المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث: موقف الإسلام من المشركين: - منهج القرآن الكريم في دعوة المشركين إلى الإسلام - جـ ٢

[حمود الرحيلي]

الفصل: ‌الفصل الثالث: موقف الإسلام من المشركين:

‌الفصل الثالث: موقف الإسلام من المشركين:

ويشتمل على ما يلي:

1-

تمهيد:

أطلق القرآن الكريم لفظ المشركين على عبّاد الأوثان والأصنام، وقد أصبح هذا اللفظ علماً عليهم يميزهم عن بقية الأديان الأخرى، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 1.

وقال تعالى: {مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ} 2، وقال تعالى:{وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً} 3.

وقال الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ} 4.

1 سورة الحج الآية: 17.

2 سورة البقرة الآية: 105.

3 سورة آل عمران الآية: 186.

4 سورة المائدة الآية: 82.

ص: 801

ففي هذه الآيات، نرى أن القرآن قد ميز أهل الكتاب –على ما فيهم من ضلال وباطل- عن عبدة الأوثان والأصنام.

قال صاحب المغني: "وسائر آي القرآن الكريم يفصل بينهما، فدلّ على أن لفظ المشركين بإطلاقها غير متناولة لأهل الكتاب"1.

وقال القرطبي في هذا الخصوص: "ففرق بينهم في اللفظ، وظاهر العطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه"2.

ووصف القرآن الكريم لعبدة الأوثان والأصنام على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم بالمشركين فيه تسفيه لعقولهم، وأنّ عبادتهم تلك باطلة وفاسدة؛ لأنها مبنية على الجهل والضلال، وفيه الدعوة لهم إلى تحكيم عقولهم، والنظر إلى معبوداتهم بعين الازدراء والاحتقار، وأنْ يخلصوا العبادة لرب الأرباب، والذي بيده الخير والعطاء والمنع والحرمان.

ولتلوث المشركين بهذه العبادات القذرة، أصبحوا نجساً، فلا يحلّ لهم دخول المسجد الحرام، ولا تجوز مناكحتهم، ولا أكل ذبائحهم، ولا الاستغفار لهم.. وكان لا بدّ من قتالهم ونقض عهودهم، لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، قال تعالى:{لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} 3.

1 المغني لابن قدامة 6/590.

2 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3/69.

3 سورة التوبة الآية: 33.

ص: 802

2-

لا يحل لهم دخول المسجد الحرام واعتبارهم نجس:

وقد أصبح المسجد الحرام خاصاً بالمسلمين؛ لأنه مكان لعبادة الله وحده، فلا يجوز عبادة أحد مع الله فيه، ولذلك أمر الله المؤمنين بإبعاد المشركين عن المسجد الحرام، وألاّ يقربوه بعد نزول هذه الآية:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 1.

وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً مع أبي بكر رضي الله عنهما سنة تسع من الهجرة، وأمره أن ينادي في المشركين أن لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان2.

يقول سيد قطب رحمه الله: "إنّما المشركون نجس.. فهم بكليتهم وبحقيقتهم نجس، يستقذره الحس، ويتطهر منه المتطهرون، وتلك غاية في

1 سورة التوبة الآية: 28.

2 انظر: صحيح البخاري بشرح الفتح 8/317 كتاب التفسير، باب {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} ، وباب {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} .

وصحيح مسلم 2/982 كتاب الحج، باب لا يحج البيت مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، حديث:435.

ص: 803

تحريم وجودهم بالمسجد الحرام، حتى لينصبَّ النهي على مجرد القرب منه، ويعلل سيد قطب بأنهم نجس، وهو عدم الطهور، ولكن الموسم الاقتصادي الذي ينتظره أهل مكة والتجارة التي يعيش عليها معظم الظاهرين في الجزيرة، ورحلة الشتاء والصيف، التي تكاد تقوم عليها الحياة، إنها كلها ستتعرض للضياع بسبب منع المشركين من الحج، وبإعلان الجهاد على المشركين كافة، نعم ولكنها العقيدة، والله يريد أن تخلص القلوب كلها للعقيدة، وبعد ذلك فالله هو المتكفل بأمر الرزق من وراء الأسباب المعهودة المألوفة، وحين يشاء الله يستبدل أسباباً بأسباب، وحين يشاء يغلق باباً ويفتح الأبواب"1.

نوعية نجاسة المشرك:

اختلف العلماء في نجاسة المشرك هل هي حسية أو معنوية؟

فذهب أهل الظاهر إلى نجاسة أبدانهم2، وروى صاحب الكشاف عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ أعيانهم نجسة، كالكلاب والخنازير3.

وقال الحسن البصري: "من صافح مشركاً فليتوضأ"4.

1 انظر: في ظلال القرآن 4/167.

2 تفسير ابن كثير 2/371.

3 الكشاف 2/183.

4 تفسير ابن جرير 10/106، والقرطبي 8/103، وزاد المسير لابن الجوزي 3/417.

ص: 804

وهو مروي عن عمر بن عبد العزيز1.

واستدلوا بظاهر الآية الكريمة، وما جاء في الحديث الصحيح:"إن المؤمن لا ينجس"2.

وقد رجح هذا الرأي الفخر الرازي3 والألوسي4.

وذهب الجمهور إلى أنّ ذلك على التشبيه، أي هم بمنزلة النجس أو كالنجس لخبث اعتقادهم، وكفرهم بالله، جعلوا كأنهم النجاسة بعينها، مبالغة في وصفهم بها.

وأجابوا عن الحديث بأنّ المراد أن المؤمن طاهر الأعضاء، لاعتياده مجانبة النجاسة، بخلاف المشرك لعدم تحفظه عن النجاسة.

وعن الآية الكريمة بأنّ المراد أنهم نجس في الاعتقاد والاستقذار، وحجتهم أنّ الله تعالى أباح نكاح نساء أهل الكتاب، ومعلوم أنّ عرقهن لا يسلم منه من يضاجعهن، ومع ذلك فلم يجب عليه من غسل الكتابية

1 زاد المسير لابن الجوزي 3/417.

2 صحيح البخاري بشرح الفتح 1/391 كتاب الغسل، باب الجنب يخرج ويمشي في السوق وغيره.

ومسلم 1/282 كتاب الحيض، باب الدليل على أنّ المسلم لا ينجس، حديث رقم:15.

3 التفسير الكبير 26/24.

4 روح المعاني 10/76.

ص: 805

إلا مثل ما يجب عليه من غسل المسلمة، فدلّ على أنّ الآدمي الحي ليس بنجس العين، إذ لا فرق بين النساء والرجال1.

والمشركون أنجاس فاسدوا الاعتقاد، يشركون بالله ما لا يضر ولا ينفع، ويعبدون الرجس من الأوثان والأصنام، ويدينون بالخرافات والأوهام، ويأكلون الميتة والدم وهي أقذار حسية، ويستحلون القمار والزنا..

وهم لا يجتنبون النجاسات ولا يتطهرون، فالنجاسة ملازمة لهم حساً ومعناً، من أجل ذلك لا يصح أنّ يدخلوا أرض الحرم، فضلاً عن دخول البيت نفسه، وطوافهم فيه عراة، ويشركون بربهم في التلبية، وإذا صلوا لم تكن صلاتهم إلا مكاء وتصدية.

وهنا أودّ أن أذكر قصة أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم مع أبيها أبي سفيان، "لقد جاء أبو سفيان -قبل أن يسلم- من مكة إلى المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش الرسول صلى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال: يا بنية، ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش، أو رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت رجل مشرك نجس

"2.

1 فتح الباري لابن حجر 1/390.

2 المغازي للواقدي 2/792-793، وسيرة ابن هشام 2/396، وتاريخ الطبري 3/46، والطبقات لابن سعد 8/99-100، وصفة الصفوة لابن الجوزي 1/358، وزاد المعاد لابن القيم 2/179.

ص: 806

وقد فعلت ذلك رضي الله عنها لقوة إيمانها بالله تعالى، وشدة محبتها لرسوله صلى الله عليه وسلم.

