الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كفر الكافر إنما يعود عليه ضرره لا على غيره، وأنه- سبحانه- يملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وأن حكمته سبحانه تقتضي تمييز الخبيث من الطيب. فقال- تعالى-:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 176 الى 180]
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلَاّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178) ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
الخطاب في قوله تعالى وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ للنبي صلى الله عليه وسلم والمقصود منه تسليته وإدخال الطمأنينة على قلبه، حتى لا يتأثر بما يراه من كفر الكافرين، ونفاق المنافقين، وفسق الفاسقين.
أى: لا يحزنك ولا يثر في نفسك الحسرات يا محمد، حال أولئك القوم الذين يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ أى يتوغلون فيه، ويتعجلون في إظهاره وتأييده والعمل به عند سنوح الفرص، ويقعون فيه سريعا دون تريث أو تدبر أو تفكير والمقصود بالنهى عن الحزن، النهى عن الاسترسال فيه وفي
الأسباب التي تؤدى إليه، كأن يظن صلى الله عليه وسلم أن كثرة الضالين ستؤدى إلى انتصارهم على المؤمنين.
وقد أشار إلى ذلك صاحب الكشاف فقال: يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ يقعون فيه سريعا، ويرغبون فيه أشد رغبة. وهم الذين نافقوا من المتخلفين. وقيل: هم قوم ارتدوا عن الإسلام.
فإن قلت: فما معنى قوله وَلا يَحْزُنْكَ ومن حق الرسول أن يحزن لنفاق من نافق وارتداد من ارتد؟ قلت: معناه: لا يحزنوك لخوف أن يضروك ويعينوا عليك» «1» .
ولتضمن المسارعة معنى الوقوع تعدت بحرف «في» دون حرف «إلى» الشائع تعديتها بها كما في قوله- تعالى- وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ.
وقوله إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً تعليل للنهى عن أن يحزنه تسارعهم في الكفر أى:
لا يحزنك يا محمد حال هؤلاء المارقين الذين يسارعون في الكفر وينتقلون فيه من دركة إلى دركة أقبح من سابقتها، فإنهم مهما تمادوا في كفرهم وضلالهم ومحاولتهم إضلال غيرهم، فإنهم لن يضروا دين الله أو أولياءه بشيء من الضرر حتى ولو كان ضررا يسيرا.
ففي الكلام حذف مضاف والتقدير إنهم لن يضروا أولياء الله شيئا.
وفي هذا الحذف تشريف للمؤمنين الصادقين، وإشعار بأن مضارتهم بمنزلة مضارته- سبحانه- وفي الحديث القدسي:«من عادى لي وليا فقد آذنته بحرب» .
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى طبيعته البشرية، وغيرته على دين الله- تعالى- يحزن لإعراض المعرضين عن الحق الذي جاء به، ولقد حكى القرآن ذلك في كثير من آياته، ومنه وله- تعالى- فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ «2» وقوله- تعالى- فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً «3» .
فأراد- سبحانه- في هذه الآية الكريمة وأمثالها أن يزيل من نفس رسوله صلى الله عليه وسلم هذا الحزن الذي نتج عن كفر الكافرين، وأن يطمئنه إلى أن العاقبة ستكون له ولأتباعه المؤمنين الصادقين.
وقوله يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ استئناف لبيان جزائهم على كفرهم في الآخرة، بعد أن بين- سبحانه- عدم إضرارهم لأوليائه في الدنيا.
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 341.
(2)
سورة فاطر الآية 8.
(3)
سورة الكهف الآية 6.
أى: لا ينبغي لك يا محمد أن تحزن لمسارعة هؤلاء الضالين في الكفر، فإنهم لن يضروا أوليائى بشيء من الضرر، ولأن كفرهم ليس مراغمة لله حتى تحزن، وإنما هو بإرادته، لأنه أراد ألا يكون لهم حظ أو نصيب من الخير في الآخرة بسبب استحبابهم العمى على الهدى، ولهم مع هذا الحرمان من الخير في الآخرة عَذابٌ عَظِيمٌ لا يعلم مقدار آلامه وشدته إلا الله تعالى.
ثم أكد سبحانه هذا الحكم وقرره فقال: إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
والاشتراء في الآية الكريمة بمعنى الاستبدال على سبيل الاستعارة التمثيلية فقد شبه- سبحانه- الكافر الذي يترك الحق الواضح الذي قامت الأدلة على صحته ويختار بدله الضلال الذي قامت الأدلة على بطلانه، بمن يكون في يده سلعة ثمينة جيدة فيتركها ويأخذ في مقابلها سلعة رديئة فاسدة.
