المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 159 الى 164] - التفسير الوسيط لطنطاوي - جـ ٢

[محمد سيد طنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌[المجلد الثاني]

- ‌تفسير سورة آل عمران

- ‌مقدّمة

- ‌تعريف بسورة آل عمران

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 6]

- ‌[سورة آل عمران (3) : آية 7]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 8 الى 9]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 10 الى 13]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 14 الى 17]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 18 الى 20]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 21 الى 22]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 23 الى 25]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 26 الى 27]

- ‌[سورة آل عمران (3) : آية 28]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 29 الى 32]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 33 الى 37]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 38 الى 41]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 42 الى 47]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 48 الى 51]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 52 الى 57]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 58 الى 63]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 64 الى 71]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 72 الى 74]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 75 الى 76]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 77 الى 78]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 79 الى 80]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 81 الى 83]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 84 الى 85]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 86 الى 89]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 90 الى 92]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 93 الى 95]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 96 الى 97]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 98 الى 105]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 106 الى 109]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 110 الى 112]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 115]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 116 الى 117]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 118 الى 120]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 121 الى 129]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 130 الى 136]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 137 الى 143]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 144 الى 148]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 149 الى 151]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 152 الى 155]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 156 الى 158]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 159 الى 164]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 165 الى 168]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 169 الى 175]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 176 الى 180]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 181 الى 188]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 189 الى 200]

- ‌فهرس إجمالى لتفسير سورة «آل عمران»

الفصل: ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 159 الى 164]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 159 الى 164]

فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163)

لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)

فالخطاب في قوله- تعالى- فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ.. ألخ للنبي صلى الله عليه وسلم.

والفاء لترتيب مضمون الكلام على ما ينبئ عنه السياق من استحقاق الفارين والمخالفين للملامة والتعنيف منه. صلى الله عليه وسلم بمقتضى الجبلة البشرية.

ص: 315

والباء هنا للسببية، و «ما» مزيدة للتأكيد ولتقوية معنى الرحمة «لنت» من لان يلين لينا وليانا بمعنى الرفق وسعة الخلق و «الفظ» الغليظ الجافي في المعاشرة قولا وفعلا.

وأصل الفظ- كما يقول الراغب- ماء الكرش وهو مكروه شربه بمقتضى الطبع ولا يشرب إلا في أشد حالات الضرورة.

وغلظ القلب عبارة عن قسوته وقلة تأثره من الغلظة ضد الرقة، وتنشأ عن هذه الغلظة الفظاظة والجفاء.

والمعنى: فبسبب رحمة عظيمة فياضة منحك الله إياها يا محمد كنت لينا مع أتباعك في كل أحوالك، ولكن بدون إفراط أو تفريط، فقد وقفت من أخطائهم التي وقعوا فيها في غزوة أحد موقف القائد الحكيم الملهم فلم تعنفهم على ما وقع منهم وأنت تراهم قد استغرقهم الحزن والهم.. بل كنت لينا رفيقا معهم.

وهكذا القائد الحكيم لا يكثر من لوم جنده على أخطائهم الماضية، لأن كثرة اللوم والتعنيف قد تولد اليأس، وإنما يلتفت إلى الماضي ليأخذ منه العبرة والعظة لحاضره ومستقبله ويغرس في نفوس الذين معه ما يحفز همتهم ويشحذ عزيمتهم ويجعلهم ينظرون إلى حاضرهم ومستقبلهم بثقة وإطمئنان وبصيرة مستنيرة.

وإن الشدة في غير موضعها تفرق ولا تجمع وتضعف ولا تقوى، ولذا قال- تعالى- وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ.

أى ولو كنت- يا محمد- كريه الخلق، خشن الجانب، جافيا في أقوالك وأفعالك، قاسى القلب لا تتأثر لما يصيب أصحابك.. ولو كنت كذلك لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ أى لتفرقوا عنك ونفروا منك ولم يسكنوا إليك.

فالجملة الكريمة تنفى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون فظا أو غليظا، لأن «لو» تدل على نفى الجواب لنفى الشرط. أى أنك لست- يا محمد- فظا ولا غليظ القلب ولذلك التف أصحابك من حولك يفتدونك بأرواحهم وبكل مرتخص وغال، ويحبونك حبا يفوق حبهم لأنفسهم ولأولادهم ولآبائهم ولأحب الأشياء إليهم.