لا يجوز لهم عمارة المسجد الحرام:

وكما منع القرآن الكريم المشركين من دخول المسجد الحرام، منعهم من عمارة سائر المساجد، لأنهم يشركون مع الله غيره في عباداتهم.

قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَاّ اللهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} 1.

والمعنى أنه لا يصح ولا يليق بالمشركين أنْ يعمروا شيئاً من مساجد الله التي بنيت على اسمه وحده، ومن أعظم المساجد بيت الله الحرام، فلا يجوز لهم الإقامة فيه للعبادة، أو الخدمة والولاية عليه، ولا أنْ يزوروه حجاجاً أو معتمرين، وهم شاهدين على أنفسهم بالكفر، ناطقين به بأقوالهم وأفعالهم، وذلك أنه لا يستقيم لهم أنْ يجمعوا بين أمرين متناقضين:

1 سورة التوبة الآيتان: 17-18.

ص: 807

عمارة المسجد الحرام، والإشراك بالله والكفر به وبعبادته.

وقوله: {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} ، أي: أولئك المشركون بالله تعالى، الكافرون بما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، قد بطلت أعمالهم التي كانوا يفخرون بها من عمارة المسجد الحرام، وسقاية الحاج، ونحو ذلك مما كانوا يعملونه في الدنيا، بسبب مخالطتها للشرك بالله تعالى، وهم في نار جهنم ماكثون أبداً لا أحياء ولا أمواتاً، والعياذ بالله.

وقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَاّ اللهَ} بيان من الله تعالى أنّ المستحقين لعمارة المساجد هم الجامعون بين الإيمان بوحدانية الله تعالى على الوجه الذي بينه في كتابه، والإيمان باليوم الآخر الذي يحاسب الله فيه عباده، ويجزي كل نفس ما كسبت، مع إقامة الصلاة المفروضة على وجه جامع بين أركانها وشروطها وسننها وآدابها، وإعطاء زكاة الأموال لمستحقيها من الفقراء والمساكين، وبقية المستحقين لها، وخشية الله دون غيره مما لا ينفع ولا يضر، كالأصنام وغيرها.

وقوله: {فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} ، قال ابن عباس: "إنّ أولئك هم المفلحون، كقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ

ص: 808

رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} 1، وهي الشفاعة، وكل عسى في القرآن، فهي واجبة"2.

ويستمر السياق مخاطباً مشركي قريش، منكراً عليهم وموبخاً لهم، أنْ تكون سقاية الحجيج، وسدانة بيت الله الحرام، كإيمان من آمن بالله وجاهد في سبيله.

قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 3.

جاء في سبب نزول الآية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال العباس بن عبد المطلب حين أسر يوم بدر: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد، لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج، ونفك

1 سورة الإسراء الآية: 79.

2 تفسير ابن جرير الطبري 10/94، وتفسير ابن كثير 2/365.

3 سورة التوبة الآيتان: 19-20.

ص: 809

العاني، فأنزل الله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ

} الآية1.

وأخرج مسلم عن النعمان بن بشير قال: "كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، فقال رجل منهم: ما أبالي ألا أعمل لله عملاً بعد الإسلام إلا أنْ أسقي الحاج، وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر: بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك يوم الجمعة، ولكن إذا صليتُ الجمعة دخلتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأستفتيه فيما اختلفتم فيه، فدخل بعد الصلاة فاستفتاه، فأنزل الله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ

} الآية"2.

والمعنى أجعلتم يا معشر المشركين أو يا من تنازعتم من المؤمنين -أي الأعمال أفضل- سقاية الحجيج وسدانة بيته العتيق، كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيله؟ وذلك أنّ السقاية والعمارة وإن كانتا من أعمال الخير والبر، فإنّ أصحابهما لا يدانون ولا يساوون أهل الإيمان بالله تعالى والجهاد في سبيله في علو المرتبة وشرف المنزلة، فضلاً عن أن

1 لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي ص: 115، وأسباب النزول للواحدي ص: 139، وتفسير الطبري 10/95، وتفسير ابن كثير 2/366.

2 صحيح مسلم 3/1499 كتاب الإمارة، باب فضل الشهادة في سبيل الله، حديث رقم:111.

ص: 810

يفضلهما كما يزعم كبراء مشركي قريش.

{وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ، لأنّ المشركين ظلموا أنفسهم بعدم الإيمان بوحدانية الله، وظلموا المسجد الحرام، حيث جعلوه متعبداً لأوثانهم، وأما الذين طهروا أنفسهم من دنس الشرك بالإيمان بالله وحده، وتركوا دورهم وديارهم وجاهدوا في دين الله بأموالهم وأنفسهم، أعظم درجة عند الله وأرفع منزلة عنده من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام مع الإشراك بالله تعالى.

وهؤلاء الذين وصفهم الله تعالى بالإيمان والهجرة والجهاد في سبيله، هم الفائزون بالجنة، الناجون من النار يوم القيامة.

ص: 811

3-

تحريم نسائهم وذبائحهم:

ولما كان الزواج سكينة ومودة، فإنه لا يمكن أن يكون بين طرفين متناقضين متباعدين، لذلك حرّم الإسلام الزواج من المشركين.

قال تعالى: {وَلَا تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} 1.

قال مقاتل: نزلت هذه الآية في أبي مرثد الغنوي، وقيل: في مرثد بن أبي مرثد، واسمه كناز بن حصين الغنوي، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة سراً ليخرج رجلاً من أصحابه، وكانت له بمكة امرأة يحبها في الجاهلية، يقال لها:"عناق" فجاءته فقال لها: إنّ الإسلام حرم ما كان في الجاهلية، قالت: فتزوجني، قال: حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى النبي فاستأذنه، فنهاه عن التزوج بها لأنه كان مسلماً وهي مشركة2.

1 سورة البقرة الآية: 221.

2 رواه الواحدي في أسباب النزول ص: 39، وزاد المسير لابن الجوزي 1/245، وأسباب النزول للسيوطي ص: 42، والجامع لأحكام القرآن 3/67، وروح المعاني للألوسي 2/117.

ص: 812

وروى السدي عن ابن عباس أنّ هذه الآية نزلت في عبد الله بن رواحة، وكانت له أمة سوداء، وأنه غضب عليها فلطمها ثم إنه فزع، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بخبرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما هي يا عبد الله؟ قال: يا رسول الله تصوم وتصلي وتحسن الوضوء، وتشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقال: هذه مؤمنة، فقال عبد الله: فوالذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها، ففعل، فطعن عليه ناس من المسلمين فقالوا نكح أمة، وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في أنسابهم، فأنزل الله:{وَلَا تَنكِحُواْ} الآية1.

ومعنى الآية الكريمة أي: ولا تتزوجوا أيها المسلمون بالوثنيات حتى يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر، ولأمة مملوكة مؤمنة بالله ورسوله خير وأفضل من حرة مشركة، ولو أعجبتكم المشركة بجمالها ومالها، وسائر ما

1 انظر: أسباب النزول للواحدي ص: 39، وتفسير الطبري 2/378، وتفسير ابن كثير 1/267، وروح المعاني للألوسي 2/118، وزاد المسير لابن الجوزي 1/245-246، وأسباب النزول للسيوطي ص:42.

ص: 813

يوجب الرغبة فيها من حسب أو نسب أو جاه وغيره، ولا تُزوجوا أيها المسلمون بناتكم من المشركين حتى يؤمنوا بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ولأن تزوجوا بناتكم من عبد مؤمن، خير لكم من أن تزوجوهن من حر مشرك، مهما أعجبكم في الحسب والنسب والجمال؛ لأن المشركين والمشركات الذين حرمت عليكم مصاهرتهم ومناكحتهم يدعونكم إلى ما يوصلكم النار من الكفر والفسوق والعصيان، فحقكم ألا تتزوجوا منهم ولا تزوجوهم.

وذلك لأن الله تعالى يريد بكم الخير، ويدعوكم إلى ما فيه سعادتكم، وهو العمل الذي يوجب الجنة ومغفرة الذنوب، ويبين الله لكم حججه وأدلته لتتذكروا وتميزوا بين الخير والشر، والطيب والخبيث.

