المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالث: إعانتهم للرسول صلى الله عليه وسلم بطلب المعجزات والخوارق - منهج القرآن الكريم في دعوة المشركين إلى الإسلام - جـ ٢

[حمود الرحيلي]

الفصل: ‌المبحث الثالث: إعانتهم للرسول صلى الله عليه وسلم بطلب المعجزات والخوارق

‌المبحث الثالث: إعانتهم للرسول صلى الله عليه وسلم بطلب المعجزات والخوارق

ولما رأى زعماء المشركين في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم تحدياً لزعامتهم، وتهديداً لمكانتهم ومصالحهم، وضربة قاضية لتقاليدهم الموروثة، أخذوا يتحدون النبي صلى الله عليه وسلم بطلب المعجزات؛ لتأييد صدق دعوته وصلته بالله عز وجل.

وقد ذكر الله تعالى عنهم تلك المطالب في كتابه الكريم، كما ذكر الردود على تلك التحديات.

ومن الآيات التي تبين مدى التحدي والإحراج الذي واجهه النبي صلى الله عليه وسلم، قوله تعالى:{وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ} 1.

وقد تقدّم الرد على اعتراضهم بعدم إمكانية الجمع بين البشرية والنبوة في الذات الواحدة، في بحث اعتراضهم على بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ

1 سورة الأنعام الآية: 8.

ص: 683

عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} 1.

وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس باستطاعته الإتيان به، مما ينم عن جهلهم بحقيقة النبوة والرسالة.

قال تعالى: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلَاّ بَشَرًا رَّسُولاً} 2.

وقال تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَاّ رَجُلاً مَّسْحُورًا} 3.

وأقسم المشركون بأعظم الأيمان وأشدها، لئن جاءتهم معجزة أو أمر

1 سورة الأنعام الآية: 37.

2 سورة الإسراء الآيات: 90-93.

3 سورة الفرقان الآية: 7-8.

ص: 684

خارق مما اقترحوه ليؤمنن بها، قال تعالى:{وَأَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لَا يُؤْمِنُونَ} 1.

أما ردود القرآن الكريم عن هذه التحديات، فإنّ محمداً صلى الله عليه وسلم قد جاء بالمعجزة الخالدة، وهي معجزة القرآن الكريم، بعلومه ومعارفه، وأسلوبه وبلاغته، وأخباره الماضية والمستقبلة.

وهذا ما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: "ما من نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة"2.

وقد تحدى النبي صلى الله عليه وسلم العرب خاصة بل الناس جميعاً بالقرآن الكريم، فعجزوا عن الإتيان بسورة واحدة من مثله، ولو بأقصر السور، إذ لم يتقدم واحد منهم إلى الإتيان بشيء من مثله، على الرغم مما بروزا فيه من الفصاحة والبلاغة، قال تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ

1 سورة الأنعام الآية: 109.

2 أخرجه البخاري في صحيحه 6/97 كتاب الفضائل، باب كيف نزول الوحي وأول ما نزل. وتقدم ص:399.

ص: 685

عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} 1.

ومن ردود القرآن الكريم على المشركين في هذا الصدد، قول الله تعالى:{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 2.

وهذا استفهام توبيخي للمشركين، والمعنى أولم يكف المشركين من الآيات هذا الكتاب العظيم، المعجز الذي يقرع أسماعهم؟ وكيف يطلبون آية تؤيد ما جاء به، والقرآن أعظم الآيات وأوضحها دلالة على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم.

قال ابن كثير رحمه الله: "بين تعالى كثرة جهلهم، وسخافة عقلهم، حيث طلبوا آيات تدّل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وقد جاءهم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، الذي هو أعظم من كل معجزة، إذ عجزت الفصحاء والبلغاء عن

1 سورة الإسراء الآية: 88.

وقد تقدمت مراحل التحدي بالقرآن، في الأدلة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم.

2 سورة العنكبوت الآيتان: 51-52.

ص: 686

معارضته، بل عن معارضة سورة منه، أولم يكفيهم آية أنا أنزلنا عليك هذا الكتاب العظيم، الذي فيه خبر ما قبلهم ونبأ ما بعدهم، وحكم ما بينهم، وأنت رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب، ولم تخالط أحداً من أهل الكتاب، فجئتهم بأخباء ما في الصحف الأولى ببيان الصواب، مما اختلفوا فيه، وبالحق الواضح البين الجلي"1.