وقال- سبحانه- وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لينفى عنه صلى الله عليه وسلم القسوة والغلظة في الظاهر والباطن: إذ القسوة الظاهرية تبدو أكثر ما تبدو في الفظاظة التي هي خشونة الجانب، وجفاء الطبع، والقسوة الباطنية تكون بسبب يبوسة القلب، وغلظ النفس وعدم تأثرها بما يصيب غيرها. والرسول صلى الله عليه وسلم كان مبرأ من كل ذلك، ويكفى أن الله- تعالى- قد قال في وصفه:

ص: 316

لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «1» .

وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: إنى أرى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة. إنه ليس بفظ، ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزى بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح، «2» .

ولقد كان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم مداراة الناس إلا أن يكون في المداراة حق مضيع فعن عائشة رضى الله عنها، قالت:«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله أمرنى بمداراة الناس كما أمرنى بإقامة الفرائض» «3» .

ثم أمر الله تعالى، نبيه صلى الله عليه وسلم، بما يترتب على الرفق والبشاشة فقال: فَاعْفُ عَنْهُمْ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ، وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ.

فالفاء هنا تفيد ترتيب ما بعدها على ما قبلها، أى أنه يترتب على لين جانبك مع أصحابك، ورحمتك بهم، أن تعفو عنهم فيما وقعوا فيه من أخطاء تتعلق بشخصك أو ما وقعوا فيه من مخالفات أدت إلى هزيمتهم في أحد، فقد كانت زلة منهم وقد أدبهم الله عليها.

وأن تلتمس من الله تعالى، أن يغفر لهم ما فرط منهم، إذ في إظهارك ذلك لهم تأكيد لعفوك عنهم. وتشجيع لهم على الطاعة والاستجابة لأمرك. وأن تشاورهم في الأمر أى في أمر الحرب ونحوه مما تجرى فيه المشاورة في العادة من الأمور التي تهم الأمة.

وقد جاءت هذه الأوامر للنبي صلى الله عليه وسلم، على أحسن نسق، وأحكم ترتيب، لأن الله تعالى أمره أولا بالعفو عنهم فيما يتعلق بخاصة نفسه، فإذا ما انتهوا إلى هذا المقام، أمره بأن يستغفر لهم ما بينهم وبين الله تعالى، لتنزاح عنهم التبعات، فإذا صاروا إلى هذه الدرجة، أمره بأن يشاورهم في الأمر لأنهم قد أصبحوا أهلا لهذه المشاورة.

ولقد تكلم العلماء كلاما طويلا عن حكم المشورة وعن معناها، وعن فوائدها، فقد قال القرطبي ما ملخصه: والاستشارة مأخوذة من قول العرب: شرت الدابة وشوّرتها، إذا علمت خبرها وحالها يجرى أو غيره.. وقد يكون من قولهم: شرت العسل واشترته، إذا أخذته من موضعه.

(1) سورة التوبة الآية 128.

(2)

تفسير ابن كثير ج 1 ص 420.

(3)

تفسير ابن كثير ج 1 ص 420.

ص: 317

ثم قال: واختلف أهل التأويل في المعنى الذي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور فيه أصحابه فقالت طائفة: ذلك في مكائد الحروب، وعند لقاء العدو، تطييبا لنفوسهم ورفعا لأقدارهم وإن كان الله- تعالى- قد أغناه عن رأيهم بوحيه.

وقال آخرون: ذلك فيما لم يأته فيه وحى. فقد قال الحسن: ما أمر الله- تعالى- نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم، وإنما أراد أن يعلمهم ما في المشاورة من الفضل وليقتدى به أمته من بعده.

ثم قال: والشورى من قواعد الشريعة، وعزائم الأحكام، والذي لا يستشير أهل العلم والدين- والخبرة- فعزله واجب وهذا لا خلاف فيه.

وقد استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في كثير من الأمور، وقال «المستشار مؤتمن» وقال «ما ندم من استشار ولا خاب من استخار» وقال:«ما شقي قط عبد بمشورة وما سعد باستغناء رأى» .

وقال البخاري: «وكانت الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها» «1» .