ومن الآية يتبين لنا أنه لا يجوز للمسلم أن يتزوج بمشركة، كما لا يجوز للمسلمة أن تتزوج بمشرك؛ للاختلاف الشاسع بين من يعبد الله وحده ويؤمن برسوله، ومن يعبد الأصنام والأوثان.

استثناء الكتابيات:

هذا وقد خص من هذا العموم إباحة نكاح الكتابيات لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا

ص: 814

آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ

} 1.

وبما روي أن عثمان رضي الله عنه تزوج نائلة الكلبية، وهي نصرانية على نسائه، وأن طلحة بن عبيد الله تزوج يهودية من أهل الشام، ولم ينقل أن أحداً من الصحابة أنكر ذلك، فعلم أنهم متفقون على جواز نكاح الكتابيات2.

أما ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه لا يرى ذلك، ويحتج بقوله تعالى:{وَلَا تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} 3، ويقول: لا أعلم شركاً أعظم من أن تقول ربها عيسى أو عبد من عبيد الله، فقد أجاب الجمهور أن ظاهر لفظ المشركات إنما يتناول عند الإطلاق عبدة الأوثان، ولا يدخل فيه أهل الكتاب بدليل قوله تعالى:{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} 4.

وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ

1 سورة المائدة الآية: 5.

2 انظر: المغني لابن قدامة 6/589، وأحكام القرآن للجصاص 3/324.

3 سورة البقرة الآية: 221.

4 سورة البينة الآية: 1.

ص: 815

خَالِدِينَ فِيهَا} 1.

وقوله تعالى: {مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ} 2.

وفي سائر آي القرآن الكريم يفصل بينهما، فدل على أن لفظة "المشركين بإطلاقها غير متناولة لأهل الكتاب"3.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإنْ قيل: فقد وصفهم الله بالشرك في قوله تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلَاّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 4.

قيل: إنّ أهل الكتاب ليس في أصل دينهم شرك، فإنّ الله إنما بعث الرسل بالتوحيد، فكل من آمن بالرسل والكتب لم يكن في أصل دينهم شرك، ولكن النصارى ابتدعوا الشرك، كما قال تعالى: {سُبْحَانَهُ عَمَّا

1 سورة البينة الآية: 6.

2 سورة البقرة الآية: 105.

3 المغني لابن قدامة 6/590.

4 سورة التوبة الآية: 31.

ص: 816

يُشْرِكُونَ} ، فحيث وصفهم بأنهم أشركوا، فلأجل ما ابتدعوه من الشرك الذي لم يأمر الله به، وجب تمييزهم عن المشركين"1.

والقول الراجح في هذا: هو ما ذهب إليه الجمهور، من جواز نكاح الكتابيات لوضوح الدليل، ولعل ابن عمر كره الزواج منهن خشية على الزوج أو على الأولاد من الفتنة، فإنّه إذا كان كذلك فإنّ الزواج لا يجوز، أما إذا لم يكن هناك خطر من فتنة على الزوج والأولاد، أو كان هناك طمع في إسلامها، فلا وجه للقول بالمنع والله أعلم.

تحريم ذبائحهم:

وأما ذبائح المشركين، فهي محرمة، لأنهم يذبحونها لغير الله تعالى، قال عز وجل: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ

} 2.

قال ابن كثير رحمه الله:" {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ} هو: ما ذبح على غير اسم الله تعالى من الأنصاب والأنداد والأزلام ونحو ذلك، مما كانت

1 الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 32/179.

2 سورة البقرة الآية: 173.

ص: 817

الجاهلية ينحرون له"1.

وقال القرطبي رحمه الله: "ولا خلاف بين العلماء أن ذبيحة المجوسي لناره، والوثني لوثنه لا يؤكل"2.

وذكر القرطبي عن ابن عطية أنه نقل عن الحسن البصري أنه سئل عن امرأة مترفة صنعت للُعبها عرساً فنحرت جزوراً، فقال الحسن: لا يحل أكلها، فإنها إنما نحرت لصنم3.

كما أورد القرطبي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عما يذبحه العجم لأعيادهم، فيهدون منه للمسلمين، فقالت:"ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا منه، وكلوا من أشجارهم"4.

واستدل ابن كثير رحمه الله بتحريم طعام المشركين لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} 5، حيث قال:"فدل بمفهوم المخالفة على أن طعام من عداهم من أهل الأديان الأخرى لا يحل"6.

1 تفسير ابن كثير 1/211.

2 الجامع لأحكام القرآن 2/223.

3 المرجع السابق 2/224.

4 المرجع السابق والصفحة.

5 سورة المائدة الآية: 5.

6 تفسير ابن كثير 2/21.

ص: 818

ومن الأدلة على تحريم ذبائح المشركين قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} 1.

قال الطبري رحمه الله: "يعني بقوله جل ثناؤه {وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} : لا تأكلوا أيها المؤمنون مما مات فلم تذبحوه أنتم أو يذبحه موحدون لله بشرائع شرعها له في كتاب منزل، فإنه حرام عليكم، ولا ما أهل به لغير الله، مما يذبحه المشركون لأوثانهم، فإنّ أكل ذلك فسق، يعني معصية.."2.

ومن هذا نرى أنّ الآية الكريمة قد بينت أنه لا يجوز للمسلمين أن يأكلوا مما أهل لغير الله به، وهو ما ذبحه المشركون لأوثانهم، وإن أكل شيء من ذلك فسق ومعصية لله تعالى، كما جاء في الآية الأخرى:{أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ..} 3.

1 سورة الأنعام الآية: 121.

2 تفسير الطبري 8/15.

3 سورة الأنعام الآية: 145.

ص: 819

قال صاحب المغني رحمه الله: "وسائر الكفار غير أهل الكتاب كمن عبد ما استحسن من الأصنام والحجارة والشجر والحيوان، فلا خلاف بين أهل العلم في تحريم نسائهم وذبائحهم"1.

وذكر ابن القيم رحمه الله أن ذلك "اتفاق من الصحابة رضي الله عنهم"2.

1 المغني لابن قدامة 6/592.

2 أحكام أهل الذمة 1/10 تحقيق صبح الصالح الطبعة الثانية 1401?.

ص: 820

4-

عدم الاستغفار لهم:

وبيّن القرآن الكريم أنه لا يصح ولا يجوز الاستغفار للمشركين بعد إصرارهم على الشرك وموتهم على ذلك.

قال تعالى {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَاّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ} 1.

وفي الصحيحين عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال:"أي عم قل لا إله إلاّ الله كلمة أحاج لك بها عند الله عز وجل" فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟

فقال: أنا على ملة عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن

1 سورة التوبة الآيتان: 113-114.

ص: 821

يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} الآية1.

ونزلت: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} 2.

والمعنى: أنه لا ينبغي ولا يصح من النبي صلى الله عليه وسلم ولا من المؤمنين أن يطلبوا من الله المغفرة للمشركين، ولو كان المشركون أقرباء، لهم حق البر والصلة، من بعد ما ظهر لهم بالدليل أنهم من أصحاب النار لموتهم على الشرك والكفر.

ثم أجاب القرآن الكريم عن سؤال قد يختلج بالخاطر، فيقال كيف يمنع النبي والمؤمنون من الاستغفار لأقربائهم، وقد استغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه.

فقال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلَاّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} ، أي: إنما كان استغفار إبراهيم لأبيه بقوله: {وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} 3.

1 صحيح البخاري بشرح الفتح 7/193 كتاب مناقب الأنصار، باب قصة أبي طالب، و 8/341 كتاب التفسير، باب {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} .

ومسلم 1/54 كتاب الإيمان، باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ما لم يشرع في النزاع. وأحمد 5/433.

2 سورة القصص الآية: 56.

3 سورة الشعراء الآية: 86.

