الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع: النقلة بالمشركين في العبادات والسلوك وموقف الإسلام منهم
.
الفصل الأول: النقلة بهم في العبادات
.
…
الباب الرابع: النقلة بالمشركين في العبادات والسلوك وموقف الإسلام منهم
تمهيد:
وكما أحدث الإسلام نقلة عميقة وشاملة في مجال العقيدة، تُمثل تحويلاً عظيماً من عبادة الأشياء المحسوسة كالأصنام والأوثان والكواكب التي يرونها ويلمسونها، إلى عبادة الله الواحد الأحد الذي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 1.
والذي: {لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 2.
أحدث الإسلام في مجال العبادات والسلوك تغييراً جذرياً بين ما كان عليه الناس في جاهليتهم من عادات باطلة، وما دعا إليه الإسلام من عبادات وأحكام شرعية، وأخلاقية لها وزنها وقيمتها في تربية الفرد والجماعة، فالأمة على منهاج الله تبارك وتعالى الملائم للفطرة البشرية، ولها
1 سورة الشورى الآية: 11.
2 سورة الأنعام الآية: 103.
وزنها وارتباطها بالعقيدة، وتحقيق العبودية لله تعالى وحده.
وأوضح دليل على هذه النقلة هو ما جاء في حديث جعفر بن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة، إذ يمثل صورة واضحة لما كان عليه العرب في الجاهلية من ضلال وفساد في العبادات والسلوك، كما يوضح لنا النقلة الكبيرة التي أحدثها الإسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم.
وإليك نص الحديث، قال جعفر: "أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبده نحن وآباؤنا من دونه، من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام
…
"1.
1 انظر: سيرة ابن هشام 1/336، بإسناد حسن عن أم سلمة رضي الله عنها، والسيرة النبوية لابن كثير 2/ 11، والبداية والنهاية 3/43 وما بعدها، وفتح الباري لابن حجر 7/189، وعيون الأثر لابن سيد الناس 1/118، وزاد المعاد لابن القيم 2/51، والسيرة النبوية الصحيحة لأكرم العمري 1/174، والسيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية لمهدي رزق ص: 208-209.
هذا وسنتناول بعض الأمور التي أشار إليها هذا الحديث في الفصلين التاليين:
الفصل الأول: النقلة بهم في العبادات
ومن هذه العبادات والأحكام الشرعية التي جاء بها الإسلام:
1-
الصلاة:
فأما الصلاة فقد اهتم الدين الإسلامي بإقامتها والمحافظة عليها، وبين القرآن الكريم أن مشروعيتها كانت على الأمم السابقة، ففي دعاء إبراهيم عليه السلام:{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء} 1.
وامتدح الله إسماعيل عليه السلام لإقامته لها وأمره لأهله بها، قال تعالى:{وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} 2.
1 سورة إبراهيم الآية: 40.
2 سورة مريم الآية: 55.
وأمر الله رسوله موسى عليه السلام بإقامتها في بداية تكليفه بالرسالة، قال تعالى:{وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} 1.
ويوحي الله تبارك وتعالى إلى موسى وأخيه هارون: {أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ} 2.
وينطق المسيح عليه السلام في مهده قائلاً: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} 3.
وكان من وصية لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} 4.
أما العرب الذين بعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم فلم يكن لهم صلاة معروفة، إلا ما كانوا يدعون الله به عند تلبية الحج من قولهم: (لبيك
1 سورة طه الآيتان: 13-14.
2 سورة يونس الآية: 87.
3 سورة مريم الآية: 31.
4 سورة لقمان الآية: 17.
اللهم لبيك، لا شريك لك، إلاّ شريك هو لك، تملكه وما ملك) 1.
وكذلك ما أخبر الله تعالى به عنهم في قوله سبحانه: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَاّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً} 2.
والمكاء الصفير، والتصدية: التصفيق.
قال ابن عباس: كانت قريش يطوفون بالبيت عراة يصفرون ويصفقون.
وقال مجاهد: كانوا يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف ويستهزئون به، ويصفرون ويخلطون عليه طوافه وصلاته.