وقال الفخر الرازي ما ملخصه: «اتفقوا على أن كل ما نزل فيه وحى من عند الله لم يجز للرسول صلى الله عليه وسلم أن يشاور فيه الأمة، لأنه إذا جاء النص بطل الرأى والقياس، فأما مالا نص فيه فهل تجوز المشاورة فيه في جميع الأشياء أولا؟

قال بعضهم: هذا الأمر مخصوص بالمشاورة في الحروب، لأن الألف واللام في لفظ «الأمر» تعود على المعهود السابق وهو ما يتعلق بالحروب- إذ الكلام في غزوة أحد-.

وقال آخرون: اللفظ عام خص منه ما نزل فيه وحي فتبقى حجته في الباقي وظاهر الأمر في قوله وَشاوِرْهُمْ للوجوب وحمله الشافعى على الندب.. «2» .

والحق أن الشورى أصل من أصول الحكم في الإسلام، وقد استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في غزوات بدر وأحد والأحزاب وفي غير ذلك من الأمور التي تتعلق بمصالح المسلمين، وسار على هذا المنهج السلف الصالح من هذه الأمة.

ولقد كان عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- يكتب لعماله يأمرهم بالتشاور ويتمثل لهم في كتبه بقول الشاعر:

خليلي ليس الرأى في صدر واحد

أشيرا على بالذي تريان

(1) تفسير القرطبي ج 4 ص 249 بتصرف وتلخيص. [.....]

(2)

تفسير الفخر الرازي ج 9 ص 67.

ص: 318

وقد تمدح الحكماء والشعراء بفضيلة الشورى وما يترتب عليها من خير ومنفعة ومن ذلك قول بشار بن برد:

إذا بلغ الرأى المشورة فاستعن

برأى نصيح أو نصيحة حازم

ولا تحسب الشورى عليك غضاضة

فإن الخوافي قوة للقوادم

والحكام العقلاء المنصفون المتحرون للحق والعدل هم الذين يقيمون حكمهم على مبدأ الشورى ولا يعادى الشورى من الحكام إلا أحد اثنين:

إما رجل قد أصيب بداء الغرور والتعالي، فهو يتوهم أن قوله هو الحق الذي لا يخالطه باطل، وأنه ليس محتاجا إلى مشورة غيره وإما رجل ظالم مستبد مجانب للحق، فهو ينفذ ما يريده بدون مشورة أحد لأنه يخشى إذا استشار غيره أن يطلع الناس على ظلمه وجوره وفجوره.

هذا ومتى تمت المشورة على أحسن الوجوه وأصلحها واستقرت الأمور على وجه معين، فعلى العاقل أن يمضى على ما استقر عليه الرأى بدون تردد أو تخاذل، ولذا قال- سبحانه- فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ.

أى فإذا عقدت نيتك على إتمام الأمر وإمضائه بعد المشاورة السليمة وبعد أن تبين لك وجه السداد فيما يجب أن تسلكه فبادر بتنفيذ ما عقدت العزم على تنفيذه، وفَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أى اعتمد عليه في الوصول إلى غايتك، فإن الله- تعالى- يحب المعتمدين عليه، المفوضين أمورهم إليه مع مباشرة الأسباب التي شرعها لهم لكي يصلوا إلى مطلوبهم.

فالجملة الكريمة تأمر النبي صلى الله عليه وسلم وتأمر كل من يتأتى له الخطاب بأن يبذل أقصى جهده لمعرفة ما هو صواب بأن يستشير أهل الخبرة كل في مجال تخصصه فإذا ما استقر رأيه على وجهة نظر معينة- بعد أن درسها دراسة فاحصة واستشار العقلاء الأمناء فيها- فعليه أن يبادر إلى تنفيذها بدون تردد فإن التردد يضيع الأوقات والتأخر كثيرا ما يحول الحسنات إلى سيئات وعليه مع حسن الاستعداد أن يكون معتمدا على الله، مظهرا العجز أمام قدرته- سبحانه- لأنه هو الخالق للأسباب والمسببات وهو القادر على تغييرها.

وكم من أناس اعتمدوا على قوتهم وحدها، أو على مباشرتهم للأسباب وحدها دون أن يجعلوا للاعتماد على الله مكانا في نفوسهم، فكانت نتيجتهم الفشل والخذلان وكانت الهزيمة المنكرة المرة التي اكتسبوها بسبب غرورهم وفجورهم وفسوقهم عن أمر الله. ورحم الله القائل

إذا لم يكن عون من الله للفتى

فأول ما يجنى عليه اجتهاده

ولقد أكد الله- تعالى- وجوب التوكل عليه بعد ذلك في قوله:

ص: 319

إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ. وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ؟

والمراد بالنصر هنا العون الذي يسوقه لعباده حتى ينتصروا على أعدائهم. والمراد بالخذلان ترك العون. والمخذول، هو المتروك الذي لا يعبأ به.