ص: 822

إلا من أجل وعد تقدم له بقوله: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} ، وهذا الاستغفار إنما كان قبل أن يتحقق إصراره على الشرك {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} ، أي: فلما تبين لإبراهيم أنّ أباه مصر على الكفر مستمر على الضلال، تبرأ منه بالكلية، فضلاً عن الاستغفار له، كما قال تعالى:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} 1.

ثم بيّن الله تعالى سبباً آخر في حمل إبراهيم عليه السلام على الاستغفار لأبيه، وهو فرط ترحمه وصبره على أبيه، حيث وصفه ربه تبارك وتعالى بقوله:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ} ، أي: كثير التأوه من فرط الرحمة والمبالغة في خشيته، صبور على الأذى من أبيه الذي توعده بقوله:{لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأََرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} 2.

1 سورة المجادلة الآية: 22.

2 سورة مريم الآية: 46.

ص: 823

5-

البراءة من عهودهم:

ولما كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين عهود ومواثيق، كما هو الحال في صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة –حيث كان من شروط الصلح التي تم الاتفاق عليها بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش:

-أن تضعَ الحربُ أوزارها بين الطرفين لمدة عشر سنوات.

-أن من أحب الدخول في عقد محمد وعهده، دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدها دخل فيه1.

وبناء على ذلك، دخلت خزاعة في عقد محمد صلى الله عليه وسلم وعهده، ودخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم، ثم لم تلبث خزاعة أن

1 انظر: صحيح البخاري مع الفتح 7/444 كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية رقم: 4159، و 7/453 رقم: 4180، 1481.

ومسلم 3/1409 كتاب الجهاد والسير، رقم: 1783، 1784، 1785.

وسيرة ابن هشام 2/317-318، والمغازي للواقدي 2/611، وتاريخ الطبري 2/634-635، والكامل لابن الأثير 2/138، والبداية والنهاية لابن كثير 4/168-169، وعيون الأثر لابن سيد الناس 1/156.

وانظر نص وثيقة الصلح في كتاب (الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة) لمحمد حميد الله ص77 وما بعدها.

ص: 824

دخلت في الإسلام.

إلاّ أنَّ المشركين لم يحترموا تلك العهود، بل نقضوها واعتدوا على خزاعة أحلاف الرسول صلى الله عليه وسلم1.

لهذا جاءت سورة التوبة تعلن إلغاء عهود المشركين، ونبذها إليهم على وضوح وبصيرة، لأنّ الناكثين لا يتورعون عن الخيانة كلما سنحت لهم الفرصة، ولذلك فقد قطع الله ما بين المسلمين والمشركين من صلات، فلا عهد لهم ولا أمان، بعد أن منحهم الله تعالى فرصة كافية هي السياحة في الأرض أربعة أشهر، ينطلقون فيها آمنين، ليتمكنوا من النظر والتدبر في أمرهم، ويختاروا ما يرون فيه المصلحة لهم.

قال تعالى: {بَرَاءةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} 2.

وفي الصحيحين أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: "بعثني أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحجة في المؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى، أنْ

1 سيرة ابن هشام 2/389-390، والمغازي للواقدي 2/781، وتاريخ الطبري 3/43 وما بعدها.

2 سورة التوبة الآيتان: 1-2.

ص: 825

لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، قال حميد: ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب فأمر أنْ يؤذن ببراءة، قال أبو هريرة: فأذّن معنا عليٌ في أهل منى يوم النحر ببراءة، وأنْ لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان"1.

وقد أعلن الله تعالى للمشركين في السنة التاسعة للهجرة، وفي يوم الحج الأكبر، قيل: يوم عرفة، وقيل: يوم النحر، وهو الأرجح لأنه ثبت في الصحيحين أن الله بريء من عهودهم، ورسوله بريء منهم كذلك، إلا الذين سبق لهم عهد ولم ينقضوا ذلك العهد، فإنه يوفى لهم عهدهم.

قال تعالى: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلَاّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ

1 صحيح البخاري بشرح الفتح 8/317 كتاب التفسير، باب فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، باب {وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} .

وصحيح مسلم 2/982 كتاب الحج، باب لا يحج البيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، حديث: 435، وتقدم ص: 799

ص: 826

الْمُتَّقِينَ} 1.

أما إذا مضت الأشهر الأربعة التي حُرّم فيها قتالهم، ولم يراجعوا فيها أنفسهم، فيحنئذ لا بد من قتالهم في أي مكان أو زمان من حل أو حرم، وأخذهم بالأسر، ومنعهم من التنقل في بلاد المسلمين، والقعود لهم في كل طريق يسلكونه، إلا إذا تابوا عن الشرك وأدوا ما فرضه الله عليهم من الصلاة والزكاة، فإنه على المسلمين عند ذلك أن يكفوا عنهم، ولا يتعرضوا لهم، فإن الله تعالى واسع المغفرة والرحمة لمن تاب وأناب.

قال تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} 2.

ومن سماحة الإسلام أنه إذا جاء أحد المشركين بعد انقضاء الأشهر، وليس بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم عهد مسبق، وطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسمع ما يدعو إليه من التوحيد والقرآن، فإن له الأمان حتى يسمع كلام الله ويتدبره ويتطلع حقيقة أمره3.

1 سورة التوبة الآيتان: 3-4.

2 سورة التوبة الآية: 5.

3 انظر: الكشاف للزمخشري 2/175 بتصرف.

ص: 827

قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَاّ يَعْلَمُونَ} 1.

وهذا في غاية حسن المعاملة وكرم الأخلاق، لأن المراد ليس النيل من الكافرين، بل المقصود إقناعهم وهدايتهم حتى يعرفوا الحق فيتبعوه، ويتركوا الكفر والضلال.

ومع ذلك فإن القرآن الكريم يستبعد ثبات المشركين على العهد والتزامهم به.

قال تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَاّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} 2.

والآية الكريمة تحمل استفهاماً إنكارياً، أي: كيف يكون للمشركين عهد معتد به عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم استدركت الآية الكريمة أن الذين كانت لهم معاهدة عند المسجد الحرام، ولم ينقضوها واستقاموا على ذلك، فلهم الوفاء، فإن الله تعالى يحب من اتقاه،

1 سورة التوبة الآية: 6.

2 سورة التوبة الآية: 7.

ص: 828

ووفى بعهده، وترك الغدر والخيانة.

ويتكرر الاستبعاد لثباتهم على العهد، لأنهم إن يظفروا بالمسلمين لا يراعوا فيهم عهداً ولا ذمة، وإنما يرضونهم بالكلام الجميل، إن كان الظفر للمسلمين عليهم، وتمتنع قلوبهم عن الإذعان والوفاء بما يبدونه بألسنتهم.

قال تعالى: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} 1.

ويضيف القرآن الكريم في ذم المشركين وتوبيخهم ما لم يتوبوا، فيصبحوا إخواناً مسلمين، فيقول تعالى:{اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلَا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 2.

أما إذا نكث المشركون الذين لهم عهود ومواثيق مع المسلمين، وعابوا الدين، وانتقصوه، فإنّ النتيجة الحتمية هي القتال لصناديدهم ورؤسائهم، لأنهم لا أيمان لهم ولا عهود يوفون بها، لعلهم يكفوا عن

1 سورة التوبة الآية: 8.

2 سورة التوبة الآيات: 9-11.

ص: 829

الإجرام، وينتهوا عن الطعن في دين الإسلام.

قال تعالى: {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} 1.

ويحض القرآن الكريم المؤمنين على قتال المشركين الناكثين لعهودهم وأيمانهم، الذين هموا بحبس الرسول صلى الله عليه وسلم أو قتله، أو إخراجه من مكة، بل قرّ قرارهم على أن يقتلوه على أيدي مجموعة من شبابهم، حتى يتفرق دمه بين القبائل، كما قال تعالى:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} 2.

ذكر أهل التفسير وأهل السير عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن نفراً من أشراف قريش اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأوه قالوا: من أنت؟ قال: شيخ من نجد سمعت باجتماعكم فأردت أن أحضركم، ولن يعدمكم مني رأي ونصح. قالوا: أجل فادخل، فقال: انظروا في شأن هذا الرجل –يعني محمداً صلى الله عليه وسلم.