وقال مقاتل: كان إذا صلى الرسول في المسجد يقومون عن يمينه ويساره بالتصفيق والتصفير ليخلطوا عليه صلاته3.
قال الفخر الرازي: "فعلى قول ابن عباس، كان المكاء والتصدية نوع عبادة لهم، وعلى قول مجاهد ومقاتل كان إيذاء للنبي صلى الله عليه
1 تفسير ابن جرير 13/79، والأصنام لابن الكلبي ص: 7، وسيرة ابن هشام 1/78، والبداية والنهاية لابن كثير 2/188، والفتاوى لابن تيمية 1/156، وإغاثة اللهفان لابن القيم 2/210.
2 سورة الأنفال الآية: 35.
3 انظر هذه الأقوال في: تفسير الطبري 9/240-242، وتفسير ابن كثير 2/328-329، والفخر الرازي 15/159-160.
وسلم، والأول أقرب لقوله تعالى:{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَاّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً} "1.
فلما جاء الإسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم، زاد من الاهتمام والعناية بالصلاة، وجعلها ركناً من أركان الإسلام، لا يصح إسلام الشخص بدون إقامتها، وكانت عمود الدين، وخير الأعمال عند الله تعالى، وأول ما يحاسب عنه المسلم يوم القيامة من أعمال العبادات.
ومن الآيات التي وردت في الأمر بها:
قوله تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} 2.
وقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} 3.
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 4.
1 تفسير الفخر الرازي 15/159-160.
2 سورة العنكبوت الآية: 45.
3 سورة الإسراء الآية: 78.
4 سورة الحج الآية: 77.
ويؤكد القرآن المحافظة على الصلاة في حالة الحضر أو السفر، وفي حالة الأمن أو الخوف، قال تعالى:{حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} 1.
وجعل القرآن الكريم إقامتها من صفات المتقين، قال تعالى:{الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} 2.
كما جعلها صفة لازمة للمؤمنين، وقد بدأ القرآن حديثه بالخاشعين في صلاتهم، وختمه بالمحافظين عليها في الآيات التالية:
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَاّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِك َ
1 سورة البقرة الآيتان: 238-239.
2 سورة البقرة الآية: 1-3.
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} 1.
وللصلاة نظافة وتطهر، وزينة وتجمل في البدن والثوب، والمكان من كل خبث ومستقذر، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} 2.
وقال تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} 3.
وشرع التزيّن للصلاة، فقال تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} 4.
1 سورة المؤمنون الآيات: 1-9.
2 سورة المائدة الآية: 6.
3 سورة المدثر: 3.
4 سورة الأعراف الآية: 31.
وينذر القرآن بالويل والهلاك لمن يسهون عن صلاتهم حتى يضيعوا وقتها، قال تعالى:{فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} 1.
ويدمغ بالذم والغي من أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات، قال تعالى:{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} 2.
والصلاة تمد المؤمن بقوة روحية تعينه على مواجهة متاعب الحياة، ومصائب الدنيا، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} 3.
وفي الصلاة قوة خُلُقيّة للمؤمن تقويه على فعل الخير، وترك الشر، ومجانبة الفحشاء والمنكر، ومقاومة الجزع عند الشر، والمنع عند الخير، قال
1 سورة الماعون الآيتان: 4-5.
2 سورة مريم الآية: 59.
3 سورة البقرة الآية: 153.
4 سورة البقرة الآيتان: 45-46.
تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} 1.
إلى غير ذلك من السمات التي تضفي على هذه العبادة كثيراً من المزايا الجميلة.
1 سورة العنكبوت الآية: 45.
2 سورة المعارج الآيات: 19-23.
2-
الزكاة:
وأما الزكاة فهي كذلك عبادة عرفت في الرسالات السماوية السابقة، وذكرها الله في وصاياه إلى رسله، وفي وصايا رسله إلى أممهم، يقول عن إبراهيم الخليل وابنه إسحاق وحفيده يعقوب:{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} 1.
ويمتدح إسماعيل بقوله: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} 2.
