الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: دحض مفترياتهم على الرسول صلى الله عليه وسلم
1-
اعتراض على بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم:
ومن الشبه التي أثارها المعاندون المعرضون عن قبول الحق، عدم إمكانية الجمع بين البشرية والنبوة في الذات الواحدة، ومعنى ذلك: عدم تصديق الرسول المرسل بسبب كونه من البشر.
وقد ذكر القرآن الكريم هذه الشبهة في سور عديدة، عند الكلام على رسالات الرسل، كما بين القرآن الكريم أنّ هذه الشبهة لم تكن جديدة، وإنّما هي شبهة قديمة، وأنها كانت تثار في وجه الدعاة إلى الإيمان من الأنبياء والمرسلين السابقين.
فقد قيلت لنوح عليه السلام: {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَاّ بَشَرًا مِّثْلَنَا} 1.
وعجب قومه أنّ بعث الله فيهم رجلاً من أنفسهم، فقال الله تعالى حكاية عن خطاب نبيهم لهم: {أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ
1 سورة هود الآية: 27.
مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 1.
واستبعدوا أنْ ينزل الوحي على بشر، فقالوا:{مَا هَذَا إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ} 2.
وقيلت لنبي الله صالح عليه السلام: {مَا أَنتَ إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 3.
وقيلت لشعيب عليه السلام: {وَمَا أَنتَ إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} 4.
وقالتها عاد وثمود لأنبيائها.
قال تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا
1 سورة الأعراف الآية: 63.
2 سورة المؤمنون الآيتان: 33-34.
3 سورة الشعراء الآية: 154.
4 سورة الشعراء الآية: 186.
لأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} 1.
وعجب قوم هود عليه السلام من أن ينزلَ الوحي على رجل منهم، فقال تعالى:{أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 2.
وكذلك قيلت لموسى وهارون عليهما السلام: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} 3.
وقالها مشركوا قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلَاّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَّسُولاً} 4.
وإذا لم يكن الرسول من الملائكة، فليس أقل من أن ينزل عليه ملك ليصدقه على ما يدعيه.
1 سورة فصلت الآيتان: 13-14.
2 سورة الأعراف الآية: 69.
3 سورة المؤمنون الآية: 47.
4 سورة الإسراء الآية: 94.
قال ابن إسحاق: "ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام، وكلمهم فأبلغ إليهم، فقال له زمعة بن الأسود، والنضر بن الحارث، والأسود بن عبد يغوث، وأبي بن خلف، والعاص بن وائل: لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس، ويرى معك، فأنزل الله تعالى في ذلك قوله: {وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} 1"2.
وذكر الكلبي أن مشركي مكة قالوا: يا محمد، والله لا نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله، ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله، وأنك رسوله
…
3.
وقد ذكر الله تعالى قولهم: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} 4.
1 سورة الأنعام الآيتان: 8-9.
2 سيرة ابن هشام 1/395.
3 أسباب النزول للواحدي ص: 122.
4 سورة الفرقان الآية: 7.
وتتلخص شبهة المشركين في هذه القضية: أنهم اقترحوا على النبي صلى الله عليه وسلم أحد أمرين:
إما أنْ تنزل عليهم الملائكة مباشرة.
أو ينزل ملك على الرسول صلى الله عليه وسلم يرونه ويشاهدونه بأعينهم.
والواقع أنّ هذا الاقتراح لو لم يقيد بالرؤية والمشاهدة، لم يكن له فائدة، لأنه ثبت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يتلقى القرآن الكريم من الله تعالى عن طريق جبريل عليه السلام، كما قال تعالى:{َإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} 1.
قال ابن الجوزي: "والمراد بالروح الأمين جبريل، وهو أمين على وحي الله تعالى إلى أنبيائه"2.
وثبت في الحديث الصحيح أنّ جبريل عليه السلام كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة بشرية، كما في حديث الإسلام والإيمان والإحسان وعلم الساعة، عن ابن عمر عن أبيه رضي الله عنهما قال: "بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع
1 سورة الشعراء الآيات: 192-194.
2 زاد المسير 6/144.
علينا رجل، شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه
…
" ثم ذكر أسئلته للرسول صلى الله عليه وسلم
…
وفي نهاية الحديث بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنّ هذا الرجل هو جبريل عليه السلام، بدليل قوله:"يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم"1.
والقرآن الكريم حينما يحرص على تفنيد هذه الشبهة، ويرد على قائليها، إنما ليبين أنّ لغة الماديين واحدة، مهما تباعدت الأزمنة والأمكنة.
