المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 18 الى 20] - التفسير الوسيط لطنطاوي - جـ ٢

[محمد سيد طنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌[المجلد الثاني]

- ‌تفسير سورة آل عمران

- ‌مقدّمة

- ‌تعريف بسورة آل عمران

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 6]

- ‌[سورة آل عمران (3) : آية 7]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 8 الى 9]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 10 الى 13]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 14 الى 17]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 18 الى 20]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 21 الى 22]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 23 الى 25]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 26 الى 27]

- ‌[سورة آل عمران (3) : آية 28]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 29 الى 32]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 33 الى 37]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 38 الى 41]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 42 الى 47]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 48 الى 51]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 52 الى 57]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 58 الى 63]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 64 الى 71]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 72 الى 74]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 75 الى 76]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 77 الى 78]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 79 الى 80]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 81 الى 83]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 84 الى 85]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 86 الى 89]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 90 الى 92]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 93 الى 95]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 96 الى 97]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 98 الى 105]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 106 الى 109]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 110 الى 112]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 115]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 116 الى 117]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 118 الى 120]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 121 الى 129]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 130 الى 136]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 137 الى 143]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 144 الى 148]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 149 الى 151]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 152 الى 155]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 156 الى 158]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 159 الى 164]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 165 الى 168]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 169 الى 175]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 176 الى 180]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 181 الى 188]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 189 الى 200]

- ‌فهرس إجمالى لتفسير سورة «آل عمران»

الفصل: ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 18 الى 20]

وخص وقت الأسحار بالذكر لأن النفس تكون فيه أصفى، والقلب فيه أجمع، ولأنه وقت يستلذ فيه الكثيرون النوم فإذا أعرض المؤمن عن تلك اللذة وأقبل على ذكر الله كانت الطاعة أكمل وأقرب إلى القبول.

وبهذا نرى أن الآيات الكريمة قد كشفت عن المشتهيات التي يميل إليها الناس في دنياهم بمقتضى فطرتهم، وأرشدتهم إلى ما هو أسمى وأعلى وأبقى من ذلك وبشرتهم برضوان الله وجناته، متى استقاموا على طريقه، واستجابوا لتعاليمه، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.

وبعد أن بين- سبحانه- ما أعده للمتقين، وذكر صفاتهم عقب ذلك ببيان أساس التقوى وهو عقيدة التوحيد، وببيان أن الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله- تعالى- للناس، وأن من يعارض في ذلك معارضته داحضة وسيعاقبه الله بما يستحقه. استمع إلى القرآن وهو يحكى ذلك بأسلوبه الحكيم فيقول:

[سورة آل عمران (3) : الآيات 18 الى 20]

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20)

قال القرطبي: «لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام فلما أبصرا المدينة قال أحدهما للآخر: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر

ص: 54

الزمان! فلما دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم عرفاه بالصفة والنعت فقالا له: أنت محمد؟ قال نعم قالا:

وأنت أحمد؟ قال: نعم. قالا: نسألك عن شهادة فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك.

فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلانى. فقالا: أخبرنا عن الأعظم شهادة في كتاب الله. فأنزل الله تعالى- على نبيه صلى الله عليه وسلم شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ فأسلم الرجلان وصدقا برسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أى بين وأعلم كما يقول:

شهد فلان عند القاضي إذا بين وأعلم لمن الحق أو على من هو قال الزجاج: «الشاهد هو الذي يعلم الشيء ويبينه، فقد دلنا الله على وحدانيته بما خلق وبين» «1» .

والمعنى: أخبر الله- تعالى- عباده وأعلمهم بالآيات القرآنية التي أنزلها على نبيه، وبالآيات الكونية التي لا يقدر على خلقها أحد سواه، وبغير ذلك من الأدلة القاطعة التي تشهد بوحدانيته، وأنه لا معبود بحق سواه، وأنه هو المنفرد بالألوهية لجميع الخلائق. وأن الجميع عبيده وفقراء إليه وهو الغنى عن كل ما عداه. وشهد بذلك «الملائكة» بأن أقروا بأنه هو الواحد الأحد الفرد الصمد فعبدوه حق العبادة، وأطاعوه حق الطاعة، وشهد بذلك أيضا «أولو العلم» بأن اعترفوا له- سبحانه- بالوحدانية، وصدقوا بما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم وبلغوا ذلك لغيرهم.