ويذكر الله في مواثيقه لبني إسرائيل فيقول: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَاّ اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} 3.
1 سورة الأنبياء الآية: 73.
2 سورة مريم الآية: 55.
3 سورة البقرة الآية: 83.
وينطق المسيح وهو في مهده بقوله: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} 2.
ويقول تعالى في شأن أهل الكتاب بصفة عامة: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَاّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 3.
ويأتي الأمر موجهاً إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {
…
وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} 4.
1 سورة المائدة الآية: 12.
2 سورة مريم الآية: 31.
3 سورة البينة الآيتان: 4-5.
4 سورة الأنعام الآية: 141.
روى الطبري في تفسير الآية أقوالاً عن العلماء تدور في مجملها على أنّ المراد بذلك الصدقة الواجبة1.
وقد امتدح الله المؤمنين المؤدين لزكاتهم، فقال تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} 2.
وقد وضح ابن كثير رحمه الله معنى وجوب الزكاة في العهد المكي، وتنظيمها في العهد المدني، فقال:"الأكثرون على أنّ المراد ها هنا زكاة الأموال، مع أنّ هذه الآية مكية، وإنّما فرضت الزكاة بالمدينة في سنة اثنتين من الهجرة، والظاهر أنّ التي فُرضت بالمدينة إنّما هي ذات النصب والمقادير الخاصة، وإلا فالظاهر أنَّ أصل الزكاة كان واجباً بمكة، قال تعالى في سورة الأنعام وهي مكية: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} "3.
وقال الشيخ الخضري: "ومما فرض بمكة الزكاة، وقلما وجد من الأوامر المكية ذكر الصلاة، إلا وبجانبه إيتاء الزكاة، واستشهد بآية سورة الأنعام {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} ".
ثم قال:" إلاّ أنّ هذه الحقوق الواجبة لم تفصل بمكة، فقد كان ذلك
1 تفسير الطبري 8/53.
2 سورة المؤمنون الآية: 4.
3 تفسير ابن كثير 3/251.
موكولاً لما في النفوس من الجود، وبحسب حاجة الناس "1ا.?.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} 2.
وقال تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} 3.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} 4.
وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} 5.
وقد أنذر الله المشركين بالويل، وجعل من أخصّ أوصافهم عدم إيتاء الزكاة، فقال تعالى:{وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} 6.
ويعلل القرآن الكريم جزاء من يسجر في الجحيم، ويسحب في
1 تاريخ الأمم الإسلامية 1/92.
2 سورة الشورى الآية: 38.
3 سورة الذاريات الآية: 19.
4 سورة المعارج الآية: 24.
5 سورة المزمل الآية: 20.
6 سورة فصلت الآيتان: 6-7.
السلاسل والأغلال بقوله: {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} 1.
ويسجل القرآن اعتراف المجرمين في النار، فيقول عنهم:{قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} 2.
وقد نهى الله تعالى عن قهر اليتيم ونهر المسكين، فقال تعالى:{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} 3.
وبين أن من أوصاف الذي يكذب بالجزاء والحساب، أنه يدفع اليتيم بجفوة وغلظة، ويظلمه حقه، ولا يطعمه ولا يحسن إليه، ولا يحضّ على طعام المسكين، قال تعالى:{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} 4.
قال الرازي: "فإنْ قيل: لم قال {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} ولم
1 سورة الحاقة الآيتان: 33-34.
2 سورة المدثر الآيتان: 43-44.
3 سورة الضحى الآيتان: 9-10.
4 سورة الماعون الآيات: 1-3.
يقل: "ولم يطعم المسكين"؟
فالجواب: أنه إذا منع اليتيم حقه، فكيف يطعم المسكين من مال نفسه؟ بل هو بخيل من مال غيره، وهذا هو النهاية في الخسة، ويدل على نهاية بخله، وقساوة قلبه، وخساسة طبعة"1.
هذه بعض عناية القرآن الملحة بالبر، ورعاية المساكين، وأداء حق السائل والمحروم، مما يبعث في النفوس البشرية الانقياد والتسليم والرضا برب العالمين وحده.