وعلى الرغم من سذاجة هذه الشبهة وتفاهتها، لكونها لم تدعم بدليل، ولم تؤيد ببرهان؛ لأنها تقيد مشيئة الله تعالى وقدرته العظيمة، وهو الفعال لما يريد، وهو الذي يختص برحمته من يشاء من خلقه، فإنّ القرآن الكريم لم يمر على هذه الشبهة دون الردّ عليها، وإبطالها، وذلك لتثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وتقوية عزائم المؤمنين، وخذلان الباطل،
1 صحيح البخاري مع الفتح 1/114 كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة.. رقم:37.
وصحيح مسلم 1/37-38 كتاب الإيمان، حديث رقم: 1، وفي 1/40 كتاب الإيمان، رقم: 5، 7.
وإظهار الحق ونصرته.
ويرد القرآن الكريم على الاقتراحين السابقين من وجهين، كما جاء في قوله تعالى:{وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} 1.
فالوجه الأول: أنه لو أنزل اللهُ تعالى ملكاً كما اقترحوا، لقضي الأمر بإهلاكهم ثم لا ينظرون.. بل يأخذهم العذاب عاجلاً كما مضت به سنة الله فيمن قبلهم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية: ولو أتاهم ملك في صورته، لأهلكناهم، ثم لا يؤخرون طرفة عين، وقال قتادة، يقول: لو أنزل الله ملكاً ثم لم يؤمنوا لعجل لهم العذاب.
وقال مجاهد في قوله: {لَّقُضِيَ الأمْرُ} ، أي: لقامت الساعة2.
وذكر صاحب المنار عن المفسرين في قضاء الأمر هنا عدة وجوه3:
1 سورة الأنعام الآيتان: 8-9.
2 انظر: تفسير ابن جرير الطبري: 7/151-152، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6/393.
3 تفسير المنار 7/314-315.
وانظر: تفسير القرطبي 6/393-394.
نختار منها:
1-
أنّ سنة الله في أقوام الرسل الذين قامت عليهم الحجة، أنهم كانوا إذا اقترحوا آية وأُعطوها، ولم يؤمنوا بها، يعذبهم الله بالهلاك والاستئصال الذي تتولى تنفيذه الملائكة، والله تعالى لا يريد أن يستأصل هذه الأمة، التي بعث فيها خاتم رسله نبي الرحمة، فالرحمة العامة تنافي هذا العذاب العام {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} 1.
2-
أن المراد أنهم لو شاهدوا الملك بصورته الأصلية، كما يطلبون، لزهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون.
والوجه الثاني في الرّد عليهم: قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} ، أي: لو جعل الرسول ملكاً، لجعل الملك متمثلاً في صورة البشر، ليمكنهم رؤيته وسماع كلامه الذي يبلغه عن الله تعالى، ولو جعله ملكاً في صورة البشر، لاعتقدوا أنه بشر، لأنهم لا يدركون منه إلا صورته، وصفات البشرية التي تمثل بها، وحينئذ يقعون في نفس اللبس والاشتباه الذي يلبسونه على أنفسهم باستنكار جعل الرسول بشراً2.
1 سورة الأنبياء الآية: 107.
2 انظر: تفسير المنار 7/314-315، وزاد المسير لابن الجوزي 3/8.
وهناك أمر آخر، وهو أنّ طلبهم كان على وجه العناد، لا على وجه طلب الهداية والرشاد، فلهذا لم يجابوا إلى كثير مما طلبوا.
وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَاّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} 2.
2-
اتهام الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنون:
ومن الحرب النفسية التي شنها المشركون ضدّ الرسالة اتهامهم للنبي صلى الله عليه وسلم بالجنون، وقد ذكر القرآن الكريم هذه المقالة عنهم، وكر عليها بالدحض والإبطال، كما أبطل غيرها من المقالات الباطلة.
1 سورة الأنعام الآيات: 109-111.
2 سورة الإسراء الآية: 59.
انظر البداية والنهاية لابن كثير 3/55.
قال تعالى: {وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} 1.
وقال تعالى عنهم: {إِنْ هُوَ إِلَاّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} 2.
قال تعالى: {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} 3.
وقال تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ} 4.
وقال تعالى: {وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} 5.
وقد بين الله تعالى في كتابه الكريم، بأنَّ هذه الاعتراضات الظالمة لم تختص بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإنّما قالها المكذبون الأولون لرسلهم، فقال تعالى:{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَاّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} 6.
1 سورة الحجر الآية: 6.
2 سورة المؤمنون الآية: 25.
3 سورة الصافات الآية: 36.
4 سورة الدخان الآية: 14.
5 سورة القلم الآية: 51.
6 سورة الذايات الآيتان: 52-53.
والعرب وغيرهم يعرفون مرض الجنون، وكيف يتخبط المصاب به، ويهذي بكلام لا يقبله العقلاء، ويتصرف التصرفات التي تتنافى مع وقار الإنسان واحترامه لنفسه، وضبطه لسلوكه ووصوله إلى غايته.
