الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: بيان الحق في أمر الشفعاء:
معنى الشفاعة لغة:
قال ابن الأثير: "الشفعة في كل ما لم يقسم، وهي مشتقة من الزيادة، لأنّ الشفيع يضم المبيع إلى ملكه فيشفعه به، كأنه كان واحداً وتراً، فصار زوجاً شفعاً، والشافع هو الجاعل الوتر شفعاً
…
وقد تكرر ذكر الشفاعة في الحديث فيما يتعلق بأمور الدنيا والآخرة، وهي السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم بينهم، يقال: شفع شفاعة، فهو شافع وشفيع، والمُشَفِّع: الذي يَقْبَلُ الشفاعة، والمُشَفَّع الذي تقبل شفاعته"1.
وفي المفردات للراغب: "والشفاعة الإنضمام إلى آخر ناصراً له وسائلاً عنه، وأكثرُ ما يستعمل في إنضمام من هو أعلى حرمة ومرتبة إلى من هو أدنى، ومنه الشفاعة في القيامة"2.
وقال ابن فارس: "الشين والفاء والعين، أصل صحيح يدل على مقارنة الشيئين"3.
وفي القاموس المحيط: "وشفعته فيه تشفيعاً حين شفع شفاعة،
1 النهاية لابن الأثير 2/485.
وانظر: لسان العرب لابن منظور 8/184.
2 المفردات في غريب القرآن للأصفهاني ص: 263.
3 معجم مقاييس اللغة 3/201.
واستشفعه إلينا سأله أن يشفع"1.
ومن هذا يظهر لنا أنَّ الشفاعة في اللغة، تدورُ حول اقتران شيء بشيء، أو إنضمام شيء إلى شيء لزيادته أو لنصرته، أو للتجاوز عنه.
وإذا بحثنا الشفاعة في كتاب الله تعالى، نجد أنَّها تنقسم إلى قسمين:
شفاعة في الدنيا، وشفاعة في الآخرة، ونجد أنّ الشفاعة في الدنيا خاصة بالعباد، وتقع لبعضهم من بعض، لأنهم يملكونها، وهي تنقسم إلى قسمين:
شفاعة حسنة وشفاعة سيئة، ومثال الشفاعة الحسنة: ما إذا استشفع شخص بشخص آخر عند ذي مال أو منصب أو سلطان ليشفع له عنده برفع حاجته إليه، لإظهار حقه أو إزالة الضرر والظلم عنه، فإنَّ تلك الشفاعة جائزة، وينال فاعلها الثواب من الله تبارك وتعالى، بدليل قوله تعالى:{مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا} 2.
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء"3.
1 القاموس المحيط للفيروزابادي 3/46.
2 سورة النساء الآية: 85.
3 صحيح البخاري بشرح الفتح 3/299 كتاب الزكاة، باب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها.
ومسلم 4/2026 كتاب البر والصلة، حديث رقم:145.
وأحمد في المسند 4/400.
أما الشفاعة السيئة: فهي ما إذا استشفع شخصٌ بشخص آخر في تعطيل حد من الحدود، أو إسقاط حق من الحقوق، أو إلحاق الضرر بآخر، فإنَّ تلك الشفاعة غير جائزة، وينال فاعلُها العقاب، بدليل قوله تعالى:{وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا} 1.
وقد أمر الله تعالى عباده بالتعاون على فعل الخيرات، ونهاهم عن المنكرات، فقال تعالى:{وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 2.
أما الشفاعة في الآخرة، فلا تكون إلا بأمر الله وحده، لا يملكها غيره، وخاصة بمن له ملك السموات والأرض، كما قال تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 3.
1 سورة النساء الآية: 85.
2 سورة المائدة الآية: 2.
3 سورة الزمر الآيتان: 43-44.