كما أن الزكاة التي جاء بها الإسلام ليست مقصورة على البر والإنفاق العام فحسب، ولكنها أصبحت ركناً من أركان هذا الدين، ودعامة من دعائم الإيمان، وإيتاؤها مع إقامة الصلاة والشهادة لله بالوحدانية، ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، عنوان الدخول في الإسلام، واستحقاق أخوة المسلمين، قال تعالى:{فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} 2.
وقال الله تعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} 3.
1 التفسير الكبير للفخر الرازي 31/162.
2 سورة التوبة الآية: 5.
3 سورة التوبة الآية: 11.
وعلم الله تعالى المسلمين منذ اللحظة الأولى أن التوسط في النفقة يحمي المجتمع من الضيق الاقتصادي، قال تعالى:{وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} 1.
وقال سبحانه: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} 2.
وجعل القرآن الكريم هذا المبدأ من سمات المؤمنين، قال تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} 3.
وبيّن القرآن أن توزيع الأرزاق موكل إلى الله جل شأنه وحده، فقال تعالى:{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 4.
1 سورة الإسراء الآيتان: 26-27.
2 سورة الإسراء الآية: 29.
3 سورة الفرقان الآية: 66.
4 سورة الشورى الآية: 12.
3-
الصيام:
وفرض الله الصيام على عباده، وبين لهم أنه ليس تشريعاً جديداً، وإنّما هو تشريع كان مفروضاً على الأمم السابقة، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 1.
وكان الصيام معروفاً عند العرب قبل الإسلام، فقد روى البخاري بسنده إلى عائشة رضي الله عنها أنّ قريشاًَ كانت تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيامه حتى فرض رمضان، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من شاء فليصمه، ومن شاء أفطره"2.
وروى ابن إسحاق في حديث بدء الوحي، وكان يجاور في غار حراء، من كل سنة شهراً، وكان ذلك مما تحنثت به قريش في الجاهلية، إلى أن قال: "فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور ذلك الشهر من كل سنة، يطعم من جاءه من المساكين
…
وذلك الشهر هو رمضان.."3. الذي أنزل عليه فيه القرآن.
1 سورة البقرة الآية: 183.
2 صحيح البخاري بشرح الفتح 4/102 كتاب الصوم، باب وجوب صوم رمضان.
3 سيرة ابن هشام 1/235-236، والسيرة النبوية لابن كثير 1/390.
فيُفْهَمُ من ذلك أنّ الصوم ما تتعبد به قريش في جاهليتهم، ويُفْهَم من ذلك أيضاً أنّ أصل مشروعة الصيام كان بمكة، حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوم عاشوراء حتى فرض صوم رمضان بالمدينة1.
1 انظر الأحاديث في صيام يوم عاشوراء في صحيح البخاري مع الفتح 4/244.
وصحيح مسلم 2/797 كتاب الصيام، باب أي يوم يصام في عاشوراء.
4-
الحج:
وكان العرب قبل الإسلام كسائر الأمم، يحجون إلى بيت الله الحرام الذي بناه إبراهيم، وابنه إسماعيل عليهما السلام بمكة، قال تعالى:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} 1.
وقال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَاّ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ
1 سورة البقرة الآيتان: 127-128.
2 سورة آل عمران الآيتان: 96-97.
لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} 1.
وعلى ذلك مضى أمرُ العرب من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، إلى أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فقد غيروا كثيراً مما كان عليه إبراهيم وإسماعيل، وخلطوا حقاً بباطل، فحرفوا الحج عن وجهته، وملأوا الكعبة -بيت التوحيد- بالأنصاب والأوثان، وجعلوها على ظهر البيت وبجواره، وعلى الصفا والمروة، واتخذوا هذه الأنصاب آلهة مع الله يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى، ونذروا لها، وذبحوا باسمها، وقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا.
ثم إنهم ابتدعوا في الحج بدعاً ما أنزل الله بها من سلطان، ومن هذه البدع طوافهم بالبيت عراة، زاعمين أنه لا يليق بهم أن يطوفوا ببيت الله بثياب ارتكبوا فيها الذنوب والآثام، وكان النساء يطفن بالليل، وكانت إحداهن تضع ثيابها كلها إلا درعاً يسترها عن الحمس2 من قريش، ثم
1 سورة الحج الآيات: 26-29.