والمعنى أن الذين استبدلوا الكفر بالإيمان، لن يضروا دين الله ولا رسوله ولا أولياءه بشيء من الضرر، وإنما يضرون بفعلهم هذا أنفسهم ضررا بليغا ولهم في الآخرة عذاب مؤلم شديد الإيلام، بسبب إيثارهم الغي على الرشد، والكفر على الإيمان، والشر على الخير.
ثم بين سبحانه أن ما يتمتع به الأشرار في الدنيا من متع إنما هو استدراج لهم، فقال تعالى وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ.
وقوله نُمْلِي لَهُمْ من الإملاء وهو الإمهال والتخلية بين العامل والعمل ليبلغ مداه.
يقال: أملى فلان لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعى كيف شاء..
ويطلق الإملاء على طول المدة ورغد العيش.
والمعنى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ، بتطويل أعمارهم، وبإعطائهم الكثير من وسائل العيش الرغيد هو، خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ كلا. بل هو سبب للمزيد من عذابهم، لأننا إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً بكثرة ارتكابهم للمعاصي وَلَهُمْ في الآخرة عَذابٌ مُهِينٌ أى عذاب ينالهم بسببه الذل الذي ليس بعده ذل والهوان الذي يتصاغر معه كل هوان.
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 341.
وقوله وَلا يَحْسَبَنَّ إلخ.. عطف على قوله تعالى وَلا يَحْزُنْكَ ويكون للنهى عن الظن متجها للذين كفروا ليعلموا سوء عاقبتهم.
ويكون مفعولا يحسب قد سد مسدهما أن المصدرية وما بعدها و «ما» في قوله «أنما نملي لهم» يجوز أن تكون مصدرية، وأن تكون موصولة حذف عائدها. وقد كتبت متصلة بأن مع أن من حقها أن تكتب منفصلة عنها اتباعا للمصحف الإمام أى لا يحسبن الكافرون أن إملاءنا لهم أو أن الذي نمليه لهم من تأخير حياتهم وانتصارهم في الحروب في بعض الأحيان، هو خير لهم.
وقرأ حمزة «ولا تحسبن الذين كفروا» . فيكون الخطاب بالنهى متجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويكون المفعول الأول لحسب هو الَّذِينَ كَفَرُوا وقوله: أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ بدل من الذين كفروا سادا مسد المفعول الثاني، أو يكون هو المفعول الثاني.
والمعنى: لا تحسبن يا محمد ولا يحسبن أحد من أمتك أن إملاءنا للذين كفروا هو خير لأنفسهم، بل هو شر لهم، لأننا ما أعطيناهم الكثير من وسائل العيش الرغيد إلا على سبيل الاستدراج، وسنعاقبهم على ما ارتكبوه من آثام عقابا عسيرا.
وقوله إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً استئناف واقع موقع التعليل للنهى عن حسبان الإملاء خيرا للكافرين.
أى إنما نزيدهم من وسائل العيش الرغيد ليزدادوا آثاما بكثرة ارتكابهم للسيئات. فتكون نتيجة ذلك أن نزيدهم من العذاب المهين الذي لا يستطيعون دفعه أو التهرب منه.
و «إنما» في قوله أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ أداة حصر مركبة من «إن» التي هي حرف توكيد ومن «ما» الزائدة الكافة.
واللام في قوله لِيَزْدادُوا إِثْماً هي التي تسمى بلام العاقبة كما في قوله تعالى فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً «1» .
أى «إنما نملي لهم فيزدادون إثما، فلما كان ازدياد الإثم ناشئا عن الإملاء كان كالعلة له، وكانت نتيجة هذا الإملاء أن وقعوا في العذاب المهين.
وشبيه بهذه الآية قوله تعالى وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ «2» .
(1) سورة القصص الآية 8.
(2)
سورة التوبة الآية 85.
وقوله تعالى فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ «1» .
ثم بين- سبحانه- بعض الحكم التي اشتملت عليها غزوة أحد فقال تعالى ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ.
وقوله لِيَذَرَ أى ليترك. والمراد بالمؤمنين: المخلصون الذين صدقوا في إيمانهم والمراد بقوله عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ أى اختلاط المؤمنين بالمنافقين واستواؤهم في إجراء الأحكام.
ومعنى يميز يفصل. وقرئ يميز أن يحدد ويبين.
والمراد بالخبيث: المنافق ومن على شاكلته من ضعاف الإيمان.
والمراد بالطيب: الصادق في إيمانه.