يقال: خذلت الوحشية إذا أقامت على ولدها في المرعى وتركت صواحباتها.

والمعنى: إن يرد الله- تعالى- نصركم كما نصركم يوم بدر- فَلا غالِبَ لَكُمْ أى فإنه لا يوجد قوم يستطيعون قهركم، لأن الله معكم، ومن كان الله معه فلن يغلبه أحد من الخلق.

وإن يرد أن يخذلكم ويمنع عنكم عونه كما حدث لكم يوم أحد، فلن يستطيع أحد أن ينصركم من بعد خذلانه، لأنه لا يوجد أحد عنده قدرة تقف أمام قدرة الله- تعالى- ومشيئته.

والاستفهام هنا إنكارى بمعنى النفي، أى لا أحد يستطيع نصركم إن أراد الله خذلانكم، وهو جواب للشرط الثاني.

وفيه لطف بالمؤمنين، حيث صرح لهم بعدم الغلبة في الأول، ولم يصرح لهم بأنهم لا ناصر لهم في الثاني، بل أتى به في صورة الاستفهام وإن كان معناه نفيا ليكون أبلغ، إذ في مجيئه على هذه الصورة الاستفهامية توجيه لأنظار المخاطبين إلى البحث عن قوى تكون قدرته كافية للوقوف أمام إرادة الله- تعالى- ولا شك أنهم لن يجدوه، وعندئذ سيعتقدون عن يقين بأن الله وحده هو الكبير المتعال، وأنه لا ناصر لهم سواه.

وقوله وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أى وعلى الله وحده لا على أحد سواه. فليجعل المؤمنون اعتمادهم واتكالهم عليه، لأن الذين يعتمدون على أن قوة سوى الله- تعالى- لن يصلوا إلى العاقبة الطيبة التي أعدها- سبحانه- لعباده المتقين.

فالآية الكريمة كلام مستأنف، وقد سيق بطرق تلوين الخطاب، تشريفا للمؤمنين لإيجاب التوكل عليه والترغيب في طاعته التي تؤدى إلى النصر، وتحذيرا لهم من معصيته التي تفضى إلى الخسران والخذلان.

ثم نهى- سبحانه- عن الغلول ونزه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال- تعالى- وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ، وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ وقوله يَغُلَّ من الغلول وهو الأخذ من الغنيمة خفية قبل قسمتها. يقال: غل فلان شيئا من المغنم يغل غلولا إذا أخذه خفية. ويقال: أغل الجازر أو السالخ إذا أبقى في الجلد شيئا من اللحم على طريق الخفية.

وأصله من الغلل وهو دخول الماء في خلل الشجر خفية. والغل: الحقد الكامن في الصدر وسميت هذه الخيانة غلولا، لأنها تجرى في المال على خفاء من وجه لا يحل.

ص: 320

والمعنى: ما صح ولا استقام لنبي من الأنبياء أن يخون في المغنم، لأن الخيانة تتنافى مع مقام النبوة الذي هو أشرف المقامات وَمَنْ يَغْلُلْ أى ومن يرتكب شيئا من ذلك، يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ أى يأت بما غله يوم القيامة حاملا إياه ليكون فضيحة له يوم الحشر، ليؤخذ بإثم غلوله وخيانته.

وقد روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه أبو داود والترمذي عن ابن عباس قال: «نزلت هذه الآية» وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر.

فقال بعض الناس: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها، وأكثروا في ذلك فأنزل الله الآية» .

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أيضا أن المنافقين اتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء فقد، فأنزل الله- تعالى- وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ.

قال ابن كثير- بعد أن ساق هاتين الروايتين- وهذا تنزيه له صلى الله عليه وسلم من جميع وجوه الخيانة في أداء الأمانة وقسمة الغنيمة وغير ذلك «1» .

وفي ورود هذه الآية الكريمة في سياق الحديث عن غزوة أحد، حكمة عظيمة، وتأديب من الله للمؤمنين، وتحذير لهم من الغلول، ذلك أن الرماة الذين تركوا أماكنهم مخالفين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دفعهم لذلك خشيتهم من أن ينفرد المقاتلون بالغنائم، ففعلوا ما فعلوا، ولقد روى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للرماة:«أظننتم أنا نغل ولا نقسم لكم» «2» .