قال الزمخشري: شبهت دلالته على وحدانيته بأفعاله الخاصة التي لا يقدر عليها غيره، وبما أوحى من آياته الناطقة بالتوحيد كسورة الإخلاص وآية الكرسي وغيرهما، بشهادة الشاهد في البيان والكشف وكذلك إقرار الملائكة وأولى العلم بذلك واحتجاجهم عليه» «2» .

وقالوا: وفي هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء، فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء، لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته كما قرن العلماء. وقال في شرف العلم لنبيه- صلى الله عليه وسلم وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله نبيه أن يسأله المزيد منه كما أمر أن يستزيده من العلم. وقال صلى الله عليه وسلم «إن العلماء ورثة الأنبياء» وقال:«العلماء أمناء الله على خلقه» . وهذا شرف للعلماء عظيم ومحل لهم في الدين خطير «3» .

والمراد بأولى العلم هنا جميع العلماء الذين سخروا ما أعطاهم الله من معارف في خدمة عقيدتهم، وفيما ينفعهم وينفع غيرهم، وأخلصوا الله في عبادتهم، وصدقوا في أقوالهم وأفعالهم.

وقدم- سبحانه- الملائكة على أولى العلم، لأن فيهم من هو واسطة لتوصيل العلم إلى

(1) تفسير القرطبي ج 4 ص 41.

(2)

تفسير الكشاف ج 1 ص 444.

(3)

تفسير القرطبي ج 4 ص 41.

ص: 55

ذويه، لأن علمهم كله ضروري بخلاف البشر فإن علمهم منه ما هو ضروري، ومنه ما هو اكتسابى.

وقوله- تعالى- قائِماً بِالْقِسْطِ بيان لكماله- سبحانه- في أفعاله إثر بيان كماله في ذاته.

والقسط: العدل. يقال قسط ويقسط قسطا، وأقسط إقساطا فهو مقسط إذا عدل ومنه إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. ويطلق القسط على الجور، والفاعلي قاسط، ومنه «وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا» .

أى: مقيما للعدل في تدبير أمر خلقه، وفي أحكامه. وفيما يقسم بينهم من الأرزاق والآجال، وفيما يأمر به وينهى عنه، وفي كل شأن من شئونه.

قال الجمل وقائِماً منصوب على أنه حال من الضمير المنفصل الواقع بعد إلا، فتكون الحال أيضا في حيز الشهادة، فيكون المشهود به أمرين: الوحدانية والقيام بالقسط وهذا أحسن من جعله حالا من الاسم الجليل فاعلى شهد، لأن عليه يكون المشهود به الوحدانية فقط والحال ليست في حيز الشهادة «1» .

وقوله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تكرير للمشهود به للتأكيد والتقرير، وفيه إشارة إلى مزيد الاعتناء بمعرفة أدلته لأن تثبيت المدعى إنما يكون بالدليل، والاعتناء به يقتضى الاعتناء بأدلته.

الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ صفتان مقررتان لما وصف به ذاته من الوحدانية والعدل. أى لا إله في هذا الوجود يستحق العبادة بحق إلا الله الْعَزِيزُ الذي لا يمتنع عليه شيء أراده، وينتصر من كل أحد عاقبه أو انتقم منه الْحَكِيمُ في تدبيره فلا يدخله خلل.

قال ابن جرير: «وإنما عنى جل ثناؤه- بهذه الآية نفى ما أضافت النصارى الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيسى من النبوة، وما نسب إليه سائر أهل الشرك: من أن له شريكا، واتخاذهم دونه أربابا، فأخبرهم الله عن نفسه، أنه الخالق كل ما سواه، وأنه رب كل ما اتخذه كل كافر وكل مشرك ربا دونه، وأن ذلك مما يشهد به هو وملائكته وأهل العلم به من خلقه.

فبدأ- جل ثناؤه- بنفسه تعظيما لنفسه، وتنزيها لها عما نسب الذين ذكرنا أمرهم من أهل الشرك به ما نسبوا إليها، كما سن لعباده أن يبدءوا في أمورهم بذكره قبل ذكر غيره مؤدبا خلقه بذلك» «2» .

(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 1 ص 251.

(2)

تفسير ابن جرير الطبري ج 2 ص 210 طبعة الحلبي.