فقال قائل: احبسوه في وثاق ثم تربصوا به ريب المنون، حتى يهلك،

1 سورة التوبة الآية: 12.

2 سورة الأنفال الآية: 30.

ص: 830

فصرخ عدو الله وقال: والله ما هذا لكم برأي، فليوشكن أن يثب أصحابه عليه، حتى يأخذوه من أيديكم فيمنعوه منكم.

فقال قائل: أخرجوه من بين أظهركم حتى تستريحوا منه، فإنه إذا خرج فلن يضركم ما صنع وأين وقع، فقال الشيخ المذكور: والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حلاوة قوله، وطلاقة لسانه، وأخذه القلوب بحديثه؟ والله لئن فعلتم لتجتمعن عليكم العرب حتى يخرجوكم من بلادكم، ويقتلوا أشرافكم، قالوا صدق، فانظر رأياً غير هذا.

فقال أبو جهل: والله لأشيرن عليكم برأي ما أرى غيره، قالوا: وما هو؟ قال: نأخذ من كل قبيلة غلاماً شاباً جلداً، ونعطي كل واحد سيفاً صارماً يضربونه ضربة رجل واحد، ويتفرق دمه في القبائل كلها، ولا أظن بني هاشم يقدرون على حرب قريش كلها، فيقبلون الدية، ونستريح منه، ونقطع عنا أذاه، فصرخ عدو الله إبليس: هذا والله الرأي لا أرى غيره، فتفرقوا على ذلك، فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره وأمره أن لا يبيت في مضجعه، وأذن له بالهجرة، وأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة يذكره نعمته عليه {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ

} الآية"1.

1 سيرة ابن هشام 1/480-482، ولباب النقول في أسباب النزول للسيوطي ص: 109، وتفسير الطبري 9/227، ومجمع الزوائد للهيثمي 7/27، والدر المنثور للسيوطي 3/179.

ص: 831

فإذن المشركون قرروا قتل الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، وقبل ذلك فعلوا بالمستضعفين من المؤمنين الذين لا ذنب لهم سوى أنهم آمنوا بالله تعالى، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولا، وبعد ذلك صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين عن المسجد الحرام، ثم بدأوا المسلمين بالعداوة، حيث قاتلوا بني خزاعة أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرجوا لقتال المسلمين في بدر.

وقد أهاب النبي صلى الله عليه وسلم لذلك بالمؤمنين، وحثهم على قتال أعدائهم أعداء الإسلام والمسلمين، ليشفي الله قلوب المؤمنين بإعلاء كلمة "لا إله إلا الله" وتعذيب المشركين وخزيهم، ويذهب ما أصاب المؤمنين من غيظ وكرب. ويعذب المشركين ويجزيهم.

قال تعالى: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 1.

وفي أمر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بنبذ عهود الخائنين

1 سورة التوبة الآيات: 13-15.

ص: 832

للعهد، قال تعالى:{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الخَائِنِينَ} 1.

قال القرطبي: "والمعنى: وإما تخافن من قوم -بينك وبينهم عهد- خيانة فانبذ إليهم العهد، أي: قل لهم قد نبذت إليكم عهدكم وأنا مقاتلكم، ليعلموا بذلك فيكونوا معك في العلم سواء، ولا تقاتلهم وبينك وبينهم عهد، وهم يثقون بك، فيكون ذلك خيانة وغدراً"2.

1 سورة الأنفال الآية: 58.

2 الجامع لأحكام القرآن 8/32.

ص: 833

6-

الأمر بقتالهم:

ومن أجل إبلاغ الدعوة، ورفع كلمة "لا إله إلا الله" على سائر المعتقدات، ومن أجل قمع الشرك والمشركين، أعداء الله والإسلام والمسلمين، خاض المسلمون عدة معارك حاسمة مع المشركين، بعد أن أذن الله لهم بالقتال لتأمين الدعوة وإزالة العقبات من طريقها، حتى يدخل من يريد الدخول في الإسلام، وهو مطمئن، قال تعالى:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} 1.

ثم فرض الله عليهم قتال الكفار الذين يقاتلونهم، قال تعالى:{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} 2.

وبعد ذلك جاء الأمر الحاسم في قتالهم، قال تعالى:{وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} 3.

وعلى إثر هذا الأمر بدأ القتال وخوض المعارك بين المسلمين

1 سورة الحج الآية: 39.

2 سورة البقرة الآية: 190.

3 سورة التوبة الآية: 36.

ص: 834

وأعدائهم، ففي قتال المشركين كانت وقعت بدر الكبرى في السنة الثانية من الهجرة، وبدأ فيها أنه لا مهادنة بين قوة الإسلام، وقوة الشرك، كما ظهر فيها أنّ المشركين مصممون على إبادة الجماعة المؤمنة، فقد وقف أبو جهل بعد أن علم أن تجارة قريش نجت، وقال -متحدياً قوة الإيمان، ومستهتراً بتدبير الله وقدرته:

"والله لا نرجع حتى نرد بدراً، فنقيم عليه ثلاثاً فننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقى الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبداً بعدها"1.

فدارت عليهم الدائرة، ونزلت بجيشهم الهزيمة، وحق نصر الله للمؤمنين.

قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ

} 2.

1 سيرة ابن هشام 1/618-619، وعيون الأثر لابن سيد الناس 1/301، وتاريخ الطبري 2/424-438، والطبقات الكبرى لابن سعد 2/13، والمغازي للواقدي 2/43.

2 سورة آل عمران الآيات: 123-125.

ص: 835

وتلتها معركة أحد في السنة الثالثة، وفيها تلقى المسلمون درساً لم ينسوه حين ترك الرماة مواقعهم، فباغتهم المشركون، وحاقت بالمسلمين الهزيمة، وقتل منهم من قتل، ومحّص الله الصف الإسلامي بهذه الموقعة، فظهر أهل الإيمان بإيمانهم، وأهل الكفر بكفرهم ونفاقهم.

وفي السنة الخامسة كانت غزوة الخندق أو الأحزاب، التي تكالب فيها أعداء الله على المدينة النبوية، عاصمة الإسلام الأولى، يريدون إطفاء نور الله، إذ استطاع اليهود تأليب القبائل العربية على غزو الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة.

وقد ابتلي فيها المسلمون ابتلاءً عظيماً، قال تعالى:{إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا} 1.

ولكن رد الله تعالى كيد الأعداء في نحورهم، قال تعالى:{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} 2.

1 سورة الأحزاب الآيتان: 10-11.

2 سورة الأحزاب الآية: 25.

ص: 836

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم بعد رجوع المشركين وانصراف الأحزاب عن المدينة: "الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم"1.

وقد تحقق قول الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم تغزهم قريش بعد هذه الغزوة، حتى غزاهم المسلمون وفتحوا مكة.

وفي آخر السنة السادسة من الهجرة، كان صلح الحديبية بين المسلمين وكفار قريش، حيث كان فتحاً للمسلمين، وهزيمة لأعدائهم المشركين، قال تعالى:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} 2.

قال عمر رضي الله عنه: "أو فتح يا رسول الله؟ قال: نعم"3.

وقد دلت الحوادث على أن صلح الحديبية كان في حقيقته فتحاً على المسلمين، وطريقاً إلى فتح مكة، ونشراً للدعوة خارج الجزيرة العربية، حيث كتب عليه الصلاة والسلام بعد هذا الصلح لملوك ورؤساء العالم، يدعوهم إلى الإسلام.

1 صحيح البخاري بشرح الفتح 7/405 كتاب المغازي، باب غزوة الخنذق.

2 سورة الفتح الآيات: 1-3.

3 صحيح مسلم 3/1412 كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية في الحديبية.

ص: 837

نقل ابن هشام عن الزهري قال: "فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة، ووضعت الحرب، وأمن الناس بعضهم بعضاً، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين، مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر"1.

ثم قال ابن هشام: "والدليل على قول الزهري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة، في قول جابر بن عبد الله، ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين، في عشرة آلاف"2.