قال الفخر الرازي: "وتقرير الجواب، أنّ هؤلاء الكفار إما أن يطمعوا بتلك الشفاعة من هذه الأصنام، أو من أولئك العلماء والزهاد الذين جعلت هذه الأصنام تماثيل لها.
والأول باطل؛ لأنّ هذه الجمادات وهي الأصنام لا تملك شيئاً، ولا تعقل شيئاً، فكيف يعقل صدور الشفاعة عنها.
والثاني باطل؛ لأنّ في يوم القيامة لا يملك أحدٌ شيئاً، ولا يقدر أحد على الشفاعة إلا بإذن الله، فيكون الشفيع في الحقيقة هو الله الذي يأذن في تلك الشفاعة، فكان الاشتغال بعبادته أولى من الاشتغال بعبادة غيره، وهذا هو المراد من قوله {قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} "1.
وتنقسم الشفاعةُ في الآخرة إلى قسمين: شفاعة مثبتة، وشفاعة منفية.
فأما الشفاعة المثبتة، فهي: شفاعة العبد المأمور الذي لا يشفع ولا يتقدم بين يدي مالكه حتى يأذن له3.
1 التفسير الكبير للفخر الرازي 26/285.
2 سورة الانفطار الآيات: 17-19.
3 إغاثة اللهفان لابن القيم 1/220.
ومن ذلك شفاعات النبي صلى الله عليه وسلم، وهي كثيرة منها الشفاعة العظمى، وهي الشفاعة في فصل القضاء، وهي المقام المحمود الذي ذكر في قوله تعالى:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} 1.
وهي الشفاعة التي يتراجع عنها الأنبياء آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم عليهم السلام، حتى تنتهي إليه صلى الله عليه وسلم2.
ومنها شفاعته صلى الله عليه وسلم فيمن دخل النار من أمته، فيخرج منها أناس بشفاعته صلى الله عليه وسلم، لما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لكلِّ نبي دعوةٌ مستجابة، فتعجّل كلُّ نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة، فهي نائلةٌ إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئاًَ"3.
1 سورة الإسراء الآية: 79.
2 انظر الحديث في صحيح البخاري بشرح الفتح 11/417 كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار.
ومسلم 1/180 كتاب الإيمان، حديث:322.
3 صحيح البخاري بشرح الفتح 13/447 كتاب التوحيد، باب في المشيئة والإرادة.
ومسلم 1/189 كتاب الإيمان، حديث رقم: 338، وهذا لفظه.
وصح أنَّ القرآن الكريم يشفعُ لأهله، لما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اقرأوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه"1.
ومن خلال آيات القرآن الكريم يتبين لنا أنَّ الشفاعة التي أثبتها الله تعالى، هي مقيدة بأمرين:
الأمر الأول: أذن الله تعالى للشافع، فإن لم يأذن له فلا يشفع.
الأمر الثاني: رضا الله سبحانه عن المشفوع له، فإن لم يرض فلا شفاعة.
قال تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} 2.
وقال الله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَاّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ
1 صحيح مسلم 1/553 كتاب صلاة المسافرين وقصرها، حديث رقم:252.
2 سورة البقرة الآية: 255.
3 سورة يونس الآية: 3.
لَهُ قَوْلاً} 1.
وقال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى} 2.
وقال تعالى: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَاّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى} 3.
ففي هذه الآيات الكريمة أخبر اللهُ سبحانه وتعالى أنَّ الشفاعة في ذلك اليوم كلها عند من له ملك السموات والأرض، وهو الله سبحانه وحده، لا عند غيره من الملائكة والأنبياء والأولياء وغيرهم، فهو الذي يأذن لمن شاء أن يشفع فيه، كما أخبر أنّها لا تكون إلاّ بعد إذنه للشافع، وإن لم يأذن له فلا يشفع، وأخبر أنّها لا تكون نافعة إلا لمن كان مرضياً عنده سبحانه وتعالى قولاً وعملاً، ولا يكون مرضياً إلاّ إذا كان مؤمناً خالصاً، ولهذا كان أسعد الناس بشفاعة سيد الشفعاء يوم القيامة أهل التوحيد، الذين جردوه وخلّصوه من تعلقات الشرك وشوائبه، وهم الذي ارتضى الله سبحانه وتعالى4.