والمعنى: ليس من شأن الله- تعالى- ولا من حكمته وسنته في خلقه أن يترككم أيها المؤمنون على ما أنتم عليه من الالتباس واختلاط المنافقين بكم، بل الذي من شأنه وسنته أن يبتليكم ويمتحنكم بألوان من المصائب والشدائد حتى يتميز المؤمنون من المنافقين، وينفصل الأخيار عن الأشرار.
قال ابن كثير: أى لا بد أن يعقد سببا من المحنة، يظهر فيه وليه ويفضح به عدوه، يعرف به المؤمن الصابر والمنافق الفاجر، يعنى بذلك يوم أحد الذي امتحن الله به المؤمنون فظهر به إيمانهم وصبرهم وجلدهم وثباتهم وطاعتهم لله ولرسوله وهتك به ستار المنافقين، فظهرت مخالفتهم، ونكولهم عن الجهاد، وخيانتهم الله ولرسوله. قال مجاهد: ميز بينهم يوم أحد» «2» .
وعبر- سبحانه- عن المؤمن بالطيب، وعن المنافق بالخبيث، ليسجل على كل منهما ما يليق به من الأوصاف، وللإشعار بعلة الحكم.
وقوله وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ معطوف على قوله ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ.
والغيب: ضد المشاهد. وهو كل ما غاب عن الحواس ولا تمكن معرفته إلا عن طريق الوحى من الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم.
واجتبى: من الاجتباء بمعنى الاختيار والاصطفاء.
(1) سورة القلم الآيتان 44، 45.
(2)
تفسير ابن كثير ج 1 ص 432.
أى: وما كان الله تعالى ليعطى أحدا منكم- معشر المؤمنين- علم الغيوب الذي به تعرفون المؤمن من المنافق، إذ علم ذلك له وحده، ولكنه- سبحانه- يصطفى من رسله من يريد اصطفاءه فيطلعه على بعض الغيوب، وذلك كما حدث لنبيكم صلى الله عليه وسلم فقد أطلعه- سبحانه- على ما دبره له اليهود حين هموا باغتياله، وأطلعه على حال تلك المرأة التي أرسلها حاطب بن أبى بلتعة برسالة إلى قريش لتخبرهم باستعداد الرسول صلى الله عليه وسلم لحربهم. وأطلعه على بعض أحوال المنافقين.
قال تعالى عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ «1» وفي قوله تعالى وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ إيذان بأن الوقوف على أمثال تلك الأسرار الغيبية، لا يتأتى إلا ممن رشحه الله- تعالى- لمنصب جليل، تقاصرت عنه همم الأمم، واصطفاه على الناس لإرشادهم.
ثم أمر الله تعالى عباده أن يثبتوا على الإيمان، وبشرهم بالأجر العظيم إذ هم استمروا على ذلك فقال: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ.
أى: إذا علمتم أيها المؤمنون أن الله لا يطلع على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول، فإنه يجب عليكم أن تؤمنوا بالله وبرسله حق الإيمان، وإن تؤمنوا بالله تعالى وبرسله حق الإيمان، وتتقوا المخالفة في الأمر والنهى، فلكم في مقابلة ذلك من الله تعالى ما لا يقادر قدره من الثواب العظيم، والأجر الجزيل.
ثم بين سبحانه بعد ذلك سوء مصير الذين يبخلون بنعم الله، فلا يؤدون حقها.
ولا يقومون بشكرها فقال تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ، بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ.
وقوله يَبْخَلُونَ من البخل وهو ضد الجود والسخاء، ومعناه: أن يقبض الإنسان يده عن إعطاء الشيء لغيره، وأن يحرص حرصا شديدا على ما يملكه من مال أو علم أو غير ذلك.
ويرى جمهور المفسرين أن المراد بالبخل هنا البخل بالمال، لأنه هو الذي يتفق مع السياق.
ويرى بعضهم أن المراد بالبخل هنا البخل بالعلم وكتمانه، وذلك لأن اليهود كتموا صفات النبي صلى الله عليه وسلم التي جاءت بها التوراة.
والذي نراه أن ما عليه الجمهور هو الأرجح، لأنه هو المتبادر من معنى الآية، وهو المتفق من سياق الكلام.
(1) سورة الجن الآية 26، 27.
ولذا قال الآلوسى: قوله- تعالى- وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بيان لحال البخل وسوء عاقبته، وتخطئة لأهله في دعواهم خيريته عقب بيان حال الإملاء
…
وقيل: وجه الارتباط أنه- تعالى- لما بالغ في التحريص على بذل الأرواح في الجهاد وغيره، شرع هنا في التحريض على بذل المال، وبين الوعيد الشديد لمن يبخل به» .