وقد نهى صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحاديث عن الغلول ومن ذلك ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبى هريرة قال: «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره، ثم قال لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثنى، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك، ولا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول: يا رسول الله أغثنى فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك، ولا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول يا رسول الله أغثنى فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول: يا رسول الله أغثنى فأقول: لا أملك من الله شيئا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق- أى ثياب- فيقول يا رسول الله أغثنى فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت- أى ذهب وفضة- فيقول: يا رسول الله أغثنى فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك» .

(1) تفسير ابن كثير ص 421.

(2)

تفسير الآلوسى ج 4 ص 109.

ص: 321

هذا، وجمهور العلماء على أن الغال يأتى بما غله يوم القيامة بعينه على سبيل الحقيقة لأن ظواهر النصوص من الكتاب والسنة نؤيد ذلك. ولأنه لا موجب لصرف الألفاظ عن ظواهرها.

ومن العلماء من جعل الإتيان بالغلول يوم القيامة مجاز عن الإتيان بإثمه تعبيرا بما غل عما لزمه من الإثم مجازا.

قال الفخر الرازي: «واعلم أن هذا التأويل- المجازى- يحتمل، إلا أن الأصل المعتبر في علم القرآن أنه يجب إجراء اللفظ على الحقيقة إلا إذا قام دليل يمنع منه. وهنا لا مانع من هذا الظاهر فوجب إثباته» «1» .

ومن المفسرين الذين حملوا الإتيان على ظاهره الإمام القرطبي فقد قال عند تفسيره لقوله- تعالى- وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ أى يأتى به حاملا له على ظهره ورقبته معذبا بحمله وثقله ومرعوبا بصوته، وموبخا بإظهار خيانته على رءوس الاشهاد.

وقال بعد إيراده للحديث السابق الذي رواه مسلم عن أبى هريرة: قيل الخبر محمول على شهرة الأمر. أى يأتى يوم القيامة قد شهر الله أمره كما يشهر لو حمل بعيرا له رغاء أو فرسا له حمحمة.

قلت: وهذا عدول عن الحقيقة إلى المجاز والتشبيه، وإذا دار الكلام بين الحقيقة والمجاز فالحقيقة الأصل- كما في كتب الأصول- وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالحقيقة ولا عطر بعد عروس» «2» .

ثم نبه- سبحانه- على العقوبة التي ستحل بالخائن، بعد أن بين ما سيناله من فضيحة وخزي فقال: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ.

أى: ثم تعطى كل نفس يوم القيامة جزاء ما كسبت من خير أو شر وافيا تاما، وهم لا يظلمون شيئا، لأن الحاكم بينهم هو ربك الذي لا يظلم أحدا.

وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها وقوله وَمَنْ يَغْلُلْ وجاء العطف بثم المفيدة للتراخي، للإشعار بالتفاوت الشديد بين حمله ما غل وبين جزائه وسوء عاقبته يوم القيامة.

وقال- سبحانه- ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ.. بصيغة العموم، ولم يقل ثم يوفى الغال مثلا- لأن من فوائد ذكر هذا الجزاء بصيغة العموم، الإعلام والإخبار للغال وغيره من جميع الكاسبين

(1) تفسير الفخر الرازي ج 9 ص 73.

(2)

تفسير القرطبي ج 4 ص 257.

ص: 322

بأن كل إنسان سيجازى على عمله سواء أكان خيرا أو شرا. فيندرج الغال تحت هذا العموم أيضا فكأنه قد ذكر مرتين.

وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: فإن قلت: هلا قيل ثم يوفى ما كسب ليتصل به؟ قلت: جيء بعام دخل تحته كل كاسب من الغال وغيره فاتصل به من حيث المعنى، وهو أبلغ وأثبت، لأنه إذا علم الغال أن كل كاسب خيرا أو شرا مجزى فموفى جزاءه، علم أنه غير متخلص من بينهم مع عظم ما اكتسب «1» .