1 سورة طه الآية: 109.
2 سورة الأنبياء الآية: 28.
3 سورة النجم الآية: 26.
4 انظر: إغاثة اللهفان لابن القيم 1/220-221. بتصرف.
ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة، قال:"من قال لا إله إلاّ الله خالصاً من قلبه أو نفسه"1.
وواضح من صريح القرآن الكريم، أنَّ الشفاعة لا تشمل من مات على الكفر والشرك، وذلك لحكم الله تعالى بخلود الكافرين والمشركين في النار، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} 2.
وأما الشفاعة المنفية: فهي الشفاعة المعروفة لدى الناس عند الإطلاق، وهي: أن يشفع الشفيع إلى غيره ابتداء، فيقبل شفاعته3.
وهذه الشفاعة هي الشفاعة الشركية، وهي التي أثبتها المشركون، فاتخذوا من دون الله شفعاء من الملائكة والأنبياء والصالحين، وصوروا تماثيلهم، وقالوا: هؤلاء خواص الله، فنحن نتوسل إلى الله بدعائهم وعباداتهم، ليشفعوا لنا، كما يتوسل إلى الملوك بخواصهم، لكونهم أقرب
1 صحيح البخاري بشرح الفتح 1/193 كتاب العلم، باب الحرص على الحديث.
وأحمد 2/373.
2 سورة البينة الآية: 6.
3 انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية 1/118.
إلى الملوك من غيرهم، فيشفعوا عند الملوك بغير أذن الملوك1.
قال الله تعالى حكاية عنهم: {
…
وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2.
وقد أبطل الله تعالى هذه الشفاعة في كتابه، وذم المشركين عليها وكفرهم، فقال تعالى:{وَاتَّقُواْ يَوْماً لَاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} 4.
وقال تعالى: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن
1 انظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لابن تيمية ص: 11.
2 سورة يونس الآية: 18.
3 سورة الزمر الآية: 3.
4 سورة البقرة الآية: 123.
دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} 1.
وقال عز وجل: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ
1 سورة الأنعام الآية: 51.
2 سورة الأنعام الآية: 94.
3 سورة السجدة الآية: 4.
4 سورة الأنبياء الآيات: 26-28.
ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ
…
} 1.
فهذه الآيات الكريمة صريحة في قطع أطماع المشركين من القبورين وأشباههم قديماً وحديثاً، أن يكونوا أهلاً لشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن المعلوم أنّ الإنسان إذا نطق بالشهادتين في حال تلبسه بالأعمال المناقضة لشروطهما -كحال القبوريين مثلاً- الذين يستحلون محارم الله، بصرف شيء من العبادة للأموات، كالصلاة والدعاء والذبح والنذور ونحوها - فإنَّ نطقهم حينئذ بالشهادتين لا يُفيدُهُم شيئاًَ، لأنَّ أعمالهم الشركية تنافي ذلك وتنقضه.
ومن أراد شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فعليه أن يطلبها من الله تعالى وحده، وأن يعمل صالحاً.
ومن أهم مظاهر العمل الصالح الأمور الآتية:
1-
إخلاص العبادة لله تعالى في كل شيء، ونفي جميع أنواع الشرك عنه سبحانه وتعالى، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله
1 سورة سبأ الآيتان: 22-23.
عليه وسلم: "من قال لا إله إلاّ الله خالصاً من قلبه أو من نفسه"1.
2-
تمام المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما أمر به، أو نهى عنه.
1 صحيح البخاري بشرح الفتح 1/193 كتاب العلم، باب الحرص على الحديث.
وأحمد في المسند 2/373.