وإذا قارنا بين هذه الأعراض، وما اتصف به محمد صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها من الحكمة والاتزان، والحلم والأناة في السياسة لأسرته ولأصحابه وللدولة، وما أنيطت به من مسئوليات تشريعية وقضائية وتنفيذية، وقيادة عسكرية، ومسئوليات في التربية والتعليم وغيرها، وما اتصف به من الأخلاق العالية في الصدق والوفاء، والأمانة والحلم، والكرم والشجاعة والصفح وغيرها من الصفات الجليلة، فكان بذلك قدوة الآباء والحكام والقضاة، والقادة والمعلمين والتجار والعمال، وبقية أفراد المجتمع، يجدون في شخصيته العظيمة الخلق العظيم، والمثل الأعلى للكمال الإنساني.
ولقد ردّ القرآن الكريم على هذه التهمة، رداً عنيفاً وشديداً، جاء ذلك في كثير من الآيات البينات.
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَاّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} 1.
وقال تعالى: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ * أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ
1 سورة الأعراف الآية: 184.
جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} 1.
وقال تعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ} 4.
وقال تعالى: {مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} 5.
قال الفخر الرازي: "ومعناه أنّ تلك الصفة المحمودة إنّما حصلت، والصفة المذمومة إنّما زالت بواسطة إنعام الله ولطفه وإكرامه.. ثم إنه قرن بهذه الدعوة ما يكون كالدلالة القاطعة على صحتها، وذلك لأنّ قوله بنعمة ربك، يدل على أنّ نعم الله تعالى كانت ظاهرة في حقه من
1 سورة المؤمنون الآيتان: 69-70.
2 سورة سبأ الآية: 46.
3 سورة الصافات الآيات: 35-37.
4 سورة الطور الآية: 29.
5 سورة القلم الآية: 2.
الفصاحة التامة، والعقل الكامل، والسيرة المرضية، والبراءة من كل عيب، والاتصاف بكل مكرمة.
وإذا كانت هذه النعم محسوسة ظاهرة، فوجودها ينافي حصول الجنون، فنبه الله تعالى على هذه الدقيقة، لتكون جارية مجرى الدلالة اليقينية على كونهم كاذبين في قولهم إنه مجنون.
ومن الآيات التي ردّت هذه الفرية: قوله تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ} 1.
وقوله: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} 2"3.
ومن هذا يتبين لنا أنّ القرآن الكريم قد ردّ هذه الفرية، وهذا الباطل رداً قاطعاً بما لا مزيد عليه.
3-
اتهام الرسول صلى الله عليه وسلم بالافتراء والكذب:
واتهم المشركون النبي صلى الله عليه وسلم بأنّه افترى على الله كذباً حين بلغهم أمر ربه تبارك وتعالى، بأن يعبدوا الله وحده، وأن الوحي ينزل عليه من عند الله تعالى.
1 سورة التكوير الآية: 22.
2 سورة التكوير الآية: 25.
3 التفسير الكبير للفخر الرازي 30/79-80.
جاء هذا الاتهام في آيات كثيرة، منها قوله تعالى:{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} 1.
وقالوا: {إِنْ هُوَ إِلَاّ رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} 2.
وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَاّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا وَزُورًا} 3.
1 سورة النحل الآية: 101.
2 سورة المؤمنون الآية: 38.
3 سورة الفرقان الآية: 4.
4 سورة السجدة الآية: 3.
5 سورة سبأ الآيتان: 7-8.
{وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَاّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى} 1.
قال الراغب الأصفهاني:" استعمل الافتراء في القرآن في الكذب والشرك والظلم"3.
ونقل الفخر الرازي عن أبي مسلم: "الافتراء افتعال من فريت، وقد يقال في تقدير الأديم: فريت الأديم، فإذا أريد قطع الإفساد قيل: أفريت وافتريت واختلقت، ويقال فيمن شتم امرءاً بما ليس فيه افترى عليه"4.
وفي اللسان: "يقال فرى فلان الكذب يفريه إذا اختلقه، والفرية من الكذب"5.
وهذه الفرية إنّما هي من قبيل افتراء المشركين على النبوة، كفريتهم بأنّ هذا القرآن أساطير الأولين، أو أنه تلقاه عن بشر، أو أنه سحر، أو
1 سورة سبأ الآية: 43.
2 سورة الشورى الآية: 24.
3 المفردات في غريب القرآن ص: 379.
4 التفسير الكبير للفخر الرازي 24/50.
5 لسان العرب لابن منظور 15/154.
كلام شاعر، وغيرها من التهم المؤدية إلى نفي نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند ربه تبارك وتعالى.
ولهذا فإنّ ردّ القرآن الكريم على هذه التهمة يعتبر رداً على جميع الافتراءات والشبه التي يثيرها المشركون.
