند تفسيره لهذه الآية فقد قال ما ملخصه: يخبر الله- تعالى- عما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذ من النساء والبنين، فبدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد.. فأما إذا كان القصد بهن الإعفاف وكثرة الأولاد فهذا مطلوب مرغوب فيه مندوب إليه كما وردت الأحاديث بذلك.. وحب المال كذلك تارة يكون للفخر والخيلاء والتكبر..

فيكون مذموما، وتارة يكون للنفقة في وجوه البر فيكون محمودا.. وحب الخيل على ثلاثة أقسام، تارة يكون ربطها أصحابها معدة لسبيل الله متى احتاجوا إليها غزوا عليها فهؤلاء يثابون. وتارة تربط فخرا ومناوأة لأهل الإسلام فهذه على صاحبها وزر. وتارة تربط للتعفف واقتناء نسلها ولم ينس صاحبها حق الله فيها فهذه لصاحبها ستر. وفي الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«خير مال المرء مهرة مأمورة أو سكة مأبورة» والسكة النخل المصطف، والمأبورة الملقحة، «1» . وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من مسلم غرس غرسا أو زرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقه» «2» .

هذا، وختام الآية الكريمة بقوله ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ إشارة

(1) تفسير ابن كثير ج 1 ص 351- بتصرف وتلخيص.

(2)

تفسير القرطبي ج 4 ص 26.

ص: 50

إلى أن متع الدنيا مهما كثرت وتنوعت وتلذذ بها الإنسان فهي زوال، وأما اللذائذ الباقية الخالدة فهي التي أعدها الله- تعالى- لعباده المتقين في الدار الآخرة، ولذا قال- سبحانه- بعد ذلك قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ.

أى قل يا محمد للناس الذين مالوا إلى شهوات الدنيا من النساء والبنين وغيرهما، قل لهم ألا تحبون أن أخبركم بما هو خير من تلك المشتهيات الدنيوية؟

والاستفهام للتقرير، والمراد به التحقيق والتثبيت في نفوس المخاطبين، أى تحقيق وتثبيت خيرية ما عند الله وأفضليته على شهوات الدنيا، وحضهم على الاستجابة لما سيلقى عليهم.

وافتتح الكلام بكلمة قُلْ للاهتمام بالمقول وتنبيه السامعين إلى أن ما سيلقى عليهم أمر يهمهم ومما يقوى هذا التنبيه هنا: التعبير بقوله أَأُنَبِّئُكُمْ لأن الإنباء معناه الخبر العظيم الشأن، والتعبير بقوله ذلِكُمْ لاشتماله على الإشارة التي للبعيد الدالة على عظم شأن ما سيخبرهم به، والتعبير بقوله بِخَيْرٍ الذي يدل على الأفضلية، لأن نعيم الآخرة خير محض ونعيم الدنيا مشوب بالشرور والاضرار. ثم بين- سبحانه- المخبر عنه بعد أن مهد له بتلك التنبيهات التي تشوق إلى سماعه وتغرى بالاستجابة له فقال: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ.

هذه هي اللذائذ والمتع التي أعداها الله- تعالى- لمن اتقاه، أى أدى ما أمره به، وابتعد عما نهاه عنه.

وأول هذه النعيم،: جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أى بساتين تجرى من تحت أشجارها الأنهار، وفي هذه الجنات ما لا عين رأت، ولا أدن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

وقوله لِلَّذِينَ اتَّقَوْا خبر مقدم، وقوله جَنَّاتٌ مبتدأ مؤخر، وقوله عِنْدَ رَبِّهِمْ في محل نصب على الحال من جنات. وقوله تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ صفة لجنات.

وعلى هذا يكون منتهى الاستفهام عند قوله مِنْ ذلِكُمْ وهذا هو المشهور عند العلماء ومنهم من يجعل الاستفهام منتهيا عند قوله لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ثم يبتدأ فيقال: عند ربهم جنات تجرى من تحتها الأنهار. ومنهم من يجعل الاستفهام منتهيا عند قوله- تعالى- عِنْدَ رَبِّهِمْ ثم يبتدأ فيقال: جنات تجرى من تحتها الأنهار.

قال ابن جرير: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من جعل الاستفهام منتهيا عند قوله- تعالى- بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ والخبر بعده مبتدأ عمن له الجنات بقوله: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فيكون مخرج ذلك مخرج الخير. وهو إبانة عن معنى الخير

ص: 51

الذي قال: أنبئكم به، فلا يكون بالكلام حينئذ حاجة إلى ضمير» «1» .

وثانى هذه النعم عبر عنه- سبحانه- بقوله خالِدِينَ فِيها أى أن هؤلاء الذين اتقوا ربهم خالدون في تلك الجنات التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين خلودا أبديّا، بخلاف أولئك المنعمين بنعم الدنيا فإن نعيمهم إلى فناء وزوال.