وفي السنة الثامنة كان فتح مكة، وتم تطهير بيت الله الحرام من أرجاس الجاهلية وأوثانها، وصار مثابة للناس وأمناً.

فبعد أن نقضت قريش العهد الذي وقع في الحديبية، سار الجيش الإسلامي بقيادة المصطفى صلى الله عليه وسلم متوجهاً إلى مكة، لتأديب قريش، وكبح جماحها، وردّ ظلمها، وقد هيأ الله أسباب النصر لنبيه، فدخل مكة فاتحاً، وأصدر الرسول صلى الله عليه وسلم عفواً شاملاً حيث جمع قريشاً وقال لهم:"ما ترون أني فاعل بكم؟ " قال: خيراً، أخ كريم،

1 سيرة ابن هشام 2/322، وتاريخ الطبري 2/638، والمغازي للواقدي 2/609-610، 624.

2 سيرة ابن هشام 2/322.

ص: 838

وابن أخ كريم، قال:"فإني أقول لكم كما قال يوسف لأخوته، لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء"1.

وطهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت الله الحرام من الأوثان، والأصنام، وأزال منه الصور والتماثيل وأخذ يطعنها وهو يقول:"جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً"2.

وأمر بلالاً أن يصعد على الكعبة فيرفع الأذان، ورؤساء قريش يسمعون كلمة التوحيد تعلو، وفجاج مكة ترتج بها، لقد كان لفتح مكة في قلب الجزيرة العربية ومركزها الروحي والسياسي أثر بالغ في تدعيم قواعد العدل، ونشر مبادئ المساواة، ورفع راية الإسلام على جزيرة العرب، وإزالة العوائق من طريق الدعوة، فأقبل الناس على الإسلام –بعد خضوع قريش، إقبالاً لم يعرف قبل ذلك، وصاروا يدخلون في دين الله أفواجاً3.

كما في قوله تعالى: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ

1 سيرة ابن هشام 2/412، وزاد المعاد لابن القيم 2/183-184، وعيون الأثر لابن سيد الناس 2/230، وفتوح البلدان للبلاذري ص:55.

2 سورة الإسراء الآية: 81.

3 انظر: زاد المعاد لابن القيم 2/184، وعيون الأثر لابن سيد الناس 2/231.

ص: 839

فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} 1.

ولقد كان لهذا الفتح أثر كبير في نفوس القبائل، حيث كان بين بعض القبائل وبين قريش حلف، وكانت ممتنعة عن الدخول في الإسلام لمكانة هذا الحلف، وكانت بعض القبائل ترهب قريشاً، وتجلها، فلما رأتهم استسلموا للإسلام رغبت فيه، وزال الحاجز، كما كانت بعض القبائل تعتبر مكة لا يفتحها ولا يدخلها ملك جبار أو من يريد لها سوءاً، ولا يزال فيها من عاصر حادثة الفيل، وشاهد ما فعل بأبرهة، فيقولون:"اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق"2.

فلما ظهر عليه الصلاة والسلام على قريش، ودخل مكة آمناً، أقبل الناس على الإسلام، وهم آمنون مقتنعون3.

1 سورة النصر.

2 صحيح البخاري بشرح الفتح 8/22 كتاب المغازي، باب وقال الليث حدثني يونس.. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد مسح وجهه عام الفتح.

3 انظر: السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي ص: 289 دار الشروق ط1، 1397?.

ص: 840

7-

الخلاف في أخذ الجزية منهم:

وقد اختلف الفقهاء في أخذ الجزية من المشركين:

فقال مالك: إنَّ الجزية تقبل من جميع الكفار، إلاّ من ارتد، وبه قال الأوزاعي وفقهاء الشام1.

وقال الشافعي وأحمد في أظهر الروايتين وأبو ثور، أن الجزية لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب والمجوس2.

وقال أبو حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى أنه لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف3.

والسبب في اختلافهم معارضة العموم للخصوص، أما العموم، فقوله تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ} 4.

وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى

1 بداية المجتهد لابن رشد 1/389، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8/110، ونيل الأوطار للشوكاني 9/214.

2 المجموع للنووي 18/207، والمغني لابن قدامة 1/500، وفتح الباري لابن حجر 6/259، والإفصاح لابن هبيرة 2/292.

3 أحكام القرآن للجصاص 4/285، والمغني لابن قدامة 8/500، والإفصاح لابن هبيرة 2/292.

4 سورة البقرة الآية: 193.

ص: 841

يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله" 1.

وأما الخصوص فما ثبت في صحيح مسلم من حديث علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لأمراء السرايا الذين يبعثهم إلى مشركي العرب: "

وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهن أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإنْ أبوا أن يتحولوا منها، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنية والفيء شيء، إلا أنْ يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فَسَلْهُمُ الجزية، فإنْ هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإنْ هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم" 2.

1 صحيح البخاري بشرح الفتح 1/75 كتاب الإيمان، باب {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} . ومسلم 1/53 كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، رقم:22.

2 صحيح مسلم 3/1357 كتاب الجهاد، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم، حديث رقم:1731.

ص: 842

فمن رأى أن العموم إذا تأخر عن الخصوص، فهو ناسخ له، قال لا تقبل الجزية من مشرك، عدا أهل الكتاب، لأنّ الآية الآمرة بقتالهم على العموم هي متأخرة عن ذلك الحديث، وذلك أن الأمر بقتال المشركين عامة هو في سورة (براءة) ، وذلك عام الفتح، وذلك الحديث إنما هو قبل الفتح، بدليل دعائهم فيه إلى الهجرة.

ومن رأى أنّ العموم يبنى على الخصوص، تقدم أو تأخر أو جهل التقدم والتأخر بينهما، قال: تقبل الجزية من جميع المشركين.

وأما تخصيص أهل الكتاب من سائر المشركين، فخرج من ذلك العموم باتفاق، لقوله تعالى:{مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 1.

قال ابن القيم رحمه الله: "إنما لم يأخذها عليه الصلاة والسلام من مشركي العرب، لأنها إنّما نزل فرضها بعد أن أسلمت دارة العرب، ولم يبق فيها مشرك، فإنّها نزلت بعد فتح مكة، ودخول العرب في دين الله أفواجاً، فلم يبق بأرض العرب مشرك، ولهذا غزا بعد الفتح تبوك، وكانوا نصارى، ولو كان بأرض العرب مشركين لكانوا يلونه، وكانوا أولى

1 بداية المجتهد 1/389.

والآية: 29، من سورة التوبة.

ص: 843

بالغزو من الأبعدين.

ومن تأمل السير وأيام الإسلام، علم أنّ الأمر كذلك، فلم تؤخذ منهم الجزية لعدم من يؤخذ منه، لا لأنهم ليسوا من أهلها، قالوا: وقد أخذها من المجوس، وليسوا بأهل كتاب، ولا يصح أنه كان لهم كتاب ورفع، وهو حديث لا يثبت مثله، ولا يصح سنده، ولا فرق بين عباد النار، وعباد الأصنام، بل أهل الأوثان أقرب حالاً من عباد النار أعداء إبراهيم الخليل، فإذا أخذت منهم الجزية، فأخذها من عباد الأصنام أولى"1 ا.?

والذي يبدو لي صحيحاً من هذه الآراء هو رأي القائلين بأن الجزية تؤخذ من جميع الكفار، وهو قول المالكية، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والشيخ محمد بن عثيمين وغيرهم رحم الله الجميع2.

1 زاد المعاد 2/89-90.

2 انظر: الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية لعلاء الدين البعلي ص: 319، وزاد المعاد لابن القيم 2/89-90، والشرح الممتع على زاد المستنقع للشيخ محمد العثيمين 8/63.

ص: 844

الخاتمة

وفي نهاية هذا البحث أقدم للقارئ الكريم لمحة موجزة عن أهم الأفكار والمحتويات التي تضمنتها الرسالة فيما يلي:

1-

أثبت القرآن الكريم والسنة النبوية أنّ عقيدة التوحيد قد صاحبت البشرية منذ بدايتها، بدءاً بآدم عليه السلام الذي عرّف بنيه بربهم وبالإسلام، وتلقى أبناؤه من بعده هذه العقيدة من جيل إلى جيل، يعبدون الله وحده ولا يشركون به شيئاً.