ثم أكد- سبحانه- نفى الظلم عن ذاته فقال: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ بأن واظب على ما يرضيه، والتزم طاعته، وترك كل ما نهى عنه من غلول وغيره كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ أى كمن رجع بغضب عظيم عليه من الله بسبب غلوله وخيانته وارتكابه لما نهى الله عنه من أقوال وأفعال؟

فالآية الكريمة تفريع على قوله- تعالى- قبل ذلك ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وتأكيد لبيان أنه لا يستوي المحسن والمسيء والأمين والخائن.

والاستفهام إنكارى بمعنى النفي، أى لا يستوي من اتبع رضوان الله مع من باء بسخط منه.

وقد ساق- سبحانه- هذا الكلام الحكيم بصيغة الاستفهام الإنكارى، للتنبيه على أن عدم المساواة بين المحسن والمسيء أمر بدهى واضح لا تختلف فيه العقول والأفهام، وأن أى إنسان عاقل لو سئل عن ذلك لأجاب بأنه لا يستوي من اتبع رضوان الله مع من رجع بسخط عظيم منه بسبب كفره أو فسقه وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى- أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً. لا يَسْتَوُونَ «2» .

وقوله أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ «3» ؟

والفاء في قوله أَفَمَنِ اتَّبَعَ للعطف على محذوف والتقدير، أمن اتقى فاتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله؟

ثم أعقب- سبحانه- ذكر سخطه بذكر عقوبته فقال: وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أى أن هذا الذي رجع بغضب عظيم عليه من الله- تعالى- بسبب كفره أو فسوقه أو خيانته، سيكون مثواه ومصيره إلى النار وبئس ذلك المصير الذي صار إليه وكان له مرجعا ونهاية.

(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 435.

(2)

سورة السجدة الآية 18.

(3)

سورة ص الآية 28.

ص: 323

ثم بين- سبحانه- النتيجة التي ترتبت على عدم تساوى المحسن والمسيء فقال هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ.

والضمير هُمْ يعود على من في قوله أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ وقوله كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ أى على الفريقين. وبعضهم جعل مرجعه إلى الفريق الأول فقط.

والدرجات: جمع درجة وهي الرتبة والمنزلة، ومنه الدرج بمعنى السلم لأنه يصعد عليه درجة بعد درجة.

وأكثر ما تستعمل الدرجة في القرآن في المنزلة الرفيعة، كما في قوله- تعالى- وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ «1» . بخلاف الدركة فإنها تستعمل في عكس ذلك، كما في قوله- تعالى- إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ «2» .

ولذا قال الراغب: «الدرك كالدرج لكن الدرج يقال اعتبارا بالصعود، والدرك اعتبارا بالحدور، ولهذا قيل: درجات الجنة ودركات النار ولتصور الحدور في النار سميت هاوية..» «3» .

والمعنى: هم أى الأخيار الذين اتبعوا رضوان الله، والأشرار الذين رجعوا بسخط منه متفاوتون في الثواب والعقاب على حسب أعمالهم كما تتفاوت الدرجات وإطلاق الدرجات على الفريقين من باب التغليب للأخيار على الأشرار والمراد إن الذين اتبعوا رضوان الله يتفاوتون في الثواب الذي يمنحهم الله إياه على حسب قوة إيمانهم، وحسن أعمالهم.

كما أن الذين باءوا بسخط منه يتفاوتون في العقاب الذي ينزل بهم على حسب ما اقترفوه من شرور وآثام، فمن أوغل في الشرور والآثام كان عقابه أشد من عقاب من لم يفعل فعله وهكذا.

والذين قالوا إن الضمير هُمْ يعود على الطريق الأول فقط احتجوا بأن التعبير بالدرجات يستعمل في الغالب في الثواب، وبأن الله قد أضاف هذه الدرجات لنفسه فدل ذلك على أن المقصود بقوله: هم الذين اتبعوا رضوان الله. وبأن هؤلاء الذين اتبعوا رضوان الله قد فضل الله بعضهم على بعض كما جاء في بعض الآيات ومنها قوله:

(1) سورة الزخرف الآية 32.

(2)

سورة النساء الآية 145.

(3)

مفردات القرآن للراغب الأصفهاني ص 167.

ص: 324

انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا «1» . والذي نراه أن عودة الضمير «هم» على الفريقين أقرب إلى الحق، لأن تفاوت الدرجات موجود بين الأخيار كما أن تفاوت العقوبات موجود بين الأشرار، فالذين أدوا جميع ما كلفهم الله به من طاعات ليسوا كالذين اكتفوا بأداء الفرائض. والذين انحدروا في المعاصي إلى النهاية ليسوا كالذين وقعوا في بعضها.