وبالإضافة إلى شهادة الله تعالى له على صدقه، وكفى بها شهادة، وما أيده الله تعالى به من القرآن وما فيه من معجزات أخرى كالأخبار عن أمور غيبية، وقصص السابقين، والرسول صلى الله عليه وسلم رجل أمي لا يقرأ ولا يكتب، فقد أيد الله تعالى نبيه بمعجزات حسية، كانشقاق القمر الذي ذكره الله تعالى في كتابه:{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} 2.

فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن مسعود قال: "انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين، فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه، فقال رسول الله صلى الله عليه

1 تفسير ابن كثير 3/435-436.

2 سورة القمر الآيتان: 1-2.

ص: 687

وسلم: اشهدوا" 1.

وكذلك معجزة الإسراء والمعراج، يُسرى بالرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس، ويعرج به إلى السموات، ويطلع على آيات الله العظيمة، قال تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 2.

إلى غير ذلك من معجزاته صلى الله عليه وسلم الحسية، كنبع الماء بين أصابعه، وتسبيح الحصى، واستجابة دعائه، وعصمته من الناس، وحراسة السماء بالشهب3.

1 صحيح البخاري بشرح الفتح 8/617 كتاب التفسير، باب {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ. وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا} .

ومسلم 1/2158 كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب انشقاق القمر حديث:43.

وانشقاق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قول جميع المفسرين، وشذ قوم فقالوا سينشق يوم القيامة، قال ابن الجوزي:"وهذا القول الشاذ لا يقاوم الإجماع". زاد المسير 8/88.

2 سورة الإسراء الآية: 1.

3 انظر: مقدمة شرح النووي على مسلم 1/ 2.

ص: 688

غير أن القرآن الكريم لم يعتبر ما طلبه المشركون من الآيات هو الأصل في برهان النبوة، بل لفت عقول الناس ليستدلوا على صدق النبي صلى الله عليه وسلم من خلال ما آتاهم به من معجزة بيانه، مع أنه رجل أمي لم يقرأ، ولم يكتب.

ونظراً لأنّ المشركين لم يقتنعوا بما جاءهم من الحق، وأخذوا يلحون على الرسول صلى الله عليه وسلم بطلب نزول الآيات الحسية، فإنّ القرآن الكريم يرجع ذلك أولاً إلى تقرير مشيئة الله تعالى وقدرته العظيمة، بعدم استجابة التحدي، كما بينته الآيات السابقة، وكما جاء في قوله سبحانه وتعالى:{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} 1.

وقال تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} 2.

وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ

1 سورة الرعد الآية: 7.

2 سورة الرعد الآية: 27.

ص: 689

كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلَاّ أَن يَشَاء اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} 1.

فهذه الآيات الكريمة تفيد أن نزول الآيات يخضع لمشيئة الله تعالى، وأنّ حكمة الله تعالى اقتضت ألا تكون الخوارق برهاناً لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ودليلاً على صحة رسالته.

وأمر آخر هو أن الله تعالى علم أنه ليس السبب في عدم إيمانهم التباس أو غموض في صدق الدعوة، وإنّما السبب هو ما انطوت عليه نواياهم من عدم الرغبة في قبول الحق، بحيث لو أنزل الله تعالى عليهم أعظم الآيات لما آمنوا.

قال تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلَاّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} 2.

وقال تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} 3.

وهناك سبب آخر ذكره الله تعالى في منع نزول الآيات، قال تعالى:

1 سورة الأنعام الآية: 111.

2 سورة الأنعام الآية: 7.

3 سورة الحجر الآيتان: 14-15.

ص: 690

{وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَاّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَاّ تَخْوِيفًا} .

فهذه الآية تضمنت تقريراً صريحاً بأن حكمة الله تعالى اقتضت الامتناع عن إجابة الكفار بإرسال الآيات التي طلبوها، لأنه ثبت بالتجربة من الأمم السابقة، أنهم كذبوا بالآيات ولم يؤمنوا بها، فأهلكهم الله ودمرهم.

وأما قوم محمد صلى الله عليه وسلم، فإنّ حكمة الله تعالى اقتضت إمهالهم وعدم إهلاكهم؛ لأن الله تعالى علم أن منهم ومن ذريتهم من يؤمن وينفع الله به، فلم يجبهم إلى ما طلبوا، حتى لا يكون مصيرهم مصير الأقوام السابقين من الهلاك والدمار، والله أعلم.

سورة الإسراء الآية: 59.

ص: 691