ص: 56

هذا، ومن الآثار التي وردت في فضل هذه الآية ما رواه الإمام أحمد عن الزبير بن العوام قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة يقرأ هذه الآية شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ.. إلى آخر الآية. فقال صلى الله عليه وسلم: «وأنا على ذلك من الشاهدين يا رب» وقال غالب القطان: أتيت الكوفة في تجارة لي فنزلت قريبا من الأعمش فكنت اختلف إليه، فقام في ليلة متهجدا فمر بهذه الآية شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فقال: وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي وديعة «إن الدين عند الله الإسلام» ، - قالها مرارا- فقلت. لقد سمع فيها شيئا فسألته في ذلك فقال: حدثني أبو وائل بن عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله- تعالى- «عبدى عهد إلى وأنا أحق من وفي العهد ادخلوا عبدى الجنة» «1» .

وقوله إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ جملة مستأنفة مؤكدة للجملة الأولى. وأصل الدين في اللغة الجزاء والحساب. يقال دنته بما صنع أى جازيته على صنيعه، ومنه قولهم: كما تدين تدان أى، كما تفعل تجازى، وفي الحديث «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت» والمراد به هنا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند ربه من عقائد وتكاليف وتشريعات، فيكون بمعنى الملة والشرع.

أى: إن الشريعة المرضية عند الله- تعالى- هي الإسلام، والإسلام في اللغة هو الاستسلام والانقياد يقال: أسلم أى انقاد واستسلم. وأسلم أمره الله سلمه إليه والمراد به هنا- كما قال ابن جرير: «شهادة أن لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء من عند الله، وهو دين الله الذي شرعه لنفسه وبعث به رسله، ودل عليه أولياءه، لا يقبل غيره ولا يجزى بالإحسان إلا به» «2» وهو الدين الحنيف الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.

وقال ابن كثير: وقوله- تعالى- إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ إخبار منه تعالى- بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لقى الله تعالى- بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بدين على غير شريعته فليس بمتقبل كما قال- تعالى- وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ الآية. وقال في هذه الآية مخبرا بانحصار الدين المتقبل عنده في الإسلام إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ «3» .

(1) تفسير ابن كثير ج 1 ص 354.

(2)

تفسير ابن جرير ج 3 ص 212.

(3)

تفسير ابن كثير ج 1 ص 354.

ص: 57

وقوله: عِنْدَ اللَّهِ ظرف العامل فيه لفظ الدين لما تضمنه من معنى الفعل، أى الذي شرع عند الله الإسلام. ويصح أن يكون صفة للدين فيكون متعلقا بمحذوف أى الكائن أو الثابت عند الله الإسلام. وفي إضافة الدين إلى الله- تعالى- بقوله عِنْدَ اللَّهِ وباعتبار الإسلام وحده، هو دين الله، كما يدل على ذلك تعريف الطرفين، إشعار بفضل الإسلام، لأن له ذلك الشرف الإضافى إلى خالق هذا الكون ومربيه، فهو دين الله الذي شرعه لخلقه.

ثم بين- سبحانه- أن اختلاف أهل الكتاب في شأن الدين الحق لم يكن عن جهل منهم بالحقائق وإنما كان سببه البغي والحسد وطلب الدنيا فقال- تعالى- وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ.

أى: وما كان خلاف الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى فيما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم إلا من بعد أن علموا بأن ما جاءهم به هو الحق الذي لا باطل معه، فخلافهم لم يكن عن جهل منهم بأن ما جاءهم به هو الحق وإنما كان سببه البغي والحسد والظلم فيما بينهم.

وفي التعبير عنهم بأنهم أُوتُوا الْكِتابَ زيادة تقبيح لهم فإن الاختلاف بعد إتيان الكتاب أقبح وأفحش، إذ الكتاب ما نزل إلا لهدايتهم، وسعادتهم فإذا تركوا بشاراته وتوجيهاته واتبعوا أهواءهم كان فعلهم هذا أشد قبحا وفحشا.

وقوله إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ زيادة أخرى في تقبيح أفعالهم، فإن الاختلاف بعد مجيء العلم أزيد في القبح والعناد.