وقوله عِنْدَ اللَّهِ أى في حكمه وعلمه وهو تشريف لهم والظرف متعلق بدرجات على المعنى، أو متعلق بمحذوف وقع صفة لها. أى درجات كائنة عند الله.

وقوله وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ أى مطلع على أعمال العباد صغيرها وكبيرها ظاهرها وخفيها، لا يغيب عنه شيء، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه على حسب عمله، بمقتضى علمه الكامل، وعدله الذي لا ظلم معه.

وبعد أن نزه الله- تعالى- نبيه صلى الله عليه وسلم عن الغلول وعن كل نقص، وبين أن الناس متفاوتون في الثواب والعقاب على حسب أعمالهم..

بعد أن بين ذلك أتبعه ببيان فضله- سبحانه- على عباده في أن بعث فيهم رسولا منهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور فقال- تعالى-: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ.

قال الرازي: قال الواحدي: «لمن في كلام العرب معان:

أحدها: الذي يسقط من السماء، وهو قوله: وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى.

وثانيها: أن تمن بما أعطيت كما في قوله لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى.

وثالثها: القطع كما في قوله وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ورابعها الإنعام والإحسان إلى من لا تطلب الجزاء منه- وهو المراد هنا» «2» .

والمعنى: لقد أنعم الله على المؤمنين، وأحسن إليهم إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ أى بعث فيهم رسولا عظيم القدر، هو من العرب أنفسهم، وهم يعرفون حسبه ونسبه وشرفه وأمانته صلى الله عليه وسلم.

وعلى هذا المعنى يكون المراد بقوله مِنْ أَنْفُسِهِمْ أى من نفس العرب، ويكون المراد بالمؤمنين مؤمنى العرب، وقد بعثه الله عربيا مثلهم، ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته والانتفاع بتوجيهاته.

(1) سورة الإسراء الآية 21.

(2)

تفسير الفخر الرازي ج 9 ص 87.

ص: 325

ويصح أن يكون معنى قوله مِنْ أَنْفُسِهِمْ أنه بشر مثل سائر البشر إلا أن الله- تعالى- وهبه النبوة والرسالة، ليخرج الناس- العربي منهم وغير العربي- من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان، وجعل رسالته عامة فقال: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ.

وخص الله- تعالى- منته وفضله بالمؤمنين، لأنهم هم الذين انتفعوا بنعمة الإسلام، الذي لن يقبل الله دينا سواه والذي جاء به محمد- عليه الصلاة والسلام.

والجملة الكريمة جواب قسم محذوف والتقدير: والله لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.

ثم بين- سبحانه- مظاهر هذه المنة والفضل ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ والتلاوة: هي القراءة المتتابعة المرتلة التي يكون بعضها تلو بعض.

والتزكية: هي التطهير والتنقية.

أى لقد أعطى الله- تعالى- المؤمنين من النعم ما أعطى، لأنه قد بعث فيهم رسولا من جنسهم يقرأ عليهم آيات الله التي أنزلها لهدايتهم وسعادتهم، وَيُزَكِّيهِمْ أى يطهرهم من الكفر والذنوب. أو يدعوهم إلى ما يكونون به زاكين طاهرين مما كانوا عليه من دنس الجاهلية والاعتقادات الفاسدة.

وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ بأن يبين لهم المقاصد التي من أجلها نزل القرآن الكريم، ويشرح لهم أحكامه، ويفسر لهم ما خفى عليهم من ألفاظه ومعانيه التي قد تخفى على مداركهم.

فتعليم الكتاب غير تلاوته: لأن تلاوته قراءته مرتلا مفهوما أما تعليمه فمعناه بيان أحكامه وما اشتمل عليه من تشريعات وآداب.

ويعلمهم كذلك الْحِكْمَةَ أى الفقه في الدين ومعرفة أسراره وحكمه ومقاصده التي يكمل بها العلم بالكتاب.

وهذه الآية الكريمة قد اشتملت على عدة صفات من الصفات الجليلة التي منحها الله تعالى- لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

ثم بين- سبحانه- حال الناس قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ.

أى: إن حال الناس وخصوصا العرب أنهم كانوا قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم في ضلال بين واضح لا يخفى أمره على أحد من ذوى العقول السليمة والأذواق المستقيمة.

ص: 326