والمعنى: ولا يظنن أولئك الذين يبخلون بما أعطاهم الله من نعم وأموال أن بخلهم فيه خير لهم، كلا، بل إن بخلهم هذا فيه شر عظيم لهم.
والنهى عن الحسبان بأن البخل فيه خير في قوله وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ يدل على النفي المؤكد.
أى لا يصح لهم أن يظنوا بأية حال من الأحوال أن ذلك البخل فيه خير لهم. بل الحقيقة أن فيه شرا كبيرا لهم.
وفي قوله بِما آتاهُمُ اللَّهُ إشعار بسوء صنيعهم، وخبث نفوسهم، حيث بخلوا بشيء ليس وليد علمهم واجتهادهم، وإنما هذا الشيء منحه الله- تعالى- لهم بفضله وجوده، فكان الأولى لهم أن يشكروه على ما أعطى، وأن يبذلوا مما أعطاهم في سبيله.
والضمير «هو» يعود على البخل المستفاد من قوله يَبْخَلُونَ.
ويرى الزمخشري أنه ضمير فصل لتأكيد نفى الظن في الخيرية.
وفي إعادة الضمير، وذكر الجملة الاسمية في قوله بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ تأكيد لمعنى الشر في البخل، وأنه لا خير من ورائه قط، ففي الحديث الشريف الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم» .
ثم بين- سبحانه- المصير المؤلم لأولئك البخلاء فقال- تعالى- سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ.
وقوله سَيُطَوَّقُونَ مشتق من الطوق، وهو ما يلبس من أسفل الرقبة. أى تجعل أموالهم أطواقا حول رقابهم، وأغلالا حول أجسادهم، فيعذبون عذابا أليما بحملها.
وجمهور المفسرين على أن الكلام على ظاهره، وأن عذاب هؤلاء البخلاء بنعم الله، سيكون نوعا من العذاب الأخروى المحسوس. وقد أيد القرطبي هذا الاتجاه فقال:
«وهذه الآية نزلت في البخل بالمال والإنفاق في سبيل الله وأداء الزكاة المفروضة، ذهب إلى
هذا جماعة من المتأولين، منهم: ابن مسعود وابن عباس وأبو وائل.
قالوا: ومعنى سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ هو الذي ورد في الحديث عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه- أى شدقيه- ثم يقول له. أنا مالك أنا كنزك. ثم تلا هذه الآية: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ «1» .
ويرى بعض العلماء أن هذا الوعيد على سبيل التمثيل، وأن الظاهر غير مراد ومعنى قوله سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ عند هذا البعض: سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به من أموالهم يوم القيامة عقوبة لهم، فلا يأتون لأنهم ليس في قدرتهم ذلك.
أو المعنى: سيلزمون وبال ما بخلوا به لزوم الطوق، ويتحملون وزر ذلك يوم القيامة.
فالآية الكريمة تدعو المؤمنين إلى الجود والسخاء من أجل إعلاء كلمة الله، وتتوعد البخلاء بأقسى ألوان الوعيد وأفظعها. وتبين أن كل ما في هذا الكون إنما هو ملك لله- تعالى- وحده، فهو المعطى وهو المانع، ولذا قال- تعالى: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.
والميراث: مصدر كالميعاد. وأصله موراث فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. والمراد به ما يتوارث.
والمعنى: أن لله- تعالى- وحده لا لأحد غيره ما في السموات والأرض مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره، فما بال هؤلاء القوم يبخلون عليه بما يملكه، ولا ينفقونه في سبيله. وعلى هذا يكون الكلام جاريا على حقيقته ولا مجاز فيه.
ويصح أن يكون المعنى: أن الله- تعالى- يرث من هؤلاء ما في أيديهم مما بخلوا به من مال وغيره وينتقل منهم إليه حين يميتهم ويفنيهم، وتبقى الحسرة والندامة عليهم. وعلى هذا يكون الكلام على سبيل المجاز.
قال الزجاج: أى أن الله- تعالى- يفنى أهلهما. فيفنيان بما فيهما، فليس لأحد فيهما ملك.
فخوطبوا بما يعلمون، لأنهم يجعلون ما يرجع إلى الإنسان ميراثا، ملكا له» .
وقوله وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ تذييل قصد به حضهم على الإنفاق، ونهيهم عن البخل،
(1) تفسير القرطبي ج 4 ص 291 والشجاع: الثعبان الذكر الذي يقوم على ذنبه ويراقب الراجل والفارس، والأقرع: هو الذي يكون أملس الجلد كثير السم. والزبيبتان النكتتان السوداوان فوق عينيه.