وثالث هذه النعم قوله- تعالى- وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ.

والأزواج: جمع زوجة وهي المرأة يختص بها الرجل. أى ولهم في تلك الجنات أزواج مطهرة غاية التطهير من كل دنس وقذر حسى ومعنوي، فقد وصف- سبحانه- هؤلاء الأزواج بصفة واحدة جامعة لكل ما يتمناه الرجل في المرأة.

ورابع هذه النعم قوله- تعالى- وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وهذه النعمة هي أعظم النعم وأجلها أى لهم رضا عظيم من خالق الخلق، ومبدع الكون، ومنشئ الوجود. وهو مصدر كالرضا، ولكن يزيد عليه أنه الرضا العظيم، لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، ولأن التنكير قصد به التفخيم والتعظيم.

وقوله مِنَ اللَّهِ صفة لرضوان مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة.

روى الشيخان عن أبى سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله- عز وجل يقول لأهل الجنة يوم القيامة: يا أهل الجنة فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟

فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك؟ قالوا: يا ربنا وأى شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا» «2» .

هذه هي اللذائذ والمتع والنعم التي أعدها الله- تعالى- لعباده المتقين.

ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ أى أنه- سبحانه- عليم بأحوال عباده، لا تخفى عليه خافية من شئونهم. وسيجازى الذين أساءوا بما عملوا، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى. ففي هذا التذييل وعد للمتقين ووعيد للمسيئين.

ثم حكى- سبحانه- أقوال هؤلاء المتقين ومدحهم على إيمانهم وصلاحهم فقال- تعالى- الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ أى أن هذه الجنات وغيرها من أنواع النعم قد أعدها الله- تعالى- لهؤلاء المتقين الذين يضرعون إلى الله ملتمسين منه المغفرة

(1) تفسير ابن جرير ج 3 ص 206 طبعة مصطفى الحلبي الطبعة الثانية سنة 1373 هـ 1954 م

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الرقاق. باب صفة الجنة والنار ج 9 ص 148. [.....]

ص: 52

فيقولون: يا ربنا إننا آمنا بك وصدقنا رسولك في كل ما جاء به من عندك، فاغفر لنا ذنوبنا وتقصيرنا في أمرنا فأنت الغفار الرحيم، وَقِنا عَذابَ النَّارِ أى جنبنا هذا العذاب الأليم يا أرحم الراحمين.

وفي حكاية هذا القول عنهم بصيغة المضارعة يَقُولُونَ إشعار بأنهم يجددون التوبة إلى الله دائما لقوة إيمانهم، وصفاء نفوسهم، وإحساسهم بأنهم مهما قدموا من طاعات فهي قليلة بجانب فضل الله عليهم، ولذلك فهم يلتمسون منه الستر والغفران، والوقاية من النار، وهذا شأن الأخيار من الناس.

وقوله- سبحانه- الَّذِينَ يَقُولُونَ بدل أو عطف بيان من قوله لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف والجملة منهما جواب عن سؤال كأنه قيل: من أولئك المتقون؟ فقيل: هم الذين يقولون ربنا إننا آمنا.. ويجوز أن يكون في موضع نصب على المدح. ثم وصفهم- سبحانه- بخمس صفات كريمة من شأنها أن تحمل العقلاء على التأسى بهم فقال: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ.

وفي كل صفة من صفاتهم دليل على قوة إيمانهم، وإذعانهم للحق حق الإذعان. فهم صابرون، والصبر في البأساء والضراء وحين البأس من أكبر البراهين على سلامة اليقين، وقد حث القرآن أتباعه على التحلي بهذه الصفة في أكثر من سبعين موضعا. وهم صادقون، والصدق من أكمل الصفات الإنسانية وأشرفها، وقد أمر الله عباده أن يتحلوا به في كثير من آيات كتابه، ومن ذلك قوله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ.

وهم قانتون، والقانت هو المداوم على طاعة الله- تعالى- غير متململ منها ولا متبرم بها، ولا خارج على حدودها. فالقنوت يصور الإذعان المطلق لرب العالمين.

وهم منفقون أموالهم في طاعة الله- تعالى-، وبالطريقة التي شرعها وأمر بها. وهم مستغفرون بالأسحار. أى يسألون الله- تعالى- أن يغفر لهم خطاياهم في كل وقت، ولا سيما في الأسحار.

والأسحار جمع سحر وهو الوقت الذي يكون قبل الفجر. روى مسلم في صحيحه عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل ربنا- عز وجل إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضى ثلث الليل الأول فيقول: أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذي يسألنى فأعطيه، من ذا الذي يستغفرنى فأغفر له، فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر» «1» .

(1) تفسير القرطبي ج 4 ص 39.

ص: 53