2 الحمس أو الأحماس جمع الأحمس: وهو لقب قريش ومن ولدت قريش، وكنانة، وجديلة قيس، ومن تابعهم في الجاهلية، سموا بذلك لتحمسهم في دينهم، أي تشددوا، وكانوا يقفون بمزدلفة ولا يقفون بعرفة، ويقولون نحن أهل الله فلا نخرج من الحرم، وكانوا لا يدخلون البيوت من أبوابها وهم محرمون.
انظر: لسان العرب لابن منظور 6/58، والنهاية لابن الأثير 1/440.
أو سموا بذلك لالتجائهم بالحمساء، وهي الكعبة، لأن حجرها أبيض يميل إلى السواد، والحماسة الشجاعة، والأحمس الشجاع.
القاموس المحيط للفيروزابادي 2/208.
تطوف في هذا الدرع الذي لا يستر العورة، وقد حرموا على أنفسهم من الزينة والرزق ما لم يحرمه الله عليهم.
فلما جاء الإسلام، أبطل هذه العادات الجاهلية، ونقى الحج من تلك الضلالات الباطلة، وجعل الحج كله خالصاً لله تعالى، وأبطل العري المزري، وذلك التحريم للطيبات التي حرموها يغير دليل.
فهاتان الآيتان هما ردّ على أولئك المشركين فيما كانوا يفعلونه من الطواف بالبيت عراة، وفي تحريمهم على أنفسهم شيئاً من الزينة والرزق لم يحرمه الله عليهم.
1 سورة الأعراف الآيتان: 31-32.
روى الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة، فتقول: من يعيرني تطوافاً1 تجعله على فرجها، وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله
…
وما بدى منه فلا أحله
فنزلت هذه الآية: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} الآية2.
ذُكر عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أهل الجاهلية من قبائل العرب، كانوا يطوفون بالبيت عراة، الرجال بالنهار، والنساء بالليل، وكانوا إذا وصلوا إلى مسجد منى، طرحوا ثيابهم وأتوا المسجد عراة، وقالوا: لا نطوف في ثياب أصبنا فيها الذنوب، ومنهم من يقول: نفعل ذلك تفاؤلاً حتى نتعرى من الذنوب، كما تعرينا من الثياب، وكانت المرأة منهم تتخذ ستراً تعلقه على حقويها، لتستتر به عن الحمس، وهم
1 تطوافاً: هو ثوب تلبسه المرأة وتطوف به.
انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 18/162.
2 صحيح مسلم 4/2320 كتاب التفسير، باب قوله تعالى {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} .
والنسائي 5/233-234 في الحج، باب قوله عز وجل {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} .
قريش فإنهم كانوا لا يفعلون ذلك.
وكانوا لا يصلون في ثيابهم، ولا يأكلون من الطعام إلا قوتاً، ولا يأكلون دسماً، فقال المسلمون: يا رسول الله فنحن أحق أن نفعل ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية، أي:"البسوا ثيابكم وكلوا اللحم والدسم، واشربوا ولا تسرفوا"1.
وقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} الآية.
أي: قل يا محمد منكراً وموبخاً لهؤلاء الجهلة الذين يطوفون ببيت الله عراة، ويحرمون على أنفسهم ما أحل لهم من الطيبات، من حرّم عليكم الطيبات من المآكل والمشارب، أو الملابس المخلوقة لنفعكم؟
ثم أمر الله تعالى نبيه أن يقول لهؤلاء المشركين إنّ هذه الزينة والطيبات الموجودة في الحياة الدنيا، إنّما هي مخلوقة للمؤمنين، وإنْ شاركهم فيها الكفار، وستكون للمؤمنين خالصة يوم القيامة، لا يشاركهم فيها أحد، لأن الله تعالى حرّم الجنة ونعيمها على الكافرين2..