والاستثناء من أعم الأحوال أو الأوقات، أى وما اختلفوا في حال من الأحوال أو في وقت من الأوقات إلا بعد أن علموا الحق، والعلم بالحق وحده لا يكفى في الإيمان به، ولكنه يحتاج إلى جانب ذلك إلى قلب مخلص متفتح لطلبه، وكم من أناس يعرفون الحق معرفة تامة ولكنهم يحاربونه ويحاربون أهله، لأنهم يرون أن هذا الحق يتعارض مع أهوائهم وشهواتهم وصدق الله إذ يقول. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ «1» .

فهم قد اختلفوا في الحق مع علمهم بأنه حق، لأن العلم كالمطر، لا تستفيد منه إلا الأرض الطيبة النقية، وكذلك لا يستفيد من العلم إلا أصحاب النفوس الصافية، والقلوب الواعية، والأفئدة المستقيمة.

(1) سورة البقرة الآية 146.

ص: 58

وقوله بَغْياً بَيْنَهُمْ مفعول لأجله، والعامل فيه اختلف أى وما اختلفوا إلا للبغي لا لغيره قال القرطبي:«وفي الكلام تقديم وتأخير، والمعنى، وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم» «1» .

ثم ختم- سبحانه- الآية بهذا التهديد الشديد فقال: وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ. أى: ومن يكفر بآيات الله الدالة على وحدانيته- سبحانه- فإن الله محص عليه أعماله في الدنيا وسيعاقبه بما يستحقه في الآخرة.

فقوله فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ قائم مقام جواب الشرط وعلة له، أى: ومن يكفر بآيات الله فإنه- سبحانه- محاسبة ومعاقبه والله سريع الحساب.

وسرعة الحساب تدل على سرعة العقاب، وعلى العلم الكامل والقدرة التامة فهو- سبحانه- لا يحتاج إلى فحص وبحث، لأنه لا تخفى عليه خافية.

ثم لقن الله- تعالى- نبيه صلى الله عليه وسلم ما يرد به على أهل الكتاب إذا ما جادلوه أو خاصموه ليحسم الأمر معهم ومع غيرهم من المشركين وليمضى في طريقه الواضح المستقيم فقال- تعالى- فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ.

وقوله حَاجُّوكَ من المحاجة وهي أن يتبادل المتجادلان الحجة، بأن يقدم كل واحد حجته ويطلب من الآخر أن يرد عليها أو يقدم الحجة على ما يدعيه ويزعم أنه الحق الذي لا شك فيه.

والمعنى: فإن جادلك- يا محمد- أهل الكتاب ومن لف لفهم بالأقاويل المزورة والمغالطات الباطلة بعد أن قامت الحجج على صدقك. فلا تسر معهم في لجاجتهم، ولا تلتفت إلى أكاذيبهم، بل قل لهم أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ أى أخلصت عبادتي الله وحده، وأطعته وانقدت له، وكذلك من اتبعنى وآمن بي قد أسلم وجهه الله وأخلص له العبادة.

والمراد بالوجه هنا الذات، وعبر بالوجه عن سائر الذات لأنه أشرف أعضاء الشخص، ولأنه هو الذي تكون به المواجهة، وهو مجمع محاسن الجسم فالتعبير به عن الجسم كله تعبير بجزء له شأن خاص وتتم به إرادة الكل.

ومَنِ في قوله وَمَنِ اتَّبَعَنِ في محل رفع عطفا على الضمير المتصل في أَسْلَمْتُ أى أسلمت أنا ومن اتبعنى. وجاء العطف على الضمير المرفوع من غير تأكيد لوجود الفاصل بينهما.

وقوله وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ عطف على الجملة الشرطية، والمراد بالأميين الذين لا كتاب لهم وهم مشركو العرب.

(1) تفسير القرطبي ج 4 ص 44.

ص: 59

والاستفهام في قوله أَأَسْلَمْتُمْ للحض على أن يسلموا وجوههم الله، ويتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم كما اتبعه المسلمون.

والمعنى: فإن جادلوك في الدين- يا محمد- بعد أن تبين لكل عاقل صدقك، فقل لهؤلاء المعاندين إنى أسلمت وجهى الله وكذلك أتباعى أسلموا وجوههم الله، وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أسلموا تسلموا فقد تبين لكم أنى على حق، ومن شأن العاقل أنه إذا تبين له الحق أن يدخل فيه وأن يترك العناد والمكابرة.