ولما طال الزمان، انحرف الناس عن الفطرة بسبب جهلهم وبعدهم عن العلم وإغواء الشياطين لهم، وعبدوا مع الله غيره من الأصنام والأوثان وقبور الصالحين، وعند ذلك بعث الله إليهم نوحاً عليه السلام، فجدد الدعوة إلى التوحيد وأعاد إلى العقيدة نقاءها وصفاءها، وحاول -جاهداً- بكل ما يملك من طاقة أن يخرج الناس مما انتكسوا فيه من ضلال وكفر، وكانت النتيجة أنْ نجى الله نوحاً والذين آمنوا معه، وأغرق من عداهم من عبدة الأصنام والأوثان.2- ثم استمر موكب الإيمان يتجدد من وقت لآخر، وفي كل أمة يبعث الله الأنبياء والرسل يبينون للناس الحق والهدى، كلما انتكسوا أو انحرفوا، كهود وصالح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وشعيب وموسى وعيسى وغيرهم، كان أول دعوة هؤلاء عليهم السلام،

ص: 847

وأكبر هدفهم هو تصحيح العقيدة في الله تعالى، وتصحيح الصلة بين العبد وربه، والدعوة إلى إخلاص الدين، وإفراد العبادة لله وحده، وأنه النافع الضار المستحق لجميع أنواع العبادة، وكانت حملتهم مركزة وموجهة إلى الوثنية القائمة في عصورهم، الممثلة بصورة واضحة في عبادة الأوثان والأصنام، والصالحين من الأحياء والأموات، وعبادة الكواكب ونحوها.

3-

وقبيل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم كان جو العالم كله يموج بالاضطرابات الوحشية، إلى حد كبير، وكان اعتماد الناس على وسائل الشر أكثر من اعتمادهم على وسائل الخير والصلاح.

فقد انتشرت في الجزيرة العربية العقائد الفاسدة، وعلى رأسها عبادة الأصنام والأوثان، وجرفتها تيارات العصبية الممقوتة، وسادت فيها الأوضاع الاجتماعية الجائرة..

وبنو إسرائيل حرفوا وغيروا كتب الله وشرائعه، وكفروا بنعمه، وركنوا إلى المادة، وأصبح بأسهم بينهم شديد، كما عبدت الفرس والهند الأوثان، وعاش الناس جمعاً في ظلام من الشك والجهل..

4-

وفي ظل هذا الجو المظلم، بعث الله خاتم أنبيائه وصفوة خلقه محمداً صلى الله عليه وسلم، فسار على نهج إخوانه من الأنبياء والرسل في الدعوة إلى الله تعالى، وأكمل الله به الدين، وأتم به النعمة، وكان القرآن الكريم والسنة النبوية فيهما العلاج الناجع والبلسم الشافي لأمراض البشرية كلها، بل فيهما كل ما يحتاج إليه الناس في دينهم ودنياهم.

ص: 848

5-

ومسلك القرآن الكريم في دعوة المشركين وغيرهم لم يكن جدلاً عقيماً، أو تفلسفاً مذموماً، أو قولاً يستعصى على العقول فهمه، ولكنه جاء سهلاً واضحاً يفهمه البدوي في مضارب البادية، كما يفهمه أهل الحضارة والثقافة في أرجاء الأرض، ويتذوقه من عاصر الوحي، وشهد تنزلاته.

6-

والقرآن الكريم يعتبر قضية وجود الله تعالى أمراً فطرياً في النفوس البشرية السليمة، لا يحتاج إلى جدال أو نقاش، وكل إنسان عاقل يدرك بنفسه هذه الحقيقة.

لكن الإنسان في هذه الدنيا تحيط به مؤثرات كثيرة تجعله ينحرف، ومن أسباب انحرافه تقليد الأبناء لضلال الآباء، وما قد يلقيه الكتاب المنحرفون في أفكار الناشئة، بما يبدل هذه الفطرة ويكدرها، ويلقي عليها غشاوة، فلا تتجه إلى الحقيقة.

ومن طلب الدلائل التي تحرك الفطرة، وتشير إلى وجود الله ووحدانيته وجدها أكثر من أن تحصى، فهي تنبعث من خلق الإنسان نفسه، ونفسه أقرب شيء إليه، ويجدها في السماء والأرض والشمس وفي القمر وفي تعاقب الليل والنهار، وسير النجوم، وهبوب الرياح، وتسخير السحاب، وهطول الأمطار، وفي عالم الحيوان وعالم النبات.

فمن تأمل ذلك أدرك بعقله وبصيرته أن هذا الخلق، وهذا النظام، وهذا الإبداع لا يمكن أن يحدث من غير محدث، أو يوجد من غير موجد،

ص: 849

لأن تلك المخلوقات عاجزة عن إيجاد ذلك النظام الدقيق، والترتيب المحكم، وصدق من قال:

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه الواحد

7-

ولما كان المشركون لا ينكرون وجود الله تعالى، وإنما اتخذوا معه آلهة يظنون أن لها حظوة ومكانة عند الله تقربهم إليه.

فقد أقام القرآن الكريم عليهم كثيراً من الحجج والبراهين الملزمة لهم بالاعتراف بالوحدانية لله تعالى، ومن أهم ذلك:

أ- الأدلة القوية على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم المتمثلة في شهادة ربه تبارك وتعالى له، وكفى بها شهادة، وكذلك شهادة أهل الكتاب بصدقه، وشهادة المشركين أنفسهم له بالصدق والأمانة، وكان رأيهم في ذلك يعد إجماعاً منهم على كريم أخلاقه صلى الله عليه وسلم.

ولعل من أعظم علامات صدقه صلى الله عليه وسلم أن تحداهم بالقرآن الكريم، بل تحدى الإنس والجن على أن يأتوا بسورة من مثله، ولو بأقصر السور، ولم يتقدم واحد منهم إلى الميدان، على الرغم من أنهم أئمة الفصاحة، وفرسان البلاغة في هذا الشأن.

ب- استجواب المشركين عن أمور لا يمكنهم إنكارها، كالرزق والحواس، وأحوال الموت والحياة، وشئون التدبير، والاستقلال بالملك والتصرف في الكون، وما فيه من سائر صنوف المخلوقات، لأنهم عند ذلك لا يجدون محيداً عن الجواب الصحيح، وهو أن ذلك كله بيد لله،

ص: 850

ومن هنا فإنه يلزمهم الإعتراف بأنّ الذي ابتدأ الخلق والإيجاد والإبداع، هو المستحق للعبادة وحده.

ج- وكذلك ألزمهم بتقرير وحدانية الله تعالى، باعترافهم بأن الخالق لكل ما في الكون من سماء وأرض، وشمس وقمر، وليل ونهار، وسحاب وأنهار، وحيوان ونبات: هو الله تعالى وحده، لأنه إذا كان الله تعالى هو رب كل شيء ومليكه، وهو الخالق الرازق وحده، فلماذا يعبدون غيره؟

د- وألزمهم أيضاً بأن إقرارهم بتوحيد الله عند الشدائد، وما لا يطاق من اللأواء وشدة الكرب والفزع في البر والبحر - حيث ثبت أنهم لا يتوجهون في تلك اللحظات إلى صنم، ولا إلى كوكب، ولكنهم يتوجهون إلى الله وحده مخلصين له الدين سراً وجهراً- فذلك يوجب عليهم الإقرار بتوحيده في الأمن والرخاء.

?- ودعاهم القرآن الكريم عن طريق السؤال والجواب في آن واحد، حتى لا يسأموا من الدعوة إلى التوحيد، وفي نفس الوقت، كان هذا إلزاماً لهم بالحجة الواضحة التي لا يمكنهم إنكارها.