1 انظر: تفسير الطبري 8/163، وأسباب النزول لأبي الحسن الواحدي النيسابوري ص: 129، والتفسير الكبير للفخر الرازي 14/60، وتفسير ابن كثير 2/226-227، ولباب النقول في أسباب النزول للسيوطي ص:105.
2 تفسير ابن كثير 2/227 بتصرف.
وعليكم أيها المشركون والناس جميعاً أن تتدبروا حكمة الله وتفقهوا تشريعه..
وكانت قريش لا تخرج من الحرم، وإنما يقفون في طرف الحرم، عند أدنى الحل، ويقولون نحن أهل الله في بلدته وقطان بيته، فكانوا يقفون بالمزدلفة ويدفعون منها، ولا يقفون في عرفة1.
فرد الله تعالى عليهم بقوله: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} 2.
وقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات، ثم يقف بها، ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى:{ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} 3.
1 انظر: تفسير ابن جرير الطبري 2/291، وتفسير ابن كثير 1/151.
2 سورة البقرة الآية: 199.
3 صحيح البخاري بشرح الفتح 8/186-187 كتاب التفسير (35) باب: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} .
دخول البيوت من غير أبوابها:
ومن سخافات الجاهلية التي أبطلها الإسلام، الدخول إلى المنزل بعد الرجوع من السفر من غير الباب، قال تعالى:{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 1.
وفي الصحيحين عن البراء رضي الله عنه قال: "نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حجوا فجاؤا لم يدخلوا من قبل أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها، فجاء رجل من الأنصار فدخل من قبل بابه، فكأنه عير بذلك، فنزلت: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} "2.
وروى الحديث أبو داود الطيالسي عن شعبة عن أبي إسحاق عن
1 سورة البقرة الآية: 189.
2 صحيح البخاري بشرح الفتح 3/621 كتاب العمرة، باب قول الله تعالى:{وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} . و 8/183 كتاب التفسير، باب {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} وهذا لفظه.
وصحيح مسلم 4/2319 كتاب التفسير حديث رقم: 23.
البراء قال: "كانت الأنصار إذا قدموا من سفر، لم يدخل الرجل من قبل بابه، فنزلت هذه الآية"1.
وعن هذه العادة الجاهلية يقول سيد قطب رحمه الله: "وسواء كانت هذه عادتهم في السفر بصفة عامة، أو في الحج بصفة خاصة، وهو الأظهر في السياق، فقد كانوا يعتقدون أنّ هذا هو البر -أي الخير أو الإيمان- فجاء القرآن ليبطل هذا التصور الباطل، وهذا المتكلف الذي لا يستند إلى أصل ولا يؤدي إلى شيء، وجاء يصحح التصور الإيماني للبر، فالبر هو التقوى، هو الشعور بالله ورقابته في السر والعلن، وليس شكلية من الشكليات التي لا ترمز إلى شيء من حقيقة الإيمان، ولا تعني أكثر من عادة جاهلية، كذلك أمرهم بأن يأتوا البيوت من أبوابها، وكرر الإشارة إلى التقوى، بوصفها سبيل الفلاح.. وأبطل العادة الجاهلية الفارغة من الرصد الإيماني"2 ا.?.
وبهذا نرى أن الإسلام جدد دين إبراهيم عليه السلام، الذي كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين، وجعل بيت الله الحرام منسك هذه الأمة، فأمر بحجه وعمرته، كمال قال تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ
1 مسند أبي دواد الطيالسي ص: 98 رقم: 717.
2 في ظلال القرآن 1/264.
مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} 1.
وقال تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} 2.
وأمر بإخلاص التوحيد لله رب العالمين، وترك ما كان عليه أهل الجاهلية من إثم وباطل، قال تعالى: {
…
فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} 3.
هذا وقد تقدم معنا في الباب الأول صور من الشرك في العبادات، كالدعاء والغلو في قبور الأنبياء والصالحين، والذبح والنذر وغيرها، فلا داعي لإعادة الحديث عنها.
1 سورة آل عمران الآية: 96.
2 سورة البقرة الآية: 196.
3 سورة الحج الآيتان: 30-31.