وقد بين القرآن الكريم أنّ تلك التهمة لا تعدو كونها من قبيل الظلم والزور والبهتان.
قال الفخر الرازي عند قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَاّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا وَزُورًا} .
"واعلم أنّ الله تعالى أجاب عن هذه الشبهة بقوله: {فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا وَزُورًا} ، وبين الرازي أنّ هذا القدر إنّما يكفي جواباً عن الشبهة المذكورة؛ لأنه قد علم كل عاقل أنه عليه الصلاة والسلام تحداهم بالقرآن، وهم في نهاية الفصاحة، وقد بلغوا في الحرص على إبطال أمره كل غاية، حتى أخرجهم ذلك إلى ما وصفوه به في هذه الآيات، فلو أمكنهم أن يعارضوه لفعلوا، ولكان ذلك أقرب إلى أنْ يبلغوا مرادهم فيه، مما أوردوه في هذه الآية وغيرها، ولو استعان محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك بغيره، لأمكنهم أيضاً أن يستعينوا بغيرهم، لأنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم كأولئك المنكرين في معرفة اللغة، وفي المكنة من الاستعانة،
فلما لم يفعلوا ذلك، والحالة هذه، علم أنّ القرآن قد بلغ النهاية في الفصاحة، وانتهى إلى حد الإعجاز.
ولما تقدمت هذه الدلالة مرات وكرات في القرآن، وظهر بسببها سقوط هذا السؤال، ظهر أنّ إعادة هذا السؤال بعد تقدم هذه الأدلة الواضحة، لا يكون إلا للتمادي في الجهل والعناد، فلذلك اكتفى الله في الجواب بقوله تعالى:{فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا وَزُورًا} "1.
وأضاف الرازي يقول: "إن الله وصف كلامهم بأنّه ظلم وزور، أما أنه ظلم فلأنهم نسبوا هذا الفعل القبيح إلى من كان مبرأ منه، فقد وضعوا الشيء في غير موضعه، وذلك هو الظلم، وأما الزور فلأنهم كذبوا فيه.
وقال أبو مسلم: الظلم تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم والرد عليه، والزور كذبهم عليه"ا.?.
والحق أنّ هذا القرآن يحمل دليل صدقه معه من عند الله تعالى، إذ تلتقي رسالته برسالات الأنبياء في أصولها، وجوهرها وأهدافها ومبادئها، وفيه زيادة بيان وتفصيل للشرائع والعقائد والأحكام.
وقد سلّى الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بإعلام المكذبين له أنّ تكذيب الرسل هو ديدن الأمم السابقة مع رسلها وأنبيائها، قال
1 التفسير الكبير 24/50.
وقال تعالى: {
…
مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 2.
وبالإضافة إلى إعجاز القرآن البلاغي، وما يشتمل عليه من معجزات في الإخبار عن قصص السابقين، التي لم يحط بها النبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك إخباره عن بعض المغيبات، فإنّ إعجازه
1 سورة يونس الآيات: 37-39.
2 سورة يوسف الآية: 111.
3 سورة الشورى الآية: 13.
بالشريعة الكاملة في تقريرها للأحكام السمحة، وقيامها على مبادئ العدل والحكمة وكرامة الإنسان، وصلاحيتها لكل زمان ومكان، لا يزال يتحدى العالمين ويبرهن لهم أنّ النبي الأمي الذي لم يقرأ ولم يكتب لا يستطيع أنْ يأتي بمثل هذا القرآن، وإنه تنزيل من حكيم حميد.
قال الله تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} 1.
وعن صحة القرآن الكريم، وما فيه من حقائق علمية، يقول الطبيب الفرنسي موريس بوكاي في خاتمة سفره النفيس، الذي كتبه عن القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم: "إنّ مقارنة عديد من روايات التوراة مع روايات نفس الموضوعات في القرآن تبرز الفروق الأساسية بين دعاوي التوراة غير المقبولة علمياً، وبين مقولات القرآن التي تتوافق تماماً مع المعطيات الحديثة.
ولا يستطيع الإنسان تصور أنّ كثيراً من المقولات ذات السمة العلمية كانت من تأليف بشر، وهذا بسبب حالة المعارف في عصر محمد صلى الله عليه وسلم، لذا من المشروع تماماً أنْ ينظر إلى القرآن على أنه تعبير الوحي من الله، وأنْ تعطى له مكانة خاصة جداً، حيث أنّ صحته
1 سورة الإسراء الآية: 105.
أمر لا يمكن الشك فيه، وحيث أنّ احتواءه على المعطيات العلمية المدروسة في عصرنا تبدو كأنها تتحدى أي تفسير وضعي، عقيمةٌ حقاً المحاولات التي تسعى لإيجاد تفسير للقرآن بالاعتماد فقط على الاعتبارات المادية"1.
1 دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة ص: 286، دار المعارف.