و وفي مجال ضرب البراهين العقلية: دعاهم القرآن إلى النظر والتدبر فيما يشاهدونه من خلق السموات والأرض، وما فيهما من إبداع، وليس لآلهتهم في صنعها يد، فلا بد أن تكون العبادة لمن خلق كل ذلك

ص: 851

ز- وضرب لهم الأمثال للتذكير والوعظ والاعتبار، وتصوير الشرك في صورة محسوسة، ليكون ذلك أقرب إلى الأنظار، وأثبت في الأذهان، وأدعى إلى الامتثال.

ح- وجادلهم القرآن الكريم سالكاً معهم في الاستدلال على وحدانية الله تعالى مسلكين:

1-

دليل التمانع، وذلك أنه لو كان مع الله شركاء في كونه، لما قبلوا أن يكونوا في مركز أدنى، ولسعوا ليكونوا شركاء منافسين له في كل شيء، وعند ذلك يفسد الكون بين رغبات الشركاء، ولكن ثبت انتظام الكون وسلامته من الخلل والتصادم والفساد، فعلم أن الله واحد ليس له شريك.

2-

التركيز على إبطال معبودات المشركين، ومناقشتهم فيها مناقشة واضحة صريحة، وفي شأن معبوداتهم التي لا تقدر على خلق ذبابة، ولا تستطيع أن تدفع عن نفسها ضراً، ولا تجلب لنفسها نفعاً، فضلاً عن نفع غيرها، أو إلحاق الضرر به.

ط- وطالبهم القرآن الكريم على وجه التعجيز أنْ يأتوا بدليل عقلي أو نقلي يقر عبادتهم، ولما كان صريح العقل حاكماً بأنه لا يجوز إسناد جزء من أجزاء هذا العالم إلى معبودات المشركين، وإن كان ذلك الجزء أقل الأجزاء، ولا يجوز أيضاً إسناد الإعانة إليها في أقل الأفعال وأذلها.

وكذلك فإن إثبات ما يعتقدونه عن طريق أي نقل، فإنه أمر محال،

ص: 852

ولأنه قد علم بالتواتر الضروري إطباق جميع الكتب على المنع من عبادة غير الله تعالى.

ولما بطل الكل، ثبت أن الاشتغال بعبادة الأصنام عمل باطل واعتقاد فاسد.

8-

واشتمل مسلك القرآن الكريم على كثير من التوجيهات والتحذيرات التي تدعو المشركين إلى الإيمان بوحدانية الله تعالى وانضوائهم تحت لواء الإسلام، من أهمها ما يلي:

أ- دعوتهم بالأمر الجازم بعبادة الله وحده، والنهي عن عبادة ما سواه.

ب- مطالبتهم بأنْ يحاكموا تقاليدهم وعقائدهم الجاهلية الموروثة إلى ميزان العقل، إن كانت لديهم عقول.

ج- استعمال أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة في دعوتهم، وعدم سب آلهتهم لئلا يسبوا الله تعالى بسبب جهلهم وعدم علمهم.

د- واستعمل معهم أسلوب القصة لتقرير التوحيد بأبلغ أسلوب، وأقوى حجة، ونفي للشرك بأوضح بيان.

?- دعوتهم إلى التأمل في مصير المكذبين من الأمم السابقة، لأخذ الدرس والعبرة بسنن الله في الخلق؛ لأنّ السعيد من اتعظ بغيره، وتعلم من أخطاء الآخرين.

و وبين لهم سخف ما هم عليه من عقيدة واهية، وما اتخذوه من

ص: 853

دون الله تعالى من آلهة مزعومة، لا تملك لنفسها ولا لغيرها نفعاً ولا تدفع ضراً..

إذ كيف ينزل العقل الإنساني إلى هذا الدرك الأسفل، من التخلف العقلي في عبادة تلك المعبودات الواهية، مع اعترافه بأن للوجود رباً خالقاً رازقاً؟

ولم لا يتوجه إلى هذا الخالق الرازق مباشرة؟

ز- وذكرهم بأنواع من النعم الكثيرة، التي امتن الله بها عليهم وعلى عباده، لعلهم يشكرون الله ويؤمنون به، وحذرهم من النقم، وتهددهم بالجوع والخوف والمنع والحرمان، لعلهم يرعوون عن شركهم وجحودهم.

ح- ولما كان الشرك بالله تعالى أكبر الكبائر، وأعظم الذنوب، وأفظع المحرمات وأشنعها، وأن صاحبه خالد مخلد في النار إذا لم يتب إلى الله قبل الموت؛ فإن الله تعالى أخبر بأنه لا يقبل أي عمل من الأعمال مع الإشراك به، وأن مصير المشرك هو: الخلود الأبدي السرمدي في نار جهنم.

وأكد لهم أنه لن يتسامح مع مرتكبي هذا الجرم الفظيع، وأن الشرك يقطع الصلة بين الله تعالى وبين عباده، فلا يبقى لهم معه أمل في المغفرة والرحمة إذا ماتوا وهم على ذلك.

9-

ودحض القرآن الكريم كل ما يثيره المشركون من شبهات

ص: 854

حول بعض المسائل الغيبية، سواء ما يتعلق بالملائكة أو البعث، أو ما يتعلق بأمر الشفعاء والأولياء، وبين الحق في ذلك، ووضحه تمام الوضوح.

10-

وكذلك فنّد القرآن جميع الشبهات التي يثيرها المشركون حول الرسالة، سواء ما يتعلق منها بالقرآن أو بصاحب الرسالة عليه أفضل الصلاة، وأتم التسليم.

11-

كما أحدث الإسلام تغييراً جذرياً في ما كان عليه الناس في جاهليتهم من عادات باطلة، حيث اشتمل الإسلام على عبادات وأحكام شرعية وأخلاقية، لها وزنها وقيمتها في تربية الفرد والجماعة والأمة على منهاج الله تعالى الملائم للفطرة البشرية.

12-

ثم قرر الإسلام موقفه الحاسم من المشركين، والمتمثل في إبعادهم عن المسجد الحرام، ومنعهم من عمارته؛ لأنه لا يستقيم لهم أن يجمعوا بين أمرين متناقضين، هما: عمارة المساجد من جهة، والإشراك بالله من جهة أخرى، كما اعتبرهم نجساً، وحرم الزواج منهم للاختلاف الشاسع بين من يعبد الله وحده، ويؤمن برسوله صلى الله عليه وسلم، ومن يعبد الأصنام والأوثان، وحرّم ذبائحهم؛ لأنهم يذبحونها لغير الله تعالى، وبين أنه لا يجوز الاستغفار لهم بعد إصرارهم على الشرك، وموتهم على ذلك.

كما قرر إلغاء عهودهم ونبذها إليهم؛ لأن المشركين لم يحترموا عهود المسلمين ومواثيقهم، بل نقضوها، وتآمروا على الإسلام ورسول

ص: 855

الإسلام بشتى الوسائل والأساليب:

تارة بالمكر والخديعة.

وتارة بالكذب والافتراء على القرآن ورسول الإسلام.

وأخرى بالتآمر مع اليهود على حرب المسلمين.

وقد استبعد القرآن أنْ يثبت المشركون على العهد؛ لأنهم إن يظفروا بالمسلمن لا يرقبوا فيهم عهداً ولا ذمة، وإنما يرضونهم بالكلام المنمق، وتمتنع قلوبهم عن الإذعان والوفاء بما يبدونه بألسنتهم.

13-

ومن أجل رفع كلمة لا إله إلا الله على سائر المعتقدات، ومن أجل قمع الشرك والمشركين أعداء الإسلام والمسلمين.

خاض المسلمون عدة معارك حاسمة مع المشركين بعد أن أذن الله لهم في قتالهم، وبذلك زالت العقبات التي كانت تقف في طريق الدعوة إلى الإسلام، وإلى رفع راية التوحيد.

وأخيراً: أرجو أن أكون قد وفقت فيما قدمت من جهد في هذا الموضوع المهم.

وأسأل الله عز وجل أن يجعلني من الدعاة إلى الإسلام على بصيرة، وأن يوفقني لخدمة كتابه الكريم، وسنة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأسأله تعالى أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين

ص: 856