قال صاحب الكشاف: وقوله أَأَسْلَمْتُمْ يعنى أنه قد أتاكم من البينات ما يوجب الإسلام ويقتضى حصوله لا محالة فهل أسلمتم أم أنتم بعد على كفركم وهذا كقولك لمن لخصت له المسألة ولم تبق من طرق البيان طريقا إلا سلكته: هل فهمتها لا أم لك. ومنه قوله- تعالى- فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ بعد ما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر. وفي هذا الاستفهام استقصار- أى عد المخاطب قاصرا- وتعيير بالمعاندة وقلة الإنصاف، لأن المنصف إذا تجلت له الحجة لم يتوقف في إذعانه للحق «1» .

ثم بين- سبحانه- ما يترتب على إسلامهم من نتائج، وما يترتب على إعراضهم من شرور تعود عليهم فقال: فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ.

أى: فإن أسلموا وجوههم الله وصدقوا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فقد اهتدوا إلى طريق الحق، لأن هذا الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله للناس وإن أعرضوا عن هذا الطريق المستقيم، فإن إعراضهم لن يضرك- أيها الرسول الكريم- لأن الذي عليك إنما هو تبليغ الناس ما أمرك الله بتبليغه إياهم. وهو- سبحانه- بصير بخلقه لا تخفى عليه خافية من أقوالهم أو أفعالهم، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه.

وعبر بالماضي في قوله فَقَدِ اهْتَدَوْا مبالغة في الإخبار بوقوع الهدى لهم وقوله فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ قائم مقام جواب الشرط أى وإن تولوا لا يضرك توليهم شيئا إذ ما عليك إلا البلاغ وقد أديته على أكمل وجه وأبلغه.

وقوله وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ تذييل فيه عزاء للنبي صلى الله عليه وسلم عن كفرهم، وإشارة إلى أحوالهم، وإنذار بسوء مصيرهم، لأنه- سبحانه- عليم بنفوس الناس جميعا وسيجازى كل إنسان بما يستحقه، وفيه كذلك وعد للمؤمنين بحسن العاقبة، وجزيل الثواب.

(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 347.

ص: 60

قال ابن كثير: وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق كما هو معلوم من دينه ضرورة، وكما دل عليه الكتاب والسنة في غير ما آية وحديث فمن ذلك قوله- تعالى- قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً وقال- تعالى- تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً.

وفي الصحيحين وغير هما مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة أنه صلى الله عليه وسلم بعث كتبه يدعو إلى الله ملوك الآفاق وطوائف بنى آدم من عربهم وعجمهم. كتابيهم وأميهم امتثالا لأمر الله له بذلك، فعن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار» .

وقال صلى الله عليه وسلم «بعثت إلى الأحمر والأسود» . وقال: «كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» وعن أنس- رضى الله عنه- أن غلاما يهوديا كان يضع للنبي صلى الله عليه وسلم وضوءه ويناوله نعليه فمرض. فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه وأبوه قاعد عند رأسه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«يا فلان قل لا إله إلا الله، فنظر إلى أبيه فسكت أبوه فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم القول. فنظر إلى أبيه، فقال له أبوه أطع أبا القاسم. فقال الغلام أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أخرجه بي من النار» رواه البخاري في الصحيح. إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث «1» .

وبهذا نرى أن الآيات الكريمة قد بينت للناس في كل زمان ومكان أن دين الإسلام هو الدين الحق الذي ارتضاه الله لعباده وشهد بذلك خالق هذا الكون- عز وجل وكفى بشهادته شهادة كما شهد بذلك الملائكة المقربون والعلماء المخلصون. كما بينت أن كثيرا من الذين أوتوا الكتاب يعلمون هذه الحقيقة ولكنهم يكتمونها ظلما وبغيا، كما بينت- أيضا- أن الذين يدخلون في هذا الدين يكونون بدخولهم قد اهتدوا إلى الطريق القويم، وأن الذين يعرضون عنه سيعاقبون بما يستحقونه بسبب هذا الإعراض عن الحق المبين.

ثم انتقل القرآن إلى سرد بعض الرذائل التي عرف بها اليهود وعرف بها أسلافهم، وبين سوء مصيرهم ومصير كل من يفعل فعلهم فقال- تعالى-:

(1) راجع تفسير ابن كثير ج 1 ص 354.

ص: 61